أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)
حق الله ورعاية جانبه
أَوْ تَقُولَ متمنية مستبعدة حِينَ تَرَى الْعَذابَ يحل عليها لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً ورجوعا الى الدنيا مرة اخرى فَأَكُونَ حينئذ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله ويصدقون رسله وكتبه وانما تقول حينئذ ما تقول من كمال تحسرها على ما فات منها ومن شدة هول ما نزل عليها ثم قيل لها من قبل الحق ردا لقولها لو ان الله هداني لكنت من المتقين
بَلى قد هداك الله فلم تهتد إذ قَدْ جاءَتْكَ آياتِي لهدايتك وارشادك على ألسنة رسلي فَكَذَّبْتَ بِها وبهم وَاسْتَكْبَرْتَ عليها وعليهم وَكُنْتَ حينئذ بسبب تكذيبك واستكبارك عليهم مِنَ الْكافِرِينَ الذين ستروا الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع وأظهروا الباطل الزاهق فاتخذوه معبودا وعبدوا له ظلما وزورا عنادا واستكبارا
وَبالجملة لا تبالوا ايها الموحدون بعتوهم واستكبارهم في هذه النشأة إذ يَوْمَ الْقِيامَةِ التي تبلى السرائر فيها تَرَى ايها المعتبر الرائي الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بإثبات الولد والشريك له افتراء ومراء وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ اى تراهم حال كونهم مسودي الوجوه إذ هم حينئذ ملازمو النار وملاصقوها وأنت ايها المعتبر الرائي تستبعد وتتعجب حينئذ عن حالهم هذا وبالجملة أَلَيْسَ يبقى فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ الذين يتكبرون على الله وعلى أوليائه بأنواع الفسوق والعصيان والكذب والطغيان مع ان جهنم ما هي الا معدة لهؤلاء البغاة الطغاة الهالكين في تيه الكبر والعناد
وَيُنَجِّي اللَّهُ المحسن المتفضل بمقتضى لطفه وجماله من اهوال يوم القيامة وافزاعها الَّذِينَ اتَّقَوْا عن محارم الله بِمَفازَتِهِمْ اى بفوزهم وفلاحهم المورث لهم فتح أبواب السعادات وانواع الخير والبركات لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ اى ينجيهم بحيث لا يعرضهم شيء يسوءهم في النشأة الاخرى وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فيها أصلا وكيف لا ينجى سبحانه أولياءه إذ
اللَّهُ المحيط بعموم ما ظهر وبطن خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ومظهره من العدم بامتداد اظلال أسمائه وصفاته عليه وَهُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهره ومصنوعاته وَكِيلٌ يتولى امره ويحفظ عما يضره وكيف لا يكون كذلك إذ
لَهُ سبحانه وفي قبضة قدرته وتحت حفظه وارادته مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مفاتيح العلويات والسفليان وما يتولد بينهما يتصرف فيها بالإرادة والاختيار ما شاء بلا منازع وخاصم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وأنكروا دلائل توحيده واستقلاله في الآثار الصادرة منه سبحانه باختياره أُولئِكَ الأشقياء الضالون عن طريق التوحيد المنحرفون عن جادة العدالة هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والحرمان السرمدي لا يرجى نجاتهم منه أصلا. ثم ان أرادوا يعنى قريشا خذلهم الله ان يخدعوك ويلبسوا عليك الأمر بان امروك باستلام بعض آلهتهم ليؤمنوا بإلهك
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التعبير والتوبيخ أَفَغَيْرَ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالاطاعة والعبادة تَأْمُرُونِّي اى تأمروننى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ بالله وباستحقاقه للعبادة والانقياد بالأصالة وبكمال التوحيد والاستقلال. ثم قال سبحانه مقسما على سبيل التأكيد والمبالغة في التأديب تحريكا لحمية حبيبه صلّى الله عليه وسلّم وتثبيتا له على محبته
وَالله لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل وَكذا قد اوحى ايضا إِلَى الرسل الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ أنت مع كمال ودادك ومحبتك وخلتك وكذا كل واحد منهم ايضا مع كمال محبتهم وخلوصهم في عباداتهم وأتيت أنت وكل منهم بشيء يلوح منه الإشراك المنافى للتوحيد(2/252)
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وعملهم وليضيعن البتة صالح عملك الذي جئت به ليفيدك وَلَتَكُونَنَّ حينئذ مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا مبينا فعليك ان لا تصاحب مع المشركين بحال ولا تقبل منهم قولهم ولا تمتثل أمرهم
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ اى بل إذا أردت العبادة والإطاعة المفيدة لك فاعبد الله خالصة خاصة ولا تلتفت الى غيره وَكُنْ في شأنك هذا مِنَ الشَّاكِرِينَ الصارفين لنعم الله الى ما خلق لأجله إذ هم اى الشاكرون انما جبلوا على فطرة العبادة والعرفان بالنسبة اليه سبحانه حتى اتخذوه وكيلا حسيبا
وَاعلم يا أكمل الرسل ان المشركين الذين اتخذوا اولياء من دونه سبحانه وادعوا الوجود لهم وشركتهم معه سبحانه ما قَدَرُوا اللَّهَ اى ما وسعوا الحق باعتبار ظهوره بهذا الاسم المخصوص المستجمع لجميع الأسماء والصفات المعبر به عن الذات الاحدية كاسمه العليم لذلك لم يعرفوا حَقَّ قَدْرِهِ وقدر ظهوره وبطونه ولو وسعوا له وعرفوا حق قدره كما هو حقه لما اثبتوا له شريكا إذ كل من تحقق بوحدة الحق وكيفية سريانه على هياكل الاظلال والعكوس المنعكسة من أسمائه وأوصافه لم يبق عنده شائبة شك في ان لا تعدد في ذاته سبحانه ولا تكثر بل يتجلى ويتجدد في كل آن بشأن ولا شك ان كل ما ظهر من آثار الشئون المرئية المدركة بمشاهدة العيون فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وَمن جملة ما انعكس من بعض شئونه سبحانه الْأَرْضُ جَمِيعاً اى جميع ما يتراءى فيها وما يتولد عليها من الطبيعة والهيولى المنعكسة من التجليات الإلهية حسب اقتضاء آثار أسمائه الحسنى وأوصافه العليا ويتكون فيها قَبْضَتُهُ اى جميعها انما هي مقبوضة في كف قدرته يَوْمَ الْقِيامَةِ التي هي الطامة الكبرى التي قد انقهرت دونها اظلال السوى مطلقا وصارت مندكة في نفسها معدومة في حد ذاتها إذ لا وجود لها وَكذا السَّماواتُ انما هي يومئذ مَطْوِيَّاتٌ معطلات عن مقتضياتها التي هي الأفعال والحركات ساقطات في زوايا العدم على ما قد كانت عليها ازلا وابدا مقبوضات بِيَمِينِهِ وبقبضة قدرته الغالبة وبالجملة سُبْحانَهُ اى تنزه ذاته وتقدس أسماؤه تنزيها وتقديسا بديعا وَتَعالى شأنه عَمَّا يُشْرِكُونَ له غيره ظلما وزورا
وَاذكر يا أكمل الرسل للمشركين يوم نُفِخَ فِي الصُّورِ لرد الأمانات التي هي الوجودات الباطلة الظلية الاضافية المترشحة من بحر الذات على هياكل الهويات فَصَعِقَ اى قد خر وسقط حينئذ مغشيا عليه من شدة فزعه وهو له عموم مَنْ فِي السَّماواتِ اى جميع العلويات وَكذا عموم مَنْ فِي الْأَرْضِ اى جميع السفليات خوفا من انقطاع الإمداد الإلهي حسب النفس الرحمانى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من المعتبرين الفانين في الله الباقين ببقائه فإنهم قد قامت قيامتهم على كل حال وفي كل شأن بلا ترتب وانتظار ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ايقاظا لهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان فَإِذا هُمْ قِيامٌ اى فاجؤا على القيام بعد ما صاروا مغشيا عليهم يَنْظُرُونَ حينئذ حيارى سكارى مبهوتين هائمين كأنهم صرعى مخبولين
وَبعد ذلك قد أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها اى صارت الطبيعة والهيولى منورة بنور الله على ما كانت عليه قبل النفخ وَحينئذ عرضوا على الله ووُضِعَ الْكِتابُ اى مكتوب اعمال كل من النفوس الزكية والخبيثة بين أيديهم وحوسبوا حسب ما فيه وَبعد ما تم حسابهم وتنقيد أعمالهم جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ المبعوثين كل منهم الى امة من الأمم ليشهدوا على أممهم بما كانوا عليه في النشأة الاولى وَالشُّهَداءِ اى جئ بالشهداء العدول ايضا يعنى قد انطق الله عموم اركانهم وجوارحهم التي أتوا بها ما أتوا من خير وشر فيشهدن(2/253)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
عليهم وَبعد انكشاف أحوالهم وضبط أعمالهم قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وحكم على مقتضى العدالة الإلهية بلا حيف وميل وَهُمْ يومئذ لا يُظْلَمُونَ بالزيادة ولا بالنقصان ثوابا وعقابا بل يزاد ثوابهم ايضا ويضاعف حسناتهم تفضلا وامتنانا
وَبالجملة قد وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ من خير وشر وَكيف لا يوفى إذ هُوَ سبحانه أَعْلَمُ واحفظ منهم بِما يَفْعَلُونَ اى بعموم أفعالهم وأعمالهم الصادرة منهم صالحها وفاسدها نقيرها وقطميرها
وَبعد ذلك سِيقَ سوق البهائم الى المسلخ عنفا وزجرا الَّذِينَ كَفَرُوا في النشأة الاولى بالإعراض عن الحق واهله إِلى جَهَنَّمَ الطرد والخذلان زُمَراً فوجا بعد فوج وطائفة اثر طائفة حَتَّى إِذا جاؤُها يعنى جهنم فُتِحَتْ لهم أَبْوابُها اى أبواب اودية النيران المعدة لأصحاب الكفر والطغيان على تفاوت طبقاتهم وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها حينئذ على سبيل التوبيخ والتقريع أَلَمْ يَأْتِكُمْ ايها الضالون المستحقون لهذا الوبال والنكال رُسُلٌ مِنْكُمْ ومن بنى نوعكم مبعوثون إليكم من قبل الحق يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ الدالة على وحدة ذاته وكمال قدرته على وجوه الانعام والانتقام وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا اى يحذرونكم ويخوفونكم عن لقاء هذا اليوم الهائل الذي تدخلون أنتم فيه النار بأنواع الحسرة والحرمان والخيبة والخذلان وبعد ما سمعوا منهم ما سمعوا قالُوا متحيرين متأسفين بَلى قد جاءنا رسل ربنا بالحق وتلوا علينا آياته المشتملة على انواع الإنذار والتبشير وَلكِنْ لم يفدنا إنذارهم وتبشيرهم إذ حَقَّتْ اى قد صدرت وثبتت حقا منه سبحانه في حضرة علمه وسابق قضائه حتما كَلِمَةُ الْعَذابِ وهي قوله سبحانه لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين عَلَى الْكافِرِينَ المعرضين عن الحق وآياته وعن من بلغها إليهم باذنه لذلك أعرضنا عنها وعنهم فوجبت لنا النار وبالجملة أتوا بالعذر وما ينفعهم بل
قِيلَ لهم حينئذ من قبل الحق من وراء سرادقات العز والجلال ادْخُلُوا ايها الضالون المجرمون أَبْوابَ جَهَنَّمَ اى كل فرقة منكم بباب يخصها في سابق قضائنا وكونوا خالِدِينَ فِيها بحيث لا نجاة لكم منها ابدا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ اى الكافرين المستكبرين جهنم الخذلان وجحيم الحرمان والخسران. أعاذنا الله وعموم المؤمنين منها بفضله العظيم
وَسِيقَ ايضا سوق الحمام الى المسرح سرورا وفرحا الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يعنى عن محارمه بمقتضى أوامره ونواهيه الجارية على ألسنة رسله وكتبه إِلَى الْجَنَّةِ المعدة لفيضان انواع اللذات الروحانية على أهلها زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فرحين مسرورين وتحننوا نحوها سابقين وصادفوها مشتاقين وجدوها وَقد فُتِحَتْ لهم أَبْوابُها عناية من الله إياهم وَقالَ لَهُمْ حينئذ خَزَنَتُها ترحيبا وتكريما سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها المهديون المهتدون الذين قد طِبْتُمْ وطهرتم انفسكم في نشأة الاختبار ودار العبرة والاعتبار عن ادناس الشهوات وإكدار اللذات البهيمية العارضة للنفوس الخبيثة من المألوفات الطبيعية فَادْخُلُوها اى الجنة المشتملة على انواع الكرامات واصناف السعادات وكونوا خالِدِينَ فيها ابد الآبدين بلا نقل ولا تحويل اى الى ما شاء الله لأهل العناية من الدرجات العلية التي لا تكتنه ولا توصف
وَبعد ما تمكنوا في مقر العز والحضور قالُوا مسترجعين الى الله عادين موائد انعامه وإحسانه على أنفسهم مواظبين مقيمين لأداء حقوقها الْحَمْدُ والمنة لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ اى جميع ما وعدنا الله به في النشأة الاولى بوحيه النازل على ألسنة أنبيائه ورسله(2/254)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
من المعتقدات الاخروية وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ اى المقر المعهود الذي قد بشرنا به الرسل الكرام ألا وهي ارض الجنة لأهل العناية من سوابق الايمان والمعرفة والأعمال الصالحة الصادرة منهم في دار الاختبار ومكننا فيه بحيث نَتَبَوَّأُ وننزل مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ يعنى ينزل ويستريح كل منا حيث شاء وأراد من المقامات البهية والدرجات العلية بلا مضايقة وممانعة فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخلصين المخلصين نفوسهم عن اغوار الجهالات واودية الضلالات بنور الآيات البينات الواصلين الى روضة الرضا وجنة التسليم. رب اجعلنا بلطفك من ورثة روضة النعيم
وَبعد ما قد تقرر اهل النار في النار واهل الجنة في الجنة تَرَى ايها المعتبر المنكشف بكمال عظمة الله وجلاله الْمَلائِكَةَ اى الأسماء والصفات الإلهية عبر عنها سبحانه بالملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم حَافِّينَ صافين محدقين محلقين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ اى حول عرشه العظيم المستغنى عن عروش مطلق المظاهر والمجالى الكائنة في عالمي الغيب والشهادة إذ هو سبحانه بذاته غنى عن مطلق التعينات الطارية على شئونه وتطوراته لذلك يُسَبِّحُونَ وينزهون أولئك المهيمون ذاته سبحانه عن سمات الحدوث والإمكان مطلقا دائما ويواظبون بِحَمْدِ رَبِّهِمْ على ما وهب لهم المعرفة بعلو شأنه وسمو برهانه وباستغنائه في ذاته عن مطلق مظاهر أسمائه وأوصافه جميعا وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ اى هم يحمدونه ويثنون عليه سبحانه ايضا على عموم قضائه وحكمه وأحكامه الجارية بين عباده كلها بالحق بمقتضى العدل القويم وَبالجملة قِيلَ من قبل كل من يتأتى منه الرجوع اليه سبحانه والتوجه نحوه طوعا على الوجه الذي امر به ونبه عليه الْحَمْدُ المطلق المستوعب لعموم الاثنية والمحامد الصادرة عن ألسنة عموم المظاهر ثابت لِلَّهِ اى للذات المستجمع بجميع أوصاف الكمال بالاستحقاق والاستقلال رَبِّ الْعالَمِينَ بمقتضى توحده وانفراده فيكون جميع محامدهم مختصة به سبحانه إذ لا مربى لهم سواه ولا موجد لهم غيره. حققنا بكرمك بحق قدرك وبقدر حقيتك يا ذا القوة المتين
خاتمة سورة الزمر
عليك ايها المحمدي القاصد المتحقق المدرك بكمال عظمة الله وجلاله ان تتأمل في هذه السورة سيما في أواخرها وتتعمق فيها وفي كشف سرائرها ومرموزاتها وإشاراتها الخفية وعباراتها المنبهة على وحدة الحق وحقيته لينكشف لك انه لا يشغله شأن عن شأن ولا يقدر تحققه وقيوميته زمان ومكان بل هو كائن على ما قد كان في كل آن وشأن بلا مكيال زمان وآن واحياز ومكان وحين وأوان
[سورة المؤمن]
فاتحة سورة المؤمن
لا يخفى على من ترقى من حضيض التقليد الى ذروة التوحيد ومن اودية الجهالات اللازمة للتعينات الامكانية الى أقصى درجات الإدراك وأعلاها ان أجل المعلومات وأولاها وأدق المعارف وأخفاها هو الاطلاع على وحدة الحق وتوحده في الذات والوجود وتكثره حسب الأسماء والصفات المقتضية للشؤن والتطورات الغير المحصورة كذلك اوحى سبحانه حبيبه بما اوحى من دلائل التوحيد وأوصاه بحفظ ما نزل عليه من الآيات المبينة لتلك الدلائل ليكون على ذكر منها فقال سبحانه مخاطبا له بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المعرب المفصح عن الذات الاحدية باعتبار التسمية ونشأة العبارة الرَّحْمنِ(2/255)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
الدال على ثبوت عموم الأسماء والصفات لتلك الذات المؤثرة بها آثارا بديعة لا تعد ولا تحصى الرَّحِيمِ الدال على رجوع الكل إليها رجوع الاظلال الى الأضواء
[الآيات]
حم يا حامل الوحى ويا حاميه ويا ماحي الغير والسوى عن لوح الضمير ومانعه مطلقا
تَنْزِيلُ الْكِتابِ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إليك يا أكمل الرسل تأييدا لك في أمرك وشأنك مِنَ اللَّهِ اى من الذات المعبر بهذا الاسم الجامع المحيط بعموم الأسماء والصفات الْعَزِيزِ المنيع الغالب ساحة عز حضوره عن ان يحوم حول وحيه شائبة الريب والتخمين الْعَلِيمِ الذي لا يعزب عن حيطة علمه شيء مما جرى عليه سابق قضائه
غافِرِ الذَّنْبِ اى ساتر ذنوب الأنانيات الظاهرة من الهويات الحاصلة من انصباغ التعينات العدمية بصبغ الأسماء والصفات المنبسطة وَقابِلِ التَّوْبِ اى التوبة والرجوع على وجه الإخلاص والندم على اثبات الوجود لغيره سبحانه شَدِيدِ الْعِقابِ على من خرج عن ربقة عبوديته باسناد الحوادث الكائنة الى نفسه والى مثله في الحدوث والمخلوقية ذِي الطَّوْلِ والغنى الذاتي عن توحيد الموحد والحاد المشرك الملحد لأنه في ذاته لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ولا موجود سواه يعبد له ويرجع اليه في الخطوب إذ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ اى مرجع الكل اليه ورجوعه نحوه سواء وحده الموحدون وألحد في شأنه الملحدون المشركون أم لا. ثم قال سبحانه توضيحا وتصريحا لما علم ضمنا
ما يُجادِلُ ويكابر فِي آياتِ اللَّهِ وفي شأن دلائل وحدته واستقلاله في الآثار المترتبة على شئونه وتجلياته إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وستروا ظهور شمس الذات وتحققها في صفحات الكائنات بغيوم هوياتهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ اى لا يغررك يا أكمل الرسل امهالنا إياهم يتقلبون في بلاد الإمكان وبقاع الهيولى والأركان عن امهالنا إياهم وعدم انتقامنا عنهم بالطرد الى هاوية العدم وزاوية الخمول وان كذبوك يا أكمل الرسل في دعوتك وشأنك وعاندوا معك في برهانك فاصبر على أذاهم وتذكر كيف
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا وكيف صبر هو على اذياتهم مدة مديدة حتى ظفر عليهم حين ظهر أمرنا وجرى حكمنا بأخذهم واستئصالهم بالمرة وَانظر ايضا كيف كذبت الْأَحْزابُ والأمم الكثيرة مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد قوم نوح رسلهم المبعوثين إليهم للهداية والإرشاد وَبالجملة قد هَمَّتْ وقصدت كُلُّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية بِرَسُولِهِمْ المرسل إليهم لِيَأْخُذُوهُ ويأسروه بل ليقتلوه او يستحقروه ويهينوه وَجادَلُوا أولئك الهالكون المنهمكون في تيه الكبر والعناد مع الأنبياء والرسل بِالْباطِلِ الزاهق الزائل في نفسه لِيُدْحِضُوا ويزيلوا بِهِ الْحَقَّ الحقيق بالاطاعة والاتباع فَأَخَذْتُهُمْ واستأصلتهم بعد ما أمهلتهم زمانا يعمهون في طغيانهم ويترددون في بنيانهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ إياهم حين حل عليهم ما حل من العذاب
وَبالجملة كَذلِكَ ومثل ذلك قد حَقَّتْ ثبتت ونزلت كَلِمَةُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل في حضرة علمه ولوح قضائه عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا اى على عموم الكفرة الجهلة المعاندين بك وبدينك وكتابك ايضا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ اى ملازموها وملاصقوها ابد الآباد ولا نجاة لهم منها فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون. ثم أشار سبحانه الى حث المؤمنين الموحدين على مواظبة الايمان ومداومة الشكر على الانعام فقال
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ألا وهم الكروبيّون الذين سبقوا بحمل العرش الإلهي وحفظ ما انعكس فيهم من تجلياته الجمالية والجلالية بدوام المراقبة والمطالعة(2/256)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
بوجهه الكريم وَكذا مَنْ حَوْلَهُ من الملائكة الذين يطوفون حول العرش ويقتفون اثر أولئك الحملة السابقين كلهم سابقا ولا حقا يُسَبِّحُونَ وينزهون الحق عن سمات الحدوث والإمكان ويقدسونه عن وصمة السهو والنسيان إذ كمال ما يدرك المدرك منه سبحانه انما هو التسبيح والتقديس والا فالامر أعز وأعلى من ان يحيط به الآراء ويحوم حول سرادقات عزه وعلائه الأهواء ويواظبون بِحَمْدِ رَبِّهِمْ على ما أولاهم نعمة التوجه اليه والتحنن نحوه وَبالجملة يُؤْمِنُونَ بِهِ سبحانه وبوحدة ذاته ويعتقدون بأوصافه العليا وأسمائه الحسنى وان عجزوا عن درك كنه ذاته وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا اى يطلبون الستر والعفو منه سبحانه لذنوب إخوانهم الذين آمنوا بوحدة الحق وبكمالات أسمائه وصفاته مثل ايمانهم سواء كانوا سماويين او ارضيين مناجين مع ربهم حين استغفارهم قائلين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة تسبيحك وتقديسك ومداومة حمدك وثنائك أنت بذاتك وبمقتضى كرمك وجودك قد وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً اى وسعت رحمتك وأحاطت حضرة علمك على كل ما لمع عليه بروق تجلياتك وشروق شمس ذاتك فَاغْفِرْ بسعة رحمتك وجودك لِلَّذِينَ تابُوا اى عموم عبادك الذين رجعوا وأنابوا نحو بابك نادمين وامح عن عيون بصائرهم سدل رؤية الغير والسوى في جنب جنابك وَمع رجوعهم وانابتهم نحوك اتَّبَعُوا بالعزيمة الصادقة الخالصة حسب حولك وقوتك سَبِيلَكَ الذي قد أرشدتهم اليه وهديتهم نحوه بوحيك على رسلك وَقِهِمْ بلطفك واحفظهم بسعة رحمتك وجودك عَذابَ الْجَحِيمِ المعد لأصحاب الخذلان والخسران
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ بفضلك ولطفك جَنَّاتِ عَدْنٍ اى منزهات العلم والعين والحق الَّتِي وَعَدْتَهُمْ في كتبك بعموم ارباب العناية من عبادك وَادخل ايضا مَنْ صَلَحَ من عندك بفيضان جودك وإحسانك مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ التي قد تناسلت منهم على فطرة التوحيد وحلية الايمان والعرفان إِنَّكَ بذاتك وأسمائك وصفاتك أَنْتَ الْعَزِيزُ المنيع ساحة عز حضورك عن ان يحوم حوله شائبة وهم احد من مظاهرك ومصنوعاتك الْحَكِيمُ المتقن في عموم افعالك الصادرة منك على كمال الاحكام والإتقان
وَقِهِمُ بمقتضى حكمتك المتقنة السَّيِّئاتِ عن مطلق الجرائم والآثام المستتبعة لإدخالهم الى دركات النيران وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ اى ومن تحفظه بمقتضى لطفك وتوفيقك عن المعاصي في النشأة الاولى فَقَدْ رَحِمْتَهُ البتة في النشأة الاخرى وَذلِكَ اى وقايتك وحفظك إياهم عن اسباب الخذلان والحرمان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والكرم العميم واللطف الجسيم. ثم أشار سبحانه الى تفضيح من كفر بالله وكذب بما نزل من عنده من الأوامر والنواهي الجارية بمقتضى وحيه على ألسنة رسله وكتبه في النشأة الاولى فقال
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا بوحدة ذاته وسريان هويته الوحدانية الذاتية على جميع مظاهر الكائنات حسب شئون الأسماء والصفات بان أشركوا فيه سبحانه واثبتوا وجود الغير وادعوا ترتب الآثار عليه يُنادَوْنَ في الطامة الكبرى والنشأة الاخرى حين ظهر الحق واستقر على مقر العز والتمكين بكمال الاستقلال والاستحقاق وانقهر الباطل الزاهق الزائل واضمحل التلوين والتخمين لَمَقْتُ اللَّهِ اى طرده وتحريمه وتخذيله لكم اليوم أَكْبَرُ واقظع مِنْ مَقْتِكُمْ وتخذيلكم وتحريمكم أَنْفُسَكُمْ عن موائد لطفه وإحسانه سبحانه وقت إِذْ تُدْعَوْنَ أنتم بألسنة الأنبياء والرسل باذن الله ووحيه إِلَى الْإِيمانِ به وبتوحيده(2/257)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
فَتَكْفُرُونَ أنتم بالله حينئذ وتسترون شروق شمس ذاته بغيوم هوياتكم الباطلة جهلا وعنادا بل تشركون له في الألوهية وتعبدون لغيره كعبادته سبحانه وبعد ما سمعوا من النداء الهائل المهول
قالُوا بألسنة استعداداتهم متحسرين متضرعين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة معرفتك وتوحيدك فكفرنا بك وأشركنا معك غيرك وقد ظهر لنا اليوم حقية ما ورد علينا من قبل لكن بعد ما قد أَمَتَّنَا وافيتنا في هويتك اثْنَتَيْنِ مرة في النشأة الاولى بانقضاء الأجل المقدر من عندك ومرة في النشأة الاخرى بعد النفخة الاولى وَكذا قد أَحْيَيْتَنَا وابقيتنا ببقائك مرتين اثْنَتَيْنِ مرة عند حشرنا من أجداث طبائعنا ومرة بعد النفخة الثانية للعرض والجزاء وبعد ما قد لاح علينا من دلائل توحيدك وكمال قدرتك وقوتك ما لاح فَاعْتَرَفْنا الآن بِذُنُوبِنا التي قد صدرت عنا من غاية غفلتنا ونهاية جهلنا بك وبقدرتك ووحدة ذاتك واستقلالك في عموم آثارك الصادرة عنك بالإرادة والاختيار وبالجملة قد صدر عنا ما صدر وقد وقع ما وقع فَهَلْ يبقى لنا اليوم مجال إِلى خُرُوجٍ مِنْ عذابك الذي أعددت لنا في سابق قضائك بمقتضى عدلك حسب جرائمنا وآثامنا من سَبِيلٍ موصل الى الخلاص والنجاة منه ثم بعد ما تضرعوا من شدة هولهم وفظاعة أمرهم ما تضرعوا نودوا من وراء سرادقات القهر والجلال
ذلِكُمْ اى العذاب الذي أنتم فيه اليوم ايها الضالون بِأَنَّهُ اى بسبب انه إِذا دُعِيَ وذكر اللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء عندكم وَحْدَهُ اى على صرافة وحدته واستغنائه عن العالم وما فيه قد كَفَرْتُمْ به وانكرتم وجوده وبكمال أوصافه وأسمائه الذاتية وكذبتم رسله المبعوثين إليكم للتبليغ والتبيين وَقد كنتم أنتم من شدة بغيكم وعنادكم إِنْ يُشْرَكْ بِهِ ويثبت له شركاء دونه ظلما وزورا تُؤْمِنُوا وتقروا البتة بالشركاء وتعتقدوا وجودها وتصدقوا من تفوه بها فَالْحُكْمُ المحكم والقضاء المحتم المبرم اليوم ثابت لِلَّهِ المنزه ذاته عن ان يتردد في وحدته فكيف ان يشرك به الْعَلِيِّ الغنى شأنه عن ايمان المؤمن وكفر الكافر الْكَبِيرِ المتعالي وحدة ذاته عن ان يحوم حوله اقدام الإقرار والإنكار وكيف تنكرون سبحانه وتشركون معه غيره ايها المفسدون المفرطون مع انه سبحانه
هُوَ الله الكامل في الألوهية والربوبية الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على وحدة ذاته وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ اى سماء الأسماء المربية لأشباحكم من لدنه رِزْقاً صوريا ومعنويا تتميما لتربيتكم وتكميلكم وَما يَتَذَكَّرُ ويتعظ منكم بآياته إِلَّا مَنْ يُنِيبُ اليه ويرجع نحوه طالبا الترقي من حضيض التقليد والتخمين الى ذروة التحقيق واليقين وإذ سمعتم كمال تربيته وتكميله سبحانه
فَادْعُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد وتوجهوا نحوه واعبدوه حق عبادته ايها المكلفون بمعرفته وتوحيده حال كونكم مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ اى حاصرين مخصصين له الإطاعة والانقياد بلا رؤية الوسائل والأسباب العادية في البين وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ المكابرون إطاعتكم إياه ورجوعكم اليه هذا على وجه الإخلاص والاختصاص وكيف لا يدعون ولا يعبدون له سبحانه مع انه هو في ذاته
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ يعنى درجات قربه ووصوله رفيعة وساحة عز حضوره منيعة لا يسع لكل قاصد ان يحوم حولها الا بتوفيق منه سبحانه وجذب من جانبه ذُو الْعَرْشِ العظيم إذ لا ينحصر مقر استيلائه وظهوره بمظهر دون مظهر ومجلى دون مجلى بل له مجالي ما شاء الله وكيف لا وهو سبحانه بمقتضى تجليه الجمالي يُلْقِي الرُّوحَ على وجه الامانة ويمد ظلال أوصافه(2/258)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
وعكوس أسمائه مِنْ عالم أَمْرِهِ بمقتضى حبه الذاتي عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ اى اى على استعدادات مظاهره المستظلين تحت ظلال أسمائه وصفاته الممدودة المنبسطة عليهم وبعد القائه ومده إياهم قد كلفهم بما كلفهم من الأوامر والنواهي المصححة للعبودية اللازمة للالوهية والربوبية وانما كلفهم بما كلفهم لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ اى ليخوفهم ويحذرهم عن خجالة زمان الوصول والرجوع الى ربهم في النشأة الاخرى والطامة الكبرى التي تردّ فيها الأمانات الى أهلها على وجهها إذ هو
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ خارجون عن أجداث اجسادهم منخلعون عن خلعة تعيناتهم راجعون الى الله جميعا بأرواحهم محشورون عنده معروضون عليه بحيث لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ المحيط بهم مِنْهُمْ شَيْءٌ لا من أعيانهم وذواتهم ولا من أعمالهم وأحوالهم ونياتهم وبعد ما قد برزوا لله ورجعوا نحوه صائرين اليه فانين فيه قيل حينئذ من قبل الحق بعد فناء الكل فيه إظهارا لكمال قدرته واستقلاله في حوله وقوته وسطوة سلطنته وبسطته حسب وحدته لِمَنِ الْمُلْكُ اى ملك الوجود والتحقق والثبوت فأجيب ايضا من قبله بعد ما تحقق ان الْيَوْمَ لا موجود فيه سواه ولا شيء غيره حتى يجيب لِلَّهِ الْواحِدِ الأحد من كل الوجوه الْقَهَّارِ المعدم المحيّاء لنقوش السوى والأغيار وعكوس عموم الاظلال والأمثال عن دفتر الوجود ومشهد الشهود وبعد ما قد استقر واستوى سبحانه على الملك المطلق بالأصالة والاستحقاق وعلى عروش عموم ما قد كان ويكون في أزل الآزال وابد الآباد أشار الى سرائر ما ظهر منه من الأوامر والنواهي في النشأة الاولى فقال
الْيَوْمَ اى يوم الجزاء والنشأة الاخرى تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ اى طبق ما كسبت واقترفت في النشأة الاولى التي هي نشأة التكليف والاختبار بلا ازدياد عليه ولا تنقيص عنه إذ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ اى يوم الجزاء لأنه انما وضع لتظهر فيه العدالة الإلهية والقسط الحقيقي بل تجزى فيه كل من النفوس حسب ما صدر عنها خيرا وشرا نفعا وضرا إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما ظهر وبطن من احوال عباده سَرِيعُ الْحِسابِ عليهم بلا فترة وتلبس إذ لا يشغله شأن عن شأن ولا يطرأ عليه سهو ونسيان
وَبالجملة أَنْذِرْهُمْ وحذرهم يا أكمل الرسل يعنى عموم المكلفين يَوْمَ الْآزِفَةِ اى القرب والمشارفة على العذاب الأبدي حين احضروا على شفير جهنم للطرح فيها إِذِ الْقُلُوبُ اى قلوب أولئك المحضرين ترتفع وتعلو حينئذ لَدَى الْحَناجِرِ يعنى تلتصق يومئذ قلوبهم بحلاقيمهم من شدة هولهم واضطرابهم وقد كانوا حينئذ كاظِمِينَ مملوين من الكآبة والحزن المفرط وانواع الغموم والخذلان وبالجملة ما لِلظَّالِمِينَ المفسدين المسرفين حينئذ مِنْ حَمِيمٍ قريب قرين يدركهم ويتولى أمرهم ويسعى في استخلاصهم وَلا شَفِيعٍ لهم يُطاعُ اى يسمع شفاعته لأجلهم ويقبل منه مع انه سبحانه
يَعْلَمُ منهم بعلمه الحضوري خائِنَةَ الْأَعْيُنِ اى خيانتهم التي يتغامزون بعيونهم نحو محارم الله بلا خيانة صدرت عنهم ظاهرا فكيف بما أتوا بها جهرا وعلانية وَبالجملة يعلم سبحانه منهم عموم ما تُخْفِي الصُّدُورُ اى صدورهم من ميل الشهوات المحرمة بلا مباشرة الآلات
وَبالجملة اللَّهُ المطلع بظواهرهم وضمائرهم يَقْضِي ويحكم بهم ويجازى عليهم بمقتضى علمه وخبرته من أعمالهم وأحوالهم بِالْحَقِّ على الوجه الأعدل الاقسط بلا حيف وميل إظهارا لكمال عدالته وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ سبحانه من الأصنام والأوثان لا يَقْضُونَ ولا يحكمون لا لهم ولا عليهم يعنى آلهتهم بِشَيْءٍ من نفع وضر وخير وشر إذ هي جمادات هلكى لا شعور لها إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر(2/259)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
على انواع الانعام والانتقام هُوَ السَّمِيعُ لجميع ما صدر من ألسنة استعداداتهم الْبَصِيرُ بعموم ما لاح وظهر على هياكلهم وهوياتهم. ثم أشار سبحانه الى تقريع اهل الزيغ والضلال وتفضيح اصحاب العناد والجدال فقال مستفهما مستبعدا مستنكرا إياهم
أَينكرون أولئك المعاندون المفرطون قدرتنا على أخذهم وانتقامنا عنهم وَلَمْ يَسِيرُوا ولم يسافروا فِي الْأَرْضِ الموروثة لهم من أسلافهم الذين قد أسرفوا على أنفسهم أمثالهم فَيَنْظُرُوا بنظر التأمل والاعتبار ليظهر عندهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المفسدين المسرفين الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مستقرين عليها متمكنين فيها مترفهين أمثالهم بل قد كانُوا هُمْ اى أسلافهم أَشَدَّ مِنْهُمْ اى من هؤلاء الأخلاف الأجلاف قُوَّةً وقدرة واكثر أموالا وَآثاراً فِي الْأَرْضِ حصونا وقلاعا وأخاديد وغير ذلك مما صدر من ذوى الأحلام السخيفة المقيدين بسلاسل الحرص وأغلال الآمال الطويلة أمثال انباء زماننا هذا ومع ذلك ما اغنى عنهم مخايلهم وأموالهم شيأ من غضب الله وعذابه حين حل عليهم لا دفعا ولا منعا بل فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور منهم بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم على سبيل البطر والغفلة فاستأصلهم بالمرة وَبالجملة ما كانَ لَهُمْ حينئذ مِنْ عذاب اللَّهُ المقتدر الغيور وبطشه مِنْ واقٍ حفيظ لهم يمنع عذاب الله عنهم
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ اى ما ذلك البطش والانتقام الا بسبب انهم من شدة عتوهم وعنادهم قد كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ من قبل الحق مؤيدين بِالْبَيِّناتِ الواضحة والبراهين القاطعة من انواع الآيات والمعجزات الساطعة فَكَفَرُوا بالله وبهم أمثال هؤلاء التائهين في بيداء الغفلة والغرور وأنكروا على حججهم وبيناتهم ونسبوها الى السحر والشعبذة ولهذا قد أظهروا على رسل الله بأنواع المكابرة والعناد فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ القدير الحكيم الحليم العليم بكفرهم وعتوهم بعد ما امهلهم زمانا يترددون فيما يرومون ويقصدون فيه وكيف لا يأخذهم سبحانه إِنَّهُ قَوِيٌّ مطلق ومقتدر كامل سيما على من ظهر عليه وخرج عن ربقة عبوديته شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام اليم العذاب على من كذب وتولى عن رسله الكرام
وَاذكر يا أكمل الرسل لَقَدْ أَرْسَلْنا من مقام عظيم جودنا أخاك مُوسى الكليم وأيدناه بِآياتِنا القاطعة الساطعة الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ اى بحجة واضحة دالة على صدقه في رسالته ودعوته
إِلى فِرْعَوْنَ الباغي الطاغي الذي قد بالغ في العتو والعناد حيث تفوه بكلمة أنا ربكم الأعلى وَهامانَ المصدق لطغيانه المعاون على عتوه وعدوانه وَقارُونَ المباهي بالثروة والغنى على اقرانه وعموم اهل عصره وزمانه وبعد ما قد بلغ الكليم الدعوة إليهم واظهر المعجزة عندهم وعليهم فَقالُوا بلا مبالاة وبلا تردد وتأمل فيما سمعوا وشاهدوا منه ما هذا المدعى الا ساحِرٌ في عموم بيناته كَذَّابٌ في جميع دعوته يعنى فاجؤا على التكذيب والإنكار بلا مبالاة به وبشأنه وأصروا على ما هم عليه من العتو والاستكبار
فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى ملتبسا بِالْحَقِّ مؤيدا مِنْ عِنْدِنا وآمن له بنوا إسرائيل حين عاينوا منه الآيات الكبرى والبينات العظمى قالُوا يعنى فرعون اصالة وملئه تبعا لأعوانهم واتباعهم اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعنى أعيدوا على بنى إسرائيل الزجر الشنيع الذي قد كنتم تفعلون معهم من قبل وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ للزواج والوقاع تعييرا عليهم وتقريعا مستلزما لانواع الاهانة والاستحقار يعنى انهم قد قصدوا المقت والمكر على أولئك المؤمنين بقولهم هذا وَ(2/260)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
هم ما فطنوا انهم هم الممقوتون الممكورون حقيقة إذ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ وما مكرهم وحيلتهم حيث كادوا ومكروا على اهل الحق إِلَّا فِي ضَلالٍ اى هلاك وبوار وضياع وخسار لذلك لم ينالوا على ما قصدوا وأملوا بل قد عاد عليهم ولحق بهم تلك الوبال والنكال بأضعاف ما قصدوا إياهم ومكروا لأجلهم
وَبعد ما قد ظهر شأن موسى الكليم وعلا قدره وانتشر بين الناس حجته وبرهانه قالَ فِرْعَوْنُ لملائه وهم الذين قد قالوا له حين ظهر غلبة موسى على سحرته فقصد قتله لا تقتله حتى لا يظهر مغلوبيتك منه عند الناس مع انك تدعى الألوهية ذَرُونِي واتركوني على حالي أَقْتُلْ مُوسى الآن وحدي وَلْيَدْعُ رَبَّهُ لان يمنعني عن قتله او لأجله يعنى انا لا أبالي به وبربه بل إِنِّي أَخافُ عليكم انه لو لم اقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وانقيادكم على بسحره أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ اى النهب والغارة في أطراف المملكة واكناف البلاد وان لم يقدر على تغيير دينكم وعقائدكم
وَبعد ما قد وصل الى موسى الكليم ما قصد له العدو اللئيم قالَ مُوسى متوكلا على الله مفوضا عموم أموره اليه إِنِّي عُذْتُ والتجأت بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ الواحد الأحد الفرد الصمد المراقب على حفظ عباده الخلص ايها المؤمنون سيما مِنْ شر كُلِّ مُتَكَبِّرٍ متناه في الكبر والخيلاء بمقتضى اهويته الباطلة وآرائه الفاسدة إذ هو لا يُؤْمِنُ ولا يصدق بِيَوْمِ الْحِسابِ حتى يرتدع من أمثال هذه الجرأة على رسل الله وعلى خلص عباده فانه سبحانه يكفى عنى مؤنة شره وضره
وَبعد ما قد صمم فرعون العزم لقتل موسى وجزم لمقته وهلاكه قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ موحد ما كان له اعتقاد بالوهية فرعون وان كان هو مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ومن شيعته وأقوامه لكن كان يَكْتُمُ إِيمانَهُ منهم أَتَقْتُلُونَ ايها المتكبرون المسرفون المفرطون رَجُلًا موحدا بمجرد أَنْ يَقُولَ بالله حقا رَبِّيَ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشريك والنظير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وَالحال انه قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات اللائحة مِنْ قبل رَبِّكُمْ الذي أوجدكم من كتم العدم وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ اى وبال كذبه عائد عليه ونكاله آئل اليه وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ البتة بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ به بمقتضى وحى الله والهامه إياه وبالجملة إِنَّ اللَّهَ الهادي لعباده الى سبيل الرشد لا يَهْدِي ولا يوفق على الهداية كل مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في فعله كَذَّابٌ في قوله فلا حاجة الى قتله ودفعه إذ قد يزهق عن قريب ان كان كاذبا ثم ناداهم وخاطبهم مضيفا لهم الى نفسه امحاضا للنصح واشتراكا معهم في يوم الوبال النازل عليهم فقال
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ اى ملك العمالقة مختصة لكم اليوم بلا منازع ولا مخاصم مع كونكم ظاهِرِينَ غالبين فِي اقطار الْأَرْضِ على عموم الناس الحمد لله والمنة فلا ترتكبوا فعلا جالبا لغضب الله عليكم بل اتركوا قتله والا بعد ما قد قتلتموه عدوانا وظلما فَمَنْ يَنْصُرُنا وينقذنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ المنتقم الغيور وعذابه إِنْ جاءَنا ونزل علينا بقتل هذا الصديق الصادق الصدوق في الدعوى والرسول المرسل من عند الله تبارك وتعالى لو نزل بنا كيف نرفعه وندفعه قيل هذا القائل المؤمن هو ابن عم فرعون وهو عنده من المقربين. ثم لما سمع فرعون كلامه المشتمل على محض العظة والنصيحة قالَ فِرْعَوْنُ على سبيل الطرح والتعريض ما أُرِيكُمْ وأشير إليكم في دفع هذا المدعى المفسد إِلَّا ما أَرى بموافقة عقلي واستصوبه رأيى واستقر عليه فكرى وهو ان نقتله لندفع شره وَاعلموا(2/261)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
ايها الملأ ما أَهْدِيكُمْ بقولي هذا وهو امرى بقتله إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ الموصل الى نجاتكم وخلاصكم من مفسدة هذا المدعى الساحر
وَبعد ما قد أكد فرعون امر القتل وبالغ في تصميم العزم قالَ الرجل الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ ناداهم وأضافهم الى نفسه إظهارا لكمال الاختصاص والشفقة إِنِّي بمقتضى عقلي أَخافُ عَلَيْكُمْ عذاب يوم هائل شديد مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ الهالكين المستأصلين بحلول عذاب الله عليهم فيه لان دأبكم وديدنتكم في الخروج عن حدود الله ومقتضيات امره وأحكامه والظهور على رسله وتكذيبكم إياهم ليس الا
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَمثل سائر المكذبين المسرفين المفرطين الَّذِينَ قد ظهروا على الرسل وكفروا به سبحانه مِنْ بَعْدِهِمْ فلحقهم من العذاب ما لحقهم وكذلك يحل عليكم مثل ما قد حل عليهم لو تقتفوا أثرهم بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية وَالا مَا اللَّهُ العليم الحكيم يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ المتحرزين عن مطلق الجرائم والآثام المنافية للحدود الإلهية فلا يعاقب من لا ذنب له ولا يحل عليه عذابه
ثم ناداهم القائل الموحد ايضا على سبيل التأكيد والمبالغة تتميما لما يخفى في صدره من ترويج الحق وتقوية الرسل المرسلين به فقال وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ اى العذاب الموعود في يوم القيامة سميت به لتفرق الناس فيه وفرار كل منهم من أخيه وأبيه وامه وبنيه
وأخاف ايضا يَوْمَ تُوَلُّونَ وتنصرفون عن موقف العرض والحساب مُدْبِرِينَ قهقرى هاربين فارين من كثرة الآثام والجرائم الجالبة لانواع العذاب وبالجملة تخيلوا ايها المسرفون وتخمنوا في نفوسكم ما لَكُمْ يومئذ مِنَ غضب اللَّهِ المنتقم الغيور ومن حلول عذابه عليكم مِنْ عاصِمٍ يعصمكم ويدفع عنكم عذابه وَبالجملة اعلموا انه مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ المضل حسب قهره وجلاله ويحمله على ما لا ينبغي له ولا يرضى منه سبحانه بل انما ابتلاه وحمله عليه فتنة واختيارا فَما لَهُ مِنْ هادٍ اى قد ظهر انه ما له هاد يهديه الى ما يعنيه ويليق بحاله ويرضى منه سبحانه
ثم قال القائل المذكور تسجيلا على غيهم وضلالهم وَكيف تستبعدون نبوة هذا المدعى ورسالته من عند الله مع انه ليس ببدع منه بل لَقَدْ جاءَكُمْ على آبائكم واسلافكم يُوسُفُ بن يعقوب رسولا مِنْ قَبْلُ اى من قبل هذا المدعى مؤيدا من عند الله سبحانه بِالْبَيِّناتِ المبينة الموضحة لدعواه ورسالته مثل هذا المدعى المؤيد فَما زِلْتُمْ قد كنتم دائما مستمرا سلفا وخلفا فِي شَكٍّ وتردد مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من امر الدين وشأن التوحيد واليقين حَتَّى إِذا هَلَكَ ومات يوسف عليه السلام وانقرض زمانه قُلْتُمْ من شدة تعنتكم وعنادكم على سبيل الجزم بلا دليل وبرهان لاح عليكم لا نقلا ولا عقلا لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ ولن يرسل مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا مع انكم قد كنتم شاكين في رسالته ايضا بل في مطلق الرسالة والإنزال والاخبار من الله الواحد القهار كَذلِكَ اى مثل ضلالكم هذا يُضِلُّ اللَّهُ المضل حسب قهره وجلاله عموم مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في الخروج عن مقتضى الحدود الموضوعة لحفظ القسط الإلهي والاعتدال الحقيقي مُرْتابٌ متردد شاك فيما تثبته البينات الواضحة والمعجزات اللائحة
وبالجملة المسرفون المكابرون الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده واستقلاله بالتصرفات الواقعة في ملكه وملكوته مع ان جدالهم هذا قد صدر عنهم بِغَيْرِ سُلْطانٍ اى بلا حجة قاطعة وبرهان واضح أَتاهُمْ على وجه الإلهام او الوحى والبيان وبالجملة قد كَبُرَ وعظم(2/262)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
حالهم وشأنهم هذا مَقْتاً اى ليكون سببا لمقتهم وهلاكهم عِنْدَ اللَّهِ اصالة وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبكمال قدرته على انواع الانعام والانتقام تبعا كَذلِكَ اى مثل ما سمعت يا أكمل الرسل من الإصرار والاستكبار يَطْبَعُ ويختم اللَّهِ العليم الحكيم عَلى كُلِّ قَلْبِ مجبول على الشقاوة والضلال في أزل الآزال مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ يمشى على الأرض خيلاء ويضر باهلها وانما امهله سبحانه هكذا ليوفر عليه العذاب المعد له ويخلده في نار القطيعة والحرمان ابدا الآباد
وَبعد ما ظهر امر موسى وانتشر دينه بين الناس ودعوته الى الله الواحد الأحد الموجد للسموات العلى والأرضين السفلى ومالت النفوس اليه حسب فطرتها الاصلية لوضوح براهينه وسطوع معجزاته قالَ فِرْعَوْنُ مدبرا في دفع موسى متأملا في شأنه مشاورا مع وزيره آمرا له مناديا إياه يا هامانُ قد وقع ما نخاف منه من قبل ابْنِ لِي صَرْحاً بناء رفيعا ظاهرا عاليا من جميع الابنية والقصور لَعَلِّي بالارتفاع اليه والعروج نحوه أَبْلُغُ الْأَسْبابَ المؤيدة لأمر موسى يعنى
أَسْبابَ السَّماواتِ والمؤثرات العلوية فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى واسأل منه امره أهو صادق في دعواه او كاذب وَإِنِّي بمقتضى عقلي ورأيى وفراستي لَأَظُنُّهُ كاذِباً ساحرا مفتريا على ربه ترويجا لسحره وتغريرا لضعفاء الأنام قيل امر ببناء رصد ليطلع على قوة طالع موسى وضعفه وَكَذلِكَ اى مثل ما سمعت قد زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ اى حسن الله له تدبيره الذي تأمل في دفع موسى ابتلاء منه سبحانه إياه وتضليلا وَصُدَّ وانصرف فرعون بأمثال هذه الأفكار الفاسدة عَنِ السَّبِيلِ السوى الموصل الى توحيد الحق وَبالجملة ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ ومكره الذي دبره لدفع موسى ما وقع إِلَّا فِي تَبابٍ هلاك وخسار وَبعد ما قد الزمهم القائل المذكور بأنواع الإلزام وأسكتهم بالدلائل القطعية واضطروا وتحيروا في شأن موسى ودفعه
قالَ القائل الَّذِي آمَنَ له وكتم إيمانه منهم يا قَوْمِ ناداهم لينقلبوا اليه بكمال الرغبة اتَّبِعُونِ واستصوبوا رأيى واقبلوا قولي أَهْدِكُمْ انا سَبِيلَ الرَّشادِ وطريق الصدق والسداد
يا قَوْمِ ما شأنكم وأمركم في دار الفتن والغرور ومنزلة الغفلة والثبور ومخايلكم بشأنها وما قراركم عليها وثباتكم فيها واعلموا إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ مستعار بلا قرار ومدار وبلا ثبوت واعتبار وَإِنَّ الْآخِرَةَ المعدة لذوي البصائر واولى الأبصار هِيَ دارُ الْقَرارِ واعلموا ايها المجبولون على فطرة التكليف ان
مَنْ عَمِلَ في النشأة الاولى سَيِّئَةً جالبة لغضب الله مستتبعة لعذابه فَلا يُجْزى في النشأة الاخرى إِلَّا مِثْلَها بمقتضى العدل الإلهي وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مستجلبا لنعم الله مريدا لموائد كرمه سواء كان مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَالحال انه هُوَ مُؤْمِنٌ موقن بتوحيد الله مصدق لرسله وكتبه فَأُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ في النشأة الاخرى يُرْزَقُونَ فِيها رزقا صوريا ومعنويا رغدا واسعا بِغَيْرِ حِسابٍ اى بلا تقدير وموازنة مثل أرزاق الدنيا وقال القائل المذكور ايضا على سبيل الملاينة والمجاراة في صورة المناصحة والمقابلة ايقاظا لهم من سنة الغفلة بمقتضى المرحمة وتتميما للغرض المسوق له الكلام
وَيا قَوْمِ ما لِي اى أى شيء عرض علىّ ولحق بي أَدْعُوكُمْ انا من كمال عطفي ومرحمتى إياكم إِلَى النَّجاةِ من عذاب الله ومن حلول قهره وغضبه عليكم والى دخول الجنة المشتملة على انواع اللذات الجسمانية والروحانية المعدة لأهل التوحيد والايمان وَأنتم تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ(2/263)
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
المعدة لأصحاب الخيبة والخذلان إذ
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ الواحد الأحد الصمد المتفرد بالالوهية وأنكر وجوده واستقلاله فيه وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ اى أشرك به سبحانه شيأ لم يتعلق علمي بألوهيته وشركته مع الله لا يقينا ولا ظنا ولا وهما إذ هو جماد لا شعور له وَأَنَا أَدْعُوكُمْ بمقتضى الوحى الإلهي المنزل على رسل الله المؤيدين بالعقل الفطري المفاض لهم من لدنه ليرشدوا به خواص عباده سبحانه إِلَى الْعَزِيزِ القادر الغالب في امره بلا فتور وقصور الْغَفَّارِ الستار لنقوش السوى والأغيار مطلقا
لا جَرَمَ قد حق وثبت حقا حتما ثابتا أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وتميلوننى نحوه لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ اى لا يتأتى منه لا الدعوة ولا الهداية ولا الإرشاد لا فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ إذ لا يتيسر للجماد دعوة الإنسان وتكليمه مطلقا وَبعد ما اتضح امر آلهتكم وعدم لياقتهم بالالوهية والربوبية قد ظهر أَنَّ مَرَدَّنا ومرجعنا يعنى انا وأنتم وسائر العباد والمظاهر عموما وخصوصا إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الحقيق بالحقية اللائق بالالوهية والربوبية بلا توهم الشركة والنزاع رجوع الاظلال الى الأضواء والأمواج الى الماء وَقد ظهر ايضا أَنَّ الْمُسْرِفِينَ الخائضين في توحيده سبحانه بالهذيانات التي تركبها اوهامهم وخيالاتهم بلا تأييد من وحى الهى وعقل فطري هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها وملاصقوها لا نجاة لهم منها ابد الآباد وبالجملة
فَسَتَذْكُرُونَ أنتم ايها الممكورون الممقوتون حين تعاينون وتدخلون النار ما أَقُولُ لَكُمْ على وجه النصح من شأن العذاب الموعود لكم في النشأة الاخرى وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا من الوعيدات الهائلة اضمروا في نفوسهم عداوته والإنكار عليه وقصدوا مقته ضمنا وَلما تفرس هو ايضا منهم السوء قال مسترجعا الى الله متوكلا عليه متحننا نحوه أُفَوِّضُ أَمْرِي اى امر حفظي وحضانتى من شروركم إِلَى اللَّهِ المراقب على محافظة عباده المتوكلين عليه المتوجهين نحو جنابه يكفى بمقتضى لطفه وجوده مؤنة شروركم عنى واساءتكم على إِنَّ اللَّهَ المقتدر العليم بَصِيرٌ بِالْعِبادِ الخلص وما تكنّه ضمائرهم من الإخلاص والاختصاص قيل قد فرّ منهم الى جبل فأرسل فرعون جماعة لطلبه فلحقوه وهو في الصلاة والوحوش حوله صافين حافين يحرسونه عما يضره فلم يظفروا عليه فرجعوا خائبين فقتلهم فرعون أجمعين وبالجملة
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا اى حفظه الله الرقيب المراقب عليه من شدائد مكرهم وإساءتهم عليه وَحاقَ وأحاط بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النازل عليهم من عند الله العزيز الغيور ألا وهي
النَّارُ المعدة لتعذيب اصحاب الشقاوة الازلية الابدية ولهذا يُعْرَضُونَ عَلَيْها يعنى فرعون وآله على النار حال كونهم في برزخ القبر ايضا غُدُوًّا وَعَشِيًّا دائما في جميع الأزمان والأحيان قبل انقراض النشأة الاولى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يحشرون من قبورهم صرعى مبهوتين قيل لهم حينئذ من قبل الحق بلا سبق كشف وتفتيش عن حالهم أَدْخِلُوا يا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ اى افزعه وأفظعه وأخلده او قيل للملائكة الموكلين عليهم لتعذيبهم ادخلوا ايها الملائكة آل فرعون أشد العذاب وأسوأ النكال والوبال وهو تخليدهم في نار القطيعة على القرائتين. ثم قال سبحانه
وَاذكر يا أكمل الرسل للمعتبرين من المكلفين وقت إِذْ يَتَحاجُّونَ ويتخاصمون اى اصحاب النار فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ منهم من الأراذل والاتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لرؤسائهم ومتبوعيهم المستكبرين عليهم المستتبعين لهم في النشأة الاولى إِنَّا قد كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدنيا بل أنتم اضللتمونا عن(2/264)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
متابعة الرسل الهادين فَهَلْ أَنْتُمْ اليوم مُغْنُونَ دافعون مانعون عَنَّا نَصِيباً جزأ وشيأ قد صار حظنا مِنَ النَّارِ النازلة علينا بسبب اتباعنا إياكم واقتفائنا اثركم وتديننا بدينكم وخصلتكم
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا اى الرؤساء المتبوعون إِنَّا اى نحن وأنتم كُلٌّ منا معذبون فِيها اى في النار لا يتيسر لاحد منا ومنكم ان يدفع شيأ منها إِنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور قَدْ حَكَمَ بَيْنَ عموم الْعِبادِ بان ادخل بعضا منهم في الجنة بمقتضى فضله وبعضا في النار حسب عدله وبالجملة لا معقب لحكمه هذا وهو شديد المحال
وَاذكر يا أكمل الرسل لأصحاب العبرة والاستبصار ما قالَ الَّذِينَ كفروا حال كونهم فِي النَّارِ محزونين صاغرين لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ وهي اعمق اماكن النار واغورها ادْعُوا رَبَّكُمْ ايها الخزنة حسبة لله واستشفعوا منه سبحانه لأجلنا وان لم يغفر لنا ولم يعف عن جرائمنا ولم يخرجنا من النار يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً اى مقدار يوم واحد مِنَ الْعَذابِ الدائم المستمر حتى نتنفس فيه ونستريح
قالُوا اى الخزنة في جوابهم تهكما وتوبيخا على وجه التجاهل أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ ايها الحمقى الهالكون في تيه البعد والضلال رُسُلُكُمْ المبعوثون إليكم بِالْبَيِّناتِ الواضحة الدالة على قبول الإنذارات الصادرة من الله اصالة ومنهم تبعا وبعد ما سمعوا من الخزنة ما سمعوا قالُوا متأوهين متأسفين متحسرين بَلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ان أنتم الا تكذبون قالُوا اى الخزنة بعد ما سمعوا ان أنتم الا في ضلال مبين فَادْعُوا على حالكم بلا استشفاع منا إذ نحن لا نجترئ بالشفاعة عنده والاستغفار منه سبحانه لأمثالكم إذ لا يقبل الدعاء منا ومنكم في مثل هذه الجرائم الكبيرة وَبالجملة ما دُعاءُ الْكافِرِينَ المصرين على كفرهم في النشأة الاولى التي هي دار الاختبار لاستخلاصهم في النشأة الاخرى التي هي دار القرار إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع وخسار بحيث لا يسمع من احد أمثال هذا الدعاء ولا يجاب له ولا يقبل منه. ثم قال سبحانه وعدا للمؤمنين وحثا لهم على تصديق رسل الله وكتبه
إِنَّا من مقام عظيم جودنا ولطفنا لَنَنْصُرُ ونعاون رُسُلَنا الذين هم حملة وحينا وحفظة ديننا وَكذا المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا بهم واسترشدوا منهم طريق الهداية واجتنبوا بسببهم عن الغي والضلال فِي الْحَياةِ الدُّنْيا التي هي نشأة الفتن والاختبارات الإلهية بتوفيقهم على العمل الصالح وردعهم عن المفاسد والمنكرات وَننصرهم ايضا نصرة تامة يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ اى يوم القيامة التي يقوم فيها الشهود العدول من الملائكة والنبيين والمؤمنين لنصرة المؤمنين ومقت الكافرين وذلك
يَوْمَ اى يوم لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية في النشأة الدنيا مَعْذِرَتُهُمْ التي أتوا بها يومئذ إذ قد انقضى حينئذ وقت التلافي والتدارك ومضى زمان الاختبار وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ يومئذ نازلة والطرد والتبعيد عن ساحة عز الحضور حاصل وَبالجملة لَهُمُ يومئذ سُوءُ الدَّارِ المعدة لأصحاب الخسار والبوار ألا وهي جهنم البعد والخذلان. أعاذنا الله وعموم عباده عنها. ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه وتوطينا له على تحمل أعباء الرسالة الجالبة لانواع المكروهات من النفوس المجبولة على الشقاوة والضلال والتصبر على اذياتهم
وَالله لَقَدْ آتَيْنا من كمال فضلنا وجودنا أخاك مُوسَى الكليم الْهُدى اى الشرائع والمعجزات الدالة على كمال الهداية والإرشاد الى سبيل الرشد والسداد وَبعد انقراض موسى قد أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ اى التوراة المنزل عليه وابقيناه بينهم ليكون
هُدىً لهم هاديا الى ما هديهم موسى(2/265)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
من الأمور الدينية وَليكون ذِكْرى اى عظة وتذكيرا يتذكرون بها الى ما يرومونه من المقاصد الدينية والمعالم اليقينية لا لكل احد من العوام بل لِأُولِي الْأَلْبابِ الألباء المستكشفين عن سرائر الأمور الدينية بمقتضى العقول المستقيمة المفاضة لهم من المبدأ الفياض ومع ذلك قد سمعت يا أكمل الرسل قصص أولئك الهالكين في تيه العتو والعناد وما جرى بينهم وبين الرسل المبعوثين إليهم من التحارب والتنازع المفضى الى أذى الأنبياء العظام والرسل الكرام فصبروا على أذاهم الى ان ظفروا عليهم بنصر الله إياهم وإعلاء دينه المنزل عليهم من لدنه سبحانه
فَاصْبِرْ أنت ايضا يا أكمل الرسل على ما اصابك من اذيات هؤلاء الجهلة المستكبرين المعاندين معك وانتظر الى ما وعدك الحق من النصر والظفر وإعلاء دين الإسلام وإظهاره على الأديان كلها إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ العليم القدير الحكيم الخبير حَقٌّ ثابت محقق إنجازه ووفاؤه الا انه مرهون بوقته فسينصرك ويغلبك على عموم أعدائك عن قريب ويبقى آثار هدايتك وارشادك بين أوليائك الى النشأة الاخرى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ واشتغل في عموم أوقاتك بالاستغفار لفرطاتك ليكون استغفارك هذا سنة سنية لأمتك وَسَبِّحْ ايضا بِحَمْدِ رَبِّكَ في جميع أوقاتك وحالاتك إذ كل نفس من أنفاسك يستلزم شكرا منك سيما بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ اى في أول النهار وآخرها إذ هما وقتان خاليان عن تزاحم الاشتغال وتفاقم الآمال وبالجملة كن مع ربك في عموم احوالك واطوارك يكف عنك مؤنة جميع من عاداك وعاندك ويكف عنك إذا هم. ثم قال سبحانه
إِنَّ المشركين المعاندين الَّذِينَ يُجادِلُونَ ويخاصمون معك يا أكمل الرسل فِي آياتِ اللَّهِ المنزلة عليك لتأييد دينك وشأنك على وجه المكابرة والعناد بِغَيْرِ سُلْطانٍ اى بلا حجة وبرهان أَتاهُمْ وفاض عليهم من قبل ربهم على طريق الوحى والإلهام بل إِنْ فِي صُدُورِهِمْ اى وما في قلوبهم شيء يبعثهم على المجادلة ويغريهم إليها إِلَّا كِبْرٌ وخيلاء منهم مركوز في جبلتهم ثقة لثروتهم ورئاستهم على زعمهم الفاسد مع انهم ما هُمْ بِبالِغِيهِ على مقتضى ما جبلوا في نفوسهم إذ هم سيغلبون عن قريب في هذه النشأة الاولى ويحشرون في الاخرى الى جهنم البعد والخذلان وبالجملة فَاسْتَعِذْ أنت ايها النبي الصادق الصدوق بِاللَّهِ القادر القوى والتجئ اليه سبحانه عن غدر كل غادر إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْبَصِيرُ بنياتهم ويكفيك مؤنة ما يقصدون عليك بمقتضى آرائهم الباطلة واهوائهم الفاسدة ومن أعظم ما يجادلون فيه أولئك المعاندون المكابرون امر الساعة والمعاد الجسماني وبعث الموتى من قبورهم وحشرهم نحو المحشر والله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى اظهار العلويات والسفليات من كتم العدم على سبيل الإبداع في النشأة الاولى أَكْبَرُ وأعظم مِنْ خَلْقِ النَّاسِ واعادتهم احياء في النشأة الاخرى وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ عظم قدرة الحق وكمال اقتداره على عموم ما دخل في حيطة علمه الشامل وارادته الكاملة لقصور نظرهم عن ادراك الحق وصفاته الكاملة الكافية في ذاته ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. ثم أشار سبحانه الى تفاوت طبقات عباده في العلم بالله والجهل به وبصفاته فقال
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى الغافل الزاهل عن ظهور ذات الحق وتجليه بمجالى الأنفس والآفاق بمقتضيات أوصافه العظمى وأسمائه الحسنى وَالْبَصِيرُ العارف المكاشف بوحدة الحق وظهوره سبحانه على هياكل عموم ما ظهر وبطن حسب شئونه وتطوراته الذاتية وَلا المصلحون المحسنون الَّذِينَ آمَنُوا بالله واعتقدوا توحيده وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عنده سبحانه من الأعمال والأفعال(2/266)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
المترتبة على الايمان واليقين وَلَا الْمُسِيءُ اى الذين يسيئون الأدب مع الله وهم الكفرة الذين لا يؤمنون بالله ولا يتصفون بتوحيده بل هم يسترون شروق شمس ذاته بغيوم هوياتهم الباطلة واظلال انانياتهم الزائلة المضمحلة في شمس الذات لذلك عملوا عملا سيّئا حسب ما تهواه أنفسهم الخبيثة وأحلامهم السخيفة لكن قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ اى ما تتذكرون وتتفطنون على عدم المساواة الا تذكرا قليلا ولهذا تنكرون البعث والحشر وكيف تنكرونه
إِنَّ السَّاعَةَ الموعودة على ألسنة عموم الأنبياء والرسل لَآتِيَةٌ البتة بحيث لا رَيْبَ فِيها اى في مجيئها ووقوعها بوضوح الدلائل العقلية الدالة على إمكان اعادة المعدوم مع انها مؤيدة بالوحي والإلهام الإلهي على عموم الأنبياء والرسل الكرام وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بها ولا يصدقون بوقوعها وقيامها لانحطاطهم عن مرتبة الخلافة المترتبة على فطرة التوحيد واليقين
وَبعد ما أشار سبحانه الى مرتبة كلا الفريقين الموحد والمشرك أشار الى من توجه نحوه سبحانه متحننا وقصد تجاه توحيده مجتهدا ودعا اليه متضرعا فأجاب له وأنجح مطلوبه حيث قالَ رَبُّكُمُ الذي رباكم على فطرة التوحيد والعرفان ادْعُونِي ايها المكلفون بمقتضى العقل المفاض حق دعوتي وتوجهوا الى مخلصين بلا رؤية الوسائل والأسباب العادية في البين أَسْتَجِبْ لَكُمْ دعوتكم وأوصلكم الى مقصدكم ومقصودكم الذي هو توحيد الذات فعليكم ان لا تستكبروا عن عبادتي وإطاعتي وبالجملة إِنَّ المسرفين الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ ويستنكفون عَنْ عِبادَتِي حسب آرائهم الباطلة واهوائهم الفاسدة سَيَدْخُلُونَ في يوم الجزاء جَهَنَّمَ الحرمان والخذلان داخِرِينَ صاغرين ذليلين مهانين وكيف يستنكفون ويستكبرون عن عبادة الفاعل على الإطلاق المنعم بالاستقلال والاستحقاق مع انه
اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المتصف بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ مظلما باردا لِتَسْكُنُوا وتستريحوا فِيهِ بلا ضرر وعناء وَايضا قد جعل لكم النَّهارَ مُبْصِراً لتكسبوا فيه معايشكم وتجمعوا حوائجكم وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المنعم المفضل على عباده لَذُو فَضْلٍ عظيم وكرامة كاملة شاملة عَلَى عموم النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على فطرة النسيان والكفران لا يَشْكُرُونَ نعمه ولا يواظبون على أداء حقوق كرمه جهلا منهم بالله وعنادا مع رسله الهادين اليه
ذلِكُمُ اللَّهُ الذي قد أفاض عليكم موائد بره وإحسانه واظهر عليكم مقتضيات ألوهيته وربوبيته رَبُّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم بعد ما أوجدكم من كتم العدم وهو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ومظهره من العدم إظهارا إبداعيا بمقتضى اختياره واستقلاله فلكم ان تتوجهوا اليه وتحننوا نحوه مخلصين إذ لا إِلهَ يعبد له بالاستحقاق ويرجع نحوه في الخطوب على الإطلاق إِلَّا هُوَ الله اى الذات الواحدة المتحدة المتصفة بالصفات الكاملة المربية لجميع ما في الكون من العكوس والاظلال المنعكسة منها فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وكيف تنصرفون عن عبادته ايها الآفكون المنصرفون فأين تذهبون من بابه ايها الذاهبون الجاهلون ما لكم كيف تحكمون ايها الضالون المحرومون
كَذلِكَ اى مثل ما سمعت من المجادلة والمكابرة بلا برهان واضح وتبيان لائح يُؤْفَكُ ويصرف عن طريق الحق عموم المسرفين الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ ودلائل توحيده يَجْحَدُونَ وينكرون بلا تأمل ولا تدبر لينكشف لهم ما فيها من المعارف والحقائق المودعة فيها فكيف تجحدون في آيات الحكيم العليم ايها الجاحدون الجاهلون(2/267)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
مع انه سبحانه هو الصمد المتفرد بالالوهية والربوبية إذ
اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ اى عالم الطبيعة والهيولى قَراراً تستقرون عليها حسب هويتكم وَرفع لكم السَّماءَ اى عالم الأسماء والصفات بِناءً اى سقفا رفيعا منيعا تستفيضون منها الكمالات اللائقة لاستعداداتكم وقابلياتكم الموهوبة لكم من عنده سبحانه وَبالجملة قد صَوَّرَكُمْ حسب لطفه وجماله من الآباء العلويات والأمهات السفليات فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بان خلقكم على اعدل الأمزجة واحسن التقويم لتكونوا قابلين لائقين لخلافة الحق ونيابته وَبعد ما صوركم كذلك فأحسن صوركم هكذا قد رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الصورية والمعنوية تقوية وتقويما لأشباحكم وأرواحكم وبالجملة ذلِكُمُ اللَّهُ الذي سمعتم نبذا من أوصافه الكاملة ونعمه الشاملة رَبُّكُمْ الذي أظهركم من كتم العدم بمقتضى لطفه فانى تصرفون عنه وعن توحيده وعبادته ايها المسرفون الضالون المفرطون مع انه لا رب لكم سواه سبحانه فَتَبارَكَ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد العلى بذاته الجلى بحسب أسمائه وصفاته رَبِّ الْعالَمِينَ على الإطلاق بكمال الاستقلال والاستحقاق لا يعرضه زوال ولا يطرأ عليه انقراض وانتقال بل
هُوَ الْحَيُّ الأزلي الأبدي الدائم المستغنى عن مقدار الزمان ومكيال المكان مطلقا لا إِلهَ في الوجود سواه ولا موجود يعبد له بالحق إِلَّا هُوَ وبعد ما سمعتم ايها المكلفون خواص أسمائه وأوصافه سبحانه فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ واعبدوه مخصصين لَهُ الدِّينَ اى العبادة والانقياد إذ لا مستحق للاطاعة والعبادة الا هو سبحانه وبعد ما رجعتم نحوه مخلصين وعبدتم له سبحانه مخصصين قولوا بلسان الجمع الْحَمْدُ المستوعب لجميع الاثنية والمحامد الناشئة من ألسنة عموم المظاهر ثابت لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ بانفراده بالالوهية واستقلاله في الربوبية بلا توهم الشركة والمظاهرة ويا أكمل الرسل
قُلْ لعموم المشركين على سبيل التنبيه والإرشاد بعد ما وضح امر التوحيد واتضح سبيل الهداية والرشد إِنِّي نُهِيتُ من قبل ربي الذي سمعتم استقلاله في ألوهيته وربوبيته أَنْ أَعْبُدَ وانقاد الآلهة الباطلة الَّذِينَ تَدْعُونَ أنتم وتعبدون لها مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفريد في الألوهية الوحيد بالربوبية سيما لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ اى حين نزل علىّ الآيات المبينة الموضحة مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ من لدنه سبحانه أَنْ أُسْلِمَ اى اعبد وانقاد على وجه التسليم المقارن بالإخلاص والاختصاص بلا رؤية الوسائل والأسباب لِرَبِّ الْعالَمِينَ إذ هو سبحانه منزه عن التعدد والتكثر مطلقا ورجوع الكل اليه أولا وآخرا وكيف لا يعبدونه سبحانه ولا ينقادون اليه ولا يتوجهون نحوه مع انه
هُوَ الخالق المبدع المصور الَّذِي خَلَقَكُمْ وقدر صوركم أولا مِنْ تُرابٍ مهين مرذول إظهارا لقدرته الغالبة الكاملة ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مستحدثة من أجزاء التراب ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ خبيثة متكونة من النطفة ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا سويا كائنا من أجزاء العلقة مع الروح المنفوخ فيها من لدنه سبحانه ثُمَّ يربيكم بأنواع اللطف والكرم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ اى كمال قوتكم وحولكم نظرا وعملا ثُمَّ أمهلكم وأعمركم زمانا لِتَكُونُوا شُيُوخاً منحطين منسلخين عن كلتا القوتين المذكورتين معا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ويموت مِنْ قَبْلُ اى قبل بلوغه الى أشده او شيخوخته وَانما فعل سبحانه كل ما فعل من الأطوار المتعاقبة والأحوال المتواردة المترادفة لِتَبْلُغُوا أَجَلًا معينا مقدرا مُسَمًّى عنده سبحانه بلا اطلاع احد عليه لقبضكم نحوه ورجوعكم اليه(2/268)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
وَالحكمة الباعثة على جميع ذلك لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وتفهمون ان مبدأكم ومنشأكم منه سبحانه ومعادكم اليه فتعبدونه حق عبادته كي تعرفوه حق معرفته وكيف لا تعبدونه سبحانه ولا تعرفونه ايها العقلاء المجبولون على فطرة الدراية والشعور مع انه
هُوَ الَّذِي يُحْيِي بامتداد اظلال أسمائه على كل ما لاح عليه بروق وجوده بمقتضى جوده وَيُمِيتُ بقبض تلك الاظلال نحو ذاته بالإرادة والاختيار وبالجملة فَإِذا قَضى أَمْراً اى تعلق ارادته ومشيته باحداث ما ظهر في عالم الأمر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ بعد تعلق مشيته كُنْ فَيَكُونُ بلا تراخ وتعاقب مفهوم من منطوق هذه الآية على ما هو المتبادر من أمثاله بل كل ما لمع عليه برق ارادته وصدر منه سبحانه ما يدل على نفوذ قضائه تكون المقضى بغتة بحيث لا يسع بين القضاء والمقضى توهم المهلة والتراخي والترتيب مطلقا ومع سرعة نفوذ قضاء الله وظهور هذه الآثار العظيمة من قدرته الكاملة على الوجه المذكور
أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى المشركين المسرفين الَّذِينَ يُجادِلُونَ ويكابرون فِي آياتِ اللَّهِ الدالة على كمال علمه وقدرته ومتانة حكمه وحكمته أَنَّى يُصْرَفُونَ اى الى اين ينصرفون عن عبادته ويعرضون عن ساحة عز جنابه ووحدته الذاتية سيما هؤلاء المكابرون
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ اى بالقرآن الجامع الكامل الشامل المنزل عليك يا أكمل الرسل وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا اى بعموم ما أرسلنا الى رسلنا الذين مضوا من قبلك من الكتب والصحف المنزلة عليهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أولئك الضالون المكذبون وبال جدالهم وتكذيبهم في النشأة الاخرى وقت
إِذِ تكون الْأَغْلالُ الثقيلة معقودة فِي أَعْناقِهِمْ بسبب انصرافهم عن آيات الله وعدم التفاتهم الى رسله الحاملين لوحيه سبحانه وَايضا تكون السَّلاسِلُ الطوال مشدودة في أيديهم وأرجلهم لعظم جرائمهم وآثامهم الباعثة على أخذهم وانتقامهم يُسْحَبُونَ ويجرون هؤلاء على وجوههم
فِي الْحَمِيمِ اى في الماء الحار المسخن بالنار المعدة لهم قبل تعذيبهم بالنار الملهبة ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يوقدون ويطرحون فيها طرح الحطب الوقود للنار
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ من قبل الحق توبيخا وتقريعا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ اى اين أصنامكم واوثانكم وعموم معبوداتكم التي أنتم قد ادعيتم شركتها مع الله في الألوهية وسميتموها آلهة
مِنْ دُونِ اللَّهِ لم لا تنقذكم من عذاب ولم لا يشفعون لكم عنده سبحانه حسب ما زعمتم في شأنهم وعللتم عبادتكم بها وبعد ما سمعوا ما سمعوا من التوبيخ والتقريع قالُوا متحسرين متأوهين قد ضَلُّوا وغابوا عَنَّا آلهتنا الهلكى وشفعاؤنا الهالكة المستهلكة التي قد كنا ندعو إليهم ونستشفع منهم بَلْ قد ظهر لنا اليوم انا لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ في النشأة الاولى شَيْئاً ينفعنا ويدفع عنا من غضب الله بل كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ المنتقم المضل الْكافِرِينَ الضالين بحيث لا يتنبهون بضلالهم الا وقت حلول العذاب عليهم ثم قيل لهم مبالغة في توبيخهم وتعييرهم
ذلِكُمْ اى إضلال الله إياكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ وتمشون عليها خيلاء بطرين مسرورين مستكبرين عن قبول آيات الله المنزلة على رسله مكذبين لهم مستهزئين بهم بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا دليل قطعى عقلي او سمعي اقناعى او ظني بل بمجرد الوهم الناشئ من كبركم وخيلائكم وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ اى تتوسعون وتتوقرون على انفسكم الفرح والسرور بمخالفتكم بترككم سنن حدود الله وبترككم سنن أنبيائه ورسله عنادا ومكابرة ثم قيل لهم بعد تفضيحهم على رؤس الاشهاد
ادْخُلُوا ايها المسرفون الضالون أَبْوابَ جَهَنَّمَ(2/269)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
اى دركاتها واغوارها الهوية النيرانية المعدة لكم بدل ما فوتم أنتم على انفسكم من الدرجات العلية الجنانية وكونوا خالِدِينَ فِيها ابد الآباد فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ومأواهم جهنم البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان. أعاذنا الله وعموم المؤمنين منها وبعد ما قد ظهر واتضح مآل حال الكفرة المستكبرين وعاقبة أمرهم
فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل على أذاهم وانتظر الى مقتهم وهلاكهم الموعود وثق بالله في انجاز وعده إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ المقتدر الحكيم باهلاك المشركين المكذبين المسرفين حَقٌّ ثابت محقق إنجازه ووقوعه البتة بلا خلف منه سبحانه إذ الله لا يخلف الميعاد مطلقا الا ان وعده سبحانه مرهون بأجل مقدر عنده فلا تحزن من تأخير الموعود ولا تعجل بحلول الأجل المعهود فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ اى فان نرك ونبصرك زيدت ما في أول الفعل والنون في آخره للتأكيد والمبالغة بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من القتل والسبي والجلاء فذاك وتحقق وعدنا إياك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ونميتنك قبل حلول أجل إهلاكهم وتعذيبهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يعنى لا تحزن من تأخير الموعود بعد توفيك ايضا إذ نحن نعذبهم وننتقم عنهم بعد رجوعهم إلينا في النشأة الاخرى بأضعاف ما في النشأة الاولى وآلافها
وَبالجملة بعد ما قد وعدنا لهم العذاب لانحرافهم عن سبيل الرشد مصرين على المكابرة والعناد ننجز الموعود البتة سواء كان عاجلا او آجلا فعليك ان لا تتعب نفسك بتعجيل العذاب عليهم قبل حلول الأجل المقدر من عندنا إذ لَقَدْ أَرْسَلْنا من مقام جودنا رُسُلًا كثيرين مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا قصصهم عَلَيْكَ في كتابك هذا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ولم نذكر قصتهم في كتابك إذ ما يعلم قصص جنودنا وما جرى عليهم من تفاصيل أحوالهم الا نحن وَبالجملة ما كانَ اى ما صح وما جاز لِرَسُولٍ من الرسل أَنْ يَأْتِيَ ويعجل بِآيَةٍ مقترحة او غير مقترحة من تلقاء نفسه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ووحيه وبمقتضى مشيته وارادته سبحانه بل له ان ينتظر الوقت الذي قد عين سبحانه ظهورها فيه إذ جميع الآيات والمعجزات الباهرات موهوبة من الله مقسومة بين أنبيائه ورسله بمقتضى قسمته سبحانه في حضرة علمه ولوح قضائه لا يسع لاحد منهم ان يعجل بها او يؤخر عن وقتها بل فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ العليم الحكيم بتعذيب المشركين واثابة الموحدين قُضِيَ بِالْحَقِّ جميع المقضيات الإلهية سواء كانت من جنس المثوبات او العقوبات وَبالجملة كما خَسِرَ وخاب هُنالِكَ اى عند وقوع المقضى وظهوره الْمُبْطِلُونَ المستوجبون لانواع العذاب والنكال قد ربج ونال حينئذ المحقون المستحقون لأصناف المثوبات واللذات الروحانية وكيف لا يكون كذلك إذ مقاليد عموم الأمور كلها بيد الله وفي قبضة قدرته إذ
اللَّهُ المتفرد بالالوهية والربوبية هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ مسخرة مقهورة لكم محكومة تحت أمركم وحكمكم لِتَرْكَبُوا مِنْها ما يليق بركوبكم تتميما لتربيتكم وحضوركم وَايضا قد جعل لكم مِنْها اى من الانعام ما تَأْكُلُونَ لتقويم امزجتكم وتقوية بنيتكم
وَجعل لَكُمْ فِيها ايضا مَنافِعُ كثيرة كالالبان والاصواف والاشعار والأوبار وغير ذلك وَلِتَبْلُغُوا اى لتصلوا وتنالوا بالحمل والركوب عَلَيْها اى على الانعام حاجَةً مطلوبة لكم مركوزة فِي صُدُورِكُمْ ونفوسكم ولولا ركوبكم وحملكم عليها لم تصلوا إليها الا بشق الأنفس وَبالجملة عَلَيْها اى على الانعام في البوادي والبراري وَعَلَى الْفُلْكِ في البحار تُحْمَلُونَ يعنى قد سهل عليكم سبحانه(2/270)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
معاشكم في اقامتكم وترحالكم تتميما لتربيتكم وحفظكم لتواظبوا على شكر نعمه وتلازموا لعبادته وعبوديته بالتبتل الخالص والإخلاص التام
لهذارِيكُمْ
ايها المغمورون المستغرقون في بحار افضاله وجوده اتِهِ
الدالة على وجوب وجوده ووحدة ذاته واستقلاله في الآثار الصادرة منه سبحانه حسب أسمائه وصفاته وبالجملةأَيَ
آية من اتِ اللَّهِ
الدالة على كمال ألوهيته وربوبيته نْكِرُونَ
ايها المسرفون المشركون
أَينكر المشركون المصرون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية كمال قدرته سبحانه على انواع الانتقام والعذاب فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد فَيَنْظُرُوا عليها معتبرين من البلاقع الخربة والاظلال المندرسة الكربة كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الأمم الهالكة المسرفة الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مع انهم قد كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عددا وعددا وَأَشَدَّ قُوَّةً وقدرة وبسطة واستيلاء وَاحكم آثاراً فِي الْأَرْضِ اى ابنية في القصور وقلاعا وحصونا مشيدة مرفوعة ومع ذلك فَما أَغْنى فما دفع وما أزال ورفع عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ويصنعون من الأمور المذكورة شيأ من غضب الله وعذابه بل قد لحقهم ما لحقهم من العذاب بحيث لا شعور لهم باماراته ومقدماته أصلا فاستأصلهم بالمرة
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ اى فهم قد كانوا في عتوهم وعنادهم يعمهون أمثال هؤلاء المسرفين لما جاءتهم رسلهم المبعوثون إليهم بالمعجزات والآيات الواضحات المبينة لطريق التوحيد لم يلتفتوا إليها ولم يلقوا اسماعهم نحوها تعنتا واستكبارا بل هم قد فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ اى الجهل المركب المركوز في طباعهم من تقليد آبائهم على وجه الإصرار بلا التفات منهم الى ما قد ظهر من الوحى الإلهي المنزل على رسلهم بل كذبوهم واستهزؤا بهم وَلهذا قد حاقَ وأحاط بِهِمْ وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ حين دعوة الرسل وإرشادهم الى طريق الحق بأنواع الوعد والوعيد وهم قد كانوا على ما هم عليه من العناد مصرين مستكبرين
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا اى بطشنا وعذابنا قد حل عليهم وأحاط بهم قالُوا حينئذ متذكرين دعوة رسلهم متحسرين على ما فوتوا على أنفسهم آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ على الوجه الذي هدانا اليه رسله وَكَفَرْنا بِما قد كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ من قبل من الأصنام والأوثان وسائر ما عبدنا من دونه سبحانه وبالجملة
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا إذ حينئذ قد انقضى زمان التدارك والتلافي وبالجملة قد كانت هذه الديدنة المستمرة سُنَّتَ اللَّهِ العليم الحكيم الَّتِي قَدْ خَلَتْ ومضت فِي عِبادِهِ المستكبرين عن طاعته وانقياده حين دعوة الرسل وإرشادهم إياهم وَبعد حلول او ان البأس ونزول العذاب قد خَسِرَ وخاب خيبة مؤبدة هُنالِكَ عنده ودونه الْكافِرُونَ المصرون على الإنكار والاستهزاء خسرانا عظيما في الدنيا وفي الآخرة أعظم منه وأدوم. أعاذنا الله وعموم عباده من بأسه وبطشه بمنه وجوده
خاتمة سورة المؤمن
عليك ايها المحمدي القاصد نحو الحق المتوجه الى توحيده وفقك الله الى إنجاح مهامك وأوصلك الى منتهى مقصدك ومرامك ان تكون أنت في عموم أوقاتك وحالاتك على خبرة كاملة من آيات الله النازلة من عنده سبحانه لهداية عباده التائهين في فضاء وجوده وعبرة تامة من سريان وحدته الذاتية على عموم هياكل ما لمع عليه بروق تجلياته الجمالية والجلالية المنتشئة من ذاته حسب شئونه(2/271)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
وتطوراته المتفرعة على أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى فلك ان لا نغفل في عموم احوالك عن مطالعة جمال الله وجلاله في كل ذرة من ذرائر الأكوان على وجه الاستبصار والاعتبار بلا شائبة شك وانكار وتردد واستكبار لئلا تلحق بالأخسرين الذين يؤمنون بالله وبتوحيده حين لم يك ينفعهم ايمانهم لانقضاء نشأة التلافي والاختبار وذلك حين يعرضون على الملك الجبار ويساقون نحو النار بأنواع الخسار والبوار. ربنا آتنا من لدنك رحمة وقنا عذاب النار
[سورة فصلت]
فاتحة سورة فصلت
لا يخفى على المستبصرين المستكشفين عن سرائر الكتب الإلهية واسرار الآيات المنزلة من عنده سبحانه على رسله وأنبيائه المؤيدين من لدنه بتكميل مرتبتي الولاية والنبوة المتفرعتين على اسمى الظاهر والباطن والاول والآخر ان سر الإنزال والإرسال اللذين قد جرت عليه السنة السنية الإلهية واقتضت حكمته البالغة العلية وعلمه الشامل ورحمته العامة الواسعة انما هو لتنبيه اهل الحيرة والضلال من المترددين في فضاء الوجود بلا شعور منهم الى مبدأهم ومعادهم لاحتجابهم بالقرب المفرط المعمى عيون بصائرهم وأبصارهم حتى يتفطن منهما ويتذكر بهما من كان له قلب يقلبه الرحمن بأصابع أسمائه وصفاته كيف يشاء او القى السمع وهو وان كان محجوبا بهويته شهيد حاضر القلب غير مغيب عن الله وعن آثار ألوهيته وربوبيته ليفنى كل من سمع وتذكر عن هويته الباطلة ويبقى بهوية الله الغير الزائلة ولهذا خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ورمز في خطابه بعد ما تيمن بأمهات أسمائه التي هي مقاليد كنوز الوجود ومفاتيح خزائن مطلق الفيض والجود حيث قال سبحانه بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عموم مظاهره بمقتضى استعداداتها الفائضة عليها حسب جوده الرَّحْمنِ عليها بإخراجها عن مكمن العدم الى فضاء الوجود الرَّحِيمِ بخواص عباده بايصالهم الى الحوض المورود والمقام المحمود
[الآيات]
حم يا حافظ وحى الله المؤيد من عنده لحفظ حدوده حسب أوامره ونواهيه هذا القرآن الجامع لمصالح عموم المظاهر والأكوان
تَنْزِيلٌ وارد صادر ناش مِنَ الرَّحْمنِ اى من الذات الاحدية بمقتضى اسمه الرحمن المستوي به على عروش عموم الأكوان لإصلاح حال كل ما لاحت عليه شمس ذاته تتميما لتربيته إياه إذ ما من رطب ولا يابس الا هو سبحانه مشتمل عليه متكفل لتدبيره وتربيته الرَّحِيمِ بانزاله لخواص عباده ليتنبهوا من رموزه وإشاراته الى وحدة الحق وكمالات أسمائه وصفاته. وانما صار القرآن جامعا بين مرتبتي الظاهر والباطن والاول والآخر إذ هو
كِتابٌ كامل شامل فُصِّلَتْ بينت وأوضحت آياتُهُ المشتملة على دلائل التوحيد وشواهد القصص والاحكام ومنبهات العبر والحكم ومحاسن الأخلاق والأعمال ومقابيح المناهي والمنكرات من الأفعال والأحوال في النشأة الاولى والاخرى ولهذا صار قُرْآناً فرقانا واضحا موضحا بيانا وتبيانا عَرَبِيًّا نظما وأسلوبا إذ لا لغة احسن منه واشتمل وأفضل وأكمل وانما فصلت وأوضحت آيات هذا الكتاب لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اى يوفقون من لدنه سبحانه على العلم اللدني والفطرة الاصلية التي هي المعرفة والتوحيد ولهذا ايضا قد صار
بَشِيراً يبشر اهل العناية والسعادة بالفوز العظيم الذي هو تحققهم بمقام الرضا والتسليم وَنَذِيراً ينذر اصحاب الشقاوة والحرمان عن خلود النيران والعذاب الأليم ومع علو شأنه ووضوح تبيانه وبرهانه فَأَعْرَضَ عنه وانصرف عن قبوله(2/272)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
وسماعه سمع تدبر وتأمل أَكْثَرُهُمْ اى اكثر المكلفين المأمورين من عنده سبحانه بامتثال ما فيه من الأوامر والاحكام وباتصاف ما ذكر فيه من الأخلاق والأعمال وما رمز اليه من المعارف والأحوال فَهُمْ من شدة قساوتهم وغفلتهم لا يَسْمَعُونَ ولا يلتفتون نحوه عتوا وعنادا فكيف عن فحصه وقبوله ودراية ما فيه من الرموز والإشارات
وَمن غاية عمههم وسكرتهم ونهاية عتوهم واستكبارهم عن استماع كلمة الحق والالتفات إليها قالُوا على وجه التهكم والتمسخر قُلُوبُنا التي هي وعاء الايمان والاعتقاد فِي أَكِنَّةٍ واغطية كثيفة وغشاوة غليظة مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أنتم من المعرفة والتوحيد لا نتنبه به ولا نتفطن بحقيته وَايضا فِي آذانِنا التي هي وسائل قبول العظة والتذكير وَقْرٌ صمم مانع عن استماع آياتك الدالة على صدقك في دعواك المثبتة لمدعاك وَبالجملة قد حال مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ ايها الموحد المؤيد بالوحي والإلهام حِجابٌ عظيم يمنعنا عما تدعونا اليه بحيث لا يتيسر لنا رفعه ولا نقدر نحن على كشفه فَاعْمَلْ ايها المدعى حسب ما اوحاك إليك ربك وألهمك عليه إِنَّنا ايضا عامِلُونَ بما تيسر لنا ووفقنا عليه آلهتنا واربابنا إذ كل ميسر لما خلق له وبعد ما استنكفوا واستكبروا عليك وعلى دينك وكتابك
قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض اليقين والتوحيد خاليا عن وصمة التخمين والتقليد إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ اى ما أنا الا بشر مثلكم وما ادعى الملكية لنفسي غاية ما في الباب انه يُوحى إِلَيَّ اى يوحى ربي الى بمقتضى سنته السنية المستمرة في سالف الزمان أَنَّما إِلهُكُمْ الذي أظهركم من كتم العدم وأخرجكم الى فضاء الوجود إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر لا تعدد فيه بوجه من الوجوه فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وتوجهوا نحوه موحدين مخلصين وَاسْتَغْفِرُوهُ لفرطاتكم التي صدرت عنكم بمقتضى بشريتكم ليغفر لكم ربكم ما تقدم من طغيانكم وبهيميتكم وَعليك ان لا تشركوا معه سبحانه شيأ من مظاهره ومصنوعاته إذ وَيْلٌ وعذاب اليم معد عنده سبحانه لِلْمُشْرِكِينَ له الخارجين عن مقتضى توحيده واستقلاله في ألوهيته ظلما وزورا والمشركون المستكبرون عن آيات الله هم
الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ المفروضة لهم من أموالهم تطهيرا لنفوسهم عن رذالة البخل ولقلوبهم عن الميل الى ما سوى الحق وَسبب امتناعهم عن التخلية والتطهير انه هُمْ بمقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة بِالْآخِرَةِ المعدة لتنقيد اعمال العباد هُمْ كافِرُونَ منكرون جاحدون لذلك يمتنعون عن قبول التكاليف الشرعية وعن الامتثال بالأوامر الدينية المنزلة على مقتضى الحكمة الإلهية. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية
إِنَّ الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وباستقلاله في ألوهيته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى أكدوا ايمانهم بصوالح أعمالهم مخلصين فيها بمجرد امتثال امر العبودية بلا ترقب منهم الى ما يترتب عليها من المثوبات لَهُمْ عند ربهم بدل إخلاصهم وتخصيصهم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ اى بلا منة مستتبعة للثقل والأذى بل يحسن ويتفضل عليهم سبحانه من محض اللطف والرضا
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله وجحد توحيده على سبيل التوبيخ والتقريع أَإِنَّكُمْ ايها الجاحدون المسرفون لَتَكْفُرُونَ وتنكرون بِالَّذِي اى بالقادر العليم الحكيم الذي خَلَقَ الْأَرْضَ اى عالم الطبيعة والهيولى فِي يَوْمَيْنِ يوما لاستعداداتها القابلة لانعكاس اشعة نور الوجود ألا وهو يوم الدنيا والنشأة الاولى ويوما لاتصافها بها بمقتضى الجود الإلهي ألا وهو يوم العقبى والنشأة الاخرى وَمن كمال غفلتكم وضلالكم عن توحيد الحق(2/273)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
وتوحده في ذاته تَجْعَلُونَ وتتخذون لَهُ أَنْداداً وتثبتون له شركاء في الوجود مشاركين معه سبحانه في الآثار والتصرفات الواقعة في الكائنات وتتوجهون نحوهم في الخطوب والملمات مع انه لا رب لكم سواه سبحانه ولا مرجع لكم غيره بل ذلِكَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ذكر نبذ من أخص أوصافه وأسمائه رَبُّ الْعالَمِينَ اى موجد عموم ما لاح عليه برق الوجود وهو مربى الكل بمقتضى الجود
وَكيف تنكرون وحدة الحق واستقلاله في ملكه وملكوته مع انه قد جَعَلَ بمقتضى حكمته فِيها اى في الأرض التي هي عالم الطبيعة والأركان رَواسِيَ اقطابا وأوتادا رفيعة الهمم عالية القدر مستمدة مِنْ فَوْقِها اى من عالم الأسماء والصفات وَلهذا قد بارَكَ فِيها وكثر الخير والبركات عليها بيمن هممهم العالية وَمن كمال حكمته سبحانه قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها اى قدر واظهر في عالم الطبيعة جميع ما يحتاج اليه أهلها من الرزق الصوري والمعنوي تتميما لتربيتهم وتكميلا لهم حسب نشأتهم كل ذلك صدر منه سبحانه فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يومين للنشأة الاولى المتعلقة بالظهور والبروز حسب استعدادها واتصافها ويومين للنشأة الاخرى المتعلقة بالكمون والبطون كذلك ولهذا قد كانت الأيام المذكورة سَواءً اى سبيلا سويا وطريقا مستقيما لِلسَّائِلِينَ المستكشفين عن مدة بروز عالم الطبيعة عن مكمن الغيب في النشأة الاولى وكذا عن ظهور النشأة الاخرى والطامة الكبرى عند رجوع الكل الى مبدئه
ثُمَّ اى بعد ما هبط ونزل من عالم الأسماء الى مهبط الطبيعة والهيولى متنازلا وصعد منها إليها متصاعدا اسْتَوى واستولى إِلَى السَّماءِ اى سماء الأسماء وتمكن عليها مستعليا مستغنيا فارغا عن الصعود والهبوط وَالحال انه هِيَ اى عالم الأسماء والصفات في أنفسها ايضا دُخانٌ حجاب بالنسبة الى صرافة الوحدة واطلاق الذات إذ لا يخلو عن شوب الكثرة المستلزمة لنوع من الكدورة وبعد ما استقر عليها سبحانه وتمكن فَقالَ لَها اى لسماء الأسماء والصفات وَلِلْأَرْضِ اى للطبيعة والهيولى إظهارا للقدرة الغالبة والسلطنة الشاملة ائْتِيا وتوجها نحو جنابنا منسلختين عن هوياتكما الباطلة ووجوداتكما العاطلة الزائلة طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يعنى طائعتين او كارهتين حسب النشأتين المركوزتين في فطرتكما الاصلية إذ لا وجود لكما في أنفسكما وبعد ما سمعتا من النداء الهائل ما سمعتا قالَتا على وجه التضرع والتذلل حسب استعداداتهما النظرية وقابلياتهما الجبلية أَتَيْنا نحو بابك يا ربنا طائِعِينَ من اين يتأتى منا الكراهة لحكمك يا من لا وجود لنا الا منك ولا تحقق الا بك نعبد لك ونستعين منك على عبادتك إذ لا معبود لنا سواك ولا مقصود لنا غيرك وبعد ما اعترفتا بالعبودية طوعا والتزمتا بالاطاعة والانقياد رغبة
فَقَضاهُنَّ اى قدر وقضى سبحانه لإمدادهما سَبْعَ سَماواتٍ على عدد الصفات السبع التي هي أمهات الأسماء الإلهية فِي يَوْمَيْنِ اى يومى الظهور والبطون يوما لتحصيل المادة ويوما لتكميل الصورة وَبعد ما حكم وقضى سبحانه قد أَوْحى والهم فِي كُلِّ سَماءٍ من الأسماء أَمْرَها اى أمورها التي طلب منها ووضع لأجلها وَقال سبحانه بعد ما رتبها تتميما لتربيته وتكميلا للقدرة الكاملة الشاملة قد زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى القربى اى عالم الشهادة المشتملة على الآثار والأعمال الصادرة من المظاهر والاظلال بِمَصابِيحَ مقتبسة مسرجة من اشعة أنوار الذات وَجعلناها حِفْظاً اى وقاية ورقيبا واقيا لأرباب العناية من وساوس شياطين الأوهام والخيالات المترتبة(2/274)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
على القوى الطبيعة المائلة بالذات الى السفل ذلِكَ الذي سمعت من الخلق والإيجاد على النظام البديع والترتيب العجيب تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الحكيم الغالب القادر على إيجاد عموم ما دخل في حيطة ارادته الْعَلِيمِ بإظهاره على جميع الصور الممكنة الظهور وبعد ما ظهر من دلائل توحيد الحق ما ظهر ولاح من آثار قدرته الكاملة ما لاح
فَإِنْ أَعْرَضُوا اى الكفرة الجهلة المستكبرون عنك يا أكمل الرسل وعن جميع ما اوحيت به من الآيات البينات المبينات لدلائل توحيد الذات وكمالات الأسماء والصفات الإلهية فَقُلْ لهم على وجه التحذير والتنبيه قد أَنْذَرْتُكُمْ ايها التائهون في تيه الغفلة والضلال وخوفتكم اتى بالماضي تنبيها على تحقق وقوعه صاعِقَةً اى بلية عظيمة نازلة عليكم من شدة قساوتكم وأعراضكم عن الحق واهله كأنها في الهول والشدة صاعقة مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وقت
إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ المبعوثون إليهم لتكميلهم وإرشادهم المبلغون لهم الوحى الإلهي مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ اى في حضورهم وغيبتهم بواسطة وبغير واسطة المنبهون عليهم القائلون لهم عليكم ايها المجبولون على فطرة التوحيد أَلَّا تَعْبُدُوا ولا تتوجهوا بالعبودية الخالصة إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالاطاعة والانقياد إذ لا معبود لكم سواه ولا مقصود الا هو وبعد ما سمعوا قالُوا متهكمين مستهزئين لَوْ شاءَ رَبُّنا الذي ادعيتم ربوبيته وألوهيته بالانفراد والاستقلال لَأَنْزَلَ بمقتضى قدرته الكاملة التي قد ادعيتم أنتم له مَلائِكَةً سماويين يخرجوننا من اودية الجهالات وبادية الضلال والغفلات وبالجملة فَإِنَّا بأجمعنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ اى بجميع ما قد جئتم به وادعيتم الرسالة فيه كافِرُونَ منكرون جاحدون إذ ما أنتم الا بشر مثلنا فلا مزية لكم علينا ومن اين يتأتى لكم هذا ثم فصل سبحانه ما أجمل بقوله
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا على عباد الله فِي الْأَرْضِ التي هي محل الاختبارات الإلهية بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا اطاعة وانقياد وسابقة دين ونبي يرشدهم الى طريق الحق وَهم من شدة تعنتهم وبطرهم قد قالُوا على سبيل الشرف والمباهات مَنْ أَشَدُّ على وجه الأرض مِنَّا قُوَّةً واكثر عددا وعددا وأتم بسطة واستيلاء وانما قالوا هذه حين تخويف الرسل إياهم بإلمام العذاب عليهم وهم قد كانوا أعظم الناس جسامة وأوفرهم قوة وقدرة لذلك اغتروا بما عندهم من الثروة والرياسة فكذبوا الرسل وقالوا لهم نحن ندفع العذاب الذي ادعيتم نزوله ايها الكاذبون المفترون بوفور حولنا وقوتنا أَيغترون على قوتهم وجسامتهم وينكرون كمال قدرة الله وشدة انتقامه وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ العزيز القدير الَّذِي خَلَقَهُمْ وأظهرهم من كتم العدم ولم يكونوا شيأ مذكورا هُوَ سبحانه بعلو شأنه وبكمالات أسمائه وصفاته أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وأتم حولا وقدرة واحكم بطشا وانتقاما وَلكن قد كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وينكرون بحسب الظاهر عنادا ومكابرة واغترارا بما معهم من الثروة والجسامة وبعد ما تمادوا على غيهم وأصروا على عتوهم وضلالهم
فَأَرْسَلْنا بمقتضى قهرنا وجلالنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردة شديدة عقيمة من المطر تعميهم بنقعها وغبارها وتصمهم بصرصرها فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لا سعود فيها يعنى بدلنا مسعودات ايامهم بالمنحوسات لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ اى المذلة والهوان اللازم على العذاب حيث كان ونزل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا التي هم مغرورون فيها مسرورون بلذاتها وشهواتها وَالله لَعَذابُ النشأة الْآخِرَةِ المعدة للجزاء والانتقام أَخْزى اى أشد خزيا وأتم تذليلا وتصغيرا إذ هو(2/275)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
بأضعاف عذاب الدنيا وآلافها وَبالجملة هُمْ لا يُنْصَرُونَ ولا يشفعون فيها لا يدفع العذاب عنهم طرفة ولا يخفف لمحة بل يخلدون في العذاب الأليم ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ بإرسال الرسل إياهم ليرشدوهم الى طريق النجاة وينقذوهم عن الضلال وبعد ما بلغهم الرسل من آيات الهداية وامارات الرشد كذبوهم وأنكروا على هدايتهم وإرشادهم فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى والضلال حسب عمههم وغفلتهم عَلَى الْهُدى المنزل إليهم من لدنا على ألسنة رسلنا وبعد ما أصروا على ما هم عليه من الغواية فَأَخَذَتْهُمْ بغتة صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ المخزى المذل النازل من نحو السماء على صورة الصاعقة السريعة الجري والحركة فاستأصلهم بالمرة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ اى بشؤم ما يقترفون من المعاصي والآثام الجالبة إياهم شدة غضب الله وعذابه
وَمن كمال قدرتنا على الانعام والانتقام نَجَّيْنَا من تلك الصاعقة المهولة المهلكة القوم الَّذِينَ آمَنُوا برسلنا واهتدوا بهدايتهم مع انهم قد كانوا فيهم مجاورين معهم وَسبب تخليصنا إياهم انهم قد كانُوا يَتَّقُونَ عن محارمنا ومنهياتنا مع كونهم متصفين بكمال الايمان والتوحيد
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن عاندك من المشركين يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ بعد العرض والحساب إِلَى النَّارِ المعدة لجزائهم فَهُمْ حينئذ يُوزَعُونَ اى يذبون ويدفعون يعنى يحبس اولهم ومقدمهم على آخرهم لئلا ينقطع ائتلافهم وتلاحقهم
حَتَّى إِذا ما جاؤُها اى حضروا النار وازدحموا حولها مجتمعين كالحين فزعين مجادلين منكرين بصدور اسباب العذاب عنهم مع انهم يحاسبون أولا ثم يساقون نحو النار ولإسكاتهم وتبكيتهم عن الجدال والمراء شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ اى اعترفت جوارحهم وقواهم بإنطاق الله إياها بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ويقترفون بها من المعاصي والمحرمات والمنهيات
وَبعد ما سمعوا من اركانهم وقواهم ما سمعوا من الاعتراف قالُوا موبخين مقرعين لِجُلُودِهِمْ وجوارحهم المعترفة بذنوبهم لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا مع انا لا نعذب الا بكم ومعكم من اين تجترءون على نفوسكم بالعرض على العذاب المؤبد ايها الحمقى الجهلاء قالُوا اى الجوارح والقوى ما كنا مختارين في هذه الشهادة والاعتراف بل قد أَنْطَقَنَا اللَّهُ القادر المقتدر الحكيم العليم الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ بآيات وجوب وجوده ودلائل وحدته بمقتضى جوده وليس بعجب من قدرته سبحانه انطاقنا بما اقترفتم بنا من المعاصي والآثام المخالفة لأمره وحكمه غيرة منه سبحانه وقهرا على من خرج عن ربقة عبوديته بترك أوامره وأحكامه وَكيف لا يغار ولا يقهر سبحانه عليكم ايها المفسدون المسرفون مع انه هُوَ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته خَلَقَكُمْ وأظهركم من كتم العدم خلقا إبداعيا أَوَّلَ مَرَّةٍ بلا سبق مادة ومدة وشركة من احد ومظاهرة وَإِلَيْهِ ايضا آخر مرة كذلك تُرْجَعُونَ رجوع العكوس والاظلال الى الأضواء والأمواج الى الماء فمن اين تستنكفون عن عبوديته وتخرجون عن حكمه وامره. ثم قال سبحانه تذكيرا لما هم عليه عند ارتكاب المعاصي توبيخا لهم وتقريعا
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ يعنى لم تكونوا متسترين مستترين عند ارتكاب الفواحش والمحظورات مخافة أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ عند الله في يوم الجزاء لإنكاركم به وبما فيه بل انما تستترون وتكتمون معاصيكم وقبائحكم مخافة فضاحتكم واشتهاركم بين بنى نوعكم بالمذامّ والمقابح وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ بالله ظن السوء وهو أَنَّ اللَّهَ المطلع بسرائر الأمور وخفياتها لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ(2/276)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
في خلواتكم لذلك اجترأتم على اقتراف المعاصي وارتكاب المحرمات
وَذلِكُمْ اى هذا الذي نسبتم الى الله بقولكم هذا ظَنُّكُمُ السوء وزعمكم الفاسد الَّذِي ظَنَنْتُمْ به بِرَبِّكُمْ العليم الخبير بجميع ما صدر عنكم وبالجملة هذا الظن الفاسد والوهم الكاسد أَرْداكُمْ وأهلككم في تيه الجهل والضلال وبعد ما قد فوتم على انفسكم اسباب السعادة والهداية وأصررتم على ما يوجب الشقاوة والضلال فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ زمرة الْخاسِرِينَ وانقلبتم صاغرين مهانين فصرتم في النار خالدين وبعد ما ادخلوا في النار المسعرة بأنواع المذلة والهوان
فَإِنْ يَصْبِرُوا على فوحاتها والتهاباتها الشديدة فَالنَّارُ مَثْوىً ومنزلا لَهُمْ ابد الآباد ولا نجاة لهم منها أصلا وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا ويبثوا الشكوى والعتبى ويظهروا الكآبة وعدم الطاقة فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المجابين بازالة العتبى والشكوى بل كلما يظهروا العتاب يضاعف لهم العذاب
وَكيف يزال عتابهم ولا يضاعف عليهم عذابهم إذ قد قَيَّضْنا وقدرنا لَهُمْ فيما هم عليه من الكفر والشقاق وانواع الفسوق والنفاق قُرَناءَ إخوانا وأخلاء من الشياطين يوحون إليهم ما يبعدهم عن الحق واهله فَزَيَّنُوا لَهُمْ وحسنوا لطباعهم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من اتباع الشهوات وارتكاب المناهي والمحظورات وَانكار ما خَلْفَهُمْ من الأمور الاخروية مواعيدها ووعيداتها وَبسبب ارتكاب المعاصي واصغائهم قول قرنائهم قد حَقَّ وثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وصدرت كلمة العذاب المؤبد من لدنا إياهم وما يبدل القول لدينا وليس هذا مخصوصا بقوم دون قوم بل قد جرت ومضت سنتنا كذلك فِي كل أُمَمٍ مفسدة مشركة قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل هؤلاء المشركين المسرفين سواء مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ اى المكلفين منهما وانما استحقوا العذاب المؤبد والنكال المخلد إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ خسرانا مبينا لاستبدالهم اسباب السعادة والهداية بالشقاوة والضلال
وَمن شدة غيهم وضلالهم المفضى الى الخسران العظيم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبدينك وكتابك يا أكمل الرسل حين تلاوتك وتبليغك عليهم آيات القرآن لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ولا تلتفتوا الى محمد حين قراءته بل وَالْغَوْا فِيهِ بالصياح وإنشاد الاشعار وخلط الأصوات وسائر الخرافات لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ محمدا وتدفعون قراءته وتخجلونه فيسكت وبالجملة هم من شدة شكيمتهم وغيظهم وان بالغوا في تخجيلك وتخذيلك يا أكمل الرسل لا تبال بهم وبفعلهم هذا
فَلَنُذِيقَنَّ لهؤلاء المفرطين المسرفين الَّذِينَ كَفَرُوا بك وأساءوا الأدب معك عَذاباً شَدِيداً منتقمين عنهم في النشأة الاولى وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ في النشأة الاخرى أَسْوَأَ اى أشد وأقبح من الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ معك بأضعافها وآلافها
ذلِكَ العذاب الأسوء الأشد جَزاءُ اعمال أَعْداءِ اللَّهِ الذين عاندوا معك يا أكمل الرسل واستهزؤا بك وبكتابك بطرين بما معهم من الجاه والثروة ألا وهي النَّارُ المسعرة المعدة لدخولهم ونزولهم فيها بل لَهُمْ فِيها اى في النار دارُ الْخُلْدِ والاقامة على وجه الخلود وانما صارت كذلك ليكون جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وينكرون بها ويكذبون بمن انزل اليه ويستهزؤن
وَبعد ما استقر اهل النار في النار بأنواع السلاسل والأغلال قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبرسله وكتبه في النشأة الاولى متحسرين متأسفين متضرعين الى الله مناجين له رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الإسلام والتوحيد فكفرنا بك وأشركنا معك غيرك في الوهيتك بإضلال قرنائنا الضالين المضلين أَرِنَا وبصرنا حسب لطفك وجودك الشيطانين(2/277)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
الَّذِينَ قد أَضَلَّانا عن طريق توحيدك وتصديق كتبك ورسلك الكائنين مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ اى المضلين اللذين قد أضلانا من هذين الجنسين بأنواع الوساوس والتلبيسات والتغريرات نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لننتقم عنهم جزاء ما قد فوتوا عنا سعادة الدارين وفلاح النشأتين وانما نرجو منك هذا يا مولانا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ التابعين لنا كما قد كنا كذلك بالنسبة إليهم في النشأة الاولى وبالجملة انما قالوا ما قالوا تحسرا وتضجرا. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته في كتابه
إِنَّ الموحدين الَّذِينَ قالُوا في السراء والضراء وفي السر والعلن رَبُّنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد ثُمَّ اسْتَقامُوا وثبتوا على ما اعترفوا وأقروا بأعمالهم وأحوالهم ونياتهم المترتب عليها عموم أفعالهم تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ وعلى اعانتهم وشرح صدورهم وتهذيب أخلاقهم الْمَلائِكَةُ المترصدون لأمر الله القائمون لحكمه قائلين لهم مبشرين إياهم أَلَّا تَخافُوا على فرطاتكم التي صدرت عنكم قبل انكشافكم بسرائر التوحيد واليقين وَلا تَحْزَنُوا بما جرى عليكم من مقتضيات بشريتكم وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بألسنة انبيائكم ورسلكم الهادين المهديين وكما وفقناكم على انكشاف سرائر توحيدنا والتخلق باخلاقنا
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
نتولى عموم أموركم كذلك بحيث نكون سمعكم وبصركم وجميع قواكم وجوارحكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
حسب اسمنا الظاهر وَفِي الْآخِرَةِ
ايضا كذلك حسب اسمنا الباطن
وَبالجملة لَكُمْ
منا وراء ذلك تفضلا من لدنا وإحسانا فِيها
اى في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
من اللذات الروحانية حسب استعداداتكم الفطرية وقابلياتكم الجبلية الفائضة عليكم حسب جودنا الواسع
وَبالجملة لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
تطلبون وتتمنون وقت دعائكم في نشأة الدنيا حسب عقولكم وهوياتكم كل ذلك قد صار
نُزُلًا معدا لكم قبل نزولكم فيها تفضلا عليكم وإحسانا مِنْ غَفُورٍ ستار لأنانياتكم محاء لذنوب هوياتكم رَحِيمٍ موصل لكم بمقتضى سعة رحمته وجوده الى زلال توحيده
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا وأصلح عملا وأكمل ايمانا واعتقادا وأتم معرفة وتوحيدا مِمَّنْ دَعا اى ارشد وهدى إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية المتفرد بالوجود والديمومية وَمع ذلك قد عَمِلَ عملا صالِحاً مطابقا موافقا لصفاء مشرب التوحيد مجتنبا عن رعونات العجب والرياء وتخمينات التقليد والهوى وَبالجملة قالَ بعد ما نال الى ما نال وفنى إِنَّنِي مِنَ زمرة الْمُسْلِمِينَ المسلمين المنقادين المفوضين الى الله جميع ما لاح عليهم من بروق تجلياته الجمالية والجلالية ومالي ايضا الا التسليم والرضاء بعموم ما مضى عليه القضاء. ثم قال سبحانه على سبيل التعليم والإرشاد لعموم العباد
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ اى لا يستوي جنس الحسنات بل هي متفاوتة في الحسن والبهاء وَلَا السَّيِّئَةُ وكذا لا يستوي جنس السيئات ايضا كذلك إذ بعضها أسوأ من بعض ادْفَعْ ايها السالك القاصد سلوك طريق التوحيد من جادة العدالة المنكشفة لأكمل الرسل وأفضل الأنبياء الهادين المرشدين الى بحر الوحدة الذاتية من جداول الأسماء والصفات المترشحة منها حسب تموجاتها وتطوراتها المتفرعة على شئوناتها الذاتية بِالَّتِي اى بالخصلة الحسنة التي هِيَ أَحْسَنُ الحسنات أسوأ السيئات وداوم عليها وتخلق بها حتى تستوي وتستقيم أنت على جادة العدالة الإلهية وبعد استقامتك وتحققك في هذه المرتبة فَإِذَا الَّذِي قد كان بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ مستمرة ناشئة من القوى البهيمية من كلا الطرفين(2/278)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قد صار صديقك وخليلك الى حيث كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حفيظ لك رقيب على حضانتك عن جميع ما يؤذيك ويرديك فكيف يتأتى منه ان يؤذيك إذ هو حَمِيمٌ مشفق كريم رؤف رحيم لك لا يخاصمك أصلا
وَلكن ما يُلَقَّاها اى تلك الخصلة الحميدة الحسنة التي هي دفع الإساءة بالإحسان والمكروه بالمعروف والقهر باللطف إِلَّا الرجال الابطال المتحملون الَّذِينَ صَبَرُوا على كظم الغيظ وتحمل المتاعب والمشاق المتعاقبة على نفوسهم لتحققهم بمقام الرضاء والتسليم بما مضى عليهم من القضاء وتمكنهم في مقر التوحيد المسقط للاضافات المستلزمة لانواع الاختلافات والانحرافات وَبالجملة ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ونصيب كامل من الكشف والشهود باسرار الوجود بمقتضى الجود الإلهي وبعد ما ارشد سبحانه عموم عباده الى طريق النجاة وعلمهم الخصلة المحمودة المخلصة لهم عن اودية الضلالات واغوار الجهالات وأوصاهم بما أوصاهم به من الصبر والثبات على تحمل المشاق والمكروهات خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب حثا له ولمن تبعه واسترشد منه على دفع ما يمنعهم عن الاتصاف بتلك الخصائل الحميدة ويعوقهم منها بالإضلال والإغواء فقال
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ويعرضن عليك يا أكمل الرسل مِنَ الشَّيْطانِ المضل المغوى نَزْغٌ نخس يحرك غضبك وحمية بشريتك ويوقعن فيك بوسوسته فتنة تبعثك على الانتقام ممن أساء بترك تلك الخصلة المحمودة فَاسْتَعِذْ اى بادر على الاستعاذة واللجأ بِاللَّهِ المقلب للقلوب وفوض أمورك كلها اليه سبحانه على وجه التبتل والإخلاص لتأمن من غوائله وتلبيساته إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لمناجاتك الْعَلِيمُ بعموم حاجاتك وبخلوص نياتك فيها.
ثم قال سبحانه ردا على المشركين المتخذين شركاء لله من مظاهره ومصنوعاته ظلما وزورا يعبدونهم كعبادته
وَمِنْ آياتِهِ اى من جملة الدلائل الدالة على قدرة الصانع الحكيم اللَّيْلُ المظلم وَالنَّهارُ المبصر المضيء وَكذا الشَّمْسُ المشرقة في النهار وَالْقَمَرُ المنير في الليل قل لهم يا أكمل الرسل على سبيل التنبيه والتذكير لا تَسْجُدُوا اى لا تعبدوا ولا تتذللوا ايها الاظلال الهالكة المستهلكة في شمس الذات لِلشَّمْسِ الهالكة المستهلكة أمثالكم في شروق ذاته سبحانه وَلا لِلْقَمَرِ المستفيد منها بالطريق الاولى بل وَاسْجُدُوا وتذللوا بوضع جباهكم وجوارحكم على تراب المذلة والهوان لِلَّهِ الواحد الأحد المقتدر العزيز الَّذِي خَلَقَهُنَّ اى اوجدهن واظهرهن من كنتم العدم على سبيل الإبداع بلا سبق مادة وزمان بل بمجرد امتداد اظلال أسمائه وبسط عكوس أوصافه على مرآة العدم فعليكم الإطاعة والانقياد اليه والتوجه نحوه على وجه الإخلاص والاختصاص فاعبدوه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ سبحانه تَعْبُدُونَ ايها العابدون المخلصون وبعد ما بلغت إليهم يا أكمل الرسل ما بلغت من الحق الحقيق بالقبول والاتباع
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا واستنكفوا عن سجود الله وأصروا على ما هم عليه من سجود غيره اعرض عنهم وعن نصحهم ولا تبال بهم وبشأنهم فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل من الملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة جماله وجلاله الموحدين المفنين هوياتهم في هوية الله يُسَبِّحُونَ لَهُ ويقدسون ذاته عن شوب الشركة مطلقا قولا وفعلا خاطرا وناظرا بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ اى في عموم الأوقات والحالات وَهُمْ من غاية شوقهم وتحننهم لا يَسْأَمُونَ اى لا يملون ولا يفترون منها أصلا ومع ذلك هو سبحانه غنى عن عبادتهم فكيف عن عبادة هؤلاء الحمقى المنغمسين في بحر الجهل التائهين في تيه الضلال
وَايضا مِنْ جملة آياتِهِ(2/279)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
الدالة على وحدة ذاته وكمال أسمائه وصفاته أَنَّكَ يا أكمل الرسل انما وجه سبحانه أمثال هذه الخطابات للنبي صلّى الله عليه وسلّم مع انه يصلح لعموم الناس لكمال لياقته بمطالعة آيات الله وخبرته منها تَرَى الْأَرْضَ اى الطبيعة العدمية الجامدة اليابسة خاشِعَةً ذليلة ساقطة عن درجات الاعتبار فَإِذا أَنْزَلْنا من مقام جودنا ورششنا عَلَيْهَا الْماءَ المحيي المترشح من بحر الوجود الذي هو الحي الأزلي والقيوم الأبدي السرمدي اهْتَزَّتْ اى تحركت وارتعدت اهتزازا شوقيا وَرَبَتْ اى زادت ونمت مع انها لا شعور فيها بل لا وجود لها أصلا وبالجملة إِنَّ القادر المقتدر الحكيم الَّذِي أَحْياها مع انها لم تكن في ذاتها شيأ مذكورا لَمُحْيِ الْمَوْتى مرة اخرى بعد ما كانت احياء بالطريق الاولى وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة علمه وارادته قَدِيرٌ بلا فتور وقصور. ثم قال سبحانه تهديدا على منكري الآخرة وقدرة الله على اعادة الموتى وحشر الأجساد
إِنَّ المسرفين الَّذِينَ يُلْحِدُونَ اى يميلون وينحرفون فِي آياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمال قدرتنا على انواع الانتقام لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا اى لا يشتبه حالهم علينا بل نحن عالمون بهم وبجميع ما جرى في ضمائرهم وخلج في خواطرهم من الميل والانحراف فنجازيهم بمقتضى الحادهم وانحرافهم باشد العذاب وأسوأ الجزاء أَفَمَنْ يُلْقى ويطرح فِي النَّارِ خَيْرٌ اى قل لهم يا أكمل الرسل على وجه التوبيخ والتقريع أمن يلقى في النشأة الاخرى في النار المسعرة بأنواع المذلة والهوان خير عندهم أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً من العذاب مسرورا يَوْمَ الْقِيامَةِ مقرونا بأنواع الفتوحات والكرامات الموهوبة له من ربه تفضلا عليه وإحسانا وبالجملة قل يا أكمل الرسل للملحدين المصرين على الميل والانحراف على سبيل التبكيت والتهديد اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ من الخوض في آيات الله والميل عن دلائل توحيده إِنَّهُ سبحانه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اى بعموم ما تعملون وتأملون خبير يجازيكم عليه بلا فوت شيء منه ثم اعرض عنهم ودعهم في خوضهم يلعبون. ثم قال سبحانه على وجه التخصيص بعد التعميم
إِنَّ المشركين المفرطين الَّذِينَ كَفَرُوا وأنكروا بِالذِّكْرِ الشامل لما في الكتب السالفة المنزل على أكمل الرسل تفضلا منا إياه وتكريما لَمَّا جاءَهُمْ اى حين جاءهم به الرسول المؤيد من لدنا المرسل إليهم ليرشدهم به الى سبيل الهداية والرشد هم يعاندون في تكذيبه ويكابرون في إنكاره وقدحه عتوا واستكبارا وَكيف يفرطون في علو شأنه سبحانه ويكابرون في سمو برهانه إِنَّهُ اى القرآن لَكِتابٌ عَزِيزٌ منيع ساحة عزته ورتبته وعلو قدره ومكانته عن ان يحوم حوله شائبة الجدل والعناد إذ
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ الزائغ الزائل في خلال أوامره وأحكامه لا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بان يتصف حكمه وأحكامه حين نزوله وظهوره بعدم المطابقة لما في الواقع وبما في علم الله ولوح قضائه وَلا مِنْ خَلْفِهِ بان يلحقه نسخ وتبديل كالكتب السالفة إذ هو تَنْزِيلٌ منزل مِنْ حَكِيمٍ كامل في الإتقان والاحكام عليم بأساليب الحكم والاحكام حَمِيدٍ في ذاته يحمده كل الأنام على ما أفاض عليهم من موائد الإفضال والانعام. ثم أخذ سبحانه ليسلى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ويزيل عنه أذى الكفرة الجهلة المعاندين معه بمقتضى آرائهم الباطلة واهويتهم الفاسدة العاطلة فقال
ما يُقالُ لَكَ اى ما يقول لك كفار قومك ليس إِلَّا مثل ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ الذين مضوا مِنْ قَبْلِكَ من قبل قومهم فصبروا على أذاهم حتى ظفروا عليهم فانتصروا فاصبر أنت ايضا أذى هؤلاء المعاندين حتى تظفر عليهم وبعد ما ظفرت يؤمنوا بك او(2/280)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
يصروا في عنادهم إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ على المؤمنين بك يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر ان أخلصوا في ايمانهم وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ على من تولى واستكبر وأصر على كفره ولم يؤمن وبعد ما قدح كفار مكة في شأن القرآن وقالوا هلا نزل بلغة العجم كالكتب السالفة مع انه لم يعهد منه سبحانه إنزال كتاب بلغة العرب قط رد الله عليهم قولهم هذا بقوله
وَلَوْ جَعَلْناهُ اى الذكر المنزل عليك يا أكمل الرسل قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا في شأنه من شدة بغضهم وشكيمتهم معك لَوْلا فُصِّلَتْ وهلا أوضحت وبينت آياتُهُ بلسان نفقهها وندكرها نحن مع انه انما انزل إليك وإلينا ونحن وأنت لا نفهم لغة العجم ثم يأخذون في القدح والاستهزاء بوجه آخر ويقولون على سبيل التعجب والاستبعاد أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ يعنى أينزل كلام اعجمى من قبل الحق على سبيل الوحى على بنى عربي لا شعور له بكلام العجم أصلا ليرشد العرب به ويبين لهم ما فيه كلا وحاشا ما هذا الا كذب مفترى وبالجملة لا يسكتون أولئك المعاندون عن القدح والطعن فيه بحال وبعد ما أوضح الحق حالهم في التعنت والعناد قال لحبيبه قُلْ يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة المراء والجدال هُوَ اى القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا به وامتثلوا بأوامره واجتنبوا عن نواهيه وتنبهوا من رموزه وإشاراته واعتبروا من عبره وأمثاله وقصصه واخباره هُدىً يهديهم الى الحق الصريح ويوصلهم الى محض اليقين والتحقيق وَشِفاءٌ لما في النفوس المراض من الجهل والضلال وسائر الأمراض العضال الموروثة لهم من تقليدات آبائهم وتخمينات اوهام صناديدهم ورؤسائهم وَالمكابرون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ به ولا يصدقون نزوله بل يكذبونه ويستهزؤن مع من انزل اليه هو بالنسبة إليهم فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ مستقر وصمم شديد يصمهم عن استماع آياته الدالة على تهذيب الظاهر والباطن بل وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يعمى عيون أبصارهم وبصائرهم عن رؤية الحق الظاهر في الأنفس والآفاق وبالجملة أُولئِكَ البعداء عن ساحة عز الحضور يُنادَوْنَ الى مقصد التوحيد مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الوصول يعنى هم وان جبلوا على نشأة التوحيد صورة الا انهم قد احطوا أنفسهم عنها وألحقوها بالمراتب التي هي مرتبة البهايم بل صاروا انزل منها وابعد لذلك ينادون من مكان بعيد ان نودوا
وَبالجملة ان عاندوا معك يا أكمل الرسل واختلفوا في كتابك بالتصديق والتكذيب لا تبال بهم وبردهم وقبولهم فانا لَقَدْ آتَيْنا من كمال فضلنا وجودنا أخاك مُوسَى الكليم الْكِتابَ العظيم التورية المشتمل على ضبط ظواهر الاحكام وبواطنها حفظا لهم وضبطا لأمور معاشهم ومعادهم ومع ذلك فَاخْتُلِفَ فِيهِ وخولف في شأنه فقبله بعضهم ورده الآخر مثل ما يفعل هؤلاء الغواة مع كتابك هذا وبالجملة ليس هذه الديدنة ببدع من هؤلاء الجهلة بل هي من جملة العادات القديمة والشيم المستمرة وَبالجملة لَوْلا كَلِمَةٌ موعودة معهودة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من أخذ الظالم منهم على ظلمه في يوم الجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وحكم بأخذهم بمقتضى ظلمهم في يومهم هذا واستئصالهم بالكلية بلا امهال لهم لاستئصالهم واستحقاقهم بالأخذ والانتقام لكن قد ثبت حكمه سبحانه على ما قد وعد وقضى إذ ما يتبدل القول لديه وَإِنَّهُمْ من غاية تماديهم في الغفلة والاعراض عن الحق واقتداره على وجوه الانتقام لَفِي شَكٍّ عظيم مِنْهُ اى من قضاء الله وحكمه المبرم في يوم الجزاء مُرِيبٍ فيه ريبا منتهيا الى الإنكار والتكذيب وبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبريبهم وانكارهم وطغيانهم فاعلم انه
مَنْ عَمِلَ من عبادنا عملا صالِحاً فَلِنَفْسِهِ اى صلاحه عائد الى(2/281)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
نفسه راجع الى إصلاح حاله في معاشه ومعاده وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها اى رجع وبال اساءتها ايضا على نفسها وَبالجملة ما رَبُّكَ المنزه في ذاته عن اطاعة المطيع وعصيان العاصي بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اى لا ينقص من أجور المطيعين ولا يزيد على جزاء العاصين بل يتفضل على اهل الطاعة فوق ما استحقوا بأعمالهم أضعافا وآلافا عناية منه وفضلا ويقتصر على اصحاب المعصية والضلال بجزاء ما اقترفوا لأنفسهم عدلا منه وقهرا وكيف لا يتفضل سبحانه على ارباب العناية ولا يعدل على اصحاب الغواية إذ إِلَيْهِ لا الى غيره من اظلال الوسائل والأسباب
يُرَدُّ ويرجع عِلْمُ السَّاعَةِ اى العلم المتعلق بوقت قيامها وكيفية ما جرى فيها من الأهوال والافزاع إذ هي من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها وَايضا يرجع على علمه سبحانه ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ اى أجناس الثمار مع اختلاف أنواعها وأصنافها حتى تخرج مِنْ أَكْمامِها اى أوعيتها التي فيها أنوارها وازهارها الحاصلة منها الأثمار إذ هي ايضا من جملة الأمور الغيبية المستأثر بها سبحانه وَكذا ما تَحْمِلُ وتحبل مِنْ أُنْثى اى قوابل الحمل والحبل وَلا تَضَعُ حملها بمكان من الأمكنة إِلَّا بِعِلْمِهِ سبحانه وحضوره إذ هو العالم لا غيره بما في الأرحام وبمدة بقائه فيها وخروجه منها لا اطلاع لاحد عليها وَاذكر يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله واثبت الوجود لغيره وأجاز الشركة في ألوهيته وربوبيته عدوانا وظلما يَوْمَ يُنادِيهِمْ الله حين أراد الانتقام عنهم موبخا لهم ومقرعا إياهم أَيْنَ شُرَكائِي الذين تزعمون أنتم شركتهم معى وشفاعتهم لدى احضروهم لينجوكم من عذابي ويشفعوا لكم عندي وبعد ما سمعوا النداء الهائل المهول قالُوا متأسفين متحزنين آذَنَّاكَ وقد أعلمناك يا مولانا اليوم وان كنت أنت اعلم منا بحالنا انا ما مِنَّا اى ما احد منا اليوم مِنْ شَهِيدٍ ليشهد على شركة شركائنا الذين قد ادعينا شركتهم معك ظلما وزورا
وَبعد ما تقولوا من شدة الأسف ونهاية الحسرة والضجرة قد ضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عن بصائرهم وأبصارهم ما كانُوا يَدْعُونَ ويعبدون اليه مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا بل تيقنوا حينئذ ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب ومخلص من عذاب الله وبالجملة تندموا وما ينفعهم الندم ورجعوا الى الله حينئذ وما يفيدهم رجوعهم لانقضاء نشأة التدارك والاختبار ومن العادة القديمة والديدنة المستمرة انه
لا يَسْأَمُ اى لا يمل ولا يفتر الْإِنْسانُ المجبول على جلب الإحسان مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ لنفسه وجذب المنفعة نحو ذاته بل صار ابدا حريصا عليها مولعا لاقتنائها وجمعها وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ ولحق به الضر في حين من الأحيان فَيَؤُسٌ من قدرة الله على رفع الضر عنه وجلب النفع إياه مع انه قد أزال عنه مرارا قَنُوطٌ من فضل الله ومن سعة رحمته وجوده
وَمن غاية يأس الإنسان وشدة قنوطه عن مقتضى فضلنا وجودنا لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً ووفرناها عليه بحيث تسرى في جميع اجزائه مع كونها تفضلا مِنَّا إياه بلا استحقاق من جانبه واقتراف من لدنه غاية ما في الباب انها فائضة عليه موهوبة إياه مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ولحقت إياه اوائلها إذ المساس يحصل بمجرد الملاقاة لَيَقُولَنَّ معرضا عن الله هذا لِي وانا استحق بها لاحتمالى الشدائد ولكمال فضلي ووفور عملي او هذالى بمقتضى ذاتى وَبالجملة ما أَظُنُّ السَّاعَةَ الموهومة الموعودة قائِمَةً آتية وَلَئِنْ فرضت وقوعها وقيامها على الوجه الذي زعم الرسل المدعون ونطقت به الكتب المزورة المفتراة ورُجِعْتُ إِلى رَبِّي كما زعموا إِنَّ لِي قد حق وثبت لي عِنْدَهُ(2/282)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
سبحانه لَلْحُسْنى اى الحالة التي هي احسن الحالات وأكرم الكرامات لاستحقاقى بها واقتضاء ذاتى إياها وبالجملة انما يقول على سبيل الاستهزاء والتهكم فَلَنُنَبِّئَنَّ ولنخبرن حين الجزاء الكافرين الَّذِينَ كَفَرُوا بوفور قدرتنا وقوتنا على وجوه الأخذ والانتقام بِما عَمِلُوا من الجرائم العظام وكبائر الآثام وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ مؤلم فظيع فجيع لا يمكنهم الخلاص عنه
وَمن شدة طغيان الإنسان ونهاية كفرانه وعدوانه إِذا أَنْعَمْنا وأكرمنا من مقام جودنا عَلَى الْإِنْسانِ المجبول على الكفران والنسيان أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ اى تباعد عنا ولم يشكر على نعمنا ولم يلتفت الى موائد كرمنا وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ ولحقه الضر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير ممتد عرضا وطولا وهو كناية عن الحاحهم ولجاجهم في طلب الكشف والتفريج من الله عند نزول البلاء وإلمام المصيبة
قُلْ يا أكمل الرسل لمنكري القرآن والقادحين فيه على سبيل الظلم والعدوان أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن منزلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بحسب الواقع مع انه لا شك في نزوله من عنده ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ بلا تأمل وتدبر في دلائل صدقه وبراهين اعجازه لفظا ومعنى مَنْ أَضَلُّ سبيلا ورأيا وطريقا مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وخلاف شديد عن الحق وقبوله وبالجملة من أضل منكم حينئذ ايها القادحون الطاعنون المنكرون له مع وضوح محجته وسطوع برهانه. ثم أشار سبحانه الى وحدة ذاته وكمال ظهوره حسب أسمائه وصفاته في عموم مظاهره ومصنوعاته وحيطته عليها وشموله إياها ليكون دليلا على حقية كتابه وصدوره منه فقال
سَنُرِيهِمْ اى المجبولين على فطرة التوحيد المخلوقين على نشأة الايمان والعرفان الموفقين على كمال الكشف والعيان آياتِنا اى دلائل توحيدنا الدالة على وحدة ذاتنا الظاهرة فِي الْآفاقِ اى ذرات الأكوان الخارجة عن نفوسهم المدركة بآلاتهم وحواسهم سميت بها لطلوع شمس الحقيقة منها وظهورها عليها وَفِي أَنْفُسِهِمْ اى ذواتهم التي هي أدل دليل على معرفة الحق ووحدته لذلك قال اصدق القائلين وأكمل الكاملين من عرف نفسه فقد عرف ربه وانما نريهم ما نريهم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ ويظهر دونهم وينكشف عليهم أَنَّهُ اى الأمر الظاهر والشأن المحقق المتحقق في الأنفس والآفاق هو الْحَقُّ الحقيق بالتحقق والثبوت بالاستقلال والاستحقاق بمقتضى صرافة وحدته الذاتية والقرآن المعجز ايضا من جملة مظاهره وآثار صفاته الذاتية. ثم لما أشار سبحانه الى وحدة ذاته بالنسبة الى عموم عباده أراد ان ينبه على المستكشفين من ارباب المحبة والولاء الوالهين بمطالعة وجهه الكريم فخاطب لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو الحرى بأمثال هذه الخطابات العلية فقال مستفهما على سبيل التعجب والاستبعاد إذ هو ادخل في التنبيه والتنوير أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ اى أيشكون أولئك المكلفون الشاكون في وجود مربيك الذي هو مربيهم ايضا يا أكمل الرسل ويترددون في تحققه وظهوره ولم يكف لهم دليلا أَنَّهُ بذاته وبعموم أسمائه وصفاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما لاح عليه برق وجوده ورشاشة نوره شَهِيدٌ حاضر غير مغيب عنه وبالجملة او لم يكف لهم دليلا على تحقق الحق حضوره مع كل شيء من مظاهره ثم نور سبحانه ما نبه عليه على سبيل التعجب والتلويح تأكيدا ومبالغة وزيادة إيضاح وتوضيح فقال
أَلا إِنَّهُمْ بعد ما أضاء لهم شمس الذات من مرايا الكائنات فِي مِرْيَةٍ شك وارتياب مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ فيها ومن مطالعة وجهه الكريم أَلا إِنَّهُ بذاته حسب شئونه وتطوراته المتفرعة على أسمائه وصفاته بِكُلِّ شَيْءٍ من مظاهره ومصنوعاته مُحِيطٌ بالاستقلال والانفراد احاطة ذاتية بلا شوب شركة وشين كثرة إذ لا وجود سواه ولا موجود غيره ولا اله الا هو(2/283)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
خاتمة سورة فصلت
عليك ايها السالك المترقب لشهود الحق من ذرائر عموم المجالى والمظاهر الظاهرة في الأنفس والآفاق ان تصفى سرك وضميرك أولا من وساوس مطلق الأوهام والخيالات العائقة عن التوجه الى صرافة الوحدة الذاتية وتخلى خلدك عن مطلق الإضافات الصارفة عن ذلك بان تكون في نفسك متوجها الى ربك الذي هو عبارة عن حصة لاهوتك ونشأة جبروتك خاليا عنك وعن لوازم ناسوتك وعوارض بشريتك بالمرة بحيث لا شعور لك بما جرى على هويتك أصلا وبالجملة كن فانيا في الله باقيا ببقائه ناظرا بنوره الى وجهه الكريم تفز بنعيم الجنات وعظيم اللذات مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
[سورة الشورى]
فاتحة سورة الشورى
لا يخفى عليك وعلى من تحقق بمرتبة التوحيد وتمكن عليها بلا تردد وتلون ان عموم مراتب الأنبياء والرسل ومشارب الأولياء التابعين لهم المقتفين أثرهم انما هي على صرافة الوحدة الذاتية المسقطة لعموم الكثرات والإضافات وان ما انزل الله على سبيل الوحى والإلهام من الكتب والصحف انما هو لبيان الطرق الموصلة إليها ولهذا نبه سبحانه حبيبه على طريق توحيده بعد ما خاطبه متيمنا باسمه العظيم بِسْمِ اللَّهِ الذي به ظهر على ما ظهر وبطن بصرافة وحدته الذاتية المحيطة بالكل الرَّحْمنِ على عموم الكائنات بافاضة الوجود الذي هو منشأ جميع الكمالات الرَّحِيمِ على خواصها وخلاصتها بالإيصال الى منبع ماء الحياة الذي هو وحدة الذات المسقطة لمطلق الإضافات
[الآيات]
حم
عسق يا حامل وحى الله وما حي الوجود عن غيره وعالم سرائر قدره وعارف سر سريان وحدته الذاتية على قلوب خلص عباده من الأنبياء والأولياء
كَذلِكَ اى مثل ما ذكر في هذه السورة من سرائر التوحيد والأخلاق المرضية يُوحِي إِلَيْكَ يا أكمل الرسل في كتابك هذا وَكذا إِلَى الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكَ من الأنبياء والرسل في كتبهم وصحفهم اللَّهُ المتوحد بذاته المحيط بعموم مظاهره ومصنوعاته المستقل بأمر الإرسال والإنزال والوحى والإلهام الْعَزِيزُ الغالب في امره وشأنه الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله وتدبيراته الجارية في ملكه وملكوته إذ
لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وتصرفا إيجادا واعداما إبداء واعادة وَبالجملة هُوَ الْعَلِيُّ المستقل بالعلو في مطلق ملكه وملكوته الْعَظِيمُ في شأنه وامره لا عظمة ولا علو الا له ولا حول ولا قوة الا به ولا حكم ولا حكمة الا منه ومن كمال عزته وعظمته
تَكادُ السَّماواتُ السبع يَتَفَطَّرْنَ بالياء التحتاني والتاء الفوقاني او بالياء التحتاني والنون معناه على كلتا القرائتين يتشققن مِنْ فَوْقِهِنَّ اى من فوق السموات ومن فوق الأرضين السبع من كمال خشية الله ورهبته خوفا من تجليه عليهن باسمه القهار المفنى لعموم الأغيار مطلقا وَالْمَلائِكَةُ ايضا من خشيتهم عن قهر الله وغضبه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ تعديدا لنعمه المتوالية المترادفة إليهم مع اضافة الشعور والإدراك وأداء لحقوق ربوبيته ومقتضيات ألوهيته وشكرا على إعطاء التمكن والاقتدار على مواظبة عبوديته ومشاهدة آثار سلطنته وعظمته وَيَسْتَغْفِرُونَ ايضا باذنه وبمقتضى امره لِمَنْ فِي الْأَرْضِ من خلص عباده الموحدين المجبولين على صورته المجعولين(2/284)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
لمصلحة خلافته ونيابته أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال المنهمكون في بحر الحيرة والضلال إِنَّ اللَّهَ الذي أظهركم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم هُوَ الْغَفُورُ الستار لذنوب انانياتكم المحاء لآثام هوياتكم ان تبتم واخلصتم فيها الرَّحِيمُ بكم يقبل منكم توبتكم ويغفر زلتكم ويوصلكم الى ما جبلتم لأجله. ثم قال سبحانه تهديدا على المشركين المتخذين لله المتوحد في ذاته المستقل في وجوده أندادا
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءَ يوالونهم كولايته سبحانه ويتوجهون نحوهم مثل توجهه لا تلتفت يا أكمل الرسل إليهم ولا تبال بشأنهم إذ اللَّهُ المحيط بذواتهم وأفعالهم وصفاتهم حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ عليم بأعمالهم ونياتهم فيحاسبهم عليها ويجازيهم بمقتضاها وَبالجملة ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ كفيل تخلصهم عن مفاسد أعمالهم ومقابح أفعالهم بل ما أنت الا مبلغ ونذير وبعد ما بلغت وأنذرت لم يبق من أمرك شيء
وَكَذلِكَ اى مثل ما أوحينا وأنزلنا الى من قبلك من الأنبياء والرسل كتبا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل ايضا قُرْآناً عَرَبِيًّا نظما وأسلوبا لِتُنْذِرَ بانذاراته أُمَّ الْقُرى يعنى اهل مكة شرفها الله وَمَنْ حَوْلَها من أقطارها وانحائها كما انذر الأنبياء الماضون اقوامهم عن مطلق الأمور المنافية لسلوك طريق التوحيد وسبيل الهداية والرشد وَتُنْذِرَ خاصة عن الأهوال والأحزان الحاصلة لهم يَوْمَ الْجَمْعِ والحشر والاجتماع على المحشر والموقف بين يدي الله الذي لا رَيْبَ فِيهِ اى في إتيانه ووقوعه وبعد ما اجتمعوا فيه حيارى وسكارى تائهين هائمين يساقون بعد ما يحاسبون نحو الجنة والنار فَرِيقٌ منهم فِي الْجَنَّةِ مسرورون مقبولون وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ محزونون مطرودون
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده وأراد هدايتهم جميعا لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً مقتصدة معتدلة على مقتضى صرافة الوحدة الذاتية واعتدالها الحقيقي وَلكِنْ راعى سبحانه مقتضيات أوصافه وأسمائه المتقابلة وشئونه المتخالفة لذلك يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ويوصله الى فضاء وحدته حسب جوده وحكمته عناية منه وفضلا وولاية لهم ونصرا وَالظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العناية الإلهية وولايته حسب قهره وانتقامه إياهم إظهارا لكمال قدرته ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ يواليهم ويشفع لهم عنده سبحانه وَلا نَصِيرٍ ينقذهم من عذابه فظهر ان لا ولاية ولا نصرة الا لله ولا غالب الا هو وان زعموا آلهة سواه
أَمِ اتَّخَذُوا بل أخذوا واثبتوا مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءَ واعتقدوهم شركاء له سبحانه او شفعاء لهم عنده سبحانه فانه لا تنفعهم موالاتهم واتخاذهم هذا بل تضرهم وتغويهم فَاللَّهُ المستقل بالالوهية والربوبية هُوَ الْوَلِيُّ المقصور على الولاية لأولى في الوجود سواه وَهُوَ بكمال قدرته يُحْيِ الْمَوْتى ويميت الأحياء بالإرادة والاختيار لا فاعل في الوجود الا هو وَبالجملة هُوَ باستقلاله واختياره عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيرٌ بلا فتور وقصور
وَبعد ما ثبت ان الولاية المطلقة والقدرة المحققة ثابتة لله منحصرة له لا فاعل في الوجود سواه فاعلموا ايها المكلفون بسلوك طريق الحق وتوحيده ان مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ اى من شعائر الدين ومعالم التوحيد واليقين واختلافكم فيه انه هل هو مفيد لكم في سلوككم أم مفسد فَحُكْمُهُ مفوض إِلَى اللَّهِ وامره موكول الى كتبه ورسله فعليكم التعبد والامتثال بما أمرتم به ونهيتهم عنه على ألسنة الكتب والرسل إذ لا مدبر لأموركم سواه ولا متصرف في الوجود الا هو ذلِكُمُ اللَّهُ الذي سمعتم نبذا من وصفه واستقلاله في ملكه وملكوته رَبِّي وربكم فاعبدوه حق عبادته وفوضوا أموركم كلها اليه وان خوفتمونى بغيره مع انه لا غير في الوجود معه فانا عَلَيْهِ(2/285)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية تَوَكَّلْتُ واتخذته وكيلا يدفع عنى مؤنة جميع من عاداني وَإِلَيْهِ لا الى الوسائل والأسباب أُنِيبُ وارجع في مطلق الخطوب والملمات وكيف لا أتوكل عليه ولا أنيب نحوه إذ هو بذاته حسب شئونه وتطوراته
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مظهرهما وموجدهما من كتم العدم ومدبر ما يتكون بينهما من الطبائع والهيولى وصور المواليد والأركان ومن جملة تدبيراته سبحانه انه جَعَلَ وخلق لَكُمْ ايها المجبولون على فطرة التوحيد إبقاء لتناسلكم وتوالدكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ ومن بنى نوعكم أَزْواجاً من جنسكم وصنفكم وجعل بينكم مودة ورحمة إبقاء لنسلكم وَمِنَ الْأَنْعامِ ايضا أَزْواجاً تربية لكم وتتميما لمعاشكم وبالجملة يَذْرَؤُكُمْ يبثكم ويكثركم فِيهِ اى في عالم الظهور ونشأة الشهادة بهذا التدبير البديع كل ذلك لتعلموا وتعرفوا يقينا انه لَيْسَ كَمِثْلِهِ اى ليس مثله سبحانه شَيْءٌ يناسبه في الوجود ويماثله في التحقق والثبوت والمراد بالمثل المنفي هو ذاته اى لا يماثله ذاته فكيف غيره مثل قولهم مثلك لا يبخل بمعنى أنت لا تبخل والمراد به نفى التعدد عنه سبحانه مطلقا على سبيل المبالغة والتأكيد فثبت حينئذ ان لا موجود سواه ولا تحقق لغيره وَمتى ثبت هذا ظهر انه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ اى هو بذاته المنحصر على صفتي السمع والبصر وجميع الأوصاف الذاتية الكاملة الشاملة آثارها في عالمي الغيب والشهادة ونشأتى الاولى والاخرى إذ
لَهُ لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية الظاهرة في اظلال المظاهر والمجالى مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مفاتيح خزائن العلويات من الأسماء والصفات وكذا مفاتيح السفليات من مظاهر الطبائع ومرايا الاعدام القابلة لانعكاس اشعة شمس الذات من مشكاة الأسماء والصفات إذ هو بذاته يَبْسُطُ ويفيض الرِّزْقَ الصوري والمعنوي لِمَنْ يَشاءُ من ظلاله وعكوسه وَيَقْدِرُ يقبض عن من يشاء منهم وبالجملة إِنَّهُ سبحانه بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته بِكُلِّ شَيْءٍ دخل تحت ظل وجوده حسب فضله وجوده عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعزب عن حضوره شيء مما ظهر وبطن وغاب وشهد ومن كمال توحده واستقلاله في تدبير ملكه وملكوته وحيطة علمه وشمول قدرته
شَرَعَ لَكُمْ اى قد قضى ووضع لكم ايها الاظلال المنهمكون في بحر الحيرة والضلال مِنَ الدِّينِ القويم والطريق المستقيم الموصل الى توحيده ما وَصَّى بِهِ نُوحاً اى دينا قد شرعه ووضعه سبحانه على نوح إذ هو أول من ظهر على نشأة التدين والتشرع في طريق التوحيد ألا وهو توحيد الأفعال وَهذا الدين الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل هو الدين الموصل الى توحيد الذات لذلك ختم ببعثك امر الرسالة والتشريع وبعد ما عين سبحانه مبدأ التوحيد ومنتهاه أشار الى ما بينهما من المراتب فقال وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى اى الأديان التي قد وضعناها على هؤلاء المشاهير وغيرهم من جماهير الأنبياء والرسل المتشرعين هي الأديان الموصلة الى توحيد الصفات وبالجملة قد وصينا لعموم ذوى الأديان أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ المنزل إليهم واستقيموا في الإطاعة والامتثال بأوامر الأديان ونواهيها وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ اى لا تختلفوا في اصل الدين الذي هو التوحيد الإلهي بحال وان كانت الطرق والمناهيج نحوه مختلفة باختلاف ذوى المراتب المترتبة بحسب اختلافاتهم في شئون الحق وتجلياته فلك يا أكمل الرسل ان تدعو الناس الى توحيد الذات المتضمن المستلزم لتوحيد الصفات والأفعال وان كان كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ اى قد شق وعظم عليهم ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اى دعوتك إياهم الى التوحيد الذاتي(2/286)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
إذ لم يعهد هذا من غيرك من الأنبياء الماضين والرسل السابقين لذلك شق عليهم حسدا وغيظا فكيف يحسدون ويغيظون عليك وبشأنك يا أكمل الرسل إذ اللَّهُ العليم الحكيم المطلع على استعدادات العباد وقابلياتهم يَجْتَبِي إِلَيْهِ اى يختار ويجذب نحو التوحيد الذاتي مَنْ يَشاءُ من المجبولين على فطرة التوحيد وَيَهْدِي إِلَيْهِ ويوفق عليه ويرشد نحوه مَنْ يُنِيبُ اليه سبحانه انابة صادرة عن محض الإخلاص والتبتل والتفويض والتوكل
وَبعد ما ثبت ان اصل الأديان كلها هو التوحيد وان الأنبياء والرسل انما جاءوا بأجمعهم لإظهاره وتبيينه وإعلاء كلمته ظهر ان الأمم الهالكة ما تَفَرَّقُوا وما اختلفوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً واقعا بَيْنَهُمْ عدوانا وظلما اعراضا عن الحق واهله وبالجملة ما ظهر بينهم ما ظهر من العداوة والبغضاء الا على سبيل المراء والافتراء وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وهي امهال انتقامهم وتأخيره إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وحكم عليهم حين اختلافهم ويوم تفرقهم فاستوصلوا فيه بالمرة حتما وَإِنَّ المختلفين المتفرقين الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ المنزل على أسلافهم مِنْ بَعْدِهِمْ اى من بعد انقراض أسلافهم لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى من الكتاب أمثال أولئك الاسلاف الضلال مُرِيبٍ موقع لهم في الريب والضلال لذلك اختلفوا معك يا أكمل الرسل وأنكروا على دينك وكتابك ولو كان لهم علم بكتابهم ما ظهروا عليك وما طعنوا في دينك وكتابك إذ الايمان والتصديق بكتاب من كتب الله ودين من اديانه ورسول من رسله يوجب الايمان بجميع الكتب والرسل والأديان بناء على الأصل الذي سمعت من التوحيد
فَلِذلِكَ الأصل الذي هو التوحيد الذاتي المسقط لعموم الاختلافات والإضافات فَادْعُ أنت يا أكمل الرسل من تدعوه من المجبولين على فطرة التوحيد والإسلام وَاسْتَقِمْ أنت في نفسك على جادة التوحيد كَما أُمِرْتَ من قبل ربك وثبت اقدام عزمك عليها معتدلا حنيفا مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ اى اهوية اصحاب الخلاف والاختلاف الضالين المترددين في اودية الجهالات واغوار الأوهام والخيالات المنافية لصفاء فضاء التوحيد وَقُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد صفا سرك وخلا خلدك عن مطلق الأوساخ والاكدار الموجبة للاختلاف والخلاف آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ اى بجميع ما انزل الله مِنْ كِتابٍ مبين موضح لطريق الحق وتوحيده وَقل بعد ذلك ايضا إظهارا لدعوتك إياهم أُمِرْتَ من قبل ربي لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ وأبين لكم طريق العدالة الإلهية حسب وحى الله والهامه إياي وبالجملة أنا مأمور من عنده بتبليغه وتبيينه إياكم لتربيتكم وتكميلكم إذ اللَّهُ المدبر لأمور عموم عباده رَبُّنا الذي ربانا لمصلحة الإرشاد والتكميل وَرَبُّكُمْ أراد ان يربيكم بالهداية والرشد وان لم نكن نحن معاشر الرسل والأنبياء مأمورين من عنده سبحانه لإصلاحكم وإرشادكم ما لنا معكم إذ لَنا أَعْمالُنا اى جزاء صالحها وفاسدها وَلَكُمْ ايضا أَعْمالُكُمْ كذلك إذ كل منا ومنكم مجزىّ بما كسب وعمل لا حُجَّةَ اى لا غلبة ولا خصومة بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ بعد ما بلغناكم ما أمرنا بتبليغه وأوضحنا لكم سبيل الحق وصراطه السوى وبالجملة اللَّهُ اى الذات الجامع المستجمع لجميع الأسماء والصفات يَجْمَعُ بَيْنَنا وبينكم ان تعلق مشيته بجمعنا وَكيف لا يجمع بيننا سبحانه إذ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ اى رجوع الكل نحوه كما ان صدوره منه سبحانه
وَبعد وضوح محجة الحق ومنهج المعرفة واليقين الَّذِينَ يُحَاجُّونَ يجادلون ويخاصمون متشبثين بأذيال المجادلات والمغالطات الواهية(2/287)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
الزائغة فِي توحيد اللَّهِ سيما مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ اى قبله العقل والنقل والكشف الصريح والذوق الصحيح حُجَّتُهُمْ اى عموم حججهم وتمسكاتهم التي قد تمسكوا بها على وجه العناد والمكابرة كلها داحِضَةٌ زائلة باطلة عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي رباهم لمصلحة المعرفة والتوحيد وَعَلَيْهِمْ بسبب عنادهم وجدالهم بالحق الصريح غَضَبٌ نازل من الله وَلَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ شَدِيدٌ لا عذاب أشد منه وأفزع وأفظع وبالجملة كيف يحاجون ويكابرون المعاندون في توحيده سبحانه مع انه هو
اللَّهُ المدبر المصلح لأمور عباده الَّذِي أَنْزَلَ لإصلاحهم وإرشادهم الْكِتابَ اى جنس الكتاب النازل من عنده لتبيين مناهيج توحيده كلها ملتبسة بِالْحَقِّ الصريح المعرى عن الباطل الزاهق الزائل مطلقا وَانزل ايضا على طبق الكتاب موافقا له الْمِيزانَ اى جنس الاحكام والشرائع والأديان التي توزن بها اعمال الأنام وإخلاصهم فيها وثباتهم بها على جادة التوحيد ومنهج الإسلام فعليك يا أكمل الرسل وعلى من تبعك في عموم الأحوال والأوقات وجميع الحالات والمقامات امتثال عموم ما امر ونهى من احكام كتابك وان تزن أنت ومن معك أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم واطواركم كلها بميزان الشرع القويم والدين المستقيم وَبالجملة ما يُدْرِيكَ وما يعلمك ايها المجبول على فطرة الدراية والشعور لَعَلَّ السَّاعَةَ الموعودة التي قد تعذر دونها التدارك والتلافي قَرِيبٌ إتيانها وقيامها وعند قيامها تتندمون وما ينفعكم الندم حينئذ وان كان
يَسْتَعْجِلُ بِهَا وبقيامها استهزاء ومراء المنكرون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بِهَا عنادا ومكابرة ويزعمون انه لا يلحقهم ما يوعدون فيها من العذاب الروحاني والجسماني وَالمؤمنون الَّذِينَ آمَنُوا بها وبعموم ما فيها من المواعيد والوعيدات الهائلة هم مُشْفِقُونَ خائفون مِنْها ومن إلمامها بغتة قبل تهيئة الزاد والاعداد وَذلك انهم يَعْلَمُونَ يقينا أَنَّهَا الْحَقُّ المحقق إتيانها وقيامها بلا مرية وريب أَلا تنبهوا ايها المؤمنون بكمال قدرة الله ووفور حكمته إِنَّ المسرفين الَّذِينَ يُمارُونَ ويشكون فِي قيام السَّاعَةِ الموعود إتيانها من قبل الحق مراء ومجادلة لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الهداية الموصلة الى مقر التوحيد إذ هم محجوبون بالأغشية الكثيفة الامكانية والاغطية الغليظة الهيولانية عن سريان الهوية الإلهية في عموم الهويات الغيبية والشهادية عن تجلياتها اللطفية والقهرية والجمالية والجلالية على مطلق المظاهر والمجالى حضورا وشهودا مع انه
اللَّهُ المنزه ذاته عن سمة الحدوث والإمكان المقدس أسماؤه وصفاته عن وصمة العيب والنقصان لَطِيفٌ بِعِبادِهِ الخلص من رق الأكوان بحيث يصير سمعهم وبصرهم وعموم قواهم وآلاتهم الى حيث أفناهم في ذاته وأبقاهم ببقائه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ منهم بالرزق المعنوي الموصل الى مبدئهم ومعادهم ترحما عليهم وتلطفا معهم وَكيف لا إذ هُوَ الْقَوِيُّ القادر القدير المقتدر على عموم مقدوراته الصادرة منه بمقتضى حكمته الْعَزِيزُ الغالب على مطلق مراداته الجارية منه حسب اختياره. ثم لما أشار سبحانه الى كمال تنزهه وتقدس ذاته عن وصمة النقصان مطلقا والى كمال ترحمه وتلطفه مع خلص عباده قال
مَنْ كانَ منهم يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ اى يزرع في النشأة الاولى بذور الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة ليحصد ما يترتب عليها من المثوبات والكرامات في النشأة الاخرى نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ونضاعف ثوابها لأجله ونعطه من اللذات الروحانية ما لا مزيد عليه تفضلا منا عليه وتكريما له وَمَنْ كانَ(2/288)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
منهم يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا ونوى نماء بزوره فيها نُؤْتِهِ مِنْها كمال مبتغاء ومتمناه فيها إذ لكل امرئ ما نوى وَلكن ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ من اللذات الجسمانية والروحانية الباقية مِنْ نَصِيبٍ لاختياره لذات الدنيا وشهواتها الفانية على ما في الآخرة من اللذات الروحانية الباقية لذلك ما له حظ في الآخرة من لذاتها أهم بأنفسهم وعلى خيالهم يحرمون نفوسهم من اللذات الاخروية والفتوحات الروحانية أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ من شياطين الجن والانس قد ظاهروهم عليه وصرفوهم نحوه حيث شَرَعُوا وزينوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ الباطل والديدنة الزائغة ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله المدبر لعموم مصالح عباده على مقتضى حكمته ومراده ولم يأمر بوضعه واتخاذه لا بالوحي ولا بالإلهام بل انما أخذوا ما أخذوا من تلقاء أنفسهم وعلى مقتضى اهويتهم الباطلة ظلما وعدوانا لذلك لم يثمر لهم سوى الخيبة والخذلان والحسرة والحرمان وَبالجملة لَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ والقضاء صادرة عن الله بتأخير أخذهم بظلمهم وامهال انتقامهم الى يوم الجزاء لَقُضِيَ وحكم اليوم بَيْنَهُمْ اى بين اهل الهداية والضلال فيلحق لكل منهم جزاء ما اقترفوا من الحسنات والسيئات وَبالجملة إِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية بمتابعة آرائهم وإخوانهم من الشياطين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في النشأة الاخرى ألا وهو حرمانهم عما أعد لنوع الإنسان المصور على صورة الرحمن من الكرامات السنية والمقامات العلية لا عذاب أشد منه وأفزع ومن كمال حرمانهم وخسرانهم حينئذ
تَرَى الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية عدوانا وظلما مُشْفِقِينَ خائفين مرعوبين مِمَّا كَسَبُوا اى من لحقوق وبال ما اكتسبوا من المعاصي والآثام وَالحال انه هُوَ واقِعٌ بِهِمْ لاحق لهم وما ينفعهم الإشفاق وعدمه لانقضاء نشأة التدارك وزمان التلافي. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة وَترى ايضا ايها المعتبر الرائي المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق حين أخبرهم الرسل ودعاهم اليه حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية وَمع ايمانهم بالله قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى قد أكدوا ايمانهم وتوحيدهم الذاتي بصوالح الأعمال والأخلاق ليدل ايضا على توحيد الصفات والأفعال هم في النشأة الاخرى لكمال اطاعتهم وانقيادهم متنعمون فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ اى متنزهات اليقين العلمي والعيني والحقي ولهذا قد حصل وحضر لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من اللذات المتجددة والفيوضات المترادفة وانواع الفتوحات والكرامات عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي أوصلهم الى كنف قربه وجواره وبالجملة ذلِكَ الفضل الذي أعد لأرباب العناية والتوحيد هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ والفوز العظيم الذي يستحقر دونه عموم اللذات والكرامات وبالجملة
ذلِكَ المذكور من الفوز والفضل هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ المنعم المفضل به عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المفضية الموصلة لهم الى توحيد الأفعال والصفات قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بينت لهم طريق الهداية والضلال وبلغت ما يوحى إليك للإرشاد والتكميل إياهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغى وتبشيرى إياكم أَجْراً جعلا منكم ونفعا دنيويا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى اى ما اطلب منكم نفعا دنيويا بل ما اطلب منكم الا محبة اهل بيتي ومودتهم ليدوم لكم طريق الاستفادة والاسترشاد منهم إذ هم مجبولون على فطرة التوحيد الذاتي وفطنة المعرفة الذاتية مثلي روى انها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك قال على وفاطمة وابناهما وكفاك شاهدا على ذلك ظهور الائمة الذين هم من أكابر اولى العزائم في طريق الحق وتوحيده صلوات الله وسلامه على أسلافهم(2/289)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
وعليهم وعلى اخلافهم ما تناسلوا وتوالدوا بطنا بعد بطن وَبالجملة مَنْ يَقْتَرِفْ ويكتسب بمتابعة الرسول واهل بيته حَسَنَةً دينية حقيقية نَزِدْ لَهُ فِيها اى فيما يترتب عليها من الكرامات الاخروية حُسْناً اى زيادة حسن تفضلا منا وإحسانا إِنَّ اللَّهَ المطلع بضمائر عباده ونياتهم غَفُورٌ لذنوب من أحب حبيبه واهل بيته لرضاه سبحانه شَكُورٌ يوفى عليهم الثواب ويوفر عليهم انواع الكرامات. ثم قال سبحانه أينكرون مطلق رتبة النبوة والرسالة أولئك المنكرون المعاندون
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى محمد عليه الصلاة والسلام عَلَى اللَّهِ كَذِباً واختلق آيات مفتريات ترويجا لمدعاه وما قولهم هذا وزعمهم بك يا أكمل الرسل وأمثاله إلا قول باطل وزعم زاهق زائغ زائل فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ الغنى بذاته عن عموم مظاهره ومصنوعاته يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ كما ختم على قلوبهم ويضلك عن طريق توحيده كما أضلهم وَكذلك ان يشاء الله العليم الحكيم يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ لو تعلق مشيته وَيُحِقُّ ويثبت الْحَقَّ الحقيق بالاطاعة والاتباع بِكَلِماتِهِ التي هي آيات القرآن بلا سفارتك ورسالتك وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بِذاتِ الصُّدُورِ فيظهر عليهم ومن أفواههم ما هو مكنون في صدورهم وضمائرهم ويجازيهم بمقتضاه
وَكيف لا يعلم سبحانه مكونات صدورهم مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصادرة عن محض الندم والإخلاص اللذين هما من افعال القلوب عَنْ عِبادِهِ المسترجعين نحوه بكمال الخشية والخضوع وَبعد قبول التوبة عنهم يَعْفُوا ويتجاوز عَنْ مطلق السَّيِّئاتِ الصادرة عنهم على سبيل الغفلة وَبالجملة يَعْلَمُ منكم سبحانه عموم ما تَفْعَلُونَ بظواهركم وبواطنكم على التفصيل بلا شذوذ شيء وفوت دقيقة ولا شك انكم لا تعلمونه كذلك
وَيَسْتَجِيبُ اى يجيب ويقبل توبة المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ترحما وإشفاقا بعد ما رجعوا نحوه تائبين نادمين عما فعلوا وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بدل إخلاصهم واستحيائهم منه سبحانه من الكرامات ما لا يكتنه وصفه وَالْكافِرُونَ الساترون بأباطيل هوياتهم وما صدر منها من الجرائم والآثام شمس الحق الحقيق بالكشف والظهور لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ حين رجعوا الى الله وحشروا نحوه مهانين صاغرين وبالجملة كفر عموم الكفرة واستكبارهم وضلالهم انما نشأ من كفرانهم بنعم الله وطغيانهم لأجلها على الله وعلى خلص عباده كما أشار اليه سبحانه بقوله
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ الصوري المستجلب المستتبع لانواع العتو والاستكبار لِعِبادِهِ المجبولين على الكفران والنسيان بمقتضى بشريتهم وبهيميتهم لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ بغيا فاحشا واستكبروا على عباد الله استكبارا مفرطا وظهروا على أوليائه ومشوا على وجه الأرض خيلاء مفتخرين بما لهم من الجاه والثروة والرياسة فسرى بغيهم واستكبارهم على الله وعلى أنبيائه ورسله فكفروا لذلك ظلما وعدوانا وَلكِنْ جرت سنته سبحانه واقتضت حكمته على انه يُنَزِّلُ ويفيض بِقَدَرٍ اى بمقدار وتقدير ما يَشاءُ على من يشاء بمقتضى حكمته ومشيته وبالجملة إِنَّهُ سبحانه بِعِبادِهِ اى باستعداداتهم وعموم أحوالهم خَبِيرٌ بَصِيرٌ يعلم منهم ما خفى عليهم وما ظهر دونهم
وَكيف لا يعلم سبحانه سرائر عباده وضمائرهم إذ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ حسب علمه وحكمته مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وايسوا من نزوله وَبتنزيله وامطاره يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الواسعة على جميع اقطار الأرض وأرجائها عناية منه سبحانه الى سكانها من أجناس المواليد وأنواعها وأصنافها وَكيف لا يرحم سبحانه على مظاهره إذ هُوَ الْوَلِيُّ المتولى لعموم أمورهم(2/290)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
المنحصرة عليه ولايتهم إذ لا ولاية الا له الْحَمِيدُ المستحق لجميع المحامد بذاته إذ عموم المظاهر وذرائر الأكوان حامدة له سبحانه طوعا ورغبة حالا ومقالا
وَمِنْ آياتِهِ الدالة على كمال ولايته وتدبيره وتربيته خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى اظهار الكائنات العلوية والسفلية بامتداد اظلال أسمائه وصفاته عليها وَكذا خلق ما بَثَّ وبسط فِيهِما وركب منهما مِنْ دابَّةٍ ذي حياة وحركة وَبالجملة هُوَ سبحانه عَلى جَمْعِهِمْ اى جمع الاظلال والعكوس الى شمس الذات وقبضهم عليها بعد بثهم وبسطهم منها إِذا يَشاءُ ويريد قَدِيرٌ بلا فترة وتقصير
وَاعلموا ايها الاظلال الهالكة في أنفسها ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ مضرة مؤلمة فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ اى بسبب اقترافكم المعاصي والآثام وَمع ذلك يَعْفُوا سبحانه عَنْ كَثِيرٍ من المعاصي لا يعقبها بمصيبة تخفيفا لكم وتسهيلا
وَلو أراد سبحانه تعقيب كل معصية بمصيبة حسب عدله بلا غفر وتخفيف ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له فِي الْأَرْضِ اى ليس لكم ان تفوتوا شيأ مما قضى سبحانه عليكم من المصائب المستتبعة لجرائمكم وآثامكم ان شاء وَالحال انكم عاجزون في انفسكم مقهورون تحت قبضة قهره وقدرته سبحانه إذ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم ويحفظكم عما يضركم وَلا نَصِيرٍ ينصركم على أعاديكم ويدفع عنكم ما يؤذيكم ويعينكم على ما مسكم
وَايضا مِنْ جملة آياتِهِ الدالة على ولايته الكاملة وتدبيراته الشاملة الْجَوارِ اى السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ اى كالجبال الرواسي في الثقل والعظمة
إِنْ يَشَأْ سبحانه يُسْكِنِ الرِّيحَ المجرية لهن فَيَظْلَلْنَ ويبقين تلك السفن حينئذ رَواكِدَ سواكن عَلى ظَهْرِهِ اى على ظهر البحر ولججه فضاع جميع من فيها وما فيها إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء والإرسال لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على تولية الحق وتدبيره لِكُلِّ صَبَّارٍ حبس نفسه في مقام الرضا بما قسم له ربه شَكُورٍ بما ظهر عليه من آلائه ونعمائه
أَوْ ان يشاء يرسلهن إرسالا عنيفا بالرياح العاصفة حتى يُوبِقْهُنَّ او يغرقهن ويهلك بعض من فيهن بِما كَسَبُوا اى بشوم أعمالهم التي اقترفوها من البخل والحسد والحرص المفرط والأمل الطويل وغير ذلك من الأخلاق المذمومة وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ اى ومع ذلك يتجاوز سبحانه عن إهلاك أكثرهم وينجيهم عن ورطة الهلاك لحسن أعمالهم وخلوص نياتهم تفضلا منه سبحانه إياهم وتكريما لهم كل ذلك ليختبر سبحانه عباده وينتقم عنهم ويميز منهم اهل الرضا والتسليم عن غيرهم
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ اى يعلم المجادلون المكابرون فِي آياتِنا ومقتضياتها عدوانا وعنادا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب ومخلص من عذابنا ان تعلقت ارادتنا بانتقامهم وإهلاكهم وان استظهر اهل الحدال بالأموال والأولاد واستكبروا بها وافتخروا عليها قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا
فَما أُوتِيتُمْ وأعطيتم مِنْ شَيْءٍ حقير قليل ما هي الا من حطام الدنيا ومتاعها فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فانية بفنائها تتمتعون بها فيها مدة يسيرة ثم تمضون مع حسرة كثيرة وندامة طويلة وَما عِنْدَ اللَّهِ من اللذات الروحانية والكرامات المعنوية خَيْرٌ من الدنيا وما فيها بل من آلافها واضعافها وَأَبْقى اقدم وأدوم لِلَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وانكشفوا بكمالات أسمائه وأوصافه وتحققوا بشهود شئونه وتجلياته وَهم بعد ما تمكنوا في مقام الرضاء والتسليم وتوطنوا في أعظم سواد الفقر وأعلى درجات عالم اللاهوت عَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُونَ يفوضون أمورهم(2/291)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
ويسلمون غاضين عيون بصائرهم وأبصارهم عن الالتفات الى ما سوى الحق مطلقا لذلك ما يرون بنوره من مرايا مظاهره ومجاليه الا لمعات وجهه الكريم
وَبالجملة هم الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وهي الآثام والجرائم المؤدية الى الشرك الجلى والخفى وَالْفَواحِشَ اى الصغائر المنتهية الى الكبائر بالرسوخ والإصرار وَايضا من جملة اخلاق هؤلاء المؤمنين المحسنين انهم إِذا ما غَضِبُوا من مكروه هُمْ يَغْفِرُونَ ويبادرون الى العفو والستر وكظم الغيظ وإصلاح ذات البين وإخراج الغل والحقد عن نفوسهم
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا اى أجابوا واقبلوا دعوة من دعاهم الى الطاعات والعبادات ومطلق الخيرات والحسنات لا لغرض دنيوى بل لِرَبِّهِمْ طلبا لمرضاته وهربا عن مساخطه وانتقاماته وَمع ذلك أَقامُوا الصَّلاةَ اى اداموا الميل والرجوع الى الله في جميع حالاتهم وَأَمْرُهُمْ اى عموم أمورهم المتعلقة لمعاشهم ومعادهم شُورى بَيْنَهُمْ اى هم متشاورون فيها مع إخوانهم بلا استبداد لهم فيها برأيهم ولا انفراد بعقلهم وَمن معظم أخلاقهم انهم مِمَّا رَزَقْناهُمْ وأبحنا لهم وأضفنا لهم من الرزق الصوري يُنْفِقُونَ في سبيلنا للفقراء والمساكين طالبين منا مرضاتنا ومثوباتنا
وَمن جملة أخلاقهم وأجلها انهم هم الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ ولإخوانهم الْبَغْيُ والعدوان من باغ ظالم وعدو عاد هُمْ يَنْتَصِرُونَ يبادرون الى الغلبة والانتصار غيرة على دين الله وحمية لحمى حدوده الموضوعة على مقتضى العدالة القويمة الإلهية عن طريان الظلم والعدوان وإظهارا لما أودع في صدورهم من فضله من خصلة الشجاعة المحمودة عند الله وعند عموم ارباب المروات من الأنبياء والأولياء إذ كلا طرفيها وهما الجبن والتهور مذمومان عقلا وشرعا والشجاعة المقتصدة بينهما محمودة جدا. ثم قال سبحانه تعليما لعباده طريق هدايته وإرشاده
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ قد اصابتك من احد من بنى نوعك سَيِّئَةٌ مِثْلُها لا أزيد منها اى إذا أساءك احد بسيئة فأنت ايها المكلف تسيئه بمثلها جزاء وعقوبة سمى الجزاء سيئة للازدواج والمشاكلة هذا بحسب الرخصة الشرعية واما بحسب العزيمة فَمَنْ عَفا وتجاوز عن المسيء والجاني خالصا لوجه الله وطلبا لمرضاته وَأَصْلَحَ بالصلح والإحسان ما أفسده بالجناية والإساءة فَأَجْرُهُ قد وقع عَلَى اللَّهِ وجزاؤه مفوض الى كرمه يجازيه بمقتضى فضله وجوده ما شاء الله وبالجملة إِنَّهُ سبحانه حسب عدالته الذاتية لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن الحدود الإلهية سيما في العقوبات والجنايات
وَلَمَنِ انْتَصَرَ وغلب على الظالمين بَعْدَ ظُلْمِهِ اى بعد ما ظلم منه منتقما عليه فَأُولئِكَ المنتصرون المنتقمون ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ بالمعاتبة والمعاقبة لأنهم منتقمون بالرخصة الشرعية بل
إِنَّمَا السَّبِيلُ بهما عَلَى المسرفين الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ اى يبتدئون بالظلم ويظهرون بينهم بالعدوان والطغيان وَيَبْغُونَ ويطلبون بظلمهم وطغيانهم فسادا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ بلا رخصة شرعية أُولئِكَ البعداء المتجاوزون عن الحدود الشرعية لَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ أَلِيمٌ هو إحراقهم بنار القطيعة لا عذاب أشد منه وأفزع
وَلَمَنْ صَبَرَ من المظلومين ولم ينتصر من الظالم ولم ينتقم منه كظما وهضما وَغَفَرَ اى عفا عنه وتجاوز مسترجعا الى الله طالبا الأجر منه سبحانه إِنَّ ذلِكَ العفو والصفح عند القدرة والرخصة لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ اى من الأمور التي آثرها أولوا العزائم الصحيحة من ارباب العناية ألا وهم الذين يرون من الله جميع ما يرون منحا ومحنا وفرحا وترحا ويوطنون نفوسهم على التسليم والرضاء بعموم ما جرى عليهم(2/292)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
من القضاء
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بمقتضى قهره وجلاله عن طريق توحيده فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ سواه ينصره او يدفع ما يؤذيه ويخذله مِنْ بَعْدِهِ اى بعد إضلال الله إياه واذلاله وَبعد ما ردهم سبحانه الى دار الانتقام بأنواع الخيبة والخسران تَرَى ايها الرائي الظَّالِمِينَ المغرورين بما هم عليه من الجاه والثروة والمفاخرة بالأموال والأولاد في دار الدنيا لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ النازل عليهم المحيط بهم من جميع جوانبهم يَقُولُونَ حينئذ اى بعضهم لبعض من شدة اضطرابهم واضطرارهم هَلْ إِلى مَرَدٍّ رجعة الى الدنيا وعود إليها مِنْ سَبِيلٍ حتى نعود ونستعد ليومنا هذا
وَهم في هواجس نفوسهم يتكلمون بهذا الكلام تحسرا وتضجرا تَراهُمْ ايها الرائي يُعْرَضُونَ ويساقون عَلَيْها اى على النار خاشِعِينَ خاضعين مِنَ الذُّلِّ والهوان المفرط الشامل لهم يَنْظُرُونَ حينئذ نحو النار مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ اى بنظرة خفية من تحت الاهداب بلا تحريك الأجفان من شدة رعبهم وخشيتهم منها كنظر من يؤمر بقتله الى سيف الجلاد وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا حين رأوا أعداءهم معذبين إِنَّ الْخاسِرِينَ المفسدين هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالظلم والضلال وَأَهْلِيهِمْ بالصد والإضلال لذلك استحقوا العذاب المخلد يَوْمَ الْقِيامَةِ والوبال المؤبد فيها أَلا اى تنبهوا ايها الابطال الاظلال المستظلون تحت لواء العدالة الإلهية إِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضاها باغواء الغوائل الامكانية والتسويلات الشيطانية معذبون فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وعقاب دائم أليم
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وينقذونهم من عذابه والحال انه قد أضلهم الله بمقتضى قهره وجلاله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ المنتقم الغيور فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ الى الهداية والنجاة ولا الى الخروج من وبال ما يترتب على غيهم وضلالهم وبالجملة
اسْتَجِيبُوا ايها المكلفون بالاجابة والقبول لِرَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة التوحيد وتوجهوا نحوه مخلصين وأجيبوا داعيه محمدا صلّى الله عليه وسلم مصدقين مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ يحل فيه العذاب عليكم مع انه لا مَرَدَّ لَهُ اى لا دفع ولا رد للعذاب النازل فيه مِنَ اللَّهِ وبعد ما قد قضى سبحانه وحكم بتعذيبكم حتما ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ سواه وقد جرى حكمه بالعذاب وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ اى ما يتيسر لكم حينئذ انكار اسباب العذاب وموجباته إذ تشهد عليكم يومئذ جوارحكم وقواكم بما اقترفتم بها من الجرائم والآثام وبالجملة قل يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير لهم أمثال هذه المواعظ والتذكيرات نيابة عنا فان امتثلوا وقبلوا فقد اهتدوا
فَإِنْ أَعْرَضُوا عنها ولم يلتفتوا إليها عنادا ومكابرة فَما أَرْسَلْناكَ اى فاعلم انا ما أرسلناك يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ حَفِيظاً كفيلا يحفظهم عن جميع ما يضرهم ويغويهم بل إِنْ عَلَيْكَ اى ما عليك إِلَّا الْبَلاغُ وقد بلغت وبعد تبليغك ما بقي عليك من حسابهم من شيء. ثم أشار سبحانه الى وهن عزائم الإنسان وضعف عقائده فقال وَإِنَّا من مقام عظيم جودنا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ تفضلا مِنَّا إياه وتكريما بلا سبق استحقاق منه رَحْمَةً شاملة محيطة بعموم أعضائه وجوارحه قد فَرِحَ بِها وانبسط بحلولها وَإِنْ تُصِبْهُمْ حينا من الأحيان سَيِّئَةٌ من السيئات مؤلمة لهم مع انها بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وبشؤم ما اقترفوا لأنفسهم من المعاصي والآثام الجالبة لانواع المضرات فَإِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على النسيان حينئذ كَفُورٌ مسرع الى الكفران مبادر الى الكفر والنسيان كأنه لم ير منا الانعام والإحسان قط فكيف تكفرون بوفور نعمة الحق(2/293)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
وشمول رحمته مع انه
لِلَّهِ المحيط بكل المظاهر الموجد المظهر لها مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى التصرف على وجه الاستقلال في العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات لذلك يَخْلُقُ ما يَشاءُ فيها ارادة واختيارا حيث يَهَبُ بمقتضى فضله وجوده لِمَنْ يَشاءُ من عباده إِناثاً محضا من الأولاد وقدمهن للتدرج من الأدنى الى الأعلى ونكرهن لان النكارة مطلوبة في حقهن وَيَهَبُ ايضا لِمَنْ يَشاءُ منهم الذُّكُورَ الخلص عرفهم لأنهم اولى بالتعريف وأحرى بالمعرفة
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ويخلط لهم ذُكْراناً وَإِناثاً مجتمعين ممتزجين وَايضا يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ منهم عَقِيماً بلا ولد وايلاد إظهارا لكمال قدرته واشعارا بانه لا تأثير للوسائل والأسباب العادية حتى ينسب توالدهم وتناسلهم الى اجتماع الأزواج والزوجات منهم كما هو المتبادر الى الأحلام السخيفة وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ باستعدادات عباده وقابلياتهم قَدِيرٌ على افاضة ما ينبغي لمن ينبغي كما ينبغي بمقتضى كرمه وجوده ارادة واختيارا بلا إيجاب والتزام من جانبه سبحانه. ثم لما شنع اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعيروه وطعنوا في نبوته مستهزئين به حيث قالوا له تهكما هلا تكلم الله معه ولم لم ينظر موسى الى الله تعالى إذ هو سبحانه أجل وأعلى من ان ينظر اليه العيون او يدركه الأبصار او يحيط به الآراء والأفكار انزل سبحانه هذه الآية تصديقا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم فقال
وَما كانَ اى ما صح وما جاز لِبَشَرٍ اى لجنسه وليس في وسعه واستعداده أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ مشافهة بلا سترة وحجاب إذ لا مناسبة بين المحدود والمحبوس في مضيق الابعاد والجهات وبين غير المحدود المستغنى عن الحدود والجهات مطلقا حتى تقع المكالمة بينهما إِلَّا وَحْياً اى الا تكلما ناشئا عن وحى الهامى او منامي أَوْ تكلما مسموعا مِنْ وَراءِ حِجابٍ اى وراء تعين من التعينات كما سمع موسى كلامه من وراء حجاب الشجر فكذلك يسمع العارف المتحقق بمقام الفناء في الله كلامه سبحانه دائما من وراء عموم المظاهر الناطقة بتسبيحه وتقديسه سبحانه حالا ومقالا أَوْ تكلما بالسفارة والترجمان بان يُرْسِلَ رَسُولًا من سدنة ذاته التي هي الملائكة الحاملون لكمالات أسمائه وصفاته فَيُوحِيَ الملك بِإِذْنِهِ سبحانه ما يَشاءُ ويسمعه من كلامه سبحانه لمن يشاء سبحانه من عباده وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيٌّ في شأنه المختص به وكمالاته اللائقة له منزه متعال عن ان يحوم حول سرادقات عز سلطانه احد من خلقه فكيف ان يتكلموا معه بلا سترة وحجاب حَكِيمٌ في كمال تمنعه وكبريائه ونهاية تعززه وترفعه حيث تكلم تارة بالوحي والإلهام وتارة من وراء الحجاب والأستار وتارة بطريق السفارة والرسالة
وَكَذلِكَ اى مثل ما أوحينا الى من تقدم منك من الأنبياء والرسل وتكلمنا معهم بإحدى الطرق الثلاثة قد أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل ايضا لنتكلم معك رُوحاً منا تكريما لك وتعظيما لشأنك وتخصيصا لك من بين سائر الأنبياء لظهورك على نشأة التوحيد الذاتي مِنْ أَمْرِنا المتعلق لتدبيراتنا وتصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا ألا وهو القرآن المنتخب من حضرة علمنا ولوح قضائنا سميناه روحا لأنا نحيى به أموات مطلق التعينات وخصصناك به مع انك ما كُنْتَ تَدْرِي وما تعلم وما تعرف قط قبل نزوله مَا الْكِتابُ المبين للاحكام المتعلقة بتهذيب الظاهر والباطن وَلَا الْإِيمانُ والاعتقاد المتعلق لتوحيد الحق وعرفانه لكونك اميا عاريا من طرق الاستفادة(2/294)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
والتعلم مطلقا وَلكِنْ من محض جودنا وفضلنا إياك قد اصطفيناك لرسالتنا واجتبيناك بخلافتنا ونيابتنا لذلك أنزلناه إليك وبعد نزوله قد جَعَلْناهُ نُوراً تلألأ وتشعشع على وجه السطوع بعد ظهور نشأتك نَهْدِي بِهِ الى توحيدنا مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا المجبولين على فطرة الإسلام وَإِنَّكَ ايضا بمقتضى خلافتك ونيابتك عنا لَتَهْدِي به عموم عبادنا وتدعوهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج فيه ولا انحراف أصلا
صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ اى العلويات والسفليات وما ظهر منهما وفيهما وعليهما وبالجملة عموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد مقهور تحت قهره إذ هو سبحانه آخذ بقبضة القدرة الغالبة بناصية الكل يجذبه نحوه ويقبضه اليه أَلا تنبهوا ايها الاظلال المستمدون من الله في كل الأحوال إِلَى اللَّهِ اى الى وجهه الكريم القديم لا الى غيره من وجوه الأسباب والوسائل العادية تَصِيرُ الْأُمُورُ اى تصير وترجع الى وجهه سبحانه وجوه عموم الصور المرئية بعد ارتفاع الوجوه المستحدثة الهالكة عن البين واضمحلال الرسوم الباطلة عن العين
خاتمة سورة الشورى
عليك ايها الطالب المتحقق في صراط الحق والراكن نحوه بحزائمك الأقصى وعزائمك الأوفى ان تجعل قبلة مقصدك توحيد ربك وتستقيم على جادة الدين القويم المحمدي والسبيل السوى المصطفوى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وتقتفى اثر من سلف من خلص اتباعه الذين اهتدوا بمتابعته الى مقر التوحيد واليقين ووصلوا الى عالم اللاهوت وتمكنوا في مقر التمكين بلا تذبذب وتلوين بعد ما تجردوا من جلباب ناسوتهم بالمرة بتوفيق من الله وجذب من جانبه وببركة ارشاد حبيبه صلّى الله عليه وسلم
[سورة الزخرف]
فاتحة سورة الزخرف
لا يخفى على المحققين المتحققين بحيطة الحق على عموم المظاهر وشمول أسمائه وأوصافه الذاتية عليها ان من جملة أسمائه الحسنى وصفاته السنى اسم المتكلم وصفة الكلام المنزل من عنده على كل امة من الأمم حسب اللغة الموضوعة فيهم بوضع الهى إذ واضع الألفاظ واللغات كلها هو الله سبحانه ولا شك ان القرآن المنزل على خير الأنام انما هو من أمهات الكتب الإلهية وأصولها لكونه منتخبا من الحضرة العلية العلمية الإلهية منتزعا من لوح محفوظ القضاء على الوجه الأتم الأبلغ ولهذا اقسم سبحانه بكتابه هذا بعد ما خاطب على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب ثم من عليه بما من ورمز بما رمز تأييدا وتعضيدا له على حمل أعباء الرسالة وتبليغ الوحى المنزل عليه من عنده باللغة الفصيحة العربية المعجز نظمه ومعناه لكافة البرية وعامة الرعية ليكون رحمة للعالمين وخاتما للنبيين بعد ما تيمن باسمه المبين بِسْمِ اللَّهِ المنزل للرسل والكتب للهداية والإرشاد وتبيين طريق الرشد ومنهج السداد لعموم عباده الرَّحْمنِ عليهم بإرسال رسول كل قوم من جنسهم وإنزال الكتاب عليهم على لغتهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم بتبليغ الرسل وتبيين الكتب الى مبدئهم ومعادهم
[الآيات]
حم يا حارس دين الله وملازم طريق توحيده
وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ العظيم الذي قد انتخبناه من حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ
إِنَّا من(2/295)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
كمال فضلنا وجودنا قد جَعَلْناهُ قُرْآناً فرقانا بيانا وتبيانا عَرَبِيًّا أسلوبا ونظما لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وتفهمون ما فيه من الأسرار العجيبة والحكم البديعة والرموز والإشارات التي قد خلت عنها الكتب السالفة
وَإِنَّهُ اى الشأن المندرج فيه والمرموز اليه في مخافيه من جملة ما هو كائن مثبت فِي أُمِّ الْكِتابِ الذي هو حضرة العلم ولوح القضاء ولا يمكنكم الاطلاع عليه والاستفادة منه الا بوسائل الألفاظ لكونه محفوظا لَدَيْنا محروسا عندنا لا يتيسر لكم الوصول إلينا ما دمتم محبوسين في مضيق الإمكان مقيدين بسلاسل الزمان والمكان إذ ساحة عز حضورنا لَعَلِيٌّ منيع متعال عن ان يحوم حول سرادقات عزنا احد من خلقنا ونحن حَكِيمٌ في تلك المنعة والدفاع ولا نطلعكم على سرائرنا الا من وراء الحجب والأستار ثم استفهم سبحانه مهددا مقرعا مشيرا الى ما أودعه سبحانه في استعدادات عباده من قابلية الهداية والرشد بقوله
أَنهملكم ايها المجبولون على فطرة الهداية ولم نرسل إليكم رسولكم يرشدكم الى ما جبلتم لأجله من قابلية الانكشاف بسرائر توحيدنا فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ اى القرآن المبين لكم ما في نشأتكم وفطرتكم من الاطلاع والشعور على شئوننا وتجلياتنا الذاتية وبالجملة انعرض نحن عنكم صَفْحاً اى اعراضا وانصرافا كليا مع انا قد فطرناكم على فطرة الصلاح والفوز بالفلاح أَنْ كُنْتُمْ اى انهملكم ان كنتم وصرتم قَوْماً مُسْرِفِينَ منحطين عن الاعتدال الفطري والقسط الجبلي الذي قد جبلناكم عليه حسب حكمتنا المتقنة البالغة او المعنى انهمل مقتضيات حكمتنا المودعة فيكم ان كنتم في انفسكم قوما مسرفين في التمرد والاعراض
وَكَمْ أَرْسَلْنا اى مع انا كثيرا قد أرسلنا مِنْ نَبِيٍّ هاد مرشد فِي الْأَوَّلِينَ اى في الأمم الماضين المسرفين المفرطين في التمرد والاعراض أمثالكم
وَهم من شدة تعنتهم وإصرارهم ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أمثال هؤلاء المستهزئين معك يا أكمل الرسل وبعد ما تمادوا في الغفلة والعناد وبالغوا فيها مغرورين
فَأَهْلَكْنا اى قد أخذناهم بذنوبهم واستأصلناهم أجمعين مع كونهم أَشَدَّ مِنْهُمْ اى من هؤلاء المسرفين المستهزئين بك يا أكمل الرسل بَطْشاً حولا وقوة واكثر أموالا واولادا واكبر جاها وشدة وَبعد ما قد مَضى وجرى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ على ما جرى ومضى من قصصهم ووقائعهم الهائلة المهولة وسيمضى ويجرى عن قريب على هؤلاء ايضا مثلهم بالطريق الاولى وكيف لا يجرى عليهم ما جرى على أسلافهم مع انهم أعظم جرما واكبر إنكارا منهم
وَمن أعظم انكارهم انهم لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ اى مشركي مكة يا أكمل الرسل مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ومن أوجدهما واظهرهما من كتم العدم لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على مطلق الخلق والإيجاد الْعَلِيمُ المطلع على سرائر ما أوجد واظهر ومع اعترافهم بأخص أوصاف الفاعل المختار وإقرارهم باستناد الأمور المتقنة الى أوصافه وأسمائه أنكروا وحدة ذاته وأشركوا معه غيره عتوا وعنادا قل لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في الإنكار والإصرار كيف تنكرون وحدة الحق ايها الجاحدون الجاهلون مع انه الله
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً تستقرون فيها وتتوطنون عليها مترفهين متنعمين وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لمعاشكم تطلبون منها حوائجكم وطرقا تصلون منها الى معادكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بها الى وحدة ربكم
وَكيف تنكرون وجود موجدكم الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ اى من عالم الأسباب ماءً محييا لأموات المسببات بِقَدَرٍ معتدل معتاد فَأَنْشَرْنا بِهِ اى أحيينا وأحضرنا بإجراء الماء المحيي(2/296)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
بَلْدَةً مَيْتاً جافة يابسة لا نبات فيها ولا خضرة لها كَذلِكَ اى مثل اخراجنا النبات من الأرض اليابسة بانزال الماء تُخْرَجُونَ وتنشرون أنتم حال كونكم موتى من قبوركم بنفخ الروح فيكم تارة اخرى
وَكيف تجحدون وتنكرون وجود الصانع الحكيم ووحدته مع انه الله القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ واظهر الْأَزْواجَ كُلَّها اى جميع اصناف المخلوقات مزدوجات ممتزجات وَقد جَعَلَ لَكُمْ ايضا تتميما لأمور معاشكم وتسهيلا لها مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ اى ما تركبونه لِتَسْتَوُوا وتتمكنوا عَلى ظُهُورِهِ اى ظهور ما خلق لكم من المراكب ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وبالجملة كما أفاض عليكم سبحانه من النعم أصولها وفروعها وجب عليكم ان تواظبوا على شكرها أداء لحق شيء منها وَلكم ان تَقُولُوا عند استوائكم عليه شكرا لنعم الله وأداء لحقوق كرمه سُبْحانَ الَّذِي اى تنزه وتقدس عن سمة النقص والاستكمال تنزها تاما وتقدسا كاملا ذات القادر العليم الحكيم الذي قد سَخَّرَ لَنا هذا المركوب وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مطيقين لنستسخره لولا اقرانه وتسخيره سبحانه لنا
وَبالجملة إِنَّا في عموم اوصافنا وأحوالنا وذواتنا إِلى رَبِّنا الذي أظهرنا بمد اظلال أسمائه الحسنى وبسط عكوس صفاته العليا علينا وربانا بمقتضى لطفه بالنعم الأوفى لَمُنْقَلِبُونَ راجعون اليه سائرون نحوه بعد انخلاعنا عن لوازم ناسوتنا وارتفاع اغشية تعيناتنا عنا وانما اوصى به تنبيها على ان العبد العارف لا بد ان يكون في عموم انقلاباته وحالاته مسترجعا الى الله عازما بالعزيمة الصادقة الصافية عن مطلق الرياء والرعونات نحو الفناء فيه متذكرا لموطنه الأصلي ومقره الحقيقي عنده سبحانه
وَهم من غاية غفلتهم عن الحق ومن نهاية جهلهم بحقوق ألوهيته وربوبيته قد جَعَلُوا لَهُ سبحانه وأخذوا بعضا مِنْ عِبادِهِ وادعوه جُزْءاً له سبحانه وسموه ولدا ناشئا منه تعالى حيث قالوا الملائكة بنات الله وعزير ابن الله والمسيح كذلك وبالجملة إِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على الجهل والنسيان لَكَفُورٌ متناه في الغفلة عن الله والكفران لنعمه وحقوق كرمه مُبِينٌ ظاهر البغي والطغيان على الله والإلحاد عن دينه وطريق توحيده ومن شدة ظهور بغيهم وطغيانهم ونهاية غفلتهم وعداوتهم قد اثبتوا له اولادا
أَمِ اتَّخَذَ اى بل قالوا قد اتخذ وأخذ سبحانه وتعالى شأنه مِمَّا يَخْلُقُ اى من مظاهره ومصنوعاته بل من أخسها وأدونها اعنى بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ اى فضلكم وخصصكم انفسكم بِالْبَنِينَ وكيف يثبتون أولئك المثبتون المفرطون لله الواحد الأحد الفرد الصمد بنات
وَيختارون لأنفسهم بنين مع انه إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا وهو اثبات البنات له سبحانه يعنى لو بشر احد منهم بولادة البنت له قد ظَلَّ وصار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا من كمال ضجرته وكآبته وَهُوَ حينئذ كَظِيمٌ مملو من الغيظ والكرب فكيف يثبت أمثال هذه المكاره لله المنزه عن أمثالها مطلقا مع ان أخص أوصافه انه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا اى أتثبتون للصمد المنزه عن الأهل والولد ولدا ناقصا يربى ويزين فِي الْحِلْيَةِ والزينة لعدم كماله الذاتي وَالحال انه هُوَ فِي الْخِصامِ اى المجادلة والمحاورة غَيْرُ مُبِينٍ معرب مظهر لما يدعيه لنقصان عقله وركاكة رأيه وفهمه ألا وهن البنات الناقصات عقلا ودينا وخلقة وبالجملة اثبتوا لله ما ينزهون أنفسهم عنه ويغتمون منه عند حصوله لهم
وَهم من فرط جهلهم وركاكة رأيهم قد جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ المستغرقون الوالهون بمطالعة وجهه الكريم(2/297)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
المستغفرون بعموم عباد الله من سعة رحمته وجوده إِناثاً ناقصات العقل والدين منحطات عن زمرة الكاملين مع انهم هم من اعزة عباد الله واجلتهم متمكنون عند كنف قربه وجواره مسبحون له في عموم الأوقات والحالات أَشَهِدُوا وحضروا أولئك الحمقى خَلْقَهُمْ اى خلق الله إياهم في بدء الأمر إذ الأنوثة والذكورة من جملة الأمور التي لا اطلاع لاحد عليها الا بالمشاهدة أم يشهدون رجما بالغيب ظلما وزورا وبالجملة سَتُكْتَبُ في النشأة الاخرى شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على خلص عباد الله وافتراؤهم على الله الصمد المنزه من الاستيلاد وَبالجملة يُسْئَلُونَ يوم القيامة عن جميع ما أتوا به من المعاصي سيما عن هذه الشهادة المزورة والافتراء الباطل ثم يجازون بمقتضاها
وَبعد ما قد سفه المسلمون اهل الشرك والضلال وعيروهم باتخاذ الملائكة والأوثان والأصنام وعموم المعبودات الباطلة آلهة من دون الله شركاء له في ألوهيته مع كونهم منحطين عن رتبة الربوبية والألوهية مطلقا قالُوا مستدلين على أخذهم واتخاذهم لَوْ شاءَ وأراد الرَّحْمنُ عدم اتخاذنا وعبادتنا إياهم ما عَبَدْناهُمْ البتة لكن أراد سبحانه عبادتنا فعبدناهم إذ لا يبدل قوله سبحانه ولا يغير حكمه ومشيته. انما قالوا ما قالوا تهكما واستهزاء على زعم المؤمنين لا عن اعتقاد ويقين بمشية الله وتقديره وعدم تغير مراده سبحانه لذلك جهلهم سبحانه بقوله ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ اى ما صدر عنهم هذا الاستدلال عن علم بمقدماته واعتقاد بنتيجته بل إِنْ هُمْ اى ما هم في قولهم هذا واستدلالهم إِلَّا يَخْرُصُونَ يتمحلون تمحلا باطلا ويتزورون زورا ظاهرا أهم يدعون دليلا عقليا سواه على مدعاهم
أَمْ يدعون دليلا نقليا بانا آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن مشتملا على اتخاذهم وادعائهم المذكور فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ متمسكون به في دعواهم هذه
بَلْ ليس لهم لا هذا ولا ذاك سوى انهم قالُوا على سبيل الحسبان والتقليد إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ طريقة معينة معهودة وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ الى ما اهتدوا تقليدا لهم واقتفاء باثرهم
وَكَذلِكَ اى ومثل ما قال هؤلاء التائهون في تيه التقليد والضلال ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل فِي قَرْيَةٍ من القرى الهالكة مِنْ نَذِيرٍ من النذر الاولى إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها ومتنعموها على سبيل البطر والمفاخرة إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ اى طريقة معهودة معينة وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ لا نترك ديدنة آبائنا بما اخترعتموها أنتم من تلقاء انفسكم ايها المدعون
قالَ لهم يا أكمل الرسل بعد ما سمعت منهم هذا كلاما خاليا عن وصمة المراء والمجادلة عاريا عن امارات التقليد والتخمين أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ يعنى أتقلدون وتتبعون آباءكم ايها المقلدون المسرفون ولو جئتكم بِأَهْدى اى بدين هو اهدى وانفع لكم في اولاكم واخراكم مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ اى من أديان آبائكم وتقليداتهم فتتركون الهداية وتتبعون الضلال ايها الحمقى العمى وبعد ما سمعوا منك هؤلاء المقلدون المسرفون المفرطون ما سمع أسلافهم من النذر الاولى من الهداية والرشد قالُوا مصرين على ما هم عليه إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ اى بعموم ما جئتم به ايها المدعون للرسالة كافِرُونَ منكرون جاحدون وبالجملة لا نقبل منكم أمثال هذا ولا نترك دين آبائنا ومتابعتهم بمجرد ما ابتدعتموه أنتم مراء ونسبتموه الى الله افتراء وبعد ما أصروا على ضلالهم وتقليداتهم الموروثة لهم من آبائهم ولم ينفعهم ارشاد الرسل وهدايتهم
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأخذناهم مهانين صاغرين فَانْظُرْ ايها المعتبر الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ المصرين على التكذيب(2/298)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
والعناد مع رسل الله وذوى الخطر من خلص عباده والى اين أدى مآل أمرهم فسيئول امر هؤلاء ايضا الى أمثاله
وَاذكر يا أكمل الرسل لمشركي مكة وقت إِذْ قالَ جدك إِبْراهِيمُ الخليل صلوات الله عليه وسلامه لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ المغمورين في تقليدات آبائهم الموروثة لهم بعد ما انكشفت حقية الحق ووحدته وبطلان الالهة الباطلة التي قد أثبتوها شركاء لله ظلما وزورا إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ اى أنا برئ من معبوداتكم التي أنتم تعبدونها من دون الله الواحد الأحد الصمد المستحق للعبادة والإطاعة
إِلَّا الَّذِي اى ما اعبد معبودا سوى المعبود الذي فَطَرَنِي اى أوجدني وأظهرني من كتم العدم بمقتضى حوله وقوته وعلمه ووفور حكمته فَإِنَّهُ سبحانه بمقتضى سعة رحمته وتوفيقه سَيَهْدِينِ ويثبتني على جادة الهداية بأزيد مما هداني اليه من اجراء كلمة التوحيد على لساني
وَجَعَلَها سبحانه هذه الكلمة كَلِمَةً باقِيَةً مستمرة فِي عَقِبِهِ اى أولاد ابراهيم وذرياته الى يوم القيامة موروثة لهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الى الله بكرامة هذه الكلمة ويوحدونه حق توحيده لذلك ما خلا زمان من الازمنة من موحدى هذه الذرية وممن يدعو منهم الى الحق وطريق توحيده وان كان منهم ايضا من يشرك بالله كمشركي قريش خذلهم الله كما قال سبحانه في شأنهم
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ المسرفين المعاندين معك يا أكمل الرسل وَكذا متعت آباءَهُمْ كذلك بأنواع النعم واصناف الكرم حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ اى الطريق الموصل الى التوحيد الذاتي وَرَسُولٌ مرشد كامل مُبِينٌ مظهر موضح لهم طريق الهداية والرشد
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ الحقيق بالاتباع قالُوا من فرط تعنتهم وعنادهم هذا الذي جاء به هذا المدعى يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم سِحْرٌ او شعر قد اختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى ربه افتراء وتغريرا وَبالجملة إِنَّا بِهِ وبدينه كافِرُونَ منكرون جاحدون
وَقالُوا من شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل ومن غاية انكارهم بكتابك لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ ان كان نزوله من عند الله حقيقة عَلى رَجُلٍ ذي ثروة وجاه لائق بمرتبة النبوة والرسالة كائن مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ اى من احدى القريتين يعنى مكة والطائف عَظِيمٍ عند الناس بكثرة الأموال والأولاد والاتباع ليكون له اليد والاستيلاء على سائر الناس إذ منصب النبوة منصب عظيم يحتاج الى ثروة ووجاهة ومكنة تامة ورئاسة ظاهرة ولم يفهموا ان رتبة النبوة والولاية عبارة عن الغنى الذاتي المسقط لعموم الإضافات المنافية لصرافة الوحدة الذاتية وهو لا يكون الا بالتعري عن ملابس الأكوان ولوازم الإمكان بالمرة وبالتخلق بالأخلاق المرضية الإلهية
أَهُمْ باحلامهم السخيفة وتدبيراتهم الركيكة يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل ويضعون رتبة النبوة والرسالة الى من يقتضيه اوهامهم وخيالاتهم الباطلة وترتضيه نفوسهم الخبيثة العاطلة بل نَحْنُ بوفور حكمتنا قد قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ التي يحتاجون إليها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ومع تدبيرنا إياهم ومصالح معاشهم لا يحسنون تدبيرها فيما بينهم ليصلح امر ائتلافهم وتمدنهم فيها فكيف يخوضون في مصالح المعاد وتدبيراتها ومن اين يتأتى لهم التفوه في الأوضاع الألوهية والتدبيرات الربوبية الناشئة عن كمال العلم والحكمة والارادة الكاملة والقدرة الشاملة وَمن غاية قصورهم ونقصانهم عن تدبيرات معاشهم قد رَفَعْنا حسب حكمتنا وتربيتنا إياهم بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ بان فضلنا بعضهم على بعض في العقل الجزئى والرزق الصوري وغيره ليكون لهم الكبرياء والاستيلاء على البعض الآخر ولِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا اى يستعمل البعض العقلاء الأغنياء اجراء من البعض(2/299)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
الفقراء الأغبياء فيأمروهم بما قصدوا من الحوائج ليتم امر النظام والتمدن والتضامّ وَبالجملة رَحْمَتَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل ألا وهي رتبة النبوة والرسالة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية لاشتمالها على ضبط الظواهر والبواطن المتعلقة بالنشأة الاولى والاخرى. ثم أشار سبحانه الى دناءة زخارف الدنيا وأمتعتها ورداءة ما فيها من اللذات الوهمية وما يترتب عليها من الشهوات البهيمية فقال
وَلَوْلا مخافة أَنْ يَكُونَ النَّاسُ المجبولون على الكفر والنسيان أُمَّةً واحِدَةً مائلة الى الكفر منحرفة عن الايمان لَجَعَلْنا وصيرنا البتة لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ اى بسطنا على الكافرين من الزخارف الدنيوية ووفرناها عليهم الى حيث يتخذون لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مصنوعة متخذة مِنْ فِضَّةٍ وَكذا يعملون مَعارِجَ ومراقى منها عَلَيْها اى على سطوح بيوتهم يَظْهَرُونَ يصعدون ويعلون بتلك المعارج المعمولة من الفضة
وَكذا يعملون لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً منها بدل الألواح من الأخشاب وَكذا يتخذون منها سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ترفها وتنعما
وَبالجملة لوسعنا عليهم حطام الدنيا الى حيث جعلنا لهم زُخْرُفاً وزينة وافرة كثيرة متخذة من الفضة والذهب يتزينون بها ويتلذذون بلذاتها الفانية وشهواتها الزائغة الزائلة المبعدة عن اللذات الباقية الاخروية كما نشاهد أمثال هذه من أبناء زماننا هذا احسن الله أحوالهم مع انهم يعدون أنفسهم من المؤمنين الموحدين لكن لو فعلنا كذلك لمال إليها المسلمون وتحسروا بما نالوا فضعف رأيهم في اتباع الدين القويم والتمشى على الصراط المستقيم وَبالجملة إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الفانية لإقرار ولا مدار لما عليها من اللذات والشهوات الوهمية البهيمية الغير القارة وَبالجملة النشأة الْآخِرَةُ اى حظوظ النشأة الآخرة الباقية الدائمة لذاتها ازلا وابدا مستقرة عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل حاصلة لِلْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن التلطخ بقاذورات الدنيا الدنية والركون الى مزخرفاتها الفانية سوى سد جوعة ولبس خرقة وكسوة يدفعون بها ضرر الحر والبرد ولا يميلون الى ما سواها طلبا لمرضاة الله وهربا عن مساخطه
وَمَنْ يَعْشُ اى يعرض وينصرف عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ اى القرآن المبين له طريق الايمان والعرفان لفرط انهماكه باللذات والشهوات الفانية الدنيوية نُقَيِّضْ لَهُ ونسلط عليه شَيْطاناً يضله ويغويه ويوسوس عليه ويرديه وبالجملة فَهُوَ اى الشيطان لَهُ قَرِينٌ دائما يزين عليه المعاصي والمقابح ويغريه عليها الى ان يدخله في نار القطيعة والحرمان
وَإِنَّهُمْ اى جنود الشياطين واتباعه لَيَصُدُّونَهُمْ اى يذبونهم ويصرفونهم اى اتباعهم من الناس عَنِ السَّبِيلِ السوى الموضوع بالوضع الإلهي الموصل الى توحيده وَهم يَحْسَبُونَ من فرط عمههم وسكرتهم أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ بهداية قرنائهم من الشياطين مع انهم الغاوون الضالون باغوائهم واضلالهم بلا هداية ورشاد أصلا ولم يعلموا اضلالهم
حَتَّى إِذا جاءَنا اى الأعشى الأعمى وعلم ضلاله عنا وغوايته عن طريقنا قالَ متحسرا متأسفا لقرينه المضل المغوى متمنيا يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ اى بعد ما بين المشرق والمغرب فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت ايها المضل المغوى قد أضللتني عن الطريق القويم وابتليتني بالعذاب الأليم
وَقيل لهم حينئذ من قبل الحق لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ تمنيكم واسفكم إِذْ قد ظَلَمْتُمْ انفسكم في نشأة التدارك والتلافي والآن قد انقرضت أَنَّكُمْ وقرناءكم اليوم فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد مُشْتَرِكُونَ كما انكم قد كنتم مشتركين في الأسباب الجالبة له في النشأة(2/300)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)
الاولى. ثم لما كان صلّى الله تعالى عليه وسلّم يبالغ في ارشاد عشائره ويتعب نفسه في هدايتهم رد الله سبحانه عليه على وجه الاستبعاد والتأديب ردعا له عما كان عليه من المبالغة فقال مستفهما
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ اى أأنت تتخيل لنفسك انك تقدر على إسماع من جبل على الصمم في اصل فطرته أَوْ أنت تَهْدِي الْعُمْيَ المجبولين على العمى في مبدأ خلقته وَبالجملة انك لا تهدى مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة جبلية فكيف تسعى أنت لهدايته وتبالغ في طلب المحال في إرشاده وتكميله إذ ليس في وسعك تغيير الخلقة وانما عليك البلاغ فليس في وسعك الا الإنذار والتبليغ فقط فقد أنذرت وبلغت الى متى تتعب نفسك وتسعى. ثم سجل سبحانه على أخذ المشركين والانتقام عنهم بقوله معرضا على حبيبه على وجه التأديب والتنبيه
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ اى ان نتوفينك يا أكمل الرسل ونخرجنك عن الدنيا قبل انتقامنا عنهم وأخذنا إياهم فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ البتة بعد مماتك ووفاتك
أَوْ نُرِيَنَّكَ العذاب الموعود الَّذِي وَعَدْناهُمْ للاعراض عنك وعن دينك وكتابك وبالجملة فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قادرون على وجوه الانتقام عنهم حال حياتك او بعدها فلك ان لا تسعى في هدايتهم وإرشادهم وبعد ما قد أكد سبحانه انجاز الوعيد الموعود عليهم وبالغ فيه امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالتمكن والتثبت على مقتضى الوحى المنزل من عنده سبحانه فقال
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من القواعد الشرعية الموضوعة بالوضع الإلهي واعتمد عليه ولا تلتفت إليهم ولا تبال باعراضهم إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيد ربك
وَإِنَّهُ اى القرآن لَذِكْرٌ اى عظة وتذكير لَكَ وَلِقَوْمِكَ فعليكم ان تتعظوا به وبما فيه من الحكم والاحكام والعبر والأمثال والرموز والإشارات وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ عن قيامكم به وامتثالكم بما فيه وان عاند المشركون معك واستهزؤا بك وبكتابك ونسبوا دينك الى البدعة والاختلاق فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون وينسبونك اليه
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا اى احبار قومهم وعلمائهم وفتش أحوالهم عن آثارهم واخبارهم وكتبهم الباقية بعدهم أَجَعَلْنا وأثبتنا في الكتب النازلة من لدنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ المنزه في ذاته عن الشركة والتعدد مطلقا آلِهَةً يُعْبَدُونَ اى هل حكمنا لهم وامرناهم باتخاذ آلهة سوى الحق الحقيق بالعبادة يعبدونهم كعبادة الله بل ما اتخذوا الآلهة المتخذة الزائغة الا بمقتضى آرائهم الباطلة واهويتهم الفاسدة وبالجملة ما عبدوا بعموم ما عبدوا الا ظلما وعدوانا وبغيا وطغيانا
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا أخاك مُوسى بِآياتِنا الدالة على توحيدنا إِلى فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي المستعلى على من في الأرض وَمَلَائِهِ المعاونين له في طغيانه وعدوانه فَقالَ لهم موسى باذن منا وبمقتضى وحينا إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ قد أرسلني إليكم لأرشدكم الى طريق توحيده وأوضح لكم سبيل المعاد
فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى مؤيدا بِآياتِنا اى بالخوارق والمعجزات الدالة على صدقه إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ اى فاجؤا على الضحك والاستهزاء أول رؤيتهم بالآيات بلا تأمل وتدبر فيها
وَالحال انه ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من الآيات إِلَّا هِيَ اى الآية اللاحقة المرئية في الحال أَكْبَرُ واظهر دلالة على كمال قدرتنا وصدق نبينا مِنْ أُخْتِها اى من الآيات السابقة عليها ومع ذلك أنكروا على الكل واستهزؤا به عدوانا وظلما وَبعد ما بالغوا في العتو والعناد قد أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ العاجل من القحط والطاعون وغيرها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ رجاء ان يرجعوا من انكارهم وإصرارهم عليه
وَمع ذلك لم يرجعوا(2/301)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
بل قالُوا عند نزول البلاء وهجوم العناء بدعاء موسى عليه السلام مسترجعين نحوه متهكمين معه يا أَيُّهَا السَّاحِرُ الماهر في السحر والشعبذة ادْعُ لَنا رَبَّكَ الذي زعمت ان لا منزل للمصيبة سواه ولا كاشف لها ايضا الا هو بِما عَهِدَ عِنْدَكَ اى بمقتضى ما وعد لك وعهد معك ان لا يعذب من آمن بك وصدقك فان انكشف الضر بدعائك ف إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ بهدايتك مؤمنون لك مصدقون بنبوتك ورسالتك وبجميع ما دعوتنا اليه
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بعد دعاء الأنبياء والرسل وتضرعهم نحونا راجين منا مناجين إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ اى هم قد فاجؤا على نقض ما عاهدوا بغتة مبادرين على الإنكار والعناد بلا تراخ وتأخير
وَمن كمال عتو فرعون الطاغي الباغي ونهاية عناده واستكباره نادى فِرْعَوْنُ بنفسه يوما من الأيام حين كان فِي مجمع قَوْمِهِ مباهيا بما معه من الجاه وسعة المملكة حيث قالَ يا قَوْمِ ناداهم ليسمعوا منه ويصغوا اليه سمع قبول أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ مع كمال وسعته وفسحته وكثرة مملكته وَهذِهِ الْأَنْهارُ الثلاثة المنشعبة من النيل هي نهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس تَجْرِي مِنْ تَحْتِي اى تحت تصرفى وملكي أَفَلا تُبْصِرُونَ ايها المجبولون على البصارة
أَمْ أَنَا اى بل انا خَيْرٌ مِنْ هذَا الساحر المدعى الَّذِي هُوَ مَهِينٌ رذل مهان لا عزة له ولا مقدار وَمع رذالته وسفالته لا يَكادُ يُبِينُ اى لا يقرب ان يظهر ويعرب كلامه للكنة في لسانه
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ اى فلو كان مؤيدا من عند الله ومكرما لديه كما زعم هلا القى عليه اسورة مِنْ ذَهَبٍ تدل على عزته وكرامته عنده وسيادته عند الناس إذ العادة حينئذ ان اهل الرياسة والسيادة يسورون ويطوقون بأسورة متخذة من ذهب أَوْ هلا جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ من عند ربه مُقْتَرِنِينَ مجتمعين يعينونه فيما يعنيه
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ يعنى قد استخف فرعون قومه حيث لبس عليهم وسفههم وضعف أحلامهم بأمثال هذه الهذيانات فَأَطاعُوهُ وقبلوا منه جميع ما قال عتوا واستكبارا وبالجملة إِنَّهُمْ في أنفسهم قد كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضى العدالة الإلهية لذلك انحرفوا عن سواء السبيل واتبعوا ذلك الفاسق الطاغي وبالجملة
فَلَمَّا آسَفُونا وحملونا على القهر والغضب وحركوا الغيرة الإلهية بأمثال هذه الجرائم الفاحشة انْتَقَمْنا مِنْهُمْ بمقتضى قهرنا وجلالنا فَأَغْرَقْناهُمْ في اليم أَجْمَعِينَ ومحونا رسومهم عن وجه الأرض
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة واسلافا قديمة للهالكين من هؤلاء المسرفين المفرطين وَصيرناهم مَثَلًا لِلْآخِرِينَ من اخلافهم المؤمنين الموحدين يمثلون بهم وبوقائعهم فيتعظون
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا يعنى لما ضرب ابن الزبعرى مثلا بعيسى عليه السلام حين نزلت كريمة انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال مجادلا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انك تزعم ان النصارى من اهل الكتاب وانهم يعبدون عيسى ويعتقدونه ابن الله والملائكة اولى بالمعبودية من عيسى فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقوم لما سمعوا مجادلته ورأوا سكوت الرسول صلّى الله عليه وسلّم من كلامه فهموا منه الزام الرسول وافحامه فأوجسوا في نفوسهم اعراضا كما حكى عنهم سبحانه بقوله إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ اى من كلام ابن الزبعرى يَصِدُّونَ يعرضون وينصرفون عنك فرحا بانك قد صرت ملزما من كلامه
وَبعد ما اعرضوا عنك واعتقدوا إلزامك من ذلك الطاغي قالُوا اى قال بعضهم لبعض آلِهَتُنا التي قد كنا نعبد نحن وأسلافنا ايضا إياهم خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعنون اله محمد الذي ادعى الرسالة من عنده وانما قالوا ما قالوا له تهكما(2/302)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
واستهزاء كما قال سبحانه ما ضَرَبُوهُ لَكَ مثلا إِلَّا جَدَلًا مجادلة ومراء بَلْ هُمْ في أنفسهم قَوْمٌ خَصِمُونَ مجادلون مكابرون في الخصومة واجراء الباطل مجرى الحق وترويجه جدلا ومغالطة بل
إِنْ هُوَ اى ما عيسى إِلَّا عَبْدٌ من جملة عبادنا قد أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بمقتضى فضلنا وجودنا وأظهرنا على يده من المعجزات الباهرة والخوارق الظاهرة الدالة على كمال قدرتنا وَجَعَلْناهُ مَثَلًا عجيبا وشأنا بديعا لِبَنِي إِسْرائِيلَ يسير بينهم امر وجوده بلا أب وظهور الخوارق الغريبة عنه سيما في حال صباه وإرهاصات امه كالمثل السائر كل ذلك من كمال قدرتنا وعلمنا ومتانة حكمتنا
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ ايضا وانشأنا بدلكم مَلائِكَةً يسكنون فِي الْأَرْضِ مكلفين بالعبادة والعرفان أمثالكم وإذا انقرض طائفة منهم يَخْلُفُونَ أمثالهم أمثالكم الى ما شاء الله يعنى لا تتعجبوا من شأن عيسى وظهوره على الوجه الأبدع الأغرب بل تأملوا وتدبروا في كمال قدرة المبدع ووفور حكمته وجوده إذ هو سبحانه قادر على اظهار امور عجيبة وشئون شتى بديعة لا تعد ولا تحصى ومن جملتها ظهور عيسى وما صدر عنه من الخوارق بل كل من وصل بعالم القلب وحصل دون الكشف والشهود واليقين الحقي مترقيا من المشاهدات العادية والمحسوسات الالفية ظهر له ولاح عليه ان كل ما لمع عليه برق الوجود وتشعشع منه بمقتضى الجود انما هو على وجه غريب وشأن عجيب ثم قال سبحانه
وَإِنَّهُ اى شأن الظهورات المنبه عليها والتطورات المشار بها لَعِلْمٌ اى دليل لائح وبرهان واضح لِلسَّاعَةِ الموعودة المعهودة فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وبقيامها ووقوعها وَبالجملة اتَّبِعُونِ في جميع ما أنزلت لكم في كتبي وعلى ألسنة رسلي وأطيعوا امرى وأمرهم واعلموا ان هذا الذي قد اشرناكم اليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فاسلكوا فيه لعلكم تهتدون الى توحيدي وتفوزون بالفوز العظيم
وَعليكم محافظة الحدود الشرعية والمعالم الدينية حتّى لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ ولا يصرفنكم عنها ولا يوقعنكم في فتنة عظيمة وبلية شديدة إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة شديد الخصومة يضلكم عن جادة التوحيد ويوقعكم في العذاب الشديد. أعاذنا الله وعموم عباده من فتنته
وَكيف لا يكون عيسى عبدا من عبادنا اذكر لهم يا أكمل الرسل لَمَّا جاءَ عِيسى الى بنى إسرائيل من عندنا مؤيدا بِالْبَيِّناتِ الباهرة الظاهرة التي ما ظهر مثلها من نبي من الأنبياء قالَ مظهرا لهم الدعوة الى طريق الحق وتوحيده قَدْ جِئْتُكُمْ من عند ربي بِالْحِكْمَةِ المتقنة البالغة وَانما جئتكم لِأُبَيِّنَ أوضح واظهر لَكُمْ طريق العبودية والعرفان سيما بَعْضَ الَّذِي اى بعض المعالم الدينية الذي أنتم تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وفي نزوله في كتب الله وعدم نزوله فيها فَاتَّقُوا اللَّهَ أولا حق تقاته وَأَطِيعُونِ فيما جئت لكم
إِنَّ اللَّهَ المتوحد المتفرد بالالوهية والربوبية هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ دبر امرى وأمركم وبينه في كتابه فَاعْبُدُوهُ بمقتضى وحيه وانزاله واعلموا ان هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل الى توحيده الذي أنتم لأجله جبلتم ان كنتم مؤمنين موقنين وبعد ما تم امر الدعوة والتبليغ
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ وتفرقوا تفرقا ناشئا مِنْ بَيْنِهِمْ اى من بين قومه المبعوث إليهم بعد ما دعاهم الى طريق الحق وتوحيده وهداهم الى صراط مستقيم فَوَيْلٌ عظيم وعذاب شديد يتوقع لِلَّذِينَ ظَلَمُوا خرجوا عن مقتضى العبودية المأمورة لهم بالوحي الإلهي مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم في غاية الإيلام
هَلْ يَنْظُرُونَ اى ما ينظرون وينتظرون أولئك المفسدون المفرطون إِلَّا السَّاعَةَ الموعود(2/303)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)
قيامها أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجاءة بلا سبق مقدمة وامارة وَهُمْ من غاية اشتغالهم بالملاهي الدنيوية لا يَشْعُرُونَ إتيانها الا وقت وقوعهم في أهوالها
الْأَخِلَّاءُ والأحباء يَوْمَئِذٍ من شدة الهول والفزع بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إذ يتذكرون حينئذ ما جرى بينهم من المعاونة والمشاركة في الاعراض عن الله وكتبه ورسله وعدم الانقياد والإطاعة للدين إِلَّا الْمُتَّقِينَ اى الا الأحباء الذين تحابوا في الله وتشاركوا في طريق توحيده سبحانه مع خلص عباده الذين اتقوا عن محارمه طلبا لمرضاته ثم التفت سبحانه الى الخطاب لخلص عباده فقال مناديا لهم على رؤس الاشهاد
يا عِبادِ ناداهم سبحانه وأضافهم الى نفسه اختصاصا لهم وتكريما لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ لخوفكم عن مقتضى قهرنا وجلالنا في النشأة الاولى وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ اليوم لتصبركم على الشدائد ومقاساة الأحزان في طريق الايمان في دار الابتلاء وهؤلاء البررة المبشرون هم
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا وامتثلوا بمقتضاها وَبالجملة قد كانُوا مُسْلِمِينَ منقادين مطيعين مفوضين أمورهم كلها الى الله راضين بعموم ما قضى عليهم وكتب لهم من المنح والمحن لذلك نودوا حينئذ من قبل الحق على سبيل البشارة والكرامة
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ المعدة لخلص أوليائنا الذين قد اتخذونا وكيلا واخذونا رقيبا وكفيلا أَنْتُمْ اصالة وَأَزْواجُكُمْ اى نساؤكم المؤمنات المتوكلات الراضيات المرضيات بما قسم لهن المجتنبات عن محارم الله تبعا لكم حال كونكم تُحْبَرُونَ تبتهجون وتسرون فيها على وجه يظهر اثر البهجة والمسرة على وجوهكم ويلوح من سيماكم وبعد ما تقرروا في مقام العز والتكريم وتمكنوا في مكان التبجيل والتعظيم
يُطافُ عَلَيْهِمْ اى يطوف حولهم خدمة الجنة بِصِحافٍ جمع صحفة وهي القصعة الكبيرة المتخذة مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب وهو الكوز الذي لا عروة له ايضا متخذة منه وَبالجملة لهم فِيها اى في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من اللذات والشهوات المدركة بآلاتها وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ اى من المحسوسات التي استحسنتها العيون فيها واستلذذن بها وَبالجملة أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون لا تتحولون منها ابد الآبدين
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أنتم تفوزون بها قد أُورِثْتُمُوها أنتم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الأعمال المصورة بها الناتجة لها المأمورة لأجلها وبالجملة
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ من المستلذات الروحانية والجسمانية مِنْها تَأْكُلُونَ ومنها تتفكهون وتتلذذون جزاء بما كنتم تعملون. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ المنهمكين في بحر الجرائم والمعاصي فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ على عكس خلود اصحاب الجنة في الجنة بحيث
لا يُفَتَّرُ ولا يخفف عَنْهُمْ من عذابها بل وَهُمْ فِيهِ اى في العذاب الدائم المستمر مُبْلِسُونَ آيسون من الخلاص والنجاة
وَبالجملة ما ظَلَمْناهُمْ بانزال العذاب عليهم واستمراره وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أنفسهم المقصورين على الخروج والعدوان عن مقتضى الحدود الموضوعة فيهم لتحفظهم من العذاب والنكال
وَمن شدة العذاب وقلة التصبر وفرط الفزع والجزع نادَوْا صارخين صائحين يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ اى سل ربك ان يقضى علينا بالمقت والهلاك إذ لا طاقة لنا اليوم بالعذاب وهوله وشدته ثم لما بثوا شكواهم هكذا مرارا وصاحوا صارخين فزعين تكرارا قالَ قائل مجيبا لهم من قبل الحق على سبيل الاستبعاد والتأبيد هيهات هيهات إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لا نجاة لكم عنها لا بالموت ولا بالخلاص والتخفيف بل كلما نضجت جلودكم بدلنا لكم جلودا غيرها وعذبناكم باشد العذاب وكيف لا نعذبكم(2/304)
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
ايها الجاحدون المسرفون
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ اى بالسبيل السوى والطريق الحق الثابت الحقيق بالاطاعة والاتباع فانصرفتم عنه وانكرتم عليه ولم تلتفتوا اليه بل وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ بعد ما تفطنوا لِلْحَقِّ وتنبهوا بحقيته كارِهُونَ لقبوله والامتثال لمقتضاه وهم مع كمال كراهتهم للحق وانصرافهم عنه لا يقتصرون عليها
أَمْ أَبْرَمُوا اى بل احكموا وقطعوا أَمْراً حكما مبرما مكرا وخديعة لرد الحق وتكذيب اهله فَإِنَّا ايضا حسب قهرنا وجلالنا مُبْرِمُونَ حاكمون حكما قطعيا بانزال العذاب المخلد عليهم جزاء لمكرهم وخداعهم أيشكون ويترددون انا لا نقدر على أخذهم وانتقامهم
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ ولا نعلم ولا ندرك سِرَّهُمْ الذي يخفونه في ضمائرهم وَنَجْواهُمْ الذي هم يتناجون به في هواجس نفوسهم بَلى انا عالمون بعموم ما جرى ويجرى في سرائرهم وضمائرهم مطلعون بجميع ما صدر من استعداداتهم وقابلياتهم وَمع احاطة علمنا بهم وبأحوالهم رُسُلُنا لَدَيْهِمْ وحفظتنا عندهم يَكْتُبُونَ جميع ما صدر عنهم نقيره وقطميره حتى نحاسبهم عليه ونجازيهم بمقتضاه. ثم لما شاع قول اليهود والنصارى بولدية عزير وعيسى ومال نحوه أولوا الأحلام الضعيفة منهم ومن غيرهم رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده بأن امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالقول على سبيل الفرض والتقدير
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في هذه القرية البعيدة بمراحل عن الحق المستحيلة في نفسها إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ اى ان صح وجاز ان يكون له ولد متصف ببنوته فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لابنه إذ أنا اعلم الناس بلوازم الألوهية واحفظهم بحقوق الربوبية ان كان له سبحانه ولد أنا أحق بعبوديته وتعظيمه من جميع بريته
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ اى تنزه وتعالى شأن من هو مربى العلويات والسفليات المتصف بالاحاطة التامة والاستيلاء الكامل الشامل على عروش عموم المظاهر بالاستقلال والانفراد عَمَّا يَصِفُونَ به أولئك الواصفون المكابرون من نسبة الولد والمولود له سبحانه تعالى شأنه عما يقول الظالمون علوا كبيرا وبعد ما انكشفت أنت يا أكمل الرسل بحقية الحق ووحدته وصمديته
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في أباطيلهم ويستغرقوا في ضلالهم وغفلاتهم وَيَلْعَبُوا بمقتضيات اوهامهم وخيالاتهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ بملاقاته وبلحوق ما فيه من انواع العقوبات والنكبات
وَكيف يتخذون له سبحانه ولدا ويثبتون له شريكا مع انه سبحانه هُوَ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي فِي السَّماءِ اى عالم الأسماء والصفات إِلهٌ يعبد له ويرجع اليه مع صرافة وحدته الذاتية وَفِي الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة والهيولى إِلهٌ كذلك بلا تعدد وتغير في ذاته وَبالجملة هُوَ الْحَكِيمُ على الحكمة المتقنة البالغة لا حاكم سواه الْعَلِيمُ المقصور على العلم الكامل الشامل المحيط بعموم ما لاح عليه بروق تجليات الوجود وشروق شمس الذات
وَتَبارَكَ وتعالى اى تعاظم وتعالى ذات القادر العليم الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى العلويات والسفليات وَما بَيْنَهُما من المركبات والممتزجات ان يكون معروضا للتعدد ومحلا للشركة والمظاهرة بل له ان يتصرف في ملكه وملكوته ويدبر فيهما تدبيرا وتصرفا على وجه الاستقلال بالإرادة والاختيار وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الموعود قيامها من لدنه سبحانه وَبالجملة إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في النشأة الاخرى رجوع الاظلال الى الأضواء والأمواج الى الماء
وَبعد ما ثبت وحدة الحق واستقلاله في ملكه وملكوته لا يَمْلِكُ ولا يقدر الآلهة الباطلة الَّذِينَ يَدْعُونَ ويعبدون لهم أولئك المشركون(2/305)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
مِنْ دُونِهِ سبحانه الشَّفاعَةَ عنده سبحانه ولا تقبل من آلهتهم الذين زعموا انهم شفعاؤهم عند الله إِلَّا مَنْ شَهِدَ اى الا شفاعة من أقر بِالْحَقِّ واعترف بتوحيده وَهُمْ مع إقرارهم واعترافهم يَعْلَمُونَ وينكشفون بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته
وَالله يا أكمل الرسل لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ اى المشركين مَنْ خَلَقَهُمْ وأوجدهم من كتم العدم ومن اظهر أشباحهم منه لَيَقُولُنَّ اللَّهُ الموجد المظهر للكل إذ لا يمكنهم المكابرة والعناد في أمثال هذه الظواهر فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ والى اين يصرفون بعد ما اعترفوا باستقلاله سبحانه في الخلق والإيجاد وكيف يشركون معه غيره في استحقاق العبادة والرجوع اليه في الخطوب والمهمات
وَقِيلِهِ يعنى لا بد وان يكون من جملة قوله ومقوله صلّى الله عليه وسلّم في مناجاته مع ربه في شأن قومه حين ايس عن ايمانهم بعد ما بالغ في إرشادهم وتكميلهم مناديا متضرعا الى الله متعجبا من كمال قسوتهم وانهماكهم في البغي والضلال يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ البعداء عن جادة الهداية والرشد قَوْمٌ متناه في الغفلة والاعراض عنك لا يُؤْمِنُونَ بك وبتوحيدك ولا يقبلون منى دعوتي ولا يسمعون قولي وبعد ما قد تضرع وناجى صلّى الله عليه وسلّم مع ربه قيل له من قبل الحق على طريق الوحى والإلهام
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ يا أكمل الرسل واعرض عن هدايتهم وانصرف عن إرشادهم وتربيتهم فإنهم مجبولون على الغواية مطبوعون بالكفر والضلال وَبعد ما أيست منهم بأسا كليا قُلْ على سبيل التوديع والمتاركة سَلامٌ وتسليم منا على ما جاءنا من الحق فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أنتم ايها المسرفون وبال ما تعملون وتدخرون لنفوسكم من الزخائر الجالبة لانواع العقوبات. نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
خاتمة سورة الزخرف
عليك ايها الموحد القاصد لتحقيق الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع ان تصفى هممك في عموم حالاتك عما سوى الحق وتخلى خلدك عن مطلق الشواغل العائقة عن التوجه الحقيقي نحوه وتستقيم على صراط التوحيد مستويا مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط مقتصدا معتدلا إذ مرجع جميع الطرق والسبل السوية الى العدالة الإلهية الفائضة منه سبحانه على أراضي استعدادات عموم القوابل والمجالى حسب قابلياتهم الفطرية التابعة للتجليات الإلهية وشئونه المتفرعة على أسمائه وصفاته الذاتية وتقتفى في تهذيبك وتصفيتك هذا اثر النبي المجبول على العدالة الإلهية وعلى فطرة خلافته ونيابته وعليك ان تعرض عمن اعرض عن الحق واهله وانحرف عن سواء السبيل. جعلنا الله وعموم عباده من زمرة اهل الهداية واليقين وجنبنا من الضلال عن الطريق المستبين بمنه وجوده
[سورة الدخان]
فاتحة سورة الدخان
لا يخفى على ارباب الكشف والشهود من المنجذبين نحو الحق في عموم أوقاتهم وحالاتهم سيما في أوائل ايام الطلب والارادة المنبعثة عن المحبة الغالبة الجالبة للميل والركون الى المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي ان الحالات الطارية على ارباب الطلب والارادة في تلك الأوقات متفاوتة قبضا وبسطا تلذذا وتحزنا تلونا وتمكنا وبالجملة لا طمأنينة للسالك في تلك الأوقات المتواردة عليه الى ان تصفو له الحالات(2/306)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
وينزل على سلطان قلبه التمكن والوقار والتمرن والقرار. ثم لما وصل صلّى الله عليه وسلّم الى ذلك المقام واستولى وغلب على قلبه سلطان المحبة والعشق المفرط الإلهي وكان ورود تلك الحالة العلية اليه صلّى الله عليه وسلّم في ليلة القدر او البراءة على اختلاف الرواية انزل سبحانه عليه بعض آيات القرآن الفرقان الفارق بين نشأتى التلون والتمكن ليتقرر في مقر الكشف والشهود ويتمكن في مقعد الصدق والمقام المحمود فقال مناديا مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى بعموم أسمائه الحسنى الرَّحْمنِ على عموم مظاهره بافاضة الوجود والرزق الأوفى بمقتضى الكرم والجود الرَّحِيمِ لخواصهم بايصالهم الى الحوض المورود والمقام المحمود
[الآيات]
حم يا حافظ حدود الله ومراقب وحيه والهامه في عموم حالاتك وأوقاتك
وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ الذي هو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم
إِنَّا من مقام عظيم جودنا أَنْزَلْناهُ اى ابتدأنا انزاله إليك تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ كثيرة الخير والبركة هي ليلة القدر او البراءة وانما أنزلناه مشتملا على الاحكام والمواعظ والعبر والأمثال والقصص والتواريخ والرموز والإشارات المنبهة على المعارف والحقائق إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ مخوفين بانزال ما فيه من الأوامر والنواهي والوعيدات الهائلة على من انصرف عن جادة العدالة الإلهية وانحرف عن الصراط المستقيم وانما أنزلناه إليك في ليلتك هذه إذ
فِيها يُفْرَقُ يميز ويفصل عندك يا أكمل الرسل بعد ما تمكنت في مقر العز والتمكين كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ اى محكم صادر عن محض الحكمة المتقنة الإلهية ولهذا صار عموم ما ذكر في كتابك هذا
أَمْراً محكما مبرما نازلا مِنْ عِنْدِنا بمقتضى حضرة علمنا وكمال قدرتنا ووفور حكمتنا ليكون هداية لك وإرشادا لعموم عبادنا المتابعين لك المهتدين بهدايتك إِنَّا قد كُنَّا في عموم الأوقات والحالات مُرْسِلِينَ رسلا مبشرين ومنذرين ومنزلين عليهم كتبا مبينة مصلحة لأحوال عبادنا بعد ما أفسدوا على أنفسهم وصار ذلك الإرسال والإنزال
رَحْمَةً نازلة مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وسنة سنية بين عموم عباده حين ظهر الفساد فيهم وفشا الجدال فيما بينهم وبالجملة إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لمناجاة عباده نحوه بألسنة استعداداتهم وقابلياتهم الْعَلِيمُ بحاجاتهم ونياتهم فيها وكيف لا يرحمهم ولا يصلح أحوالهم مع انه سبحانه هو بذاته (5)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من الكوائن المركبة منهما يعنى مربى الكل ومظهره هو بالاستقلال والانفراد إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ اى من ارباب المعرفة واليقين فاعرفوه كذلك ووحدوه هكذا إذ
لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ بصرافة وحدته وتنزهه عن وصمة الشرك مطلقا هو يُحْيِي وَيُمِيتُ اى يظهر ويوجد عموم ما يوجد وكذا يعدم عموم ما يعدم بمد ظله اليه وقبضه عنه ارادة واختيارا وكيف لا وهو سبحانه رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ لا مربى لكم ولهم سواه وبالجملة لو تأمل عموم العباد في دلائل توحيده ونظروا في آيات ألوهيته وربوبيته لعرفوا يقينا وحدة ذاته
بَلْ هُمْ اى أكثرهم فِي شَكٍّ في غفلة وتردد يَلْعَبُونَ ويترددون في اودية الظنون والجهالات حسب آرائهم الفاسدة واهويتهم الباطلة بالنسبة اليه سبحانه
فَارْتَقِبْ يا أكمل الرسل وانتظر لهم مترقبا بإلمام البلاء عليهم بعد ما قد أصروا على كفرهم وشركهم واذكر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مظلم مُبِينٍ عظيم
يَغْشَى النَّاسَ اى يحيط بهم وينزل عليهم بحيث تيقنوا ان(2/307)
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
هذا عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مقطع قد ألم بهم فيتضرعون حينئذ نحو الحق صارخين قائلين
رَبَّنَا اكْشِفْ بفضلك وجودك عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا بعد ما كشفت عنا عذابنا مُؤْمِنُونَ موقنون بوحدانيتك مصدقون بكتابك ورسولك. وذلك ان قريشا لما بالغوا في الاستهزاء بالرسول والتهكم معه صلّى الله عليه وسلّم ومع ضعفاء المؤمنين دعا عليهم صلّى الله عليه وسلّم فقال اللهم اعنى عليهم بالسبع الشداد كسبع يوسف عليه السلام فأجاب الله دعاءه فاخذهم بالقحط فأكلوا الميتة والجيف وهلك كثير منهم فيغشاهم يومئذ دخان عظيم يسمع كل منهم كلام صاحبه ولا يراه من ظلمة الدخان فقالوا صارخين متضرعين هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب انا مؤمنون وقد كانوا عليه حتى جاء ابو سفيان الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال انك قد جئت بصلة الرحم وان قومك قد هلكوا من الجهد فدعا لهم فكشف الله عنهم جهدهم ومع ذلك لم يوفوا بعهدهم الذي عهدوا بعد الكشف لذلك رد الله عليهم بقوله
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى اى من اين يتأتى منهم التذكر والاتعاظ وَقَدْ جاءَهُمْ لتكميلهم وإرشادهم رَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الفضل والعظم أكمل من كل الرسل
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ مدبرين واعرضوا عن دعوته ودينه مصرين على ما هم عليه وَلم يقتصروا على مجرد التولي والاعراض بل قالُوا في شأنه صلّى الله عليه وسلّم كلا ما لا يليق بعلو مكانه حيث قال بعضهم انه مُعَلَّمٌ يعلمه بعض الأعجمين مع انه صلى الله عليه وسلم أمي وقال البعض الآخر انه مَجْنُونٌ مخبط مختل العقل يتكلم بكلام المجانين مع انه اعقل الناس وارشدهم. ثم قال سبحانه على سبيل الاخبار والتنبيه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما أخذ يدعو لهم بالكشف والتفريج
إِنَّا من مقام عظيم جودنا معك يا أكمل الرسل كاشِفُوا الْعَذابِ المحيط بهم بدعائك زمانا قَلِيلًا في دار الاختبار الا انهم لم يوفوا بعدهم الذي عهدوا معك لصرافتهم وانهماكهم في الكفر ثم خاطبهم سبحانه مخبرا إياهم بما سيصدر عنهم فقال إِنَّكُمْ وان كشفنا العذاب عنكم ايها الضالون المكذبون لأنتم عائِدُونَ راجعون الى كفركم وضلالكم غب الكشف والفرج مبادرون على ما قد كنتم عليه ونحن حينئذ منتقمون عنكم مجازون لكم بأسوء الجزاء وأشد العذاب والنكال اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى اى يوم نأخذهم وننتقم عن جرائمهم وآثامهم في يوم القيامة والطامة الكبرى كيف ينقذون أنفسهم من عذابنا الذي لا مرد له يومئذ وبالجملة إِنَّا مُنْتَقِمُونَ منهم البتة حينئذ على الوجه الأشد الأفظع. ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وتسكينا لقلبه عما أهمه وأحزنه من استهزاء قومه معه واستخفافهم عليه
وَكما امتحنا وجربنا قريشا بإرسالك إليهم مع انا نعلم منهم انهم لم يؤمنوا بك ولم يهتدوا بهدايتك أصلا بل اوقعناهم في فتنة عظيمة وبلية فظيعة لَقَدْ فَتَنَّا وامتحنا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كذلك بإرسال أخيك موسى الكليم إليهم وَقد جاءَهُمْ رَسُولٌ مرسل من لدنا كَرِيمٌ مكرم لدينا بأنواع الكرامات مؤيد من عندنا بالمعجزات الباهرة مبلغ لهم بمقتضى الوحى الإلهي قائلا لهم
أَنْ أَدُّوا اى بان أدوا إِلَيَّ حق الله وأرسلوا معى عِبادَ اللَّهِ بنى إسرائيل وبالجملة إِنِّي لَكُمْ من قبل ربي وربكم رَسُولٌ أَمِينٌ مأمون مصون عن الكذب والافتراء غير متهم به لدلالة ما عندي من المعجزات على صدقى في دعوى الرسالة
وَعليكم أَنْ لا تَعْلُوا ولا تكبروا عَلَى اللَّهِ وعلى قبول وحيه وتصديق رسوله في دعوته الى وحدته ولا تنكروا له ولا تكذبوه إِنِّي آتِيكُمْ(2/308)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ
حجة واضحة دالة على صدقى في دعواي
وَمع وضوح الحجة وسطوع البرهان ان تظهروا على بالعناد والمكابرة اتكالا على شوكتكم وكثرتكم فانا لا أبالي بكم وبشوكتكم واستيلائكم بل إِنِّي عُذْتُ يعنى قد التجأت انا وثقت بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ من أَنْ تَرْجُمُونِ وتضربوني بالحجارة او تشتموني باللسان
وَبالجملة إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي ولم تقبلوا منى قولي ودعوتي فَاعْتَزِلُونِ وابعدوا عنى لا علىّ ولا لي ولا لكم ولا عليكم وبعد ما قد كذبوه بل قصدوا مقته وقتله
فَدَعا رَبَّهُ وتضرع نحوه بقوله أَنَّ هؤُلاءِ المفسدين المسرفين قَوْمٌ مُجْرِمُونَ منهمكون في الغي والضلال لا ينفعهم نصحى ولا يؤثر فيهم قولي ودعوتي يا ربي وبعد ما ايس عن ايمانهم بل خاف عن مكرهم وطغيانهم قلنا له ان كان الأمر كذلك
فَأَسْرِ بِعِبادِي اى سر معهم لَيْلًا على سبيل الفرار منهم وبعد ما علموا خروجك إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ اى يتبعكم فرعون وجنوده ليلحقوا بكم ويستأصلوكم وبعد ما وصلتم الى البحر غدوة وهم على اثركم مدركون بكم فاضرب حينئذ بعصاك البحر فإذا انفلق من ضربك البحر وتفرق من كمال قدرتنا وهيبتنا فادخل أنت اصالة ومن معك تبعا لك بلا خشية وخوف من الغرق فاعبروا سالمين
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ بعد عبوركم رَهْواً ذا فجوة وانفلاق ولا تقصد الى اجتماعه ولا تدع بجمعه خوفا من عبورهم ولا تضربه بالعصاء ليجتمع كما ضربته بها لانفلاقه وبالجملة لا تخف من ضررهم واضرارهم إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ بعد دخولهم البتة فلا تخف منهم ومن ادراكهم ولا تحزن من اقتحامهم على الفور ففعل موسى عليه السلام كذلك فعبروا سالمين وترك البحر على هيئته فاقتحمه فرعون وجنوده بأجمعهم اغترارا بعبورهم وبافتراق البحر وانفلاقه فلما دخلوا جميعا مزدحمين اتصل البحر فغرقوا بالكلية وبعد ما هلكوا
كَمْ تَرَكُوا اى كثيرا تركوا مِنْ جَنَّاتٍ متنزهات بهية وَعُيُونٍ جاريات فيها
وَزُرُوعٍ كثيرة في حواليها وَمَقامٍ كَرِيمٍ اى محافل مزينة ومنازل حسنة في خلالها
وَنَعْمَةٍ وافرة اى اسباب تنعم وترفه من الامتعة والنسوان قد كانُوا فِيها اى في الجنات فاكِهِينَ متنعمين مترفهين
كَذلِكَ فعلنا معهم من كمال قدرتنا بعد ما أردنا إهلاكهم وانتقامهم بسبب تكذيبهم واستكبارهم على رسولنا وهكذا نفعل مع كل مكذب متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وَبعد ما تركوا الكل على ما كان وهلكوا قد أَوْرَثْناها اى تلك الجنات وما يتفرع عليها من المستلذات المتروكات قَوْماً آخَرِينَ لا قرابة بينهم نسبا ودينا وهم بنوا إسرائيل وبعد ما هلكوا واستؤصلوا
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ اى لم تبكيا ولم تعتدا بهلاكهم واستئصالهم مثل اعتدادهما لهلاك المؤمنين وفقدهم قال صلّى الله عليه وسلّم ما من عبد مؤمن الا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله فإذا مات فقداه وبكيا عليه وعن المرتضى الأكبر كرم الله وجهه إذا مات المؤمن بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء وَهم من غاية انهماكهم في الغي والضلال واستيحالهم بالمقت والهلاك ما كانُوا مُنْظَرِينَ ممهلين مؤخرين الى وقت آخر بل اخذتهم العزة باثمهم بحيث لا يمهلهم الله ولا يسوف عليهم ساعة
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ وهو استعبادهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم استذلالا بهم واستهانة عليهم وانما نجيناهم كرامة منا إياهم وامتنانا عليهم وكيف لا يهينهم العذاب النازل عليهم الناشئ
مِنْ فِرْعَوْنَ الطاغي المتجبر المتكبر على الأرض إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ عموم الْمُسْرِفِينَ المفسدين(2/309)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)
في الأرض متبالغا في العتو والعناد والغلبة على العباد أقصى الغاية
وَبالجملة لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ اى بنى إسرائيل واصطفيناهم من بين سائر الأمم المعاصرين معهم عَلى عِلْمٍ متعلق منا إياهم بأنهم أحقاء بالرياسة والسيادة وانواع الثروة والجاه عَلَى الْعالَمِينَ لكثرة ظهور الأنبياء والرسل فيهم ومنهم
وَبعد ما اخترناهم آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ العظام الدالة على كمال اختصاصهم بمزيد الشرف والكرامة ما فِيهِ بَلؤُا واختبار مُبِينٌ ظاهر نختبر به إخلاصهم ورسوخهم على الايمان. ثم لما أوضح سبحانه تفضيح حال المجرمين المكذبين لرسل الله قال
إِنَّ هؤُلاءِ المسرفين المكذبين لك يا أكمل الرسل يعنى قريشا خذلهم الله لَيَقُولُونَ من غاية انكارهم بقدرة الله وبما اخبر به الرسول ونطق به الكتاب من الأمور المتعلقة بالنشأة الآخرة
إِنْ هِيَ اى الموتة التي تعرض لنا إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى التي تطرأ علينا في دار الدنيا وتزيل حياتنا عنا وَبالجملة ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ مبعوثين من قبورنا احياء ثم نحشر للحساب والجزاء كما زعمتم ايها المفترون الكاذبون وان أردتم تصديقنا إياكم في هذه الدعوى
فَأْتُوا بِآبائِنا الذين قد انقرضوا وأسلافنا الذين مضوا احياء كما كانوا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم وبالجملة انما قالوا ما قالوا تهكما واستهزاء وبعد ما قد أصروا على عنادهم وبالغوا في انكارهم رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده بقوله مستفهما على سبيل التقريع والتوبيخ
أَهُمْ يعنى قريشا خذلهم الله خَيْرٌ مالا وجاها وثروة وسيادة أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ اسم لمن ملك الحمير ككسرى لملوك الفارس وقيصر لملوك الروم والمراد ابو كرب (5) سعيد بن منيل آمن بنبينا قبل مبعثه فتنحى عنه قومه معللين انك قد تركت ديننا وأرادوا مقته فاخذهم الله بجرمهم هذا فاهلكهم وَالَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الهالكة كعاد وثمود أَهْلَكْناهُمْ مع شدة قوتهم وبسطتهم وكثرة شوكتهم وبالجملة إِنَّهُمْ بأجمعهم قد كانُوا أقواما مُجْرِمِينَ بالجرائم العظام الموجبة للمقت والهلاك أمثال جرائمكم ايها المجرمون المسرفون
وَبالجملة ما خَلَقْنَا وأظهرنا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الممتزجات لاعِبِينَ عابثين بلا طائل بل
ما خَلَقْناهُما واظهرناهما على هذا النمط والنظام العجيب المشتمل على انواع التغيرات من الكائنات والفاسدات إِلَّا بِالْحَقِّ ليستدلوا بها على وحدة ذاتنا وكمال علمنا وقدرتنا ومتانة حكمتنا واستقلالنا في تدبيراتنا وتصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لقصور نظرهم عن ادراك الحكم والأسرار الإلهية لا يَعْلَمُونَ ولا يشعرون الا المحسوسات العادية وبالجملة ما أولئك الحمقى الهلكى القاصرون عن النظر والاستدلال القانعون باللذات الوهمية البهيمية من هذا النظام العجيب الا كالأنعام والهوام بل هم أضل سبيلا وأسوأ حالا منها اذكر لهم يا أكمل الرسل
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ الذي يمتاز فيه المحق عن المبطل والهادي المهتدى عن الضال المضل مِيقاتُهُمْ وموعد جزائهم وقطع خصوماتهم أَجْمَعِينَ فيجازى كل منهم حسب ما حوسب ان خيرا فخير وان شرا فشر واذكر ايضا
يَوْمَ لا يُغْنِي لا يدفع ولا يرفع مَوْلًى عَنْ مَوْلًى قرابة عن قرابة شَيْئاً من الإغناء والدفع مما كتب له من الجزاء ثوابا كان او عقابا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ اى لا ينصر بعضهم ببعض على سبيل المظاهرة والمعاونة
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ بمقتضى فضله وجوده او قبل شفاعة احد في حق احد عناية منه وعفوا إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم مراداته الرَّحِيمُ المشفق على عباده عند انابتهم ورجوعهم نحوه فانه يقبل توبتهم ويعفو زلتهم. ثم قال سبحانه
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ المعدة(2/310)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
لذوي الغفلة والضلال طَعامُ الْأَثِيمِ المنهمك في الجرائم والآثام ألا وهو ابو جهل اللعين ومن هو مثله في العتو والعناد وهي في الحرقة والبشاعة
كَالْمُهْلِ اى الذهب المذاب او دردى الزيت الأسود وهو من شدة حرقته وحرارته يَغْلِي فِي الْبُطُونِ
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ اى كالماء الحار إذا أشد غليانه في المرجل كيف هو وهو مثله يغلى في بطون اهل النار قال صلّى الله عليه وسلّم اتقوا الله حق تقاته ولو ان قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على اهل الدنيا معيشتهم ما داموا فيها فكيف حال من هو طعامه هي دائما ولم يكن له غذاء سواها. أعاذنا الله منها ومن أمثالها. وبالجملة هم مبتلون بهذا العذاب الى حيث قطع أمعاءهم ومع ذلك العذاب الهائل يقال من قبل الحق للزبانية الموكلين عليهم على الدوام
خُذُوهُ اى المسرف الأثيم فَاعْتِلُوهُ اى ادفعوه وسوقوه بشدة العنف والزجر المفرط إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ اى وسطه
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مثل ما في جوفه مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ليستغرقوا بالعذاب الشديد استغراقا تاما وقولوا له عند صبكم وتعذيبكم على وجه التهكم والتوبيخ
ذُقْ ايها المتجبر الطاغي طعم العذاب الهائل إِنَّكَ في نفسك وعلى مقتضى زعمك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ الغالب المقصور على الغلبة والكرامة بين اهل الوادي ثم قولوا لهم بعد تشديد العذاب عليهم تفظيعا لهم وتفضيحا
إِنَّ هذا العذاب والنكال الذي أنتم فيه الآن ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تمارون وتشكون في النشأة الاولى ثم ذكر سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه مقر المؤمنين المتقين ومنزلتهم في النشأة الاخرى فقال
إِنَّ الْمُتَّقِينَ المجتنبين عن محارم الله في عموم أوقاتهم وحالاتهم بعد ما انقرضوا عن نشأة الاختبار والابتلاء فِي مَقامٍ أَمِينٍ اى مقر مأمون مصون عن طريان التغير والانتقال محروس عن وصمة الغفلة والضلال وبالجملة متمكنون
جَنَّاتٍ
متنزهات العلم والعين والحق عُيُونٍ
جاريات من انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات اللدنية ومن كمال تلذذهم وترفههم باللذات الروحانية
يَلْبَسُونَ من البسة ارباب الكشف والشهود المترقين في مراقى درجات القرب والوصول مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ اى مما رق وغلظ من عروض المعارف والحقائق الى ان صاروا مُتَقابِلِينَ في المحبة متماثلين في الوجد والحضور
كَذلِكَ ينكشف لهم الأمر بعد انقراضهم عن نشأة الدنيا وعالم الحجاب وَمع ذلك القرب والوصول والوجد والحضور زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ مصورات من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية والخصائل السنية التي تأدبوا بها مع ربهم في النشأة الاولى
يَدْعُونَ اى يطالب بعضهم بعضا حين تمكنهم واستقرارهم فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ ملذة لأرواحهم وأشباحهم من الفواكه الحاصلة لهم من شجرة اليقين العلمي والعيني والحقي آمِنِينَ عن غوائل الشيطان وتسويلاته وتزييناته كما في النشأة الاولى وبالجملة هم احياء عند ربهم بحياته الازلية الابدية باقون ببقائه السرمدي بحيث
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ اى طعم مرارة الموت المعطل عن التلذذ باللذات اللدنية الروحانية إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى التي قد ذاقوها عند افتراقهم عن لوازم نشأة الإمكان وانقطاعهم عن مقتضيات عالم الناسوت وانفطامهم منها وَبالجملة بعد ما وصلوا الى فضاء الوجوب وحصلوا في عالم اللاهوت وَقاهُمْ وحفظهم ربهم عَذابَ الْجَحِيمِ اى من عذاب بقعة الإمكان ونشأة الناسوت والأركان وبالجملة انما اعطوا
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وامتنانا منه سبحانه عليهم بلا استحقاق منهم واستجلاب بطاعاتهم ذلِكَ الذي بشر الله به عباده المتقين هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم لا فوز أعظم منه(2/311)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
وأعلى
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ وسهلناه اى ما هو المذكور في القرآن من المعارف والحقائق والرموز والإشارات التي قد خلت عنها سائر الكتب بِلِسانِكَ وبيناه على لغتك لَعَلَّهُمْ اى العرب يَتَذَكَّرُونَ اى يفهمون ويتعظون بما فيه كي يتفطنوا الى كنوز رموزه وهم من شدة شكيمتهم وقساوتهم لم يؤمنوا بك ولم يصدقوا بكتابك فكيف الاتعاظ والتذكر بما فيه والتيقظ من أحكامه واسراره وبالجملة
فَارْتَقِبْ وانتظر أنت يا أكمل الرسل على ما سينزل عليهم من العذاب الموعود إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ايضا بما ينزل عليك من القهر والغضب على زعمهم الفاسد. جعلنا الله من زمرة المتذكرين الفائزين من عنده سبحانه بالفوز العظيم
خاتمة سورة الدخان
عليك ايها السالك المراقب المتعرض لنفحات الحق ونسمات لطفه المهبة من عالم قدسه في عموم احوالك ان تلازم بالتقوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته المنافية لآداب العبودية وتداوم على التخلق بالأخلاق المرضية الإلهية والاشتغال بالطاعات المقربة نحوه والاعراض عن الملاهي الملهية عن التوجه اليه لتكون من جملة المتقين المتعينين الفائزين من عنده سبحانه بالفوز العظيم واللطف العميم
[سورة الجاثية]
فاتحة سورة الجاثية
لا يخفى على ارباب العبرة المتحققين بمقتضيات الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها بالمعرفة واليقين ان المظاهر العلوية والسفلية من الآفاق والأنفس والغيب والشهادة انما ظهرت وبرزت من مكمن الغيب وعالم العماء ليستدل ويستشهد الوالهون المستغرقون بمطالعة جمال الله وجلاله من صحائف الكائنات وصفائح المكونات على شئون الحق وتطوراته لذلك نبه سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم مخاطبا على ذلك بعد ما تيمن باسمه الكريم فقال بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على ما ظهر بمقتضى حكمته الرَّحْمنِ على عموم بريته بسعة رحمته الرَّحِيمِ بخواصهم بمزيد عطيته التي هي إيصالهم الى ينبوع وحدته وفضاء صمديته
[الآيات]
حم يا حاوى الوحى والإلهام ويا مزيل الشبه الحادثة من اوهام ذوى الأحلام
تَنْزِيلُ الْكِتابِ الجامع لجميع مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم على الإطلاق مِنَ اللَّهِ المحيط بعموم الأنفس والآفاق الْعَزِيزِ المنيع ساحة عز حضوره عن ان يحيط به الإدراك الْحَكِيمِ المتقن في أفعاله بحيث لا يكتنه حكمته أصلا تنبهوا ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة في شمس الذات
إِنَّ فِي خلق السَّماواتِ ورفعها وتنظيمها مطبقة وَفي خفض الْأَرْضِ وبسطها ممهدة لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على كمال قدرة الصانع الحكيم ومتانة حكمته وعموم تدبيراته لِلْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدة الحق وكمالات أسمائه وصفاته هذا في خلق الآفاق
وَفِي خَلْقِكُمْ خاصة اى في خلق انفسكم وايجادكم من كتم العدم وَكذا في خلق ما يَبُثُّ ينتشر ويتفرق على الأرض مِنْ دابَّةٍ مركبة من العناصر متحركة على وجه الأرض من انواع الحيوانات والحشرات وأصنافها آياتٌ دلائل وشواهد واضحات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وحدة الحق وينكشفون بشئونه وتجلياته التي لا تعد ولا تحصى
وَكذا في اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وايلاجهما(2/312)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
وازديادهما وانتقاصهما في الفصول الاربعة حسب الأوضاع الفلكية وأشكالها وبحسب ارتفاع الشمس وانحطاطها وَكذا في ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده مِنَ جانب السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ مطر مبشر مؤذن لحصول الرزق بعد تصعيد الابخرة والادخنة وتراكمها سحبا وصيرورتها ماء في غاية الصفاء فَأَحْيا بِهِ اى بانزال المطر الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها وجفافها وَكذا في تَصْرِيفِ الرِّياحِ السائقة للسحب الى الأراضي الميتة اليابسة بعد ما تعلق ارادته سبحانه باحيائها آياتٌ اى انواع من الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة على وحدة القادر العليم الحكيم لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستعملون عقولهم في كيفية انبعاث هذه الأوضاع والحركات وارتباط بعضها مع بعض وترتب الأمور الغير المحصورة عليها وانشعاب الحوادث الغير المتناهية منها وتفرعها عليها وبالجملة
تِلْكَ الآيات المجملة الكلية آياتُ اللَّهِ اى بعض من آياته الدالة على نبذ من كمالاته اللائقة لذاته سبحانه والا فلا يفي درك احد من عباده لتفصيل كمالاته كلها نَتْلُوها ونقصها عَلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك ملتبسة بِالْحَقِّ بلا ريب فيه وتردد وانما نتلوها عليك يا أكمل الرسل لتبين أنت لمن تبعك من المؤمنين الموحدين طريق توحيدنا وتنبههم على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ اى فهم بأى كلام وقول بَعْدَ نزول كتاب اللَّهِ وَآياتِهِ المنزلة من عنده المبينة لتوحيده يُؤْمِنُونَ يذعنون ويوقنون وبعد ما قد وضح محجة الحق واتضح دلائل توحيده
وَيْلٌ عظيم وهلاك شديد لِكُلِّ أَفَّاكٍ مفتر كذاب أَثِيمٍ منغمس في الإثم والعدوان مغمور في العناد والطغيان الى حيث
يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ الدالة على عظمة ذاته حين تُتْلى عَلَيْهِ سيما مع كمال وضوحها وسطوعها ثُمَّ يُصِرُّ يقوم ويدوم على ما هو عليه من الكفر والضلال مُسْتَكْبِراً بلا علة وسند سوى العناد والاستكبار ويصر من شدة عتوه وعناده حين يسمعها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها اغترارا بما عنده من الجاه والثروة وبالجملة فَبَشِّرْهُ يا أكمل الرسل جزاء إصراره وعناده بِعَذابٍ أَلِيمٍ في غاية الإيلام ألا وهو انحطاطه عن رتبة الخلافة الانسانية إذ لا عذاب عند العارف أشد من ذلك
وَمن نهاية استكباره واغتراره إِذا عَلِمَ بعد ما بلغ مِنْ آياتِنا الدالة على ضبط الظواهر وتهذيب البواطن شَيْئاً اى آية قد اتَّخَذَها وأخذها من غاية تكبره وتجبره هُزُواً محل استهزاء وسخرية يستهزئ بها ويتهكم عليها أُولئِكَ البعداء الأفاكون الضالون المنحرفون عن منهج الحق وصراطه لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ في الدنيا بإعلاء كلمة الحق واظهار دين الإسلام على الأديان كلها وإغواء الكفر والكفران في مهاوي الهوان ومفاوز الخزي والخسران ومع تلك الاهانة العاجلة
مِنْ وَرائِهِمْ اى قدامهم جَهَنَّمُ العبد والخذلان وسعير الطرد والحرمان وَبالجملة لا يُغْنِي ولا يدفع عَنْهُمْ يومئذ ما كَسَبُوا وجمعوا من الأموال والأولاد والجاه والثروة شَيْئاً من الدفع والإغناء من غضب الله عليهم وَكذا لا ينفعهم مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية المتفرد بالربوبية أَوْلِياءَ من الأصنام والأوثان يدعون ولايتهم كولاية الله ويعبدونهم كعبادته سبحانه عدوانا وظلما بل وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بشؤم اتخاذهم لا عذاب أعظم منه وبالجملة
هذا الذي ذكر في كتابك يا أكمل الرسل هُدىً من الله يبين طريق الهداية والرشد لأهل العناية والتوفيق وَالمسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة في كتابك(2/313)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
هذا والتي نزلت في الكتب السالفة لَهُمْ عَذابٌ نازل ناش مِنْ رِجْزٍ وغضب عظيم من الله المقتدر على انواع الانتقام أَلِيمٌ مؤلم أشد إيلام وكيف تكفرون ايها الجاحدون المسرفون بآيات المنعم المفضل الكريم مع انه سبحانه
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ وسهل عليكم العبور عنه حيث جعله أملس مستوى السطح ساكنا على هيئته لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ اى بمقتضى حكمه وحكمته وتسخيره وَأنتم تركبون عليها لِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والصيد والغوص وغير ذلك من الأغراض وَانما سخر وسهل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه وتواظبون على أداء حقوق كرمه
وَبالجملة قد سَخَّرَ لَكُمْ وهيأ لتربيتكم وتدبير معاشكم مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إذ أنتم زبدة الكائنات وخلاصة الموجودات كل ذلك منتشى مِنْهُ سبحانه مستند اليه أولا وبالذات فعليكم ان لا تسندوه الى الوسائل والأسباب العادية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في تتابع آلاء الله وترادف نعمائه وكيفية ظهور العالم منه سبحانه وصدوره عنه وارتباطه له واستمداده منه على الدوام. ثم قال سبحانه على سبيل العظة
قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا لِلَّذِينَ آمَنُوا تذكرة للمؤمنين وتهذيبا لأخلاقهم اغفروا واصفحوا واعفوا ايها المؤمنون الموقنون عن عموم الأنام سيما عن المسيئين منهم ليكون العفو والغفران ديدنة راسخة في نفوسكم حتى يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ اى للكافرين المسرفين المفرطين الذين لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ اى لا يأملون ولا يخطر ببالهم انعكاس الدول وتقلبها عليهم اغترارا بما عندهم من الثروة والجاه. وانما امر سبحانه المؤمنين بالصفح والعفو عن المسيئ لِيَجْزِيَ سبحانه جزاء حسنا قَوْماً من المتخلقين بالعفو عند القدرة وكظم الغيظ عند الغضب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الإحسان بدل الإساءة لان
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ اى يعود نفعه اليه وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وبال إساءته ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ جميعا يحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم بمقتضاها لكن ما أخذ الله سبحانه عباده الا بعد ان يرسل عليهم رسلا مبشرين ومنذرين وينزل عليهم كتبا مبينة لهم طريق الهداية والرشد فان اهتدوا فقد فازوا بصلاح الدارين وان اعتدوا فقد ضلوا عن سواء السبيل واستحقوا بالعذاب الأليم كما اخبر سبحانه حكاية عن ضلال بنى إسرائيل وانحرافهم عن سواء السبيل
وَلَقَدْ آتَيْنا حسب فضلنا وجودنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ اى التوراة المبينة لهم طريق الهداية والرشد وَالْحُكْمَ اى الحكمة المنبئة عن العدالة الإلهية في قطع الخصومات وَالنُّبُوَّةَ إذ اكثر الأنبياء بعث منهم وأرسل إليهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى الرزق الصوري والمعنوي وَبالجملة قد فَضَّلْناهُمْ بافاضة النعم الجليلة عليهم عَلَى الْعالَمِينَ من اهل عصرهم
وَمع ذلك قد آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ دلائل مبينات موضحات لهم مِنَ الْأَمْرِ المعهود الموعود يعنى التوحيد الذاتي الذي أنت يا أكمل الرسل بعثت عليه وعلى تبيينه وبالجملة فَمَا اخْتَلَفُوا في شأنك إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ والدليل القطعي في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم بانك وكتابك ودينك يا أكمل الرسل بأحق على الحق لتبيين الحق وبالجملة ما أنكروا ذلك الا بَغْياً وطغيانا وعدوانا ناشئا بَيْنَهُمْ حسدا وغيظا عليك بلا مستند عقلي او نقلي فاصبر يا أكمل الرسل على مضضهم وغيظهم إِنَّ رَبَّكَ الذي اصطفاك بكرامته واجتباك لرسالته يَقْضِي ويحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعنى في شأنك ودينك وكتابك سيما بعد ما عرفوا صدقك وحقية كتابك(2/314)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
بالدلائل العقلية والنقلية بأنواع المؤاخذة والمجازاة وبأصناف العقاب والعقبات
ثُمَّ اعلم يا أكمل الرسل انا من مقام فضلنا وجودنا معك قد جَعَلْناكَ تابعا مقتديا مقتفيا عَلى شَرِيعَةٍ وطريقة منبئة موضحة مِنَ الْأَمْرِ والشأن الذي أنت تظهر عليه وأتيت لتبيينه ألا وهي الحقيقة المتحدة التي هي عبارة عن الوحدة الذاتية الإلهية والهوية الشخصية السارية في عموم المكونات فَاتَّبِعْها اى تلك الشريعة الموصلة الى الحقيقة بالعزيمة الخالصة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ القوم الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ولا يؤمنون بها فكيف ينكشفون بسرائرها وحكمها ولا تقبل منهم أباطيلهم الناشئة من آرائهم الفاسدة وأحلامهم السخيفة الكاسدة وبالجملة
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا ولن يدفعوا عَنْكَ مِنَ غضب اللَّهِ شَيْئاً ان تعلقت مشيته بمقتك وطردك بسبب موالاتهم ومتابعتهم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية المنحرفين عن جادة العدالة الفطرية بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لكمال مناسبتهم وموالاتهم إذ الجنسية علة التضام وعلقة الالتيام بينهما فعليك الاعراض والانصراف عنهم وعن موالاتهم وَاللَّهُ المطلع على عموم ما في ضمائر عباده وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله ويوالون اولياء الله لله وفي الله
هذا الذي ذكر في كتابك من الأخلاق المرضية المنبهة على القسط الحقيقي والعدل الإلهي بَصائِرُ لِلنَّاسِ يبصرهم طريق الهداية والرشد ويوصلهم الى التوحيد الذاتي ان استقاموا عليها بالعزيمة الصادقة الصحيحة الصافية عن كدر الرياء والرعونات وَهُدىً يهديهم الى سواء السبيل وَرَحْمَةٌ نازلة من قبل الحق لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ويوفقون على الايمان والإيقان والكشف والعيان. ثم قال سبحانه
أَمْ حَسِبَ
الغافلون الضالون المسرفون الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
واكتسبوا طول عمرهم السَّيِّئاتِ
المبعدة لهم عن طريق الحق وسبيل الهداية والرشد أَنْ نَجْعَلَهُمْ
ونصيرهم بعد ما رجعوا إلينا كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
المقربة لهم الى الحق وتوحيده اى مثلهم بلا مزية لهم عليهم بل ظنوا انهم هم (3) سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
يعنى حياة المشركين ومماتهم عندنا كحياة الموحدين المخلصين ومماتهم ايضا كذلك كلا وحاشا ساءَ ما يَحْكُمُونَ
اى حكمهم هذا وما حكموا به لأنفسهم أولئك الجاحدون الجاهلون
وَكيف يحكم المتقن في عموم أحكامه وأفعاله بمساواة المطيع والعاصي مع انه قد خَلَقَ اللَّهُ المستوي بالعدل القويم على عروش عموم المظاهر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ملتبسة بِالْحَقِّ اى بالعدالة الصورية المنبئة عن العدالة المعنوية الحقيقية الحقية وَانما خلقها كذلك لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من خير وشر بعد ما امر الحق بما امر ونهى بما نهى وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ في أجور أعمالهم وجزائها لا زيادة ولا نقصانا الا تفضلا وإحسانا في جزاء المحسنين
أَفَرَأَيْتَ وأبصرت متعجبا ايها المعتبر الرائي الى مَنِ اتَّخَذَ اى الى الجاحد المسرف والجاهل المعاند الذي قد أخذ واتخذ إِلهَهُ هَواهُ اى ما يهواه وكيف أطاع الى ما يتمناه وعبد الى ما يحبه ويرضاه ولم يفوض امره الى مولاه بل نبذه الى ما وراه واتبع هواه وَما ذلك الا انه قد أَضَلَّهُ اللَّهُ العليم الحكيم باسمه المذل المضل مع انه أظهره سبحانه عَلى عِلْمٍ اى صوره بصورة ذي علم وجبله على فطرة اى معرفة وتوحيد وَمع إظهاره وخلقه كذلك قد خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ لئلا يسمع كلمة الحق من اهله وَقد ختم ايضا على قَلْبِهِ لئلا يتفكر في آيات الله ودلائل توحيده وَقد جَعَلَ ايضا عَلى(2/315)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
بَصَرِهِ غِشاوَةً
غليظة وغطاء كثيفا لئلا يعتبر من عجائب مصنوعاته سبحانه وغرائب مخترعاته وبعد خلقه سبحانه كذلك فَمَنْ يَهْدِيهِ ويرشده اى ينقذه من الضلال ويهديه الى فضاء الوصال مِنْ بَعْدِ إضلال اللَّهُ إياه واذلاله أَفَلا تَذَكَّرُونَ وتتعظون من تبدل أحواله ايها العقلاء المجبولون على فطرة العبرة وفطنة العظة والتذكرة
وَمن غاية غوايتهم وضلالهم عن مقتضى كمال قدرة الله وعدم تنبههم وتفطنهم بوحدة ذاته وبكمالات أسمائه وصفاته واستقلاله في تدبيراته وتصرفاته قالُوا منكرين للحشر والنشر ما هِيَ اى ما الحال والحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن نَمُوتُ وَنَحْيا فيها لا منزل لنا سواها ولا مرجع لنا غيرها وَبالجملة ما يُهْلِكُنا وما يميتنا ويعدمنا فيها إِلَّا الدَّهْرُ اى مر الزمان وكر الدهور والأعوام لا فاعل لنا سواه ولا متصرف فينا غيره وَالحال انه ما لَهُمْ بِذلِكَ الذي صدر عنهم مِنْ عِلْمٍ عقلي او نقلي او كشفى بل إِنْ هُمْ اى ما هم باعتقادهم هذا إِلَّا يَظُنُّونَ ظنا على وجه التقليد والتخمين بلا سند لهم يستندون اليه سوى الالف بالمحسوسات والتقليد بالرسوم والعادات
وَمن نهاية جهلهم وغفلتهم عن الله ومقتضى ألوهيته وربوبيته إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على كمال تربيتنا إياهم مع كونها بَيِّناتٍ مبينات لهم طريق الهداية والرشد ومنبهات على ميعاد المعاد ما كانَ حُجَّتَهُمْ ودليلهم حين سمعوها إِلَّا أَنْ قالُوا على سبيل الإنكار والاستبعاد ائْتُوا بِآبائِنا وأسلافنا الذين مضوا وانقرضوا احياء كما كانوا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
في دعوى الحشر والنشر والمعاد الجسماني والروحاني وبعد ما اعرضوا عن الحق وانصرفوا عن الآيات البينات مكابرة وعنادا وتشبثوا بأذيال أمثال هذه الحجج الواهية والتخمينات الغير الوافية
قُلِ لهم يا أكمل الرسل كلاما يحرك سلسلة حميتهم الفطرية ومحبتهم الجبلية لو ساعدهم التوفيق والعناية من لدنا اللَّهُ المظهر للكل المحيط به المتصرف فيه على الإطلاق بالاختيار والاستحقاق يُحْيِيكُمْ ويبعثكم في النشأة الاخرى كما أوجدكم وأظهركم من كتم العدم أولا في النشأة الاولى بمد ظله ورش نوره عليكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ويعدمكم بقبضه عنكم ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ مع من انقرض منكم ومن آبائكم واسلافكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الذي لا رَيْبَ فِيهِ وفي وقوعه ووقوع ما فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الكفران والنسيان لا يَعْلَمُونَ وقوعه وقيامه بل يكذبونه وينكرون عليه لاعتيادهم بالأمور الحسية وقصورهم عن مدركات الكشف والشهود
وَكيف ينكرون جمع الله عباده في النشأة الاخرى أولئك المكابرون المعاندون إذ لِلَّهِ المتوحد بالالوهية والربوبية مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وناسوتهما وملكوتهما وجبروتهما ولاهوتهما جميعا وله التصرف المطلق في عموم مظاهره ومجاليه مطلقا بكمال الاستحقاق والاستقلال ارادة واختيارا وَبالجملة يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ المعدة للحشر والجزاء يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ المنكرون حين يشاهدون أرباح المحقين المؤمنين بقيام الساعة وبحقية جميع ما فيها من الوعد والوعيد
وَتَرى ايها المعتبر الرائي حين تقوم الساعة ويحشر الناس الى المحشر للحساب كُلَّ أُمَّةٍ من الأمم جاثِيَةً مجتمعة مستوحشة باركة على الركب جالسة على رؤس الأصابع من شدة دهشتهم وخوفهم كُلَّ أُمَّةٍ اى كل فرد من افراد الأمم تُدْعى إِلى كِتابِهَا بين يدي الله اى صحيفة أعمالهم التي قد كتب فيها عموم أحوالهم وأفعالهم الكائنة الحاصلة منهم الجارية في النشأة الاولى فيقال لهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ كل منكم ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(2/316)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
في نشأتكم الاولى ان خيرا فخير وان شرا فشر وبالجملة
هذا كِتابُنا الذي قد فصلنا فيه أعمالكم على حدة بلا فوت شيء منها يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ ويذكركم بِالْحَقِّ على الوجه الذي صدر عنكم بلا زيادة ونقصان إِنَّا بعد ما كلفناكم على امتثال أوامرنا والاجتناب عن نواهينا قد كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ونأمر الملائكة الموكلين عليكم المراقبين لأحوالكم وأعمالكم ان يكتبوا عموم ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على التفصيل حسناتها وسيئاتها صغائرها وكبائرها على وجوهها وبعد ما تحاسبون حسب صحائفكم وكتبكم
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا اى قد أذعنوا وأيقنوا بوحدة الحق وصدقوا رسله وكتبه وَمع كمال ايمانهم ويقينهم قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأخلاق والأفعال تقربا الى الله وتأدبا معه سبحانه بما يليق بعبوديته وتعظيم شأنه فَيُدْخِلُهُمْ اليوم رَبُّهُمْ الذي يوفقهم على الايمان والتوحيد فِي سعة رَحْمَتِهِ وفسحة وحدته بفضله ولطفه ذلِكَ الذي بشر به سبحانه عباده المؤمنين المخلصين هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ والفضل العظيم لا فوز أعظم منه وأعلى
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا وحدة ذاته بل اثبتوا له شركاء ظلما وزورا يقال حينئذ من قبل الحق مستفهما على سبيل التوبيخ والتقريع أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ايها المفسدون المسرفون المفرطون يعنى ألم يأتكم رسلي ولم يتلوا عليكم آياتي الدالة على عظمة ذاتى وكمالات أسمائي وصفاتي ووفور قدرتي وقوتي على انواع الانتقامات والوعيدات التي أخبرتم بها فكذبتم بها وبهم جميعا بل فَاسْتَكْبَرْتُمْ علىّ وعلى رسلي ومن قبول الآيات وتصديقها وَبالجملة قد كُنْتُمْ أنتم في انفسكم قَوْماً مُجْرِمِينَ مستكبرين ليس عادتكم الا الاجرام والعدوان
وَقد كنتم أنتم من نهاية استكباركم واغتراركم بما عندكم من الجاه والثروة إِذا قِيلَ لكم امحاضا للنصح إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعدكم به على ألسنة رسله وكتبه حَقٌّ ثابت محقق مطابق للواقع لا بد وان يقع الموعود منه سبحانه البتة بلا خلف في وعده وَلا سيما السَّاعَةُ الموعودة آتية لا رَيْبَ فِيها وفي قيامها ووقوعها وأنتم إذا سمعتم هذا قُلْتُمْ على وجه الاستبعاد والاستكبار وانواع الكبر والخيلاء ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ الموعودة وما معنى قيامها ووقوعها وما الايمان بها إِنْ نَظُنُّ اى ما نظن بها وبشأنها إِلَّا ظَنًّا ضعيفا بل وهما مرجوحا سخيفا وما لنا علم بها سوى السماع والاستماع من أفواه الناس وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ بها وبشأنها حتى نؤمن بها وبقيامها ونصدق بما فيها من المواعيد والوعيدات
وَبالجملة قد بَدا لَهُمْ وظهر ولاح وانكشف عندهم بعد ما تبلى السرائر وتكشف الحجب والأستار سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا مصرين عليه وعرفوا وخامة عاقبته وَحينئذ قد حاقَ وأحاط بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ على رسل الله وخلص عباده
وَقِيلَ لهم حينئذ من قبل الحق الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في النار خالدين مخلدين كَما كنتم أنتم قد نَسِيتُمْ ونبذتم وراء ظهوركم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا بل قد انكرتم لقياه مطلقا وكذبتم الرسل المبلغين لكم وأحباركم المنذرين لكم من أهواله وَبالجملة مَأْواكُمُ مرجعكم ومثواكم النَّارُ أبدا مخلدا لا منزل لكم سواها ولا مقام لكم غيرها وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ منقذين لكم منها بعد ما استوجبتم بها بمفاسد أعمالكم ومقابح أفعالكم وبالجملة
ذلِكُمْ الذي قد وقعتم فيها وابتليتم بها بِأَنَّكُمُ اى بسبب انكم قد اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ الدالة على الرشد والهداية هُزُواً محل استهزاء واستهزأتم بها بلا مبالاة بشأنها وانكرتم عليها بلا تأمل(2/317)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
وتفكر في برهانها وَبالجملة ما سبب استهزائكم وعدم مبالاتكم بها الا انه قد غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ولذاتها وشهواتها الوهمية الفانية الدنية بحيث لا تلتفتون الى العقبى ولذاتها الباقية الابدية بل تنكرون عليها عنادا ومكابرة فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها اى من النار المترتبة على ذلك الاتخاذ والغرور أصلا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ اى لا يمكنهم ان يعتذروا عند الله ويتداركوا ما فوتوا على أنفسهم بالتوبة والانابة إذ قد انقرض ومضى زمانه وبعد ان ثبت ان مرجع الكل الى الله ومحياه ومماته بيده وله ان يثيب ويعاقب عباده بمقتضى فضله وعدله
فَلِلَّهِ على سبيل الاختصاص والتمليك لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية الْحَمْدُ المستوعب بجميع الاثنية والمحامد الصادرة من ألسنة ذرائر مظاهره رَبِّ السَّماواتِ اى العلويات وَرَبِّ الْأَرْضِ اى السفليات وكذا رب ما يتركب بينهما من الممتزجات وبالجملة رَبِّ الْعالَمِينَ اى مربى الكل هو بذاته علوا وسفلا بسيطا ومركبا غيبا وشهادة
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ والعظمة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تدبيرا وتصرفا حلا وعقدا إذ ظهور الكل انما هو من آثار أوصافه وأسمائه وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على عموم تدابيره وتقاديره وتصاريفه وتصاويره ارادة واختيارا الْحَكِيمُ المتقن في عموم مقدوراته على الوجه الأبلغ الأحكم استحقاقا واستقلالا فعليكم ايها المجبولون على فطرة العبودية والعرفان ان تحمدوا له وتكبروا ذاته وتشكروا نعمه كي تؤدوا شيأ من حقوق كرمه ان كنتم مخلصين مخصصين. جعلنا الله من زمرة الحامدين لله المخلصين له الدين
خاتمة سورة الجاثية
عليك ايها السالك المتحقق بمقام الرضاء والتسليم والناسك المنكشف بكمال عظمة الله وكبريائه وبعلو شأنه وبهائه ان تواظب على أداء الشكر له سبحانه دائما ملاحظا نعمه الفائضة المترادفة المتجددة في قيد هويتك وانانيتك الناسوتية قبل فنائك في لاهوتية الحق وبقائك ببقائه إذ علامة العارف الواصل الى ينبوع بحر الوحدة ان لا يرى في ملكة الوجود وعرصة الشهود سواه سبحانه موجودا فلا يتكلم الا به وعنه ومعه وفيه وله ولا يسرى الا نحوه واليه ولا اله الا هو ولا نعبد الا إياه
[سورة الأحقاف]
فاتحة سورة الأحقاف
لا يخفى على من انكشف بسلطنة الحق واستيلائه التام على عروش عموم مظاهره ان اثبات الوجود لما سواه سبحانه وادعاء التحقق والثبوت لغيره من الاظلال الهالكة في شمس ذاته انما هو زور ظاهر وقول باطل بلا طائل بل ما ظهر ما ظهر الا من انعكاس اشعة أسمائه وآثار أوصافه الذاتية الصادرة منه سبحانه حسب شئونه وتجلياته الحبية ليستدل به من جبل على فطرة الدراية والشعور على وحدة ذاته وكمال أسمائه وصفاته لذلك خاطب سبحانه حبيبه بما خاطبه به وأوصاه بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المنزل للكلم مفصحا عما عليه قضاؤه وارادته الرَّحْمنِ لعموم عباده يصلح أحوالهم على مقتضى حكمته الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى منبع رحمته وفضاء وحدته
[الآيات]
حم يا من حمل أعباء الرسالة بحولنا وقوتنا ومال الى جناب قدس وحدتنا بالميل الذاتي الحقيقي بعد مساعدة توفيقنا وجذب من لدنا
تَنْزِيلُ الْكِتابِ الذي انزل إليك لتأييد أمرك وضبط شرعك ودينك مِنَ اللَّهِ المطلع بعموم ما في استعدادات عباده الْعَزِيزِ الغالب على جميع ما دخل(2/318)
مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
في حيطة قدرته وارادته الْحَكِيمِ المتقن في مطلق تدابيره الصادرة منه بضبط مصالح عباده ثم التفت سبحانه تهويلا وتفخيما لحكمه فقال
ما خَلَقْنَا وأظهرنا من كتم العدم السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات الذاتية وَالْأَرْضَ اى عالم الاستعدادات القابلة لانعكاس اشعة أنوار الذات الفائضة عليها حسب الشئون والتطورات الجمالية والجلالية وَكذا ما بَيْنَهُما من الآثار المتراكمة المتكونة من امتزاج آثار الفواعل والمؤثرات الاسمائية مع المتأثرات الناشئة من قوابل المسميات والهيولى إِلَّا بِالْحَقِّ اى خلقا ملتبسا بالحق المطابق للواقع وَقدرنا بقاء ظهورها الى أَجَلٍ مُسَمًّى اى وقت مقدر من لدنا محفوظ في خزانة حضرة علمنا ولوح قضائنا لا نطلع أحدا عليه فإذا جاء الأجل المسمى انعدم الكل بلا تخلل تقدم وتأخر وَالَّذِينَ كَفَرُوا وأنكروا كمال قدرتنا على إيجاد الأشياء وإعدامها وابدائها وإعادتها عَمَّا أُنْذِرُوا من اهوال يوم القيامة المعدة لانعدام الكل وانقهار الاظلال الهالكة في شروق شمس الذات مُعْرِضُونَ منصرفون لذلك لا يتزودون له ولا يهيئون أسبابه ولا يستعدون بحلوله
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما افرطوا في الاعراض عن الله وعن توحيده واثبتوا له شركاء ظلما وزورا مستفهما على سبيل الإلزام والتبكيت أَرَأَيْتُمْ أخبروني ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وتتخذونهم آلهة سواه وتعتقدونهم شركاء معه سبحانه في الأرض أَرُونِي وبصرونى ماذا خَلَقُوا وأى شيء اوجدوا وأظهروا مِنَ الْأَرْضِ حتى اتصفوا بالخالقية واستحقوا بالمعبودية والربوبية وايضا أخبروني هل تنحصر شركتهم مع الله بعالم العناصر والمسببات أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ ايضا فِي السَّماواتِ وعالم الأسباب والمؤثرات وبالجملة ائْتُونِي بِكِتابٍ نازل مِنْ قَبْلِ هذا القرآن الفرقان قد أمرتم فيه باتخاذ هؤلاء الهلكى آلهة سوى الله مستحقة بالعبادة أَوْ أَثارَةٍ يعنى ائتوني ببقية مِنْ عِلْمٍ دليل عقلي او نقلي قد بقي لكم من اسلافكم يدل على إيثارهم واختيارهم آلهة شركاء معه سبحانه في ألوهيته وبالجملة ائتوني بسند صحيح إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الشركة مع الله المنزه عن التعدد مطلقا
وَبالجملة مَنْ أَضَلُّ طريقا وأسوأ حالا وأشد سفها وحماقة مِمَّنْ يَدْعُوا ويعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ السميع العليم البصير الحكيم القدير الخبير المستقل في تصرفاته بالإرادة والاختيار مَنْ لا يَسْتَجِيبُ اى أصناما وأوثانا لا تسمع دعاءه ولا تجيب لَهُ ولا تعلم حاله ولا تدبر امره وان دعاه وتضرع نحوه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ اى ابدا ما دامت الدنيا بل وَهُمْ اى معبوداتهم الباطلة عَنْ دُعائِهِمْ وتضرع عابديهم نحوهم غافِلُونَ ذاهلون لا شعور لهم حتى يفهموا ويجيبوا
وَهم قد عبدوهم معتقدين نفعهم ولم يعلموا انهم إِذا حُشِرَ النَّاسُ واجتمعوا في المحشر للحساب والجزاء كانُوا لَهُمْ أَعْداءً اى المعبودون للعابدين بل وَكانُوا اى المعبودون بِعِبادَتِهِمْ اى العابدين لهم كافِرِينَ منكرين جاحدين
وَبالجملة هم قد كانوا من شدة غيهم وضلالهم عنا وعن توحيدنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا مع كونها بَيِّناتٍ واضحات مبينات لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ الصريح الصحيح البين لَمَّا جاءَهُمْ اى حين جاءهم ليهديهم ويبين لهم طريق الحق وتوحيده هذا المتلو ما هو الا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر كونه سحرا باطلا وما هذا التالي له الا ساحر عظيم انما قالوا هكذا ونسبوا القرآن لما نسبوا لعجزهم عن إتيان مثله مع انهم من ارباب اللسن(2/319)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
ووفور دواعيهم لمعارضته
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بل انصرفوا عن نسبته الى السحر الى افحش من ذلك وهو الافتراء فيقولون في حقه قد اختلقه هذا المدعى من تلقاء نفسه ونسبه الى ربه تغريرا وترويجا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما نسبوا كتابك الى الفرية كلاما مفصحا لهم عن حقيقة الأمر وحقيته لو تأملوا فيه إِنِ افْتَرَيْتُهُ واختلقته انا من عندي ونسبته الى الله زورا وبهتانا فيأخذنى رب العزة بالإثم والافتراء البتة وان أخذني فَلا تَمْلِكُونَ ولا تدفعون لِي مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً حين أخذني وانتقم منى وبالجملة هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بعلمه بِما تُفِيضُونَ وتخوضون أنتم فِيهِ اى في كتابه بما لا يليق به وبشأنه من نسبته الى السحر والافتراء وتكذيبه بأنواع وجوه المراء كَفى بِهِ اى كفى الله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ اى بيننا يجازينا على مقتضى علمه وخبرته بي وبكم وَهُوَ الْغَفُورُ المبالغ في الستر والعفو لمن استغفر له الرَّحِيمُ لمن تاب ورجع نحوه نادما عما صدر عنه يقبل توبته ويمحو زلته
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اقترحوا عليك من الآيات التي تهواها نفوسهم ليلزموك ويعجزوك ما كُنْتُ بِدْعاً اى رسولا بديعا مبتدءا مِنَ بين الرُّسُلِ مبتدعا امرا يديعا غريبا مدعيا الإتيان بعموم المقترحات بل وَالله ما أَدْرِي وما اعلم من حال نفسي ما يُفْعَلُ بِي وكيف يصنع معى وَلا بِكُمْ اى وكيف يصنع بكم إِنْ أَتَّبِعُ اى ما اتبع إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من قبل ربي ويطلعني عليه وَبالجملة ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من قبل الحق مُبِينٌ مبين موضح مظهر لكم باذنه ما اوحى الى من وحيه وما على الا التبليغ والإنذار والتوفيق من الله العليم الحكيم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما أقر رأيهم على ان القرآن مختلق من عندك قد افتريته أنت على الله وسحر نسبته أنت اليه سبحانه تغريرا وترويجا أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العليم العلام وَكَفَرْتُمْ بِهِ أنتم بلا مستند لكم في تكذيبه وإنكاره وَالحال قد شَهِدَ شاهِدٌ حبر ماهر مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عالم بالتوراة عَلى مِثْلِهِ اى مثل ما في القرآن أقر واعترف عبد الله بن سلام انه قد قرأ في التوراة أوامر واحكاما مثل ما في القرآن ووجد ايضا فيها من أوصاف القرآن ما يلجئه الى الايمان به فَآمَنَ به وصدق من انزل اليه وامتثل بما فيه وَقد اسْتَكْبَرْتُمْ أنتم عن الايمان والقبول بل كذبتم به وانكرتم عليه الستم ظالمين وبالجملة ما أنتم في انفسكم الا قوم ضالون ظالمون إِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في استعدادات عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حدوده الموصلة الى زلال هدايته وتوحيده
وَمن شدة شقاقهم ونفاقهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اى لأجلهم وفي حقهم لَوْ كانَ الايمان بمحمد وبما أتى به من الدين خَيْراً مما نحن فيه ما سَبَقُونا إِلَيْهِ بأنواع الكرامة والجاه والثروة والسيادة إذ هو ومن تبعه كلهم اراذل سقاط رعاة فقراء فاقدين لوجه الكفاف ونحن اغنياء ذوو الخطر بين الناس انما قالته قريش حين افتخروا على المؤمنين وقصدوا اضلالهم وإذلالهم وَبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبعنادهم بك وبكتابك إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ اى بالقرآن ولم ينكشفوا بحقيته بل فَسَيَقُولُونَ من جهلهم وضلالهم هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ وأساطير الأولين
وَعليك ان لا تلتفت مطلقا الى هذياناتهم وأباطيلهم الزائغة إذ قد جاء مِنْ قَبْلِهِ اى قبل كتابك كِتابُ مُوسى اى التوراة حال كونه إِماماً مقتدى لقاطبة الأنام وَرَحْمَةً شاملة فوائدها على كافة الخواص والعوام فكذبوه وأنكروا أحكامه وَهذا الكتاب الذي نزل(2/320)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
عليك يا أكمل الرسل كِتابٌ مُصَدِّقٌ لجميع ما مضى من الكتب السالفة لِساناً عَرَبِيًّا أسلوبا ونظما انما جاء كذلك (3) لِيُنْذِرَ بما فيه من الوعيدات الهائلة الَّذِينَ ظَلَمُوا اى خرجوا عن مقتضى العدالة الإلهية بمتابعة آرائهم الباطلة المنحرفة عن صراط الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع وَليصير بُشْرى بما فيه من انواع المواعيد الذالة على كرامة الحق وإحسانه لِلْمُحْسِنِينَ من خلص عباده وكيف لا
إِنَّ المحسنين الَّذِينَ قالُوا بعد ما تحققوا بمقام العبودية رَبُّنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية ثُمَّ بعد ما تمكنوا في مقر التوحيد وتمرنوا عليه اسْتَقامُوا فيه ورسخوا على محافظة الآداب الشرعية والعقائد الدينية الموضوعة لتأييد ارباب المعرفة وتمكينهم على جادة التوحيد لئلا يطرأ عليهم التزلزل والانحراف عن صراط الحق وسواء السبيل فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بعد ما وصلوا الى مقر التمكين وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عن التردد والتلوين وبالجملة
أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله أَصْحابُ الْجَنَّةِ المعدة لأرباب العناية خالِدِينَ فِيها بلا تبديل ولا تحويل وانما جوزوا جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإحسان مع الله بمراعاة الأدب معه سبحانه وبملازمة الطاعات والعبادات على وجه الإخلاص والتسليم ومع عموم عباده بحسن المعاشرة والمصاحبة وأداء حقوق المواخاة والموالاة.
ثم أشار سبحانه الى معظم اخلاق المحسنين المستحقين بخلود الجنة وبالفوز العظيم فيها فقال
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ اى ومن جملة ما الزمنا على الإنسان الاتصاف به والمحافظة عليه حتما إكرامه بِوالِدَيْهِ إِحْساناً لهما وحسن الأدب معهما أداء لحقوق تربيتهما وحضانتهما له وكيف لا يحسن إليهما مع انه قد حَمَلَتْهُ أُمُّهُ حين حبلت به كُرْهاً مشقة عظيمة وألما شديدا وحملا ثقيلا وَحملت ايضا حين وَضَعَتْهُ كُرْهاً أشد من مشقة الحمل واكثر ألما منها وَمع ذلك ليست مشقتها ومقاساتها زمانا قليلا بل حَمْلُهُ اى مدة حمل امه إياه في بطنها وَفِصالُهُ اى مدة فطامه عن لبنها كلاهما ثَلاثُونَ شَهْراً وهي مدة طويلة وبعد فطامه ايضا تلازم حفظه وحضانته حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وكمال عقله ورشده وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إذ القوة العاقلة انما تكاملت دونها ولذا لم يبعث نبي الا بعد الأربعين الا نادرا قالَ بعد ما تذكر نعم الحق الفائضة عليه من بدء فطرته الى أوان رشده وكمال عقله مناجيا مع ربه مستمدا منه رَبِّ أَوْزِعْنِي اى أولعني وحرصنى بتوفيقك أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ طول دهري وأواظب على أداء حقوقها حسب طاقتي وقوتي وَكذا اشكر نعمتك التي أنعمت عَلى والِدَيَّ إذ أداء حقوقهما وما لزم عليهما من حقوق نعمك اللازم أداؤها عليهما واجب علىّ وَكذا وفقني بمقتضى كرمك وجودك أَنْ أَعْمَلَ عملا صالِحاً مقبولا عندك على الوجه الذي تَرْضاهُ منى وَبالجملة أَصْلِحْ لِي بمقتضى كرامتك علىّ عملي واجعل بفضلك صلاحي ساريا فِي ذُرِّيَّتِي ليكونوا صلحاء مثلي وارثين عنى مستحقين لكرامتك وعنايتك بهدايتهم وصلاحهم وبالجملة إِنِّي تُبْتُ ورجعت إِلَيْكَ عن عموم مالا يرضيك ولا يقبل عندك يا ربي من عملي إذ أنت اعلم منى بحالي وَإِنِّي إليك يا رب مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لك المطيعين لحكمك المفوضين أمورهم كلها إليك إذ لا مقصد لهم غيرك ولا مرجع سواك وبالجملة
أُولئِكَ السعداء المولعون على شكر نعم الله وأداء حقوق الوالدين وحسن المعاشرة معهما والإحسان إليهما هم الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ (5) بقبول حسن أَحْسَنَ ما(2/321)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
عَمِلُوا
مخلصين فيه طالبين رضاء الله مجتنبين عن سخطه وَنَتَجاوَزُ سبحانه عَنْ سَيِّئاتِهِمْ بعد ما تابوا ورجعوا نحوه نادمين وبالجملة هم فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ مصاحبون معهم آمنون فائزون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون انجازا لما وعد لهم الحق وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في النشأة الاولى وبعد ما وصى سبحانه من رعاية حقوق الوالدين وما يترتب عليها من الفوز العظيم عقبه بضده وهو عقوق الوالدين وما يترتب عليه من العذاب الأليم فقال
وَالَّذِي اى والمسرف المفرط المتناهي الذي قالَ لِوالِدَيْهِ من فرط سرفه وعصيانه وشدة عقوقه عليهما حين دعواه الى الايمان والتوحيد واجتهدا ان يخلصاه من الشرك والتقليد وعن اهوال يوم القيامة وافزاعها أُفٍّ لَكُما وهذه الكلمة كناية عن الضجرة المفرطة والردع المتناهي أَتَعِدانِنِي وتخوفانني من العذاب والنكال بعد أَنْ أُخْرَجَ من قبري حيا وَالحال انه قد خَلَتِ ومضت الْقُرُونُ الماضية مِنْ قَبْلِي ولم يخرج احد منهم من قبره حيا فانا ايضا لا اخرج أمثالهم وبالجملة هو من شدة قساوته ونهاية شقاوته يصر على هذا وَهُما من غاية ترحمهما وتحننهما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ ويطلبان الغوث والتوفيق منه سبحانه لأجله قائلين له على وجه المبالغة في التخويف وَيْلَكَ اى ويل لك وهلاك ينزل عليك ايها المسرف المفرط لو لم تؤمن آمِنْ بالله وبجميع ما جاء من عنده في النشأة الاولى والاخرى إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بعموم المواعيد والوعيدات الصادرة منه سبحانه على ألسنة رسله وكتبه حَقٌّ لا خلف فيه وسينجزه الله القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام فَيَقُولُ بعد ما سمع من شدة إصراره وإنكاره ما هذا الذي أنتما جئتما به على سبيل العظة والتذكير إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أباطيلهم الزائغة الزائلة الزاهقة التي قد سطروها في كتبهم ودواوينهم بمجرد الترغيب والترهيب وبالجملة
أُولئِكَ الأشقياء المردودون عن ساحة عز القبول هم الَّذِينَ حَقَّ قد ثبت وتحقق عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ والحكم من الله المطلع بما في صدور عباده من الغل والغواية الراسخة بأنهم اصحاب النار معدودون فِي زمرة أُمَمٍ هالكة مستحقة للعذاب والبوار قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ اى من جنسهما وبالجملة إِنَّهُمْ بأجمعهم قد كانُوا خاسِرِينَ مضيعين على أنفسهم الكرامة الانسانية ورتبة الخلافة الإلهية المودعة في نشأتهم
وَاعلموا انه لِكُلٍّ من المحقين والمبطلين دَرَجاتٌ من الثواب والعقاب متفاوتة شدة وضعفا رفعة ودناءة منتشئ كلها مِمَّا عَمِلُوا مترتبة عليه خيرا كان او شرا حسنات او سيئات وَكل منهم متعلق بعمله ومشاكل معه مجزى بمقتضاه وما ذلك الا لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ ويوفر عليهم جزاءها المترتب عليها درجات كانت او دركات وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا بالزيادة ولا بالنقصان على أجور ما كسبوا
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يُعْرَضُ المسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا بالحق واعرضوا عنه وعن اهله عَلَى النَّارِ المسعرة المعدة للكافرين المعرضين فيقال لهم حينئذ على سبيل التوبيخ والتشنيع أنتم قد أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ من اللذائذ وتلذذتم بها فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فيها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ بدلها عَذابَ الْهُونِ المهين المذل بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ على عباد الله بِغَيْرِ الْحَقِّ يعنى بدل تعززكم وتعظمكم بها في دار الدنيا وكبركم وخيلائكم على ضعفاء العباد وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ تخرجون عن مقتضى الحدود الإلهية ظلما وزورا
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل أَخا عادٍ اى اذكر(2/322)
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
لمشركي مكة خذلهم الله قصة قوم عاد مع أخيك هود عليه السلام وقت إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ امحاضا للنصح لهم وهم يسكنون بِالْأَحْقافِ اى الرمال المعوجة المستوية على شاطئ البحر وَالحال انه قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ والرسل المنذرون مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ اى قبل هود عليه السلام وَمِنْ خَلْفِهِ اى بعده عليه السلام كلهم متفقون في المنذر به ألا وهو أَلَّا تَعْبُدُوا اى ان لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالاطاعة والعبادة ولا تشركوا به شيأ من مصنوعاته ولا تتوجهوا ولا تسترجعوا في الخطوب الا اليه وانصرفوا من عبادة غيره إِنِّي بسبب عبادتكم غير الله واتخاذكم آلهة سواه أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هائل شديد وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا من التوحيد 22 قالُوا متهكمين معه مشنعين عليه أَجِئْتَنا مدعيا ملتزما لِتَأْفِكَنا وتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا اى عن عبادتهم واطاعتهم ونؤمن بك وبإلهك وبالجملة نحن لا نؤمن بك ولا نصدقك في قولك فَأْتِنا بِما تَعِدُنا وتخوفنا من العذاب على الشرك الآن إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك انه آت لا محالة وبعد ما استهزؤا به واستعجلوا بالعذاب الموعود
قالَ هود عليه السلام انى اعلم بمقتضى الوحى الإلهي انه لآت البتة ولكن لا اعلم متى يأتى إذ لم يوح الى وقت إتيانه بل إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت حلوله وإتيانه عِنْدَ اللَّهِ المستقل باطلاع عموم الغيوب وَانما أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وأمرت بتبليغه من لدنه سبحانه إذ ما على الرسول الا البلاغ وَلكِنِّي أَراكُمْ بسبب أعراضكم عن الحق واهله وإصراركم على الشرك الباطل والضلال الزاهق الزائل قَوْماً تَجْهَلُونَ عن كمال عظمة الله وعزته وعن مقتضيات قوته وقدرته وبالجملة قال هود عليه السلام ما قال وهم قد كانوا على شركهم واضرارهم كما كانوا
فَلَمَّا رَأَوْهُ يوما من الأيام عارِضاً سحابا إذا عرض على الأفق مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ اى متوجها لأمكنتهم التي قد كانوا متوطنين فيها وكانوا حينئذ مجدبين قد حبس عليهم القطر قالُوا فرحين مستبشرين هذا عارِضٌ مطر مبارك توجه نحو بلادنا مُمْطِرُنا مطرا عظيما وهم استدلوا من سواد لونه الى كثرة مائه وبعد ما استبشروا فيما بينهم قال لهم عليه السلام مضربا عن قولهم معرضا لهم بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ واستبشرتم باستقباله رِيحٌ عاصفة لا راحة فيها بل فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ لا عذاب أشد ايلاما منها إذ
تُدَمِّرُ وتهلك كُلَّ شَيْءٍ ذي حياة بِأَمْرِ رَبِّها وبمقتضى مشيته وإراداته وبعد ما وصلت الريح إليهم وأحاطت باماكنهم وحواليهم دمرتهم تدميرا بليغا وأهلكتهم إهلاكا كليا الى حيث استأصلتهم بالمرة فَأَصْبَحُوا وصاروا لا يُرى منهم إِلَّا مَساكِنُهُمْ اى سوى دورهم الخربة واطلالهم المندرسة الكربة وبالجملة ليس هذا مخصوصا بهم بل كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ الخارجين عن ربقة عبوديتنا بارتكاب الجرائم والآثام. ثم أشار سبحانه الى توبيخ مشركي مكة خذلهم الله ومجرميهم على وجه التأكيد والمبالغة فقال سبحانه مقسما
وَالله يا اهل مكة لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ واقدرناهم اى عادا فِيما اى في الأمور التي إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ اى ما مكناكم واقدرناكم كما مكناهم واقدرناهم فيه من كثرة الأموال والأولاد والحصون المشيدة والقلاع المرتفعة المنيعة والقصور الرقيعة والمنازل الوسيعة وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً ليسمعوا به بآياتنا الدالة على وحدة ذاتنا وَأَبْصاراً ليشهدوا بها آثار قدرتنا ومتانة حكمتنا الدالة على كمال علمنا وَأَفْئِدَةً لينكشفوا بها على وحدة ذاتنا ويتفطنوا بها باستقلالنا في تدبيراتنا وتصرفاتنا ومع ذلك فَما أَغْنى وما دفع عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ اى(2/323)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
شيأ من الإغناء اى ما أفاد لهم هذه الآيات العجيبة الشأن شيأ من الفائدة التي هي إنقاذهم عن الجهل بالله وعن الضلال في طريق توحيده إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ وينكرون بمقتضى جهلهم المركب المركوز في جبلتهم أمثالكم ايها الجاحدون بِآياتِ اللَّهِ ودلائل توحيده ويستهزؤن بها وبمن أنزلت اليه من الرسل وَلذلك قد حاقَ وأحاط بِهِمْ وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ عاجلا وسيحيقهم وينزل عليهم وعليكم ايضا ايها المسرفون المفرطون آجلا بأضعافه وآلافه
وَبالجملة لَقَدْ أَهْلَكْنا وخربنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى الهالكة كعاد وثمود وغيرهما لتعتبروا منها وتتعظوا بما لحق باهلها من انواع العذاب والبليات وَبالجملة قد صَرَّفْنَا الْآياتِ الدالة على كمال قدرتنا واختيارنا وكررناها مرارا وتلوناها عليهم تكرارا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلينا منخلعين عن مقتضيات وجوداتهم الباطلة وهوياتهم العاطلة ومع ذلك لم يرجعوا ولم ينخلعوا
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ اى هلا نصرهم ومنعهم من الهلاك والإهلاك شفعاؤهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد وقت يوالونهم قُرْباناً مع انهم قد اعتقدوهم آلِهَةً شركاء مع الله في الألوهية والربوبية لذلك تقربوا إليهم وتوجهوا نحوهم في عموم الملمات مع انه ما ينفعونهم لدى الحاجة إليهم والى نصرهم بَلْ ضَلُّوا وغابوا عَنْهُمْ فأنى ينصرونهم ويدفعون عنهم ما يضرهم وَبالجملة ذلِكَ الذي اعتقدوا في شأنهم هكذا ما هو الا إِفْكُهُمْ اى صرفهم عن الحق واعراضهم عنه وميلهم الى الباطل وإصرارهم فيه وَما كانُوا يَفْتَرُونَ اى ليس الا افتراؤهم على الله بإثبات الشريك له والمشاركة معه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن عاندك وكذبك إلزاما لهم وتبكيتا وقت إِذْ صَرَفْنا وأملنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لك ولشأنك نَفَراً جماعة مِنَ الْجِنِّ حال كونهم يَسْتَمِعُونَ منك الْقُرْآنَ حين قرأته في خلال صلواتك وتهجداتك في خلواتك فَلَمَّا حَضَرُوهُ اى القرآن وسمعوه وتعجبوا من حسن نظمه وسياقه وسوقه وكمال بلاغته وفصاحته قالُوا اى قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا ولا تخالطوا أصواتكم ايها المستمعون حتى نسمع على وجهه إذ هو كلام عجيب في أعلى مرتبة البلاغة والبراعة فَلَمَّا قُضِيَ وتم قراءته وفهموا معناه وفحواه وَلَّوْا وانصرفوا ورجعوا إِلى قَوْمِهِمْ حال كونهم مُنْذِرِينَ ومبشرين بما يفهمون منه من التبشيرات والإنذارات والمواعد والوعيدات القوم الذين قد بلغوا حد التكليف من إخوانهم فينذرونهم بها عن الضلال والانحراف عن طريق الحق ويبشرونهم بها الى ما يوصلهم اليه حيث
قالُوا اى النفر المستمعون مبشرين لإخوانهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً عجيبا سماويا عربيا نظما وأسلوبا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ كتاب مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ اى جميع الكتب السالفة السماوية شأنه انه يَهْدِي إِلَى توحيد الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يوصل الى وحدة ذاته بلا عوج وانحراف وهذا الكتاب العجيب الشأن الجلى البرهان منزل الى داع من العرب منتشئ من بنى عدنان اسمه محمد عليه الصلاة والسلام يدعو قاطبة للأنام الى دين الإسلام بوحي الله العليم العلام القدوس السلام
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا أنتم ايضا داعِيَ اللَّهِ يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقبلوا منه دعوته الى توحيد الحق ودين الإسلام وَآمِنُوا بِهِ وبكتابه الذي انزل اليه لتبيين دينه وتأييد امره يَغْفِرْ لَكُمْ سبحانه مِنْ ذُنُوبِكُمْ اى جميعها ان تبتم ورجعتم نحوه مخلصين وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ هو عذاب النار إذ لا عذاب(2/324)
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
أشد منها وأفزع
وَبالجملة مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ ولم يؤمن به سبحانه وبجميع ما جاء به الداعي من عنده بل كذب الداعي من عنده وأنكر دعوته ولم يقبل منه فَلَيْسَ هو اى المنكر بِمُعْجِزٍ لله فِي الْأَرْضِ حتى يهرب عن انتقامه سبحانه ويفر من غضبه من مكان الى مكان او يستر عنه سبحانه ويخفى نفسه في اقطار الأرض بل له سبحانه الاحاطة والاستيلاء بعموم الأمكنة والأنحاء علما وعينا شهودا وحضورا وَلَيْسَ لَهُ اى للمنكر والمعاند مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءُ يوالونه وينقذونه من غضب الله وعذابه بعد ما قد حل عليه ونزل وبالجملة أُولئِكَ المنكرون المكابرون الذين لا يجيبون داعي الله ولا يقبلون منه دعوته عنادا ومكابرة فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية ظاهرة يجازيهم سبحانه حسب ما صدر عنهم من الغي والضلال. ثم أشار سبحانه الى توبيخ منكري الحشر والنشر واعادة الموتى احياء وتقريعهم فقال مستفهما على سبيل التبكيت والإلزام
أَوَلَمْ يَرَوْا يعنى أيشكون ويترددون أولئك الشاكون المترددون في قدرة الله على اعادة المعدوم ونشر الأموات احياء من قبورهم وحشرهم نحو المحشر للحساب والجزاء ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ العليم الحكيم القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ اظهر وأوجد السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات خلقا إبداعيا اختراعيا من كتم العدم وَمع ذلك لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ اى لم يفتر بإظهارهن ابتداء مع غاية عظمتهن وسعتهن بِقادِرٍ يعنى أليس القادر المقتدر على الإبداع والاختراع والإبداء بقادر عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ويعيدهم احياء بعد ما أماتهم بَلى إِنَّهُ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة علمه وارادته قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور
وَاذكر يا أكمل الرسل لمنكر الحشر يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالبعث والجزاء عَلَى النَّارِ المعدة لتعذيبهم فيقال لهم حينئذ تفضيحا وتهويلا وتوبيخا وتقريعا أَلَيْسَ هذا العذاب الذي أنتم فيه الآن وقد كذبتم به من قبل في نشأة الاختبار بِالْحَقِّ قالُوا متأسفين متحسرين بَلى هو الحق وَحق رَبِّنا الذي ربانا على فطرة الإسلام وأنذرنا عن إتيان هذا العذاب في هذه الأيام فكفرنا نحن به ظلما وزورا وأنكرنا عليه عنادا ومكابرة وبعد ما اعترفوا وندموا في وقت لا ينفعهم الندم والاعتراف قالَ لهم قائل من قبل الحق فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إذ لم يفدكم اعترافكم هذا بعد ما انقضى نشأة التدارك والتلافي وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل حال الكفرة السفلة الجهلة المصرين على العتو والعناد وعاقبة أمرهم
فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل على أعباء الرسالة ومتاعب التبليغ والإرشاد وعلى اذيات اصحاب الزيغ والضلال كَما صَبَرَ عليها وعلى أمثالها أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ العازمين عليها وعلى تبليغها بالعزيمة الخالصة الثابتة والثبات الدائم ليبينوا للناس طريق التوحيد ويرشدوهم الى سبيل الاستقامة والرشد وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ اى للمعاندين من قريش بحلول العذاب الموعود عليهم فانه سينزل عليهم حتما عند حلول وقته حتى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب من نهاية شدته وكثرة هوله وغاية طول يومه تذكروا واستحضروا في أنفسهم فجزموا انهم لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً واحدة فقط مِنْ نَهارٍ يعنى هم قد استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وقاسوها في طول يوم القيامة وخيلوها ساعة بل اقصر منها هذا الذي ذكر من المواعظ والتذكيرات في هذه السورة بَلاغٌ كاف لأهل الهداية والإرشاد ان اتعظوا بها وتذكروا منها وان لم يتعظوا بها هلكوا في تيه الجهل والجحود وبيداء الغفلة والغواية(2/325)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
مثل سائر الهالكين فَهَلْ يُهْلَكُ وما يستأصل بالقهر الإلهي إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية النازلة من عنده على أنبيائه ورسله المبعوثين للهداية والتكميل. جعلنا الله ممن تذكر بما في كتابه من المواعظ والتذكيرات وامتثل بعموم ما فيه من الأوامر والنواهي
خاتمة سورة الأحقاف
عليك ايها العارف الحازم العازم على سلوك طريق التوحيد ان تقصد نحوه بالعزيمة الخالصة الصافية عن كدر الرياء ورعونات الهوى مطلقا وتتصبر على مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات والرياضات القالعة لمقتضيات القوى البشرية بجملتها ومشتهياتها الحظوظ البهيمية برمتها فلك ان تقتدى في سلوكك هذا اثر اولى العزائم من الرسل الكرام والأنبياء الأمناء العظام والكمل من الأولياء العرفاء الذين هم ورثة الأنبياء لتفوز بالدرجة القصوى والمرتبة العليا
[سورة محمد]
فاتحة سورة محمد صلّى الله عليه وسلم
لا يخفى على الفائزين من التوحيد الذاتي المحققين بانكشاف كيفية سريان الهوية الذاتية الإلهية في اعيان المظاهر الكونية والكيانية ان أكمل من تحقق بهذه الشهود وأتم من اتصف بهذا الانكشاف هو الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية التي لا مرتبة أعلى واجمع من مرتبته صلّى الله عليه وسلّم ولذا ما بعث الى كافة الأمم وعامة البرايا احد سواه صلّى الله عليه وسلّم ولهذا ختم ببعثه صلّى الله عليه وسلّم امر الإرشاد والتكميل فمن كفر به صلّى الله عليه وسلّم وأنكر عليه فقد كفر بعموم مراتب الوجود وضل عن جميع الطرق الموصلة الى كعبة الذات وقبلة المقصود ومن آمن له صلّى الله عليه وسلّم فقد اهتدى بما هو المقصد والمرمى وليس وراء الله المنتهى لذلك اخبر سبحانه عن ضلال الكافرين به صلّى الله تعالى عليه وسلّم وانكار المنكرين عليه وعن إحباط أعمالهم وضياعها بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على المرتبة الختمية المحمدية بعموم أسمائه الحسنى وصفاته العليا الرَّحْمنِ لعموم عباده بإظهار مرتبته صلّى الله عليه وسلّم لتكون قبلة جميع مراتبهم ومشاربهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى وحدة ذاته بهدايته وإرشاده صلّى الله عليه وسلم
[الآيات]
الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبتوحيده وأنكروا على نبوة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ورسالته من عنده عنادا ومكابرة وَمع كفرهم وانصرافهم عن الهداية بأنفسهم قد صَدُّوا وصرفوا سائر الناس ايضا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وطريق توحيده الذي قد هدى اليه صلّى الله عليه وسلم وبعث لتبيينه وارشاد عموم عباده نحوه حسدا عليه صلّى الله عليه وسلّم وعلى من تبعه قد أَضَلَّ أحبط وأضاع سبحانه أَعْمالَهُمْ اى صوالحها التي قد أتوا بها طمعا للكرامة والمثوبة من لدنه سبحانه بعد ما كفروا به سبحانه وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم إذ لا يثمر الأعمال الصالحة الا بالإيمان والتصديق بالله وبرسوله
وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى الله وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ اى بعموم ما نزل عليه وَصدقوا ان جميع ما نزل اليه صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه هُوَ الْحَقُّ الصدق المطابق للواقع النازل مِنْ رَبِّهِمْ بلا شك وتردد قد كَفَّرَ وأزال سبحانه عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ اى وبالها وعذابها اللاحق بها المستتبع إياها وَبالجملة أَصْلَحَ بالَهُمْ واحسن حالهم في الدين(2/326)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
والدنيا بحسب النشأة الاولى والاخرى فيجازيهم احسن الجزاء
ذلِكَ اى إضلال الكفرة وإصلاح المؤمنين بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وتركوا الحق الحقيق بالاتباع وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ النازل عليهم مِنْ رَبِّهِمْ لإصلاح حالهم في النشأتين وان يرشدهم الى ما هو خير لهم في الدارين كَذلِكَ اى مثل ذلك الذي سمعت من الإضلال والإصلاح بالنسبة الى كلا الفريقين يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ويبين لهم أحوالهم المتواردة عليهم في أولاهم وأخراهم وبعد ما سمعتم ايها المؤمنون وخامة عاقبة الكفرة وضياع أعمالهم واحباطها
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا اى على أى وجه وحال فَضَرْبَ الرِّقابِ اى فعليكم ان تضربوا رقابهم مهما أمكن وان تقتلوهم بلا مبالاة بهم وبدمائهم سيما بعد رفع الهدنة والمصالحة فصيرورة أمرهم اما الى السيف واما الى الإسلام حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ اى اغلظتم وبالغتم في قتلهم فاسرتم بقاياهم فَشُدُّوا الْوَثاقَ والنكال على أسرائهم واحفظوهم مقيدين موثقين فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً اى تمنون عليهم منا فتطلقونهم رجاء ان تؤمنوا بدل ما تحسنون إليهم او تفدون منهم فداء على إطلاقهم وتخلون سبيلهم وبالجملة افعلوا ايها المؤمنون مع المشركين كذلك حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها اى تضع اهل الحرب من كلا الجانبين آلات الحرب والقتال وذلك لا يحصل الا بالمواخاة والايتلاف التام وتدين الجميع بدين الإسلام ذلِكَ اى الأمر من الله ذلك فافعلوا معهم كذلك لينال كل منكم ايها المؤمنون من الأجر والثواب مقدار ما قد اجتهدوا في ترويج الدين القويم وَالا لَوْ يَشاءُ اللَّهُ القادر المقتدر على انواع الانتقام لَانْتَصَرَ وانتقم مِنْهُمْ اى من المشركين بلا قتالكم وحرابكم وَلكِنْ انما يأمركم سبحانه بالقتال معهم لِيَبْلُوَا ويختبر سبحانه بَعْضَكُمْ ايها الناس المؤمنون بِبَعْضٍ اى بقتال بعض منكم وهو الكافرون لينال المؤمن بقتالهم وجهادهم الثواب الجزيل والأجر الجميل ويستوجب الكافر بمعاداة المؤمن العقاب العظيم والعذاب الأليم كل ذلك انما هو بتقدير العليم الحكيم. ثم قال سبحانه تبشيرا على المؤمنين الذين استشهدوا في سبيل الله وَاعلموا ايها المؤمنون الَّذِينَ قُتِلُوا مع اعداء الله فِي سَبِيلِ اللَّهِ لترويج دين الله او قتلوا منكم في سبيل الله باذلين مهجهم في ترويج دينه سبحانه على القراءتين فَلَنْ يُضِلَّ ولن يضيع سبحانه أَعْمالَهُمْ التي أتوا بها طلبا لمرضاة الله وتثبيتا لقلوبهم على الايمان بما نزل من عنده سبحانه بل
سَيَهْدِيهِمْ سبحانه ويرشدهم بعد ما جاهدوا واستشهدوا في سبيله الى زلال هدايته وتوحيده وَيُصْلِحُ بالَهُمْ بايصالهم الى غاية ما جبلوا لأجله في النشأة الاولى
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ التي قد عَرَّفَها لَهُمْ حين أمرهم بالجهاد ألا وهي الحياة الازلية الابدية الإلهية الموعودة للشهداء من عنده سبحانه بقوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يعنى دينه ورسوله يَنْصُرْكُمْ سبحانه على أعدائكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في جادة توحيده وصراط تحقيقه
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن نصر دينه ورسوله فَتَعْساً اى زلقا وعثورا وانحطاطا وسقوطا لَهُمْ عن الرتبة الانسانية وعن جادة العدالة الإلهية وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ واضاعها بحيث لا يفيدهم شيأ أصلا
ذلِكَ العثور والانحطاط لهم بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا اى أنكروا واستكرهوا مستكبرين عموم ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده في كتابه من الأوامر والنواهي المهذبة لظواهرهم وبواطنهم فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ بسبب كفرهم وكراهتهم
أَينكرون قدرة الله على الإحباط والإضلال فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ(2/327)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
التي هي محل الاختبارات الإلهية وانتقاماته فَيَنْظُرُوا بنظر العبرة والاستبصار ليبصروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المجرمين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مع انهم كانوا ذوى ثروة كبيرة ورئاسة عظيمة ووجاهة كاملة كيف دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ واستأصلهم بحيث لم يبق منهم على وجه الأرض احد وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها اى سيئول ويعود عاقبة هؤلاء الكفرة المعاندين معك يا أكمل الرسل إليها والى أمثالها بل الى أفظع منها وأشد البتة كل
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر عباده مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وتحققوا في مقر توحيده لذلك يواليهم وينصرهم على أعاديهم ويحفظهم عما لا يعنيهم وَأَنَّ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد لا مَوْلى لَهُمْ لينصرهم ويدفع عنهم ما يرديهم وبالجملة
إِنَّ اللَّهَ العليم الحكيم يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ متنزهات من المعارف والحقائق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الجارية من العلوم اللدنية المنتشئة من منبع الوحدة الذاتية يتلذذون تلذذا معنويا حقيقيا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة الحق وكمالاته المترتبة على شئونه وتجلياته يَتَمَتَّعُونَ بالحطام الدنيوية ويتلذذون باللذات البهيمية وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ويتلذذون بلا شعور لها باللذة الاخروية وَبالآخرة النَّارُ المعدة المسعرة مَثْوىً لَهُمْ ومحل قرارهم واستقرارهم
وَكَأَيِّنْ اى كثيرا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى الهالكة هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً اى أهلها واكثر أموالا واولادا مِنْ اهل قَرْيَتِكَ الَّتِي قد أَخْرَجَتْكَ يا أكمل الرسل أهلها منها أَهْلَكْناهُمْ واستأصلناهم بسبب إخراجهم رسل الله من بينهم وتكذيبهم والاستكبار عليهم فَلا ناصِرَ لَهُمْ يظاهرهم او يدفع انتقامنا عنهم حين أخذنا إياهم فكذا انتقم عن هؤلاء المشركين المستكبرين عليك يا أكمل الرسل المخرجين إياك وقومك من بينهم ظلما وزورا يعنى مشركي مكة خذلهم الله ونغلب المؤمنين عليهم ونظهر دينك على كل الأديان وكيف لا ننصر ولا نظهر دينك
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة آتية له مِنْ رَبِّهِ مبينة له امر دينه كَمَنْ زُيِّنَ اى حبب وحسن لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بلا مستند عقلي او نقلي بل وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بمقتضى آرائهم الباطلة وأمانيهم الزائغة الزائلة بتغرير الشيطان واغوائه إياهم كلا وحاشا بل
مَثَلُ الْجَنَّةِ وشأنها العجيب الَّتِي قد وُعِدَ الْمُتَّقُونَ بها المجتنبون عن محارم الله المحترزون عن مساخطه على الوجه الذي بينهم الكتب وبلغهم الرسل الممتثلون بعموم ما أمروا من عنده سبحانه ونهوا عنه ايمانا واحتسابا عند ربهم هكذا لهم فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ هي العلوم اللدنية المحيية لهم بالحياة الازلية الابدية غَيْرِ آسِنٍ اى خالص عن كدر التقليدات والتخمينات الحادثة من مقتضيات القوى البشرية المنغمسة بالعلائق الجسمانية وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ من المحبة الذوقية والمودة الشوقية الإلهية المنتشئة من الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها في بدأ فطرتهم وظهورهم بحيث لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وذوقه بالميل الى الهوى والالتفات الى مزخرفات الدنيا وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ جذبة الهية وخطفة غيبية وشوق مفرط مسكر لهم محير لعقولهم من غاية استغراقهم بمطالعة جمال الله وجلاله بحيث لا يكتنه لهم وصفها لكونها من الأمور الذوقية الوجدانية التي لا يمكن التعبير عنها لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ حسب تفاوت اذواقهم ومواجيدهم وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ هي عبارة عن اليقين الحقي الذي لا شيء احلى منه وألذ عنه عند العارف المحقق المتحقق به مُصَفًّى عن شوب الاثنينية اللازمة لمرتبتى اليقين العلمي والعيني وَبالجملة لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ المستلزمة لانواع اللذات الروحانية وَاكبر من الكل(2/328)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
وهو لهم فيها مَغْفِرَةٌ ستر ومحو لأنانياتهم الباطلة ناشئة مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم على الكرامة من عنده بعد ما جذبهم تحت قباب عزه ومكنهم في كنف جواره أهؤلاء المكرمون بهذه الكرامة العظمى والمقامة العليا كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ اى كالكافر الباغي الطاغي الذي قد خرج عن ربقة العبودية بمتابعة اهوية الامارة وأمانيها وظهر على الحق واهله بأنواع الإنكار والاستكبار وبسبب هذا قد صار مخلدا في نار القطيعة مؤبدا فيها لا نجاة له عنها وَهم من شدة عطشهم وحرقة أكبادهم إذا استسقوا سُقُوا ماءً حَمِيماً حارا في غاية الحرارة فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ بعد ما شربوا منه جرعة وذلك لعدم الفهم واعتيادهم بالعلوم اللدنية وبرد اليقين العلمي والعيني والحقي
وَمِنْهُمْ اى من المستوجبين بخلود النار ابد الآباد مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل حين دعوتك وتذكيرك وجلسوا في مجلسك صامتين مبهوتين حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ وانصرفوا عن مجلسك قالُوا من كمال غفلتهم وذهولهم عنك وعن كلامك وكلماتك وعدم ادراكهم بما فيها واصغائهم إليها لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اى أصحابك المتذكرين عن كلامك الموفقين من عند الله على التصديق والإذعان بك وبكتابك ماذا قالَ اى أىّ شيء قال صاحبكم آنِفاً في هذا المجلس مع انهم معهم أُولئِكَ الأشقياء البعداء عن ساحة عز القبول هم الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وختم على سمعهم وأبصارهم وَلهذا قد اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وتركوا هدايتك يا أكمل الرسل ولم يقتبسوا النور من مشكاة النبوة ولم يلتفتوا الى هداية القرآن بل استهزؤا معه ومع الرسول عليه السلام المنزل اليه
وَالمؤمنون الَّذِينَ اهْتَدَوْا بهدايته صلّى الله عليه وسلّم قد زادَهُمْ استماع القرآن هُدىً على هدى وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ وبين لهم ما يعينهم على سلوك طريق التوحيد ويجنبهم عما يغويهم عن منهج الحق وصراط التحقيق وبالجملة
فَهَلْ يَنْظُرُونَ وما ينتظرون أولئك المطرودون المطبوعون في عموم أوقاتهم وحالاتهم إِلَّا السَّاعَةَ الموعودة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجاءة وكيف لا تأتيهم الساعة فَقَدْ جاءَ وظهر أَشْراطُها اى بعض اماراتها وعلاماتها التي من جملتها بعثة الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية إذ ظهوره متمما لمكارم الأخلاق ومكملا لأمر التشريع والإرشاد من دلائل انقضاء نشأة الكثرة وطلوع شمس الوحدة الذاتية من آفاق ذرائر الكائنات وكيف ينتظرون الساعة ولا يهيئون اسبابها قبل حلولها وان تأتهم بغتة فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ اى كيف يفيد التذكر والاتعاظ وقت إذا جاءتهم الساعة فجاءة ومن اين يحصل لهم التدارك والتلافي حينئذ وبعد ما سمعتم حال الساعة وحلولها بغتة
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ اى فاثبت أنت يا أكمل الرسل على جادة التوحيد الذاتي والتمكن على صراط الحق في عموم أوقاتك وحالاتك واشهد ظهور شمس الذات على صفائح عموم الذرات وشاهد انقهار جميع المظاهر والمجالى في وحدة ذاته واهد جميع من تبعك من المؤمنين الى هذا المشهد العظيم الذي هم فطروا عليه وجبلوا لأجله وَاسْتَغْفِرْ
في عموم أوقاتك لِذَنْبِكَ الذي صدر عنك أحيانا من الالتفات الى ما سوى الحق من العكوس والاظلال وَاستغفر ايضا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إذ أنتم كفيلهم وهاديهم الى طريق التوحيد وأمرهم ايضا بالاستغفار والاستعفاء لعل الله يغفر لهم ويوصلهم الى فضاء قربته وجنة وحدته وَبالجملة اللَّهُ المحيط بعموم أحوالكم ونشأتكم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري مُتَقَلَّبَكُمْ اى موضع تقلبكم وانقلاباتكم في دار الاختبار ونشأة التلون والاعتبار وَمَثْواكُمْ اى موضع اقامتكم وتمكنكم في دار الاقامة(2/329)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
والقرار فعليكم ان تستعدوا لأخراكم في اولاكم وتهيئوا اسباب اخراكم وعقباكم في دنياكم
وَمن معظم زاد يوم المعاد الجهاد مع جنود اعداء الله في الأنفس والآفاق لذلك يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا من شدة حرصهم وشغفهم على القتال وترويج كلمة التوحيد وإعلاء دين الإسلام لَوْلا وهلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ مشتملة على الأمر بالجهاد حتى نجاهد في سبيل الله ونبذل غاية وسعنا في ترويج دينه فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ بمقتضى ما تمناها المخلصون وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ اى امر به فيها على البت واستبشر المؤمنون المخلصون بنزولها واستعدوا لامتثالها وقبول ما فيها رَأَيْتَ يا أكمل الرسل حينئذ المنافقين الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ راسخ وضعف مستقر مستمر يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ حين تلاوتك وتبليغك إياهم ما يوحى إليك من ربك نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ يعنى قد صاروا حين سمعوا الأمر بالقتال من كمال نفاقهم وشقاقهم كأنهم قد أشرفوا على الموت وظهرت عليهم اماراته بحيث قد شخصت أبصارهم من أهواله جبنا من القتال وبغضا وحسدا على غلبتك وظهور دينك وبالجملة فَأَوْلى لَهُمْ اى قد قرب لهم ويلهم وحاق وأحاط بهم ما يكرهون ويخافون منه أولئك الأشقياء المردودون مع ان الأليق والاولى بحالهم في هذه الحالة
طاعَةٌ اى انقياد واطاعة وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ مقبول مستحسن عند ذوى العقول والمروات وارباب الفتوات لو صدر عنهم هذا لكان خيرا لهم وأليق بحالهم لو كانوا مؤمنين موقنين وبالجملة فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ اى جد ولزم امر القتال لأصحابه وجزموا له فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ المطلع بما في ضمائرهم ونياتهم فيما أظهروا من الحرص والجرأة على القتال مثل المؤمنين المخلصين لَكانَ الصدق والثبات على العزيمة خَيْراً لَهُمْ في أولاهم وأخراهم ولما لم يصدقوا ولم يثبتوا على ما أملوا من طلب القتال فقال
فَهَلْ عَسَيْتُمْ وما يتوقع منكم وما يلوح من ظاهر حالكم وما قاربتم أنتم ايها المنافقون المسرفون الكاذبون انكم إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن الإسلام واستوليتم على الأنام أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ المعدة للصلاح والسداد وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ من المؤمنين المجبولين على فطرة التوحيد والإسلام مع انكم مجبولون على القطع وعدم الوصلة حقيقة وبالجملة
أُولئِكَ الأشقياء المعرضون عن الهداية والرشد الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ العليم الحكيم وطردهم عن ساحة عز حضوره فَأَصَمَّهُمْ لهذه الحكمة والمصلحة عن استماع دلائل توحيده وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ايضا عن مشاهدة آيات ألوهيته وربوبيته الظاهرة على صفحات الأنفس والآفاق
أَيصرون أولئك المسرفون المصرون على الاعراض والانصراف عن الهدى فَلا يَتَدَبَّرُونَ ولا يتصفحون الْقُرْآنَ ولا يتأملون ما فيه من المواعظ والتذكيرات المفيدة لهم الموصلة الى الهداية والنجاة عن اهوال يوم القيامة حتى ينزجروا عن ارتكاب المعاصي وينصرفوا عن الميل إليها أَمْ عَلى قُلُوبٍ يعنى بل مختومة على قلوبهم أَقْفالُها مطبوعة عليها آثامها وآثارها لذلك لا تأثر لهم من القرآن ومواعيده مع انهم آمنوا له قبل نزوله على ما وجدوا في كتبهم نعته ونعت من انزل اليه وعرفوا أحكامه ومع ذلك أنكروا عليه وارتدوا عنه عنادا ومكابرة وبالجملة
إِنَّ المسرفين المفسدين الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ سيما مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ ولاح لَهُمُ الْهُدَى والرشد وجزموا بحقيته وحقية ما فيه من الاحكام والعبر والمواعظ الشَّيْطانُ المغوى قد سَوَّلَ لَهُمْ اى حسن وزين لهم الارتداد عن الحق تغريرا وتلبيسا سيما بعد ما وضح لهم حقيته وَأَمْلى لَهُمْ بتسويلاته خلاف ما ظهر عليهم من ألسنة كتبهم ورسلهم
ذلِكَ(2/330)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
التسويلات والتعريرات وما يترتب عليه من الاعراض والانصراف عن الحق بِأَنَّهُمْ اى بسبب ان اليهود والنصارى قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا اى للمنافقين الذين كرهوا ما نَزَّلَ اللَّهُ من السور المشتملة على امر القتال حثا لهم على المخالفة سَنُطِيعُكُمْ وتعاون عليكم فِي بَعْضِ الْأَمْرِ لو أظهرتم المخالفة يعنى ان عاتبوكم اى المسلمون وقصدوا الانتقام عنكم نحن نعاون. ما قالوا ما قالوا في خلواتهم وَاللَّهُ المطلع لعموم أحوالهم يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ كما يعلم اعلانهم هذا من جملة ما احتالوا ومكروا مع الله ورسوله ليردوا ضعفاء المؤمنين عن دينهم
فَكَيْفَ يحتالون ويمكرون إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ المأمورون لقبض أرواحهم يَضْرِبُونَ حينئذ وُجُوهَهُمْ جزاء ما توجهوا بها نحو الباطل وَأَدْبارَهُمْ جزاء مما انصرفوا بها عن الحق
ذلِكَ التوفي على وجه العبرة بِأَنَّهُمُ قد اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الاعراض عن طريق الحق ومتابعة اهله وَكَرِهُوا بمقتضى اهويتهم الفاسدة رِضْوانَهُ اى ما رضى عنه سبحانه من الأوامر والنواهي المنزلة على ألسنة رسله وكتبه وبعد ما خالفوا امر الله وامر رسله فَأَحْبَطَ سبحانه بمقتضى قهره وجلاله أَعْمالَهُمْ اى صوالح أعمالهم بحيث لا يترتب عليها الجزاء الموعود كما يترتب على صالحات اعمال المطيعين
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مستقر وحسد مؤبد وشكيمة شديدة مع الله ورسوله والمؤمنين أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ ولن يبرز ويظهر ابدا أَضْغانَهُمْ وأحقادهم التي اضمروها في نفوسهم
وَلم يعلموا انا لَوْ نَشاءُ تفضيحهم لَأَرَيْناكَهُمْ وبصرنا عليك يا أكمل الرسل عموم ما اضمروا في نفوسهم فَلَعَرَفْتَهُمْ أنت حينئذ بِسِيماهُمْ بمجرد ابصارك إياهم لظهور ما في صدورهم من الغل عن وجوههم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ أنت نفاقهم وشقاقهم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ الباطل الذي قد صدر عنهم مغشوشا مزخرفا وبعد ما نزل هذه الآية لا يتكلم منافق عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا عرفه ويستدل بكلامه على ما في ضميره من الفساد والنفاق وَبالجملة اللَّهُ المطلع بعموم احوال عباده يَعْلَمُ منكم أَعْمالَكُمْ ونياتكم فيها ومقاصدكم عنها فيجازيكم على مقتضى علمه. ثم قال سبحانه مقسما
وَالله لَنَبْلُوَنَّكُمْ ونختبرنكم ايها المجبولون على فطرة الإسلام بالتكاليف الشاقة والأوامر الشديدة حَتَّى نَعْلَمَ اى نفرق ونميز الْمُجاهِدِينَ المجتهدين مِنْكُمْ ببذل الوسع والطاقة على امتثال المأمور به وَالصَّابِرِينَ المرابطين قلوبهم بحبل الله وتوحيده الموطنين نفوسهم بالرضاء بجميع ما جرى عليهم من القضاء وَنَبْلُوَا ايضا أَخْبارَكُمْ التي صدرت عنكم وقت تكليفنا إياكم إذ الاخبار منتشئة عن الضمائر والأسرار وبالجملة
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الله واعرضوا عن مقتضيات تكاليفه الصادرة عن الحكمة البالغة الإلهية وَمع كفرهم وضلالهم في أنفسهم قد صَدُّوا وصرفوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ضعفاء عباده وَمع ذلك شَاقُّوا اى قد خالفوا وخاصموا الرَّسُولَ المرسل من عنده سبحانه المبعوث إليهم للإرشاد والتكميل لا عن شبهة صدرت عنه تدل على كذبه وافترائه بل مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى وثبت عندهم هدايته عقلا ونقلا ومع ظهور صدقه وهدايته كذبوه وانا وظلما وبواسطة هذه الجرأة على الله ورسوله لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ المنزه في ذاته عن ان يكون معروضا للنفع والضرر شَيْئاً من الضر والإضرار بل وَسَيُحْبِطُ ويضيع سبحانه بأمثال هذه الجرائم والآثام أَعْمالَهُمْ الصادرة عنهم لتثمر لهم الثواب فانقلب الأمر عليهم فتثمر لهم العقاب
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(2/331)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
مقتضى ايمانكم اطاعة الله واطاعة رسوله أَطِيعُوا اللَّهَ المظهر لكم من كتم العدم المنعم عليكم بأنواع النعم واصناف الكرم وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ الهادي المرشد لكم الى توحيد الحق لكمالات أسمائه وأوصافه وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بالإعراض عن الله والانصراف عن متابعة رسوله وبالجملة
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا وصرفوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَالحال انه هُمْ كُفَّارٌ مصرون معاندون على ما هم عليه طول عمرهم فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ابدا لاشراكهم بالله وخروجهم عن ربقة عبوديته بمتابعة اهويتهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وبعد ما أطعتم الله ورسوله ايها المؤمنون واخلصتم في إطاعتكم وانقيادكم ثقوا واعتصموا بحبل توفيقه ونصره
فَلا تَهِنُوا ولا تضعفوا عن الجهاد والمقاتلة وَلا تَدْعُوا ولا تركنوا إِلَى السَّلْمِ والصلح معهم وَبالجملة لا تجبنوا ولا تفتروا أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الغالبون الأغلبون ايها الموحدون المحمديون إذ الحق يعلو ولا يعلى عليه وكيف لا تتصفون أنتم بصفة العلو والغلبة وَاللَّهُ المحيط بكم مَعَكُمْ لا على وجه المقارنة والاتحاد ولا على سبيل الحلول والامتزاج بل على وجه البروز والظهور ورش النور وامتداد اظلاله عليكم وانعكاسكم منهما وَبعد ما صار الحق معكم على الوجه المذكور لَنْ يَتِرَكُمْ ولن يضيع عليكم أَعْمالَكُمْ التي قد جئتم بها مخلصين طلبا لمرضاة الله وهربا عن مساخطه إذ الموحد المعتدل دائما بين الخوف والرجاء وكيف لا يكون كذلك إذ هو مستو على متن الصراط المستقيم الموضوع بالوضع الإلهي المبنى على العدالة الذاتية الإلهية التي هي أدق وارق من كل دقيق ورقيق. وبعد ما قد سمعت صفة صراط ربك يا أكمل الرسل فاعلم ان موانع العبور عنه والاستقامة عليه ليس الا الدنيا ومزخرفاتها
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا اى ما اللذة المستعارة فيها الا لَعِبٌ يلعب بها أبناء بقعة الإمكان وهم غافلون عن حقيقتها وَلَهْوٌ يلهى ويحير قلوبهم في تيه الغفلة والضلال وهم تائهون فيه ساهون ذاهلون عما ظهر وترتب عليها وَبعد ما سمعتم ايها المكلفون نبذا من أوصاف دنياكم إِنْ تُؤْمِنُوا بوحدة الحق وبكمالات أسمائه وصفاته الظاهرة آثارها على هياكل الهويات المستحدثة في الكائنات وتتوكلوا عليه مفوضين أموركم كلها اليه وتتخذوه وكيلا وتأخذوه كفيلا وتعتصموا بحبل توفيقه ثقة عليه واعتمادا له وَتَتَّقُوا يعنى وان تحفظوا نفوسكم من الميل الى ما سوى الحق من الأماني العاطلة الامكانية والآمال العائقة الدنية الدنياوية المثمرة لغضب الحق بمقتضى قدرته الجليلة يُؤْتِكُمْ حسب ارادته الجميلة أُجُورَكُمْ التي استوجبتم أنتم بصوالح أعمالكم ويزد عليكم من لدنه سبحانه تفضلا وإحسانا ما لا مزيد عليه من اللذات الروحانية وَمع ذلك العطية العظيمة والكرامة الكريمة الكبيرة لا يَسْئَلْكُمْ ولا يطلب منكم بمقابلة ما أفاض عليكم من الكرامات أَمْوالَكُمْ اى جميعها بل مقدار ما يزكى بها نفوسكم ويطيب قلوبكم من الشح المفرط والميل المتبالغ الى الدنيا ومزخرفاتها كي تتصفوا بالجود والكرم الذي هو من الأخلاق الإلهية المأمور لكم التخلق بها فكيف
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها ويطلب منكم سبحانه جميعها فَيُحْفِكُمْ ويبالغ عليكم في طلب جميع ما اقترفتم تَبْخَلُوا أنتم البتة ولا تعطوها على الله ورسوله بل تضمروا الحقد والإنكار بل وَيُخْرِجْ اى يبرز ويظهر بخلكم وحقدكم هذا أَضْغانَكُمْ وشكائمكم التي أنتم تضمرونها في نفوسكم بالنسبة الى الله ورسوله وبالجملة
ها أَنْتُمْ ايها الحمقى الغافلون عن مقتضى الألوهية والربوبية هؤُلاءِ البخلاء المغرورون بحطام الدنيا الدنية المغمورون في لذاتها وشهواتها الفانية العائقة عن اللذات الاخروية انما تُدْعَوْنَ(2/332)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
لِتُنْفِقُوا
مما أنتم مستخلفون فيه فِي سَبِيلِ اللَّهِ كي تفوزوا بالمثوبة العظمى والكرامة الكبرى عنده سبحانه وتصلوا الى ما جبلتم لأجله وبعد ما وصل الدعوة إليكم فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ اى يمنع ولم يعط بل يظهر ما يضمر في نفسه من الحقد والضغن وَبالجملة مَنْ يَبْخَلُ من ماله بعد ما امر بإنفاقه فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ إذ نفع الانفاق وضرر البخل كلاهما عائدان الى نفسه وَبالجملة اللَّهُ الْغَنِيُّ المستغنى بذاته عن عموم صدقاتكم وزكواتكم بل عن مطلق طاعاتكم وعباداتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ المقصورون على الفقر والاحتياج الذاتي الى ما عنده سبحانه من انواع الانعام والإحسان وَبعد ما قد بلغت لهم يا أكمل الرسل ما بلغت من مقتضيات الوحى والإلهام الإلهي قل لهم إِنْ تَتَوَلَّوْا وتنصرفوا عن الايمان والامتثال لعموم المأمورات يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ اى يهلككم ويقم بدلكم قوما يؤمنون ويقومون بامتثال عموم الأوامر والنواهي ثُمَّ لما علم المستبدلون منكم واعتبروا مما جرى عليكم وشاهدوا مقتكم وهلاككم بأمثال هذا التولي والانصرافات لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ كافرين بالله كفارا لنعمه مضيعين لحقوق كرمه. جعلنا الله من زمرة الشاكرين الممتثلين بأوامره المجتنبين عن نواهيه بمنه وجوده
خاتمة سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم
عليك ايها القاصد نحو طريق التوحيد العازم على سلوك سبيل الفناء في الله المثمر للبقاء الذاتي أوصلك الله الى غاية مبتغاك ونهاية متمناك ان تعدل في عموم اوصافك واخلاقك سيما في احوالك التي تتعلق بالإنفاق المأمور عليك بمقتضى الحكمة والعدالة الإلهية الناشئة من الله عن محض الارادة والرضا إياك إياك البخل والتقتير فانه الجالب لحلول غضب الله ونزول انواع سخطه حسب قهره وجلاله فعليك الامتثال بالمأمور والاتكال على الملك الرحيم الغفور
[سورة الفتح]
فاتحة سورة الفتح
لا يخفى على ارباب السكينة والوقار من الفائزين بسرائر التوحيد المنكشفين باسرار الربوبية والإلهية ان من استقام على طريق الحق متوكلا عليه مفوضا أموره كلها اليه مخلصا في جميع اعماله وأحواله مستويا على منهج العدالة المأمورة من قبل ربه فقد فتح عليه سبحانه أبواب اصناف الفتوحات الغيبية وأفاض عليه انواع الكرامات السنية القدسية وأوصله الى الدرجات العلية اللاهوتية وأنقذه من الدركات الهوية الناسوتية الامكانية الجهنمية لذلك قد من سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالفتح والظفر على عموم ما يسر الله له ووفقه عليه من انواع الخيرات والكرامات المنتظرة له واصناف السعادات العاجلة والآجلة متيمنا باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي فتح على خلص عباده أبواب المعارف واليقين الرَّحْمنِ عليهم بافاضة التسليم والعقل المنشعب من حضرة علمه ليهديهم الى صراط مستقيم الرَّحِيمِ عليهم يوصلهم الى مقر التوحيد ليتمكنوا في روضة الرضاء وجنة التسليم
[الآيات]
إِنَّا من مقام عظيم فضلنا وجودنا معك يا أكمل الرسل قد فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ظاهرا عظيما بان ألهمنا عليك وأوضحنا لك طريق الخروج عن مضيق الإمكان الى سعة فضاء الوجوب ويسرنا لك الترقي والعروج من حضيض الجهل واودية الضلال الى ذروة العلم وأوج الوصال وانما فتحنا لك ما فتحنا
لِيَغْفِرَ لَكَ ويستر عليك اللَّهُ المحيط بعموم احوالك وشئونك ما تَقَدَّمَ مِنْ(2/333)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
ذَنْبِكَ
الذي قد عرض عليك ولحق بك حسب بشريتك وإمكانك قبل انكشافك بسرائر الوحدة الذاتية كما ينبغي وعلى وجهها وَكذا ما تَأَخَّرَ بعده من تلويناتك في بعض الأحوال السارة والمؤلمة بحسب النشأة البشرية وَبالجملة يُتِمَّ نِعْمَتَهُ الموعودة لك حسب استعدادك ويوفرها عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً موصلا الى مقصد التوحيد الذاتي
وَبالجملة يَنْصُرَكَ اللَّهُ الوكيل الكفيل عليك في عروجك وترقيك عن بقعة الإمكان نَصْراً عَزِيزاً غالبا منيعا بحيث لم يغلب عليك بعد انكشافك بسرائر التوحيد جنود امارتك وعونة بشريتك مطلقا وكيف لا ينصر ربك يا أكمل الرسل مع انه
هُوَ القادر المقتدر الراقب المحافظ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ اى الطمأنينة والوقار فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بك المقتبسين من مشكاة نبوتك نور الولاية اللامعة المتشعشعة من شمس الوحدة الذاتية لِيَزْدادُوا بهدايتك وارشادك إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ بانك على الحق المبين وَكيف لا يزدادون ايمانا بك يا أكمل الرسل مع انك قد فزت بالفوز العظيم من الوحدة الذاتية وصرت مصونا محفوظا في كنف الحق وجواره منصورا على عموم أعدائك إذ لِلَّهِ وفي حيطة قدرته الغالبة جُنُودُ السَّماواتِ اى مؤثرات الأسماء والصفات وَكذا جنود الْأَرْضِ اى قوابل الأركان والطبائع التي هي حوامل آثار العلويات والمتأثرات منها وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المطلع لعموم ما في استعدادات عباده وقابلياتهم عَلِيماً بحوائجهم لدى الحاجة حَكِيماً في تدبيرات أمورهم على وفق الحكمة المتقنة والمصلحة المستحكمة كل ذلك
لِيُدْخِلَ سبحانه حسب سعة رحمته وجوده الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ من امة حبيبه وصفيه المستخلف منه سبحانه في بريته وعموم خليقته جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى جداول المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات خالِدِينَ فِيها بلا تلوين وتحويل وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ اى يمحو عن عيون بصائرهم أشباح انانياتهم وامواج هوياتهم المستحدثة على بحر الوجود من نكبات التعينات وصرصر الإضافات وَكانَ ذلِكَ الإدخال والإيصال والمحو والتكفير عِنْدَ اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء فَوْزاً عَظِيماً واجرا جميلا لا فوز أعظم منه وأعلى
وَكما يدخل سبحانه المؤمنين والمؤمنات في روضات الجنات تفضلا وإحسانا يُعَذِّبَ ايضا الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وهم الذين قد اخرجوا أعناقهم عن عروة العبودية الإلهية بمتابعة الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة وأظهروا الايمان على طرف اللسان بلا مقارنة اخلاص وإذعان وَايضا الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وهم الذين جحدوا في الله الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشركة مطلقا واثبتوا له سبحانه شركاء ظلما وزورا الظَّانِّينَ بِاللَّهِ المستقل بالربوبية والألوهية ظَنَّ السَّوْءِ وهو انه سبحانه لا ينصر أولياءه الباذلين مهجهم في طريق توحيده بحيث ينتظرون لمقتهم وهلاكهم بلا نصر من الله إياهم بل تدور عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ويحيط بهم وبال ما يظنونه على اولياء الله كيف وَقد غَضِبَ اللَّهُ المطلع على ما في ضمائرهم عَلَيْهِمْ بل وَلَعَنَهُمْ اى طردهم عن ساحة عز قبوله وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ الطرد والحرمان وَساءَتْ مَصِيراً منزلا ومقيلا عليهم مع انهم يظنون بالله ظن السوء ويعتقدونه عاجزا عن نصر أوليائه
وَمع انه لِلَّهِ وفي حيطة قدرته وتحت تصرفه جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وله ان يأمرهم ما يشاء نصرا لمن يشاء ويغلبهم على من يريد ارادة واختيارا وَالحال انه قد كانَ اللَّهُ المتوحد(2/334)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
بالعظمة والكبرياء عَزِيزاً غالبا على عموم مراداته ومقدوراته بلا معاونة احد ومظاهرته حَكِيماً في أفعاله المتقنة يدبرها بالاستقلال وفق حكمته البالغة كيف يشاء. ثم قال سبحانه في مقام الامتنان لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إظهارا لكمال قدرته الشاملة وحكمته الكاملة
إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل شاهِداً على عموم عبادنا تشهد لهم عند عموم ما صدر عنهم من الصالحات الجالبة لانواع المثوبات والكرامات وَمُبَشِّراً تبشرهم برفع الدرجات والفوز بالسعادات وَنَذِيراً تنذرهم عن الدركات العائقة عن الوصول الى جنة الذات التي دونها تجرى بحر الحياة كل ذلك
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وتذعنوا بتوحيده وَرَسُولِهِ اى تصدقوا برسوله الذي قد أرسل إليكم من عنده سبحانه وَبعد اتصافكم بكمال الايمان والإذعان تُعَزِّرُوهُ وتعظموه سبحانه اى تعتقدوا ان الحول والقوة لله جميعا بحيث لا حول ولا قوة لسواه مطلقا وَبعد ما اعتقدتموه كذلك تُوَقِّرُوهُ وتعظموه حق تعظيمه وتكريمه وَبعد ما وقرتموه وعظمتموه كما ينبغي ويليق بشأنه تُسَبِّحُوهُ وتنزهوه عما لا يليق بجنابه بُكْرَةً وَأَصِيلًا اى في عموم أوقاتكم واصيلاتكم إذ لا يتأتى منكم بالنسبة الى جنابه سبحانه الا التفويض والتعظيم والتنزيه والتقديس والا فما للتراب ورب الأرباب ان يتكلموا عن ذاته وصفاته سوى ان يخوضوا في لجة بحر توحيده ويبهتوا في ببداء ألوهيته حتى يفنوا في فضاء صمديته إذ لا اله الا هو ولا شيء سواه وكل شيء هالك الا وجهه. ثم قال سبحانه بلسان الجمع على سبيل الإرشاد والتكميل
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يا أكمل الرسل ويختارون متابعتك ويستهدون من هدايتك وارشادك إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الذي استخلفك عليهم وجعلك نائبا عن ذاته فيما بينهم فعليهم ان لا ينقضوا العهد والبيعة التي عهدوا معك ابدا وكيف يسع لهم المنقض مع ان يدك يَدُ اللَّهِ وقبضتك قبضة قدرته الغالبة ولا شك انها فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مستعلية عليهم فَمَنْ نَكَثَ ونقض البيعة والعهد مع رسوله فَإِنَّما يَنْكُثُ وينقض عَلى نَفْسِهِ اى ما يعود وبال نقضه الا عليه وَمَنْ أَوْفى وحفظ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ ألا وهو معاهدتهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخلافته صلّى الله عليه وسلّم عنه سبحانه فَسَيُؤْتِيهِ جزاء للوفاء أَجْراً عَظِيماً هو الفوز بشرف اللقاء والتحقق لدى المولى
سَيَقُولُ لَكَ يا أكمل الرسل على سبيل الاعتذار الْمُخَلَّفُونَ اى المنافقون الناقضون للعهود المتخلفون عن الجهاد مِنَ الْأَعْرابِ المجبولين على الكفر والنفاق قد شَغَلَتْنا عن متابعتك ومشايعتك أَمْوالُنا وَأَهْلُونا إذ ليس لهم متعهد سوانا لذلك قد حرمنا عن صحبتك وعن اجر الجهاد فَاسْتَغْفِرْ لَنا يا رسول الله عند الله حتى يغفر لنا ما صدر عنا من التخلف لا تبال يا أكمل الرسل بهم وباعتذارهم هذا واستغفارهم فإنهم من شدة شكيمتهم وغيظهم وضعف عقيدتهم يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تغريرا وتلبيسا قُلْ لهم على سبيل التفضيح والتبكيت فَمَنْ يَمْلِكُ اى يدفع ويمنع لَكُمْ مِنَ اللَّهِ القادر المقتدر شَيْئاً من مقتضى غضبه سبحانه إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ شيأ من مقتضيات لطفه ورحمته ان أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً وبالجملة لا راد لفضله ولا معقب لحكمه بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يجازيكم على مقتضى خبرته
بَلْ ظَنَنْتُمْ ايها المتخلفون المثقلون أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ ولن يرجع الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً بل يستأصلهم العدو بالمرة فلن يرجع منهم احد من سفرهم هذا بل وَزُيِّنَ اى حبب وحسن ذلِكَ الاستئصال وعدم الرجوع وتمكن فِي قُلُوبِكُمْ من(2/335)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
كثرة تطيركم وتشأمكم وَقد ظَنَنْتُمْ بزعمكم هذا ظَنَّ السَّوْءِ بالله ورسوله والمؤمنين وَبالجملة قد كُنْتُمْ ازلا وابدا قَوْماً بُوراً هالكين في تيه الجهل والعناد مصرين على انواع الجهل والجور والفساد
وَبالجملة مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اى لم يجمع بين الايمان بالله وتصديق الرسول المستخلف منه سبحانه فَإِنَّا بمقتضى قهرنا وجلالنا قد أَعْتَدْنا وهيأنا لِلْكافِرِينَ المصرين على الكفر والتكذيب سَعِيراً نارا مسعرة ملتهبة تحيط بهم جزاء ما قد اوقدوا في نفوسهم نيران الفتن والطغيان لأولياء الله
وَكيف لا ينتقم سبحانه مع انه لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وله التصرف فيهما بالاستقلال والاختيار يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ فضلا وإحسانا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ عدلا وانتقاما وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المتصف بكمال اللطف والمرحمة غَفُوراً لمن تاب وآمن وعمل عملا صالحا رَحِيماً يقبل توبة التائبين ويعفو عن زلاتهم. ثم لما سمع المخلفون من الاعراب يوم الحديبية ان الله قد وعد للمؤمنين فتح خيبر وخص لهم الغنائم قصدوا الخروج نحوها طامعين من الغنائم لذلك اخبر الله سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بقصدهم هذا فقال
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ المذكورون وقت إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ التي قد وعدت لكم خاصة لِتَأْخُذُوها وتسهموا منها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ بغزوتكم هذه وننصركم مع انهم لا يقصدون الرفاقة والوفاق في نفوسهم ونياتهم بل ما يُرِيدُونَ ويقصدون بقولهم هذا الا أَنْ يُبَدِّلُوا ويغيروا كَلامَ اللَّهِ الدال على تخصيص غنائم خيبر لمن حضر الحديبية بدل غنائم مكة قُلْ لهم يا أكمل الرسل على وجه التأكيد في النفي لَنْ تَتَّبِعُونا ابدا كَذلِكُمْ اى مثل ما سمعتم من النفي المؤكد قالَ اللَّهُ المطلع على ما في نفوسهم من النفاق والشقاق المستمر المؤكد مِنْ قَبْلُ اى قبل تهيئكم ايها المؤمنون للخروج الى الخيبر فَسَيَقُولُونَ بعد ما سمعوا النفي على وجه التأكيد في نفوسهم حسب ما في قلوبهم من الزيغ والضلال ما أمركم الله هذا بَلْ تَحْسُدُونَنا عن أخذ الغنيمة يعنى ما حملهم على هذا النفي المؤكد المؤبد الا الحسد والشح بَلْ هم قوم جاهلون قد كانُوا لا يَفْقَهُونَ ولا يفهمون مراد الله العليم الحكيم عن منعهم هذا إِلَّا قَلِيلًا منهم وهم المصدقون بالله ورسوله في سرائرهم ونجواهم
قُلْ يا أكمل الرسل لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ بعد ما ايسوا من الخروج الى خيبر سَتُدْعَوْنَ عن قريب إِلى غزوة قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وشوكة عظيمة تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ اى مآل أمرهم اما القتل واما الإسلام لا غير إذ قد رفعت الهدنة والمصالحة بيننا فصار الأمر هكذا فَإِنْ تُطِيعُوا حينئذ ولا تتخلفوا كما تخلفتم يوم الحديبية يُؤْتِكُمُ اللَّهُ المطلع بنياتكم أَجْراً حَسَناً في الدنيا والآخرة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا وتنصرفوا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يوم الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم وشدة شقاقكم ونفاقكم. ثم أخذ سبحانه في تعداد ما يرخص لهم التخلف والقعود على سبيل الاضطرار فقال
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ اى ليس لهؤلاء المذكورين وزر ومؤاخذة ان تخلفوا عن القتال وأمثال هذه الاعذار انما تقبل ان كانوا من اهل الإطاعة والايمان وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ على وجه الإخلاص والوفاق بلا بطانة ونفاق يُدْخِلْهُ سبحانه بمقتضى فضله وسعة رحمته وجوده جَنَّاتٍ متنزهات الكشوف والشهود تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة من المعارف والحقائق المتجددة بتجددات(2/336)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
التجليات الإلهية المنتشئة من النفسات الرحمانية وَمَنْ يَتَوَلَّ اى يعرض وينصرف عن مقتضى العدالة الإلهية بمتابعة الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة يُعَذِّبْهُ بمقتضى قهره عَذاباً أَلِيماً في نيران الإمكان واودية الخذلان لا عذاب أشد ايلاما منه. ثم قال سبحانه على سبيل التحريض والترغيب للمؤمنين مقسما والله
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين في الإطاعة والانقياد وقت إِذْ يُبايِعُونَكَ يا أكمل الرسل تَحْتَ الشَّجَرَةِ يوم الحديبية بيعة الرضوان والشجرة هي السمرة او السدرة فَعَلِمَ سبحانه بعلمه الحضوري ما فِي قُلُوبِهِمْ من الرغبة والإخلاص فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ اى الطمأنينة والوقار عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ بعد ما ايسوا عن فتح مكة ورجعوا من حديبية فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر بعيد رجوعهم منها
وَرزق لهم خاصة مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها من خيبر بدل غنائم مكة وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده عَزِيزاً غالبا مقتدرا على عموم مقدوراته حَكِيماً مراعيا مقتضى الحكمة في جميع تدبيراته الجارية بين عباده ومن مقتضيات الحكمة البالغة الإلهية انه
وَعَدَكُمُ اللَّهُ ايها المؤمنون المخلصون في اطاعة الله وتصديق رسوله مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها من أيدي الكفرة الى قيام الساعة إذ يظهر دينكم على الأديان كلها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ اى غنائم خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ اى اهل خيبر وأوليائهم وقد كفى كذلك سبحانه وكف مؤنة عموم من قصد السوء على أموالكم وذراريكم وَانما فعل بكم سبحانه ذلك لِتَكُونَ هذه الكفة والغنيمة آيَةً علامة وامارة لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يلونكم ويقتفون اثركم دالة على ان المؤمن المخلص في جوار الله وفي كنف حفظه وحضانته وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الثقة بالله وبكرامته ونصره لأوليائه
وَكذا قد عجل لكم عناية من الله إياكم مغانم أُخْرى مع انكم لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها لشوكة الأعداء وغلبتهم وكثرة عددهم وعددهم بل قد فررتم أنتم منهم مرارا وانهزمتم عنهم تكرارا قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وأباحها عليكم بالنصر والغلبة عليهم مع انكم خائفون وجلون منهم وهي غنائم هوازن وفارس وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة علمه وارادته قَدِيراً لا يعجز عنه ولا يفتردونه إذ القدرة من أمهات الأوصاف الذاتية الإلهية التي لا تفتر ولا تضعف بحال
وَمن كمال قدرته سبحانه ونصره لأوليائه انه لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقابلوا اليوم معكم للقتال مع انكم قد فررتم منهم وجبنتم عنهم مرارا فيما مضى لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ عنكم البتة بنصر الله إياكم ثُمَّ بعد ما ولوا عنكم لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يتولى أمورهم وَلا نَصِيراً ينصرهم وينقذهم من أيديكم ولا تستبعد يا أكمل الرسل من قدرة الله أمثال هذا لكونها
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ اى مضت واستمرت مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ أنت ابدا لِسُنَّةِ اللَّهِ التي قد جرت منه سبحانه بمقتضى حكمته تَبْدِيلًا ولا لحكمه الصادر منه سبحانه بالإرادة والاختيار تغييرا وتحويلا
وَكيف يبدل سنة الله ويغير حكمه وحكمته مع انه هُوَ القادر القاهر المقتدر الَّذِي كَفَّ ومنع أَيْدِيَهُمْ اى أيدي كفار مكة خذلهم الله عَنْكُمْ حين استيلائهم عليكم وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ حين غلبتم عليهم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ وأظهركم عَلَيْهِمْ وذلك ان عكرمة بن ابى جهل خرج مع خمسمائة الى الحديبية فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ العليم الحكيم بِما تَعْمَلُونَ من خير وشر بَصِيراً(2/337)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
خبيرا لا يعزب عنه شيء مما جرى عليكم يجازيكم على مقتضى بصارته وخبرته وكيف لا يجازى الكفرة سبحانه بأسوء الجزاء إذ
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ظلما وعدوانا وَلم يقتصروا على الكفر فقط بل صَدُّوكُمْ اى حصروكم وصرفوكم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام الحديبية وَالحال انه أنتم قد اهديتم الْهَدْيَ اى الذبائح والقرابين التي قد سقتم نحو البيت وصار مَعْكُوفاً محبوسا قريبا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ اى مذبحه الذي قد عينه الله لذبح الضحايا ألا وهو المنى وَبالجملة لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ بينهم وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ في خلالهم لم يكف سبحانه أيديكم عنهم بل نصركم عليهم واستأصلتموهم بالمرة لكن لما كان بينهم من المؤمنين والمؤمنات لذلك كف سبحانه أيديكم عنهم كراهة انكم لَمْ تَعْلَمُوهُمْ اى المؤمنين المخلوطين بهم ولم تميزوهم من الكفار أَنْ تَطَؤُهُمْ وتدوسوهم فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ اى من أجل المؤمنين المخلوطين بالكافرين ومن جهتهم مَعَرَّةٌ اى مضرة ومكروه من لزوم دية او كفارة او اثم عظيم عند الله وتعيير شديد من المسلمين وغير ذلك من المنكرات مع انه انما صدر منكم الوطاءة والدوس يومئذ لو صدر بِغَيْرِ عِلْمٍ وبلا خبرة وانما كف أيديكم عنهم حين أظفركم عليهم لِيُدْخِلَ اللَّهُ المطلع بما في استعدادات عباده من الايمان والكفر فِي رَحْمَتِهِ التي هي التوحيد والإسلام مَنْ يَشاءُ منهم حتى لَوْ تَزَيَّلُوا اى تفرقوا وتميزوا اى المؤمنون من الكافرين يومئذ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً في غاية الإيلام من السبي والجلاء وانواع المصيبة والبلاء اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ الانفة والغيرة لا على وجه الحق بل حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وذلك انه صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحديبية فهم بقتال اهل مكة بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص ليرجع صلّى الله عليه وسلّم من عامه هذا وتخلى له مكة من العام القابل ثلاثة ايام فقال صلّى الله عليه وسلّم لعلى اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اهل مكة فقالوا ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وقال صلّى الله عليه وسلم اكتب ما يريدون فكتب فهم المؤمنون ان يبطشوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ووقاره عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذ هم أحقاء بالطمأنينة والوقار وكظم الغيظ وتوطين النفس عند المكاره وَبالجملة قد أَلْزَمَهُمْ سبحانه كَلِمَةَ التَّقْوى واختار لهم صون النفس عن التهور والغلظة وَكانُوا أَحَقَّ بِها من غيرهم وَأَهْلَها اى كانوا أهلا لحفظها ورعايتها وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لعموم أحوالهم بِكُلِّ شَيْءٍ يليق بهم وينبغي لهم عَلِيماً يوفقهم عليه ويسهل عليهم الاتصاف به. ثم لما رأى صلّى الله عليه وسلّم في منامه انه وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص صلّى الله عليه وسلّم الرؤيا على أصحابه فرحوا وظنوا ان ذلك في عامهم هذا فلما تأخر بالصلح والمعاهدة قال بعضهم والله ما حلقنا وما قصرنا وما رأينا البيت فنزلت
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا اى قد جعل سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم صادقا فيما رأى ملتبسا بِالْحَقِّ والله ايها المؤمنون لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من العدو إذ ما أريناه صلّى الله عليه وسلّم عموم ما أريناه الا بالحق مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ على الوجه المتعارف وَمُقَصِّرِينَ كما هو عادة الحجاج يحلق بعضهم ويقصر بعضهم وبالجملة لا تَخافُونَ بعد ذلك إذ الله معكم فَعَلِمَ منكم سبحانه ما لَمْ تَعْلَمُوا أنتم من انفسكم ولا تستعجلوا الفتح إذ هو مرهون بوقته فَجَعَلَ(2/338)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
مِنْ دُونِ ذلِكَ
اى فتح مكة فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر ليطمئن به قلوبكم الى ان يتيسر لكم الفتح الموعود الذي اخبر به نبيكم الصادق الصدوق وكيف لا يصدقه سبحانه مع انه
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ملتبسا بِالْهُدى والإرشاد الى سبيل توحيده وَدِينِ الْحَقِّ الفارق بين الباطل والضلال ووعد له لِيُظْهِرَهُ اى دينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ اى جنس الأديان النازلة من عنده بان نسخ الجميع وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً اى كفى الله شهيدا على صدقه صلّى الله عليه وسلّم في رؤياه وكذا في دعوته ونبوته وفي ظهور انواع المعجزة بيده حيث قال سبحانه
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ حقا مرسل من عندنا صدقا مبعوث الى كافة البرايا من عبادنا ليهديهم الى توحيدنا الذاتي وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين له المصدقين لدعوته المتعطشين بزلال مشربه أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة هوية الحق الظاهر في الآفاق والأنفس يدفعون مؤنة كثراتهم الوهمية بترويج الحق على الباطل وإعلاء كلمة التوحيد وتقديم الدين القويم وإظهاره على سائر الأديان رُحَماءُ فيما بَيْنَهُمْ متواضعون مع اهل الحق وارباب التوحيد لذلك تَراهُمْ في عموم أوقاتهم رُكَّعاً وسُجَّداً راكعين ساجدين متذللين خاضعين خاشعين بلا رعونة ولا رياء ولا سمعة ولا هواء بل ما يَبْتَغُونَ وما يطلبون بتذللهم هذا الا فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً من لدنه سبحانه وبالجملة سِيماهُمْ سمتهم وعلاماتهم الدالة على نجابة طينتهم وكرامة فطرتهم وذكاء فطنتهم لائحة ظاهرة فِي وُجُوهِهِمْ وجباههم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ وكثرة التذلل والخشوع نحو الحق ذلِكَ المذكور في اوصافهم مَثَلُهُمْ وصفتهم العجيبة المذكورة فِي التَّوْراةِ وَكذا مَثَلُهُمْ هكذا فِي الْإِنْجِيلِ وبالجملة مثل اصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في نشوهم ونماهم في بدء ظهورهم وخروجهم أولا في غاية الضعف والنحافة واشتدادهم وغلظهم على الأعداء ووفور رأفتهم ورحمتهم على الأولياء ثانيا كَزَرْعٍ كمثل زرع وحبة مزروعة مبذورة وقع على الأرض ضعيفا وبرز منها نحيفا. ثم ظهر عليها ونبت قويا يوما فيوما الى حيث أَخْرَجَ شَطْأَهُ اى أفراخه وأغصانه دقيقا دقيقا فَآزَرَهُ قومه وقواه آنا فآنا بالمعاونة فَاسْتَغْلَظَ وعاد غليظا بعد ما رباه واحسن تربيته فَاسْتَوى واستقام بعد ذلك عَلى سُوقِهِ اى قصبه وساقه على وجه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ عند رؤيتهم بكمال كثافته وغلظته ونضارته ولطافته وانما رباهم سبحانه وقواهم وأظهرهم على عموم من عاداهم على ابلغ وجه وأحسنه لِيَغِيظَ وليتحسر ويتحسد بِهِمُ الْكُفَّارَ المخالفون المخاصمون لهم من كمال تشددهم وترقيهم وبالجملة قد وَعَدَ اللَّهُ المطلع على ما في استعدادات عباده من الإخلاص والتفويض الَّذِينَ آمَنُوا بالله بكمال المحبة والتسليم وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى الله مِنْهُمْ اى من جنسهم مَغْفِرَةً سترا ومحوا لأنانياتهم الباطلة وهوياتهم العاطلة في هوية الحق وَأَجْراً عَظِيماً هو الفوز بشرف اللقاء والوصول الى سدرة المنتهى وليس وراء الله مرمى رزقنا الله الوصول اليه والوقوف بين يديه
خاتمة سورة الفتح
عليك ايها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات مكنك الله في مقعد الصدق ووطنك في مقر التوحيد ان تعتدل أنت في عموم اوصافك واخلاقك وأعمالك مجتنبا عن كلا طرفي الإفراد والتفريط معرضا(2/339)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
عن قشور مطلق التخمين والتقليد مقتصدا في جميع اطوارك وشئونك مقتفيا في جميع اخلاقك اثر نبيك الهادي الى سواء السبيل حتى ينفتح لك أبواب عموم الكرامات والسعادات ويغلق ذلك مداخل انواع المكروهات والمنكرات وإياك إياك ان تختلط مع اهل الغفلة واصحاب الجهالات المترددين في اودية البغي ومهاوي الضلال ليتيسر لك التحقق الى فضائل الوصال. جعلنا الله من زمرة أوليائه المقتصدين الذين ثبتوا على الصراط المستقيم
[سورة الحجرات]
فاتحة سورة الحجرات
لا يخفى على ارباب المحبة والولاء المتحققين بمقام التأديب والتسليم مع الله في عموم أحوالهم وأفعالهم ان كمال العبودية والإخلاص انما يظهر بحسن الأدب والمحافظة على أداء حقوق الربوبية والوفاء على مقتضيات عهود الألوهية وذلك انما يحصل برعاية حقوق من اختاره الله لرسالته واصطفاه لخلته إذ هو الوسيلة الموصلة لعباد الله الى الله وهو الهادي المرشد لهم في جناب قدرته لذلك اوصى سبحانه خلص عباده بمحافظة الأدب مع الله ورسوله فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المراقب احوال عباده الرَّحْمنِ عليهم بتعليم الأدب إياهم الرَّحِيمِ لهم بتلقين الرضاء والتسليم
[الآيات]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم مراعاة الأدب مع الله ورسوله فعليكم ان لا تُقَدِّمُوا ولا تتقدموا في امر من الأمور وحكم من الاحكام بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لا تبادروا بإمضاء الاحكام ما لم تشاوروا بكتاب الله وسنة رسوله ولم يعرضوها عليهما وَاتَّقُوا اللَّهَ المقتدر الغيور المطلع على ما في ضمائركم ونياتكم واحذروا عن المسابقة والمبادرة في الأقوال والاحكام بمقتضى اهويتكم وآرائكم إِنَّ اللَّهَ المراقب عليكم في عموم أحوالكم سَمِيعٌ بأقوالكم عَلِيمٌ بنياتكم فيها
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من خصائص ايمانكم بالله وبرسوله ان لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ وقت التكلم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ بل لكم ان لا تخلطوا أصواتكم مع صوته صلّى الله عليه وسلّم بل وَعليكم ان لا تَجْهَرُوا لَهُ صلّى الله عليه وسلّم بل في حضوره ومجلسه صلّى الله عليه وسلم بِالْقَوْلِ مطلقا كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ إذ الجهر بالقول معه مخل بحرمته صلّى الله عليه وسلّم وتعظيمه وانما نهاكم سبحانه عما نهاكم كراهة أَنْ تَحْبَطَ وتضيع أَعْمالُكُمْ اى الصالحات منها وَان أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ حبوطها وضياعها وبالجملة
إِنَّ المؤمنين المحسنين الَّذِينَ يَغُضُّونَ ويحفظون أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مراعاة لتعظيمه وحفظا للأدب معه صلّى الله عليه وسلم أُولئِكَ السعداء المقبولون هم الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ المجرب لإخلاص عباده قُلُوبَهُمْ التي هي اوعية الأيمان والإخلاص ليجعلها مقرا لِلتَّقْوى المثمرة لانواع اللذات الروحانية لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ستر وعفو من مقتضيات بشريتهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ هو تحققهم بمقام الرضاء والتسليم. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة
إِنَّ المسرفين المسيئين الَّذِينَ يُنادُونَكَ يا أكمل الرسل مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ حين كنت مستريحا في خلوتك فارغا في همك عن مقتضيات النبوة متوجها الى ربك حسب حصة ولايتك أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون خلوتك مع ربك ومنزلتك عنده سبحانه ولا يتفطنون باستغراقك بمطالعة وجهه الكريم إذ لو كان لهم عقل يوقظهم عن منام الغفلة لارشدهم البتة الى مراعاة الأدب معك يا أكمل الرسل(2/340)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حين احتياجهم إليك وارادتهم صحبتك حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لهدايتهم وإرشادهم بمقتضى شفقة النبوة لَكانَ خَيْراً لَهُمْ واولى من مبادرتهم الى النداء وَاللَّهُ المطلع بما في ضمائرهم من الإخلاص غَفُورٌ يغفر زلتهم ان وقعت منهم أحيانا رَحِيمٌ يرحمهم ان كانوا من ذوى الإخلاص مع الله ورسوله. ثم نادى سبحانه عموم المؤمنين المخلصين نداء ارشاد وتعليم تهذيبا لأخلاقهم عما لا يليق بشأن المؤمنين الموحدين فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم بالله حسن الظن بإخوانكم المؤمنين فعليكم انكم إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ منحرف عن عدالة الايمان خارج عن مقتضى التوحيد والعرفان بِنَبَإٍ وخبر على وجه الافتراء والمراء فَتَبَيَّنُوا اى عليكم ان تتفحصوا وتستكشفوا عنه ولا تبادروا الى تصديقه كراهة أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً سوأ واذية بمجرد الظن الكاذب مع انكم متصفون بِجَهالَةٍ اى كنتم جاهلين بحالهم فَتُصْبِحُوا وتصيروا بعد ما أصبتم القوم البرآء عَلى ما فَعَلْتُمْ من اذياتهم نادِمِينَ محزونين مغتمين كلما تذكرتم تغممتم
وَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ فِيكُمْ وبين أظهركم رَسُولَ اللَّهِ وسنته السنية الموروثة له من ربه في حياته وبعد مماته فعليكم الإطاعة والمراجعة اليه حين حياته والى سنته وشرعه بعد مماته صلّى الله عليه وسلّم في مطلق الأمور والخطوب والعرض عليه وعليها والمشاورة معه ومعها فعليكم ان لا تكلفوه صلّى الله عليه وسلم الى قبول ما قد حسنت لكم نفوسكم من الأمور والاحكام والخطوب الواقعة بينكم فانه لَوْ يُطِيعُكُمْ ويقبل منكم قولكم فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أثمتم أنتم وهلكتم في الإثم البتة واستغرقتم فيه إذ من مقتضى ايمانكم وانقيادكم له ان تفوضوا أموركم كلها اليه وتستصوبوها منه صلّى الله عليه وسلّم فان صوبها فبها والا فلا تكلفوه إذ منصب النبوة ومقتضى الحكمة يأبى عن ذلك وَلكِنَّ اللَّهَ الحكيم العليم قد حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ يعنى لا تعتذروا في رمى البرئ بمجرد القول الباطل والظن الفاسد بمحبة الايمان وكراهة الكفر فانه سبحانه وان حبب إليكم الايمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ المؤدى اليه وَالْعِصْيانَ المستلزم له لكنه لما حبب الايمان حببه على مقتضى الإخلاص والصدق والعدالة وكره الكفر الناشئ عن قصد واختيار لا ان ينسب اى ينسب عن بهتان وزور فانه سبحانه لا يرضى لعباده أمثال ذلك وبالجملة أُولئِكَ المؤمنون المجتنبون عن الزور والتهمة هُمُ الرَّاشِدُونَ المقصورون على الرشد والهداية الى صراط مستقيم هو صراط التوحيد المعتدل بين كلا طرفي الإفراط والتفريط وانما صار رشادهم هذا
فَضْلًا ناشئا مِنَ اللَّهِ المطلع بعموم استعدادات عباده وقابلياتهم وَنِعْمَةً موهوبة لهم من عنده وَاللَّهُ المحيط بعموم افعال عباده عَلِيمٌ بحوائجهم المصلحة لهم حَكِيمٌ في افاضتها حسب المصلحة
وَمن جملة أخلاقكم ايها المؤمنون المعتدلون في مقتضى الايمان إِنْ كانت طائِفَتانِ كلتاهما مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وتقاتلوا عن ثوران اللقوة الغضبية وهيجان الحمية الجاهلية من كلا الجانبين بسبب الخصومة المستمرة والعصبية المؤبدة فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما مهما أمكن الصلح على وفق الحكمة والعدالة فَإِنْ بَغَتْ اى غوت وغلبت إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى بحيث ادى بغيها الى الإفراط والظلم الخارج عن مقتضى العدالة الإلهية فَقاتِلُوا أنتم ايها المصلحون بأمر الله مظاهرين على الطائفة المغلوبة مع الطائفة الغالبة والفئة الباغية الَّتِي تَبْغِي وتغوى(2/341)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
حَتَّى تَفِيءَ وترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ العادل الحكيم وترضى بحكمه المترتب على محض القسط والعدالة فَإِنْ فاءَتْ ورجعت عن بغيها وطغيانها فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بعد ما وقع ما وقع بِالْعَدْلِ المنبئ عن الحكمة ورعاية القسط بين الجانبين وَبالجملة أَقْسِطُوا واعدلوا ايها المؤمنون في عموم أحوالكم واحكامكم إِنَّ اللَّهَ المستوي على العدل القويم يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ من عباده وكيف لا تصلحون بينهما ايها المؤمنون المصلحون
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الموقنون بوحدة الحق المصدقون لرسوله المبين لطريق توحيده إِخْوَةٌ في الدين القويم فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ بمقتضى العدل والإنصاف وَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور في إصلاحكم هذا عن الميل والانحراف لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لأجل عدالتكم وتقواكم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ترك المراء والاستهزاء من بنى نوعكم وإخوانكم بحيث لا يَسْخَرْ قَوْمٌ منكم ايها الرجال القوامون المقيمون لحدود الله مِنْ قَوْمٍ أمثالكم في القيام والتقويم اى لا يسخر أقوياؤكم ورساؤكم من أراذلكم وضعفائكم عَسى أَنْ يَكُونُوا اى المسخور بهم المرذولون خَيْراً مِنْهُمْ اى من الرؤساء الساخرين عند الله وَكذا لا يسخر منكم نِساءٌ عاليات متعززات مِنْ نِساءٍ سافلات مستضعفات عَسى أَنْ يَكُنَّ اى المستضعفات خَيْراً مِنْهُنَّ اى من العاليات الساخرات عند الله وكن اقرب الى رحمته منهن وَلا تَلْمِزُوا ايها المؤمنون ولا تعيبوا أَنْفُسَكُمْ اى بعضكم بعضا إذ المؤمنون كنفس واحدة فما لحق لهم وعليهم انما لحق بهم وعليهم جميعا وَعليكم ايضا ان لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ اى لا يدع بعضكم بعضا باللقب السوء الدال على القبح والذم فان النبز انما يستعمل في اللقب السوء وبالجملة انما نهيتم ايها المؤمنون عن عموم ما نهيتم عنه لأنه من جملة الفسوق والعصيان المستلزمين لانواع الخيبة والحرمان المسقطين للمروة والعدالة المترتبة على الحكمة الإلهية وبالجملة بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ المنبئ عن الخروج والانحراف عن صراط الحق سيما بَعْدَ الْإِيمانِ اى بعد الاتصاف بالإيمان المبنى على كمال الاعتدال وَبالجملة مَنْ لَمْ يَتُبْ ولم يرجع الى الله بعد ما صدر عنه أمثال هذه الجرائم المذكورة هفوة فَأُولئِكَ البعداء المصرون على الغواية والطغيان هُمُ الظَّالِمُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم بالله متابعة اليقين في عموم الأحوال والمقامات وترك الظنون والجهالات في جميع الحالات الا ظن الخير بالله وبخلص عباده من الأنبياء والأولياء المستبعدين بمراحل عن التهمة والتعزير اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ المورث لكم المجادلة والمراء مع الله ورسوله وعموم المؤمنين وبالجملة إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ ألا وهو الملقى إليكم من قبل الشيطان المزور المغوى إِثْمٌ خروج وفسوق عن مقتضى الحدود الإلهية وَايضا لا تَجَسَّسُوا اى من جملة أخلاقكم المحمودة ترك التجسس والتفحص سيما عن جلائل بنى نوعكم مطلقا فعليكم ان لا تبحثوا عن عورات المؤمنين وغيرهم سيما بما يوجب هتك حرماتهن من المفتريات الباطلة الشنيعة وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً اى من جملة أخلاقكم المحمودة ايها المؤمنون القاصدون لسلوك طريق التوحيد بل من أجلها ترك الغيبة وهي ان يذكر بعضكم بعضا منكم في غيبته بشيء لو كان حاضرا عندكم ليشق عليه ويكرهه البتة وسئل عليه السلام عن الغيبة فقال ان تذكر أخاك بما يكرهه فان كان فيه فقد اغتبته وان لم يكن فقد بهتّه وكلاهما خارجان عن اعتدال اهل الأيمان ثم أكد سبحانه هذا النهى على وجه(2/342)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
المبالغة في التوبيخ كأنه استدل عليه وصرح بنهيه وتقبيحه على سبيل المبالغة فقال أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ويرضى لنفسه أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ سيما حال كونه مَيْتاً ولو فرض عرض هذا عليكم فَكَرِهْتُمُوهُ البتة إذ لا يمكنكم انكار كراهته وغيبة أخ المؤمن اكره وأقبح من هذا وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور عن ارتكاب الغيبة المحرمة وتوبوا اليه عنها وعن أمثالها إِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في ضمائركم من الندم والإخلاص تَوَّابٌ يقبل منكم توبتكم ان اخلصتم فيها رَحِيمٌ يمحو عنكم زلتكم بعد ما تبتم ورجعتم نادمين عما فعلتم. ثم أكد سبحانه ايضا هذا الحكم على وجه التفصيل فقال
يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون المنشأ الأصلي والفطرة الجبلية إِنَّا خَلَقْناكُمْ اى اوجدناكم وأخرجناكم جميعا مِنْ ذَكَرٍ هو آدم المصور بصورتنا حسب حصته اللاهوتية المجبول على خلافتنا في عالم الناسوت وَأُنْثى هي حواء المنشعبة من آدم باعتبار حصة ناسوته وَبعد ما صيرناهما زوجين ممتزجين مزدوجين من حصتي اللاهوت والناسوت قد جَعَلْناكُمْ وصيرناكم شُعُوباً متكثرة من اصل واحد هو آدم وَقَبائِلَ مختلفة متحزبة من تلك الشعوب إذ الشعب هي الجمع المتكثر المنشعب عن اصل واحد والقبيلة هي الفرق المختلفة الحاصلة من الشعب والعمارة هي الطائفة المتفرعة عن القبيلة والبطن الجمع المتفرع عن العمارة والفخذ متفرع عن البطن والفصيل عن الفخذ فحزيمة مثلا شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصى بطن وهاشم فخذ وعباس فصيل وانما جعلناكم كذلك لِتَعارَفُوا اى يعرف بعضكم بعضا ويؤدى بكم تعارفكم الى التلاحق في المنشأ لا للتفاخر والتغالب والمظاهرة إذ لا تفاخر بينكم الا بالكرامة والنجابة المترتبة على حصة اللاهوت وبالجملة إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وأحذركم عن لوازم الناسوت ولواحق الهيولى إِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده عَلِيمٌ خَبِيرٌ بما في ظواهرهم وبواطنهم يوفقهم على مقتضى علمه وخبرته بهم ومن عدم امتثالهم واتصافهم بأمر التعارف والتلاحق المأمور والموصى إليهم
قالَتِ الْأَعْرابُ التي هي المتوغلة في اللدد والعناد على سبيل التغالب والتفاخر حين قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين لا عن عزيمة خالصة وقصد صادق بل على وجه الخداع والنفاق ولهذا كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على سبيل الامتنان قد آتيناك بالأحمال والأثقال ولم نقاتل معك كما قاتل بنو فلان آمَنَّا بك بلا سبق خصومة منا معك وبالجملة يمنون عليك يا أكمل الرسل بايمانهم الواهية وصدقاتهم الغير الوافية قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما أظهروا خلاف ما اضمروا في نفوسهم من المنة والغلول المنافى للإخلاص والايمان لَمْ تُؤْمِنُوا ايها الاعراب الأجلاف بمجرد قولكم آمنا إذ الايمان انما هو من افعال القلوب الصافية عن كدر المن والأذى مطلقا وَلكِنْ قُولُوا بدل قولكم آمنا أَسْلَمْنا اى قد دخلنا في السلم وصالحنا معكم على ان لا تخاصم بيننا وبينكم ولا نزاع وكيف تقولون آمنا وَالحال انه لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ اى لم يدخل الإذعان والقبول الملازم للايمان بل الايمان ليس الا الإذعان فِي قُلُوبِكُمْ التي هي أوعيته وهو من افعالها وَبالجملة إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ حق إطاعتهما وانقيادهما مخلصين لا يَلِتْكُمْ ولا ينقصكم مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً قليلا من اجورها وجزائها ان اخلصتم في ايمانكم وإطاعتكم وجئتم بهما بلا من وأذى إِنَّ اللَّهَ المطلع على نيات عباده غَفُورٌ لمن تاب عن فرطاته رَحِيمٌ يرحمه ويقبل(2/343)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
توبته وبالجملة
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ المخلصون هم الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وأخلصوا في ايمانهم وإذعانهم ليصلوا الى مرتبة التوحيد المسقط لعموم الإضافات ثُمَّ بعد ما آمنوا وأخلصوا لَمْ يَرْتابُوا ولم يشكوا قط فيما آمنوا وَمع ذلك جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع اعداء الله أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله هُمُ الصَّادِقُونَ المقصورون على الصدق والإخلاص الفائزون عند ربهم بأنواع الفوز والفلاح المتمكنون في مقعد صدق عند مليك مقتدر على عموم الانعام والإفضال
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما أظهروا الايمان الجعلى بألسنتهم ولم يواطئ عليه قلوبهم أَتُعَلِّمُونَ وتخبرون ايها الجاهلون اللَّهَ المطلع لعموم السرائر والخفايا بِدِينِكُمْ وايمانكم هذا وَالحال انه اللَّهَ سبحانه يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما فِي السَّماواتِ من الغيوب والشهادات وَجميع ما فِي الْأَرْضِ ايضا كذلك وَبالجملة اللَّهَ المحيط بالكل بِكُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة الوجود عَلِيمٌ لا يعزب عن حضرة علمه شيء مما لمع عليه برق الوجود بمقتضى الجود. ثم قال سبحانه تعليما لحبيبه وإرشادا
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل أَنْ أَسْلَمُوا اى بإسلامهم ودخولهم في السلم مع انهم ليسوا في أنفسهم مؤمنين مذعنين قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم إلزاما وتبكيتا لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ اى بإسلامكم هذا ولا تعدوا انفسكم من جملة المؤمنين بمجرد ما تفوهتم بالإيمان بَلِ اللَّهُ العالم بعموم السرائر والخفايا يَمُنُّ عَلَيْكُمْ على أَنْ هَداكُمْ وأرشدكم لِلْإِيمانِ المثمر للعرفان المستلزم للكشف والعيان إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ايمانكم وفي اذعانكم ومواطأة قلوبكم مع ألسنتكم ومطابقتها لها مع انكم لستم كذلك ايها الحمقى الهلكى التائهون في تيه الكفر والنفاق وبالجملة
إِنَّ اللَّهَ المطلع بما في ضمائر عباده من الثقة والإخلاص يَعْلَمُ بحضرة علمه الحضوري غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بحيث لا يغيب عن حضوره وشهوده شيء منها وَبالجملة اللَّهَ المراقب بعموم أحوالكم واطواركم بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال خيرا كان او شرا يجازيكم بمقتضى بصارته وعلمه. جعلنا الله من زمرة المؤمنين المخلصين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
خاتمة سورة الحجرات
عليك ايها الموحد المحمدي المتحقق بمقام التوحيد الذاتي مكنك الله في مقر عزتك وتمكينك ان تترفع بنفسك عن مطلق الرذائل المتعلقة بالأهوية الفاسدة والأماني الكاسدة سيما عن المن والأذى في الانفاق وغيره وعن رعونات السمعة والرياء في مطلق الطاعات والعبادات وإياك إياك ان تتفوق على احد من بنى نوعك واخوانك في عموم حالاتك وازمانك فانه من شيم اصحاب النخوة والكفران المورث لهم انواع الخيبة والخسران واصناف الخذلان والحرمان فلك ان تلازم التواضع والانكسار مع عموم المظاهر والمجالى الإلهية والاعتزال عن مطلق اصحاب الجاه والاعتبار وعليك بالقناعة مع الكفاف والعزلة مع العفاف والاجتناب عن الخلطة والائتلاف والاتصاف بالانصاف وبترك الأوصاف. جعلنا الله ممن ثبت على منهج الصدق والصواب واجتنب عما ينافيه بتوفيق من لدنه وتيسيره(2/344)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
[سورة ق]
فاتحة سورة ق
لا يخفى على من تنور قلبه بأنوار الوحدة الذاتية المتشعشعة من مشكاة النبوة والولاية المترتبتين على نشأة الإنسان المصور بصورة الرحمن إذ أكمل المظاهر وأوليها لقبول التجليات الإلهية وأحراها لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحانه وأليقها للتخلق بأخلاق الحق هو الإنسان الكامل القابل لانعكاس اشعة شمس الذات الاحدية المستهلك دونها عموم الكثرات والإضافات فظهر ان لا مظهر اجمع من الإنسان وأكمل منه واشرف هذا النوع وأكمله وأتمه علما وعينا كشفا وشهودا هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه فمن تعجب عن رسالته وخلافته صلّى الله عليه وسلّم عتوا وأنكر إرشاده وهدايته لبنى نوعه عنادا وإنزال الله الوحى اليه مكابرة فقد ضل وغوى ولم يهتد الى ما هو الرشد والهدى لذلك انزل سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ما انزل وخاطبه بما خاطب واقسم بما اقسم تأكيدا ومبالغة لإثبات هدايته وإرشاده صلّى الله عليه وسلّم وكمال لياقته لخلافة الحق ونيابته فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المرسل للرسل المنزل للكتب لتبيين طريق توحيده الرَّحْمنِ بعموم عباده يدعوهم الى دار السلام الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى أعلى المقامات بأنواع الانعام والإكرام
[الآيات]
ق ايها الإنسان الكامل القابل لخلعة الخلافة والنيابة الإلهية القيم القائم لتبليغ الوحى والإلهام المنزل عليه من عنده سبحانه على عموم الأنام القائد لهم الى توحيد الملك العلام القدوس السلام ذي القدرة والقوة الكاملة الشاملة على عموم الانعام والانتقام وَحق الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ العظيم المنزل من المجيد العظيم انك يا أكمل الرسل لمرسل الى كافة الخلق من الحق على الحق لتبيين طريق الحق وتوحيده. ولما لم يجد المنكرون الجاحدون لعلو شأنك فيك يا أكمل الرسل شيأ وشينا يبعثهم ويدعوهم الى إنكارك وتكذيبك صريحا اضطروا الى العناد والمكابرة
بَلْ عَجِبُوا على سبيل الاستبعاد والاستنكار أولئك الحمقى الجاهلون الجاحدون أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ اى بان بعث إليهم رسول من جنسهم وبنى نوعهم ينذرهم عن اهوال يوم القيامة وافزاعها مع انهم منكرون للحشر وإرسال البشر جميعا فَقالَ الْكافِرُونَ المستكبرون بعد ما سمعوا منك الدعوة والإنذار من شدة انكارهم واستبعادهم هذا اى إرسال البشر الى البشر والإنذار من الحشر المحال كل منهما شَيْءٌ عَجِيبٌ وامر بديع ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ثم فصلوا ما اجملوا على سبيل التعجب والإنكار فقالوا فيما بينهم مستفهمين مستبعدين
أَإِذا مِتْنا اى أنرجع ونعود احياء كما كنا إذا متنا وَكُنَّا تُراباً وهباء منبثا ذلِكَ العود والرجوع رَجْعٌ بَعِيدٌ عن الوقوع وقبول العقول. ثم قال سبحانه ردا عليهم وردعا لهم كيف تستبعدون وتنكرون عنا قدرتنا على بعث الموتى واعادتهم احياء كما كانوا مع انا
قَدْ عَلِمْنا على وجه التفصيل والتحقيق ما تَنْقُصُ تأكل الْأَرْضُ مِنْهُمْ اى من اجزائهم وعظامهم واوصالهم وكيف لا نعلم وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ حاصر لتفصيل عموم الأشياء حافظ لها ألا وهو حضرة علمنا الحضوري ولوح قضائنا المحفوظ المصون عن عدم الضبط والشذوذ
بَلْ هم من غاية عمههم وسكرتهم ونهاية غيهم وغفلتهم كَذَّبُوا بِالْحَقِّ المطابق للواقع المؤيد بالبرهان الساطع والدليل القاطع وهو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لَمَّا جاءَهُمْ وحين بعث إليهم من الحق بالحق على الحق لتبيينه وتمييزه عن الباطل لذلك أنكروا(2/345)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
البعث الذي جاء صلّى الله عليه وسلّم لتبيينه وللانذار بما فيه من انواع العقبات والعقوبات وبالجملة فَهُمْ بمقتضى أحلامهم السخيفة مغمورون فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب مخلوط حيث يلتبس عليهم حقيته صلّى الله عليه وسلّم وحقية عموم ما جاء به لذلك يترددون في شأنه ويقولون تارة انه شاعر وتارة انه ساحر وتارة كاهن وتارة مجنون مخبط يتكلم بكلام المجانين الى غير ذلك من المفتريات الباطلة
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا ولم يتفكروا ولم يتفطنوا حين أنكروا البعث والحشر إِلَى السَّماءِ المطبقة المعلقة فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها ورفعناها بلا اعمدة وأساطين وَكيف زَيَّنَّاها بالكواكب المتفاوتة في الإضاءة والتنوير وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ نتو وفتوق بل قد خلقناها ملساء متوازية السطوح متلاصقة الطباق
وَلم ينظروا ايضا الى الْأَرْضَ ولم يتدبروا فيها كيف مَدَدْناها ومهدناها بكمال قدرتنا وحكمتنا وَأَلْقَيْنا فِيها وعليها رَواسِيَ جبالا ثوابت شامخات وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من انواع النباتات بَهِيجٍ حسن كريم تبهج عيون الناظرين وتسر قلوبهم وبالجملة ما خلقنا عموم ما خلقنا من العجائب والغرائب الا لتكون
تَبْصِرَةً وَذِكْرى اى عظة وعبرة دالة على كمال قدرتنا ومتانة حكمنا وحكمتنا لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ رجاع إلينا متوجه نحونا بكمال التبتل والتفويض ليتذكر بها ويتفطن منها على كمال اقتدارنا واختيارنا في خلق عموم مرادتنا ومقدوراتنا ومن جملتها حشر الأموات وبعثهم من قبورهم احياء
وَكيف يسع لأولئك الحمقى الهالكين في تيه العناد والجحود انكار قدرتنا على البعث والإعادة مع انا قد نَزَّلْنا مِنَ جانب السَّماءِ ماءً مُبارَكاً كثير الخير والبركة فَأَنْبَتْنا بِهِ بعد انزاله وتنزيله على الأرض اليابسة الميتة جَنَّاتٍ اى حدائق ذات بهجة وبهاء ونزاهة وصفاء وَلا سيما حَبَّ الْحَصِيدِ من البر والشعير وسائر الحبوب المحصورة للتقوت والتعيش
وَقد أنبتنا به خصوصا النَّخْلَ وجعلناها باسِقاتٍ طوالا متحملات لَها طَلْعٌ ثمر ذو عنقود نَضِيدٌ منضود منضد بعضه فوق بعض من غاية كثرته وكثافته وانما انبتناها لتكون
رِزْقاً لِلْعِبادِ يرزقون بها ويواظبون على شكر منعمها ومبدعها وَبالجملة قد أَحْيَيْنا بِهِ اى بالماء المنزل من جانب السماء بَلْدَةً مَيْتاً يابسة جدبة لا كلأ فيها ولا ماء كَذلِكَ الْخُرُوجُ اى خروجهم من قبورهم احياء بقدرتنا مثل ذلك فمن اين ينكرون وأنى يستبعدون أولئك الحمقى الجاهلون الجاحدون بقدرة العليم الحكيم وليس هذا التكذيب والإنكار ببدع من هؤلاء المكذبين المنكرين يا أكمل الرسل بل قد
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ مثل تكذيبهم وانكارهم قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا صلّى الله عليه وسلّم حين بعث إليهم وانذرهم ونهاهم عماهم عليه من الكفر والجحود والخروج عن مقتضى الحدود وَكذلك كذبت أَصْحابُ الرَّسِّ وهو بئر كانوا يسكنون حوله أخاك حنظلة بن صفوان عليه السلام وَكذا قد كذبت ثَمُودُ أخاك صالحا عليه السلام فعقروا الناقة المقترحة
وَعادٌ أخاك هودا عليه السلام وَقد كذب فِرْعَوْنُ وملاؤه أخاك موسى الكليم وَإِخْوانُ لُوطٍ أخاك لوطا عليه السلام سماهم إخوانه لأنهم اصهاره
وَكذبت ايضا أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أخاك شعيبا عليه السلام وَكذبت قَوْمُ تُبَّعٍ وهو تبع الحميرى واسمه اسعد ابو كريب علماءهم وأئمتهم المصلحين لمفاسدهم وبالجملة كُلٌّ منهم قد كَذَّبَ الرُّسُلَ المبعوثين إليهم لهدايتهم وإرشادهم فَحَقَّ اى قد حل ولحق عليهم وَعِيدِ الموعود لهم بتكذيبهم وإصرارهم(2/346)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
فهلكوا واستوصلوا فكذا هؤلاء المكذبون المسرفون سيهلكون ويستأصلون عن قريب فاصبر يا أكمل الرسل على أذاهم ولا تستعجل لهم فسيرون ما يوعدون. ثم قال سبحانه على سبيل الإنكار والاستبعاد على المنكرين المستبعدين بالحشر والبعث
أَفَعَيِينا اى أينكرون قدرتنا على الإعادة ويظنون انا قد صرنا عاجزين بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ اى الإبداء الابداعى عن الخلق الثاني الأعادي ويزعمون ان قدرتنا تضعف وتفتر عند الخلق الاول بل تنتهي دونه ولم يعلموا ان قدرتنا بل عموم اوصافنا وأسمائنا لا تتصف بالانتهاء والفتور ولا بالانقضاء والقصور حتى يفهموا ويتفطنوا ان تعلق قدرتنا لكل مقدور من المقدورات في كل آن من الآنات على شأن الشئون الكمالية بحيث لم يمض مثله ولا يأتى شبهه بَلْ لهم ان يتفطنوا بمقتضى الفطرة الاصلية ان هُمْ في أنفسهم وفي حدود ذواتهم دائما مستمرا فِي لَبْسٍ وخلعة مِنْ توارد خَلْقٍ جَدِيدٍ منا وإيجاد متجدد من لدنا في كل زمان وآن حسب قدرتنا واختيارنا
وَبالجملة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وقدرنا وجوده واستعداده في حضرة علمنا وأثبتناه في لوح قضائنا وأظهرناه من كتم العدم وَنحن نَعْلَمُ منه حينئذ ما تُوَسْوِسُ وتحدث بِهِ نَفْسُهُ وتخطر بباله الآن من أمثال هذه الأوهام والخيالات الباطلة المترتبة على حصة ناسوته المقيدة بسلاسل الرسوم وأغلال العادات الموروثة له من العقل الفضول الممتزج بالوهم الجهول وَكيف لا نعلم منه هواجس نفسه إذ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ اى وريده وهو مثل في القرب المفرط كما قال الموت ادنى لي من الوريد واضافة الحبل اليه للبيان وبالجملة نحن اقرب اليه من الوريدين وهما العرقان المنبثان من مقدم الرأس المتنازلان من طرفي العنق المتلاصقان عند القفا المنتهيان الى آخر البدن وهما قوام البدن وعليهما مداره إذ هما أقوى دعائم هيكل الإنسان وبالجملة نحن بحسب روحنا المنفوخ فيه من عالم اللاهوت اقرب اليه من ناسوته لا على توهم المسافة وعلى سبيل التركب والاتحاد والحلول والامتزاج بل على وجه الظلية والانعكاس ومع غاية قرب الحق اليه وكمال احاطته إياه وكل عليه الحفظة من الملائكة ليراقبوا أحواله ويحافظوا عليه إلزاما للحجة عليه لدى الحاجة يوم القيامة اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ الموكلان عليه عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ اى قاعد كل من الموكلين عن يمينه وشماله مترقبين على عموم أحواله واعماله وأقواله بحيث
ما يَلْفِظُ ولا يتلفظ مِنْ قَوْلٍ يتفوه به ويرميه من فيه إِلَّا لَدَيْهِ وعنده رَقِيبٌ حفيظ عليه عَتِيدٌ مهيأ معد حاضر عنده غير مغيب عنه يرقبه ويحفظه على وجه لا يفوت عنه شيء من ملتقطاته مطلقا خيرا كان او شرا
وَهما يحفظانه ويرقبان عليه الى حين جاءَتْ وحضرت سَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته وغمرته بِالْحَقِّ والحقيقة وحضرت علاماته وانكشفت عليه أهواله واماراته قيل له حينئذ من قبل الحق ذلِكَ اى الموت الذي ينزل عليك الآن ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ هو الموت الذي قد كنت أنت تميل وتفر عنه فيما مضى
وَبعد ما ذاق الإنسان مرارة العذاب وقت سكرات الموت فتكون تذكرة أنموذجا عنده من العذاب الموعود في يوم القيامة نُفِخَ فِي الصُّورِ للبعث والحشر فإذا هو قائم هائم حائر ينظر حيران سكران قيل له من قبل الحق على سبيل التهويل ألست تنظر وتتحير يا حائر الهائم ذلِكَ اليوم الذي أنت فيه الآن يَوْمُ الْوَعِيدِ الموعود لك في دار الدنيا وأنت حينئذ لم تؤمن به ولم تخف من أهواله حتى وقعت فيه وذقت من عذابه وقت موتك وخروجك من الدنيا
وَبعد ما بعث الأموات من أجداثهم(2/347)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
وحشروا للجزاء جاءَتْ وحضرت كُلُّ نَفْسٍ من النفوس الطيبة والخبيثة مَعَها سائِقٌ موكل يسوقها الى المحشر للعرض والجزاء وَشَهِيدٌ من حفظة أعمالها وأحوالها يشهد لها او عليها وبعد ما حضر الكل بين يدي الله قيل لكل منهم من قبل الحق على وجه الخطاب والعقاب
لَقَدْ كُنْتَ ايها المغرور فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم وانكار عظيم من وقوعه كذلك كذبت بالرسل وكنت استهزأت من الهداة الثقاة واستكبرت عليهم فَكَشَفْنا اليوم عَنْكَ غِطاءَكَ الذي هو سبب غفلتك وإنكارك وعلة تعاميك واستكبارك من الآيات والنذر ألا وهو تفكرك المحسوسات العادية وإنكارك على الأمور الغيبية الخارجة عن حيازة حواسك وقواك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ يعنى قد صار بصرك بعد انكشافك بهذا اليوم حادا حديدا نافذا الا انه لا ينفعك الآن حدة بصرك وانكشافك بعد ما انقرضت نشأة الاختبار والاعتبار
وَقالَ له حينئذ قَرِينُهُ من الحفظة المراقب عليه في النشأة الاولى هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ اى هذا الذي سمعت الآن من الخطاب والعتاب هو الذي حفظته لك عندي وكتبته في صحيفة عملك قبل وقوعك فيه في النشأة الاولى وبعد ما جرى بين كل من العصاة وبين قرينهم ما جرى قد امر من قبل الحق للسائق والشهيد امرا وجوبيا حتما
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ واطرحا فيها كُلَّ كَفَّارٍ مبالغ في الكفر والإنكار عَنِيدٍ متبالغ متناه في العناد والاستكبار
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مبالغ في المنع عن الانفاق المأمور به مُعْتَدٍ متجاوز عن الحق مائل نحو الباطل مُرِيبٍ موقع لعباد الله في الشك والشبهة في دينه القويم وصراطه المستقيم الذي أنزله سبحانه الى رسوله المتصف بالخلق العظيم وهذا المسرف المفرط هو
الَّذِي جَعَلَ اى أخذ واثبت مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد المنزه عن الشرك مطلقا إِلهاً آخَرَ واعتقده موجدا مثله شريكا معه في عموم أفعاله وآثاره وبالجملة فَأَلْقِياهُ ايها الموكلان هذا الطاغي الباغي المتناهي في التعدي والعدوان فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ بدل ما تجاوز عن التوحيد الإلهي وأصر على التشريك والتعديد في حقه سبحانه. وبعد ما أراد الموكلان ان يبطشاه ويجراه نحو النار أخذ يصرخ وينسب شركه وضلاله الى الشيطان المضل المغوى وهو حاضر عنده سامع قوله وبعد ما سمع الشيطان منه ما سمع
قالَ له قَرِينُهُ اى الشيطان متضرعا الى الله مناجيا معه رَبَّنا يا من ربانا لاختبار اخلاص عبادك في أعمالهم ما أَطْغَيْتُهُ وما أضللته انا وَلكِنْ كانَ في نفسه فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الهداية والرشد حسب اهويته وأمانيه الفاسدة وآماله الطويلة الكاسدة وبعد ما اختصم الكافر وقرينه عند الله
قالَ الله سبحانه لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ولا تنازعوا عندي إذ لا نفع لكم الآن في الخصومة والنزاع وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ في كتبي وعلى ألسنة رسلي بِالْوَعِيدِ الهائل والعذاب الشديد على اهل الشرك والطغيان والكفر والكفران فالحكم على ما جرى بلا تبديل وتغيير إذ
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ والحكم لَدَيَّ بل ما هو المقدر في علمي كائن على ما ثبت وكان بمقتضى العدالة والقسط الحقيقي وَبالجملة ما أَنَا في حال من الأحوال وشأن من الشئون بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اى ليس من شأنى الظلم والتعدي على عبيدي بل هم يظلمون أنفسهم فيستحقون العقوبة على قدر عصيانهم. اذكر يا أكمل الرسل للعصاة والكفرة المشركين المصرين على العناد والإنكار
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ المعدة لجزائهم سؤال تخييل وتصوير حين طرحت عليها أفواج الكفرة والعصاة هَلِ امْتَلَأْتِ يا جهنم وَتَقُولُ(2/348)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
جهنم من شدة تلهبه وتسعره بإنطاق الله إياها هَلْ مِنْ مَزِيدٍ على المطروح حتى يطرح. ثم يطرح ما بقي من أهلها الى ان امتلأت انجازا لما وعد لها الحق بقوله لا ملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
وَاذكر ايضا يا أكمل الرسل للمؤمنين المطيعين يوم أُزْلِفَتِ وقربت الْجَنَّةُ الموعودة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ بل بحيث يرون منازلهم فيها من غاية قربها قبل دخولهم ويتمنون الوصول فيقال لهم حينئذ
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ رجاع نحو الحق في عموم ملماته تواب الى الله من عموم زلاته ومطلق فرطاته في نشأة الاختبار حَفِيظٍ لتوبته على وجه الندم والإخلاص بلا توهم عود ورجوع إليها أصلا وبالجملة
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ واجتنب عن عموم محارمه ومنهياته خائفا من سخطه راجيا من سعة رحمته حال كونه في نشأة الاعتبار والاختبار قبل انكشاف السرائر والأستار وحلول النشأة الاخرى ورضى بالتكالف الإلهية ووطن نفسه لامتثال عموم الأوامر والنواهي وبمطلق الاحكام الجارية على ألسنة الرسل والكتب وَمع ذلك قد جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ الى الله مقبل نحوه طوعا ورغبة مخلص في طاعة الله واطاعة رسوله قيل لهم حينئذ من قبل الحق على وجه التبشير
ادْخُلُوها اى الجنة المعدة لأرباب التقوى بِسَلامٍ حال كونكم سالمين آمنين من العذاب لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ذلِكَ اليوم الذي أنتم فيه الآن يَوْمُ الْخُلُودِ في الجنة الموعودة لأرباب العناية والشهود. جعلنا الله من زمرتهم بمنه وجوده وبالجملة
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها من اللذات الحسية والعقلية المحاطة بمداركهم وآلاتهم بل وَلَدَيْنا مَزِيدٌ على ما يسألون وما يأملون بحسب استعداداتهم مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم قال سبحانه تهديدا على من اعرض عن دينه ونبيه
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ اى قبل قومكم يا أكمل الرسل مِنْ قَرْنٍ اى اهله يعنى أقواما كثيرة وامما شتى قد أهلكنا قبلهم مع انه هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة وقدرة واكثر أموالا واولادا كعاد وثمود وفرعون وغيرهم فَنَقَّبُوا اى انصرفوا وانقلبوا وساروا فِي الْبِلادِ متمنين هَلْ يجدون مِنْ مَحِيصٍ مهرب ومخلص من بطش الله وحلول عذابه عليهم فلم يجدوا بعد ما استحقوا الأخذ والتعذيب والإهلاك وبالآخرة هلكوا واستؤصلوا حتما فكذا هؤلاء المسرفون المعاندون سيهلكون كما هلكوا وبالجملة
إِنَّ فِي ذلِكَ القرآن العظيم الذي نزل عليك يا أكمل الرسل لَذِكْرى اى عظة وتذكيرا وعبرة وتنبيهما لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ يتفطن من تقلبات الأحوال وتطوراتها الى شئون الحق وتجلياته الجمالية والجلالية حسب اقتضاء الذات بالإرادة والاختيار وكمالات الأسماء والصفات الذاتية أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ اى يكون من ارباب الارادة الصادقة الخالصة عن شوائب السمعة ورعونات الرياء بحيث القى سمعه الى استماع كلمة الحق من اهله وَهُوَ حينئذ شَهِيدٌ حاضر القلب فارغ الهم حديد الفطنة صحيح الارادة خالص العزيمة مترقب لان ينكشف له ما انكشف لأرباب القلوب فيكون منهم. ثم لما قالت اليهود ان الله خلق العالم في ستة ايام من الأسبوع وبعد ما عيى من الخلق والإيجاد استلقى على العرش في يوم السبت للاستراحة رد الله عليهم فقال
وَلَقَدْ خَلَقْنَا وأظهرنا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الكوائن الممتزجة منهما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ على عدد الأقطار والجهات وَمع ذلك ما مَسَّنا وما عرض علينا وما لحق بنا مِنْ لُغُوبٍ وصب وتعب وعياء وفتور كما زعم هؤلاء المسرفون المفرطون إذ ذاتنا المتعالية متنزهة عن طريان أمثال هذه(2/349)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
النقائص الامكانية
فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل عَلى ما يَقُولُونَ وينسبون الى الله الصمد المقدس عن أمثال هذه المفتريات الباطلة الناشئة من جهلهم المفرط بالله وبمقتضى ألوهيته وربوبيته وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حسب توحيدك وتمجيدك إياه ونزه ذاته عن عموم ما يقول الظالمون الجاهلون الجاحدون بعلو شأنه وسمو برهانه وتوجه نحوه سبحانه في عموم أوقاتك وحالاتك سيما قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ يعنى كلا طرفي النهار إذ هما أوان الفراغ عن مطلق الاشغال
وَمِنَ آناء اللَّيْلِ اى في خلال تهجداتك فَسَبِّحْهُ وَبالجملة سبحه أَدْبارَ السُّجُودِ اى عقيب كل صلاة ذات ركوع وسجود. ثم قال سبحانه آمرا لحبيبه صلّى الله عليه وسلم
وَاسْتَمِعْ يا أكمل الرسل لما أخبرك الحق من اهوال يوم القيامة وافزاعها سيما النداء الهائل يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ من قبل الحق لقيام الساعة والبعث مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بكل احد بحيث يسمع نداءه بلا كلفة وشبهة فيقول أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة ان الله يأمركن ان تجتمعن للحساب والجزاء وهم
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ اى النفخة الثانية ملتبسة بِالْحَقِّ تحققوا وعلموا يقينا ان ذلِكَ اليوم يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور ويوم البعث والنشور وبالجملة يقول الله سبحانه مخاطبا لعباده
إِنَّا بمقتضى كمال قدرتنا وحكمتنا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ في النشأة الاولى بالإرادة والاختيار وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ اى مصير الكل ومرجعه إلينا في النشأة الأخرى. اذكر يا أكمل الرسل لمن أنكر الحشر والمعاد
يَوْمَ تَشَقَّقُ وتتخرق الْأَرْضُ عَنْهُمْ ويخرجون منها سِراعاً مسرعين ذلِكَ اى إخراجهم وخروجهم كذلك حَشْرٌ بعث وجمع عَلَيْنا يَسِيرٌ سهل لا تستبعدوا ولا تستعسروا عن قدرتنا الكاملة أمثال هذا إذ
نَحْنُ أَعْلَمُ واحفظ بِما يَقُولُونَ اى بعموم ما يقول المنكرون المشركون في سرائرهم ونجواهم وَما أَنْتَ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ تردعهم وتزجرهم عماهم عليه من الإنكار والإصرار بل ما أنت الا مذكر نذير فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ اى بوعيداته وانذاراته مَنْ يَخافُ وَعِيدِ إذ لا ينفع تذكيرك الا للخائف المتذكر منهم ومن لم يخف ليس لك عليهم سلطان ليزعجهم الى الايمان ويلجئهم الى قبول الإسلام إذ ما عليك الا البلاغ والتذكير والتوفيق من الله العليم الخبير
خاتمة سورة ق
عليك ايها المحمدي المترقب لتوفيق الحق في عموم احوالك وفقك الله على سلوك طريق توحيده ان تفرغ همك عما سوى الحق وتصفى سرك عن مطلق الشواغل المنافية لصرافة الوحدة الذاتية وكن في نفسك وجلا خائفا من غضب ربك راجيا من عفوه وغفرانه في عموم أعمالك التي جئت بها تقربا اليه سبحانه مفوضا أمورك كلها الى مشيته وبالجملة عليك ان تتذكر بوعيدات القرآن ومواعيده المستلزمة لصلاح الدارين وفلاح النشأتين وإياك إياك الاعراض عن الحق واهله والانحراف عن معالم الدين القويم المنزل من عنده سبحانه لتبيين مسالك توحيده. جعلنا الله وإياكم من زمرة الراسخين المتمكنين في معالم الدين القويم بمنه وجوده
[سورة الذاريات]
فاتحة سورة الذاريات
لا يخفى على الموحدين المنكشفين بظهور الحق في مطلق المظاهر بوحدته الذاتية المتصفة بجميع الأوصاف(2/350)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)
الكاملة والأسماء الشاملة المحيط كل منها بعموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد من ذرائر المظاهر والمجالى ان كل مظهر من مظاهر الحق باعتبار ظهور الحق فيه بذاته قابل لان يقسم به ويتيمن منه كما اقسم سبحانه في هذه السورة بما اقسم تنبيها وتعليما لعباده بظهوره في عموم مظاهره فقال بعد ما تيمن باسمه الأعظم الأعلى الذي هو بِسْمِ اللَّهِ المتجلى في الرياح المروحة لنفوس ارباب الطلب والارادة شوقا الى لقائه الرَّحْمنِ لهم يوقظهم عن سنة الغفلة الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى فضاء الوحدة
[الآيات]
وَالذَّارِياتِ اى وحق النسمات الروحانية المهبة من النفسات الرحمانية على وفق العناية الازلية بحيث تذرى وتبعث النفوس الخيرة الموفقة المجبولة على نشأة التوحيد ذَرْواً نوعا من الذرو والبعث المنبعث من محض المودة والمحبة على سبيل الشوق والتحنن نحو المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي
فَالْحامِلاتِ من القوى والآلات الحامل كل منها وِقْراً حملا ثقيلا خطيرا من أعباء الوحى والإلهامات الإلهية المنتشئة من العلوم اللدنية والإدراكات الكشفية المنشعبة من حضرة العلم الحضوري الإلهي ولوح القضاء المحفوظ المتعلق بالمعارف والحقائق الإلهية الفائضة لبعض النفوس الزكية من ارباب العناية
فَالْجارِياتِ اى سفن النفوس الزكية القدسية المشتملة على انواع المدارك والمشاعر الجارية في بحر الوجود يُسْراً سهلا بلا تثاقل وتكاسل أصلا
فَالْمُقَسِّماتِ من الأسماء والصفات الإلهية الموسومات بالملائكة المقسمة لقوابل المظاهر أَمْراً اى عموم امور أرزاقهم ومطلق أجناس حظوظهم وانصبائهم من الفتوحات الصورية والمعنوية الفائضة الموهوبة لهم من قبل الحق حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية
إِنَّما تُوعَدُونَ أنتم ايها المكلفون المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان من البعث والحشر والحساب والجزاء وغير ذلك من المعتقدات الاخروية المترتبة على حضرة العلم المحيط الإلهي وحضرة قدرته الغالبة وارادته الكاملة لَصادِقٌ ثابت محقق وقوعه بلا شك وشبهة
وَإِنَّ الدِّينَ والجزاء المعبر بهما عن الطامة الكبرى الموعود لكم في النشأة الاخرى المتفرع على أعمالكم وأفعالكم التي قد صدرت عنكم في النشأة الاولى لَواقِعٌ محقق وقوعه كائن قيامه وإتيانه بلا تردد وارتياب. ثم لما اقسم سبحانه بما يتعلق بعالم الأمر أراد ان يقسم بما يتعلق بعالم الخلق تتميما للتأكيد والمبالغة بالقسم باعتبار كلا العالمين فقال
وَالسَّماءِ اى وحق السماء الرفيعة البديعة النظم العجيبة التركيب ذاتِ الْحُبُكِ اى الحسن والزينة وكمال الصفاء والبهجة والبهاء مع اشتمالها على الكواكب المضيئة المشيرة الى الطرق الموصلة الى كمال قدرة الصانع القديم ومتانة حكمة الحكيم العليم ان اليوم الموعود لبعثكم وجزائكم لآت البتة
إِنَّكُمْ ايها الشاكون المترددون في شأنه وشأن من اخبر به بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي وفي شأن ما نزل لتبيينه من الكتاب المبين لاعداد الزاد له وطريق النجاة عن أهواله وافزاعه لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ تنكرون له وتكذبون المخبر الصادق وتنسبونه وكتابه الى ما لا يليق بشأنهما من المفتريات الباطلة حيث تقولون انه سحر او من أساطير الأولين او كهانة اختلقها هذا الساحر الشاعر او كلام المجانين يتكلم به هذا المجنون
يُؤْفَكُ ويصرف عَنْهُ صلّى الله عليه وسلّم وعن دينه وكتابه مَنْ أُفِكَ صرف عن الحق وقبوله ومال الى الباطل وسعى نحوه وبسبب إفكهم وذبهم عن طريق الحق والامتثال به قد
قُتِلَ اى طرد ولعن على ألسنة عموم اهل الحق الْخَرَّاصُونَ المنكرون الكذابون المكذبون المسرفون من اصحاب القول المختلف ألا وهم
الَّذِينَ هُمْ من شدة(2/351)
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
انصرافهم عن الحق واهله مغمورون فِي غَمْرَةٍ غفلة عظيمة وجهل متناه ساهُونَ عن الله وقدر ألوهيته وحقوق ربوبيته ومن كمال غفلتهم وشدة عمهم وسكرتهم
يَسْئَلُونَ على سبيل التهكم والاستهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ اى متى يوم الجزاء والقيامة يا محمد وفي أى آن يأتينا عذاب الساعة وأهوالها قال الله تعالى سبحانه في جوابهم
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ اى يأتى عليهم العذاب والجزاء في يوم هم يحرقون فيه في النار ويطرحون عليها صاغرين مهانين ويقول لهم الموكلون حين طرحهم فيها توبيخا وتقريعا
ذُوقُوا ايها المجرمون المسرفون فِتْنَتَكُمْ التي أنتم تستعجلون بها في دار الدنيا على سبيل الاستهزاء والمراء وبالجملة هذَا الَّذِي وقعتم فيه وحبستم عليه الآن من العذاب قد كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أنتم في سالف الزمان على سبيل الإنكار والاستكبار. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه
إِنَّ الْمُتَّقِينَ الممتثلين بأوامر الله المجتنبين عن نواهيه الموردة في كتبه الجارية على ألسنة رسله الحافظين لنفوسهم عن الإفراط في الرخص والمباحات وكيف عن تفريط المحظورات والمحرمات المتلذذون باللذات الروحانية متمكنون فِي جَنَّاتٍ العلم والعين والحق وَعُيُونٍ جاريات من الحكم والمعارف اللدنية المستخرجة من ينابيع قلوبهم المترشحة إليها من بحر الوجود على مقتضى الجود الإلهي حسب استعداداتهم الفائضة لهم من لدنه سبحانه
آخِذِينَ ما آتاهُمْ واعطاهم رَبُّهُمْ تفضلا عليهم وتكريما على وجه الرضاء بجميع ما جرى عليهم من مقتضيات القضاء إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ الفضل واللطف في النشأة الاولى مُحْسِنِينَ الأدب مع الله ورسله ومع خلص عباده عاكفين ببابه متوجهين نحو جنابه في عموم أوقاتهم وحالاتهم ومن جملة إحسانهم انهم قد
كانُوا في دار الدنيا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ اى يرقدون قليلا من ساعات الليل وذلك ايضا بسبب ان لا يعرض لهم الكلال العائق من مواظبة الطاعات ومداومة العبادات
وَهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم وخشوعهم بِالْأَسْحارِ المعدة للتوجه والاستغفار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ دائما كأنهم يرون أنفسهم قاصرة عن رعاية حقوق العبودية على ما ينبغي ويليق بجناب الألوهية لذلك يبالغون في الانابة والاستغفار
وَمع ذلك قد كان فِي أَمْوالِهِمْ وأرزاقهم المسوقة لهم من قبل الحق حَقٌّ حظ ونصيب مفروض مفروز مقدر مخرج هم يوجبونه على أنفسهم لِلسَّائِلِ السائر في سبيل الله المتعرض للسؤال مقدار ما يحتاج اليه وَالْمَحْرُومِ المتعفف عن ذل السؤال المتمكن في زاوية التوكل والتفويض. ثم أشار سبحانه الى حيطة وحدته الذاتية وشمولها على عموم ما ظهر وبطن في الآفاق والأنفس بالاستقلال والانفراد والى سر سريان هويته الذاتية على ذرائر الكائنات تنبيها للمريد المستبصر وايقاظا عن سنة الغفلة ونعاس النسيان فقال
وَفِي الْأَرْضِ اى عالم المسببات والقوابل والاستعدادات المعبر عنها بالآفاق المعدة لظهور آثار القدرة الكاملة الإلهية عليها من العجائب والغرائب المتفرعة عن كمال العلم الحضوري الإلهي ووفور الحكمة المتقنة آياتٌ دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على قدرة الصانع الحكيم ووحدة ذاته واختياره في عموم تصرفاته واستقلاله في مطلق حكمه ومصالحه لِلْمُوقِنِينَ المنكشفين باليقين العلمي والعيني والحقي بل
وَفِي أَنْفُسِكُمْ ايضا ايها المستبصرون المستكشفون عن سرائر الألوهية واسرار الربوبية شواهد ظاهرة تشهد على حقية الحق وتوحده في ظهوره ووجوده أَفَلا تُبْصِرُونَ ايها المجبولون على فطرة(2/352)
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
الكشف والشهود
وَكذا فِي السَّماءِ اى عالم الأسماء والفواعل والأسباب المعبر عنها بالأعيان الثابتة رِزْقُكُمْ اى أرزاقكم الصورية والمعنوية المبقية لأشباحكم وأرواحكم وَكذا ما تُوعَدُونَ أنتم من الآجال المقدرة والاجزئة المترتبة على الأعمال والأفعال الصادرة عن هوياتكم الباطلة في نشأتكم الاولى والاخرى وحالاتكم الواقعة فيهما بطريق اللف والنشر. ثم اقسم سبحانه تأكيدا لما اومأ فقال
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ اى وبحق موجدهما ومربيهما على هذا النمط البديع والنظم الغريب العجيب إِنَّهُ في عموم ما يستدل بإيجاده وإظهاره على وجوده سبحانه وكمال علمه وقدرته ووفور حكمته ومتانة حكمه لَحَقٌّ ثابت محقق بل هو حق حقيق بالحقية وحيد بالقيومية فريد بالديمومية لا يعرض له زوال ولا يعتريه فترة وكلال وهو سبحانه في حقيته وتحققه مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ اى كما لا شبهة لكم في نطقكم وتلفظكم بالكلمات المنطوقة كذلك لا شبهة في حقية الحق وظهوره بل هو اظهر من كل ظاهر واجلى من كل جلى بل الكل انما يظهر به وبظهوره الا انكم بغيوم تعيناتكم الباطلة وظلام هوياتكم العاطلة تسترون شمس الحق الظاهر في الأنفس والآفاق بكمال الكرامة والاستحقاق. ثم ذكر سبحانه قصة ابراهيم الخليل المتحقق بمقام الكشف والشهود الفائض له من عنده سبحانه كمال المحبة والإخلاص والخلة والاختصاص مع ضيفه من الملائكة المكرمين فقال مستفهما لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل العبرة والتذكير
هَلْ أَتاكَ أو قد وصل إليك يا أكمل الرسل حَدِيثُ ضَيْفِ جدك إِبْراهِيمَ وقصة إلمام الملائكة عليه ونزولهم عنده على صورة الأضياف الْمُكْرَمِينَ لكرامتهم وحسن صورتهم وسيرتهم مع كمال كرامتهم ونجابتهم وحسن أدبهم سلموا وقت
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ وحضروا عنده بلا استيذان منه فَقالُوا سَلاماً ترحيبا وتكريما له اى نسلم سلاما عليكم يا خليل الله قالَ ابراهيم عليه السلام في جوابهم ظاهرا وان أنكر عليهم باطنا بدخولهم بلا استيذان سَلامٌ عليكم عدل الى الرفع لقصد الدوام والثبات ليكون رده أكمل من تسليمهم وهو عليه السلام وان بادر الى رد سلامهم الا انه قد أضمر في نفسه إنكارا عليهم لذلك قال في سره هؤلاء قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لا اعرف نفسهم ولا أمرهم ولا شأنهم
فَراغَ اى عدل ومال عنهم فجاءة إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ إذ كان اغلب مواشيه البقر فذبحه وطبخه
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ نزلا لهم فأبوا عن اكله فعرض عليهم وحثهم على الاكل كما هو عادة ارباب الضيافة حيث قالَ أَلا تَأْكُلُونَ منه فلم يأكلوا بعد العرض والاذن ايضا وبعد ما رأى منهم ابراهيم ما رأى من الآباء عن طعامه
فَأَوْجَسَ وأضمر الخليل في نفسه مِنْهُمْ خِيفَةً خوفا ورغبا ظنا منه انهم انما امتنعوا عن طعامه ليقصدوا له سوأ. ثم لما تحسسوا ما تحسسوا من الرعب المفرط قالُوا له ازالة لرعبه لا تَخَفْ منا ولا تحزن عن امتناعنا من الاكل انا لسنا ببشر بل نحن ملائكة منزهون عن الاكل مرسلون من عند ربك لأمر عظيم قيل مسح جبرئيل العجل المشوى فحيي فقام يدرج ويدب حتى لحق بامه وبعد ما رأى ابراهيم منهم ما رأى وسمع ما سمع أمن منهم وَبعد ما امنوه وأزالوا عنه رعبه بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ إذ لم يكن له ابن مخلف عنه وكانت امرأته عجوزا عقيما عَلِيمٍ في كمال الرشد والفطنة وهو اسحق عليه السلام وبعد ما سمع الخليل منهم البشرى اخبر امرأته ثم لما سمعت استحالت واستبعدت
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة إليهم فِي صَرَّةٍ اى صرير وصيحة فَصَكَّتْ ولطمت(2/353)
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
وَجْهَها بأطراف أصابعها على ما هو عادة النسوان في إلمام الخطوب وَقالَتْ مشتكية انا عَجُوزٌ عَقِيمٌ عاقر كيف ألدا بنا بعد انقضاء أوانه وانصرام زمانه ثم لما شاهدوا منها ما شاهدوا
قالُوا لها كَذلِكَ اى مثل الذي نخبرك ونبشرك قالَ رَبُّكِ وما علينا الا البلاغ والأمر بيد الله إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في عموم أفعاله وآثاره الْعَلِيمُ بمطلق تدابيره وتقاديره وبعد ما جرى منهم ما جرى أخذ ابراهيم عليه السلام يسأل عن سبب نزولهم وارسالهم حيت
قالَ فَما خَطْبُكُمْ اى أمركم وشأنكم الذي جئتم لأجله أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أقبح الجرائم وافحش المنكرات يعنون قوم لوط المبالغين في الفعلة الشنيعة والديدنة القبيحة المتناهية في القبح والفحش وانما أرسلنا إليهم
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً متحجرة مِنْ طِينٍ يريد بها السجيل المركب من الحجر المسحوق مع الطين
مُسَوَّمَةً اى معلمة كل منها باسم من رمى بها عِنْدَ رَبِّكَ ليكون جزاء لِلْمُسْرِفِينَ الذين قد أسرفوا في الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية سيما عن الطريق المعتاد لحكمة الإيلاد والاستيلاد ثم لما أردنا رجمهم وإهلاكهم
فَأَخْرَجْنا باذن ربنا مَنْ كانَ فِيها اى في تلك القرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بنبوة لوط ودينه الممتثلين بالأوامر والنواهي الإلهية الجارية على لسانه
فَما وَجَدْنا وصادفنا فِيها اى تلك القرى بعد ما فتشنا وكشفنا عن أهلها غَيْرَ بَيْتٍ اى سوى اهل بيت فقط مِنَ الْمُسْلِمِينَ المتصفين الجامعين بين الايمان والتسليم وهو اهل بيت لوط عليه السلام
وَبالجملة أهلكنا الكل وتَرَكْنا آثار هلاكهم واستئصالهم فِيها اى في الأرض التي تلك القرى فيها آيَةً امارة وعلامة مستمرة الى يوم القيامة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ يعنى للقوم الذين يلونهم ويرون آثار العذاب النازل على اهل الجرائم والآثام فيمتنعون عنها ويعتبرون بها
وَكذا قد تركنا ايضا فِي إهلاك مكذبي مُوسى الكليم آية عظيمة للمتذكرين المعتبرين اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ أَرْسَلْناهُ اى موسى اصالة وأخاه هارون معه تبعا له إِلى فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي المبالغ في العتو والعناد وقد أيدناه وقويناه عناية منابه بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وحجة واضحة ظاهرة وبرهان لائح
فَتَوَلَّى فرعون واعرض عن دعوته الى الايمان مستظهرا بِرُكْنِهِ اى بملائه وجنوده الذين يتقوى بهم ويركن إليهم في الخطوب والملمات وَقالَ في جوابه من كمال بطره وعناده هو ساحِرٌ في عموم ما اتى من الخوارق أَوْ مَجْنُونٌ يعمل له الجن جميع ما يظهر منه من الارهاصات الخارقة للعادات وبالجملة قد كذب وأنكر عليه ونسب معجزاته الى السحر واعمال الجن
َخَذْناهُ
غيرة منا عليه وتقوية وتأييدا لرسولنا جُنُودَهُ
المظاهرين له نَبَذْناهُمْ
وأغرقناهم ي الْيَمِّ وَهُوَ
اى فرعون حينئذلِيمٌ
نفسه بما يلام هو عليه من الكفر والعناد وانواع العتو والفساد نادم عن جميع ما صدر عنه وما ينفعه الندم حينئذ
وَقد تركنا ايضا آية عظيمة للمعتبرين فِي إهلاك قوم عادٍ اذكر وقت إِذْ أَرْسَلْنا وسلطنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ لا يثمر نفعا سوى العقم والهلاك على وجه الاستئصال مع انهم قد أملوا نفعا عظيما فيها إذ
ما تَذَرُ وتترك مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ وهبت عَلَيْهِ من الأنفس والماشي إِلَّا جَعَلَتْهُ وصيرته كَالرَّمِيمِ اى اليابس البالي من النبات وأوراق الأشجار وبالجملة قد صيرتهم هباء منثورا تذروه الرياح حيث شاءت
وَكذا فِي ثَمُودَ وإهلاكهم قد تركنا آية عظيمة(2/354)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
لأهل العبرة والاستبصار اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قِيلَ لَهُمْ على لسان نبيهم حين أردنا أخذهم وإهلاكهم تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ اى تمتعوا وترفهوا ثلاثة ايام فكذبوا المخبر وأنكروا عليه خبره
فَعَتَوْا واستكبروا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وما تندموا وما تضرعوا مع ان المناسب لهم حينئذ هذا فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ الهائلة المهولة صبيحة اليوم الرابع وَهُمْ يَنْظُرُونَ إتيانها عيانا ولا يقدرون على دفعها بل
فَمَا اسْتَطاعُوا وما قدروا مِنْ قِيامٍ ونهوض وحركة عن أمكنتهم التي كانوا متمكنين فيها عند ظهورها وَبالجملة ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين من عذابنا منتقمين منا أصلا
وَمثل ما أهلكنا المذكورين قد أهلكنا ايضا قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ اى قبل إهلاك هؤلاء الهلكى إِنَّهُمْ ايضا أمثال هؤلاء الطغاة البغاة الهالكين في تيه العتو والعناد قد كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضيات الحدود الإلهية بأنواع الكفر والفسوق والعصيان لذلك أهلكناهم بالطوفان وما كانوا منتصرين. ثم قال سبحانه إظهارا لكمال قدرته على انواع الانعام والانتقام
وَالسَّماءَ بَنَيْناها يعنى كيف يسع لهم الآباء والامتناع عن مقتضيات قدرتنا والخروج عن ربقة انقيادنا واطاعتنا ومطلق عبوديتنا مع انا قد بنينا السماء المرفوعة المحفوظة بِأَيْدٍ غالبة وقدرة كاملة وَبالجملة إِنَّا لَمُوسِعُونَ قادرون غالبون بالاستقلال والاختيار على عموم الأفعال بحيث لا يعارض فعلنا ولا ينازع أمرنا وحكمنا مطلقا
وَالْأَرْضَ ايضا قد فَرَشْناها ومهدناها بالاستقلال والاستيلاء التام فَنِعْمَ الْماهِدُونَ الباسطون نحن بلا مشاركة ومظاهرة
وَمثل ما خلقنا العلويات فواعل مؤثرات والسفليات قوابل متأثرات مِنْ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء الظاهرة الكائنة في بقعة الإمكان وعرصة الأزمان والمكان قد خَلَقْنا زَوْجَيْنِ صنفين مزدوجين لَعَلَّكُمْ ايها المجبولون في فطرة المعرفة والتوحيد المؤيدون بالعقل المفاض المنشعب من العقل الكل تَذَكَّرُونَ فتعلمون وتنكشفون ان الكل منا بدا وإلينا يعود ولا شيء سوانا موجود وبعد ما قد ثبت عندكم ايها الموحدون المحققون ان ظهور الكل منه ورجوعه اليه سبحانه
فَفِرُّوا ايها العارفون الموحدون إِلَى اللَّهِ المسقط لعموم الإضافات عن مقتضيات عالم الناسوت وانخلعوا وتجردوا عن لوازم هوياتكم الباطلة وانانياتكم العاطلة وقل لهم يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ سبحانه نَذِيرٌ أنذركم عما يعوقكم من سلوك طريق توحيده مُبِينٌ مظهر لكم آداب الطريقة الموصلة الى مقصد الحقيقة التي هي الوحدة الذاتية الإلهية
وَبالجملة لا تَجْعَلُوا اى لا تتخذوا ولا تعتقدوا مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الكثرة والتعدد مطلقا إِلهاً آخَرَ مستحقا للاطاعة والرجوع مستقلا في الوجود وما يترتب عليه من الآثار إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أنذركم من الوعيدات الهائلة العاجلة والآجلة اللاحقة عليكم بالشرك والإشراك وانواع الفسوق والعصيان
كَذلِكَ اى الأمر والحكم مثل ذلك يا أكمل الرسل انذرهم وبلغهم على وجهه بلا مبالاة باعراضهم واستهزائهم إذ ما أَتَى الضالين المسرفين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ من الرسل الكرام إِلَّا قالُوا لهم وفي حقهم حين دعوتهم الى الايمان والتوحيد ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ مثل ما يقول هؤلاء الحمقى في شأنك يا أكمل الرسل.
ثم قال سبحانه على سبيل التعجب والإنكار
أَتَواصَوْا بِهِ أي أوصى بعضهم بعضا اى أسلافهم لا خلافهم بهذا القول والتكذيب فتواطؤوا عليه جميعا مع انه لا يمكنهم هذه التوصية في الازمنة(2/355)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
الطويلة بَلْ هُمْ اى هؤلاء الأخلاف قَوْمٌ طاغُونَ مشاركون في البغي والطغيان والضلال والعدوان مع أسلافهم في مقتضيات فطرتهم ولوازم جبلتهم لذلك اتصفوا بما اتصفوا لاشتراك أسبابهم وبعد ما قد أصروا على ما هم عليه من العناد ولم ينفعهم الآيات والنذر
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ واعرض يا أكمل الرسل بعد ما بذلت وسعك في هدايتهم وإرشادهم فان لم يهتدوا فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على اعراضك عنهم وانصرافك عن إرشادهم ودعوتهم بعد التبليغ
وَذَكِّرْ للقابلين المستحقين فَإِنَّ الذِّكْرى والعظة تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الموفقين من لدنا على الايمان المجبولين على فطرة اليقين والعرفان
وَاعلم يا أكمل الرسل انى بمقتضى حكمتى ومصلحتي ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وما أظهرت أشباحهم واظلالهم على هذه الهياكل والهويات وما صورتهم على هذه الصور البديعة وما أودعت فيهم ما أودعت من جوهر العقل المفاض إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ويعرفوني ويتحققوا بوحدة ذاتى وكمالات أسمائي وصفاتي وباستقلالى في وجودى وفي عموم تصرفاتي في ملكي وملكوتي وباستحقاقى للاطاعة والعبودية مطلقا بلا شوب شركة ومظاهرة من احد والا
ما أُرِيدُ وما اطلب مِنْهُمْ بخلقهم واظهارهم مِنْ رِزْقٍ اى تحصيل رزق صورى او معنوي ارزق به عبادي إذ خزائن ارزاقى مملوة وذخائر رحمتي متسعة وَما أُرِيدُ ايضا منهم أَنْ يُطْعِمُونِ الأعلى الفقراء الذين هم عيالي طلبا لمرضاتى كما جاء في الحديث صلوات الله على قائله يقول الله سبحانه استطعمتك فلم تطعمني اى لم تطعم عبدى الجائع وكيف يريد منهم سبحانه أمثال هذا
إِنَّ اللَّهَ المتوحد بالالوهية والربوبية هُوَ الرَّزَّاقُ المنحصر المخصوص في ترزيق عموم العباد إذ لا رازق لهم سواه وهو ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ والطول العظيم وهو الحاكم المقتدر الغالب على عموم مراداته ومقدوراته على وجه الاحكام من الانعام والانتقام وبالجملة
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنواع التكذيب والإنكار والاستهزاء والاستحقار ذَنُوباً اى حظا وافرا ونصيبا كاملا من العذاب العاجل والآجل مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ اى مثل نصيب أسلافهم من الكفرة المكذبين للرسل الماضين وسيلحقهم مثل ما لحقهم بل أضعافه وآلافه فَلا يَسْتَعْجِلُونِ لحوقه وحلوله أولئك المنكرون وبالجملة
فَوَيْلٌ عظيم وعذاب شديد هائل نازل لِلَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق واعرضوا عنه وأظهروا الباطل وأصروا عليه عنادا مِنْ يَوْمِهِمُ الفظيع الفجيع الَّذِي قد كانوا يُوعَدُونَ به في النشأة الاولى ألا وهو يوم القيامة والطامة الكبرى المعدة لتعذيب العصاة الغواة وتفضيحهم فيها. جعلنا الله من الآمنين الناجين من عذابه بفضله ولطفه
خاتمة سورة الذاريات
عليك ايها الموحد المجبول على فطرة المعرفة والتوحيد واليقين ان تتفكر في حكمة ظهورك ومصلحة بروزك من كتم العدم وتتدبر في معرفة نفسك في عموم احوالك لينكشف لك من التأمل فيها الاطلاع على موجدها ومظهرها وعلى اتصافه بالأوصاف الكاملة والأسماء الشاملة ثم منها الى توحيده واستقلاله في الوجود وعموم الآثار المترتبة عليه حتى تفوز الى غاية قصواك ونهاية مبتغاك من اليقين والايمان وكمال ما يترتب على ظهورك من التوحيد والعرفان والله المستعان وعليه التكلان(2/356)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
[سورة الطور]
فاتحة سورة الطور
لا يخفى على من تحقق بمقام القلب وتمكن في مقعد صدق المغرفة والتوحيد ان ذات الحق وحيطة حضرة علمه وسعة لوح قضائه وشمول قلم تقديره وتدبيره مما لا يكتنه مطلقا لا ذاته ولا أوصافه وأسماؤه بل لا نهاية لحيطتها ولا غاية لحصرها وشمولها لذلك اقسم سبحانه بذاته العظيم وعلمه العميم ووصفه القديم تعليما لعباده وتنبيها لهم نحو مبدئهم ومعادهم فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى في عموم ما تجلى حسب أسمائه الحسنى وأوصافه العليا الرَّحْمنِ عليهم بالرزق الأوفى الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى سدرة المنتهى
[الآيات]
وَالطُّورِ اى وحق الذات المقدس في ذاته عن الظهور والبطون المنزه في تحققه وثبوته عن البروز والكمون
وَكِتابٍ مَسْطُورٍ الذي هو حضرة العلم الإلهي الذي قد سطر بالقلم الأعلى
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ هو لوح القضاء المحفوظ عن التناهى والانقضاء المحروس عن مطلق التغير والانمحاء
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الإلهي الذي هو عبارة عن قلب العارف المحقق المتحقق بمقام الفناء عن الفناء الواصل بدوام التحقق والبقاء ببقاء ذي العظمة والكبرياء المعبر بها عن عالم العماء اللاهوتى الذي هو سواد أعظم الفقر وبيت الله الأعظم الأكبر
وَحق السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ الذي هو سماء الأسماء الإلهية والصفات المقدسة المنزهة عن مطلق التعديد والإحصاء إذ الكمالات المترتبة على نشأة الوجود وتجليات الذات غير متناهية وغير منقطعة وغير متكررة قطعا
وَحق الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ الذي هو كناية عن مطلق الوجود البحت المحيط بالكل بمقتضى الجود
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل لعصاة عباده لَواقِعٌ نازل عليهم في يوم الحشر والجزاء
ما لَهُ مِنْ دافِعٍ لان من قدر على أمثال هذه المقدورات واتصف بهذه الأسماء والصفات بالأصالة والاستحقاق لا يعارض حكمه ولا يدفع قضاؤه اذكر يا أكمل الرسل للمكذبين المنكرين للحشر والنشر كيف حالهم
يَوْمَ تَمُورُ تتحرك وتضطرب السَّماءُ مَوْراً اضطرابا غريبا وتحركا بديعا لا على الوجه المعتاد الى حيث قد طويت ولفت كطي السجل للكتاب
وَتَسِيرُ الْجِبالُ الرواسي الرواسخ سَيْراً عجيبا غريبا بحيث قد تفتتت وتلاشت اجزاؤها ولم يبق سمكها ورفعتها مطلقا وتصير الأرض قاعا صفصفا بحيث لا ترى فيها عوجا ولا امتا
فَوَيْلٌ عظيم وعذاب شديد يَوْمَئِذٍ واقع لِلْمُكَذِّبِينَ المسرفين المصرين
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ في الأباطيل الزائغة يَلْعَبُونَ بآيات الله الدالة على وحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ يُدَعُّونَ يطرحون ويدفعون إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا طرحا ودفعا على وجه العنف والزجر المفرط مشدودى الأيدي والأعناق بالسلاسل والأغلال فيقول لهم حينئذ تفضيحا وتوبيخا
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وتنكرون الآيات والنذر الواردة في شأنها وتنسبونها الى السحر والكهانة وغير ذلك من الخرافات وأنتم ايها المنهمكون في الضلال والطغيان والكفر والكفران في سالف الزمان قد كنتم نسبتم الوحى والإلهام الى السحر والأوهام تأملوا الآن
أَفَسِحْرٌ هذا الذي أنتم تطرحون فيها وتعذبون بها كما زعمتم فيما مضى أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ولا تشعرون بها وبحرها وحرقها كما قد كنتم لا تشعرون بالآيات الواردة في شأنها حينئذ وبالجملة
اصْلَوْها وادخلوا فيها وبعد دخولكم فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا وعلى أى وجه تصيرون وتكونون لا مخلص لكم عنها ولا مخرج منها بل(2/357)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)
سَواءٌ عَلَيْكُمْ الصبر وعدمه اى في عدم النفع والدفع إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى ما تجزون بهذا الجزاء الا بما كسبتم لأنفسكم واعددتم فيلحقكم الآن وبال ما اقترفتم فيما مضى حتما على مقتضى العدل الإلهي فلا ينفعكم الصبر والاضطراب. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد
إِنَّ الْمُتَّقِينَ المتحفظين في النشأة الاولى نفوسهم عن محارم الله المحترزين عن انكار آياته الواردة في الوعد والوعيد متلذذون في النشأة الاخرى فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ أية جنات وأى نعيم رياض الرضاء ونعيم التسليم
فاكِهِينَ مترفهين مسرورين فيها مطمئنين راضين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ بمقتضى فضله وسعة جوده ولطفه وَبما وَقاهُمْ وحفظهم رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ اى عن أهوالها وافزاعها فيقال لهم فيها على سبيل التبشير والتفريح
كُلُوا وَاشْرَبُوا من الرزق الصوري والمعنوي هَنِيئاً بلا تنقيص وتكليف بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بسبب صالحات أعمالكم وحسنات أفعالكم
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ معدة لهم مَصْفُوفَةٍ منضودة وفق أعمالهم وأحوالهم ومواجيدهم ومقاماتهم وَبعد ما تمكنوا على السرر مسرورين زَوَّجْناهُمْ وقرناهم استيناسا منا إياهم بِحُورٍ عِينٍ مصورة من المعارف والحقائق المنكشفة لهم المشهودة بعيون بصائرهم
وَقرناهم ايضا عناية منا لهم مع إخوانهم ورفقائهم من الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا بالله وانكشفوا بتوحيده وَاتَّبَعَتْهُمْ ايضا ولحقت معهم ذُرِّيَّتُهُمْ اى جميع ما تشعب وتفرع من أولادهم وأعمالهم الصادرة عنهم حال كونهم متصفين بِإِيمانٍ يقيني وتصديق قلبي قبل وصولهم الى اليقين العيني والحقي بل قد أَلْحَقْنا بِهِمْ ايضا ذُرِّيَّتُهُمْ اى مشاهداتهم ومكاشفاتهم الواردة عليهم حسب مواجيدهم ومقاماتهم وحالاتهم بعد اتصافهم باليقين العيني والحقي وَبالجملة ما أَلَتْناهُمْ وما نقصنا عنهم مِنْ جزاء عَمَلِهِمْ الناشئ منهم الصادر عنهم في طريق الهداية والرشد مِنْ شَيْءٍ قليل نزر يسير بل قد وفرنا عليهم جزاء الكل مع مزيد عليهم تفضلا منا وإحسانا من لدنا إذ كُلُّ امْرِئٍ ذي هوية شخصية مجبولة لحكمة المعرفة ومصلحة التوحيد بِما كَسَبَ ومع ما اقترف من الأسباب والوسائل الى درجات الجنان او الى دركات النيران رَهِينٌ مرهون مقرون لا ينفصل عنها ولا ينقطع امدادنا إياهم بل
وَأَمْدَدْناهُمْ تفضلا منا عليهم وتكريما لهم بِفاكِهَةٍ من المعارف والحقائق الواردة المتجددة آنا فآنا حسب الشئون الإلهية وتجلياته الجمالية والجلالية وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ومما يتقتون لتقوى به أشباحهم وأرواحهم
يَتَنازَعُونَ ويتجاذبون على سبيل الملاطفة والملاينة فِيها كَأْساً من رحيق التحقيق مع انه لا لَغْوٌ فِيها من فضول الكلام وَلا تَأْثِيمٌ من قبح الأفعال المستلزمة لانواع الآثام كما هو عادة الشاربين في الدنيا
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ بكأس التحقيق ورحيق اليقين غِلْمانٌ متعلقة لَهُمْ مصورة من قواهم المدركة المملوكة لهم المسخرة لنفوسهم المطمئنة الراضية المرضية بمقتضيات القضاء الإلهي كَأَنَّهُمْ من غاية الصفاء عن كدر الهوى ورعونات الرياء لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون محفوظ في أصداف أشباحهم عن التلطخ بقاذورات الدنيا الدنية وعن التلوث بخبائث الآراء والأهواء الفاسدة
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ بطريق المسرة والانبساط يَتَساءَلُونَ عن أعمالهم وأحوالهم ومواجيدهم ومقاماتهم التي كانوا عليها في نشأة الابتلاء حيث
قالُوا اى بعضهم في جواب بعض على وجه المذاكرة والمواساة(2/358)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
إِنَّا كُنَّا قَبْلُ اى قبل انكشافنا بسرائر التوحيد فِي أَهْلِنا اى بين أبناء الدنيا مُشْفِقِينَ خائفين عن غضب الله محترزين عن عصيانه وطغيانه مشتغلين بطاعته وجلين عن بطشه وسخطه وعن سطوة سلطنة قهره وجلاله راجين من سعة رحمته وموائد جوده وكرمه
فَمَنَّ اللَّهُ المكرم المتفضل عَلَيْنا وهدانا الى طريق التوحيد ووفقنا للعروج الى معارج العناية والتحقيق وَوَقانا بلطفه عَذابَ السَّمُومِ اى عن عذاب النار المحرقة النافذة في عموم المسامات مثل السموم
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا قبل حلول الساعة وقيام القيامة نَدْعُوهُ سبحانه ونتضرع نحوه ونسأل منه الحفظ والوقاية من عذابه ونكاله سبحانه في هذا اليوم الهائل الموعود وكيف لا نسأل منه إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْبَرُّ المحسن المخصوص المنحصر على الإحسان والانعام الرَّحِيمُ كثير الرحمة والامتنان سيما على السائلين المؤملين المستحقين فأجاب سبحانه سؤالنا وأنجح آمالنا بمقتضى سعة رحمته وجوده وبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت من فضل الله ولطفه وسعة رحمته وجوده مع أوليائه
فَذَكِّرْ واثبت أنت على العظة والتذكير لعموم عباد الله وبلغهم عموم ما اوحى إليك من لدنا ولا تبال باعراضهم وانصرافهم عنك وبقولهم الباطل في حقك فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ التي هي الآيات المنزلة إليك الملهمة لك من ربك بِكاهِنٍ مبتدع مجترئ على الاخبار عن المغيبات بلا وحى من قبل الحق والهام من جانبه وَلا مَجْنُونٍ مختل العقل مخبط الرأى كما يزعم في شأنك المسرفون المفترون المفرطون
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ يعنى بل لا تلتفت يا أكمل الرسل ايضا الى قولهم بانك شاعر فصيح بليغ قد بلغت الى درجة أعلى من البلاغة بحيث قد عجز عن معارضتك اقرانك من البلغاء فنحن نَتَرَبَّصُ وننتظر بِهِ اى بانقضائه وهلاكه رَيْبَ الْمَنُونِ اى مر الأيام وكر الشهور والأعوام الى ان يموت فنتخلص يومئذ من فتنته وشدته
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل المجاراة بعد ما سمعت منهم ما سمعت تَرَبَّصُوا وانتظروا لمقتي وموتى ايها المفسدون المفرطون فَإِنِّي ايضا مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ المنتظرين لمقتكم وهلاككم والأمر بيد الله والحكم مفوض الى مشيته موكول الى ارادته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
أَمْ يكابرون في هذه الاحكام المتناقضة مجادلة ومراء إذ ينسبونك مرة الى الكهانة المتضمنة لكمال الفطانة ومرة الى الجنون المنبئ عن نهاية البلادة وتارة الى الشعر المستلزم لحفظ الوزن والقافية مع ان ما جئت به من الكلام عار عن الوزن خال عن القافية مطلقا بل تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ السخيفة المستمدة من اوهامهم الضعيفة بِهذا القول الباطل الزاهق الزائل أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ باغون متناهون في العتو والفساد والعناد وقد صدر عنهم أمثال هذه الهذيانات بلا تأمل وتدبر بمقتضى عتوهم وثروتهم وكبرهم وخيلائهم كما هو عادة ارباب النخوة واصحاب الجاه والثروة خذلهم الله واهلكهم بها
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ واختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى الوحى والإلهام تغريرا وتزويرا بَلْ معظم أمرهم وقصارى رأيهم ومآل شأنهم انهم لا يُؤْمِنُونَ لا به ولا بك يا أكمل الرسل لذلك يتفوهون بأمثال هذه المطاعن والقوادح من شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم وضغينتهم معك وبعد ما قد بالغوا في القدح والطعن وبلغوا غاية الإنكار والإصرار قل لهم يا أكمل الرسل على وجه التعجيز والتبكيت
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أولئك المسرفون المفرطون إِنْ كانُوا صادِقِينَ في زعمهم ومفترياتهم مع انهم لم يأتوا بل لا يتأتى منهم الإتيان ايضا وان(2/359)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
تظاهروا وتعاونوا بعموم من في الأرض إذ هو خارج عن طور البشر ومشاعره مطلقا أيصرون أولئك الحمقى المصرون على انكار الخالق مع انهم مخلوقون
أَمْ اعتقدوا انهم قد خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وبلا فاعل خارج موجد مؤثر أَمْ اعتقدوا نفوسهم انهم هُمُ الْخالِقُونَ المستقلون في إيجاد هياكلهم بلا مؤثر خارجى أيحصرون حينئذ خالقيتهم لأنفسهم فقط
أَمْ اعتقدوا انهم قد خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات والممتزجات جميعا وبالجملة هم حينئذ لا ينكرون حدوث الأشياء واستنادها الى المحدث المؤثر إذ هي من اجلى البديهيات بَلْ لا يُوقِنُونَ ولا يتصفون باليقين في اثبات الموجد القويم وتوحيده أهم يثبتون مرتبة النبوة من تلقاء أنفسهم ويختارون لها من يريدون ويرجحون حسب آرائهم الباطلة العاطلة
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ فيحكمون منها ما يحكمون أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ الغالبون المقتدرون على عموم مقاصدهم ومطالبهم فيفعلون عموم ما يأملون بالإرادة والاختيار
أَمْ ادعوا علم الغيب بالاستماع من الملاء الأعلى أم لَهُمْ سُلَّمٌ ومرقاة يصعدون بها الى مكان من السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ من الملائكة ما يظهرون به على تكذيب الرسول وقدح القرآن وغير ذلك من مزخرفاتهم فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وحجة واضحة ومعجزة ساطعة قاطعة كما اتى بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم أأنتم العقلاء المتصفون بكمال الرشد والرزانة ايها المسرفون المفرطون
أَمْ أنتم السفهاء المنحطون عن زمرة العقلاء مع ان دعواكم بانه لَهُ سبحانه الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ تدل على سفاهتكم وانحطاطكم عن مقتضى العقل إذ اثبات الولد مطلقا للواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الأهل والولد بعيد بمراحل عن مقتضى العقل فكيف اثبات اخس الأولاد له سبحانه تعالى عما يقولون علوا كبيرا فثبت ان أولئك الحمقى سفهاء ساقطون عن رتبة العقلاء وعن اهل العبرة والذكاء فلا يسمع منهم مطلق الدعوى سيما في الأمور الضرورية أينكرون رسالتك ويظنون لحقوق الضرر إياهم منك
أَمْ يظنون انك بسبب تبليغك إياهم الوحى والإلهام الإلهي تَسْئَلُهُمْ وتطلب منهم أَجْراً جعلا عظيما فَهُمْ حينئذ مِنْ مَغْرَمٍ والتزام غرامة عظيمة مُثْقَلُونَ متحملون الثقل لذلك قد شق عليهم الأمر الى حيث انكروك وانصرفوا عن الايمان بك وعن تصديقك ليتخلصوا عنه وبالجملة أينكرون رسالتك يا أكمل الرسل من تلقاء أنفسهم وحسب قرائحهم الركيكة
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اى لوح القضاء المثبت فيه عموم الأشياء فَهُمْ يَكْتُبُونَ المغيبات منه ويظهرون بها
أَمْ يُرِيدُونَ ويقصدون كَيْداً لرسول الله في دار الندوة فَالَّذِينَ كَفَرُوا وقصدوا مكرا عليه صلّى الله عليه وسلم هُمُ الْمَكِيدُونَ الممكورون المقصورون على كيدهم ومكرهم لا يتجاوز عنهم وباله وبالجملة أينكرون توحيد الحق مكابرة
أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعبدونه كعبادته ويطيعون له مثل أطاعته ويستعينون منه في الخطوب والملمات مثل اسئلتهم من الله وبالجملة سُبْحانَ اللَّهِ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من أدون مخلوقاته واخس مصنوعاته
وَبعد ما قد الحوا واقترحوا بقولهم فاسقط علينا كسفا من السماء إِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعا مِنَ السَّماءِ ساقِطاً عليهم حسب اقتراحهم يَقُولُوا من شدة عنادهم وفرط انكارهم وتركب جهلهم المركوز في جبلتهم ما هذا الا سَحابٌ مَرْكُومٌ قد تراكم بعضه على بعض فيسقط وبالجملة
فَذَرْهُمْ يا أكمل الرسل واتركهم على ما هم عليه من العدوان والطغيان حَتَّى يُلاقُوا ويصلوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يموتون ويهلكون بالمرة وهو عند(2/360)
يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
النفخة الاولى ثم يحشرون ويعذبون
يَوْمَ اى يومئذ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ولا يدفع كَيْدُهُمْ الذي أتوا به في دار الندوة والابتلاء شَيْئاً من الدفع والإغناء في رد عذاب الله وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ولا يمنعون حينئذ من بطشه وعذابه بل هم مع ذلك لا يمهلون الى العذاب الآجل ايضا بل يعذبون في العاجل والبرزخ ايضا بأنواع العذاب والنكال كما قال سبحانه
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ العذاب الأخروي الموعود لهم ألا وهو وقوعهم في نيران الإمكان بأنواع الخيبة والخسران وتقيدهم فيها بسلاسل الآمال الطوال وأغلال الأماني وأنكال اللذات والشهوات المتواردة عليها والمصيبات المتعاقبة إياهم في عموم الأوقات والساعات بحيث لا يسع لهم التنفس لحظة خلصنا الله وعموم عباده عن أمثاله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون المها مع انها من أشد العذاب ايلاما وأصعب الوبال والنكال انتقاما أعاذنا الله وعموم عباده منها
وَبالجملة اصْبِرْ يا أكمل الرسل لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم الى قيام الساعة وابقاءك فيما بينهم بأنواع التعب والعناء ولا تستعجل لمقتهم وهلاكهم ولا تخف من مكرهم وكيدهم معك وغدرهم عليك فَإِنَّكَ محفوظ بِأَعْيُنِنا وكنف حفظنا ووفور حراستنا وحضانتنا نكفيك ونكف عنك مؤنة شرورهم ولا تلتفت إليهم ولا تبال بمكرهم وكيدهم ولا تشتغل عنا بهم وبمخاصمتهم ونزاعهم وَسَبِّحْ اى نزه ربك عن ان يعجز عن أخذهم وانتقامهم او عن انجاز ما وعد لك من تعذيبهم وكن مشغولا بِحَمْدِ رَبِّكَ في عموم أوقاتك وحالاتك سيما حِينَ تَقُومُ من منامك
وَمِنَ اللَّيْلِ حين استراحتك فيه فَسَبِّحْهُ لتكون على ذكر من ربك حين رقودك وركود حواسك ليكون ذكرك حينئذ توصية منك بمتخيلتك وإرشادا لها وتعليما إياها وَسبحه ايضا إِدْبارَ النُّجُومِ اى وقت دبور النجوم وغبورها وظهور ضياء الشمس من الشرق وشروقها فان كلا الوقتين وقت فراغ البال عن مطلق التشتت والاشغال العائقة عن التوجه جعلنا الله ممن خفف أثقاله وقلل آماله بمنه وجوده
خاتمة سورة الطور
عليك ايها المحمدي المتوجه نحو المقام المحمود الذي هو مرتبة الكشف والشهود هداك الله الى سواء السبيل ووقاك عن مطلق التغير والتبديل ان تخلى خلدك عن الركون الى ما سوى الحق وعن الالتفات الى عموم ما يشغلك عن التوجه اليه والتحنن نحوه وعليك الاشتغال بالتسبيح والتقديس في عموم أوقاتك وحالاتك سيما في أثناء صلواتك وتهجداتك في خلال خلواتك وإياك إياك الميل الى مزخرفات الدنيا ولذاتها وشهواتها والاختلاط مع ابنائها المنغمسين بقاذوراتها فان التلطخ بزخرفة الدنيا يكل الأبصار ويعمى القلوب التي في الصدور. خفف عنا بلطفك ثقل الأوزار وارزقنا بفضلك وجودك عيشة الأبرار واصرف عنا بمقتضى كرمك شر الأشرار التي هي عبارة عن زخرفة الدنيا الغدار الغرار
[سورة النجم]
فاتحة سورة النجم
لا يخفى على المتحققين بمقام الكشف والشهود والمنجذبين نحو الحق بشراشرهم بلا تلعثم وتلوين ان من تمكن في مرتبة المعرفة وتقرر في مقر التوحيد مصفيا سره وسريرته عن مكدرات التخمين والتقليد بحيث قد صار فانيا في الله باقيا ببقائه متكلما بكلامه متخلقا بأخلاقه متصفا بأوصافه سبحانه(2/361)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
حسب ما يسر الله له ويفيض عليه ويظهرها منه ويحكمها عليه ومن كان شأنه هذا وامره هكذا كان فانيا في الله باقيا ببقائه مستغرقا بمطالعة لقائه فلا بد وان يكون صادقا صدوقا هاديا مهديا مترصدا منتظرا في طريق الحق مترقبا للوحى والإلهام الإلهي مستنشقا من نسمات نفسات الرحمن متعرضا لنفحات الروح والريحان من رياض الجنان متشوقا الى لقاء الحنان منسلخا عن لوازم الناسوت منجذبا نحو فضاء اللاهوت فجرى عليه عموم ما جرى على وفق التسليم والرضاء بجميع ما قد ثبت له في لوح القضاء لذلك اخبر سبحانه عن استغراق حبيبه صلّى الله عليه وسلّم وانجذابه بالمرة نحو مبدئه واتصاله بعالم اللاهوت وحضرة الرحموت بعد كمال انخلاعه عن كسوة عالم الناسوت واقسم سبحانه بما اقسم تأييدا لأمره وتعظيما لشأنه فقال بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا على حبيبه صلّى الله عليه وسلم الرَّحْمنِ بعموم عباده بإظهار مرتبته صلّى الله عليه وسلّم فيما بينهم الرَّحِيمِ لخواصهم المهتدين بهدايته وإرشاده صلّى الله عليه وسلم حيث يوصلهم الى مرتبة حق اليقين
[الآيات]
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى يعنى وبحق الجذبات العلية الإلهية المتشعشعة اللامعة كالنجوم الثواقب الهوية والخطفات القوية النازلة لقلوب ارباب الارادة الصافية والعزيمة الخالصة المختلفة لهم من قبل عالم اللاهوت ليهتدوا بها في ظلمات التعينات الى فضاء الوحدة الذاتية وشمس الحقيقة الحقية
ما ضَلَّ اى ما انحرف وما عدل صاحِبُكُمْ يعنى رسولكم المؤيد من عند الله المستوي على صراط العدالة الإلهية عن طريق التوحيد والتحقيق وَما غَوى اى ما ضل وما انصرف في سلوك سبيل الله نحو الباطل الزاهق الزائغ
وَما يَنْطِقُ وما يتكلم ويتفوه بالقرآن المعجز عَنِ الْهَوى الناشئ من ظلمات الطبيعة والهيولى بل
إِنْ هُوَ اى وما القرآن الذي ينزل اليه صلّى الله عليه وسلّم ويتكلم هو صلّى الله عليه وسلّم به إِلَّا وَحْيٌ يُوحى اليه من عند ربه بلا تصنع له فيه وتكلف من جانبه بل قد
عَلَّمَهُ عناية به وتكريما له وتأييدا لشأنه صلّى الله عليه وسلّم وتعظيما له شَدِيدُ الْقُوى اى الحق الذي لا حول ولا قوة في الوجود الا منه وبه وله إذ لا موجود غيره ولا اله سواه وهو سبحانه
ذُو مِرَّةٍ قوة كاملة وقدرة شاملة ذاتية محيطة لعموم ما ظهر وبطن من المظاهر والمجالى وبعد تعليم الحق له وتقويته وتأييده إياه صلّى الله عليه وسلم فَاسْتَوى واعتدل صلّى الله عليه وسلّم على صراط العدالة وتمكن في مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية
وَهُوَ من كمال تربية الحق وتأييده إياه قد تمكن واستعلى بِالْأُفُقِ الْأَعْلى الذي هو أفق عالم اللاهوت ومطلع شمس الذات الاحدية من مشرق عالم العماء الذي هو نور على نور وحضور في حضور لا يطرأ عليه افول ودبور وغروب وغبور
ثُمَّ دَنا وتقرب صلّى الله عليه وسلّم الى ربه فَتَدَلَّى ولحق وتعلق صلّى الله عليه وسلّم به سبحانه نوع تعلق وتحقق الى حيث تحقق
فَكانَ قرب ما بينهما قابَ قَوْسَيْنِ اى مقدار قوسي الوجوب والإمكان الحافظين لمرتبتى الربوبية والعبودية أَوْ أَدْنى واقرب منهما لفناء حصة الناسوت مطلقا في حصة اللاهوت وبقائها ببقاء حضرة الرحموت وبعد ما صار صلّى الله عليه وسلّم ما صار وقرب الى حيث قرب
فَأَوْحى
والهم سبحانه إِلى عَبْدِهِ
صلى الله عليه وسلّم الذي هو سبحانه اقرب اليه من نفسه ما أَوْحى
من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات اللدنية الفائضة عليه من لدنه سبحانه الخارجة عن طور ناسوته وطوق بشريته مطلقا فرأى صلّى الله عليه وسلّم حينئذ ما رأى وانكشف ووجد ما وجد وذاق ما ذاق وبالجملة
ما كَذَبَ(2/362)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
الْفُؤادُ
اى فؤاده صلّى الله عليه وسلّم الذي هو من مقتضيات عالم اللاهوت المتمكن في قلوب ذوى العناية واولى الألباب على وجه الوديعة من قبل الحق ما رَأى وشهد حين وصوله ولحوقه بالأفق الأعلى اللاهوتى
أَتنكرون انكشافه وشهوده صلّى الله عليه وسلم ايها المحجوبون المحرومون عن وجد الوجود وذوق الشهود فَتُمارُونَهُ وتجادلون معه على سبيل المكابرة والمراء عَلى ما يَرى يعلم وينكشف له من الذوقيات والوجدانيات التي قد تأبى عنها عقولكم وتعمى بصائركم وأبصاركم ولا يمكن القاؤها وكشفنا إياها لكم وكيف تنكرون وتستبعدون منه صلى الله عليه وسلّم أمثال هذا
وَالله لَقَدْ رَآهُ ما رأى من الشهودات التي تدهش منها عقول العقلاء وتتحير عندها اوهامهم وخيالاتهم نَزْلَةً أُخْرى مرة قبل عروجه ووصوله الى الأفق الأعلى والمقام الأدنى الذي هو اليقين الحقي وتلك النزلة الاخرى والوقعة العظمى
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى التي ينتهى إليها ودونها اليقين العلمي والعيني إذ
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى التي يأوى إليها ارباب العناية شوقا الى لقاء الله ألا وهو موعد الرؤية والعيان ومقام التوحيد والعرفان الموعود على اهل العيان عند الحق المنان
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ المعهودة اى يغطى الموعد الموعود ويحيط به ما يَغْشى ويستر من السبحات الجلالية ومن التجليات الإلهية المتشعشعة حسب الشئون المتجددة المحيرة للعيون النواظر من ارباب المحبة والولاء الوالهين بمطالعة وجه الله الكريم وبالجملة
ما زاغَ الْبَصَرُ اى ما مال وما انحرف بصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند تعاقب التجليات الإلهية وترادف شئوناته الغيبية وتجدد تطوراته الجمالية والجلالية وتشعشع شمس ذاته حسب أسمائه وصفاته العلية عن شهود وحدة ذاته ولم يشغله صلّى الله عليه وسلّم شيء منها عن استغراقه صلّى الله عليه وسلّم بمطالعة وجه الله الكريم وَما طَغى وما مال وما انحرف بصره وقت رؤيته ونظره او ما خرج نفسه صلّى الله عليه وسلّم عند رؤية ما رأى من العجائب عن ربقة الرقية وعروة المربوبية أصلا بل قد التزم وتمكن حينئذ بقيام ما لزم من آداب العبودية ولوازم الإطاعة والانقياد اكثر مما التزمها قبل انكشافه والله
لَقَدْ رَأى صلّى الله عليه وسلّم في ليلة الإسراء مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى التي هي من آيات ربه الذي رباه على رؤية آياته الكبرى ما لا يراه احد من المكاشفين ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل من بنى نوعه
أَتنكرون ايها الجاهلون الجاحدون بوحدة الحق عز شأنه وجل برهانه وبانكشاف حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بوحدته وبلوازم ألوهيته وربوبيته وبرسالته من عنده سبحانه الى عموم بريته وكافة خليقته ليرشدهم الى الايمان بالله والى توحيده فَرَأَيْتُمُ أثبتم وأخذتم الأصنام العاطلة الباطلة شركاء لله مشاركين معه في ألوهيته وربوبيته يعنى الاولى اللَّاتَ والثانية الْعُزَّى
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى مع ان هؤلاء الهلكى ما هي الا جمادات لا شعور لها ولا يصدر شيء منها وأعظم من ذلك انكم قد أثبتم له سبحانه الأولاد بل أخسها وأدونها
أَلَكُمُ الذَّكَرُ الأشرف الأكرم ايها الحمقى العمى المفرطون وَلَهُ سبحانه مع كمال تنزهه عن نقيصة اتخاذ الولد المترتب على القوة الشهوية الْأُنْثى المرذولة المستهجنة عندكم والله
تِلْكَ القسمة التي قد جئتم بها أنتم مع استحالتها في حقه سبحانه إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى اى فلو فرض في شأنه سبحانه على سبيل فرض المحال الأولاد لكانت قسمتكم هذه قسمة عوجاء جائرة مائلة عن العدالة منحرفة عن جادة الاعتدال إذ أنتم ايها الحمقى تستنكفون عن الأنثى وتثبتونها لله المنزه عن الأهل والولد المقدس عن مطلق امارات الحدوث وعلامات النقصان وبالجملة
إِنْ هِيَ(2/363)
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
اى ما آلهتكم التي أنتم اثبتموها واعتقدتم شركتها مع الله إِلَّا أَسْماءٌ اى ما هي في أنفسها الا اسماء لا مسميات لها أصلا بل قد سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ تبعا وَآباؤُكُمْ اصالة من تلقاء انفسكم إذ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ برهان واضح وحجة قاطعة بل إِنْ يَتَّبِعُونَ اى ما يتبع سلافكم الحمقى إِلَّا الظَّنَّ والخيال الناشئ من اوهامهم وأحلامهم السخيفة أمثالكم ايها الأخلاف الحمقى الجاهلون وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ اى ما يتبعون الا ما تهويه وتشتهيه نفوسهم أمثالكم وَمع ذلك لَقَدْ جاءَهُمْ ونزل عليهم ايضا على ألسنة رسلهم مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى الموصل الى مرتبة التوحيد فتركوه ظلما وعدوانا ولم يتبعوه أمثالكم ايها الحمقى أتطمعون الشفاعة من تلك الهياكل الهلكى وتأملون معاونتهم ومظاهرتهم إياكم ايها الجاهلون المائلون المنحرفون عن مقتضى العقل الفطري المفاض لكم من المبدأ الفياض
أَمْ تعتقدون وتظنون ان يحصل لِلْإِنْسانِ عموم ما تَمَنَّى وأمل من اللذات والشهوات المأمولة كلا وحاشا بل
فَلِلَّهِ وفي قبضة قدرته وتحت تصرفه الْآخِرَةُ وَالْأُولى اى عموم ما جرى في النشأة الاولى والاخرى من الكرامات يمن بها عن من يشاء ويصرفها عن من يشاء ارادة واختيارا لا يحكم عليه ولا ينازع في سلطانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يزيد وانه سبحانه في ذاته حكيم حميد مريد مجيد.
ثم قال سبحانه تسجيلا على غاية غباوتهم ونهاية بلادتهم وحماقتهم في اتخاذهم الأصنام آلهة واعتقادهم شفعاء
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ اى كثيرا من الملائكة المقبولين عند الله المهيمين بمطالعة وجهه الكريم وهم مع ذلك القرب والشرف لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً من الإغناء عند الله لكمال استغنائه وغنائه سبحانه عن العالم وما فيه إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم ان يشفعوا عنده سبحانه لِمَنْ يَشاءُ سبحانه خلاصهم من عباده وَيَرْضى بشفاعة أولئك الشفعاء عنده سبحانه لاستخلاص بعض العباد باذن منه سبحانه وهؤلاء الحمقى يدعون الشفاعة لأولئك الهلكى ويعتقدونها آلهة متشاركين مع الله في الألوهية والربوبية ظلما وعدوانا بلا حجة وبرهان ومن غاية عدوانهم ونهاية غيهم وطغيانهم يهينون الملائكة المقربين ويستحقرونهم حيث ينسبونهم الى الأنوثة المستلزمة لغاية النقصان وبالجملة
إِنَّ المفسدين المسرفين المفرطين الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وبعموم ما جرى فيها من تنقيد الأعمال والحساب عنها والجزاء عليها لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ المنزهين عن سمات النقص مطلقا اى كل واحد منهم ظلما وزورا تَسْمِيَةَ الْأُنْثى يسمونهم بنات الله ظلما على الله بإثبات الولد له وعليهم بنسبة نقص الأنوثة إياهم
وَالحال انه ما لَهُمْ بِهِ اى بتسميتهم وقولهم هذا مِنْ عِلْمٍ لا يقيني ولا ظني ولا مستند من عقل او نقل بل إِنْ يَتَّبِعُونَ وما يستندون ويتكؤن في قولهم هذا إِلَّا الظَّنَّ والتخمين الناشئ من تقليد آبائهم المنسوبين الى الجهل والعناد أمثالهم وَبالجملة إِنَّ الظَّنَّ والتخمين المستند الى الجهل والتقليد لا يُغْنِي ولا يفيد مِنَ الْحَقِّ الصريح الحقيق بالاتباع شَيْئاً من الإغناء والإفادة وبعد ما سمعت حالهم وقولهم
فَأَعْرِضْ أنت يا أكمل الرسل وانصرف بنفسك عَنْ مَنْ تَوَلَّى واعرض وانصرف عَنْ ذِكْرِنا الصائن الصارف له عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة ولا تبال بشأنه ولا تبالغ في دعوته وإرشاده وَكيف لا وهو من غاية اعراضه وانصرافه عن الحق واهله لَمْ يُرِدْ لم يختر من السعادات المنتظرة والكرامات الموعودة المعدة للإنسان إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ولذاتها وشهواتها ولم يهتم الا بشأنها واقتصر على جميع حطامها ومزخرفاتها مع كمال غفلة وانكار وذهول تام ونسيان متناه عن الكرامات الروحانية واللذات الاخروية
ذلِكَ(2/364)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)
الذي سمعت يا أكمل الرسل من ميلهم الى الدنيا والتفاتهم نحوها مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ والشعور المودع فيهم المتشعب من العلم اللدني الفائض عليهم من حضرة العلم الإلهي وبالجملة عليك يا أكمل الرسل ان تعرض عنهم وعن دعوتهم وإرشادهم بعد ما امرتهم به حسب العقل المفاض لهم وبالغت في تبليغهم وإرشادهم فلم يهتدوا إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بكمال الكرامة واصطفاك للرسالة والنيابة هُوَ أَعْلَمُ بعلمه الحضوري منك بِمَنْ ضَلَّ وانحرف عَنْ سَبِيلِهِ من عباده وبمن مال عن جادة توحيده وَهُوَ أَعْلَمُ ايضا بِمَنِ اهْتَدى منهم بهدايتك وارشادك
وَكيف لا يعلم سبحانه الضالين والمضلين والهادين والمهتدين من عباده إذ لِلَّهِ خاصة ملكا وتصرفا وخلقا وإيجادا احاطة وشمولا مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وكذا في ما بينهما من الكوائن والفواسد الكائنة لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بأعمالهم وأقوالهم بِما عَمِلُوا اى بمقتضى عدله سبحانه بلا زيادة ونقصان وَيَجْزِيَ ايضا الَّذِينَ أَحْسَنُوا ايضا كذلك بِالْحُسْنَى وزاد عليهم فوق ما استحقوا بصوالح أعمالهم ومحاسن أخلاقهم وأحوالهم تفضلا عليهم وامتنانا إليهم والمحسنون هم
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ اى يحترزون عن الآثام الكبيرة المستجلبة لغضب الله المستتبعة لعذابه ونكاله في النشأة الاخرى والمستلزمة المقتضية للحدود والكفارات بحسب الشرع الشريف في النشأة الاولى وَالْفَواحِشَ اى يحفظون ايضا نفوسهم عن الفواحش المسقطة للمروة الجالبة لانواع النكبات والوعيدات الهائلة الإلهية المقتضية للخلود في دركات النيران إِلَّا اللَّمَمَ الطارئ عليهم من الصغائر بغتة فجبروه بالتوبة دفعة فانه معفو عن مجتنبى الكبائر والفواحش قبل التوبة ايضا وكيف لا يغفر سبحانه لأصحاب اللمم لممهم إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل واسِعُ الْمَغْفِرَةِ سريع العفو شامل الرحمة هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بِكُمْ منكم وبعموم أحوالكم واطواركم ايها المجبولون على فطرة التكليف وكيف لا يعلم سبحانه أحوالكم إِذْ هو سبحانه قد أَنْشَأَكُمْ وأظهركم مِنَ الْأَرْضِ بمقتضى سعة فضله وجوده وَرباكم بأنواع التربية وقت إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ لا شعور لكم محبوسون فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ وبالجملة يعلم منكم سبحانه جميع أحوالكم واطواركم وعموم حوائجكم الماضية والآتية فَلا تُزَكُّوا اى فعليكم ان لا تنزهوا ولا تطهروا أَنْفُسَكُمْ إذ لا علم لكم بتفاصيل أحوالكم وأعمالكم مطلقا بل هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى منكم وحفظ نفسه عن محارمه ومساخطه سبحانه واحترز عن منهياته. ثم قال سبحانه عبرة على المستبصرين وتوبيخا على المستكبرين
أَفَرَأَيْتَ ايها المعتبر الرائي الطاغي الباغي الَّذِي تَوَلَّى وانصرف عن اتباع الحق بعد ما آمن واسلم وأصر على اتباع الباطل عنادا ومكابرة بعد ما نوى ووعد التصدق من ماله وقت إيمانه وإسلامه ليكون كفارة لذنوبه
وَأَعْطى قَلِيلًا منه رياء وسمعة وَأَكْدى اى قطع عطاء الباقي بعد ذلك وما وفي جميع ما وعد ونذر ثم ارتد والعياذ بالله وندم على شيء قليل تصدق ايضا فأصر على ما كان عليه من الكفر والجحود ومع ذلك الردة والرجعة زعم انه برئ من الذنوب بتصدقه. نزلت في الوليد بن المغيرة كان يتبع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعيره بعض المشركين وقال تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال أخشى عذاب الله فضمن القائل ان يتحمل عنه العذاب ان أعطاه بعض ماله وبعد ما سمع من القائل شرط العطاء فارتد والعياذ بالله عن الدين ومتابعة الرسول الأمين فاعطى بعض المشروط رياء وسمعة ثم بخل بالباقي ولم يتمه ومع ذلك كان يزعم البراءة من الذنوب لذلك عيره سبحانه(2/365)
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)
بقوله
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى بان التصدق او تحمل الغير وتضمنه يدفع عنه العذاب
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ ولم يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى وهي ألواح التوراة المنصوص فيها خلاف ذلك
وَكذا لم ينبأ ايضا بما في صحف إِبْراهِيمَ الَّذِي يدعى متابعته بل وراثته والتدين بدينه مع ان الخليل صلوات الله عليه وسلامه هو الذي وَفَّى ووفر وأتم جميع ما التزمه أوامر به وبالغ في وفاء عموم ما عهد والتزم طلبا لمرضاة الله والمدعى الكاذب يدعى متابعته ولم يوف بما التزم من العهود وكيف يحمل الغير عنه الوزر او يسقط بالتصدق مع ان مضمون ما في الصحفين هو
أَلَّا تَزِرُ اى انه لا تحمل نفس وازِرَةٌ آثمة وِزْرَ نفس وازرة آثمة أُخْرى وذنبها ولا تؤاخذ هي عليها بل كل نفس من النفوس الخيرة والشريرة رهينة بما كسبت ان خيرا فخير وان شرا فشر
وَكذا منصوص في الصحفين المذكورين أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ المجبول على فطرة العرفان اى لكل واحد من اشخاصه إِلَّا ما سَعى واقترف لنفسه وأعد لمعاشه ومعاده
وَكذا قد ثبت فيهما أَنَّ سَعْيَهُ اى سعى كل واحد من افراد الإنسان خيرا كان او شرا سَوْفَ يُرى في النشأة الاخرى مصورة بالصورة الحسنة او القبيحة بمقتضى الدرجات العلية الجنانية او الدركات الهوية النيرانية
ثُمَّ بعد ما حوسب عليه عموم مساعيه يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى اى يوفر عليه من الجزاء على مقتضى سعيه في صالحات اعماله مع زيادة عليها تفضلا منه سبحانه ويجزى على فاسداتها جزاء مثلها سواء معها عدلا منه سبحانه
وَايضا قد ثبت فيهما أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى اى منتهى الكل اليه كما ان مبدأه منه إذ ليس وراءه مرمى ومنتهى
وَايضا منصوص فيهما أَنَّهُ سبحانه هُوَ أَضْحَكَ من اضحك وَكذا أَبْكى من ابكى
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا إذ لا قادر عليهما سواه ولا اله غيره
وَأَنَّهُ سبحانه من كمال قدرته ووفور حكمته خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ المزدوجين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى من كل صنف ونوع وجنس وقدر وجود الزوجين
مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مرذولة حاصلة منهما وقت إِذا تُمْنى اى تصب وتراق من كلا الجانبين في الرحم على وجه الدفق ويقدر ويخلق منها الولد
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى اى عليه سبحانه اعادة الأموات احياء في النشأة الاخرى كما ان عليه الإبداء والإبداع في النشأة الاولى
وَأَنَّهُ سبحانه هُوَ بذاته لا بسبب الوسائل والوسائط العادية إذ الكل يرجع اليه حقيقة أَغْنى عموم ما اغنى بإعطاء الأموال له وبسط الأرزاق عليه وَكذا أَقْنى سبحانه ايضا عموم من اقنى بالهام القنية والحفظ والادخار عليه وانما فعل سبحانه معهم ما فعل من الإغناء والإقناء ليشكروا له ولا يشركوا معه غيره ولا يعبدوا سواه ومع ذلك لم يشكروا له بل أشركوا معه فعبدوا الشعرى
وَلا شك أَنَّهُ سبحانه هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وهي كواكب قد عبدها بعض الصابئين منهم ابو كبشة احد أجداد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لذلك يكنى بكنيته
وَأَنَّهُ سبحانه بمقتضى قهره وقدرته قد أَهْلَكَ عاداً الْأُولى لشركهم بالله وخروجهم عن مقتضيات حدوده وصفهم بالأولى لأنهم أول قوم قد اهلكهم الله بعد إهلاك قوم نوح
وَانه سبحانه قد أهلك ايضا ثَمُودَ فَما أَبْقى أحدا من كلا الفريقين
وَقد أهلك ايضا بمقتضى قدرته الكاملة قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ اى قبل إهلاك المذكورين إِنَّهُمْ اى قوم نوح كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى اى اظلم الناس على الله وعلى اهله واطغاهم وأغواهم عن سبيل الهداية والرشد
وَانه سبحانه قد أهلك الْمُؤْتَفِكَةَ اى أهلك القرى المنقلبة(2/366)
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
وهي قرى قوم لوط الى حيث أَهْوى اى أسقط عليهم دورهم وأماكنهم بعد ما رفعها نحو السماء فقلبها عليهم بحيث جعل عاليها سافلها
فَغَشَّاها حينئذ ما غَشَّى اى قد غطاها وسترها بما غطاها بامطار الحجارة عليها وإنزال انواع المصيبات إليها والعاهات والنكبات نحوها وبالجملة
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ واصناف نعمائه المتوالية المتتالية من انتقام الأعداء وانعام الأولياء تَتَمارى وتتدافع على وجه الجدال والمراء ايها المحجوب الجاحد لوحدة الحق وتوحده واستقلاله في عموم تصرفاته في ملكه وملكوته بكمال الارادة والاختيار والفاقد عين العبرة وبصر البصيرة المستلزمة لانواع التأمل والاعتبار وبالجملة اعلموا ايها المجبولون على فطرة التكليف المثمرة للمعرفة والتوحيد ان
هذا اى رسولكم الذي أرسل إليكم من لدنا ليرشدكم الى توحيد الذات مؤيدا بالكتاب المبين المبين لمقدمات التوحيد مشتملا على الأوامر والاحكام المؤدية اليه وكذا على النواهي العائقة عنه والعبر والتذكيرات المصفية لنفوسكم عن الركون الى ما ينافيه من المزخرفات الدنية الدنياوية الجالبة لانواع اللذات والشهوات الجسمانية المورثة لكم من شياطين نفوسكم وقواكم البهيمية الظلمانية المتفرعة على الطبيعة والهيولى الامكانية والغواشي الاركانية التي هي من نتائج التعينات العدمية الناسوتية المانعة من الوصول الى صفاء عالم اللاهوت نَذِيرٌ لكم أكمل مِنَ النُّذُرِ الْأُولى إذ هم منذرون عن الشواغل المنافية لتوحيد الصفات والأفعال ونذيركم هذا صلّى الله عليه وسلّم ينذركم من موانع توحيد الذات المستلزم لتوحيد الصفات والأفعال واعلموا يقينا انه بعد بعثته صلّى الله عليه وسلم قد
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ اى دنت القيامة الموعودة واقتربت الساعة المعهودة مع انها
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ اى ليست نفس قادرة على كشفها وتعيين وقت وقوعها وقيامها سوى الله تعالى إذ هي من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها. ثم وبخ سبحانه على منكري القرآن ويوم القيامة ومكذبيهما وقرعهم فقال
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ الصحيح والحق الصريح الذي هو القرآن المعجز المبين لأمر الساعة بأنواع الحجج والبرهان تَعْجَبُونَ تعنتا واستكبارا وجحودا وإنكارا ايها المتعجبون المستكبرون المفرطون
وَتَضْحَكُونَ منه استهزاء ومراء وَلا تَبْكُونَ من سماع الوعيدات الهائلة المذكورة فيه تلهفا وتأسفا على ما قد فرطتم لأنفسكم وأفرطتم عليها مع ان الاولى والأليق بحالكم التلهف والبكاء
وَبالجملة أَنْتُمْ ايها الحمقى العمى الجاهلون الجاحدون سامِدُونَ لاهون ساهون متكبرون عما فيه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد تجاهلا وتغافلا مكابرون عليها عتوا وعنادا وان أردتم التلافي والتدارك
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الألوهية والوجود وتذللوا له حق التذلل وعظموه حق التعظيم والتبجيل وَاعْبُدُوا له حق عبادته خاشعين خاضعين ضارعين تائبين آئبين كي تصلوا الى زلال معرفته وتعرفه وتوحيده آمنين فائزين. جعلنا الله من جملة عباده العابدين المتذللين الخاضعين الخاشعين الآمنين الفائزين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
خاتمة سورة والنجم
عليك ايها المريد القاصد لسلوك طريق التوحيد عصمك الله عن آفات التخمين والتقليد واعانك على التبتل والتجريد ان تلازم المجاهدة والانكسار المفرط والتذلل التام والافتقار اللازم مع دوام(2/367)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
العزلة والفرار عن اصحاب الثروة والاستكبار صارفا عنان عزمك نحو إسقاط عموم الإضافات ومطلق الاعتبار طالبا للتجرّد عن ملابس الحياة المستعارة ملازما لسبيل الفناء المثمر للبقاء الأبدي والحياة الازلية السرمدية حتى تتخلص من اودية الضلال وتصل الى فضاء الوصال بتوفيق من لدنه وجذب من جانبه
[سورة القمر]
فاتحة سورة القمر
لا يخفى على من ترقى عن حضيض الإمكان ووصل الى ذروة وجوب الوجود وتمكن في مقام الكشف والشهود مجردا عن جميع القيود والحدود المنافية لصرافة الوحدة الذاتية ان ظهور الخوارق من المعجزات والكرامات وانواع الارهاصات الصادرة من النفوس الزكية القدسية الواصلة الى المبدأ الحقيقي الفانية فيه المضمحلة دونه انما هو بمقتضى الشئون الإلهية المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية ولا شك ان أكمل ارباب الوصول وأفضلهم انما هو نبينا الكامل المكمل المتحقق بمرتبة الخلة والخلافة صلوات الله وسلامه عليه ولهذا قد صدر عنه صلّى الله عليه وسلّم بحيث اشارته اللطيفة الشريفة ما صدر من المعجزات سيما انشقاق القمر ليلة البدر حسب اقتراح المنكرين عليه بإظهار الآيات والحاحهم إياه صلّى الله عليه وسلّم فصار انشقاقه هذا من امارات اقتراب الساعة الموعودة والنشأة الآتية المعهودة كما اخبر سبحانه عنه بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بالقدرة الكاملة على عموم مقدوراته الرَّحْمنِ لجميع مخلوقاته في النشأة الاولى بافاضة الوجود عليها بمقتضى الجود الرَّحِيمِ لنوع الإنسان حيث يوقظهم من منام الغفلة ويوصلهم الى مقام الوحدة ويطلعهم على قيام الساعة والطامة الكبرى التي قد انقهرت دونها نقوش الأغيار والسوى مطلقا
[الآيات]
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وقد دنت القيامة الموعود قيامها ومن جملة علاماتها الموضوعة لها في علم الله انشقاق القمر ليلة البدر وَقد انْشَقَّ الْقَمَرُ باشارة الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية صلّى الله عليه وسلّم معجزة له وامارة للساعة وقيامها باخبار الله إياها وقد وقع منه صلّى الله عليه وسلّم هذا الانشقاق وتواتر خبر وقوعه
وَالمنكرون المصرون على الإنكار والتكذيب المقيدون بعقال العقل الفضول المغلولون بأغلال الأحلام المشوبة بالخيالات والأوهام إِنْ يَرَوْا آيَةً معاينة دالة على قدرة الصانع الحكيم والقادر العليم يُعْرِضُوا عنها لعدم مطابقتها وموافقتها بعاداتهم واعتقاداتهم وبمقتضيات اوهامهم وخيالاتهم وَيَقُولُوا من شدة انكارهم وعنادهم هذا الذي صدر منه على خلاف العادة ما هو الا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ من زمان وقوعه لا مختلق مبتدع منه فقط
وَبالجملة قد كَذَّبُوا الآية الخارقة للعادة وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ المعتادة الفاسدة الموروثة لهم من آبائهم الضالة المضلة المسرفة وَهكذا كُلُّ أَمْرٍ رسخ وتمكن في نفوسهم سواء كان خيرا او شرا طاعة او معصية ولاية وعداوة مُسْتَقِرٌّ ثابت متمكن في مكانه بعد ما تقرر وتمرن بحيث لا يتعداه أصلا
وَمن نهاية تمكنهم ورسوخهم في الكفر والعناد وتمرنهم على البغي والفساد لَقَدْ جاءَهُمْ في القرآن المرشد لهم الى الهداية والعرفان مِنَ الْأَنْباءِ والاخبار والقصص والحكايات الجارية على القرون الماضية المصرة على العتو والعناد أمثالهم ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ اى وعيدات هائلة موجبة للانزجار الكامل والارتداع المتبالغ لأصحاب العبرة والاستبصار إذ هي كلها
حِكْمَةٌ متقنة بالِغَةٌ نهايتها في الاحكام(2/368)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
والإتقان ومع ذلك فَما تُغْنِ النُّذُرُ وما تفيدهم انذاراتهم أصلا إذ هم اى أولئك الضالون المسرفون المفرطون مجبولون على الغواية والبلادة المتناهية أمثال هؤلاء الغواة الطغاة المصرين على انواع العتو والعناد معك يا أكمل الرسل وبالجملة
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ واعرض عن دعوتهم وإرشادهم وانتظر يَوْمَ يَدْعُ ويناد الدَّاعِ المنادى ألا وهو اسرافيل عليه السلام ودعاؤه كناية عن نفخه في الصور للبعث والحشر إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ فظيع فجيع تنكره النفوس إذ لم يعهد مثله ألا وهو هول يوم القيامة المعدة للحساب والجزاء بعد ما سمعوا النداء الهائل والصداء المهول
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ اى شاخصة ذليلة كالتائه الهائب الهائل يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ اى قبورهم التي هم مدفونون فيها في عالم البرزخ ويتحركون على الأرض كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة والانتشار الى الأماكن فيتوجهون
مُهْطِعِينَ مسرعين إِلَى الدَّاعِ المنادى مادين أعناقهم نحوه من شدة خوفهم وهولهم ليعلموا لم يدعوهم ومن شدة تلك الساعة وأهوالها وفظاعتها يَقُولُ الْكافِرُونَ في نجواهم وفي هواجس نفوسهم هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب في غاية الصعوبة والفظاعة. ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم حين اغتم من تكذيب قومه إياه حاكيا له صلّى الله عليه وسلّم عن احوال الأنبياء الماضين وما جرى عليهم من اقوامهم تفريجا لهمه وازالة لحزنه
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ اى قبل قومك يا أكمل الرسل قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا عليه السلام يعنى لا تحزن يا أكمل الرسل من تكذيب هؤلاء الجهلة المكذبين ولا تغتم من اذياتهم إذ ما هي ببدع منهم بالنسبة إليك بل تذكر قصة قوم نوح فَكَذَّبُوا عَبْدَنا اى كيف كذبوا أخاك نوحا وَقالُوا له حين دعاهم الى الايمان على سبيل الاستهانة والاستهزاء هذا مَجْنُونٌ مخبط العقل مختل الرأى وَازْدُجِرَ وزجر لأجل دعوته وتبليغه إياهم الوحى الى حيث قد لطمه كل من يصل اليه ورماه بالحجارة كل من يمر عليه فصبر على أذاهم وبالغ في دعوته إياهم وبعد ما بلغت الاذية غايتها والاهانة نهايتها
فَدَعا رَبَّهُ دعاء مؤمل ضريع فجيع أَنِّي اى بانى على قراءة الفتح او قال انى بالكسر مَغْلُوبٌ قد غلبني هؤلاء الغواة ولم يقبلوا منى دعوتي وهدايتي فَانْتَصِرْ على يا ربي وانتقم عنى منهم وما دعا عليهم الا بعد يأسه عن ايمانهم. روى انه كان يدعو كل واحد منهم جميعا وفرادى فيضربونه ويخنقونه حتى يخر مغشيا عليه ثم لما أفاق قال اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وبعد ما قنط وبلغ الزجر غايته تضرع نحونا مشتكيا من قومه
فَفَتَحْنا بعد ما أردنا هلاكهم وانتقامهم أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب كأنه يجرى من جانب السماء على وجه الجري والتوالي بلا تقاطر
وَكذا فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً اى قد فجرنا عيون الأرض وصيرناها كأنها عيون كلها بل عين واحدة فَالْتَقَى الْماءُ الحاصل من كلا الجانبين وبلغا عَلى أَمْرٍ شأن واحد قَدْ قُدِرَ اى قدره الحق في حضرة علمه ولوح قضائه لإهلاك أولئك الطغاة البغاة وإغراقهم
وَبعد ما طغى الماء وطاف حول الأرض قد حَمَلْناهُ اى نوحا ومن تبعه عَلى ذاتِ أَلْواحٍ اى سفينة ذات أخشاب عراض طوال وَدُسُرٍ مسامير مطولة وصيرناها بحيث
تَجْرِي السفينة بِأَعْيُنِنا وبكنف حفظنا وحضانتنا وانما فعلنا مع نوح وقومه ما فعلنا ليكون جَزاءً حسنا له وسيئا لِمَنْ كانَ كُفِرَ بنعمة هدايته وإرشاده ولم يؤمن بدينه ولم يصدقه في تبليغه
وَلَقَدْ تَرَكْناها اى السفينة وقصتها او الفعلة التي فعلناها مع المكذبين لرسلنا المجترئين علينا بالإنكار والكفران آيَةً دالة(2/369)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
على قدرتنا ومكنتنا على انواع الانعام والانتقام فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يدكر بها ويعتبر منها وبالجملة
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي للمنكرين المضرين على الإنكار والتكذيب وَنُذُرِ اى إنذاري وتخويفى على من يعتبر منهم ومما جرى عليهم من العقوبات
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ سهلناه لِلذِّكْرِ اى لانواع التذكيرات والمواعظ والعبر والأمثال فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يتعظ به ويتذكر مما فيه ويعتبر وايضا قد
كَذَّبَتْ عادٌ كذلك لهود عليه السلام فَكَيْفَ كانَ عَذابِي إياهم وَنُذُرِ وإنذاري لمن بعدهم بما جرى عليهم وبالجملة
إِنَّا بمقتضى عظم قهرنا وجلالنا قد أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ اى على عاد حين أردنا انتقامهم وإهلاكهم رِيحاً صَرْصَراً باردة شديدة الجري والصوت فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم منحوس مُسْتَمِرٍّ شؤمه ونحوسته عليهم الى ان يستأصلوا بما فيه بالمرة ومن شدة جريها وحركتها
تَنْزِعُ وتقلع النَّاسَ من أماكنهم مع انهم قد دخلوا في الحفر وتشبثوا بالأثقال كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ اى أصولها مُنْقَعِرٍ منقلب عن مغارسه ساقط على الأرض يعنى هم سقطوا على الأرض جميعا موتى بلا روح
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي إياهم وَنُذُرِ لمن بعدهم
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ المعجز المشتمل لانواع البرهان والتبيان لِلذِّكْرِ والاتعاظ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متذكر يتعظ به وكذا قد
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ اى بعموم الإنذارات الصادرة من لسان صالح عليه السلام بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي
فَقالُوا في تعليل تكذيبهم على الرسول وانذاراته مستفهما مستبعدا أَبَشَراً ناشئا مِنَّا كائنا من جنسنا مع كونه واحِداً منفردا لا رهط له ولا تبع نَتَّبِعُهُ نؤمن به ونقلد له نحن مع انه لا مزية له علينا لا بالحسب ولا بالنسب والله إِنَّا ان فعلنا هكذا واتبعنا له إِذاً لَفِي ضَلالٍ عظيم وغواية بعيدة عن مقتضى العقل والدراية وَسُعُرٍ اى قد كنا حينئذ في جنون عظيم بمتابعة هذا الرذل المفضول ثم استفهموا فيما بينهم على وجه الإنكار والاستهزاء من غاية الاستبعاد والمراء فقالوا
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ الوحى والكتاب سيما من السماء عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا مع نهاية رذالته وردائته والحال ان فينا من هو أحق به واولى منه لو فرض القاؤه ونزوله منها وبالجملة ما هو بمقتضى حاله الا مجنون مخبط مختل العقل والرأى بَلْ هُوَ كَذَّابٌ متناه في الكذب والافتراء غايته أَشِرٌ بطر مبالغ في الشرارة يريد بافترائه واختلاقه هذا ان يتكبر علينا ويتفوق بنا مع تناهيه في الشرارة والرذالة وبالجملة ما هذه الدعوى منه الا من افراط بطره وشدة شرارته وهم كانوا يقولون في حقه ما يقولون من أمثال هذه الهذيانات والمفتريات الباطلة العاطلة الا انهم
سَيَعْلَمُونَ ويفهمون غَداً عند نزول العذاب العاجل والآجل عليهم مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ البطر المباهي ببطره حيث اعرض عن الحق وأصر على الباطل أصالح هو أم من كذب وأنكر عليه. ثم قال سبحانه لنبيه صالح عليه السلام بعد ما قد بالغوا في العتو والعناد واقترحوا منه بإخراج الناقة من الصخرة تهكما وتعجيزا
إِنَّا بمقتضى كمال قدرتنا وقوتنا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ ومخرجوها من الصخرة المعهودة وباعثوها فِتْنَةً عظيمة واختبارا وابتلاء لَهُمْ واوحيناهم في شأنها ما اوحيناهم فَارْتَقِبْهُمْ أنت يا صالح وانتظر ماذا يفعلون بها وَاصْطَبِرْ على اذياتهم بك واستهزائهم ومرائهم معك
وَنَبِّئْهُمْ اى خبرهم وعلمهم منا وبمقتضى وحينا أَنَّ الْماءَ الذي به معاشهم ومعاش مواشيهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ اى مقسومة بين الناقة وبينهم ومواشيهم لها يوم ولهم يوم كُلُّ(2/370)
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ
اى كل صاحب شرب يحضر الماء في يومه ولا يحضره غيره فيه على سبيل التوبة بلا تزاحم وتدافع. ثم لما قبلوا هذه القسمة بعد خروج الناقة من الصخرة المعهودة وصاروا عليها زمانا اضطروا وتضجروا من امر الناقة
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ قدار بن سالف فتشاوروا معه في امر الناقة واضطرارهم ومواشيهم عن هذه القسمة فَتَعاطى اى أخذ سيفه قدار مغاضبا وكان من اجرئهم وأشجعهم في الوقائع والخطوب فَعَقَرَ اى قدار الناقة باتفاق القوم معه واستصوابهم ولم يبال بالقسمة والوصاية الإلهية في شأنها
فَكَيْفَ كانَ يعنى انظر ايها الناظر المعتبر كيف وقع وحل عَذابِي عليهم وَلحق نُذُرِ إياهم بعد عقر الناقة وبالجملة
إِنَّا بمقتضى قهرنا وجلالنا قد أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً هائلة مهولة فَكانُوا اثر سماع تلك الصيحة الهائلة كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ اى مثل الأشجار اليابسة البالية في حظائر الأموال تتناثر اجسادهم كالتراب
وَبالجملة لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ المشتمل على انواع الرشد والهداية لِلذِّكْرِ والعظة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يتذكر ويهتدى بهدايته وتذكيره
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ايضا أمثال هؤلاء المكذبين بِالنُّذُرِ الواردة النازلة عليهم بلسان نبيهم لوط عليه السلام وبعد ما أصروا على تكذيبه وإنكاره
إِنَّا بمقتضى قهرنا وغضبنا قد أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ من جانب السماء حاصِباً ريحا صرصرا شديدة عظيمة ترميهم بالحصباء اى الأحجار الصغار الى ان هلكوا بالمرة إِلَّا آلَ لُوطٍ هو لوط وبنتاه قد نَجَّيْناهُمْ من هذه الوقعة الهائلة والكرب العظيم بِسَحَرٍ اى وقت الصبح وانما نجيناهم ليكون انجاؤنا إياهم
نِعْمَةً منا واصلة ناشئة مِنْ عِنْدِنا ورحمة شاملة نازلة من لدنا عليهم بسبب ايمانهم وعرفانهم كَذلِكَ اى مثل ما فعلنا مع آل لوط نَجْزِي بمقتضى جودنا عموم مَنْ شَكَرَ لنعمنا ولم يكفر بموائد كرمنا
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السلام بمقتضى وحينا والهامنا إياه بَطْشَتَنا اى عن شدة بطشتنا وأخذنا إياهم بسبب فعلتهم القبيحة وديدنتهم الشنيعة فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ اى كذبوه في انذاراته ووعيداته مراء ومجادلة واستهزؤا معه وبعموم ما أوحينا اليه من الوعيد
وَمن شدة مرائهم واجترائهم عليه لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ وترددوا حول بيته حين نزول الملائكة عليه في صورة صبيان صباح ملاح اضيافا وقصدوا فجورهم ويمموا تفضيحهم فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ومسحناها وصيرناها مستوية مع وجوههم فصاروا ممسوحة العيون.
روى انه لما دخلوا داره عنوة صفتهم جبرائيل عليه السلام صفقة فأعماهم دفعة فَذُوقُوا اى فقلنا لهم حينئذ ذوقوا عَذابِي وَنُذُرِ المنذر به على لسان نبينا لوط عليه السلام
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ ولحق بهم بُكْرَةً قريبة من الصبح عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ مستمر عليهم الى ان يستأصلهم بالمرة ويسلمهم الى النار
فَذُوقُوا عَذابِي اى قلنا لهم حينئذ ذوقوا عذابي ايها المفسدون المسرفون وَذوقوا نُذُرِ ايها المنكرون المكذبون المفرطون
وَبالجملة لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ المبين لانواع الوعيدات الهائلة الجارية على اصحاب السرف والفساد لِلذِّكْرِ اى للعبرة والعظة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ معتبر متعظ متيقظ يعتبر من وعيدات القرآن وانذاراته وما ذكر فيه من الحكايات. ثم قال سبحانه
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ اى الإنذارات الواردة من لدنا على لسان كليمنا المؤيد من عندنا بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة وبالجملة
كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة من عندنا كُلِّها سيما بعد اقتراحهم والحاحهم عليها ونسبوها(2/371)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
الى السحر والشعبذة وانواع الخرافات الباطلة البعيدة عن شأنها بمراحل فَأَخَذْناهُمْ وانتقمنا منهم بعد ما بالغوا في العتو والعناد أَخْذَ عَزِيزٍ قادر غالب لا يغالب مطلقا مُقْتَدِرٍ كامل في القدرة بحيث لا يعجز عن مقدور قط فأغرقناهم واستأصلناهم بحيث لم يبق منهم احد على وجه الأرض ثم خاطب سبحانه كفار مكة على سبيل التوبيخ والتهديد فقال
أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ وأفضل مطلقا مِنْ أُولئِكُمْ الكفار المعدودين المذكورين وجاهة وثروة ومالا ومظاهرة ومكنة ومكانة مع انكم لستم أمثالهم وهم مع شدة قوتهم وشوكتهم ما نجوا من عذاب الله أتنجون أنتم ايها الحمقى البطرون أَمْ قد نزل لَكُمْ بَراءَةٌ من العذاب مكتوبة فِي الزُّبُرِ السماوية والكتب الإلهية بان من كفر منكم وخرج عن مقتضى الحدود الإلهية فهو ناج من عذاب الله برئ عن انتقامه
أَمْ يَقُولُونَ من شدة حماقتهم وسخافة فطنتهم نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ اى نحن جماعة مجتمعون ومتفقون أمرنا ورأينا متفق ننصر وننتصر بعضنا ببعض بحيث لا نغالب ولا نرام أصلا وهم من غاية بطرهم ونهاية غفلتهم وغرورهم يقولون أمثال هذه الهذيانات الباطلة ولم يعلموا انه
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويفرد جنس المجموع اى جميعهم على وجه الهزيمة وَهم قد يُوَلُّونَ الدُّبُرَ اى ينصرف كل منهم عن عدوه مستدبرا منه منهزما عنه في الدنيا
بَلِ السَّاعَةُ الموعودة مَوْعِدُهُمْ العظيم لتعذيبهم في العقبى وَبالجملة السَّاعَةُ والعذاب الموعود فيها أَدْهى اى أشد واعيى من دواهيها لا دواء لها ولا نجاة عنها وَأَمَرُّ مذاقا من عذاب الدنيا بل هي بأضعاف ما فيها من البليات والمصيبات وآلافها وبالجملة
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ المتصفين بالجرائم المستلزمة للخروج عن الحدود الإلهية وعن مقتضى الأوامر والنواهي المنزلة من عنده سبحانه فِي ضَلالٍ مبين عن الحق واهله في العاجل وَسُعُرٍ نيران مسعرة معدة لهم في الآجل اذكر يا أكمل الرسل
يَوْمَ يُسْحَبُونَ ويجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ صاغرين مهانين فيقال لهم حينئذ ذُوقُوا ايها المفسدون المسرفون مَسَّ سَقَرَ اى مساس جهنم وشدة حرها وحرقها بدل ما تتنعمون في دار الدنيا بلذاتها الشهية وشهواتها البهية البهيمية وكيف لا ندخل المجرمين في نيران القطيعة ولا نجرهم نحوها مهانين صاغرين فإنهم قد خرجوا عن مقتضى تدبيرنا واوضاعنا الناشئة منا على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة المعتدلة
إِنَّا بمقتضى كمال علمنا وشمول قدرتنا وارادتنا المقتضية للحكم والمصالح قد خلقنا وأظهرنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ وأظهرناه من كتم العدم مقرونا معلوما بِقَدَرٍ اى بمقدار نقدره في حضرة علمنا ولوح قضائنا ونرتب على المقدار المقدر وجود المقدور المخلوق فنظهره على وفقه
وَلا تستبعدوا من حيطة حضرة علمنا الشامل وقدرتنا الكاملة تفاصيل عموم المظاهر والمخلوقات والمقدورات وترتب وجوداتها على مقاديرها المقدرة لها في لوح قضائنا المحفوظ وحضرة علمنا المحيط إذ ما أَمْرُنا وحكمنا المبرم الصادر منا في السرعة والمضاء بالنسبة الى عموم الكوائن والفواسد الواقعة في عموم الازمنة والآنات وبالنسبة الى جميع الخواطر والخواطف والاختلافات الواقعة في حركات العروق الضوارب في هياكل الهويات واشكال الحيوانات بل بالنسبة الى ما في عموم الاستعدادات والقابليات ما هي إِلَّا فعلة واحِدَةٌ صادرة منا بلا توقف وتراخ وبلا تعقيب ومهلة بل كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ اى كنظرة سريعة بالطرف هيهات هيهات والله ما هذا التمثيل لسرعة نفوذ القضاء الإلهي الا بحسب احلام الأنام وبمقتضى افهامهم(2/372)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
واوهامهم وإلا فلا يكتنه سرعة قضائه أصلا حتى يمثل بها ويشبه لها. ثم قال سبحانه على سبيل الوعيد والتهديد
وَكيف لا تخافون ايها المسرفون المفرطون عن شدة بطشنا وانتقامنا لَقَدْ أَهْلَكْنا واستأصلنا أَشْياعَكُمْ واشباهكم وأمثالكم في الكفر والعناد وانواع الفسوق والفساد بأصناف العقوبات والبليات الهائلة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متذكر يتعظ من إهلاكهم وهلاكهم ويعتبر مما جرى عليهم من الشدائد
وَكما عذبناهم بجرائمهم وآثامهم في النشأة الاولى كذلك بل بأضعافه وآلافه نعذبهم في النشأة الاخرى ايضا بها إذ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فيما مضى وصدر عنهم في النشأة الاولى محفوظ مثبت فِي الزُّبُرِ اى كتب الحفظة المراقبين عليهم من لدنا المحافظين على عموم أحوالهم وأفعالهم وأطوارهم
وَكيف لا يحفظ إذ كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وقليل وكثير على التفصيل مُسْتَطَرٌ اى مثبت مسطور في لوح القضاء أولا وفي صحائف أعمالهم ثانيا وبالجملة لا يعزب عن حيطة حضرة علمه سبحانه شيء من أعمالهم وأقوالهم وأطوارهم وأحوالهم مطلقا ولو طرفة وخطرة. ثم عقب سبحانه وعيد المجرمين بوعد المؤمنين على سنته المستمرة في كتابه فقال
إِنَّ الْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن مطلق المحرمات والمنهيات متنعمون فِي جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق وَنَهَرٍ جداول جاريات من المعارف والحقائق منتشآت من بحر الحياة التي هي العلوم اللدنية المتجددة حسب تجددات التجليات الإلهية متمكنون
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ هو مقام التسليم والرضاء بعموم مقتضيات القضاء عِنْدَ مَلِيكٍ يملك رقابهم يتكفل على عموم أمورهم وحوائجهم مُقْتَدِرٍ على تدابيرها حسب الحكمة البالغة المتقنة. جعلنا الله من زمرة المتقين المتمكنين في مقعد الصدق عند المليك المقتدر العليم الحكيم
خاتمة سورة القمر
عليك ايها المريد القاصد المتمكن في مقعد الصدق والمتحقق في مرتبة اليقين الحقي وفقك الله للوصول الى غاية مقصدك ومرماك ان تقى نفسك عن مطلق المحظورات والمنهيات المنافية لسلوك طريق الحق وتوحيده سيما من الرياء والرعونات المنتشئة من ظلمات الطبيعة والهيولى المتفرعة عن التعينات العدمية المستلزمة للكثرة الوهمية المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الإلهية وتلازم العزلة والفرار عن أبناء الدنيا الدنية وأمانيها مطلقا وتقنع منها بضرورياتها المقومة لهيكل هويتك الظاهرة لمصلحة المعرفة والتوحيد حتى يتيسر لك الوقوف بين يدي ملك مقتدر متوحد في الوجود والقيومية متفرد في الثبوت والديمومية. ثبتنا على منهج اليقين والتمكين وجنبنا بجودك عن امارات التخمين والتلوين بحولك يا ذا القوة المتين
[سورة الرحمن]
فاتحة سورة الرحمن
لا يخفى على من تحقق بفسحة قلب الإنسان المصور على وسعة عرش الرحمن ان حكمة خلق الإنسان على فطرة المعرفة والايمان وتعليم القرآن عليه انما هو للبيان والبرهان على ثبوت خلافته ونيابته للحق وتنبهه برفعة درجته وعلو شأنه ومكانته من بين عموم الأكوان لذلك قال سبحانه في مقام الانعام والامتنان عليه تنبيها له وتعليما بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على قلب(2/373)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
الإنسان لينكشف له ذاته سبحانه وكمالات أسمائه وصفاته الرَّحْمنِ عليه بترجمان اللسان والبيان المعرب عما في قلبه ليرشد غيره بما هو عنده ويسترشد به ما ليس عنده الرَّحِيمِ المنزل عليه القرآن المبين له طريق التوحيد والعرفان
[الآيات]
الرَّحْمنُ اى الذات المحيطة بعموم الرحمة الواسعة المتسعة بمقتضى سعة رحمته ووفور لطفه ورأفته قد
عَلَّمَ الْقُرْآنَ لنوع الإنسان حيث نزله على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ليكون مبينا لهم سبيل الكشف والعيان ومنهج التوحيد والعرفان مع انه سبحانه ما
خَلَقَ الْإِنْسانَ الا لأجل هذا الشأن البديع البرهان وايضا لهذه الحكمة العلية والمصلحة السنية بعينها قد
عَلَّمَهُ الْبَيانَ اى التنطق والتكلم بلغات شتى وعبارات لا تحصى ليستفيد من منطوقات الألفاظ ما هو معناها ويتفطن منها الى ما هو مغزاها ومرماها وغاية قصواها ألا وهي المعارف والحقائق والحكم والأسرار الإلهية المودعة المكنونة في مطاوى المصاحف المشتملة على الكلمات المركبة من الحروف الحاصلة من مقاطع الأصوات المتكونة من النفسات الصورية التي هي من لوازم الحيوانية الحقيقية المترتبة على النفسات الرحمانية والنفثات اللاهوتية للوجود المطلق حسب تجليات الذات الإلهية وعلى مقتضى الأسماء والصفات الكامنة فيها المتجلية عليها بمقتضى شئون الكمالات المتجددة الغير المتكررة الى ما لا يتناهى ازلا وابدا ليظهر الإنسان من سر الظهور والبطون والغيب والشهادة الواردة على الوحدة الذاتية الإلهية ولهذه الحكمة والمصلحة ايضا قد ظهر في العلويات
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ اى يجريان ويدوران بحساب مقدر من عنده سبحانه معلوم في حضرة علمه مكتوب في لوح قضائه ليكونا دليلين شاهدين على ظهور مرتبتي النبوة والولاية المتفرعة على العدالة الذاتية الإلهية
وَايضا قد ظهر في السفليات لتلك المصلحة السنية النَّجْمُ اى النبات الذي لا ساق له وَالشَّجَرُ وهو الذي له ساق يَسْجُدانِ يخضعان ويتذللان له سبحانه دائما من كمال الإطاعة والانقياد
وَبالجملة السَّماءَ اى عالم الأسباب والأقدار رَفَعَها في أعلى المكان والمكانة وَوَضَعَ فيها الْمِيزانَ المعتدل المنبئ عن القسطاس المستقيم الإلهي الواقع بين الأسماء والصفات الذاتية وبين المقادير والآجال المقدرة لجريها ورتبها على دوراتها وانقلاباتها الواقعة فيها على وفق الحكمة المترتبة على العدالة الإلهية وانما رتبها على مقتضى الحكمة والعدالة كذلك
أَلَّا تَطْغَوْا اى ان لا تعتدوا ولا تتجاوزوا ايها المجبولون لمصلحة التكليف والعرفان عن مقتضى الوضع الإلهي المترتب على الحكمة البالغة المتقنة فِي الْمِيزانِ الموضوع بمقتضاها في الأرض ألا وهي الشرع الشريف المصطفى
وَبعد ما سمعتم حال العلويات والسفليات وما فيهما من الموازين المعتدلة الموضوعة بالوضع الإلهي أَقِيمُوا ايها المكلفون فيما بينكم الْوَزْنَ الموضوع بالوضع الإلهي واعتدلوه بِالْقِسْطِ والإنصاف وَلا تُخْسِرُوا ولا تنقصوا الْمِيزانَ إذ هو موضوع على العدل السوى
وَاعلموا ان الْأَرْضَ انما وَضَعَها ومهدها سبحانه لِلْأَنامِ ليعتدلوا عليها ويستقيموا في عموم أخلاقهم وأطوارهم فيها حتى يستعدوا لان يفيض عليهم طلائع سلطان الكشف والشهود فيفوزوا بمقر التوحيد ويتمكنوا في مقعد صدق التفريد والتجريد لذلك أعدلهم تفضلا عليهم وتكريما
فِيها اى في الأرض فاكِهَةٌ كثيرة يتفكهون بها من انواع الفواكه الصورية والمعنوية تقويما لأمزجتهم وتقوية لها وَلا سيما النَّخْلُ التي هي ذاتُ الْأَكْمامِ والاوعية المشتملة على التفكه والتقوت وسائر الأغراض الحاصلة منها
وَالْحَبُّ(2/374)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
(5) اى وكذا أعدلهم سبحانه فيها جنس الحبوب التي تقوت بها نوع الإنسان ذُو الْعَصْفِ اى التبن والقشور إذ هو محفوظ فيها مربى معها الى ان يستوي وينضج فيتقوت به الإنسان ويعصفه المواشي وَكذا اظهر لهم فيها بمقتضى جوده سبحانه الرَّيْحانُ اى جنس الرياحين المشمومة المقوية لدماغ الإنسان المصفية عن الروائح الخبيثة والنفحات الكريهة. ثم لما عد سبحانه نبذا من نعمه الشاملة على عموم البرايا خاطب المكلفين منهم على سبيل الامتنان وهما الثقلان المجبولان على فطرة التوحيد واستعداد الايمان والعرفان فقال
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما ونعماء موجدكما ومربيكما تُكَذِّبانِ ايها المغموران في نعمه المستغرقان في بحار جوده وكرمه وكيف يسع لكما الكفران لنعم الله والطغيان عليه سبحانه مع انه سبحانه قد
خَلَقَ الْإِنْسانَ مصورا بصورة الرحمن قد خلقه أولا مع غاية كرامته ونجابته مِنْ صَلْصالٍ طين يابس له صلصلة وصوت كَالْفَخَّارِ اى كالخزف المتخذ من التراب الموقد بالنار ومع دناءة منشائه وخباثة مادته قد رفعه الحق ورباه الى حيث جعله خليفة لذاته نائبا عنه ومرآة مجلوة قابلة لفيضان كمالات أسمائه وصفاته
وَخَلَقَ الْجَانَّ اى الجن وقدر وجوده أولا مِنْ مارِجٍ دخان صاف حاصل مِنْ نارٍ موقدة ملتهبة مشتعلة على وجه الحركة والاضطراب ومع رداءة مادتها وكثافتها جعله شبها بالملإ الأعلى متصلا بهم في كمال اللطافة والصفاء بحيث لا يرى أشباحهم أمثالهم وإذا كان شأن الحق معكما هكذا
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وتنكران ايها الثقلان وكيف يليق بشأنه سبحانه الإنكار والتكذيب مع انه سبحانه
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ اى مشرقى الظهور والبروز من عماء العالم اللاهوتى نحو فضاء الأسماء والصفات الإلهي المسمى بالغيب الإضافي والأعيان الثابتة ثم منها الى عالم الشهادة في السير الهابط وَكذا رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ اى مغربي الخفاء والبطون عن عالم الناسوت الى برزخ الأعيان الثابتة ثم عنها الى عالم اللاهوت في السير الصاعد إذ يتوارد دائما على شمس الحقيقة الذاتية باعتبار تجلياتها حسب أسمائها وصفاتها شروق وافول وطلوع وغروب وبالجملة
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المظهران الكاملان المجبولان على فطرة الشعور والعرفان ومن أين يتأتى لكما التكذيب في شأنه سبحانه إذ هو بمقتضى قدرته قد
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ اى أرسل واطلق بحرى الوجود والعدم بحيث يَلْتَقِيانِ يتمازجان ويختلطان على وجه لا يتمايزان عند المحجوب الفاقد عين الكشف والشهود ويبقى
بَيْنَهُما عناية منه سبحانه وفضلا بَرْزَخٌ هو الإنسان الكامل المتميز المتكيف بكيفية انبساط بحر الوجود العذب على بحر العدم المالح وامتداده عليه وانطباق سطوحهما بحيث لا يتمايزان في بادى الرأى سيما عند المحجوب الفاقد عين العبرة وبصر البصيرة ثم جعل سبحانه برزخ الإنسان الكامل بمقتضى الحكمة المتقنة المعتدلة على وجه لا يَبْغِيانِ اى لا يبغى ولا يغلب كل من بحرى الوجود والعدم على صاحبه في مرتبته ونشأته حتى يتكمل حكمة الظهور والبطون والجلاء والخفأ والألوهية والعبودية وسائر المتقابلات المترتبة على الشئون الإلهية المتفرعة على الأسماء الذاتية
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المكلفان المعتبران وكيف لا تعتبران ولا تشكران نعمه مع انه
يَخْرُجُ حسب عنايته الازلية مِنْهُمَا اى من البحرين المذكورين اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ اى يخرج لكما ايها الثقلان المجبولان على فطرة العرفان من امتزاج البحرين المذكورين لآلى المعارف والحقائق ومرجان الشهود والإيقان
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها الممنونان المغموران المستغرقان في موائد كرمه وجوده
وَلَهُ سبحانه تفضلا(2/375)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)
على عباده وامتنانا لهم الْجَوارِ اى سفن الملل والأديان المنزلة من عنده سبحانه على عموم الرسل والأنبياء ليرشدوا بها أممهم الى طريق التوحيد والعرفان الْمُنْشَآتُ المصنوعات المستحدثات فِي الْبَحْرِ اى بحر الوجود كَالْأَعْلامِ اى كالرواسى العظام التي يعلم ويشاربها للتائهين في بيداء الوجود الضالين في صحراء الجحود الى جادة اليقين والعرفان
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المكلفان وبالجملة
كُلُّ مَنْ عَلَيْها اى على ارض القوابل والهيولى من التعينات المستتبعة لانواع الإضافات الحاصلة من موجات بحر الوجود وتجلياته بمقتضى الكرم والجود انما هو فانٍ لا وجود ولا تحقق لها في ذواتها أصلا سوى انها قد انبسط عليها اظلال الأسماء والصفات الإلهية
وَبعد فناء نقوش الأمواج والاظلال بأسرها يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل بمقتضى صرافة وحدته مستغنيا في ذاته عن عموم مظاهره ومخلوقاته إذ هو سبحانه ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ في حد ذاته لا يشارك في وجوده ولا ينازع في سلطانه فمآل الكل اليه كما ان مبدأه منه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وإذا كان شأنه سبحانه هذا وهكذا
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها الاظلال والعكوس الهلكى وبالجملة
يَسْئَلُهُ ويستمد منه في كل زمان وآن ويستظل تحت ظل وجوده وجوده كل مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من فواعل المظاهر وقوابلها إذ كُلَّ يَوْمٍ وآن هُوَ سبحانه فِي شَأْنٍ لا يسبقه شأن ولا يلحقه شأن مثله فكل من المظاهر الإلهية في كل آن وطرفة في نزع صورة ولبس اخرى حسب شئون الحق وسرعة نفوذ قضائه
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المجبولان على فطرة الدراية والشعور. ثم لما عد سبحانه على عموم المكلفين نبذا من نعمه العظام على سبيل التنبيه والامتنان أراد أن يشير إليهم وينبه عليهم بالقيام على أداء حقوقها ومواظبة شكرها لئلا ينفعلوا من الله ولا يستحيوا عند العرض والحساب في يوم الحشر والجزاء فقال
سَنَفْرُغُ لَكُمْ اى نتجرد ونخلو لحساب أعمالكم وتنفيذ جزائكم عليها بمقتضيها أَيُّهَ الثَّقَلانِ المثقلان بشكر نعمتنا وأداء حقوق كرمنا ومتى سألنا كما عن اعمالكما
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وتنكران مع انا ما خفى علينا شيء من أعمالكم مطلقا لا من كفركم وكفرانكم ولا من شكركم وايمانكم. ثم قال سبحانه مناديا لهم على وجه التوبيخ والتهديد
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ المجبولين على فطرة التكليف المثمرة لثمرة المعرفة واليقين عليكم ان تنقادوا وتطيعوا بعموم ما كلفتم به بمقتضى الحكمة البالغة والا إِنِ اسْتَطَعْتُمْ وقدرتم أَنْ تَنْفُذُوا وتخرجوا فارين عن مقتضيات قهرنا وغضبنا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى من جهات العلويات والسفليات وانحائهما فَانْفُذُوا واخرجوا مع انكم لا تَنْفُذُونَ ولا تقدرون على الخروج ان وقع إِلَّا بِسُلْطانٍ منا اى بقدرة وأقدار موهوبة لكم من قبل ربكم إذ لا يصدر منكم مطلق الأفعال والحركات الا باقداره وتمكينه سبحانه
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وكيف تنفذون وتفرون من حيطة قهره وجلاله إذ
يُرْسَلُ عَلَيْكُما في النشأة الاخرى جزاء لأعمالكم شُواظٌ لهب مشتعل مِنْ نارٍ موقدة مسعرة وَنُحاسٌ اى دخان مظلم حاصل منهما وبالجملة فَلا تَنْتَصِرانِ وتمتنعان عنهما بحولكما وقوتكما الا بعناية ناشئة من الله وفضل يدرككم من لدنه
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فعليكم ان تشكروا آلاء الله وتواظبوا على أداء حقوق نعمائه قبل حلول يوم الجزاء
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ واندكت الأرض من خشية الله ورهبته فَكانَتْ السماء من الغضب الإلهي وَرْدَةً حمراء(2/376)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)
مذابة كَالدِّهانِ اى تذوب كالدهن المذاب من شدة الخشية الإلهية فلا يمكنكم حينئذ التدارك والتلافي
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حيث يخبركم بالتهيئة والتدارك قبل حلول الساعة بل
فَيَوْمَئِذٍ اى حين انشقاق السماء في يوم الجزاء لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ لا يسئل حينئذ لا عن ذنب الانس ولا عن ذنب الجان ولا يلتفت الى أعمالهما وافعالهما مطلقا بل يبعثون من قبورهم حيارى ويساقون نحو المحشر سكارى تائهين للحساب والجزاء فاعتنى سبحانه بشأنكم ونبهكم على اعداد الزاد لذلك اليوم قبل حلوله
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وكيف لا تعتدون ولا تتزودون ليومكم هذا إذ
يُعْرَفُ ويعلم يومئذ الْمُجْرِمُونَ المهملون لأمر الزاد المتصفون بالجرائم المستلزمة للانتقام بِسِيماهُمْ إذ يظهر حينئذ آثار الحزن والكآبة على وجوههم فَيُؤْخَذُ بعد الخطاب والعتاب على الحساب بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ اى تشد أعناقهم مع أرجلهم بالسلاسل ثم يطرحون في النار بأنواع الهوان والصغار فيخبركم ربكم ايها المكلفون ويعلمكم طريق الخلاص عنها قبل حلول أوانها
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فيقال لهم حين القائهم إليها مشدودين مهانين زجرا لهم وتوبيخا
هذِهِ النار التي أنتم تصلون فيها الآن جَهَنَّمُ الموعودة المعدة الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ وقت اخبار الله إياهم على ألسنة رسله وكتبه فالآن
يَطُوفُونَ ويترددون بَيْنَها اى بين النار وَبَيْنَ حَمِيمٍ ماء حار آنٍ متناه في الحرارة بحيث يغلب إحراقه وحرارته على النار المسعرة فأراد سبحانه انقاذكم منها فيما مضى بإرسال الرسل وإنزال الكتب
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المجبولان على الكفران والنسيان. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد
وَلِمَنْ خافَ من كلا الفريقين من مكلفى الجن والانس في النشأة الاولى مَقامَ رَبِّهِ اى خاف عن قيامه بين يدي ربه في النشأة الاخرى للعرض والجزاء واشتغل في هذه النشأة لاعداد ذلك اليوم وهيأ أسبابه من اكتساب الحسنات واجتناب السيئات من الأخلاق والاعتقادات وصوالح الأعمال والعبادات وسائر الطاعات المقبولة يومئذ عند الله على مقتضى ما أمرهم الحق ونهاهم عنه بإرسال الرسل وإنزال الكتب جَنَّتانِ معدتان لكل خائف عند ربه جنة جسمانية يتلذذ فيها بدل ما ترك من اللذات الدنياوية وشهواتها الفانية اتقاء عن الله وجنة روحانية عناية من الله وفضلا مما لا عين رأت ولا اذن سمعت الحديث وبالجملة
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ والجنتان المذكورتان
ذَواتا أَفْنانٍ انواع واصناف من الأثمار البهية والفواكه الشهية وانواع الحدائق من الحقائق والمعارف المثمرة للحالات العلية والمقامات السنية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِما اى في تينك الجنتين عَيْنانِ منتشئتان ومترشحتان من بحر الحيات الإلهية متفرعتان على أسمائه وأوصافه الجمالية والجلالية تَجْرِيانِ بين يدي الخائف الملتجئ الى الله على مقتضى تجلياته الحبية
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِما اى في تينك الجنتين مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان من المعارف والحقائق على مقتضى تربية ماء العينين المذكورتين
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المسخران تحت لطفه وقهره وجلاله وجماله ثم انهم اى اهل الجنتين يتنعمون بما ذكر من النعم العظام حال كونهم
مُتَّكِئِينَ متمكنين راسخين عَلى فُرُشٍ من الاعتقادات الراسخة بَطائِنُها اى وجوهها التي تلى قلوبهم وأرواحهم مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وهو الغليظ الصلب من الديباج بحيث لا تخلخل فيها ولا فرج فيها ألا وهو المثال لليقين الحقي الذي(2/377)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
لا يطرأ عليه التردد والتذبذب مطلقا وَبالجملة جَنَى الْجَنَّتَيْنِ اى ما أخذ منهما والتلذذ والتنعم بثمارهما دانٍ قريب إذ لا ترقب ولا انتظار في اليقين الحقي بل هو اقرب الى العارف المحقق من نفسه بعد ما وصل اليه وحصل دونه
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِنَّ اى في الجنان المعدة لأرباب العناية والامتنان مخدرات المعارف والحقائق الواردة على قلوبهم حسب استعداداتهم المتفاوتة قاصِراتُ الطَّرْفِ اى كل منهن منحصرة الطرف مقصورة النظر على كل من ترد عليه بحيث لا تتعدى الى غيره لاختلاف قابلياتهم حسب الفطرة الاصلية بمقتضى اختلاف تجليات الحق وشئونه بحيث لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ولم يتلذذ معهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا بعدهم وَلا جَانٌّ كذلك إذ مراتب الشهود بمقتضى تجليات الوجود وتطوراته فكما لا تكرر ولا اتحاد بين اثنين في التجليات الإلهية كذلك في مراتب ارباب الشهود القابلين لها المستعدين إليها
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
كَأَنَّهُنَّ اى تلك المعارف والحالات من كمال الصفاء والنزاهة والجلاء الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ الساران لأرباب النظر والعيان
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وبالجملة
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في الأعمال والأحوال وعموم الشيم والأخلاق إِلَّا الْإِحْسانُ من الله والرضوان منه سبحانه على سبيل التفضل والامتنان
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وهاتان الجنتان المذكورتان مع ما فيهما من المقامات العلية والدرجات السنية للخائفين من الله ومن سطوة قهره وجلاله في عموم أحوالهم وأطوارهم المفوضين المتوكلين عليه سبحانه في مطلق شئونهم وتقلباتهم الراجين منه سبحانه رضاه عنهم بمقتضى لطفه وجماله
وَمِنْ دُونِهِما اى من دون الجنتين المذكورتين أدون منهما وانزل رتبة جَنَّتانِ أخريان ايضا المعدتان للأبرار المحسنين بالأخلاق والأعمال المتشبثين بأذيال الأماني والآمال حسب الحوائج والأغراض
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهاتان الجنتان وان لم تكونا مثل تينك الجنتين المذكورتين في الأثمار والأشجار والمعارف والأسرار الا انهما
مُدْهامَّتانِ خضراوان نضارتان بمياه الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة الصادرة من الأبرار الأخيار المحسنين المتمسكين بشعائر الشرع ومعالم الدين المستبين
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
هِما
اى في هاتين الجنتين المعدتين للأبراريْنانِ
منتشئتان من الاعتقاد الصادق والايمان الكامل ضَّاخَتانِ
فوارتان منتهيتان الى بحر الحكمة المتقنة الإلهية
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِما ايضا فاكِهَةٌ كثيرة يتفكه بها أهلهما وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطفهما على الفاكهة من قبيل عطف الخاص على العام لمجرد الاعتناء والاهتمام
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِنَّ اى في جنات هؤلاء الأبرار ايضا خَيْراتٌ اى ازواج خيرات مصورة من مثوبات الأعمال والطاعات حِسانٌ اى لا قبح معهن بوجه من الوجوه
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ومثوبات اعمال الأبرار وأخلاقهم وما يترتب عليها وان لم تكن في الصفاء واللطافة كمخدرات الخائفين الا انهم
حُورٌ حسنة الوجوه مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ اى مقصور كل منهن على كل من اتى بالأعمال الصالحة والأخلاق المرضية بحيث لا يتعدى الى الغير إذ كل نفس رهينة بما كسبت خيرا كان او شرا
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها الممنونان المكلفان وهؤلاء ايضا
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ إذ كل منهن مقصورة منحصرة على اعمال كل منهم بلا شركة
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المعتبران المستبصران. ثم انهم اى الأبرار يتنعمون بما أعد لهم من النعم العظام
مُتَّكِئِينَ متقررين عَلى رَفْرَفٍ وسائد وبسط خُضْرٍ مخضرة بمياه ايمانهم الخالص(2/378)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
واعتقادهم الصادق وَعَبْقَرِيٍّ عجيب معجب يتعجبون من ترتبها على أعمالهم وحسناتهم حِسانٍ بحيث لا يتبعها قبح وخذلان
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فعليك يا أكمل الرسل ان لا تستبعد من الله القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام افاضة أمثال هذه الكرامات العلية على ارباب العناية والغفران وتلك الدركات الهوية على اصحاب الغفلة والكفران إذ
تَبارَكَ اى جل وتعاظم وتعالى اسْمُ رَبِّكَ اى عموم اسماء مربيك الذي رباك يا أكمل الرسل محيطا بعموم المراتب الفعالة ومقتضياتها ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ اى ذي العظمة والكبرياء الغالب المقتدر على عموم الانتقام وذي الجمال القادر المقتدر على وجوه الإكرام والانعام
خاتمة سورة الرحمن
عليك ايها العارف المتحقق بعظمة الحق وجلاله المتعطش بزلال الوصال والجمال ان لا تعزم ولا تقصد في عموم احوالك الى الكذب والإنكار سيما بالنسبة الى الله ولا تنسب الحوادث الجارية الحادثة في عموم الأنحاء والأقطار الا الى الله الملك الجبار العزيز الغفار ذي العظمة وكمال الاقتدار لأصناف الانعام والإفضال وانواع العذاب والنكال فلك ان تلازم على شكر نعمه وأداء حقوق لطفه وكرمه في عموم الأحوال وإياك إياك الغفلة عن الله والاشتغال الى ما سواه وكن في عموم أوقاتك وحالاتك بين يدي الله مترددا بين الخوف والرجاء ولا تيأس من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الخاسرون جعلنا الله من زمرة الخائفين من بطشه
[سورة الواقعة]
فاتحة سورة الواقعة
لا يخفى على ارباب الوصول الى المبدأ الحقيقي من المنكشفين بوحدة الحق الحقيق بالحقية والتحقق ان مراتب عموم العباد في الرجوع نحو المبدأ والمعاد وان كانت على الأنحاء المختلفة وطرق شتى لكن لا تخلو عن ثلاثة فرق بعضهم محجوبون بالحجب الظلمانية الامكانية المعبر عنها بالدنيا مغمورون مستغرقون بلذاتها وشهواتها محرومون عن لذة الوصول والحضور مطلقا ألا وهم اصحاب الشمال والشآمة الازلية الابدية وبعضهم محجوبون بالحجب النورانية المسماة بالآخرة وما فيها من انواع النعم واصناف الكرم من اللذات الروحانية والجسمانية الموعودة لهم فيها تفضلا وتكريما وهم اصحاب اليمين ذو اليمين والبركة والكرامة السرمدية والسعادة الازلية الابدية وبعضهم منجذبون نحو الحق بالكلية منخلعون عن جلباب هوياتهم الناسوتية مطلقا فانون في الهوية الحقية اللاهوتية باقون ببقائه مستغرقون بمطالعة لقائه ألا وهم الشطار السابقون الى الله السائرون نحوه المتجردون عن جلباب بشريتهم بالمرة بلا التفات منهم الى مقتضيات تعيناتهم لا باللذات الدنيوية ولا باللذات الاخروية والى هذه الفرق الثلاث أشار سبحانه في هذه السورة واخبر بها حبيبه عليه الصلاة والسلام ليكون على ذكر منهم ويبلغها على من تبعه من اهل المعرفة والايمان إرشادا لهم وتنبيها. ثم لما كان امتياز هذه الفرق انما يظهر ويلوح في يوم القيامة والطامة الكبرى أشار سبحانه أولا الى تحقق وقوعها بعد ما تيمن باسمه الكريم الأعلى فقال سبحانه بِسْمِ اللَّهِ القادر المقتدر على إبداء عموم ما ابدأ في النشأة الاولى الرَّحْمنِ بعموم ما ظهر وبطن بإظهاره من كتم العدم برش انواره ومد اظلاله الرَّحِيمِ بإعادته في النشأة الاخرى بقبض اظلال أسمائه وصفاته نحو ذاته اذكر يا أكمل الرسل(2/379)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
للمعتبرين من المكلفين وقت
[الآيات]
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ العظمى الموعودة وحدثت الطامة الكبرى المعهودة من لدنه سبحانه مع انه
لَيْسَ لِوَقْعَتِها حين وقوعها نفس كاذِبَةٌ تكذب وقوعها كما تكذب بها الآن وليس ايضا لوقوعها حين وقوعها نفس
خافِضَةٌ لها تخفض أمرها بالتردد فيها ولا نفس رافِعَةٌ ترفعها بالجزم بها بل قد وقعت حين وقعت حتما بلا ريب وتردد بلا خفض احد ولا رفع آخر اذكر يا أكمل الرسل لمن أنكر وقوعها وتردد فيها نبذا من اماراتها وأشراطها تنبيها وتوعيدا سيما وقت
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا تحريكا شديدا عنيفا بحيث قد انهدمت واندكت عموم ما عليها من الابنية المحكمة والبقاع المشيدة
وَبُسَّتِ الْجِبالُ اى تشتتت وتفتتت اجزاؤها بَسًّا اى تفتتا تاما وتشتتا كاملا بحيث اضمحلت اجزاؤها وتلاشت وصارت كالسويق الملتوت وبالجملة
فَكانَتْ الجبال الرواسي يومئذ هَباءً هشيما غبارا مُنْبَثًّا منتشرا متفرقا بحيث قد تلاشت هويات ما على الأرض مطلقا
وَكُنْتُمْ حينئذ ايها المكلفون المعتبرون المجبولون على فطرة الدراية والشعور أَزْواجاً أجناسا وأصنافا ثَلاثَةً في النشأة الاولى
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ واليمن والكرامة من الأخيار الأبرار المحسنين بصوالح الأعمال والأحوال ومحامد الأخلاق والأطوار ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ اى ما أعظم شأنهم وأكرمهم واحسن حالهم بينهم وسعادتهم الشاملة لهم حسب اتصافهم بصالحات الأعمال وبالاعتقادات الصحيحة والأخلاق الحميدة المرضية
وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ والشمال اى ملازمو الشآمة والملامة والخذلان والندامة من المفسدين المسرفين المصرين على انواع الكفر والفسوق واصناف العصيان والآثام من مفاسد العقائد وطوالح الأعمال ومتخالج الشيم والأخلاق
ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ اى ما أقبح حالهم وأشد عذابهم ونكالهم وشآمتهم وشقاوتهم المستمرة عليهم بشؤم مكاسبهم ومفاسدهم
وَالسَّابِقُونَ المبادرون نحو الحق من طريق الفناء الباذلون مهجهم في سبيله بالموت الإرادي شوقا الى لقائه هم السَّابِقُونَ المقصورون على السبق والحضور مع الله بلا توجه منهم الى لوازم هوياتهم الباطلة وهياكلهم العاطلة وبالجملة
أُولئِكَ السعداء المقبولون هم الْمُقَرَّبُونَ عند الله الواصلون اليه الفانون في فضاء وحدته المتنعمون
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ اى متنزهات التوحيد الذاتي التي هي عبارة عن اليقين العلمي والعيني والحقي وهؤلاء المقربون الواصلون الى مقر الوحدة متفاوتون في القلة والكثرة باعتبار درجاتهم العلية ومقاماتهم السنية حسب مسالكهم ومعارجهم لذلك
ثُلَّةٌ اى جماعة عظيمة مِنَ الْأَوَّلِينَ من الأمم السالفة وهم الأبرار المحسنون الذين تقربوا نحو الحق بتوحيد الصفات والأفعال
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ اى جمع قليل بالنسبة الى الأولين من امة محمد صلّى الله عليه وسلم وهم الذين قد وصلوا بل اتصلوا الى الله سبحانه من طريق توحيد الذات المسقط لعموم الإضافات والكثرات وهؤلاء أعز واقل وجودا بالنسبة الى الأمم السالفة لذلك وصفوا بالقلة وبالجملة كل منهم مع تفاوت طبقاتهم في متنزهات الوحدة متنعمون متمكنون
عَلى سُرُرٍ مصورة من صفاء عقائدهم وحالاتهم مَوْضُونَةٍ منسوجة مشبكة بالمعارف والحقائق حسب درجاتهم ومقاماتهم حال كونهم
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها اى على تلك السرر مُتَقابِلِينَ مع عموم كمالاتهم متلذذين بها بلا ترقب وانتظار ومع ذلك
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ للموانسة والخدمة وِلْدانٌ صباح ملاح مصورون من أعمالهم وأخلاقهم مُخَلَّدُونَ مستمرون على تلك الصور الصبيحة والهياكل المليحة بحيث لا يتحولون ولا يتغيرون منها أصلا(2/380)
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)
كتغير ملاح الدنيا
بِأَكْوابٍ يعنى يطوفون عليهم بكئوس لا عرى لها وَأَبارِيقَ وهي التي لها عرى مملوة من ماء الحياة المثمرة للعلوم اللدنية لشاربيها وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ اى كأس مملو من رحيق التحقيق وبرد اليقين الذي
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها ولا يشوشون في تحصيلها كما في تحصيل العلوم الرسمية المكتسبة بأنواع العذاب وَلا يُنْزِفُونَ ولا يسكرون الى حيث ينقطع تلذذهم بها من غاية سكرهم كما في خمور الدنيا وفي سكر العلوم الرسمية بالنسبة الى المتلذذين بها
وَفاكِهَةٍ كثيرة مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ اى يختارون وينتخبون لأنفسهم من انواع المعارف والحقائق والأحوال والمقامات التي تتلذذ بها أرواحهم من آثار الأسماء والصفات الإلهية
وَلَحْمِ طَيْرٍ يتقوت ويتغذى به أشباحهم مِمَّا يَشْتَهُونَ
وَلهم ايضافيها للخدمة والمؤانسة حُورٌ عِينٌ مصورة من اعتقاداتهم الصحيحة الراسخة
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ المصون في أصداف أشباحهم وانما يعطون فيها ما يعطون
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية ومن كمال تنعمهم وامنهم وترفههم
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً باطلا من الكلام بلا طائل وَلا تَأْثِيماً اى كلاما على سبيل الإلزام والافحام موجبا لانواع الجرائم والآثام
إِلَّا قِيلًا وقولا من كل جانب سَلاماً سَلاماً على الترحيب والتكريم هذا للمقربين السابقين
وَاما أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ اى اصحاب اليمين والكرامة وانواع التعظيم والتكريم فهم ايضا متنعمون
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ اى نبق لا شوك له لخلوص أعمالهم وحسناتهم عن شوك المن والأذى والسمعة والرياء
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ اى شجر موز منضد موفور الثمر مرتب من أسفله الى أعلاه لإيفائهم وتوفيرهم في كسب الحسنات
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ الهى لا يتقلص ولا ينقص ولا يتفاوت لدوامهم على مواظبة الطاعات وملازمة العبادات
وَماءٍ مَسْكُوبٍ مصبوب لهم اين شاءوا وكيف شاءوا بلا تعب وترقب لأنهم صاروا في الإتيان بالأعمال الصالحة كذلك طلبا لمرضاته سبحانه
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ مما يتفكه به أرواحهم وأشباحهم لا مَقْطُوعَةٍ منتهية كفواكه الدنيا وَلا مَمْنُوعَةٍ لتساوى نسبتها الى الكل بلا تفاوت وتمانع لأنهم قد أتوا بصوالح الأعمال والأخلاق على الدوام بلا قطع ومنع
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ممهدة منضد بعضها فوق بعض لرسوخهم وتمكنهم على الاحكام الإلهية المرفوعة المرتفعة حسب الحكم والأسرار المودعة فيها. ثم قال سبحانه على سبيل الامتنان
إِنَّا من مقام عظيم جودنا عليهم قد أَنْشَأْناهُنَّ اى انشأنا لهم في النشأة الاخرى أزواجهم اللاتي كن في حجورهم في النشأة الاولى من صالحات النسوان والأعمال والأخلاق إِنْشاءً بديعا عجيبا
فَجَعَلْناهُنَّ فيها أَبْكاراً بحيث لم يمسهن بشر ولم يتصرف بهن احد
عُرُباً متحننات لأزواجهن أَتْراباً مستويات السن مع أزواجهن في كمال سن الشباب كل ذلك
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ من ابرار المحسنين بالأعمال والأخلاق المخلصين فيها ومن هؤلاء الأبرار في الجنات
ثُلَّةٌ عظيمة وجماعة مِنَ الْأَوَّلِينَ اى من الأمم الماضية
وَثُلَّةٌ عظيمة ايضا مِنَ الْآخِرِينَ اى من امة سيد المرسلين إذ طرق الأعمال والأخلاق مشتركة بين الأولين والآخرين بخلاف طرق الأحوال والمواجيد والمشارب والأذواق
وَاما أَصْحابُ الشِّمالِ والشآمة المتصفون بالشقاوة الازلية المنهمكون المتلطخون بالقاذورات الامكانية ما أَصْحابُ الشِّمالِ وما حالهم القبيحة الفضيحة الفظيعة فهم مخلدون
فِي سَمُومٍ نار مسعرة في غاية الحرقة والحرارة بحيث تنفذ في مسامات أشباحهم كالريح السموم مثل نفوذ لوازم الإمكان النافذة(2/381)
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
من مسامات اصحاب الغفلة والضلال المنهمكين في اللذات الحسية والشهوات الواهية البهيمية الموقعة لانواع الفتن والطغيان وَحَمِيمٍ اى ماء حار متناه في الحرارة بحيث يقطع أمعاءهم لو شربوا منه شربة بدل ما تلذذوا في النشأة الاولى من الأماني النفسانية والآمال الهيولانية الحاصلة لهم من الجهل المفرط بسرائر التوحيد
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ حاصل من دخان اسود صاعد من نار الجحيم
لا بارِدٍ كسائر الاظلال وَلا كَرِيمٍ نافع أمثالها وبالجملة
إِنَّهُمْ من شدة سكرتهم وغفلتهم كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في النشأة الاولى مُتْرَفِينَ منهمكين في اودية الضلال واغوار اللذات والشهوات الطبيعية الامكانية
وَكانُوا حينئذ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ والذنب الكبير الذي هو الشرك بالله والإنكار لتوحيده
وَمن شدة انكارهم بمقتضيات الوحى الإلهي المتعلق بقيام الساعة وبوقوع الطامة الكبرى قد كانُوا يَقُولُونَ فيما بينهم على وجه الاستبعاد والاستنكار أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً بالية أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ مخرجون من قبورنا احياء كما كنا
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الأقدمون يخرجون من قبورهم احياء مع ان بعثهم وإخراجهم أشد استحالة وامتناعا من بعثنا واخراجنا كلا وحاشا إذ لم يعهد في ما مضى من الازمنة أمثال هذا بل ما هي الازيغ زائل وزور باطل
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في الإنكار والعناد إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ اى الاسلاف والأخلاف
لَمَجْمُوعُونَ مجتمعون بكمال قدرة الله وحكمته إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ اى وقت معين ويوم موعود ومعهود قد عينه الله سبحانه في حضرة علمه ولوح قضائه لا بد وان يقع في ذلك الوقت البتة بلا خلف
ثُمَّ إِنَّكُمْ بعد اجتماعكم وحشركم أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ المصرون على التكذيب والإنكار
لَآكِلُونَ من شدة جوعكم في جهنم البعد والخذلان بعد خلودكم فيها
مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ اى شجر مسمى بهذا الاسم فيكون لفظة من الثانية للبيان والاولى للابتداء
فَمالِؤُنَ مِنْهَا اى من تلك الشجرة الْبُطُونَ اى بطونكم مع انه لا يدفع الجوع بل يزيده بعد أكلكم منها ملأ بطونكم
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ اى على الزقوم مِنَ الْحَمِيمِ اى من الماء المسخن المغلى بنار الجحيم لشدة الحرقة وغلبة العطش وبالجملة
فَشارِبُونَ من الحميم شُرْبَ الْهِيمِ اى مثل الإبل الذي له داء الهيام وهو مرض في الإبل شبيه باستسقاء الإنسان
هذا الذي سمعت ايها الفطن المعتبر نُزُلُهُمْ المعدة لهم حين نزولهم في جهنم يَوْمَ الدِّينِ والجزاء وإذا كان نزلهم فيها هذا فما ظنكم بعذابهم فيها وبزجرهم بعد حساب أعمالهم. ثم خاطبهم سبحانه إظهارا للاستيلاء التام والبسطة الغالبة الكاملة توبيخا لهم وتقريعا
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ واظهرناكم من كتم العدم حسب حولنا وقوتنا فَلَوْلا وهلا تُصَدِّقُونَ بقدرتنا على الإعادة والبعث ايها الجاهلون المكابرون
أَفَرَأَيْتُمْ اى أخبروني ايها المنكرون للبعث والجزاء ما تُمْنُونَ وتصبون في الأرحام من النطف
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ وتجعلونه بشرا سويا سالما قابلا صالحا لانواع العلوم والإدراكات الكلية والجزئية أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ المقصورون على الخلق والتسوية ومع شهود أمثال هذه المقدورات العجيبة البديعة منا كيف تنكرون قدرتنا على البعث والحشر مع انا
نَحْنُ بمقتضى علمنا وقدرتنا وحكمتنا قد قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ والأجل بان قد عينا لموت كل واحد منكم وقتا معينا وأجلا معهودا بحيث لا يسع لكم في وقت حلوله لا التقديم منه ولا التأخير عنه وَمع ذلك ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ مغلوبين من احد منكم أصلا بان يغلب علينا بتقديم الأجل المعين المقدر من لدنا(2/382)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
او بتأخيره وإذا قدرنا على تقدير الأجل للموت على الوجه المذكور قدرنا ايضا
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
ونحيى اسلافكم الذين ماتوا وانقرضوا احياء أَمْثالَكُمْ
من العدم يعنى كما قدرنا على انشائكم من العدم إنشاء إبداعيا قدرنا ايضا على احياء اسلافكم من القبور على سبيل الإعادة إذ هي أهون من الإبداع
وَبالجملة قدرنا على ان نُنْشِئَكُمْ
ونظهركم بعد موتكم فِي ما لا تَعْلَمُونَ
في النشأة الاولى وعالم الدنيا لا تحيطون به علما ولا تفهمونه فهما كما لا تعلمون نشأتكم التي قد مضت عليكم قبل نشأتكم هذه لخروج أمثال هذه المعلومات عن طوق البشر وطور العقل ومقتضاه
وَكيف يتأتى لكم انكار الإعادة مع انكم لَقَدْ عَلِمْتُمُ علما يقينيا النَّشْأَةَ الْأُولى اى قدرتنا على الخلق والإيجاد في النشأة الاولى فَلَوْلا هلا تَذَكَّرُونَ منها قدرتنا على الإعادة في النشأة الاخرى مع ان من قدر على الإبداء قادر على الإعادة بالطريق الاولى
أَفَرَأَيْتُمْ أخبروني ايها المسرفون المفرطون ان ما تَحْرُثُونَ تبذرون وتطرحون الحبة في التراب
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ وتنبتونه أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المقصورون على الإنبات بالاستقلال والاختيار بلا مشاركة ولا مظاهرة مع انا
لَوْ نَشاءُ ونختار عدم إنباتها ونمائها لَجَعَلْناهُ اى الزرع النابت حُطاماً يابسا هباء هشيما فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ اى صرتم حينئذ تتعجبون وتتأسفون من يبسها وضياعها وليس لكم حينئذ سوى الأسف والحسرة وانواع التلهف والتحزن بل تقولون من شدة التضجر والتحزن
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ملزمون بتضييع البذور وإهلاك النفقة
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قد حرمنا عن بذورنا وأعمالنا وريعنا بالمرة
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ العذب القراح الفرات السائغ الَّذِي تَشْرَبُونَ تستروحون وتبردون أكبادكم به
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ اى السحاب الهامر الهاطل أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ بكمال قدرتنا وقوتنا وحكمنا وحكمتنا مع انا
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ بدلناه وصيرناه أُجاجاً مرا مالحا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ وهلا تواظبون على أداء حقوق أمثال هذه النعم العظام والفواضل الجسام ايها المجبولون على الكفران والنسيان والجرائم والآثام
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ وتقدحون
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها اى الشجرة التي يتخذ منها الزناد أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ المستقلون بانشائها وبالجملة
نَحْنُ اليوم قد جَعَلْناها اى النار تَذْكِرَةً وتبصرة لأمر البعث والنشر وأنموذجا من نار القطيعة الجهنمية وعظة للمتقين المتذكرين منها ليتزودوا بالتقوى ويتخلصوا من نيران الهوى ودركات اللظى وَقد جعلناها ايضا مَتاعاً ومنفعة عظيمة لِلْمُقْوِينَ المنزلين في القفر والبيداء جائعين خالية بطونهم عن الطعام فيطبخون بها وبالجملة
فَسَبِّحْ يا أكمل الرسل بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ الذي هو أعز وأجل من ان يطرأ عليه شيء من النقائص او يحوم حول حمى قدسه شائبة العجز والقصور وإذا كان شأن الحق هذا وامتنانه على عموم عباده هكذا
فَلا حاجة الى القسم لإثبات عظمة شأنه وجلالة سلطانه وعلو قدره ومكانته بل أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ اى بموارد وقوع نجوم القرآن ونزولها في قلوب الكمل من ارباب العزائم والعرفان
وَإِنَّهُ اى القسم بالقرآن وموارده لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ وتعرفون قدره عَظِيمٌ شأنه عال خطره رفيع قدره وكيف لا يكون القرآن عظيم الشأن رفيع القدر والمكان
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ فرقان بين الكفر والايمان موضح مبين لطريق المعرفة والإيقان كَرِيمٌ كثير الخير والنفع لحامليه وممتثلى ما فيه من الأوامر والنواهي مصون مثبت
فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ(2/383)
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
محفوظ مستور عن نظر المحجوبين ألا وهو حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح قضائه المحفوظ لذلك
لا يَمَسُّهُ ولا يتصف بمقتضاه إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من أوساخ التقليدات والتخمينات وإكدار الأوهام والخيالات العائقة عن الوصول الى صفاء مشرب التوحيد المسقط لعموم الإضافات وكيف يمسه غير اهل الكشف والطهارة الحقيقية مع انه
تَنْزِيلٌ منزل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي هو في ذاته منزه عن شوائب النقص وسماته مطلقا
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ العظيم الشأن المنبئ عن محض الحكمة والعرفان أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون ايها المسرفون المفرطون
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ حظكم ونصيبكم من إرشاده وهدايته أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ به جهلا وعنادا اتسرفون وتفرطون في الاجتراء على الله وتكذيب كلامه ورسوله المرسل من عنده ايها المسرفون المفرطون
فَلَوْلا تذكرون وهلا تتعظون به ولأى شيء تضيعون الفرصة ولا تغتنمونها ايها الضالون المضيعون اما تخافون وقت إِذا بَلَغَتِ النفس الْحُلْقُومَ اى لكل منكم ايها المكلفون بأمر الله وحكمه
وَالحال انه أَنْتُمْ ايها الحاضرون حول المحتضر حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ له ولا تعلمون حاله ولا تفهمون ما جرى عليه من سكرات الموت وغمراته وأهواله وافزاعه
وَنَحْنُ حينئذ أَقْرَبُ إِلَيْهِ اى الى المحتضر مِنْكُمْ واعلم بحاله وشغله لا قرب الحلول فيه ولا قرب الاتحاد معه بل قرب ذي الظل الى ظله وذي الصورة الى عكسه ومثاله وَلكِنْ أنتم لا تُبْصِرُونَ ولا تدركون قربنا لا اليه ولا إليكم ايها المحجوبون المحرومون ولا تدركون ايضا ما يجرى عليه من الافزاع والأهوال في وقت الترحال
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ اى أنتم لو لم تكونوا مضطرين مملوكين مجبورين تحت قهرنا وقدرتنا
تَرْجِعُونَها اى فهلا ترجعون النفس المخرجة البالغة الى الحلقوم الى محلها ولا تمنعونها عن الخروج إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الاستبداد والاستقلال وعدم المبالاة بالصانع القديم الحكيم العليم فهلا تدفعون الأرواح الى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم بل وهلا ترضون بوصولها الى الحلقوم
فَأَمَّا بعد خروج الروح من البدن إِنْ كانَ المتوفى مِنَ الْمُقَرَّبِينَ السابقين من الفرق المشار إليها في أول السورة
فَرَوْحٌ اى موته له راحة ورحمة وإيصال له فوحة ونفحة من نفحات عالم اللاهوت وازالة زحمة عنه عارضة عليه متعلقة به من كسوة ناسوته وَرَيْحانٌ يشمه من فوائح نفس الرحمان وَجَنَّةُ نَعِيمٍ دائم التنعم والترفه في المقام المحمود والحوض المورود في جوار الخلاق الودود
وَأَمَّا إِنْ كانَ المتوفى مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ اى من الأبرار الموصوفين باليمن والكرامة الموروثة له من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية
فَسَلامٌ لَكَ يا ذا اليمن والكرامة مِنْ قبل أَصْحابِ الْيَمِينِ امثالك ترحيبا لك وتكريما
وَأَمَّا إِنْ كانَ المتوفى من اصحاب الشمال والشآمة الازلية والشقاوة الجبلية يعنى مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بيوم الدين الضَّالِّينَ المنحرفين عن جادة الاستقامة ومحجة اليقين الموصلة الى دار المقامة ومنزل الكرامة
فَنُزُلٌ اى فله نزل معد مِنْ حَمِيمٍ بدل ما لم يتعطش في النشأة الاولى الى شربة من زلال برد اليقين ولم يشرب جرعة من رحيق التحقيق ورشحة من حلاب المعرفة والتوحيد
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ اى إدخال نار عظيمة فظيعة بدل ما يتلذذ بنيران الشهوات وبالميل الى المحرمات والمكروهات وبالجملة
إِنَّ هذا الذي ذكر في حق هؤلاء الفرق الثلاث لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ بالنسبة الى ارباب الكشف والشهود المطلعين بمراتب الوجود باليقين العلمي والعيني والحقي
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ اى نزه وقدس يا سيد ارباب الشهود والحضور ذات(2/384)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
ربك عن شوب مطلق الريب والتخمين بذكر اسمه العظيم المستجمع لعموم أسمائه الحسنى وصفاته العليا فإنك يا أكمل الرسل متمكن على مرتبة الحق اليقين في مطلق اسماء الله وصفاته. جعلنا الله ممن اتصف بحق اليقين وخلص عن امارات الريب والتخمين وسلّم من التردد والتلوين بمنه وجوده
خاتمة سورة الواقعة
عليك ايها السالك القاصد لانكشاف مراتب الوجود بطريق الكشف والشهود والاطلاع على ما فيها من شوائب الكفر والجحود والانحراف عن الطريق المعهود الذي نزل بتبيينه الكتب والرسل ان تتأمل في عموم أوقاتك وحالاتك بما في هذه السورة العظيمة الشأن البديعة البرهان وتعرض على نفسك دائما احوال الفرق الثلاثة المذكورة فيها وتذكرها عليها حتى يظهر لك انك مع من هو من هؤلاء الفرق اما من السابقين المقربين المقبولين أم من اصحاب اليمين الموفقين المحسنين أم من المكذبين الضالين المعذبين وبالجملة اعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[سورة الحديد]
فاتحة سورة الحديد
لا يخفى على من تحقق بوحدة الحق وانكشف بقضاء صمديته وسعة مملكته واستيلاء بسطته وسلطنته الغالبة ان عموم ما ظهر وبطن غيبا وشهادة انما هي من الذاتية وتجلياته الجمالية والجلالية المترتبة على أسمائه وصفاته الذاتية والفعلية لذلك نطقت بوحدته ألسنة عموم مظاهره ومصنوعاته ونزهته عما لا يليق بشأنه كما اخبر سبحانه عن تسبيحهم تنبيها وإرشادا لعباده وحثا لهم الى التوجه والرجوع نحو بابه فقال بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم ما ظهر وبطن بمقتضى التجلي الحبى الرَّحْمنِ عليهم بسعة رحمته ووفور جوده وإحسانه الرَّحِيمِ لخواص عباده يوصلهم الى فضاء توحيده
[الآيات]
سَبَّحَ لِلَّهِ الواحد الأحد الصمد المستقل بالقيومية والبقاء المتفرد بالتحقق والثبوت على وجه الديمومية الحي الحقيق بالالوهية والرب اللائق بالربوبية مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الكوائن العلوية والسفلية الغيبية والشهادية ونزهه عن مطلق النقائص المنافية لوجوب وجوده وصرافة وحدته الذاتية بعد ما اعترفت ألسنة استعدادات الكل بربوبيته طوعا واشتغلوا بلوازم عبوديته رغبة وَكيف لا يسبحونه ولا يعظمونه سبحانه مع انه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام الْحَكِيمُ المتقن في ايجادهما وإظهارهما على وفق الارادة والاختيار
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مؤثرات الفواعل العلوية التي هي عبارة عن آثار الأسماء والصفات الإلهية المعبرة بالأعيان الثابتة ومتأثرات القوابل السفلية التي هي عبارة عن استعدادات الطبائع والهيولى المنفعلة منها إذ هو سبحانه بتوحده واستقلاله يُحْيِي وَيُمِيتُ اى يتصرف في ملكه وملكوته بالاحياء والاماتة والنزع واللبس بالإرادة والاختيار وَبالجملة هُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة حضرة علمه ولوح قضائه قَدِيرٌ بالقدرة التامة الكاملة مع انه لا يعزب عن حيطة حضرة علمه الحضوري ذرة مما لمع عليه برق وجوده الوحدانى حسب جوده الفردانى وكيف لا يقدر سبحانه على التصرف بالاستقلال والاختيار في ملكه وملكوته إذ
هُوَ الْأَوَّلُ الأزلى السرمدي السابق في الوجود والتحقق وَكذا هو ايضا الْآخِرُ الأبدي الدائم المستمر فيه بلا انقضاء(2/385)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
ولا انتهاء وَكذا هو الظَّاهِرُ المتحقق في الشهادة والعيان وَهو ايضا الْباطِنُ المكنون في عموم الأكوان فانظر ايها الناظر المعتبر هل بقي لغيره وجود ولسواه عين وشهود وَبالجملة هُوَ بذاته بِكُلِّ شَيْءٍ ظهر من امتداد اظلاله وانعكاس اشعة نور وجوده عَلِيمٌ بحضرة علمه الذي هو عين ذاته وحضوره غير مغيب عنه مطلقا ومن كمال علمه وارادته ووفور حكمته وقدرته
هُوَ الَّذِي خَلَقَ وقدر ظهور السَّماواتِ المطبقة المعلقة وَالْأَرْضَ المفروشة الممهدة فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ حسب عدد الأقطار والجهات ومقدارها ثُمَّ بعد ما كمل الكل قد اسْتَوى وتمكن عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش مطلق المظاهر بالاستيلاء التام والاستقلال الكامل بحيث يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما يَلِجُ ويدخل فِي الْأَرْضِ من حبات البذور وفي أراضي الاستعدادات من بذور المعارف والحقائق وحبوب العلوم اللدنية وَيعلم ايضا ما يَخْرُجُ مِنْها من انواع النباتات ومن اصناف المكاشفات والمشاهدات المترتبة على بذور المعارف والحقائق وصالحات الأعمال ومطلق الخيرات والحسنات وَكذا يعلم بعلمه الحضوري ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ اى عالم الأسباب من السحب والأمطار او من سماء الأسماء الذاتية والصفات الإلهية من مياه العلوم اللدنية والإدراكات الكشفية المحيية لأراضي الاستعدادات وَكذا يعلم ما يَعْرُجُ فِيها من الابخرة والادخنة او الكلمات الطيبة الصاعدة الجالبة لفيضان اليقين والعرفان من المبدأ الفياض وَبالجملة هُوَ سبحانه مَعَكُمْ ايها المظاهر أَيْنَ ما كُنْتُمْ لا معية ذاتية ولا زمانية لا بطريق المقارنة والمخالطة ولا بطريق الاتحاد والحلول بل بطريق الظهور والظلية والحضور ورش النور وَبالجملة اللَّهُ المحيط بكم المظهر لأشباحكم بمد ظله عليكم بِما تَعْمَلُونَ من مطلق الأعمال والأفعال وعموم الحركات والسكنات وجميع الحالات بَصِيرٌ عليم يجازيكم عليها بمقتضى علمه وبصارته في يوم العرض والجزاء إذ
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما إيجادا أولا واماتة واعداما ثانيا واعادة وبعثا ثالثا وَبعد البعث والإعادة إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ اى رجوع عموم الأمور اليه سبحانه في المعاد والمآل كما ان ظهوره منه في المبدأ والمنشأ إذ منه الابتداء واليه الانتهاء ومن تصرفاته المتقنة في ملكه على وفق حكمته انه
يُولِجُ ويدخل اللَّيْلَ اى بعض اجزائه فِي النَّهارِ في فصل الربيع والشتاء وَيُولِجُ النَّهارَ اى بعض اجزائه ايضا فِي اللَّيْلِ في فصل الصيف والخريف حكمة ومصلحة لمعاش عموم الحيوانات ومحافظة لها عن كلى طرفي الإفراط والتفريط وَبالجملة هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بمكنونات ضمائركم ومقتضيات استعداداتكم وبعد ما علم واطلع سبحانه منكم ومن استعداداتكم وقابلياتكم ما ليس لكم به علم
آمِنُوا اى انقادوا وأطيعوا حق الإطاعة والانقياد بِاللَّهِ المطلع على عموم مصالحكم وَرَسُولِهِ المستخلف منه النائب عنه سبحانه المبعوث من لدنه لإرشادكم وتكميلكم وَبعد ايمانكم وإطاعتكم أَنْفِقُوا بمقتضى الأمر الوجوبي الإلهي المنبئ عن محض الحكمة والمصلحة مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ اى من أموالكم ومنسوباتكم التي قد استخلفكم الحق سبحانه عليها إذ هي كلها لله إذ العبد وما في يده لمولاه حقيقة لا لكم كما زعمتم فعليكم الامتثال بعموم الأوامر الإلهية سيما امر الانفاق والإيثار الذي يزكى نفوسكم من الميل الى مزخرفات الدنيا العائقة عن الوصول الى جنة المأوى التي هي(2/386)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
مقام التسليم والرضاء فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وأكدوا ايمانهم بالإخلاص في عموم الأعمال والأفعال والأخلاق وَأَنْفِقُوا بلا شوب المن والأذى وشين السمعة والرياء لَهُمْ بسبب ايمانهم وانفاقهم على وجه الإخلاص أَجْرٌ كَبِيرٌ لا اجر اكبر منه وأعلى. ثم قال سبحانه على طريق الحث والإلزام المشعر بالوعيد
وَما لَكُمْ اى أى شيء عرض عليكم ولحق بكم ايها المكلفون حتى لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستحق للاطاعة والايمان وَلا سيما الرَّسُولُ المبلغ الكامل في الهداية والتكميل يَدْعُوكُمْ بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي المنزل من عنده لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ مع انه صلّى الله عليه وسلّم مؤيد بالمعجزات الساطعة والحجج القاطعة الدالة على صدقه في دعوته من عنده ودعواه في رسالته الى كافة الأنام وَالحال انه قَدْ أَخَذَ الله العليم العلام باستعداداتكم منكم مِيثاقَكُمْ وعهدكم بالإيمان في سالف الزمان اى في مبدأ فطرتكم ومنشأ جبلتكم مع انه سبحانه قد جبلكم حين قدر خلقكم وانشأ فطرتكم على جبلة التوحيد والايمان فماذا يمنعكم عنه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بسبب وموجب فهذا موجب عظيم لا مزيد عليه إذ
هُوَ سبحانه الحكيم العليم الَّذِي يُنَزِّلُ من مقام فضله وجوده عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلم آياتٍ بَيِّناتٍ مبينات واضحات لِيُخْرِجَكُمْ الله سبحانه اصالة ورسوله تبعا وإرشادا مِنَ الظُّلُماتِ المتراكمة المتكاثفة من لوازم الطبيعة ولواحق الهيولى إِلَى النُّورِ اى نور الوجود البحت الخالص عن مطلق القيود وَاعلموا ايها المكلفون إِنَّ اللَّهَ الرقيب المحافظ عليكم مشفق بِكُمْ منكم لأنفسكم بارادة إخراجكم من ظلمات الجهل الى نور اليقين وانه لَرَؤُفٌ عطوف رَحِيمٌ متناه في الرحمة والرأفة
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا اى أى شيء يمنعكم عن الانفاق فِي سَبِيلِ اللَّهِ من مال الله تقربا اليه وطلبا لمرضاته وامتثالا لأوامره وَكيف لا يكون أموالكم لِلَّهِ الغنى بذاته المستغنى عن مطلق مظاهره ومصنوعاته مع انه له سبحانه مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عموم ما في العلويات والسفليات والممتزجات والحال انه هو غنى بذاته عن انفاقكم وبذلكم الا انه لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ اى أنفق قبل فتح مكة شرفها الله ممتثلا لأمر الله مجتهدا في تقوية دين الإسلام وترويجه وظهوره على الأديان الباطلة وتكثير اهل الحق وتغليبه وَمع إنفاقه على المقاتلين في سبيل الله لإعلاء كلمة توحيده قد قاتَلَ هو ايضا بنفسه وسعى ببذل المال والروح في طريق الحق وترويجه وبالجملة أُولئِكَ السعداء المنفقون المقاتلون هم أَعْظَمُ دَرَجَةً وأكرم مثوبة ومقاما عند الله مَنْ المؤمنين الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ اى بعد فتح مكة وغلبة المسلمين وظهور دين الإسلام على عموم الأديان وَقاتَلُوا بعده مع كثرة المقاتلين وَبالجملة كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى اى قد وعد الله كلا من المسلمين المبادرين والمبطئين الموعدة الحسنى والدرجة العليا والمثوبة العظمى حسب سعيهم واجتهادهم في تقوية الشرع وترويج الدين القويم وَبالجملة اللَّهِ المطلع بسرائر عباده بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم أعمالكم وأحوالكم خالصا ومشوبا صالحا وطالحا خَبِيرٌ بصير لا يعزب عن خبرته شيء منها يجازيكم على مقتضى خبرته. ثم قال سبحانه على سبيل الحث والترغيب
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ وينفق في سبيله من أكرم أمواله قَرْضاً حَسَناً بلا شوب المن والأذى وشين السمعة والرياء طلبا لمرضاته سبحانه فَيُضاعِفَهُ لَهُ اى يضاعف له اعواضه واخلافه في الدنيا كرامة عليه وفضلا(2/387)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
وَمع ذلك لَهُ في الآخرة أَجْرٌ كَرِيمٌ وفوز عظيم لا فوز أعظم منه وأكرم ألا وهو التحقق بمقام الرضاء والتسليم والاستغراق بمطالعة وجه الله الكريم اذكر يا أكمل الرسل على سبيل التبشير
يَوْمَ تَرَى ايها المعتبر الرائي الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الموقنين المخلصين وَالْمُؤْمِناتِ ايضا كذلك يَسْعى نُورُهُمْ اى نور يقينهم وعرفانهم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ اى امامهم وقدامهم وَبِأَيْمانِهِمْ إذ إتيان الكرامة انما هو من هاتين الجهتين فيقول لهم حينئذ من يتلقاهم من الملائكة بُشْراكُمُ الْيَوْمَ دخول جَنَّاتٌ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق لا بحسب وقت دون وقت بل خالِدِينَ فِيها دائمين ذلِكَ اى الخلود في الجنة الموعود هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والنوال الكريم لا فوز أعظم منه عند المكاشفين المشاهدين. ثم عقب سبحانه وعد المؤمنين بوعيد المنافقين فقال ايضا على وجه العظة والتذكير
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ المبطلون المستمرون على النفاق والشقاق مع اهل الحق وَالْمُنافِقاتُ ايضا كذلك لِلَّذِينَ آمَنُوا حين يرونهم يسعى نورهم بين أيديهم وبايمانهم انْظُرُونا ايها السعداء المحقون والتفتوا نحونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ إذ نحن في ظلمة شديدة قِيلَ لهم من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع ارْجِعُوا وَراءَكُمْ اى الى دار الاعتبار والاختبار فَالْتَمِسُوا نُوراً واقتبسوه من مشكاة النبوة والولاية بامتثال الأوامر والنواهي الموردة من عنده سبحانه على رسله بالحكم والأسرار الصادرة من السنة اولى العزائم الصحيحة المنجذبين نحو الحق من طريق الفناء فيه بالموت الإرادي. واعلموا ان اكتساب النور واقتباسه انما هو في دار العبرة والغرور لا في دار الحضور والسرور وبعد ما جرى بينهم ما جرى فَضُرِبَ وحيل حينئذ بَيْنَهُمْ اى بين المؤمنين والمنافقين بِسُورٍ حائط حائل لَهُ اى للسور بابٌ مفتوح يدخل منه المؤمنون باطِنُهُ اى باطن الباب فِيهِ الرَّحْمَةُ النازلة من قبل الحق بمقتضى اسم الرحمن على اهل الايمان والعرفان وَظاهِرُهُ اى ظاهر الباب مِنْ قِبَلِهِ سبحانه بمقتضى اسمه المنتقم الْعَذابُ النازل على اهل النفاق والطغيان
يُنادُونَهُمْ اى المنافقون المؤمنين حال ستروا عن أعينهم وبقوا في الظلمة والعذاب محرومين قائلين متضرعين أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ايها الرفقاء في دار الدنيا مسلمين منقادين لأحكام الإسلام ممتثلين بأوامر الكلام الإلهي ونواهيه أمثالكم قالُوا اى المؤمنون في جوابهم من السور الحائل بَلى أنتم معنا ظاهرا وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالنفاق والشقاق حسب باطنكم وَمع ذلك قد تَرَبَّصْتُمْ وانتظرتم بالمؤمنين المقت والدوائر وَارْتَبْتُمْ ترددتم وشككتم في حقية الدين القويم وظهوره على الأديان كلها وَبالجملة قد غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ والاهوية الفاسدة والآراء الباطلة مدى العمر فانتظرتم بالمؤمنين ريب المنون وقد كنتم أنتم على أمانيكم هذه وتطيراتكم حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ الذي هو الموت فمتم منافقين مخادعين وَبالجملة قد غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الذي هو شياطين امارتكم وأمانيكم وتسويلات نفوسكم وقواكم وبعد ما قد وقع ما وقع
فَالْيَوْمَ الذي تبلى السرائر فيه لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ ايها المنافقون المخادعون فِدْيَةٌ تفتدون بها لتخليصكم من العذاب لا منكم ايها المنافقون وَلا مِنَ إخوانكم الَّذِينَ كَفَرُوا مجاهرين مصرين على ما هم عليه بلا مبالاة بالدين والدعوة وبالجملة مَأْواكُمُ ومحل رجوعكم وقراركم اليوم جميعا النَّارُ المعدة المسعرة لكم ايها المنافقون بالكفر والمجاهرون به هِيَ(2/388)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
مَوْلاكُمْ
اى النار اولى بكم وأليق بحالكم وَبالجملة بِئْسَ الْمَصِيرُ والمرجع النار المعدة للكفار الأشرار. ثم قال سبحانه على سبيل الحث والترغيب والتشويق
أَلَمْ يَأْنِ اى لم يقرب الوقت ولم يحضر الأوان لِلَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وبكمالات أسمائه وصفاته أَنْ تَخْشَعَ اى تخضع وتلين وترق قُلُوبُهُمْ التي هي وعاء الايمان والعرفان لِذِكْرِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستجمع لعموم الأسماء والصفات الإلهية المسقط لجميع الإضافات وَما نَزَلَ في كتابه المبين لطريق توحيده مِنَ الْحَقِّ الحقيق بالامتثال والاتباع اى من الأوامر والنواهي المعدودة فيه لتهذيب الظاهر والباطن والرموز والإشارات المصفية للسر عن الالتفات الى ما سوى الحق وَبالجملة لا يَكُونُوا ايها المؤمنون في الاعراض عن كتاب الله والانصراف عما فيه من الحكم والمصالح كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ وهم اليهود والنصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ومضى الازمنة والأوان بينهم وبين أنبيائهم فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ عن الايمان مع ان الكتب بين أظهرهم وَلا تفيدهم بل كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن مقتضيات الأوامر والنواهي والحدود والاحكام المذكورة في كتبهم وما هي الا من فرط قساوتهم وغفلتهم فعليكم ايها المؤمنون ان لا تكونوا أمثالهم مع نبيكم ودينكم وكتابكم
اعْلَمُوا ايها المؤمنون الموحدون المحمديون أَنَّ اللَّهَ المطلع على قابليات عباده واستعداداتهم الفطرية يُحْيِ الْأَرْضَ اى أراضي استعداداتكم بمياه المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات بَعْدَ مَوْتِها بالجهل والغفلة الناشئة من ظلمات الطبيعة والهيولى وبالجملة قَدْ بَيَّنَّا وأوضحنا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على هدايتكم وتكميلكم في القرآن العظيم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تتأملوا فيها وتتعظوا بها وتفهموا إشاراتها وتعتبروا منها وتتفطنوا بما فيها من السرائر المرموزة والحكم المكنونة ومن علامات تعقلكم واتعاظكم التصدق والانفاق من مزخرفات الدنيا والتقرب بايثارها نحو المولى
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ اى المتصدقين وَالْمُصَّدِّقاتِ اى المتصدقات وَهم الذين قد أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً خالصا عن شوب المن والأذى طلبا لمرضاته سبحانه يُضاعَفُ لَهُمْ صدقاتهم في النشأة الاولى وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ في النشأة الاخرى
وَبالجملة الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وأخلصوا في ايمانهم وأكدوه بصوالح أعمالهم وإحسانهم وَرُسُلِهِ المبعوثين إليهم الهادين لهم الى الايمان أُولئِكَ السعداء المقبولون هُمُ الصِّدِّيقُونَ
المبالغون في الصدق غايتها المقصورون على الإخلاص المتمكنون في منهج اليقين الحقي وَالشُّهَداءُ المكاشفون الحاضرون عِنْدَ رَبِّهِمْ المستغرقون بمطالعة لقائه الكريم لَهُمْ في النشأة الاخرى أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ الموعود لهم من قبل الحق على وجه لا مزيد عليه وَالمسرفون المفرطون الَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة ذاتنا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على استقلالنا في عموم تصرفاتنا عتوا وعنادا أُولئِكَ الأشقياء البعداء المردودون هم أَصْحابُ الْجَحِيمِ اى ملازموها وملاصقوها بحيث لا نجاة لهم منها أصلا
اعْلَمُوا ايها المكلفون المعتبرون أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا اى ما الحياة المستعارة الدنياوية وما حاصلها وجل متاعها الا لَعِبٌ مزخرف باطل عاطل في نفسها يلعب بها اهل الغفلة والحجاب ويتعبون بها نفوسهم طول دهرهم بلا طائل وَلَهْوٌ يلهيهم عما يهمهم ويعنيهم من الحياة الازلية الابدية ولوازمها وَزِينَةٌ قد زينها لهم شياطين قواهم وأمانيهم من المطاعم الشهية والملابس البهية واللذات الوهمية والشهوات البهيمية وَتَفاخُرٌ(2/389)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
بَيْنَكُمْ
بالمال والجاه والثروة والسيادة وبالاحساب والأنساب وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ بالمظاهرة والمعاونة وتكثير العدد والعدد والعقارات والتجارات والمواشي والزراعات الى غير ذلك من المزخرفات الفانية التي لإقرار لها ولا مدار بل مثلها كَمَثَلِ غَيْثٍ قد نزل وأنبت إنباتا بحيث قد أَعْجَبَ الْكُفَّارَ اى الحراث نَباتُهُ من كثرته ونضارته وكثافته ثُمَّ يَهِيجُ يجف وييبس بآفة وعاهة فَتَراهُ مُصْفَرًّا منكرا مكروها بعد ما كان مخضرا في كمال النزاهة والنضارة ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً هشيما تذروه الرياح حيث شاءت بلا فائدة ولا عائدة وَمع هذه الخسارة والحرمان في النشأة الاولى لأهل الغفلة والخذلان يكون لهم فِي النشأة الْآخِرَةِ المعدة للجزاء عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب اشتغالهم بالدنيا وما فيها وَبالجملة مَغْفِرَةٌ ستر ومحو لذنوب اصحاب المعاملات ناشئة مِنَ اللَّهِ الغفور الرحيم بمقتضى لطفه وسعة رحمته وجوده وَرِضْوانٌ منه سبحانه لأرباب القلوب والمكاشفة خير من الدنيا وما فيها بل من اضعافها وآلافها عند من تحقق برتبة الإنسان وسعة قلبه المصور على صورة الرحمن وَبالجملة مَا الْحَياةُ الدُّنْيا عند الأحرار الأبرار البالغين بدرجة الاعتبار والاستبصار إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ومخايل الخديعة والزور ومن اغتربها ولحق بما فيها فقد استحق الويل والثبور وحرم عليه الحضور والسرور. ومتى سمعتم ايها المؤمنون المعتبرون حال الدنيا ومآلها وحال العقبى وما يترتب عليها
سابِقُوا سارعوا بادروا بوفور الرغبة والرضاء إِلى تحصيل اسباب مَغْفِرَةٍ مرجوة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة الهداية والتوحيد وَوسائل دخول جَنَّةٍ وسيعة فسيحة عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بحسب متفاهم العرف وإلا فلا يكال سعة الجنان وعرش الرحمن وقلب الإنسان الكامل كما يشهد به قلب العارف المحقق المتحقق بمقام القلب الذي هو وعاء الحق المنزه عن مطلق المقادير والتقادير قد أُعِدَّتْ وهيئت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ على وجه الإخلاص وأكدوا ايمانهم وإخلاصهم بالرضاء والتسليم بعموم ما جرى عليهم من القضاء وفوضوا أمورهم كلها الى المولى حتى صار علمهم منتهيا الى العين وعينهم الى الحق ذلِكَ التحقيق والانتهاء فَضْلُ اللَّهِ بلا سبق شيء يوجبه ويجلبه وعبودية تستحقه بل يُؤْتِيهِ ويعطيه مَنْ يَشاءُ عناية منه سبحانه وإحسانا ناشئا من محض الارادة والاختيار كيف وَاللَّهُ الغنى بذاته المستغنى مطلقا عن عبادة مظاهره واظلاله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والكرم العميم يمن على من يشاء من عباده مما يمن بمقتضى سعة رحمته وجوده حسب علمه المحيط باستعداداتهم وقابلياتهم إذ
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ اى ما حدث من حادثة مفرحة او موحشة كائنة فِي الْأَرْضِ اى في اقطار الآفاق من الخصب والرخاء والزلزلة والوباء الى غير ذلك من المفرحات والموحشات الحادثة في الأنحاء والارجاء وَلا كائنة فِي أَنْفُسِكُمْ من العوارض السارة والشهوات الملذة او من الأمراض المردئة والملمات المؤلمة إِلَّا قد ثبت حدوثها في ساعة كذا في آن كذا على وجه كذا فِي كِتابٍ اى في حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح قضائه على اختلاف العبارات مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها نخلقها ونظهرها اى ثبت حدوث الحادثة في وقتها في كتابنا قبل ان تخلق الحادثة بزمان لا يعلم احد مقداره الا نحن ولا تستبعدوا من قدرتنا أمثال هذا إِنَّ ذلِكَ الثبت والتقدير السابق وان كان عندكم عسير عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر الغالب على عموم المقدورات يَسِيرٌ في جنب قدرته والحكمة في ثبتها قبل خلقها
لِكَيْلا تَأْسَوْا ولا تحزنوا ايها المجبولون(2/390)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
على فطرة الكفران والعصيان عَلى ما فاتَكُمْ من اللذات والشهوات وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ منها ليكون فرحكم سببا لكبركم وخيلائكم على ضعفاء الأنام وعدم قراءة السلام وَبالجملة اللَّهُ المطلع على ما في استعدادات عباده من النخوة والاستكبار لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ ذي كبر وخيلاء منهم فَخُورٍ مفاخر مباه بسبب المال والجاه والثروة والسيادة على اقرانه وأبناء جنسه وإذا كان الأمر كذلك فلا تسندوا الأمور مطلقا الى الأسباب والوسائل العادية ولا الى انفسكم بل فوضوها كلها الى الله وأسندوها اليه سبحانه بالأصالة فلا تفرحوا ولا تحزنوا بل أفنوا في الله وابقوا لتتمكنوا في مقعد صدق عند مليك مقتدر والمختالون المفتخرون هم
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويمسكون عن التصدق والانفاق ويجمعون من حطام الدنيا مقدار ما يفتخرون بها ويتفوقون على اقرانهم بسببها وَمن غاية بخلهم وامساكهم يَأْمُرُونَ النَّاسَ ايضا بِالْبُخْلِ لئلا يلحق عار البخل بهم خاصة وليعرضوا وليصرفوا ضعفاء الأنام عن امتثال امر الله بالإنفاق شحا وبخلا حتى لا ينالوا المثوبة العظمى والكرامة الكبرى في النشأة الاخرى من عنده سبحانه وَبالجملة مَنْ يَتَوَلَّ ويعرض عن الله ولم يشكر بنعمه ولم يواظب على أداء حقوق كرمه فلا يضره سبحانه ولا ينقص شيأ من علو شأنه وسمو برهانه فَإِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء هُوَ الْغَنِيُّ بذاته عن اطاعة عباده وانفاقهم وكذا عن عصيانهم وكفرانهم الْحَمِيدُ حسب أسمائه وصفاته الذاتية بلا افتقار له الى محامد مظاهره ومصنوعاته. ثم قال سبحانه على سبيل الامتنان لعموم عباده إرشادا لهم الى سبيل السلامة والسداد وحثا لهم الى التزام الطاعات والعبادات المقربة لهم الى فضاء الوحدة
لَقَدْ أَرْسَلْنا من مقام عظيم جودنا رُسُلَنا المبعوثين الى هداية العباد وإرشادهم الى سبيل السداد وايدناهم بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ المشتمل على الآيات الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وَأنزلنا ايضا معهم الْمِيزانَ الموضوع للقسط والعدالة كل ذلك لِيَقُومَ النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان بِالْقِسْطِ والعدل السوى فيصيرون مستقيمين على صراط الله الأعدل الأقوم الذي هو الشرع القويم والدين المستقيم المنزل على الرسول المبعوث بالخلق العظيم وَأَنْزَلْنا ايضا الْحَدِيدَ لزجر المنحرف العنيد إذ فِيهِ اى في السيف الصارم الحديد المتخذ من الحديد بَأْسٌ شَدِيدٌ للمائلين عن جادة الشريعة والمترددين عن الدين القويم وَان كان ايضا فيه مَنافِعُ كثيرة لِلنَّاسِ لتوقف عموم الحرف والصنائع عليه وانما أرسل سبحانه وَانزل معه ما انزل لِيَعْلَمَ اللَّهُ اى يظهر ويميز من عباده مَنْ يَنْصُرُهُ سبحانه وَينصر رُسُلَهُ المرسلين من لدنه اى من ينصر دينه المنزل على كل واحد من رسله المبعوثين من عنده لإظهاره وترويجه بِالْغَيْبِ اى قيام الساعة وانكشاف السرائر وما ذلك الإرسال والإنزال منه سبحانه الا لابتلاء العباد واختبارهم والا فهو سبحانه منزه في ذاته عن اعانتهم ونصرهم إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام قَوِيٌّ على إهلاك من أراد إهلاكه عَزِيزٌ غالب على عموم مقدوراته بلا مظاهرة ومعاونة وانما امر سبحانه بالجهاد لينالوا بامتثاله أعظم المثوبات. ثم قال سبحانه على سبيل التخصيص بعد التعميم للاعتناء والاهتمام بشأن المذكورين
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً الى قومه حين فشا الجدال والمراء بينهم وشاع ميلهم وانحرافهم عن المنهج القويم وَإِبْراهِيمَ حين ظهر الشرك وعبادة الأوثان(2/391)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
والأصنام بين قومه وَمن كمال تعظيمنا وتكريمنا إياهما جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ابدا فَمِنْهُمْ اى بعض قليل من ذريتهما مُهْتَدٍ وَبعض كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن جادة العدالة والقسط الإلهي
ثُمَّ قَفَّيْنا وعقبنا عَلى آثارِهِمْ وبعد انقراضهم بِرُسُلِنا تترى وايدناهم بالكتب والصحف وانواع الآيات والمعجزات وَبعد ما انقرضوا ايضا قد قَفَّيْنا الكل بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وأيدناه بروح القدس وَمن كمال صفوته ونجابة عرقه وطينته قد جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وآمنوا له وتدينوا بدينه رَأْفَةً عطفا ولينا بالنسبة الى عموم العباد الى حيث يعفون عن القاتل ولا يضربون الضارب والشاتم وَرَحْمَةً يرحمون بها عموم خلق الله وَمن شدة محبتهم ومودتهم بالنسبة الى الله قد اخترعوا رَهْبانِيَّةً وتزهدا يبالغون بها في عموم العبادات الى حيث لا يطعمون ولا يشربون أياما كثيرة ولا ينكحون في مدة اعمارهم قط ولا يختلطون مع الناس بل يوطنون نفوسهم في شعب الجبال وقلب الكهوف والاغوار وانما ابْتَدَعُوها كل ما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بلا رخصة ووحى منا إياهم إذ ما كَتَبْناها اى الرهبانية وما فرضناها وما قدرناها عَلَيْهِمْ حتما في دينهم وكتابهم بل ما اختاروها إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ وطلبا لمرضاته ومع ذلك فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها اى ما وافقت رهبانيتهم بدينهم وبكتابهم إذ قد كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم مع ان الايمان به صلّى الله عليه وسلّم من أعظم معتقدات دينهم وكتابهم فتركوه ظلما وعدوانا وأنكروا عليه صلّى الله عليه وسلّم جهلا وعنادا له فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ بمحمد صلّى الله عليه وسلم أَجْرَهُمْ اى اجر ايمانهم وأعمالهم بأضعاف ما استحقوا وآلافها وَلكن كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن مقتضى دينهم وكتابهم بإنكار محمد صلّى الله عليه وسلم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله على مقتضى دين الرسل الماضين صلوات الله عليهم وسلامه المبعوثين لتبيين طريق توحيد الصفات والأفعال اتَّقُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الغيور واحذروا عن بطشه بمخالفة امره وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ المرسل من عنده لتبيين طريق توحيده الذاتي يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ سبحانه نصيب عظيم لأيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ونصيب آخر لأيمانكم لمن قبله من الرسل وَيَجْعَلْ لَكُمْ سبحانه ببركة ايمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلم نُوراً مقتبسا من مشكاة النبوة والرسالة المخصوصة بالحضرة الختمية الخاتمية المحمدية تَمْشُونَ بِهِ اى بذلك النور الى المحشر وَيَغْفِرْ لَكُمْ سبحانه ببركته ذنوبكم وَبالجملة اللَّهَ الفرد الصمد العليم الحكيم غَفُورٌ لذنوب عباده رَحِيمٌ لهم يرحمهم ويقبل توبتهم ان أخلصوا فيها وانما فعل بهم سبحانه ما فعل من الكرامات المضاعفة
لِئَلَّا يَعْلَمَ اى ليعلم يقينا أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ اى ان الشأن والأمر انهم لا يستطيعون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ المكرم المفضل وثوابه بان يجلبوه بايمانهم وأعمالهم لو لم يرد سبحانه إتيانه لهم تفضلا وإحسانا وَيعلمون ايضا يقينا أَنَّ الْفَضْلَ المطلق والانعام العام والإحسان الكامل التام بِيَدِ اللَّهِ المتصرف بالاستقلال في ملكه وملكوته بالإرادة والاختيار وفي قبضة قدرته وتحت حكمه وحكمته يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده ارادة واختيارا وَبالجملة اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والطول العميم والكرم الجسيم سيما على ارباب العناية من عباده. جعلنا الله ممن تفضل عليه الحق حسب جوده وكرمه(2/392)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
خاتمة سورة الحديد
عليك ايها المحمدي المترقب للفضل الإلهي وسعة لطفه وجوده ان تلازم على أداء ما افترض عليك من الطاعات والعبادات وتداوم على الاتصاف بالآداب السنية والأخلاق المرضية المقتبسة من كتاب الله المنزل من عنده للإرشاد الى منهج الرشد والى نيل عموم السعادات وكذا من سنن سيد السادات وسند ارباب الولاية والكرامات وتقتقى بآثار السلف المجتازين في مضمار المعارف والمكاشفات والمشاهدات وإياك إياك الالتفات الى مزخرفات الدنيا الدنية وما فيها من اللذات والشهوات الوهمية العائقة عن التوجه الى المولى والوصول الى سدرة المنتهى وان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
[سورة المجادلة]
فاتحة سورة المجادلة
لا يخفى على الموحدين المتحققين بمقام الرضاء والتسليم ان من توكل على الله وفوض الأمور كلها اليه ورجع في عموم الخطوب والملمات نحوه سبحانه متضرعا خاشعا خاضعا متذللا سائلا منه سبحانه مطلوبه داعيا اليه لأجله فان الله يجيب له ويصيبه الى مطلوبه ان كان سؤاله منبعثا عن صدق العزيمة وخلوص النية إذ السؤال والدعاء على هذا المنوال انما هو من امارات الاجابة والقبول وإنجاح المأمول إذ جريان الحوادث كلها انما هو بتوفيق الله وتيسيره وصدور المسئول عن كمال الحضور والخضوع وعن محض التبتل والتوكل انما هو من علامات القبول كما صدر مثل هذا عن المرأة المجادلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بثت وبسطت شكواها الى الله متضرعة نحوه راجية منه الإنجاح والقبول ومن كمال إخلاصها وخضوعها قد أجاب الله دعاءها حيث اوحى سبحانه الى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم في شأنها ما اوحى بعد ما تيمن باسمه الأعلى فقال بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم كمالاته على قلوب المخلصين الرَّحْمنِ عليهم يوفقهم على الإخلاص في مطلق العزائم المهمة لهم المتعلقة بدينهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى ما وفقهم عليه
[الآيات]
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ السميع المجيب لمناجات عباده العليم لحاجاتهم قَوْلَ الَّتِي اى دعاء الامرأة التي تُجادِلُكَ يا أكمل الرسل فِي حق زَوْجِها حين وقع بينهما ظهار. روى ان خولة بنت ثعلبة قد ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت وكان الظهار والإيلاء حينئذ من عداد الطلاق فاستفتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال في جوابها قد حرمت عليه فقالت ما طلقني فقال صلّى الله عليه وسلّم قد حرمت عليه فكررها مرارا فأجاب صلّى الله عليه وسلّم كذلك وَبعد ما أيست أخذت تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ العليم الحليم متضرعة خاشعة فجيعة أذلها أولاد صغار ولا متعهد لهم سواها فقالت مناجية الى الله مشتكية اللهم انى اشكو إليك وأتضرع نحوك فانزل على نبيك ما يؤلف بيني وبين زوجي وترحم على أولادي المعصومين المرحومين فأوحى سبحانه الى رسوله صلّى الله عليه وسلّم قد سمع الله الآية وَبالجملة اللَّهُ المطلع على عموم ما جرى بينكما يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما وتراجعكما في الكلام وكيف لا إِنَّ اللَّهَ العليم بالسرائر والقضايا سَمِيعٌ لأقوال عباده بَصِيرٌ بأحوالهم ونياتهم فيها ثم بين سبحانه حكم الظهار فقال
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ والظهار في اصطلاح الفقهاء هو ان يقول الرجل لامرأته(2/393)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
عند الخصومة أنت على كظهر أمي يعنى يشبهها بامه المحرمة عليه فكانت حينئذ محرمة عليه الحكم هكذا في عادة الجاهلية إذ الحرمة قد سرت إليها بمجرد التشبيه فصارت هي بمنزلة الام فرد الله سبحانه عليهم أمرهم هذا بقوله ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ بمجرد هذا القول الباطل إِنْ أُمَّهاتُهُمْ اى ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ فلا يشبه بهن في الحرمة غيرهن الا ما ورد الشرع بتحريمهن مثل أمهات الرضاع وازواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي هن أمهات المؤمنين حكما وَإِنَّهُمْ من شدة افراطهم وطغيانهم لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ مردودا في الشرع وَزُوراً باطلا منحرفا عن الحق في نفسه إذ لا تشبه الزوجة بالأم وَإِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده ونياتهم لَعَفُوٌّ لفرطات القائلين غَفُورٌ لذنوبهم ان تابوا واستغفروا
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ للتلافى والتدارك مناقضين لِما قالُوا نادمين عنه راجعين فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ اى لزمهم في الشرع تحرير رقبة في كل مرة ليكون زجرا وردعا لهم وكفارة لقولهم المنكر الباطل ذلك مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا اى يستمتعا ويجتمعا اى المظاهر والمظاهر عنها ذلِكُمْ اى الزام الكفارة عليكم تُوعَظُونَ بِهِ وترتدعون عنه خوفا من الغرامة إذ ليس هو من شيم اهل الايمان بل ما هي إلا من ديدنة الجاهلية الاولى وَبالجملة اللَّهُ المراقب على عموم أحوالكم وأعمالكم بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بجميع أعمالكم ونياتكم فيها فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ولم يقدر على تحرير الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ اى كفارة ظهاره صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ متصلين متوالى الأيام فان فصل وأفطر يوما استأنف وانما اشترط التتابع والتوالي لتنزجر نفسه وترتدع عنه ولا يفعله قط ولا يتكلم به مرة اخرى ذلك ايضا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ويتجامعا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ولم يقدر للصوم لهرم او مرض او شبق مفرط فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً يعطى كل مسكين مدا من الطعام ذلِكَ اى لزوم الصوم والإطعام عند فقدن التحرير المذكور لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اى تؤمنوا بالله في عموم الاحكام الدينية وتصدقوا رسوله في جميع ما جاء به من عند ربه من الأوامر والنواهي الإلهية الجارية على لسانه وتتركوا عموم ما أنتم عليه من الرسوم والعادات الجارية بينكم في جاهليتكم الاولى وَبالجملة تِلْكَ الحدود المذكورة حُدُودُ اللَّهِ المصلحة لأحوالكم انما وضعناها بينكم لتصلحوا بها ما أفسدتم على انفسكم بمقتضى اهويتكم الفاسدة وآرائكم الباطلة وَاعلموا انه لِلْكافِرِينَ الجاحدين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية والاحكام الشرعية عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة. ثم قال سبحانه على سبيل الوعيد والتهديد
إِنَّ المسرفين المفرطين الَّذِينَ يُحَادُّونَ ويعادون اللَّهَ وَرَسُولَهُ حيث يصنعون حدودا مبتدعة مخالفة لحدود الله وحدود رسوله بل هم يبتدعونها من تلقاء أنفسهم مراء ومجادلة ومعاداة لرسوله كُبِتُوا اى قد أكب والم وأحاط عليهم العذاب النازل من الله فهلكوا بالمرة كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم الماضية وَكيف لا نهلكهم ولا نستأصلهم قَدْ أَنْزَلْنا لإصلاح أحوالهم وأخلاقهم وعموم أطوارهم آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات مشتملات على حكم ومصالح لا تحصى فأبوا عنها ولم يقبلوها بل كذبوها وأنكروا عليها وعلى من أنزلت اليه عتوا وعنادا وَبالجملة لِلْكافِرِينَ المستكبرين بما عندهم من الثروة والرياسة عَذابٌ مُهِينٌ حيث يبدل عزهم ذلا ونخوتهم وخيلاءهم لعنة وطردا اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ(2/394)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
من قبورهم جَمِيعاً بحيث لا يشذ منهم احد فَيُنَبِّئُهُمْ ويخبرهم بِما عَمِلُوا اى بعموم أعمالهم وأفعالهم تفضيحا لهم وتشهيرا على رؤس الاشهاد بحيث قد أَحْصاهُ اللَّهُ المحصى العليم وفصله عليهم على وجه لا يغيب عن حيطة علمه وإحصائه شيء من عملهم وَهم قد نَسُوهُ لكثرة تهاونهم به وَكيف لا يحصى سبحانه عليهم أعمالهم إذ اللَّهُ بمقتضى ألوهيته وحيطة ذاته وأوصافه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهره شَهِيدٌ حاضر غير مغيب عنه
أَتستبعد شهادته سبحانه وحضوره عند عموم مظاهره ومصنوعاته ولَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي ولم تعلم أَنَّ اللَّهَ المحيط بالكل بالالوهية والظهور يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما فِي السَّماواتِ اى الكائنات العلوية وَما فِي الْأَرْضِ اى الكائنات السفلية كلياتهما وجزئياتهما محسوساتهما ومعقولاتهما بحيث ما يَكُونُ يوجد ويقع مِنْ نَجْوى وسر معهود بين ثَلاثَةٍ يسرون بها ويضمرونها في نفوسهم إِلَّا هُوَ سبحانه رابِعُهُمْ بل هو اعلم منهم بنجويهم واعرف بما في ضمائرهم منهم بل هو العالم حقيقة وَلا خَمْسَةٍ وكذا لا يقع نجوى بين خمسة مكنونة في ضمائرهم مصونة عن من سواهم إِلَّا هُوَ سبحانه سادِسُهُمْ بل علمه بها أتم وأكمل من علمهم وَبالجملة لا يقع أَدْنى مِنْ ذلِكَ الجمع المذكور وَلا أَكْثَرَ منه إِلَّا هُوَ سبحانه مَعَهُمْ بل هو العالم بذاته وبمقتضى وحدته الا انه قد ظهر في أشباحهم وهوياتهم لا على سبيل المقارنة الذاتية والزمانية ولا على سبيل الاتحاد والحلول بل بطريق معية الظل مع ذي الظل ومعية الأمواج مع الماء والصور مع ذي الصورة في المرايا ولا يقيد ايضا معيته بالمكان بل أَيْنَ ما كانُوا قد كان معهم لاستواء عموم الأمكنة والازمنة بلا تحيز وحلول وقيام ونزول وبالجملة يعلم سبحانه منهم جميع ما صدر عنهم لكن لم يطلعهم بعلمه إياهم لئلا يبطل حكمة التكاليف الواقعة منه سبحانه بالنسبة الى عموم عباده ثُمَّ بعد انقضاء أوان التكليف وانقراض نشأة الاختبار يُنَبِّئُهُمْ سبحانه بِما عَمِلُوا اى يخبرهم بعموم أعمالهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة لتنقيد الأعمال وترتيب الجزاء الموعود عليها تفضيحا لهم وتقريرا لما يستحق ويليق بهم من العذاب والنكال لئلا يكون لهم على الله حجة ولا ينسبونه سبحانه الى الظلم حين الأخذ إذ الإنسان مجبول على الجدال والمراء بل هو اكثر شيء جدلا وبالجملة أَنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما كان ويكون غيبا وشهادة ظاهرا وباطنا بِكُلِّ شَيْءٍ لمع عليه برق الوجود عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعزب عن حيطة علمه شيء. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمنافقين
أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى المنافقين الَّذِينَ نُهُوا ومنعوا عَنِ النَّجْوى والتغامز فيما بينهم بالعيون والحواجب حين جلسوا في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع المؤمنين فمنعهم صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ إصرارا ومكابرة وَهم يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ الموجب للحد الشرعي وَالْعُدْوانِ عن الأوضاع الشرعية الموضوعة على منهج العدالة وَمَعْصِيَةِ- الرَّسُولِ وتكذيبه والاعراض عنه وعن دينه مهما أمكن لهم وَبالجملة هم من شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم وضغينتهم إِذا جاؤُكَ يا أكمل الرسل حَيَّوْكَ على وجه النفاق بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ فيقولون السام عليك او أنعم صباحا مع ان الله سبحانه يقول سلام على عباده الذين اصطفى وَبعد ما حيوك حسب اهوائهم الفاسدة وقصدوا مقتك في تحيتهم يَقُولُونَ حينئذ فِي أَنْفُسِهِمْ ونجواهم على سبيل التهكم والاستهزاء(2/395)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
لَوْلا هلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ لو كان محمد نبيا فظهر من عدم تعذيب الله إيانا انه ليس بنبي قيل لهم حينئذ من قبل الحق حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها ويدخلون فيها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم جهنم البعد والخذلان
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم إِذا تَناجَيْتُمْ فيما بينكم فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ مثل مناجاة أولئك الأشقياء المردودين بل وَتَناجَوْا ان تتناجوا بِالْبِرِّ الموجب لانواع الخيرات الجالب لأصناف المثوبات وَالتَّقْوى من محارم الله ولا سيما عن عصيان الرسول المستلزم لانواع الخسران والحرمان وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ في يوم النشور ونحوه تبعثون من الأجداث والقبور. ثم قال سبحانه
إِنَّمَا النَّجْوى والأسرار بالإثم والعدوان ومعصية الرسول انما تنشأ مِنَ الشَّيْطانِ المضل المغوى انما يحملهم عليها لِيَحْزُنَ عن نجويهم بهذه الأوزار والآثام الَّذِينَ آمَنُوا ويغتموا بها وَالحال انه لَيْسَ الشيطان وما يلقنهم من التناجي بالسوء بِضارِّهِمْ اى المؤمنين شَيْئاً من الضرر إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى مشيته وارادته وَبالجملة عَلَى اللَّهِ المراقب الحافظ لعموم عباده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الرابطون قلوبهم بالله في عموم أحوالهم المفوضون أمورهم كلها اليه اصالة فانه سبحانه يكفى لهم مؤنة شرور أعدائهم ونجويهم إياهم بالسوء والعدوان
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى أخلاقكم الحسنة المورثة لكم عن ايمانكم وعرفانكم بالله إِذا قِيلَ لَكُمْ وقت التضيق والتجسس في المجالس تَفَسَّحُوا وتوسعوا فِي الْمَجالِسِ اى مطلق المجالس والمحافل المشتملة على الازدحام والغلبة فَافْسَحُوا ووسعوا مبادرين بلا مطل وتحرج وتضجر يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ويوسع عليكم في عموم ما تريدون الوسعة فيه بل وَإِذا قِيلَ لكم انْشُزُوا وانهضوا واخرجوا من المضائق والمجالس فَانْشُزُوا واخرجوا طائعين راغبين طالبين الثواب من الله بتوسيعكم على إخوانكم ولا تتوهموا الإذلال بالنشوز وانكسار الحرمة بل يَرْفَعِ اللَّهُ القادر المقتدر على وجوه الانعام الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ونشزوا عن المضائق لمصلحة إخوانهم طوعا درجات من القرب والمكانة مع ان المؤمن الموحد العارف المتمكن في مرتبة اليقين الحقي لا يتفاوت عنده المدح والذم والإعزاز والإذلال والمضرة والمسرة والمنح والمحن والفرح والترح مطلقا وَبالجملة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني المنشعب من حضرة العلم المحيط الإلهي دَرَجاتٍ لا يكتنه وصفها ولا يمكن حصرها وَاللَّهُ المطلع بضمائركم وقلوبكم بِما تَعْمَلُونَ من الاستكبار والاستكراه وتوهم الإذلال والاستنكاف عن الامتثال خَبِيرٌ يجازيكم على مقتضى خبرته. ثم أشار سبحانه الى تعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلّم وتأديب من تبعه من المؤمنين المسترشدين منه صلّى الله عليه وسلّم فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم بالله وتصديقكم برسوله انكم إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ وأردتم المناجاة معه والاستفادة منه صلّى الله عليه وسلم فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ اى قدام مناجاتكم وعرض حاجاتكم اليه صلّى الله عليه وسلم صَدَقَةً تصدقا لفقراء الله وإنفاقا لعياله سبحانه ذلِكَ التصدق بمحبة رسول الله خَيْرٌ لَكُمْ في أولئكم وأخراكم وَأَطْهَرُ لنفوسكم من الميل الى زخارف الدنيا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما ينفقون فَإِنَّ اللَّهَ المطلع على قصدكم ونياتكم غَفُورٌ رَحِيمٌ على من فقد وجه الصدقة. ثم قال سبحانه على سبيل الرخصة
أَأَشْفَقْتُمْ وخفتم الفقر والفاقة من أَنْ تُقَدِّمُوا وتصدقوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ اى(2/396)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)
قدام مناجاتكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم صَدَقاتٍ اى لكل نجوى صدقة ولو كلمة طيبة منبئة عن كمال المحبة والوداد فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ولم تصدقوا بسبب الإشفاق من الفقر وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اى قبل منكم توبتكم ان صدر عنكم على وجه الندم والإخلاص عن جريمة الإشفاق والتحسر على ما فوتم وبالجملة عفا الله عنكم وتجاوز عن جريمتكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ الموقتة المكتوبة لكم وَآتُوا الزَّكاةَ المفروضة المقدرة من أموالكم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في عموم الأوامر والنواهي على وجه الإخلاص وَاللَّهُ المطلع بضمائركم ونياتكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم أعمالكم وإخلاصكم فيها. ثم أشار سبحانه الى تفضيح المنافقين وتوبيخهم فقال
أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى المنافقين الَّذِينَ تَوَلَّوْا اى والوا وتحابوا قَوْماً قد غَضِبَ اللَّهُ المنتقم الغيور عَلَيْهِمْ يعنى اليهود واختاروا موالاتهم وصاحبوا معهم في خلواتهم واشتغلوا بغيبة المؤمنين عندهم مع انهم ما هُمْ اى المنافقون مِنْكُمْ ايها المؤمنون حقيقة وان كانوا منكم ظاهرا وَلا مِنْهُمْ اى ولا من اليهود ظاهرا وان كانوا منهم حقيقة وَمن شدة شقاقهم ونفاقهم يَحْلِفُونَ بالله عَلَى الْكَذِبِ صريحا وهو دعوى الإسلام والإخاء مع المؤمنين وَالحال انهم هُمْ يَعْلَمُونَ كذب أنفسهم ويزورون بحلفهم على المؤمنين تغريرا مع انه لا نفع لحلفهم عند الله ولا يدفع شيأ من عذابه وقت حلوله إليهم إذ
أَعَدَّ اللَّهُ المراقب على عموم أحوالهم لَهُمْ اى للمنافقين الحالفين على الكذب عَذاباً شَدِيداً أشد من عذاب اليهود والمجاهر بالكفر بلا زور وتزوير وبالجملة إِنَّهُمْ اى اهل النفاق من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من التمرن على النفاق والإصرار بمعاونة اهل الشرك والشقاق مع دعوى المواخاة والوفاق مع المؤمنين. قيل نزلت في عبد الله ابن نبتل المنافق إذ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا يوما في حجرة من حجراته فقال صلّى الله عليه وسلّم لجلاسه يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار ينظر بعين شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان ارزق فقال صلّى الله عليه وسلّم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل ثم جاء بأصحابه فحلفوا جميعا على الكذب وبالجملة
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الكاذبة جُنَّةً وقاية لدمائهم وأموالهم فَصَدُّوا ومنعوا المؤمنين بسبب حلفهم الكاذب عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو غزوهم وقتالهم في النشأة الاولى فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ في النشأة الاخرى لاستهانتهم بالله بالحلف الكاذب ولا يدفع عنهم الاهانة والعذاب يومئذ أصلا إذ
لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع يومئذ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً بل أُولئِكَ الأشقياء البعداء المنصرفون عن منهج الحق أَصْحابُ النَّارِ ملازموها وملاصقوها ابدا هُمْ فِيها خالِدُونَ مخلدون لا يرجى نجاتهم منها أصلا اذكر لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ القادر المقتدر على الأحياء والاماتة في الإبداء والإعادة جَمِيعاً مجتمعين فيعاتبهم بما صدر عنهم مثل ما عاتبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَيَحْلِفُونَ لَهُ سبحانه حينئذ على انهم مسلمون مؤمنون كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الأن ايها المؤمنون وَيَحْسَبُونَ حينئذ ايضا أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من جلب نفع ودفع ضر حاصل من حلفهم الكاذب فيتخيلون انهم يروجون بالحلف الكاذب ما يدعون من الكذب على الله كما يروجون عليكم اليوم ولم يعلموا ان الناقد يومئذ خبير بصير والترويج اليه صعب عسير أَلا اى تنبهوا ايها المؤمنون المخلصون أَنَّهُمْ اى المنافقين هُمُ(2/397)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
الْكاذِبُونَ
المقصورون على الكذب والزور والتلبيس والغرور إذ
اسْتَحْوَذَ اى قد غلب واستولى عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ المضل المغوى فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ المنقذ عن الضلال الى الهداية وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون حِزْبُ الشَّيْطانِ اى جنوده واتباعه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران المؤبد والحرمان المخلد عن ربح المعرفة واليقين. أعاذنا الله وعموم عباده عن متابعة الشيطان المضل المغوى. ثم قال سبحانه
إِنَّ المفسدين المسرفين الَّذِينَ يُحَادُّونَ ويعادون اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويتجاوزون عن الحدود الموضوعة في الشرع بالوضع الإلهي المنزل على رسوله بالوحي والإلهام أُولئِكَ البعداء المتجاوزون المعادون معدودون فِي زمرة الْأَذَلِّينَ اى من جملة من أذل الله وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة ولهم عذاب اليم وكيف لا يعد المتجاوزون عن الحدود الإلهية من الأذلين إذ قد
كَتَبَ اللَّهُ العليم الحكيم واثبت لهم في لوح قضائه بقوله لَأَغْلِبَنَّ البتة أَنَا وَعموم رُسُلِي المرسلين من عندي بالحجج القاطعة ولا يظهر ولا يغلب الا رسله عليهم إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء قَوِيٌّ في ذاته لا حول ولا قوة في الوجود الا منه وبه عَزِيزٌ مقتدر غالب لا يغلب مطلقا في عموم مراداته ومقدوراته. ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير لعموم المؤمنين الموحدين
لا تَجِدُ قَوْماً صفتهم انهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد للحساب والجزاء يُوادُّونَ اى لا تجد ان يتحابوا مَنْ حَادَّ اللَّهَ وعاداه وَرَسُولَهُ ايضا وَلَوْ كانُوا اى العادون المعاندون آباءَهُمْ اى آباء المؤمنين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وأقرباءهم وذوى أرحامهم أُولئِكَ السعداء المقبولون الممتنعون عن ودادة اعداء الله واعداء رسول الله طلبا لمرضاة الله ومرضاة رسوله قد كَتَبَ اى اثبت ومكن سبحانه فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وقد جعله راسخا فيها وَمع ذلك قد أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ فائض مِنْهُ سبحانه محى لهم ابد الآباد بالحياة الابدية والبقاء السرمدي إذ من حي بحياة الايمان والعرفان دامت له الحياة سرمدا ولم يمت ابدا وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترسحة من بحر الحياة الأزلي الأبدي الذي هو الوجود المطلق الإلهي خالِدِينَ فِيها ابدا لا يتحولون عنها أصلا إذ قد رَضِيَ اللَّهُ المتجلى عليهم بالرضاء عَنْهُمْ وَرَضُوا ايضا عَنْهُ سبحانه بالتسليم والتفويض اليه وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله حِزْبُ اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء وحوامل آثار أوصافه وأسمائه الذاتية وقوابل عموم تجلياته حسب شئونه وتطوراته أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال المستظلون بظل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون من عنده بالفوز العظيم والفضل الجسيم والكرم العميم
خاتمة سورة المجادلة
عليك ايها الطالب للفلاح والمترقب على الفوز والنجاح ان تتمكن في مقام التسليم والرضاء بعموم ما جرى عليك من مقتضيات القضاء وتلازم على آداب الخدمة بين يدي الله في عموم أوقاتك وحالاتك فارغا همك وسرك عن مطلق الوساوس والاشتغال العائق عن التوجه نحو المولى وتواظب على الطاعات والعبادات سيما في خلال الخلوات لتكون مصونة عن السمعة والرياء والميل الى العجب(2/398)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
والهوى وإياك إياك ان تتلطخ بقاذورات الدنيا ومزخرفاتها الملهية عن اللذات الاخروية المستتبعة للسلاسل والأغلال الامكانية المبعدة عن الوصول الى فضاء الوجوب وصفاء الوحدة الذاتية التي عبر عنها لسان الشرع بالنعيم الموعود والحوض المورود والمقام المحمود. جعلنا الله ممن وصل اليه وتمكن دونه بمنه وجوده
[سورة الحشر]
فاتحة سورة الحشر
لا يخفى على من تحقق بحيطة الحق وشموله على عموم ما ظهر وبطن في الآفاق والأنفس علما وعينا غيبا وشهادة دنيا وعقبا ان عموم المظاهر والمجالى متوجهة الى المبدأ الحقيقي منجذبة نحوه طوعا عابدة إياه رغبة ساجدة له على وجه الخضوع والخشوع والانكسار التام والتذلل المفرط منزهة مسبحة له عن شوب النقص وسمة الحدوث والزوال كما أخبر به سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم تنبيها وتأييدا لأمره ليكون هو ومن تبعه من المؤمنين على ذكر من ربهم الذي رباهم على فطرة الدراية والشعور بمطلق المراتب الواقعة في الوجود الإلهي ومظاهر وحدته الذاتية المتجلية حسب الشئون والتطورات الغير المتناهية المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية الغير المحصورة فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم ما ظهر وبطن بالحكمة المتقنة العلية الرَّحْمنِ لعموم مظاهره بإضافة الوجود المتجلى على الصور البديعة الرَّحِيمِ لهم بالإعادة والإرجاع الى الفطرة الاصلية والمبدأ الحقيقي
[الآيات]
سَبَّحَ لِلَّهِ ونزهه تنزيها لائقا بجنابه سبحانه مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ طوعا ورغبة وَكيف لا هُوَ الْعَزِيزُ بذاته المتعزز برداء العظمة والكبرياء والمجد والبهاء الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله المدبر لمصالح عباده كيف يشاء بالإرادة والاختيار وبالجملة
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ بمقتضى عزته وحكمته المفسدين المسرفين الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبرسوله ألا وهو اجلاء بنى النضير واضرابهم مع انهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ المألوفة وأوطانهم المأنوسة زجرا وتذليلا لهم واقعا عليهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ اى في أول حشرهم واجلائهم الطاري عليهم بظهور دين الإسلام وغلبة المسلمين إذ اجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى النضير أولا من المدينة الى الشأم ثم اجلى بقية الكفرة عمر رضى الله عنه في خلافته انظروا كيف أخرجهم بكمال قدرته وعزته مع انكم ما ظَنَنْتُمْ وزعمتم ايها المؤمنون أَنْ يَخْرُجُوا اى خروجهم وجلاءهم لشدتهم وشوكتهم واستحكام أماكنهم وقلاعهم وَهم ايضا قد ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ اى ظنهم لأنفسهم ان حصونهم تمنعهم مِنْ بأس اللَّهِ المنتقم الغيور وبطشه وان اشتد لكن لم ينفعهم الحصون والقلاع حين حلول العذاب ونزوله بل فَأَتاهُمُ اللَّهُ بالقهر الهائل من لدنه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا اى من صوب وجهة لم يتوقعوها وَذلك انه قَذَفَ والقى سبحانه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الشديد والخوف العظيم من غير قتال وبسبب ذلك الرعب الهائل أخذوا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ضنا على المسلمين وإخراج ما فيها من الامتعة وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ايضا فإنهم كانوا يخربون بيوتهم إذلالا لهم وتوسيعا لمضمار الحرب والقتال وبالجملة فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ واتعظوا مما جرى على هؤلاء الغواة الطغاة يثقون بحصونهم ويشيدونها ليتحصنوا بها من بأس الله ثم لما اضطروا أخذوا يخربون بأيديهم ما يعتمدون عليه ويستحفظون به وذلك من كمال قدرة الله ومتانة حكمه(2/399)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
وحكمته
وَبالجملة لَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ المصلح لأمور دنياهم وافترض عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ولم يخرجهم من أوطانهم أذلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والأسر وانواع الإذلال والصغار كما جرى على الكفرة المتمكنين في أماكنهم بعدهم وَمع ذلك الإصلاح والكرامة لَهُمْ في الدنيا لهم فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ بواسطة إصرارهم على الكفر وانكارهم على الإسلام
ذلِكَ الإذلال والصغار لهم في الدنيا والآخرة بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم قد شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بمخالفة أمرهما والخروج عن حكمهما وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ المنعم المتفضل يعاقبه البتة فَإِنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام اليم العذاب على عصاة عباده ارادة واختيارا. ثم لما توجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الى بنى النضير حين نقضوا العهد الذي عهدوا مع الله ورسوله تحصنوا بحصونهم وامتنعوا عن الإسلام فأمر صلّى الله عليه وسلّم بقطع نخلهم وحرق بساتينهم قالوا يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وحرقها فسمع المؤمنون منهم ذلك القول واوجسوا في نفوسهم الكراهة وعدم اللياقة فنزلت
ما قَطَعْتُمْ ايها المؤمنون مِنْ لِينَةٍ اى بعض نخلة من النخلات أَوْ تَرَكْتُمُوها بلا قطع شيء منها قائِمَةً عَلى أُصُولِها على ما كانت فَبِإِذْنِ اللَّهِ العليم الحكيم اى القطع والترك كلاهما بأمر الله وحكمه وَانما أمركم بالقطع والحرق لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ اى يرديهم ويذلهم بما يغيظهم ويضيق صدرهم
وَاعلموا ايها المؤمنون ان ما أَفاءَ اللَّهُ اى رد الله وأعطاه عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ اى من يهود بنى النضير من الأموال والعقار فهو لرسول الله خاصة خالصة له ان يفعل به حيث شاء بلا حق لكم فيها ليس مثل سائر الغنائم فَما أَوْجَفْتُمْ وما أجريتم عَلَيْهِ اى على تحصيله وجمعه لا مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ نجائب الإبل إذ هم قد مشوا الى بنى النضير رجالا لا فرسانا وقد كانت المسافة ميلين من المدينة ومع ذلك لا يقاتلون معهم مقاتلتهم مع سائر الكفرة وَلكِنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور يُسَلِّطُ رُسُلَهُ أحيانا عَلى مَنْ يَشاءُ من المستوجبين الطرد والمقت بلا وسائل القتال والحرب بل يقذف الرعب ويلحق الخوف في قلوبهم وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة الموجبة للهزيمة لا عن شيء وَاللَّهُ القادر المقتدر عَلى كُلِّ شَيْءٍ موجب لقهر أعدائه ونصر أوليائه قَدِيرٌ سواء وافق العادة أولا وبالجملة
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ اموال أَهْلِ الْقُرى الهالكة بالغلبة والاستيلاء بلا مقاتلة وحرب فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ سهم وَلِذِي الْقُرْبى من بنى هاشم وبنى المطلب سهم وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ سهام وانما قسم سبحانه مال الفيء بنفسه كَيْ لا يَكُونَ الفيء الذي حقه ان يصل الى الفقراء دُولَةً متداولة بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ورؤسائكم كما هو عادة الجاهلية الاولى وَبعد ما قسم سبحانه في كتابه لزمكم ان تأخذوا ما آتاكُمُ واعطاكم الرَّسُولُ المستخلف منه سبحانه فَخُذُوهُ بلا مراء ومجادلة معه وَما نَهاكُمْ عَنْهُ باذن الله فَانْتَهُوا ايضا عنه بلا مكابرة وإصرار وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ عن مخالفة امره وامر رسوله النائب عنه واحذروا عن بطشه وانتقامه إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام شَدِيدُ الْعِقابِ على من خرج عن ربقة عبوديته ومقتضى ألوهيته. ثم بين سبحانه مصارف الفيء بعد إخراج سهم الله ورسوله وقدم منهم فقراء المهاجرين اهتماما بشأنهم فقال
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ اى أخرجهم المشركون ونهبوا أموالهم(2/400)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
وسبوا أولادهم والحال انهم في مصائبهم هذه يَبْتَغُونَ ويطلبون فَضْلًا تفضلا وإحسانا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً من لدنه سبحانه لكمال تمكنهم ورسوخهم في مقام الرضا والتسليم وَمع ذلك يَنْصُرُونَ اللَّهَ بترويج دينه وإعلاء كلمة توحيده وَرَسُولَهُ بالمعاونة والمظاهرة وبذل المال والنفس في تقوية دينه أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله الباذلون مهجهم في طريق الحق وصراطه المستقيم ونصرة رسوله الكريم هُمُ الصَّادِقُونَ المقصورون على الصدق والإخلاص ظاهرا وباطنا
وَبعد أولئك لفقراء الأنصار وهم الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ اى قد توطنوا وتمكنوا في المدنية ورسخوا على الايمان والإسلام بالعزيمة الصادقة الخالصة مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل هجرة المهاجرين إليها ومع رسوخهم وتمكنهم في الايمان يُحِبُّونَ محبة خالصة مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من المؤمنين وَمن كمال محبتهم وإخلاصهم لإخوانهم المهاجرين لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ ووجدانهم حاجَةً باعثة لهم الى ان يحسدوا مِمَّا أُوتُوا واعطوا اى المهاجرون من سهام الفيء وسائر الغنائم والصدقات وَذلك من كمال محبتهم ومودتهم بالنسبة إليهم بل يُؤْثِرُونَ اى هم يختارون ويقدمون المهاجرين عَلى أَنْفُسِهِمْ حتى ان من كان له امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم وبالجملة يختارون ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في أعز ما آثروا لنفوسهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ اى حاجة شديدة ومحبة بليغة بالنسبة الى ذلك الشيء وما هو الا من فرط محبتهم وإخلاصهم بالنسبة الى إخوانهم المهاجرين وَبالجملة مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ويخالفها حتى يمنعها عن مقتضاها الذي هو حب المال فأنفق المال في سبيل الله طلبا لمرضاة الله ورعاية بجانب أخيه المسلم فَأُولئِكَ السعداء المنفقون المحافظون على آداب الأخوة والمروءة هُمُ الْمُفْلِحُونَ المقصورون على الفوز العظيم من عنده سبحانه عاجلا وآجلا في العاجل بالذكر الجميل وفي الآجل بالجزاء الجزيل
وَبعد فقراء الأنصار أنفقوا للفقراء التابعين لهم وهم الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ مهاجرين عن بقعة الإمكان أمثالهم نحو فضاء الوجوب مقتفين اثر أولئك الكرام مريدين لهم بإحسان مذكرين لهم بغفران حيث يَقُولُونَ في مناجاتهم مع ربهم في خلواتهم وأعقاب صلواتهم رَبَّنَا يا من ربانا على فطرة الإسلام اغْفِرْ لَنا ذنوبنا التي صدرت عنا وَكذا لِإِخْوانِنَا في الدين سيما الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وسلوك طريق العرفان وَبالجملة لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا وقلوبهم يا مولانا غِلًّا حقدا وحسدا لِلَّذِينَ آمَنُوا مطلقا لا للسابقين ولا للاحقين رَبَّنَا يا من ربانا على الإخلاص والتوفيق تقبل منا مناجاتنا واقض لنا حاجاتنا إِنَّكَ رَؤُفٌ عطوف على عموم عبادك سيما المخلصين منهم رَحِيمٌ تقبل منهم توبتهم وتغفر زلتهم ان استغفروا نحوك نادمين عما صدر عنهم. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا مع المؤمنين حيث يَقُولُونَ في خلواتهم لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وقد كان بينهم صداقة الشرك واخوة الكفر وموالاة البغض مع الرسول ومع المؤمنين لا تخالطوا مع هؤلاء المدعين يعنون المؤمنين وانا معكم والله لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم عنوة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ البتة وَلا نُطِيعُ ولا نتبع فِيكُمْ اى في قتالكم وحرابكم أَحَداً أَبَداً سيما مع هؤلاء الأعادي وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ونعاوننكم البتة بلا خلف منا وَاللَّهُ المطلع على عموم أفعالهم وأقوالهم ونياتهم فيها يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم(2/401)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
وعهدهم هذا مع إخوانهم حيث قال سبحانه مقسما والله
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ البتة وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ جزما ووقع ذلك مثل ما قال سبحانه فان ابن ابى وأصحابه عهدوا مع بنى النضير على هذا ثم اخلفوهم وهم قد اخرجوا من ديارهم وهؤلاء لم يخرجوا وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ بالفرض والتقدير ويقاتلوا معكم ايها المؤمنون من جانب عدوكم والله لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ وقت كركم عليهم ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك لشدة خوفكم ورعبكم في قلوبهم وبالجملة
لَأَنْتُمْ ايها المؤمنون أَشَدُّ رَهْبَةً مرهوبية مرعوبية راسخة فِي صُدُورِهِمْ متمكنة في نفوسهم ناشئة من قبلكم والحال ان تلك الرهبة الشديدة الحاصلة منكم ناشئة مِنَ اللَّهِ إذ هو سبحانه قد قذفها في صدورهم من جانبكم وأقدركم عليهم وهم من خباثة كفرهم ونفاقهم لا يتفطنون بها ذلِكَ اى عدم تفطنهم بمنشأها ومبدأها بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ولا يعلمون عظمة الله وحق قدره حتى يخشون منه حق خشيته وبالجملة لا تبالوا ايها المؤمنون بوداد المنافقين مع اليهود واتفاقهم معهم إذ
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً مجتمعين متفقين إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ محصورة ممهدة بالدروب والخنادق أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ يستحصنون به وذلك من فرط رعبتهم وشدة رهبتهم من المؤمنين والا بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ اى حين حارب بعضهم بعضا او مع غير المؤمنين قتالهم شديد وحرابهم عظيم وإذا حاربوا مع المؤمنين تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين ظاهرا في بادى النظر وَلكن قُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة مختلفة حقيقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم ذلِكَ الافتراق والاختلاف بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون ما هو صلاحهم في الدارين وفلاحهم في النشأتين
كَمَثَلِ الَّذِينَ اى مثلهم كمثل اليهود الذين مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً بزمانهم قد ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ في الدنيا من انواع الهوان والخسار وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة التي هي دار البوار بل مثلهم في وخامة العاقبة وقبح المآل
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ اى مثل المنافقين في إغراء اليهود على قتال المؤمنين كمثل الشيطان وقت إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اى كل فرد من افراد الكفرة اكْفُرْ حتى أعينك على عموم مقاصدك ومرامك وأنصرك على عموم اعاديك فَلَمَّا كَفَرَ الإنسان والعياذ بالله بتغريره قالَ له الشيطان بعد ما كفر إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ لا أعينك على شيء لأنك قد كفرت بالله وصرت عدو الله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ القادر المقتدر القاهر الغيور ان ينتقم منى بسبب معاونتك ومظاهرتك لكونه رَبَّ الْعالَمِينَ فلا يجرى التصرف في ملكه بلا اذن منه سبحانه وبعد ما كفر الإنسان بتغرير الشيطان وتلبيسه
فَكانَ عاقِبَتَهُما اى صار عاقبة الشيطان والإنسان الذي قد كفر بتغريره أَنَّهُما فِي النَّارِ تابعا ومتبوعا لا زمانا دون زمان بل كانا خالِدَيْنِ فِيها مستمرين ابدا مخلدين وَذلِكَ اى الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن ربقة الرقية الإلهية وعروة عبوديته بتلبيس الشيطان وتغريره
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم التقوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور واحذروا عن بطشه وقهره وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ اى كل نفس من النفوس المجبولة على فطرة الدراية والشعور على وجه العبرة والاستبصار ما قَدَّمَتْ وما ادخرت لِغَدٍ اى ليوم القيامة وما تزودت للطامة الكبرى والدفعة العظمى بعد ما كلفت بأنواع التكاليف وأمرت من لدن حكيم عليم باعداد زاد المعاد على سبيل المبالغة والتأكيد وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ واحذروا عن مخالفة امره وحكمه إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما في ضمائر عباده(2/402)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من خير وشر ونفع وضر يجازيكم على مقتضى خبرته وَبالجملة
لا تَكُونُوا ايها المؤمنون ك الغافلين الذين نَسُوا اللَّهَ اى ذكره المستلزم المقتضى للايمان والمحبة والعرفان فَأَنْساهُمْ سبحانه أَنْفُسَهُمْ اى ذكرها المستلزم لمعرفة الحق إذ من عرف نفسه فقد عرف ربه وكذا من نسيها نسيه وبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز الحضور هُمُ الْفاسِقُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية ولوازم العبودية الجاهلون بقدر الألوهية مطلقا واعلموا ايها المكلفون انه
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ منكم وملازموها وهم الذين اقترفوا طول اعمارهم لسيئات الأعمال وذمائم الأخلاق والأوصاف والأطوار مما يستحقون بها دخول النار وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ وهم الذين اتصفوا بمحاسن الأعمال والأحوال ومحامد الأخلاق والأطوار المنتجة لهم انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات الفائضة عليهم حسب استنشاقهم من نسائم عالم اللاهوت واسترواحهم بفوائح حضرة الرحموت وبالجملة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ المفلحون المقصورون بالدرجات العلية والمقامات السنية مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم وبخ سبحانه نوع الإنسان المجبول على فطرة الايمان والعرفان وقرعهم بغفلتهم عن القرآن المرشد لهم الى طريق التوحيد والعرفان بقوله
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ المنزل عليكم ايها التائهون في تيه الغفلة والنسيان عَلى جَبَلٍ من الجبال العظام والله لَرَأَيْتَهُ اى الجبل ايها المعتبر الرائي خاشِعاً خاضعا مُتَصَدِّعاً متشققا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ القادر الغيور يعنى قد تأثر من الوعيدات القرآنية والإنذارات الشديدة الواقعة فيه على المكلفين مع عدم قابليته للتأثر وأنتم ايها الهلكى الحمقى التائهون الهالكون في تيه الجهل والضلال وبيداء الوهم والخيال مع كمال قابليتكم واستعدادكم للتأثر لا تتأثرون من وعيداته البليغة وانذاراته الشديدة ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والتذكير وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ الناسين مرتبة العبودية من كمال البطر والغفلة لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ويتفطنون منها الى فطرتهم الاصلية المجبولة على التذلل والخشوع والانكسار والخضوع فيشتغلون بما جبلوا لأجله من العبودية والإتيان بالطاعات والعبادات اللائقة لمرتبة الألوهية والربوبية وكيف لا تتذللون له سبحانه ايها الحمقى الهالكون مع انه سبحانه
هُوَ اللَّهُ اى الموجود الحق الحقيق الَّذِي لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ على التفصيل الواقع في الواقع بحيث لا يعزب عن حيطة علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ومع ذلك هُوَ الرَّحْمنُ على عموم الأكوان بافاضة الوجود عليهم وتربيتهم وتدبير مصالحهم في النشأة الاولى الرَّحِيمُ على خواصهم يوصلهم الى فضاء وحدته وسعة جنته ورحمته في النشأة الاخرى وكيف لا
وهُوَ اللَّهُ المستقل بالالوهية والربوبية في ذاته المتوحد بالقيومية المتفرد بالديمومية الفرد الوحدانى الَّذِي لا إِلهَ يعبد بالحق ويرجع اليه في الخطوب والملمات إِلَّا هُوَ باستقلاله واستحقاقه وصمديته وقيوميته في ملكه وملكوته حسب مقتضيات أسمائه وصفاته إذ هو الْمَلِكُ المتفرد بالحكمة والاستيلاء التام والسلطنة الغالبة والبسطة القاهرة الْقُدُّوسُ البالغ في النزاهة الى أقصى الغاية والنهاية السَّلامُ السليم السالم عن مطلق النقائص ولوازم الاستكمال التي هي من لواحق الإمكان الْمُؤْمِنُ ذو الأمن والامان على عموم الأعيان والأكوان الْمُهَيْمِنُ المراقب المحافظ على مقتضيات استعدادات عموم البرايا بكمال(2/403)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
العدل والإحسان الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على عموم مراداته ومقدوراته على سبيل الفضل والامتنان الْجَبَّارُ على عموم من خرج عن ربقة رقيته وعروة عبوديته بالإنكار والطغيان الْمُتَكَبِّرُ المتنزه المتعالي عن كل امر يشينه من العجز والنقصان وبالجملة سُبْحانَ اللَّهِ اى تنزه وتعالى شأنه عن مطلق الشين والنقصان سيما عَمَّا يُشْرِكُونَ ويثبتون له المشركون المفرطون علوا كبيرا وكيف يشركون له غيره أولئك المفسدون المسرفون مع انه سبحانه
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المتوحد المستقل بخلق الأشياء وتقديرها وإظهارها من كتم العدم ثم حسب حكمته المتقنة البالغة بالإرادة والاختيار الْبارِئُ الموجد لها بمقتضى اسمه الرحمن بلا تفاوت ونقصان الْمُصَوِّرُ الذي يصور الأشياء وأشكالها وأشباحها وهياكلها على أبدع شأن وابلغ نظام وبالجملة لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي لا تعد ولا تحصى يتجلى سبحانه على مقتضاها في كل آن لا يسبقها شأن مثله ولا يلحقها شأن كذلك وبالجملة لا يشغله شأن عن شأن لذلك يُسَبِّحُ لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وينزهه على الدوام عن كل ما لا يليق بشأنه وَبالجملة هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم ما أحاط به حضرة علمه المحيط الْحَكِيمُ المدبر المتقن عموم أفعاله وآثاره على مقتضى علمه وإراداته بلا مدافعة احد ومظاهرته. جعلنا الله وإياكم ممن تحقق بوحدة ذاته سبحانه وانكشف بكمالات أسمائه وصفاته بمنه وجوده
خاتمة سورة الحشر
عليك ايها السالك المتحقق بمقر التوحيد المنكشف بوحدة الذات وبكمالات الأسماء والصفات الذاتية الإلهية مكنك الله في مقر عزك بلا تذبذب وتلوين ان تطالع آثار أسمائه الحسنى وصفاته العليا على صفائح الكائنات الغيبية والشهادية وتعتبر منها حسب استعدادك وقابليتك المودعة فيك من قبل الحق وإياك إياك ان تنحرف عن جادة العدالة الشرعية التي هي منتخبة عن العدالة الإلهية الواقعة بين مقتضيات أسمائه الذاتية وصفاته الفعلية ولك ان تطابق وتوافق عموم أعمالك واخلاقك واطوارك عليها بحيث لا تهمل شيأ من دقائقها ورقائقها إذ بقدر إهمالك من حدودها وأحكامها قد أحطت عن درجة التوحيد ومرتبة ارباب الوحدة الذاتية التي هي مرتبة الإنسان الكامل إذ الشريعة انما هي الوقاية الموضوعة بالوضع الإلهي بين الأنام ليوفقهم الحق بها الى دار السلام التي هي مقعد صدق الرضا والتسليم الذي هو أعلى مقامات العارفين وأقصى حالات الموحدين المكاشفين. هدانا الله وعموم عباده الى سواء السبيل وأعاذنا الله وإياهم عن الانحراف والتحويل بلطفه الجميل وكرمه الجزيل وهو حسبنا ونعم الوكيل
[سورة الممتحنة]
فاتحة سورة الممتحنة
لا يخفى على من تمكن بمقام التوحيد وانكشف بسرائر الوحدة الذاتية مقدار ما يسر الله له ووفقه عليه فضلا منه سبحانه وطولا ان من تقرر في مقر عز الوحدة لا بد ان يجتنب عن اصحاب الغفلة والكثرة المترددين في اودية الضلال بأنواع الحيرة والحسرة ويعيشون في بقعة الإمكان بأنواع الخيبة والخذلان فلا بد لأرباب التمكن والرسوخ من الموحدين المخلصين ان لا يصاحبوا معهم ولا يوالوهم موالاتهم مع الموحدين ولا يلتفتوا إليهم والى عموم أطوارهم وأحوالهم إذ عدوى البليد الى الجليد(2/404)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
سريعة ولوازم الإمكان مشتركة وغواشي البشرية سارية وطلسمات الطبيعة البهيمية والقوى البشرية سارقة لذلك اوصى سبحانه خلص عباده المؤمنين الموحدين بما اوصى في هذه السورة ونهاهم عما نهاهم في محبة الأعداء وموالاتهم معهم في السراء والضراء فقال مناديا لهم بعد التيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المصلح لأحوال عبادة في عموم الأحوال الرَّحْمنِ عليهم بحفظهم عن سوء الأخلاق والأعمال الرَّحِيمِ لهم يوقظهم عن منام الغفلة ويوصلهم الى فضاء الوصال
[الآيات]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى اتصافكم بالإيمان بالله وبوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته انه لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وهم الذين خرجوا عن عروة عبوديتي بإثبات الوجود لغيري وَعَدُوَّكُمْ إذ عداوتهم إياي مستلزمة بعداوتهم إياكم ايضا إذ صديق العدو عدو كعدو الصديق أَوْلِياءَ أحباء بحيث توالون أنتم معهم موالاتكم مع احبائكم من المؤمنين وتظهرون محبتهم ومودتهم بحيث تُلْقُونَ وترسلون إِلَيْهِمْ رسالة مشعرة بِالْمَوَدَّةِ الخالصة المنبئة عن افراط المحبة والإخاء وَالحال انه هم قَدْ كَفَرُوا واعرضوا وانصرفوا بِما جاءَكُمْ اى بعموم ما قد نزل على رسولكم مِنَ الْحَقِّ الحقيق بالاطاعة والاتباع وبالغوا في الاعراض والإنكار الى حيث يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ اصالة وَإِيَّاكُمْ تبعا من بينهم بواسطة أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة التوحيد والايمان وبقبولكم دين الإسلام من النبي المبعوث الى كافة الأنام ليرشدهم الى دار السلام وبالجملة إِنْ كُنْتُمْ ايها المؤمنون الموحدون خَرَجْتُمْ عن أوطانكم وبقاع إمكانكم جِهاداً اى لأجل الجهاد والقتال فِي سَبِيلِي اى لتقوية طريق توحيدي وترويج ديني وإعلاء كلمة توحيدي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي في امتثال امرى واطاعة حكمى فلزمكم ترك موالاة أعدائي والمواخاة معهم مع انكم أنتم قد تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ وتميلون نحوهم سرا وخفية بِالْمَوَدَّةِ ظنا منكم ان لا اطلع على ما في سرائركم وضمائركم من محبة الأعداء ومودتهم وَالحال انه أَنَا أَعْلَمُ منكم بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ اى بعموم ما تسرون وما تعلنون وَبالجملة مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ اى الاتخاذ المذكور فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ اى قد انحرف عن جادة العدالة الإلهية وانصرف عن الصراط المستقيم الموصل الى مقصد التوحيد وبالغ في الانحراف والانصراف واعلموا ايها المؤمنون انكم وان بالغتم في اظهار المحبة والمودة بالنسبة إليهم لا تنفعكم إذ هم بمكان من العداوة والخصومة بحيث
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ ويظفروا بكم بالفرض والتقدير يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً البتة بل يظهروا العداوة حينئذ وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ اى بالقتل والأسر وقطع العضو والشتم المفرط وانواع الوقاحة وَكيف لا وهم في أنفسهم دائما قد وَدُّوا وتمنوا لَوْ تَكْفُرُونَ أنتم وترتدون عن دينكم ونبيكم حتى تلتحقوا بهم وتتصفوا بكفرهم وبالجملة عليكم ايها المؤمنون ان لا تبالوا بأقاربكم وأرحامكم من الكفرة ولا تلتفتوا نحوهم إذ
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ لا اقرباؤكم وَلا أَوْلادُكُمْ الذين أنتم توالون المشركين لأجلهم وتوادون معهم من جهتهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة لتنقيد الأعمال الصادرة عن كل نفس من النفوس خيرة كانت او شريرة إذ الله يَفْصِلُ ويفرق بَيْنَكُمْ يومئذ ويميزكم عنهم فيجازى كلا منكم حسب ما كسب واقترف خيرا كان او شرا وَاللَّهُ المطلع على عموم افعال عباده بِما تَعْمَلُونَ من الحسنات والسيئات بَصِيرٌ يجازيكم عليه بمقتضى بصارته وخبرته ولا تستنكفوا عن حكم الله إياكم بقطع أرحامكم الكفرة وأقاربكم المشركين إذ
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ وقدوة حَسَنَةٌ(2/405)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
صالحة لائقة لان يؤتسى ويقتدى بها وقد كانت لكم تلك القدوة نازلة فِي شأن إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين المسترشدين منه المتدينين بدينه وقد كانوا يقولون بمقتضى تلك الأسوة الحسنة وقت إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ الذين هم أقاربهم وأرحامهم الكفرة وعبدة الأوثان إِنَّا بعد ما كوشفنا بوحدة الحق بُرَآؤُا مِنْكُمْ من انفسكم ومما ينتمى إليكم من ذوى ملتكم نحن بريئون عن مودتكم وخلطتكم مبرئون عن موانستكم ومواخاتكم مطلقا لانهماككم في الشرك والطغيان وَنحن ايضا برآء مِمَّا تَعْبُدُونَ وبعموم ما ترجعون نحوه في الخطوب والملمات مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والأوثان الباطلة العاطلة وبالجملة نحن قد كَفَرْنا بِكُمْ وبمعبوداتكم الباطلة العاطلة مطلقا وَبعد اليوم قد بَدا وظهر بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً لا نصالح ولا نواسى معكم أصلا إذ لا مناسبة بيننا وبينكم حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وتتبرءوا عن معبوداتكم الباطلة مطلقا مثل تبرئنا فعليكم ايها المؤمنون اليوم ان تأتسوا وتقتدوا لجميع ما قال ابراهيم عليه السلام ومن تبعه لقومهم فيما مضى إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ عليه السلام لِأَبِيهِ الكافر لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ من الله الغفور يا ابى وبالجملة اقتدوا ايها المؤمنون بعموم اطوار ابراهيم عليه السلام وأقواله سوى هذا القول لأبيه حال كونه معتذرا منه بقوله وَما أَمْلِكُ لَكَ اى ما اقدر وما ادفع منك يا ابى مِنْ غضب اللَّهِ المنتقم الغيور مِنْ شَيْءٍ قد نزل عليك من العذاب بمقتضى قهره وسخطه سبحانه سوى الاستغفار والشفاعة لأجلك ان قبل الملك الغفار منى وايضا انما صدر هذا القول من الخليل عليه السلام قبل ورود النهى له عن ودادة اهل الكفر او صدر عنه عليه السلام هذا القول انجازا لموعدة وعدها إياه وبعد ما أمرتم أنتم ايها المؤمنون الموحدون المحمديون بمحبة الله وبمحبة رسوله والذين آمنوا له وتدينوا بدينه ونهيتم عن مودة الأعداء وموالاتهم وعن مواساة أخلاقهم وأطوارهم قولوا مسترجين الى الله مناجين معه رَبَّنا يا من ربانا على فطرة التوحيد والإسلام عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا في كل الأمور بلا رؤية الوسائل والأسباب العادية في البين ثقة بك واعتمادا عليك وَإِلَيْكَ أَنَبْنا قد عدنا ورجعنا في الخطوب وعموم الملمات إليك لا الى غيرك من الأسباب العادية وَوبالجملة إِلَيْكَ الْمَصِيرُ اى مرجع كل الوسائل والأسباب إليك كما ان مصدره منك إذ لا موجود سواك ولا مقصد غيرك وبعد ما مكنتنا في مقر توحيدك يا
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا بان تسلطهم علينا فيفتنوا بنا ويصيبونا بعذاب لا طاقة بحمله وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا ما فرطنا بمقتضى بشريتنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام الْحَكِيمُ المتقن في تدبير مصالح العباد وفي عموم ما جرى عليهم في المعاش والمعاد. ثم بالغ سبحانه في توصية تلك التأسى والاقتداء بملة ابراهيم عليه السلام وقدوته فقال مؤكدا بالقسم والله
لَقَدْ كانَ لَكُمْ ايها المؤمنون فِيهِمْ اى في ملة ابراهيم وأخلاقه واخلاق من آمن له وتدين بدينه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وقدوة صالحة لان يؤتسى بها ويقتدى عليها لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ اى تحقق برضاه والتسليم بقضاه وَايضا يرجو الْيَوْمَ الْآخِرَ ليتمكن فيه عند مولاه ويصل بعموم ما أعد له ربه وهيأه وَمَنْ يَتَوَلَّ ويعرض عن الله ولم يؤمن بالوقوف بين يدي الله فلن يضر الله شيأ فَإِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء هُوَ الْغَنِيُّ المستغنى بذاته لا احتياج له الى رجاءات الراجين ومناجاتهم إياه الْحَمِيدُ حسب أسمائه وصفاته الكاملة الكائنة في ذاته بلا افتقار له الى حمد(2/406)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
الحامدين وشكر الشاكرين. ثم لما ورد النهى الإلهي على وجه المبالغة والتأكيد عن موالاة ذوى الأرحام والأقارب من الكفرة تبرأ المؤمنون عن أقاربهم وعشائرهم المشركين حتما وعادوا معهم ظاهرا الا انهم قد اضمروا في نفوسهم حزنا وتغمموا غما فوعد لهم سبحانه ايمان أقاربهم تسلية لهم وازالة لحزنهم فقال
عَسَى اللَّهُ المنعم المفضل أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ ايها المؤمنون وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً صادقة ومحبة خالصة جامعة بينكم وبينهم ألا وهي الإسلام المسقط لعموم الآثام والاجرام وَاللَّهُ المطلع على ما في استعدادات عباده قَدِيرٌ على ذلك الجمع المستلزم للمودة الخالصة والمحبة الحنيفية وَبالجملة اللَّهُ القادر المقتدر على عموم المقدورات غَفُورٌ لفرطاتكم التي صدرت عنكم ايها المكلفون رَحِيمٌ يقبل منكم توبتكم ويرحمكم بمقتضى سعة رحمته وجوده ثم لما تحرج المؤمنون عن موالاتهم مع اقربائهم الكفرة وذوى أرحامهم المشركين بحيث قد قدمت قبيلة بنت عبد العزى مشركة على بنتها اسماء بنت ابى بكر بهدايا فلم تأذنها بالدخول ولم تقبل منها هديتها فنزلت
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ العليم الحكيم عَنِ مخالطة المشركين الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ولم يأمر عليكم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتحسنوا إليهم وتميلوا نحوهم إذ لا سبب للنهى عن ودادة هؤلاء وَعليكم ان تُقْسِطُوا وتميلوا إِلَيْهِمْ بمقتضى القسط والعدل الإلهي الموضوع بينكم بالوضع الإلهي إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ المعتدلين في عموم الأحوال والأطوار سيما على ذوى القربى بل
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ العليم الحكيم عَنِ موالاة اقربائكم الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ يعنى مكة شرفها الله وَينهاكم ايضا عن موالاة أقاربكم الذين قد ظاهَرُوا أعانوا ونصروا عَلى إِخْراجِكُمْ منها وان لم يباشروا بجوارحهم لكن قد عاونوا على المباشرين المخرجين بالقول والمال وإيقاع الفتنة لذلك نهاكم سبحانه أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وتختلطوا معهم وتوالوهم اى مع المخرجين والمعاونين وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ منكم بعد ورود النهى فَأُولئِكَ المؤمنون الموالون معهم هُمُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى النهى الإلهي الوارد من لدنه سبحانه على وجه المبالغة والتأكيد فيستحقون الويل والعذاب الأليم بسبب خروجهم عن مقتضى النهى الإلهي. ثم قال سبحانه
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ المذعنات للايمان حال كونهن مُهاجِراتٍ من قبل الكفار فَامْتَحِنُوهُنَّ واختبروهن وانظروا نحوهن بنور الله المقتبس من نور الايمان متفرسين هل تجدون مواطئة قلوبهن بألسنتهن مع انه اللَّهُ المطلع على ما في قلوبهن أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ وبعد ما تفرستم فيهن فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ وظننتموهن مُؤْمِناتٍ مخلصات فَلا تَرْجِعُوهُنَّ ولا تردوهن إِلَى الْكُفَّارِ حتى لا يصرن مرتدات وبالجملة بعد ظهور الايمان منهن لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ اى الأزواج الكفار وَلا هُمْ اى الأزواج الكفار يَحِلُّونَ لَهُنَّ لاختلافهما في الدين وَبعد ما حفظتموهن وحكمتم عليهن بالإيمان ان جاء أزواجهن في طلبهن آتُوهُمْ واعطوهم اى أنتم ايها المؤمنون لأزواجهم ما أَنْفَقُوا أولئك الأزواج الكفار في حقهن من مهورهن وَبعد ما أتيتم وأعطيتم مهورهن لأزواجهن لا جُناحَ اى لا ضيق ولا حرج عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اى مهورهن مرة اخرى مثل مهور سائر المؤمنات يعنى لا تحسبوا عليهن ما أعطيتم لأزواجهن من المهور وَبعد ما ثبت انه لا رخصة لكم في دينكم لرد المؤمنات المهاجرات الى الكفار لا تُمْسِكُوا ولا تبقوا ايضا أنتم ايها المؤمنون(2/407)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
أزواجكم الكافرات بِعِصَمِ الْكَوافِرِ اى لا تقيموا ولا تديموا عقود أزواجكم الكافرات الملحقات الى الكفار بل خلوا سبيلهن وطلقوهن وَسْئَلُوا منهن ما أَنْفَقْتُمْ لهن من المهور بعد ما لحقن بالكفار وَلْيَسْئَلُوا اى الكفار ايضا ما أَنْفَقُوا من المهور لأزواجهم المؤمنات المهاجرات الملحقات بكم منكم ايها المؤمنون ذلِكُمْ اى جميع ما ذكر في هذه الآية حُكْمُ اللَّهِ المدبر لمصالحكم يَحْكُمُ بهذا الحكم بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يحكم بما يقتضيه علمه وحكمته
وَإِنْ فاتَكُمْ ايها المؤمنون شَيْءٌ مِنْ مهور أَزْواجِكُمْ بعد ما لحقن إِلَى الْكُفَّارِ ولم يؤدوا جميع مهورهن إليكم فَعاقَبْتُمْ بعد ذلك وغلبتم على الكفار المتمردين عن الأداء وأخذتم الغنائم منهم فآتوا واعطوا ايها الحكام المؤمنون قبل قسمة الغنائم ما بقي من حقوق المؤمنين الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ الى الكفار مِثْلَ ما أَنْفَقُوا في مهور أزواجهم الكافرات الملحقات الى الكفار وَاتَّقُوا ايها الحكام المؤمنون اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ولا تضيعوا حق أخيكم المؤمن. ثم قال سبحانه مناديا لنبيه على سبيل الإرشاد والتعليم
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ويعاهدن معك ويقبلن منك مطلق الحقوق والحدود المعتبرة في الشرع سيما عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ الواحد الأحد الصمد المنزه عن الشريك والولد شَيْئاً من الإشراك وَلا يَسْرِقْنَ من حرز انسان ماله وَلا يَزْنِينَ سواء كن محصنات او غير محصنات وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ كاسقاط الجنين ووأد البنات وغيرهما وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ يعنى لا تأتى المرأة بشيء فاحش بحيث تقذف بولدها بانه ليس من زوجها بسبب ذلك الشيء الذي صدر عنها وبهت الناس بسببه ووقعوا في الافتراء لأجله وَبالجملة يبايعنك على ان لا يَعْصِينَكَ يا أكمل الرسل فِي مَعْرُوفٍ قد استحسنه العقل والشرع تأمرهن به إصلاحا لهن وإذا بايعن معك على ترك هذه الخصائل المذمومة فَبايِعْهُنَّ ايضا وعاهد معهن وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ الغفور الرحيم بما صدر منهن قبل البيعة إِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في نياتهن من الإخلاص غَفُورٌ يغفرهن بعد ما اخلصن في الانابة رَحِيمٌ يقبل توبتهن. ثم لما واصل بعض فقراء المسلمين اليهود لينتفعوا من ثمارهم نزلت
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ترك مواصلة اليهود ومصاحبتهم لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً قد غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بمقتضى قهره وجلاله يعنى عامة الكفرة والمشركين إذ هم قَدْ يَئِسُوا
وقنطوا مِنَ الْآخِرَةِ مطلقا لذلك لم يؤمنوا بها وبما فيها من المواعيد والوعيدات الهائلة كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ يعنى مثل يأسهم من البعث واحوال الآخرة كيأسهم من حياة اصحاب القبور وخروجهم عنها احياء فعليكم ان لا تصاحبوا معهم ان كنتم مؤمنين مصدقين بها جعلنا الله من المصدقين الموقنين بيوم الدين وبعموم ما فيه
خاتمة سورة الممتحنة
عليك ايها الموحد المحمدي مكنك الله في مقر عز التوحيد واليقين وحفظك الله عن طريان التردد والتلوين ان لا تصاحب اهل الغفلة واصحاب الجهالات المنهمكين في بحار الأوهام والخيالات المورثة لهم من مقتضيات الإمكان المستلزم لانواع الخذلان فلك ان تلازم زاوية الخمول بالعفاف قانعا من الدنيا بالكفاف مجتنبا عن مخايل اصحاب الجزاف متوكلا على الصمد المعين متوجها نحوه في كل تحريك وتسكين راضيا بعموم ما جرى عليك من القضاء مطمئنا بما وصل إليك من الآلاء والنعماء شاكرا(2/408)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
لنعم الله في السراء والضراء مقتصدا بين الخوف والرجاء مفوضا عموم أمورك الى المولى متعطشا في جميع احوالك الى شرف اللقاء وما هذا الا التقوى والوصول الى الجنة المأوى وسدرة المنتهى. رزقنا الله وعموم عباده الوصول إليها والتحقق دونها بمنه وجوده
[سورة الصف]
فاتحة سورة الصف
لا يخفى على من تحقق بمرتبة اليقين الحقي وتمكن عليها بعد ترقيه عن اليقين العلمي والعيني وخلص عن مطلق التلوين والتخمين وخاض في لجة بحر الوجود متصفا بأنواع الكشف والشهود وروى عن الحوض المورود ووصل الى المقام المحمود ان جميع ما صدر من أمثال هؤلاء الواصلين من الأعمال والأقوال وعموم المعاملات والأحوال انما هو على مقتضى الاعتدال مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط إذ الواصلون انما هو المتخلقون بأخلاق الله المتصفون بأوصافه المعتدلة وأسمائه الغير المتبدلة والمؤمنون المخلصون لا بد وان يكون عموم مقاصدهم منتهيا الى الوصول بالوحدة الحقيقة الحقية والتحقق بالتخلق بعموم الأوصاف الذاتية بل توجه جميع المظاهر وتسبيحهم وتحننهم لأجل هذا المطلب الأعلى والمقصد الأقصى حقيقة ولكن لا يفقهون تسبيحهم الا قليلا لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بتوجه عموم مظاهره نحوه طوعا ثم نادى المؤمنين بما نادى إرشادا لهم وإصلاحا لحالهم فقال بعد ما تيمن باسمه العزيز بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على ما تجلى بمقتضى العدالة الرَّحْمنِ عليهم بوضع الميزان الموصل لهم الى دار السلام الرَّحِيمِ يوصلهم الى فضاء الوجوب بعد انخلاعهم عن لوازم الإمكان قد
[الآيات]
سَبَّحَ لِلَّهِ وتوجه نحوه بكمال التقديس والتنزيه عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ اى فواعل العلويات وَما ظهر فِي الْأَرْضِ اى قوابل السفليات وَكذا المركبات والممتزجات الكائنة بينهما وكيف لا يتوجه نحوه عموم الموجودات إذ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على مطلق المرادات والمقدورات الْحَكِيمُ المتقن في جميع التقديرات والتدبيرات. ثم لما عاهد المسلمون مع الله عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا لو علمنا أحب الأعمال الى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فنزل ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله الآية فولوا يوم احد مدبرين منهزمين ولم يوفوا بعهدهم فنزلت
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الوفاء بالعهود لِمَ تَقُولُونَ وقت المعاهدة والميثاق مع الله ما لا تَفْعَلُونَ ولا توفونه وقت الوفاء واللقاء واعلموا ايها المؤمنون انه قد
كَبُرَ مَقْتاً وعظم جريمة وذنبا عِنْدَ اللَّهِ المنتقم الغيور أَنْ تَقُولُوا وتعاهدوا معه سبحانه ما لا تَفْعَلُونَ في وقته ولا تنجزون المعهود والموعود وكيف لا
إِنَّ اللَّهَ المفضل العليم الحكيم يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ لترويج دينه وإعلاء كلمة توحيده صَفًّا مصطفين متظاهرين متعاونين كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ منضد محكم مضموم بعضها مع بعض بحيث لا فرج فيها ولا شقوق ثم اعلموا ان عدم وفائكم بالعهود لا ينقص شيأ من عظمة الله كما ان وفاءكم بها لا تزيد فيها لكن نقضكم الميثاق يؤذى النبي وإيذاء النبي مستلزم لإيذاء الله وهو يستلزم بغضه سبحانه وأذاه ومقته وغضبه على المؤذى
وَاذكر يا أكمل الرسل للمناقضين قصة تأذى أخيك موسى الكليم صلوات الله عليه من قومه وقت إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ حين رموه بالبغية وعيروه بالادرة يا قَوْمِ ناداهم وأضافهم الى نفسه على مقتضى ملاينة ارباب الرسالة مع أممهم لينزجروا عن سوء الأدب لِمَ تُؤْذُونَنِي بأمثال(2/409)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
هذه المفتريات الباطلة البعيدة بمراحل عن الصدق وَالحال انه قَدْ تَعْلَمُونَ أنتم يقينا بما جئت به من المعجزات الساطعة الدالة على صدقى في دعواي أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ المرسل من عنده بمقتضى وحيه إِلَيْكُمْ لأرشدكم الى سبيل الهداية الموصل الى معرفة الحق وتوحيده ومقتضى علمكم هذا ان لا تؤذوننى فلم تؤذوننى فَلَمَّا زاغُوا ومالوا عن الحق وانصرفوا عن مقتضى الفطرة الاصلية أَزاغَ اللَّهُ المقلب للقلوب قُلُوبَهُمْ وصرفها عن قبول الحق والميل اليه فانحرفوا نحو الباطل فضلوا عن سواء السبيل واستحقوا الويل العظيم والعذاب الأليم وَبالجملة اللَّهِ العليم الحكيم لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى الفطرة الاصلية التي هي التحقق بمقام المعرفة والتوحيد
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل ايضا وقت إِذْ قالَ أخوك عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مناديا لقومه يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ قد أرسلني نحوكم لأرشدكم الى طريقه وصراط توحيده ولأكون انا في نفسي مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ المنزل من عنده سبحانه لضبط ظواهر الاحكام والأخلاق المستتبعة لتهذيب الباطن عن مطلق الزيغ والضلال المنافى لصفاء مشرب التوحيد وَمُبَشِّراً ايضا أبشركم بِرَسُولٍ اى ببعثة رسول كامل في الرسالة متمم لمكارم الأخلاق يَأْتِي مِنْ بَعْدِي مظهرا للتوحيد الذاتي خاتما لأمر النبوة والرسالة والتشريع اسْمُهُ أَحْمَدُ سمى به صلّى الله عليه وسلم لكون حمده أتم واشمل من حمد سائر الأنبياء والرسل إذ محامدهم لله انما هو بمقتضى توحيد الصفات والأفعال وحمده صلّى الله عليه وسلّم انما هو بحسب توحيد الذات المستوعب لتوحيد الصفات والأفعال وبعد ما اظهر عيسى صلوات الله عليه وسلامه دعوته طالبوه بالبينة الدالة على صدقه فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات الساطعة التي هي اكبر من معجزات موسى عليه السلام ورأوا منه الخوارق التي ما اظهر مثلها من سائر الأنبياء بادروا الى تكذيبه مكابرة وعنادا حيث قالُوا هذا اى عيسى او ما جاء به من المعجزات سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر كونه سحرا او كامل في السحر الى حيث كأنه قد تجسم منه وليس تكذيبهم إياه صلوات الله عليه سيما بعد وضوح البرهان ونسبته الى شيء لا يليق بشأنه الا خروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة لأداء العبودية
وَمَنْ أَظْلَمُ وأشد خروجا عن مقتضى الحدود الإلهية مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الحكيم المتقن في أفعاله الْكَذِبَ ونسب ما أنزله سبحانه من المعجزات الدالة على صدق رسوله المؤيد من عنده بالنفس القدسية المبعوث الى الناس ليرشدهم الى طريق توحيده وَالحال انه هُوَ اى المفترى الظالم يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ المتقدس عن جميع الآثام لو قبله وصدقه وامتثل بما فيه من الأوامر والنواهي وهو من غاية عتوه وعناده في موضع الاجابة ومحل القبول يرده ويكذبه وينسب معجزات الداعي الى السحر والشعبذة مراء وافتراء عدوانا وظلما وَبالجملة اللَّهِ المطلع على ما في استعدادات عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الفطرة الاصلية الإلهية التي قد فطر الناس عليها ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون لذلك يخرجون وبالجملة ليس غرضهم عن هذا الافتراء والتكذيب بعد ثبوت الحجج والبراهين القاطعة الا انهم
يُرِيدُونَ بفتنتهم هذه لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المتشعشع نوره من مطالع عموم الكائنات ومشارق جميع الذرات ألا وهو دين الإسلام المنزل على خير الأنام ليبين لهم توحيد الذات بِأَفْواهِهِمْ اى بمجرد قولهم الباطل الرهق الزائل بلا مستند عقل(2/410)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
او نقلي فكيف عن كشفى وشهودي وَاللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء مُتِمُّ نُورِهِ مبالغ في اشاعة شرعه واذاعة دينه واشراقه غايتها وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ظهوره وشيوعه ارغاما لهم وإذلالا وكيف لا يتم سبحانه شيوع نور وحدته الذاتية مع انه
هُوَ سبحانه المدبر الحكيم الَّذِي قد أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلّم لمصلحة هذا التتميم والتكميل وأيده بِالْهُدى والقرآن العظيم وَدِينِ الْحَقِّ القويم والملة الحنيفية السمحة البيضاء الموروثة له من جده ابراهيم الخليل الجليل صلوات الله عليهما وعلى اخوانهما من النبيين والصديقين والصالحين وانما أيده لِيُظْهِرَهُ ويغلبه اى الدين القويم المبين لصراط الحق وطريق توحيده الذاتي عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ اى على عموم الملل والأديان الواردة لبيان توحيد الصفات والأفعال وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ظهور توحيد الحق على هذا الوجه لما فيه من قطع عرق الشرك مطلقا عن أصله جليا كان او خفيا. ثم قال سبحانه بعد ما أشار الى ظهور دين الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد حثا على المؤمنين وترغيبا لهم الى ترويج الدين القويم الذي هو الصراط المستقيم الموصل الى مرتبة حق اليقين
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ كأنه قيل ما التجارة المنقذة المنجية قال سبحانه لبيانه
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع اعداء الله سيما مع أعدى عدوكم الذي هو جنود امارتكم لترويج دينه وإعلاء كلمة توحيده بِأَمْوالِكُمْ اى ببذلها في الخطوب والملمات وَأَنْفُسِكُمْ بالاقتحام على الحروب في المقاتلات ذلِكُمْ الذي ذكر من الايمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ ونفعه عائد إليكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما هو أصلح لكم وانفع في نشأتكم الاولى والاخرى وان تؤمنوا بالله وتصدقوا رسله وتجاهدوا في سبيله
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ التي صدرت عنكم قبل ذلكم وَبعد ما غفر سبحانه ذنوبكم يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الحياة التي هي حضرة العلم المحيط الإلهي وَمَساكِنَ طَيِّبَةً من الحالات والمقامات السنية والدرجات العلية فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ التي هي المعرفة واليقين مصونة عن شوب الشك وريب التخمين ذلِكَ الستر والإدخال هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم على ارباب المعرفة واليقين من الله العزيز العليم
وَلكم ايضا ايها المعتبرون المجاهدون في ترويج دين الحق عنده سبحانه نعمة أُخْرى من النعم التي تُحِبُّونَها أنتم ألا وهي نَصْرٌ نازل مِنَ اللَّهِ العزيز الحكيم عليكم بحيث يغلبكم على عموم أعدائكم وَفَتْحٌ قَرِيبٌ في العاجل وَبالجملة بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ المجاهدين يا أكمل الرسل بأنواع البشارة الدنيوية والاخروية. ثم قال سبحانه
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم نصرة دين الله وتقوية رسوله كُونُوا بأموالكم وانفسكم أَنْصارَ اللَّهِ وأنصار رسول الله وقولوا في مقابلة النبي عليه السلام كما قال الحواريون في مقابلة عيسى عليه السلام وحكاه الله عنهم بقوله كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مختبرا إخلاصهم واختصاصهم ومحبتهم ونهاية مرتبتهم في اليقين ودرجتهم في أعلى عليين مَنْ أَنْصارِي وأعواني في توجهي إِلَى اللَّهِ والى انتشار توحيده بين اظلاله المستمدين من اظلال أوصافه وأسمائه وبعد ما سمعوا قالَ الْحَوارِيُّونَ من كمال انكشافهم بالله وبتوحيده ومن تحققهم في مقام الشهود وتمكنهم فيه نَحْنُ الفانون في الله الباقون ببقائه المستغرقون بمطالعة لقائه أَنْصارَ اللَّهِ واحباؤه إذ لا مرجع لنا سواه ولا مقصد الا إياه والحواريون(2/411)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
هم أول من آمن بعيسى عليه السلام من الحور وهو البياض وهم اثنا عشر سموا به لصفاء عقائدهم عن التردد والتلوين وبعد ما اظهر عيسى عليه السلام دعوته بين الأنام فَآمَنَتْ به عليه السلام طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ به عليه السلام طائِفَةٌ اخرى منهم وبعد وقوع الخلاف والاختلاف فَأَيَّدْنَا وغلبنا الطائفة الَّذِينَ آمَنُوا منهم عَلى عَدُوِّهِمْ يعنى الطائفة الذين كفروا به عليه السلام فَأَصْبَحُوا وصاروا اى الطائفة المؤمنون ظاهِرِينَ غالبين على الطائفة الكفرة بالحراب والزام الحجة ألا ان حزب الله هم الغالبون
خاتمة سورة الصف
عليك ايها الموحد المحمدي المنجذب نحو الحق المنخرط في سلك ارباب التوحيد الملقبين بأنصار الله المهاجرين عن كورة بقعة الناسوت نحو مدينة الوحدة اللاهوتية وسواد أعظم الفقراء اعانك الله الى ان تصل أقصى مرامك وأعلى مطلبك ومقامك ان تجمع همك وتشمر ذيلك لسلوك سبيل الفناء من طريق الموت الإرادي المثمر للفناء المطلق عن الفناء ايضا لتفوز بالبقاء الأزلي السرمدي ألا وهي طريقة الحضرة الختمية المحمدية المبعوث الى كافة البرية لبيان طريق التوحيد الذاتي المسقط بجميع الكثرات والإضافات مطلقا فلك ان تصفى سرك وضميرك عن نقوش مطلق المعتقدات وصور عموم الرسوم والعادات المنافية لصرافة الوحدة الذاتية وتقتفى اثر نبيك صلّى الله عليه وسلّم أمثال الحواريين اثر نبيهم عليه السلام بلا شوب شك وريب وتقليد وتخمين لينكشف لك طريق المعرفة واليقين بعد توفيق الله وجذب من جانبه وطول خدمته الشريفة النبوية والنواميس المصطفوية وإياك إياك الالتفات الى الدنيا الدنية وما فيها من اللذات البهية البهيمية ليمكن لك التصفية والتخلية التي هي مقدمة الكشف والشهود. هدانا الله الى سبيل توحيده بمنه وجوده
[سورة الجمعة]
فاتحة سورة الجمعة
لا يخفى على من انكشف له سرائر مرتبتي النبوة والولاية المنشعبتين عن حضرة العلم ولوح قضائه المشتمل على عموم ما كان ويكون وقلم تقديره المصور لنقوش عموم العكوس والاظلال الظاهرة على مرآة العدم حسب الارادة الكاملة والحكمة البالغة الباهرة الإلهية المقتضية لها ان ظهور هاتين المرتبتين انما هو بالوهب الإلهي وبمقتضى الفضل والعطاء بلا وسائل الاكتساب بالآلات والأسباب على مقتضى جرى العادة في تحصيل العلوم الرسمية الحاصلة باستعمال القوى المدركة الانسانية لذلك اخبر سبحانه عن كمال قدرته على بعث الرسول الأمي الأكمل من جميع الرسل على الأميين بلا وسائل الإملاء والإنشاء وختم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم امر الإرشاد والتكميل الذي هو المقصود الأصلي من مرتبة النبوة والرسالة. فقال سبحانه بعد ما نبه على اهل التوحيد برجوع عموم الكائنات نحوه سبحانه بكمال التسبيح والتقديس عما لا يليق بشأنه بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي اظهر جميع الأشياء بكمال قدرته من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة الرَّحْمنِ على عموم الأكوان ببعث الرسل من نوع الإنسان المصور بصورة الرحمن الرَّحِيمِ لهم يهديهم الى روض الجنان ويشوقهم بلقاء الحنان المنان لذلك
[الآيات]
يُسَبِّحُ ويقدس لِلَّهِ الواحد الأحد المنزه عن مطلق التعدد والتحديد مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ(2/412)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
تسبيحا مقرونا بكمال التذلل والخضوع الْمَلِكِ المتسلط بالاستيلاء التام والسلطنة القاهرة الغالبة على مملكة الوجود الْقُدُّوسِ المطهر المنزه ذاته عن سمة الحدوث ووصمة الإمكان الْعَزِيزِ الغالب على عموم المقدورات بكمال الاستيلاء والاستقلال الْحَكِيمِ المتقن في مطلق التدابير الجارية في عالم التصاوير بلا فتور وقصور
هُوَ الَّذِي بَعَثَ حسب قدرته الكاملة وحكمته البالغة فِي الْأُمِّيِّينَ المنسلخين عن مطلق الإملاء والإنشاء المشعر بالتدبر والتفكر بمقتضى العقل الفطري الموهوب لهم من لدن حكيم عليم رَسُولًا اميا أمثالهم منتشأ مِنْهُمْ وأيده بروح القدس بعد ما صفاه عن دنس الجهل واصطفاه من بين الملل وفضله على عموم ارباب النحل وكمله في المعارف والحقائق الإلهية بحيث يَتْلُوا عَلَيْهِمْ عموم آياتِهِ الدالة على وحدة ذاته وعلى كمالات أسمائه وصفاته وَيُزَكِّيهِمْ عن مطلق النقائض والآثام المنافية لدين الإسلام المبين للتوحيد الذاتي وَبالجملة يُعَلِّمُهُمُ بمقتضى الوحى الإلهي الْكِتابَ اى القرآن الجامع لما في الكتب السالفة من الحكم والاحكام على ابلغ بيان وأبدع نظام وَالْحِكْمَةَ اى الاحكام الشرعية المنتشئة من الحكمة المتقنة الإلهية المنزلة من عند الحكيم العلام وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ اى وانهم قد كانوا قبل بعثته صلّى الله عليه وسلم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية ظاهرة لأنهم كانوا على فترة من الرسل
وَلم يختص بعثته صلّى الله عليه وسلّم بالأميين من الاعراب الموجودين عند مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بل تعم آخَرِينَ مِنْهُمْ اى عموم المكلفين لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ حين يتبعون بالأولين هكذا واقتفوا أثرهم الى يوم القيامة إذ قد ختم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم امر البعثة وكمل عند ظهوره صلّى الله عليه وسلم بنيان الدين القويم الذي هو صراط التوحيد الذاتي وَهُوَ سبحانه الْعَزِيزُ الغالب على عموم التقادير الْحَكِيمُ المطلق في جميع الأفعال والتدابير
ذلِكَ اى التوحيد الذاتي الذي ظهر به صلّى الله عليه وسلّم رحمة للعالمين فَضْلُ اللَّهِ العزيز الحكيم يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده بلا سبق الوسائل والأسباب العادية وَبالجملة اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي لا يكتنه وصف فضله وطوله أصلا. ثم قال سبحانه تعريضا على الكفرة المنكرين لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم مع انه قد ورد في كتبهم المنزلة عليهم حليته صلّى الله عليه وسلّم وهم مؤمنون بها مصدقون بجميع ما فيها سوى بعثته صلّى الله عليه وسلّم وما جاء فيها من أوصافه صلّى الله عليه وسلّم الدالة على علو شأنه ورفعة قدره ومكانه وبالجملة
مَثَلُ القوم الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ اى علموها وكلفوا بما فيها من الأوامر والنواهي ومطلق الاحكام والمعتقدات المذكورة فيها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ولم ينتفعوا بها ولم يصدقوا بما فيها سيما نعوت الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية مثلهم في حمل التوراة وعدم امتثالهم بما فيها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً كتبا من العلم يجهلها ويتعب بثقلها ولا ينتفع بها أصلا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على عظمة ذاته ومتانة حكمه وحكمته في عموم مأموراته ومنهياته وَبالجملة اللَّهِ العليم الحكيم المتقن في عموم أفعاله لا يَهْدِي الى توحيده الذاتي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن عروة عبوديته بمتابعة شياطين اماراته
قُلْ يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام نيابة عنا لليهود الذين يدعون محبته وولايته بقولهم نحن اولياء الله واحباؤه مناديا لهم متهكما معهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا وتهودوا إِنْ زَعَمْتُمْ وظننتم أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ(2/413)
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ
المقرب لكم الى الله إذ الانتقال من دار الغرور الى دار السرور يقرب العباد الى الرحيم الغفور إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى المحبة والولاية فتمنوه
وَالله يا أكمل الرسل لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً اى لا يتمنى احد منهم الموت أصلا وما سبب اعراضهم وانصرافهم عن الموت المقرب منه تعالى الا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ اى بشؤم ما قدموا واقترفوا بأنفسهم من الكفر والعصيان وانواع الفسوق والطغيان وَبالجملة اللَّهُ المطلع بما في استعدادات عباده عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ منهم وبما في ضمائرهم من محبة الحياة والقساوة المفرطة يجازيهم على مقتضى علمه
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد اعرضوا عن تمنى الموت وابتغائه طلبا لمرضاة الله وشوقا اليه سبحانه ايضا على وجه التبكيت والإلزام إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ وتخافون ان تمنوه بألسنتكم مخافة ان لا يلحقكم بل تفرون عن مجرد التلفظ به فكيف عن لحوقه فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ وملاصقكم ولاحق بكم حتما إذ كل نفس ذائقة كأس الموت وكل حي بالحياة لا بد وان يموت سوى الحي الحقيقي الذي لا يموت ولا يفوت ثُمَّ بعد ما تموتون تُرَدُّونَ تحشرون وتساقون نحو المحشر وتعرضون إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بعلمه الحضوري يعنى بما صدر منكم وما خفى في ضمائركم ونياتكم فَيُنَبِّئُكُمْ ويخبركم يومئذ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير وشر فيجازيكم عليه. ثم لما تهاون المسلمون في امر الجمعة وتكاسلوا في الاجتماع قبل الصلاة بل انفضوا وانصرفوا عن الجامع حين خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما سمعوا صدا الملاهي المعهودة لمجيء العير على ما هو عادتهم دائما عاتبهم الله سبحانه وانزل عليهم الآية وناداهم نداء عتاب وخطاب حيث قال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم المبادرة الى مطلق الطاعات والعبادات سيما إِذا نُودِيَ واذن لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ اى في يوم الجمعة الا وهو الأذان المعهود قبيل الخطبة فَاسْعَوْا مجيبين مسرعين إِلى سماع ذِكْرِ اللَّهِ في الخطبة والتذكيرات الواردة فيها وَذَرُوا الْبَيْعَ واتركوا المبايعة بعد سماع الأذان ذلِكُمْ اى ترك البيع والسعى نحو المسجد والانصراف اليه خَيْرٌ لَكُمْ وانفع في عقباكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صلاحكم وفسادكم في اولاكم واخراكم
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ المكتوبة لكم يوم الجمعة مع الامام وأديت على وجهها فَانْتَشِرُوا فِي اقطار الْأَرْضِ وَابْتَغُوا واطلبوا حوائجكم مِنْ فَضْلِ اللَّهِ المنعم المتفضل يعطكموها حسب إحسانه وسعة جوده وانعامه وَاذْكُرُوا اللَّهَ ذكرا كَثِيراً في عموم أحوالكم وأعمالكم ولا تحصروا ولا تقصروا ذكره سبحانه في الصلاة المفروضة فقط بل اشتغلوا بذكره وشكره في عموم الأوقات والحالات بالقلب واللسان وسائر الجوارح والأركان إذ ما من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم الا قليلا وواظبوا عليه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بخير الدارين وصلاح النشأتين
وَهم من غاية حرصهم على مقتضيات القوى البهيمية بعد ما كانوا في الجامع والخطيب على المنبر إِذا رَأَوْا وسمعوا تِجارَةً حاضرة يدور الناس حولها أَوْ سمعوا لَهْواً طبلا مخبرا لهم عن مجيء العير انْفَضُّوا إِلَيْها اى مالوا وانصرفوا نحوها مسرعين فخرجوا من الجامع سوى اثنى عشر رجلا وامرأة وَتَرَكُوكَ يا أكمل الرسل قائِماً على المنبر وبالجملة ما هي الا ثلمة قد حدثت في الدين المبين موجبة مقتضية للتهاون باحكام الشرع المتين قُلْ لهم يا أكمل الرسل ازالة لها ولما يتفرع عليها ما عِنْدَ اللَّهِ من المثوبات الاخروية الموجبة للدرجات العلية والمقامات السنية خَيْرٌ لكم(2/414)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
وأصلح بحالكم وأعظم نفعا وأبقى فائدة مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ إذ لا نفع لهما عند اهل الحق وان فرض فهو متاه زائل عن قريب بخلاف الكرامة الاخروية فإنها تدوم ابدا وَان عللوا انفضاضهم وخروجهم بتحصيل الرزق الصوري قل لهم يا أكمل الرسل اللَّهِ المظهر لكم من كتم العدم المدبر المربى لأشباحكم بما ليس في وسعكم خَيْرُ الرَّازِقِينَ يرزقكم من حيث لا تحسبون ان توكلتم عليه مخلصين وفوضتم أموركم كلها اليه سبحانه واثقين بكرمه العميم وجوده العظيم
خاتمة سورة الجمعة
عليك ايها الموحد الخائض في لجج بحر الوجود المتحقق بمقام الكشف والشهود مكنك الله في مقر عز الوحدة وجنبك عن الزيغ والضلال ان تتوكل على الله وتتخذه وكيلا وتفوض أمورك كلها اليه وتجعله حسيبا وكفيلا فعليك ان لا تشتغل في آن وشأن ولا تغفل عنه في حين من الأحيان سيما في امر الرزق الصوري المقدر من عند الله المدبر الحكيم لكل من دخل في حيطة الوجود وظهر على صورة الموجود فانه يصل على من يصل حسب ارادة الله ومشيته وإياك إياك ان تطلبه وتعتقده بالتجارة او السؤال بل لك ان تستعمل آلاتك الموهوبة لك من الله العليم الحكيم الى ما قد جبلت لأجله لتكون من زمرة الشاكرين المتوكلين وبالجملة الرزق على الله ولا تكن من القانطين واعبد ربك واشكره على آلائه ونعمائه حتى يأتيك اليقين وكن في عموم احوالك من الشاكرين المتوكلين
[سورة المنافقين]
فاتحة سورة المنافقين
لا يخفى على من وصل الى مرتبة حق اليقين وتمكن في مقعد الصدق مع الموقنين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ان الكذب والافتراء والجدال والمراء الواقع بين اصحاب الضلال والآراء الفاسدة الحادثة في عالم الكون والفساد انما هو من عدم الوصول الى كعبة الوجود وقبلة الواجد والموجود ومن عدم التمكن والتحقق والرسوخ التام في مقام الرضاء والتسليم الحاصل من كمال المعرفة واليقين والا فلا يصدر من ارباب الوصول واليقين أمثال هذه الجرائم المنبئة عن النفاق والشقاق المستلزم للجهل والغفلة عن الله الظاهر المتجلى في الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق ولهذا اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما اخبر من اخبار اهل النفاق ونبهه على ما نبه عليه من ضلالهم فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي قد أحاط علمه بما لا يتناهى من المعلومات الرَّحْمنِ على عموم عباده بأمر المعروف ونهى المنكرات الرَّحِيمِ لهم يهديهم الى سبيل السلامة وطريق النجاة
[الآيات]
إِذا جاءَكَ يا أكمل الرسل الْمُنافِقُونَ على وجه الملاينة والخداع تغريرا لك ولمن تبعك من المؤمنين حيث قالُوا مبالغين في اظهار الايمان مؤكدين نَشْهَدُ نقر ونعترف عن محض الوداد وصميم الفؤاد إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ قد أرسلك الحق على الحق بالحق لتبيين الحق وَبعد ما قد أكدوا شهادتهم بأنواع التواكيد بالغوا ايضا في التأكيد لتشييد تغريرهم وتزويرهم حيث قالوا اللَّهِ المطلع على عموم السرائر والخفايا يَعْلَمُ ويشهد إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَبالجملة هم وان بالغوا في شهادتهم الكاذبة على سبيل التلبيس والتزوير اللَّهِ المطلع على ما في ضمائرهم من النفاق والشقاق(2/415)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
يَشْهَدُ حتما إِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على ما هم عليه من الكفر والإنكار لَكاذِبُونَ في شهادتهم المزورة الصادرة منهم على وجه المبالغة والتأكيد وبالجملة
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ المغلظة الحاصلة من شهادتهم المؤكدة بها جُنَّةً وجعلوها وقاية لأموالهم وأنفسهم فَصَدُّوا وصرفوا غزاة المسلمين بسبب ذلك الحلف الكاذب عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو قتالهم واسرهم ونهبهم وبالجملة إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الصد والنفاق والإصرار على الشقاق
ذلِكَ اى اجتراؤهم على تلك الشهادة على وجه المراء والنفاق وإصرارهم على الكفر والشقاق بِأَنَّهُمْ آمَنُوا اى بسبب انهم آمنوا أولا بالله ورسوله وأقروا بألسنتهم بما ليس في قلوبهم على وجه النفاق صونا لأموالهم ودمائهم ثُمَّ كَفَرُوا بعد ما أمنوا من مكر المؤمنين فَطُبِعَ الكفر حينئذ عَلى قُلُوبِهِمْ ورسخ فيها واستحكم وبعد الطبع والتمرن فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ولا يفهمون حقية الايمان ولذته وصحته ولا باطلية الكفر وفساده
وَبالجملة هم من غاية غفلتهم عن الله ونهاية عرائهم وخلوهم عن نور الايمان إِذا رَأَيْتَهُمْ يا أكمل الرسل تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ اى سمنها وضخامتها وَإِنْ يَقُولُوا ايضا كلاما تَسْمَعْ أنت لِقَوْلِهِمْ لفصاحتهم وحلاوة نظمهم الا انهم لخلوهم عن العلم اللدني والرشد الجبلي والصفاء الفطري الذاتي الذي هي عبارة عن نقود ارباب المحبة والولاء كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ يابسة فاقدة للقابلية الفطرية مُسَنَّدَةٌ على جواهر الجهل والبلادة ومع ذلك يَحْسَبُونَ يظنون ويترقبون من شدة شكيمتهم وغيظهم على المؤمنين كُلَّ صَيْحَةٍ واقعة عَلَيْهِمْ مسموعة لهم هُمُ الْعَدُوُّ يصيح عليهم ليهلكهم وبعد ما صار بغضهم مع المؤمنين ووهمهم ومخافتهم من العدو بهذه الحيثية فَاحْذَرْهُمْ يا أكمل الرسل واترك مصاحبتهم واحترز من غيلتهم وطغيانهم إذ الخائن الخائف ربما يصول بلا سبب وداع عليه وقل في شأنهم دعاء عليهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور أَنَّى يُؤْفَكُونَ وكيف يصرفون ومن اين ينحرفون عن الحق الصريح الى الباطل الغير الصحيح مع انه لا ضرورة تلجئهم اليه
وَمن شدة بغضهم وضغينتهم مع المؤمنين المخلصين إِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح تَعالَوْا هلموا ايها المسرفون المفرطون الى مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ويطلب المغفرة لكم من العفو الغفور لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وعطفوا أعناقهم عن القبول معتذرين باعذار كاذبة مخافة وصونا وَرَأَيْتَهُمْ ايها الرائي حينئذ في وجوههم التي هي عنوان بواطنهم وقلوبهم آثار الكفر والعناد ظاهرة لذلك يَصُدُّونَ ويعرضون عن المؤمنين مسرعين معتذرين وَهُمْ في أنفسهم مُسْتَكْبِرُونَ عن القبول والاعتذار وبالجملة
سَواءٌ عَلَيْهِمْ يا أكمل الرسل أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ من الله المنتقم الغيور أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ العليم الحكيم المتقن في عموم الأفعال ابدا إِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في استعدادات عباده لا يَهْدِي ولا يرشد الى جادة توحيده الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ منهم الخارجين عن مقتضى الحدود الاسلامية وكيف يهديهم ويغفر لهم سبحانه مع انهم
هُمُ القوم المسرفون الَّذِينَ يَقُولُونَ للأنصار من نهاية عداوتهم وبغضهم مع الرسول والمؤمنين لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يعنون فقراء المهاجرين حَتَّى يَنْفَضُّوا وينتشروا بعد ما اضطروا من حوله وَلم يعلموا هؤلاء الغفلة الضالون والجهلة الهالكون في تيه الجهل والعناد ان لِلَّهِ وفي قبضة قدرته وتحت ضبطه وملكته خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى الكنوز المكنونة المطوية في ضمن العلويات(2/416)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
والمدفونة المخزونة في السفليات وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على الكفر والعناد لا يَفْقَهُونَ كمال قدرة الله وسعة خزائن كرمه وجوده ومن نهاية غفلتهم عن الله وعداوتهم مع المؤمنين
يَقُولُونَ على سبيل التهور والتهديد لَئِنْ رَجَعْنا من سفرنا هذا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يريدون أنفسهم مِنْهَا اى المدينة الْأَذَلَّ يريدون المؤمنين وذلك ان أعرابيا من المهاجرين نازع أنصاريا في بعض الغزوات على ماء فضرب الأعرابي رأسه بخشبة فشكى الى ابن ابى وملائه فقالوا حينئذ لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وإذا رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وَلم يعلموا أولئك الغواة الطغاة الضالون في تيه العتو والعناد انه لِلَّهِ الْعِزَّةُ والقوة والغلبة اصالة وَلِرَسُولِهِ تبعا وَلِلْمُؤْمِنِينَ بمتابعة الرسول وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ عزته وعزة اهل الله لفرط جهلهم وغرورهم بأموالهم وأولادهم لذلك يحصرون العزة والقوة لأنفسهم. ثم قال سبحانه تسلية للمؤمنين مشتملة على نوع من التعريض والحث والترغيب
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تلتفتوا لعزة الدنيا ولا تغتروا بكثرة الأموال والأولاد فيها لا تُلْهِكُمْ ولا تشغلكم أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعن التوجه نحوه والركون اليه في مطلق الأحوال وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ والتفت الى مزخرفات الدنيا وشغل بها عن الله فَأُولئِكَ البعداء المشغولون بالخسيس الأدنى عن الشريف الأعلى هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الكلى والحرمان الحقيقي لاستبدالهم الباقي بالفاني والزاهق الزائل بالقار القديم
وَبعد ما سمعتم مآل أموالكم وما يتفرع عليها من الحرمان والخسران أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ وسقنا نحوكم من اموال الدنيا وزخارفها مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعنى أنفقوا قبل حلول الأجل وظهور امارات الموت وعلامات الفزع فَيَقُولَ المحتضر منكم حينئذ متحسرا متمنيا رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي وهلا أمهلتني يا رب إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وأمد غير بعيد فَأَصَّدَّقَ وأتصدق من مالي هذا على الوجه المأمور طلبا لمرضاتك وَبعد التصدق أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ المنفقين الممتثلين لأمرك المقبولين عندك يا ربي
وَاعلموا ايها المؤمنون يقينا انه لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ الحكيم العليم نَفْساً ولن يمهلها ابدا إِذا جاءَ أَجَلُها وحل ما قدر لها من الوقت الذي قدر فيه رد الامانة وكذا لن يقدمها عليه أصلا فعليكم التدارك والتلافي قبل حلول الأجل وَبالجملة اللَّهُ المراقب عليكم في عموم أحوالكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في ايام حياتكم من خير وشر فيجازيكم على مقتضى خبرته بلا فوت شيء من عملكم خيرا كان او شرا
خاتمة سورة المنافقين
عليك ايها المحمدي المنكشف برجوع العكوس والاظلال الظاهرة الحادثة الى ما منه بدت وظهرت ألا وهي شمس الوحدة الذاتية ان تعرف ان اظهار المظاهر وبسط الظل عليها وامتداده فيها انما هو بغتة بلا سبق مادة ومدة وآلة ومقدمة كذلك القبض والإخفاء انما يكون كذلك فلك ان تكون في مدة ظهورك على ذكر من ربك بحيث لا يشغلك عن ذكره شيء ساعة ولا تغفل عنه وعن التوجه نحوه لحظة وطرفة فإنك ما تدرى متى يحل الأجل فإذا حل لم يمكنك التدارك والتلافي. جعلنا الله من زمرة المستيقظين في عموم الأحوال بمنه وجوده(2/417)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
[سورة التغابن]
فاتحة سورة التغابن
لا يخفى على من تحقق بحيطة الحق وشمول أسمائه وصفاته على عموم المظاهر والمجالى ان رجوع عموم الكوائن والفواسد الغير المحصورة في فضاء الإمكان اليه سبحانه وتوجه الكل نحوه طوعا ورغبة إذ ما من موجود الأولة حب ذاتى وميل جبلي الى دوام نشأته التي هو عليها بمقتضى هويته ولا شك ان له نحوا من الشعور بحدوثه ومسبوقيته بالعدم فثبت ان له شعورا بفاعله المظهر لهويته فبمقتضى حبه نشأته يكون له رجوع الى مبدئه يستمد منه ويحمد له كما اخبر سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى فيما تجلى بمقتضى سعة رحمته وجوده الرَّحْمنِ على عموم المظاهر والأكوان بالامداد عليها في كل آن وشأن الرَّحِيمِ على نوع الإنسان حيث اطلعهم على سرائر توحيده وصورهم بصورته
[الآيات]
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ويقدس ذاته عن مطلق النقائص على وجه الإطلاق بعد ما لم يبلغ كنه أسمائه وصفاته ممن لا يعد ولا يحصى السنة ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من ذرائر عموم الأكوان وكيف لا يقدسه جميع الأعيان إذ لَهُ الْمُلْكُ والملكوت على سبيل الحصر والتخصيص لا مالك سواه ولا متصرف فيه ولا مستولى عليه الا هو وَلَهُ الْحَمْدُ ايضا كذلك إذ لا مستحق للحمد بالاستحقاق الا هو ولا مفيض للنعم على الآفاق غيره ولا مقدر للارزاق سواه وَبالجملة هُوَ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة جود وجوده قَدِيرٌ لا ينتهى قدرته عند مقدور وارادته دون مراد وكيف لا يكون سبحانه قديرا لعموم المقدورات ومريدا لجميع المرادات مع انه
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وأظهركم وقدر خلقكم من كتم العدم على وجه الإبداع والاختراع بلا سبق مادة ومدة وفصلكم بعد ما أظهركم فَمِنْكُمْ كافِرٌ ساتر للحق موفق عليه محجوب بغيوم هوياته الباطلة الامكانية عن شمس الحقيقة وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ موفق على الايمان مجبول على فطرة التوحيد والعرفان ميسر لها لذلك يصير إيمانه عيانا وعيانه حقا وبيانا وَبالجملة اللَّهُ المطلع على ما في استعدادات عباده بِما تَعْمَلُونَ من عموم الأعمال في جميع الشئون والأحوال بَصِيرٌ فيعامل معكم حسب أعمالكم واعلموا ايها المكلفون قد
خَلَقَ الله سبحانه واظهر بكمال قدرته السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ مظاهر ما في العلويات والسفليات ملتبسة بالحكمة المتقنة البالغة في الاحكام والإتقان جدا لا يبلغ كنهه احلام الأنام وبعد ما رتبها بحكمته على هذا النظام الأبلغ الابدع انتخب من مجموع الكائنات ما هو زبدته وخلاصته وَصَوَّرَكُمْ ايها المجبولون على فطرة التوحيد والتحقيق منها فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ إذ خلقكم على صورته قابلا لخلافته لائقا للتخلق بأخلاقه والاتصاف بصفوة أوصافه وجعل فطرتكم علة غائية مرتبة على عموم مظاهره ومصنوعاته وَكيف لا يصوركم بصورته ولا يحسن صوركم إذ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ اى مصير الكل نحوه ومرجعه لديه ومبدأه منه ومعاده اليه
يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات من الكمالات اللائقة للظهور والبروز وَكذا ما في الْأَرْضِ اى عموم ما في استعدادات قوابل الطبائع والأركان من الماديات والمجردات وَيَعْلَمُ ايضا ما تُسِرُّونَ ايها المكلفون وَما تُعْلِنُونَ مما تعملون من عموم الأعمال في جميع الشئون وَبالجملة اللَّهُ المحيط بالكل بمقتضى تجليه وظهوره(2/418)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
عليه المطلع على ما في استعدادات عباده عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ إذ لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عن حيطة علمه ذرة. ثم قال سبحانه توبيخا على من خرج عن ربقة عبوديته
أَلَمْ يَأْتِكُمْ ايها الكافرون المنكرون بظهور الحق وثبوته وتحققه في الأنفس والآفاق بالاستقلال والاستحقاق نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح وهود وصالح عليهم السلام فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ يعنى كيف ذاقوا ضرر كفرهم وشركهم من العذاب النازل عليهم في النشأة الاولى بعد ما أصروا على ما هم عليه ولم يهتدوا بإرشاد الأنبياء والرسل وَلَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ أَلِيمٌ لا عذاب أشد ايلاما من ذلك ألا وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول الإلهي
ذلِكَ الويل والوبال عليهم في النشأة الاولى والاخرى بِأَنَّهُ اى بسبب ان الشأن والأمر فيما بينهم هكذا قد كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ مؤيدين من عند الله بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات الباهرة اللائحة فَقالُوا بعد ما عجزوا عن معارضة معجزاتهم الساطعة وحججهم القاطعة على سبيل التعجب والإنكار أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا كلا وحاشا ان يكون بشر هاديا للبشر وبالجملة فَكَفَرُوا بالرسل والمرسل والمرسل به جميعا وَتَوَلَّوْا واعرضوا مستنكفين عن التدبر والتفكر في الحجج والبينات وَالحال انه قد اسْتَغْنَى اللَّهُ عن كل شيء فضلا عن هدايتهم وطاعتهم وَاللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء غَنِيٌّ في ذاته عن مطلق مظاهره ومصنوعاته فكيف عن عبادتهم واطاعتهم حَمِيدٌ أوصافه وأسماؤه مستغن عن حمد عموم الحامدين ومن كمال جهلهم بالله وإصرارهم على انكار قدرة الله بعموم المقدورات
زَعَمَ بل ادعى العلم واليقين المسرفون المعاندون الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا قدرته سبحانه على الحشر والنشر أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا من قبورهم ولن يحشروا الى المحشر للحساب والجزاء وأصروا على هذا الزعم الفاسد والجهل الظاهر بل اعتقدوه حقا وتخيلوه صدقا مكابرة وعنادا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في انكار البعث بَلى تبعثون أنتم ايها المنكرون الجاحدون وَحق رَبِّي الذي رباني قابلا لوحيه والهامه وجعلني مهبطا لعموم أحكامه المنزلة من عنده لَتُبْعَثُنَّ أنتم البتة ثُمَّ بعد البعث والحشر لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ اى بعموم ما اقترفتم في النشأة الاولى ولتحاسبن عليه ولتجازون بمقتضاه بحيث لا يشذ شيء منه وَذلِكَ التفصيل والإحصاء عَلَى اللَّهِ العليم البصير يَسِيرٌ وان كان عندكم صعبا عسيرا وبعد ما سمعتم ما سمعتم من كمال قدرة الله واحاطة علمه وخبرته
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ المستخلف منه وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا معه تأييدا له وتبيينا لدينه يعنى القرآن الفارق بين الحق والباطل وَاللَّهُ المطلع على ما في استعداداتكم بِما تَعْمَلُونَ بمقتضى القرآن وتمتثلون بأوامره ونواهيه وبما تذبون عنه او تعرضون عن قبوله منكرين لما فيه من الأوامر والنواهي والعبر والاحكام والمعارف والحقائق والرموز والإشارات خَبِيرٌ يجازيكم على مقتضى خبرته اذكروا ايها المكلفون
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ الله العليم القدير لِيَوْمِ الْجَمْعِ والحشر لأجل الحساب والجزاء إذ يجتمع فيه الملائكة والثقلان ايضا اعلموا انه ذلِكَ اليوم يَوْمُ التَّغابُنِ اى يوم ظهور الخسران والغرور الواقع في نشأة الاختبار والابتلاء وَبالجملة مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويقر بوحدانيته سبحانه وَيَعْمَلْ عملا صالِحاً ليزيد به الايمان حتى يصير علمه عيانا وعيانه حقا وبيانا يُكَفِّرْ عَنْهُ سبحانه سَيِّئاتِهِ ويمحها عن صحيفة اعماله وَيُدْخِلْهُ حسب فضله ولطفه جَنَّاتٍ متنزهات(2/419)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة بمياه المعارف والحقائق المترشحة من بحر الحياة الأزلي الأبدي بحيث لا يتحولون من التلذذ بها والتحقق دونها أصلا بل يصيرون خالِدِينَ فِيها أَبَداً وبالجملة ذلِكَ التكفير والإدخال لأرباب العناية والإفضال هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطف الجسيم لا فوز أعظم منه وأكمل. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعد بالوعيد
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا أُولئِكَ الأشقياء المردودون أَصْحابُ النَّارِ وملازموها خالِدِينَ فِيها لا نجاة لهم منها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصير اهل النار أعاذنا الله وعموم عباده منها. ثم قال سبحانه على سبيل التقرير والتثبيت لأرباب المعرفة والإيقان على جادة التفويض والتوكل
ما أَصابَ على من أصاب وما أصاب مِنْ مُصِيبَةٍ اى حادثة مفرحة او مؤلمة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ المدبر الحكيم وبمقتضى ارادته وتقديره وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويفوض امره اليه ويتخذه سبحانه وكيلا ويجعله حسيبا وكفيلا يَهْدِ قَلْبَهُ وينور خلده ويبصره على امارات التوحيد وعلامات اليقين وَبالجملة اللَّهِ المطلع على عموم ما غاب وشهد بِكُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة قدرته عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بحيث لا يعزب عن علمه شيء مطلقا
وَبالجملة أَطِيعُوا اللَّهَ المظهر الموجد لكم من كتم العدم يا معاشر المكلفين وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ المبلغ لكم طريق الهداية والرشد المبين لكم سبل السلامة والسداد في يوم المعاد فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن دعوته بعد تبليغه وإرشاده فلا بأس عليه فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا حسب وحينا وأمرنا الْبَلاغُ والتبليغ الْمُبِينُ الظاهر الواضح وبعد تبليغه على وجهه لم يبق عليه شيء بل علينا حسابكم وجزاؤكم بمقتضاه وكيف يتأتى منكم الاعراض ايها المعرضون المبطلون مع انه
اللَّهُ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبية لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ بتوحيده واستقلاله وَعَلَى اللَّهِ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في عموم حوائجهم ومهماتهم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا وحدة الحق واستقلاله في الوجود إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ اعرضوا عنهم حتى لا يشغلوكم عن طاعة الله وعن التوجه نحوه والتوكل عليه بالتقريع والتشنيع ولا يردوكم ولا يلجؤكم ولا يضطروكم في امر المعاش وتحصيله الى المعاتب والمهالك حتى تسئلوا من كل غنى غبى وبخيل دنى فتسترزقوا منهم وترزقوا إليهم فلا تثقون بالله ولا تتوكلون عليه ولا تعتمدون بكفالته سبحانه وترزيقه وتزل بذلك نعلكم عن طريق خالقكم ورازقكم وتزلق قدمكم عن التشبث في صراط التوكل والتفويض وبالجملة فَاحْذَرُوهُمْ اى عن الأولاد والأزواج ولا تأمنوا عن مكرهم وغوائلهم وَمع ذلك إِنْ تَعْفُوا عن جرائمهم وتشنيعاتهم وتوصلوهم الى ما أملوا وترقبوا منكم وَتَصْفَحُوا وتعرضوا أنتم عن أغراضهم بعدم الالتفات الى حالهم وَتَغْفِرُوا اى تمحوا وتستروا ما صدر منهم من التقريع والتشنيع فتشتغلوا الى إنجاح أغراضهم وأمانيهم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في ضمائركم من مراعاة جانب الأولاد والأزواج غَفُورٌ لذنوبكم الذي صدرت عنكم متعلقة بمعايش أولادكم ان كانت برخصة شرعية رَحِيمٌ عليكم يرحمكم ويمحو زلتكم ان كان سعيكم للكفاية والقناعة الضرورية لا للقصور والفراغة والجاه والثروة كما نشاهد في زماننا هذا من أبناء زماننا احسن الله أحوالهم وبالجملة
َّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
عظيمة وابتلاء شديد(2/420)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
لكم فعليكم ان لا تغتروا بهما فإنهما من شباك الشيطان وحباله يريد ان يصدكم عن سبيل الله بتزيينهما إليكم وتحبيبهما في قلوبكم لتشتغلوا بهما عن الله فتحطوا عن زمرة المخلصين المتوكلين اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
للمخلصين المتوكلين المجتنبين عن الالتفات الى الغير مطلقا وبالجملة
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ واتخذوه وكيلا واجعلوه سبحانه وقاية لنفوسكم عن تغرير الشيطان وفتنته وَاسْمَعُوا قول الله بسمع الرضا والقبول وَأَطِيعُوا امره ونهيه ولا تخرجوا عن مقتضى حكمه وأحكامه مطلقا وَأَنْفِقُوا مما رزقكم الله واستخلفكم عليه امتثالا لأمره وطلبا لمرضاته وافعلوا جميع ما أمركم الحق سيما الإيثار والانفاق ليكون امتثالكم وانفاقكم خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ في اولاكم وذخرا لكم في اخراكم ومن معظم فوائد الانفاق صون النفس عن الشح المطاع وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بالبذل والانفاق فَأُولئِكَ السعداء المتصفون بالكرم والسخاء هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون من الله بالمثوبة العظمى والدرجة العليا وبالجملة
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ المنعم المتفضل ايها المنفقون المحسنون قَرْضاً حَسَناً مقرونا بالإخلاص والرضا ومصونا عن وصمة المن والأذى يُضاعِفْهُ لَكُمْ إحسانكم أضعافا كثيرة وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم وان عظمت وكثرت وَبالجملة اللَّهَ المطلع على اخلاص عباده في أعمالهم ونياتهم فيها شَكُورٌ يحسن المحسن جزاء إحسانه أضعافا مضاعفة ويزيد عليها تفضلا وامتنانا حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة المسيء رجاء ان يعود ويتوب ويعتذر لما يصدر عنه من الذنوب وكيف لا وهو
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعلم بعلمه الحضوري منهم عموم ما في استعداداتهم وقابلياتهم من الإخلاص والانفاق وغيرهما الْعَزِيزُ الغالب القادر على وجوه الانعام والانتقام الْحَكِيمُ المتقن في عموم الأفعال والجزاء المترتب على الأعمال
خاتمة سورة التغابن
عليك ايها الموحد المتحقق بمقام الفناء في الله المستخلف منه سبحانه في عموم الأفعال والآثار الصادرة منك صورة ان تمتثل بمطلق الأوامر والنواهي الواردة عليك من عند ربك بمقتضى التكاليف المنبئة عن محض الحكمة المتقنة الإلهية الجارية على وفق المصلحة المصلحة لأمور العباد في معاشهم ومعادهم وتواظب على أداء الفرائض والواجبات الموجبة للعبودية بكمال التسليم والرضاء وتلازم على الإتيان بالنوافل والمندوبات المقربة الى الله المستلزمة لمزيد الفضل والعطاء فلك التبتل والإخلاص المقارن بالخضوع والخشوع والتذلل التام والانكسار المفرط في عموم ما جئت به من الطاعات والعبادات فاعلم ان الناقد بصير وحبائل الشيطان في حواليك كثير فلا تغفل عن غوائله فان إضلاله إياك سهل يسير واتكل على الله في عموم أوقاتك واستعذ به سبحانه من غوائله فانه سميع بصير. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير
[سورة الطلاق]
فاتحة سورة الطلاق
لا يخفى على من تمكن في مقام العبودية وتقرر في محل التكاليف الإلهية من المنكشفين بسرائر الاحكام الحقيقة الحقية ان سر الزواج والازدواج الواقع في عالم الكون والفساد المنبئ عن المناسبات المعنوية والارتباطات الحبية الغيبة المترتبة على كمال الاعتدال والائتلاف بين الأسماء والأوصاف(2/421)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
الذاتية الإلهية الباعثة على الظهور والبروز في فضاء الكمال انما هو بمقتضى التجليات والشئون الإلهية وتطوراته المتوافقة والمتخالفة حسب القبض والبسط والجمال والجلال الظاهر آثارها في الأزمان والأدوار الصادرة من الملك الجبار حسب الارادة والاختيار ومن جملة الآثار الواقعة في الأقطار امر النكاح والطلاق المترتبين على المناسبة والمخالفة المتفرعتين على القبض والبسط المتفرعين على صفتي الجمال والجلال لذلك نبه سبحانه عباده وبين لهم احكام النكاح والطلاق الصوريين ووضع لهما حدودا وقواعد مضبوطة حتى لا يتجاوزوا عن الاعتدال والقسط الإلهي المتفرع على الحكمة المتقنة البالغة فقال بعد ما تيمن باسمه الأعلى مناديا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو صلّى الله عليه وسلّم لائق بالخطابات الإلهية سيما في أمثال هذه الاحكام بِسْمِ اللَّهِ الذي احكم مطلق الاحكام الشرعية على مقتضى الحكمة والعدالة الرَّحْمنِ لعموم عباده بوضع الحدود الشرعية بينهم الرَّحِيمِ لخواصهم بتنبيههم على سرائر تكاليفه وحكم حدوده المتفرعة على حكمته البالغة والمصلحة الكاملة
[الآيات]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المبعوث الى كافة البرايا ليرشدهم ويصلح أحوالهم فاعلم أنت يا أكمل الرسل اصالة والمؤمنين تبعا انكم إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ وقصدتم رفع رابطة العلقة بالرخصة الشرعية ايضا فَطَلِّقُوهُنَّ وارفعوا عنهن قيد الالفة المقتضية للزوجية لِعِدَّتِهِنَّ اى في اثنائها ووقتها الذي هو مدة الطهر قبل وقوع الوقاع فيه وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ الكاملة اى الاطهار الثلاثة مع الطلقات الثلاث حتى تقع كل طلقة في طهر وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ المنتقم الغيور الذي رباكم بمقتضى العدالة فعليكم ان لا تتجاوزوا عنها فلا تزيدوا على عدتهن بالمراجعة عليهن ثم تطليقهن وعليكم انه لا تُخْرِجُوهُنَّ بالتعدي بعد إيقاع الطلاق مِنْ بُيُوتِهِنَّ اى مساكنكم التي قد كن فيها قبل الفرقة حتى تنقضي عدتهن فيها وَلا يَخْرُجْنَ ايضا بأنفسهن بعد الفرقة من مساكنهن بلا رضى منكم إذ فوائد العدة والاستبراء انما هي عائدة إليكم ايها الأزواج المطلقون بل لا بد لهن ان يعتددن فيها إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ هي زنا يشهد له شهود على الوجه الذي اعتبر في الشرع فحينئذ يخرجن لإجراء الحد عليهن فيصح هذا الاستثناء على كلا الحكمين السابقين وَتِلْكَ الحدود المذكورة حُدُودُ اللَّهِ العليم الحكيم الصادرة عنه بمقتضى الحكمة المتقنة البالغة المقتضية للعدالة الكاملة وَمَنْ يَتَعَدَّ ويتجاوز حُدُودُ اللَّهِ المنتقم الغيور فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بالعرض على عذاب الله عاجلا وآجلا إذ لا تَدْرِي ولا تعلم نفس المطلق المتجاوز عن الحد الشرعي بالتطويل في العدة والتهاون على المرأة او نفس المرأة المطلقة بإتيان الفاحشة في أوان العدة وغيرها لَعَلَّ اللَّهَ المقتدر المنتقم يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ التفريق والبينونة أَمْراً بان يجعل للمطلق بدل تلك الزوجة المطلقة زوجة سليطة عليه او يجعل للمطلقة زوجا أشد ايلاما منه وبالجملة
فَإِذا بَلَغْنَ اى المطلقات أَجَلَهُنَّ شارفن على انقضاء العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ وراجعوا إليهن بِمَعْرُوفٍ مستحسن عقلا وشرعا ومروءة نادمين على ما صدر عنكم من الطلاق والسراح والفراق معطين لهن على وجه الإحسان من الامتعة جبرا لما كسرتم أَوْ فارِقُوهُنَّ بعد ما لم يبق بينكم وبينهن رابطة المحبة وعلاقة الالفة بِمَعْرُوفٍ مستحسن مرضى مقبول له اى الشارع محمود ومعهود عند عموم ارباب المروات بلا ضرر ولا إضرار وبلا أخذ شيء مما يتعلق بهن من الامتعة المنسوبة إليهن عرفا بل أعطوهن شيأ آخر معتدا به ليعترفن بثنائكم وشكركم دائما ويدعوا لكم بدل ما يدعون عليكم(2/422)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
ابدا وَأَشْهِدُوا ايها المؤمنون عند اختيار الرجعة او بالفرقة ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قطعا لعرق الخصومة والنزاع وبعدا عن التهمة وَأَقِيمُوا ايها الشهود الشَّهادَةَ الموكولة لكم لِلَّهِ طلبا لمرضاته سبحانه وحافظوا عليها كي تؤدوها لدى الحاجة ذلِكُمْ الذي سمعتم من محافظة الحدود واقامة الشهادة لحفظ الحقوق وبالعهود من جملة المواعظ والتذكيرات التي قد وضعها الحق بمقتضى حكمته المتقنة بين عباده ليحافظوا بها على آداب العبودية وانما يُوعَظُ ويتذكر بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ويوقن بوحدة ذاته ويصدق برسله المبعوثين من عنده المؤيدين من لدنه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لتنقيد الأعمال وترتيب الجزاء عليها فان غير هؤلاء السعداء الأمناء هم التائهون في تيه الضلال بأنواع الوزر والوبال وهم لا يتعظون بها وبأمثالها وَبالجملة مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ويتحفظ نفسه عن قهره وغضبه ويحافظ على رعاية حدوده الموضوعة من لدنه لحفظ حقوق عباده سيما حقوق الزوجية والائتلاف من كلا الطرفين ويتوكل عليه في عموم أحواله ويفوض أموره كلها اليه يَجْعَلْ لَهُ سبحانه مَخْرَجاً عن مضيق الإمكان المورث لانواع الخذلان والخسران
وَيَرْزُقْهُ ويسق اليه جميع حوائجه المحتاج إليها في معاش عياله مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ اى من مكان لا يترقبه ولا ينتظره وَكيف لا مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ مخلصا له مفوضا اليه امره فَهُوَ سبحانه حَسْبُهُ كافيه يكفيه جميع المؤنة المحتاج إليها في النشأة الاولى والاخرى وكيف لا إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم المقادير بالِغُ أَمْرِهِ بعد ما فوض اليه سبحانه بالإخلاص والتسليم الى ما قد قدر الله له في حضرة علمه ولوح قضائه إذ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ القدير الحكيم لِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء الظاهرة حسب اظلال الأسماء والصفات الإلهية قَدْراً اى مقدارا معينا من الكمال في عموم أفعاله على مقتضى الاستعداد الفطري والقابليات الجبلية هذه المذكورات من الحدود والآداب في طلاق ذوات الأقراء من المعتدات
وَاللَّائِي يَئِسْنَ وقنطن مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ لكبرهن إِنِ ارْتَبْتُمْ اى شككتم وترددتم في تعيين عدتهن فَعِدَّتُهُنَّ بعد ما طلقتموهن ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ اى مضيها. روى انه لما نزلت والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء قيل فما عدة النساء اللاتي يئسن من المحيض فنزلت وَكذا ايضا مضى ثلاثة أشهر عدة النساء اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ بعد لصغر سنهن او لمرض وَأُولاتُ الْأَحْمالِ من المطلقات أَجَلُهُنَّ ومنتهى عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ سواء كان الوضع بعد الفرقة بزمان كثير او قليل وهذا الحكم متناول للمطلقة والمتوفى عنها زوجها وانما لم يعين الشارع لاولات الأحمال حدا معينا من اقراء او أشهر لان المقصود الأصلي من التزام المدة والعدة حفظ الماء واستبراء الرحم لئلا ينجر في خلط النسب وبالوضع يحصل المقصود على الوجه الأتم ولهذا لم يحد لهن سوى الوضع وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ويحفظ نفسه عن سخطه وطلق امرأته على الوجه المسنون ولم يركن الى الطلاق البدعى أصلا يَجْعَلْ لَهُ سبحانه مِنْ أَمْرِهِ الذي هو فراق زوجته يُسْراً اى يسهل عليه التزوج الآخر ويحسنها له ويحبله عليها
ذلِكَ المذكور من الاحكام أَمْرُ اللَّهِ العليم الحكيم قد أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ايها المكلفون يصلح به مفاسدكم المتعلقة بأمر الطلاق وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ المنتقم الغيور ولم يتجاوز عن مقتضى امره المبرم وحكمه المحكم يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ بتغليب حسناته عليها وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً بتضعيف حسناته أضعافا كثيرة
أَسْكِنُوهُنَّ اى المطلقات(2/423)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ايها المطلقون مِنْ وُجْدِكُمْ اى من وسعكم ومقتضى طاقتكم من ملك او اجارة او اعارة وَلا تُضآرُّوهُنَّ في السكنى لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ حتى يضطررن الى الخروج وَإِنْ كُنَّ اى المطلقات أُولاتِ حَمْلٍ منكم ايها المطلقون فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيخرجن من العدة وهذا الحكم اى الانفاق على المعتدة مخصوص باولات الأحمال من المعتدات إذ الانفاق حقيقة انما هو لاولات الأولاد دون غيرهن من المعتدات إذ لا سبب يوجبها وإذا وضعن فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أولادكم بعد رفع رابطة النكاح فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على الإرضاع مثل سائر المرضعات الاجنبيات ولا تعللوا بكونهن أمهات الرضيع وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ اى ليأمر بعضكم بعضا ايها المؤمنون في إرضاع المطلقة ولدها من المطلق بِمَعْرُوفٍ مستحسن مقبول شرعا من إعطاء الاجرة الكاملة والزيادة عليها مراعاة للمروءة وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ وتضايقتم في الاجرة عليها فَسَتُرْضِعُ لَهُ امرأة أُخْرى غيرها الا ان المروءة تأبى ان تعرض الام عن إرضاع ولدها إذ هي اولى به من غيرها
لِيُنْفِقْ المعتدة الحاملة ذُو سَعَةٍ ويسر مِنْ سَعَتِهِ ومقدار وسعه وطاقته على مقتضى نفقتها قبل الفرقة وَمَنْ قُدِرَ وضيق عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ من الرزق الصوري بلا جبر وتحميل إذ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ المنعم الحكيم نَفْساً إِلَّا مقدار ما آتاها وساق لها من الرزق الصوري إذ سَيَجْعَلُ اللَّهُ المنعم المتفضل بَعْدَ عُسْرٍ دنياوي يُسْراً حقيقيا أخرويا فاليسر في الآخرة اولى من الدنيا وما فيها. ثم قال سبحانه على وجه الوعيد للموسرين المقترين
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ اى كثيرا من اهل قرية قد عَتَتْ اى أعرضت واستكبرت عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَعن متابعة رُسُلِهِ المرسلين من عنده اتكالا على ما عندهم من المال والثروة والتفاخر على الأقران والتفوق عليهم بأنواع النخوة والعدوان فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً اى عن القليل والكثير والنقير والقطمير وَبعد ما حاسبناها كذلك قد عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً منكرا فجيعا فظيعا والمراد حساب النشأة الاخرى وعذابها عبر بالماضي لتحقق وقوعها
فَذاقَتْ حينئذ وَبالَ أَمْرِها اى اعراضها عن الله واهله ذوقا محيطا بها بحيث لا يخلو من العذاب شيء من اعضائها واجزائها وَبالجملة قد كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها الذي كانت عليه في النشأة الاولى خُسْراً في النشأة الاخرى واى خسر أشد منها واكبر ألا وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول الإلهي وانحطاطهم عن رتبة الخلافة والنيابة الانسانية وبالجملة قد
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً في العاجل والآجل فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ واعتبروا مما جرى على أولئك الغواة الطغاة الهالكين في تيه العتو والعناد من وخامة عاقبتهم ورداءة خاتمتهم واعلموا ايها المعتبرون الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وصدق رسله قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لمصالحكم إِلَيْكُمْ ذِكْراً ناشئا منكم مذكرا لكم اصل مبدئكم ومنشئكم وكذا مرجعكم ومعادكم وقد جعله سبحانه
رَسُولًا مرسلا من عنده إليكم لإرشادكم وتكميلكم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ الدالة على وحدة ذاته مُبَيِّناتٍ مشروحات واضحات كل ذلك لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله على وجه الإخلاص وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المؤكدة لإيمانهم مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ اى الظلمات الحاصلة لهم من تراكم الكثرات وتتابع الإضافات الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة الى نور الوجود الذي هو الوحدة الذاتية القاطعة لعموم الإضافات مطلقا وَبالجملة مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويوقن بوحدته وَيَعْمَلْ(2/424)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
عملا صالِحاً طالبا لمرضاته يُدْخِلْهُ سبحانه بمقتضى فضله ولطفه جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المترشحة دائما من البحر المحيط الذي هو حضرة العلم الإلهي ولوح قضائه المحفوظ المشتمل على عموم الكوائن والفواسد الجارية في فضاء الوجود مطلقا خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون منها أصلا وبالجملة قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً صوريا ومعنويا وكيف لا يحسن سبحانه مع انه
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ اى اظهر وقدر حسب قدرته الكاملة سَبْعَ سَماواتٍ علويات مطبقات على عدد الأوصاف السبعة الذاتية الإلهية وجعلها مسكنا للمجردات من الملائكة والأرواح وَقدر مِنَ الْأَرْضِ السفلى اى عالم العناصر ايضا مِثْلَهُنَّ مطبقات بعضها فوق بعض طبقة الأثير الصرف وطبقة الأثير الممتزجة تحتها وطبقة الزمهرير من الهواء وطبقة الهواء الصرف وطبقة الماء الصرف وطبقة الطين المركب من الماء والتراب وطبقة التراب الصرف على عدد القوى السبع الانسانية الفائضة على أعضائه السبعة وهي الدماغ والكبد والعين والاذن والأنف واللسان وجميع البشرة مع الصانع الحكيم وانما رتبها سبحانه كذلك وطبعها عليها حتى يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ الإلهي بَيْنَهُنَّ يعنى كي تصير السفليات قوابل مستعدات لآثار العلويات يقبلن منها ما يفيض عليهن من الكمالات المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية كل ذلك لِتَعْلَمُوا ايها المجبولون على فطرة العلم والمعرفة أَنَّ اللَّهَ المستقل بالالوهية والربوبية عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة الوجود ولمع عليه برق الشهود قَدِيرٌ لا ينتهى قدرته عند مقدور وَلتعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المتصف بالقدرة الكاملة قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة قدرته عِلْماً إذ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم
خاتمة سورة الطلاق
عليك ايها السالك المتحقق بمقام القلب وسعته وقابليته لنزول سلطان الوحدة الذاتية الإلهية مع بعد غورها ورفعة طورها عن احلام الأنام مطلقا ان تعرف علما وعيانا بل حقا وبيانا ان الله المتجلى على كل جلى وخفى قدير على مقدورات لا تتناهى ومرادات لا تعد ولا تحصى بمقتضى حيطة علمه بمعلومات لا غاية تحدها ولا نهاية تحيطها فله سبحانه الإعادة والإبداء والاماتة والأحياء وله التصرف في ملكه كيف يشاء حسب اقتضاء الأوصاف والأسماء إذ لا اله الا هو له الأسماء الحسنى وله الحمد في الآخرة والاولى
[سورة التحريم]
فاتحة سورة التحريم
لا يخفى على من رسخ على جادة التوحيد وتمكن في مقعد الصدق بلا تلوين وترديد ان ارباب المحبة والارادة الكاملة من المنقطعين عن غفلة الناسوت رأسا المنجذبين نحو فضاء اللاهوت مطلقا لم يبق لهم ارادة وكراهة وصداقة وعداوة بالنسبة الى كل احد من بنى نوعهم وغيرهم بل هم مستغرقون بالله فارغوا البال من غيره بحيث لا يشوشهم اللذة والألم ولا يزعجهم الرضاء والغضب لذلك خاطب سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم على وجه العتاب وناداه ليرشده الى منهج الصواب فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي دبر مصالح عباده على الوجه الأبلغ الأحكم الرَّحْمنِ عليهم لا يكلفهم بما ليس في وسعهم الرَّحِيمِ لهم ينبههم على زلاتهم بعد ما صدرت عنهم ويعلمهم التدارك والتلافي(2/425)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
بالتوبة
[الآيات]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد بالوحي والإلهام من عند العليم العلام القدوس السلام مقتضى نبوتك وتأيدك ان لا تخالف حكم الله ولا تبادر الى الخروج عما قضى لِمَ تُحَرِّمُ وتمنع عن نفسك من عندك بلا ورود نهى من قبل ربك ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ واباحه عليك بمقتضى حكمته وعدالته تَبْتَغِي وتطلب أنت بتحريم الحلال على نفسك باستبدادك بلا ورود وحى ونزول الهام مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وتترك رضاء الله بمخالفة حكمه فارتدع عن فعلك هذا واستغفر الله لزلتك وَاللَّهُ المطلع على نيتك وإخلاصك غَفُورٌ يعفو عنك ما صدر منك من تلقاء نفسك رَحِيمٌ يرحمك ويقبل توبتك. روى ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا بأمته مارية في يوم حفصة فاطلعت حفصة على ذلك فعاتبته فقال صلّى الله عليه وسلّم قد حرمت مارية على نفسي لأجلك لا تقولي لواحدة من أزواجي واستكتميها عنهن هذا التحريم واعلمي ايضا ان الخلافة بعدي لأبي بكر وبعده لعمر ولا تفش لاحد قط فأخبرت حفصة عائشة بكلا الخبرين بكونهما صديقتين فأخبرت عائشة رسول الله بها فغضب صلّى الله عليه وسلّم وطلق حفصة طلاقا رجعيا وعزل عن نسائه تسعا وعشرين يوما لأجل هذه الواقعة فانزل الله تعالى يا ايها النبي لم تحرم الآية لما نهى سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم على وجه المبالغة والتأكيد أراد سبحانه ان يبين كفارة اليمين الواقعة بين المؤمنين في أمثال هذا فقال
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ المدبر الحكيم وشرع لَكُمْ على سبيل الوجوب تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ اى لتحليل ايمانكم وتكفيرها لتكون كفارة مكفرة عنها وَاللَّهُ المصلح لأحوالكم مَوْلاكُمْ ومتولى أموركم وَهُوَ الْعَلِيمُ بعموم مصالحكم ومفاسدكم الْحَكِيمُ في ضبطها وإصلاحها
وَاذكروا واعتبروا ايها المؤمنون وقت إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ يعنى حفصة حَدِيثاً وهو حديث تحريم مارية وحديث خلافة ابى بكر وعمر رضى الله عنهما بعده صلّى الله عليه وسلم فَلَمَّا نَبَّأَتْ وأخبرت حفصة بِهِ عائشة رضى الله عنهما وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ واطلع سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلم عَلَيْهِ اى على افشاء حفصة الحديث المعهود الذي اوصاها صلّى الله عليه وسلّم بالاسرار فغضب صلّى الله عليه وسلم على حفصة لذلك قد عَرَّفَ بَعْضَهُ اى ذكر صلّى الله عليه وسلّم بعض الحديث وهو حديث مارية وطلقها طلاقا رجعيا انتقاما عنها وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ وهو قصة الخلافة ولم يعرفها ولم يذكرها لها لئلا تقع الفتنة بين المسلمين ومع ذلك قد وقعت وبعد ما اطلع الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم على افشاء الحديث المعهود فَلَمَّا نَبَّأَها وخبر حفصة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بِهِ اى بإفشاء الحديث معاتبا لها قالَتْ حفصة ظنا منها انه قد صدر هذا من عائشة مَنْ أَنْبَأَكَ وأخبرك هذا الحديث يا رسول الله قالَ صلّى الله عليه وسلّم في جوابها نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ بالسرائر والخفايا الْخَبِيرُ بعموم ما يجرى في ضمائر عباده ونياتهم. ثم قال سبحانه من قبل نبيه صلّى الله عليه وسلّم على وجه الخطاب المنبئ عن العتاب
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ أنتما يا حفصة وعائشة عما صدر عنكما توبة صادرة عن محض الندم والإخلاص منبئة عن كمال الموافقة والمخالصة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد جبرتما بما كسرتما والا فَقَدْ صَغَتْ زاغت ومالت قُلُوبُكُما عن موافقة الرسول ومخالصته فجئتما بما يكرهه صلّى الله عليه وسلم بكراهتكما ما يحبه صلّى الله عليه وسلم وَإِنْ تَظاهَرا وتعاونا عَلَيْهِ اى على ما أنتما عليه من مخالفة الرسول فلن تضراه صلّى الله عليه وسلّم شيأ من الضرر وكيف يلحقه صلّى الله عليه وسلم(2/426)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
ضرر منكما فَإِنَّ اللَّهَ المراقب لعموم أحواله هُوَ مَوْلاهُ وناصره ومعينه وولى عموم أموره وَجِبْرِيلُ رئيس الكروبيين قرينه وملازمه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ اتباعه وأعوانه وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ الملائكة ظهير له بعد أولئك المظاهرين المعاونين. ثم قال سبحانه على وجه التعريض لعموم ازواج النبي صلّى الله عليه وسلم
عَسى رَبُّهُ الذي رباه صلّى الله عليه وسلّم على الكرامة الاصلية والنجابة الجبلية إِنْ طَلَّقَكُنَّ جميعا أَنْ يُبْدِلَهُ بمقتضى قدرته وارادته أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ صورة وسيرة أخلاقا وأعمالا مُسْلِماتٍ في الاعتقاد مسلمات عن العيوب مُؤْمِناتٍ بوحدة الحق مصدقات لعموم ما نزل من عنده قانِتاتٍ راسخات على الطاعات مواظبات على عموم الخيرات خاضعات خاشعات لله في عموم الأوقات تائِباتٍ عن عموم المنكرات والمحظورات عابِداتٍ على وجه التذلل والخضوع وكمال الانكسار والخشوع سائِحاتٍ صائمات ممسكات عن مطلق المحارم او مهاجرات عن بقعة الإمكان نحو فضاء الوجوب شوقا ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً يعنى سواء كن ثيبات او أبكارا. ثم اوصى سبحانه لعموم المؤمنين بما يصلح لهم ويليق بحالهم فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم حفظ انفسكم عن مطلق المهالك الدينية قُوا أَنْفُسَكُمْ واحفظوها عن ارتكاب عموم المعاصي والالتفات الى مطلق المنكرات والتوجه نحو المحظورات وَأَهْلِيكُمْ اى من في حفظكم وحضانتكم من أزواجكم وأولادكم عن الوقوع في المهالك والفتن وانواع الآثام الموجبة للخذلان والحرمان وبالجملة اتقوا واحذروا ناراً وأي نار نارا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ اى ما يتقد به النار أجسام الأنام والحجارة وذلك من شدة حرارتها وإحراقها بخلاف سائر النيران فان وقودها الحطب ومع ذلك يوكل عَلَيْها مَلائِكَةٌ يوقدونها وهم الزبانية صفتهم انهم غِلاظٌ في أقوالهم وهياكلهم لا يتأتى منهم الملاينة والملاطفة أصلا شِدادٌ في البطش وعموم التعذيب لا يَعْصُونَ اللَّهَ ولا يتجاوزون عن امره سبحانه في عموم ما أَمَرَهُمْ بل يمضونها على الوجه المأمور بلا فوت شيء منها بعذر او شفاعة او شفقة او مروءة بل وَهم يَفْعَلُونَ عموم ما يُؤْمَرُونَ على وجهه خوفا من غيرته سبحانه وغضبه وبعد ما نادى سبحانه عموم المؤمنين بما نادى نادى ايضا عموم الكافرين على مقتضى المقابلة فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وكذبوا رسله المبعوثين إليكم ليرشدوكم الى سبيل الهداية والسلامة فانكرتموهم وجميع ما جاءوا به بلا تأمل وتوقف فعليكم انه لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ بان أعمالكم دون عذابكم وانقص منها بل إِنَّما تُجْزَوْنَ من العذاب على مقتضى ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والإنكار. ثم قال سبحانه
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق من شأن ايمانكم تطهير قلوبكم عن مطلق المعاصي والآثام المنافية لصرافة وحدة الذات ولا يتيسر لكم هذا الا بالتوجه والرجوع على وجه الندم والإخلاص تُوبُوا ايها المخلصون المبتلون بفتنة الذنوب إِلَى اللَّهِ الملك القدوس المنزه ساحة حضوره عن سمة الحدوث والإمكان مطلقا تَوْبَةً نَصُوحاً خالصة لوجه الله قالعة لعرق الالتفات الى غير الله وأنتم نادمون على الذنوب الصادرة عنكم فيما مضى مجتنبين عن التي ستأتى وتوبتكم هذه مخلية مصفية لنفوسكم عن مطلق الكدورات المتعلقة بالغير محلية لها بالتقوى عن مطلق الرذائل العائقة عن التوجه الخالص نحو المولى عَسى رَبُّكُمْ بعد ما تبتم ورجعتم نحوه بكمال التبتل والإخلاص أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ويعفو عنكم زلاتكم ولم ينتقم منكم وَيُدْخِلَكُمْ تفضلا عليكم وإحسانا جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق(2/427)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ انهار المعارف والحقائق المتجددة المنتشئة الجارية من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات وكيف لا يكفر ولا يدخل سبحانه خلص عباده في جنة وحدته يَوْمَ لا يُخْزِي يعنى سيما في يوم لا يخزى ولا يردى فيه اللَّهِ المنعم المتفضل على خلص عباده المنجذبين اليه سيما النَّبِيَّ المؤيد من عنده بأنواع الكرامة وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واهتدوا بهدايته مع ان شأنهم هكذا نُورُهُمْ الذي قد اقتبسوه من مشكاة النبوة المصطفوية يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ اى محيطا بهم محفوفا عليهم سيما وقت عبورهم من الصراط. ثم لما تفاوتت أنوارهم بحسب الجلاء والخفأ المترتب على أعمالهم واستعداداتهم الفطرية يَقُولُونَ مناجين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الهداية والرشد أَتْمِمْ لَنا نُورَنا تفضلا علينا ومزيد احسان بنا وَاغْفِرْ لَنا ذنوبنا اى استر ذنوب انانياتنا عن عيون بصائرنا إِنَّكَ بمقتضى جودك عَلى كُلِّ شَيْءٍ يدخل في حيطة علمك وارادتك قَدِيرٌ ثم قال سبحانه
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المبعوث لإعلاء كلمة التوحيد جاهِدِ الْكُفَّارَ الذين ستروا بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق وأنكروا وجودها عنادا ومكابرة وقاتلهم بلا مبالاة بشوكتهم وكثرة عددهم وعددهم وَالْمُنافِقِينَ ايضا مع انك مؤيد من لدنا بالحجج القاطعة والبينات الساطعة وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ بالأقوال والأفعال ولا تكن معهم بعد اليوم ملاينتك كما كانت معهم قبله بل اشدد وطأتك عليهم وشرد بهم فان الله معينك وناصرك وهم سيغلبون عن قريب في الدنيا وَفي الآخرة مَأْواهُمْ المعد لهم جَهَنَّمُ البعد والحرمان وسعير الطرد والخذلان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم ومرجعهم جهنم وبالجملة قد
ضَرَبَ اللَّهُ العليم الحكيم مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ وشبه حال الكفرة الفجرة بحالهما في عدم نفع صحبتهم مع المؤمنين ومحبتهم لهم واختلاطهم بهم شيأ من عذاب الله إياهم إذ تانك المرأتان قد كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ كاملين مِنْ عِبادِنا وهما نوح ولوط عليهما السلام صالِحَيْنِ لقبولنا مصلحين لاعمالهما وأخلاقهما وعموم اطوارهما فَخانَتاهُما اى تانك المرأتان للكاملين المذكورين بالنفاق فَلَمْ يُغْنِيا ولم يدفعا عَنْهُما اى عن تينك المرأتين بشؤم نفاقهما وشقاقهما مِنْ عذاب اللَّهُ المنتقم الغيور شَيْئاً من الإغناء والدفع بل وَقِيلَ لهما في يوم القيامة على وجه الزجر والتعدي ادْخُلَا النَّارَ المعدة للكفار والعصاة مَعَ سائر الدَّاخِلِينَ فيها على سبيل التأبيد والخلود
وَضَرَبَ اللَّهُ المدبر الحكيم ايضا مَثَلًا آخر لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ وشبه حال المؤمنين في وصلة الكفرة بحال امرأة فرعون وعدم تضررها منه بل تأكد إيمانها بمصاحبة فرعون ومخالطته اذكر إِذْ قالَتْ امرأة فرعون بعد ما انكشفت بالوحدة الذاتية واسرارها مناجية الى ربها رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرامة ووفقني على توحيدك ابْنِ لِي عِنْدَكَ يا ربي بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وذلك لما آمنت رضى الله عنها حين غلب موسى صلوات الله وسلامه عليه على سحرة فرعون فآمنوا له بعد ما غلبوا فقتلهم فرعون وامر بزجرها حتى اوتدها بالأوتاد الاربعة في حر الشمس حتى ترجع عن الايمان والتوحيد ولم ترجع ثم امر اللعين ان يوضع فوقها صخرة عظيمة وقالت حينئذ مناجية مع ربها من كمال تحننها وانكشافها رب ابن لي عندك بيتا في الجنة وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ الخبيث وَعَمَلِهِ السيئ وَبالجملة نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن ربقة عبوديتك بايمانهم وانقيادهم بهذا اللعين الطاغي واعتقادهم بألوهيته وربوبيته فماتت قبل وضع الصخرة
وَضرب الله(2/428)
مثلا ايضا للذين آمنوا مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي من كمال نجابتها وكرامتها وطهارة ذيلهما وغاية عصمتها وعفتها قد أَحْصَنَتْ فَرْجَها عن مخالطة الرجال وبالغت في التحصن والتحفظ بحيث قد رضى الله عنها وكرمها وأعطاها ما أعطاها من الارهاصات والكرامات التي قد خلت عنها سائر نساء الدنيا بل رجالها ايضا وبعد ما قد كرمناها كذلك فَنَفَخْنا فِيهِ اى في جوفها من جيب درعها مِنْ رُوحِنا الذي قد كنا نفخنا منه في قالب آدم عليه السلام ومن تلك النفخة قد حبلت بعيسى عليه السلام ولهذا صار عيسى في الصفوة كآدم وظهرت منه عليه السلام معجزات لم تظهر من نبي قط وَبالجملة قد صَدَّقَتْ مريم بِكَلِماتِ رَبِّها اى بعموم كلمات مربيها الذي رباها على كمال العفة والكرامة ومن جملة تلك الكلمات التامة خلق عيسى عليه السلام من ذلك النفخ وَصدقت ايضا بجميع كُتُبِهِ المنزلة من عنده على عموم رسله وَمن كمال مجاهدتها في طريق الحق وإخلاصها في الطاعات والعبادات واتكالها على الله في عموم الملمات وكمال توكلها وتفويضها عليه سبحانه وتسليمها اليه قد كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ اى من عداد الكمل من ارباب القنوت المنجذبين الى حضرة الرحموت بكمال الخضوع والخشوع وفي هذين التمثيلين تعريض لازواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وحث لهن الى حسن المعاشرة ومراعاة الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم وكمال المصادقة وتبعيد لهن من النفاق والمراء والمجادلة معه صلّى الله عليه وسلم سيما في امر قد اباحه الله له صلّى الله عليه وسلّم بمقتضى حكمته المتقنة البالغة وانما ضرب سبحانه لهن ووعظهن بأمثال هذه الأمثال لينزجرن بها عما جئن به ولتكون عظة وتذكيرا لسائر المؤمنين المتعظين. جعلنا الله منهم ومن زمرتهم وجملتهم بمنه وجوده
خاتمة سورة التحريم
عليك ايها المحمدي المراقب لكمالات الحق النازلة من عالم الغيب الى الشهادة المتفرعة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية ان تترصد في عموم أوقاتك وحالاتك الى ما سيتجدد ويحدث من عالم الخفأ والكمون الى فضاء البروز والظهور ثم منه الى الغيب والبطون بمقتضى التجليات والنشئات الحبية الإلهية فلا بد لك ان تخلى همك وبالك عن مطلق الاشغال الشاغلة لك عن الالتفات والتوجه الى الله والتفرج على عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته وإياك إياك ان تغفل عنه سبحانه ساعة فإنها تورثك حسرة طويلة وخسرانا عظيما ان كنت من جملة المستيقظين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
[سورة الملك]
فاتحة سورة الملك
لا يخفى على من انكشف بوحدة الحق وكثرة شئوناته وتجلياته المترتبة على أسمائه وصفاته الفائتة للحصر والإحصار ان سعة مملكة الحق وملكه وملكوته انما هو بمقتضى رقائق أسمائه وصفاته الغير المتناهية المتجلية بها الظاهرة على مرآة العدم فيلوح منها هياكل الأشباح التي لا غاية لها ولا نهاية تحيطها بعضها مترتب على البعض وبعضها مقابل للبعض متصفا بالشهادة والجلاء وبعضها بالغيب والخفأ وبالجملة جميع ذرائر الكائنات مربوط بعضها ببعض برقائق المناسبات ودقائق الارتباطات الواقعة في عالم الأسماء والصفات لذلك اخبر سبحانه في كتابه عن عظمة ملكه وملكوته وعن كثرة(2/429)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
خيراته واستقلاله في عموم تصرفاته الواقعة في مظاهره ومصنوعاته فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على ما ظهر وبطن بعموم أسمائه وصفاته التي لا تعد ولا تحصى الرَّحْمنِ لعموم مظاهره بالرزق الأوفى الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى جنة المأوى وسدرة المنتهى
[الآيات]
تَبارَكَ تعاظم وتعالى من كثرة الخيرات والبركات الملك الكامل الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وبقبضة قدرته جميع التدابير والتصاريف الجارية في ملكه وملكوته على وجوه الصور والتقادير وكيف لا وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من متفرعات جود وجوده قَدِيرٌ بالقدرة الشاملة والارادة الكاملة الخالق الموجد
الَّذِي خَلَقَ وقدر الْمَوْتَ وَالْحَياةَ حسب قهره ولطفه وجلاله وجماله وادارهما بينكم ايها المكلفون لِيَبْلُوَكُمْ ويختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأصوبه وأصلحه وأخلصه واعلموا انكم ان لم تحسنوا العمل ولم تصلحوه بعد ما أمركم سبحانه بالإخلاص والإصلاح فينتقم عنكم بمقتضى قهره وغيرته وكيف لا وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على وجوه الانتقام لمن خرج عن ربقة عبوديته الْغَفُورُ المقتدر على وجوه الانعام للمحسنين المخلصين المصلحين وكيف لا وهو
الَّذِي خَلَقَ أوجد واظهر سَبْعَ سَماواتٍ على عدد الصفات السبع الذاتية وجعلها طِباقاً متطابقة بعضها فوق بعض وبعضها جوف بعض وجعل تطبيقها ونظمها على وجه احكم ونظام ابلغ وأبدع بحيث ما تَرى ايها المعتبر الرائي فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ المستوي على عروش الأكوان مِنْ تَفاوُتٍ ينبئ عن عدم رعاية الحكمة والمصلحة فيه بل كله على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة فان شككت ايها المعتبر الرائي فيه لقصور نظرك عن احاطة ما فيه من الحكم والمصالح في بادى الرأى فَارْجِعِ الْبَصَرَ وكرر النظر ثم بعد ذلك هَلْ تَرى وتجد فيه مِنْ فُطُورٍ خلل وشقوق وقعت فيه لا بمقتضى الحكمة والاحكام
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ ان شئت وشككت كَرَّتَيْنِ مرتين او مرارا كثيرة الى حيث يَنْقَلِبْ ويرجع إِلَيْكَ الْبَصَرُ اى بصرك خائبا خاسرا خاسِئاً بعيدا عن المطلوب الذي هو رؤية الفطور وَهُوَ اى نظرك حين رجوعه إليك حَسِيرٌ كئيب كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة بلا فائدة تترتب عليه وعائدة تفوز بها من ادراك الفطور والقصور
وَمن كمال قدرتنا ومتانة حكمتنا لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى السماء القريبة من الدنيا او المرئية منها بِمَصابِيحَ اى بكواكب كثيرة مضيئة منيرة في الليل كالسرج هي سبب رؤيتها والا فلا ترى وَمن جملة اختباراتنا الواقعة بين عبادنا انا قد جَعَلْناها اى تلك المصابيح رُجُوماً اى اسباب ظنون وجهالات لِلشَّياطِينِ ألا وهم المنجمون المرجفون الذين يرجمون بالغيب متمسكين بها وبحركاتها وأوضاعها وَبعد ما أضللناهم بها في الدنيا أَعْتَدْنا لَهُمْ في الآخرة عَذابَ السَّعِيرِ اى النار المسعرة جزاء ما اجترءوا على الله بدعوى الاطلاع على المغيبات مع انه من الخصائص الإلهية وما ذلك الا من كفرهم بالله وباستقلاله وتوحده في مطلق التصرفات الواقعة في ملكه وملكوته
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وادعوا معه الشركة في أخص أوصافه وهو علم الغيب عَذابُ جَهَنَّمَ البعد والخذلان والطرد والحرمان وَبالجملة بِئْسَ الْمَصِيرُ مصير اهل الكفر ومأواهم ومن شدة اهوال جهنم وافزاعها انهم
إِذا أُلْقُوا فِيها اى قصد الزبانية القاءهم فيها بالعنف والزجر المفرط بعد ما أمرهم سبحانه بإلقائهم زجرا قد سَمِعُوا لَها اى لجهنم حينئذ شَهِيقاً صوتا هائلا مهولا على وجه التغيظ والغلظة كصوت الحمار وَالحال انه(2/430)
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
هِيَ اى جهنم حينئذ تَفُورُ وتغلى غليان المرجل غيظا وغضبا لأعداء الله ومن شدة غضبها وسخطها
تَكادُ وتقرب تَمَيَّزُ وتفترق اجزاؤها مِنَ الْغَيْظِ المفرط كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ اى جماعة وفرقة من المنافقين المجتمعين على ديدنة قبيحة وخصلة ذميمة خارجة عن مقتضى الحدود الإلهية سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها سؤال توبيخ وتقريع أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ يخوفكم عن هذا العذاب الهائل مع ان سنة الله قد جرت على ان لا يدخل عباده فيها الا بعد الإنذار والتخويف
قالُوا حينئذ متحسرين بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فانذرنا عنها على ابلغ الوجوه فَكَذَّبْنا النذير وأفرطنا في تكذيبه الى حيث قد نفينا الإنزال والإرسال مطلقا بل قد كفرنا وأنكرنا للحق ولجميع ما جاء به النبي النذير من عنده ونسبنا دعوته ودعواه الى السفه والضلال وَبالجملة قد قُلْنا له حين دعوته وادعائه نزول الكتاب ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ اى ما أنتم ايها المدعون للرسالة إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ عظيم لإضلال أعظم من ضلالكم
وَبعد ما قد حكوا للخزنة أولئك الضالون ما حكوا قالُوا من غاية سفههم وحسرتهم على سبيل التمني لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلام الرسل المؤيدين بالمعجزات الظاهرة أَوْ نَعْقِلُ نتأمل ونتفكر في حججهم الساطعة ودلائلهم القاطعة ما كُنَّا الآن فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ اى في عدادهم ومن جملتهم وبالجملة
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ وندموا وما ينفعهم الاعتراف والندم لمضى وقته بل فَسُحْقاً طردا وتبعيدا عن ساحة عز القبول وعن سعة رحمة الحق وكنف لطفه ومغفرته لِأَصْحابِ السَّعِيرِ اى لمطلق من دخل بشؤم كفره وإنكاره فيها. ثم اردف سبحانه حال الكفرة بحال المؤمنين تنشيطا للسامع وحثا على التثبت في الايمان فقال
إِنَّ المؤمنين الَّذِينَ يَخْشَوْنَ ويخافون رَبَّهُمْ اى عذابه بِالْغَيْبِ اى حال كونهم في النشأة الاولى غائبين غير معاينين له لَهُمْ عند ربهم مَغْفِرَةٌ ستر ومحو لذنوبهم الصادرة عنهم بمقتضى بشريتهم جزاء لإيمانهم بالله وخشيتهم عن عذابه وَأَجْرٌ كَبِيرٌ تصغر دونه الدنيا وما فيها تفضلا عليهم وامتنانا ألا وهو رضاء الله منهم ورضوان من الله اكبر من الآخرة وما فيها فكيف عن الدنيا. ثم لما قال بعض المشركين لبعضهم على سبيل التهكم والاستهزاء أسروا قولكم كي لا يسمعه رب محمد نزلت
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ ايها المشركون أَوِ اجْهَرُوا بِهِ وهما سيان بالنسبة الى علمه المحيط وكيف لا وإِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بما في الضمائر قبل ان يعبر عنه ويقصد بتعبيره بل هو عليم بما في استعداداتكم وقابلياتكم من المكنون في عالم الأسماء والصفات قبل ظهوركم في عالم الأشباح
أَلا يَعْلَمُ العليم الحكيم مَنْ خَلَقَ وقدر بمقتضى علمه المحيط وقدرته الشاملة وارادته الكاملة وَكيف لا وهُوَ اللَّطِيفُ الواصل آثار علمه الى خفيات الأشياء واسرارها الْخَبِيرُ المحيط خبرته بظواهر المظاهر وبواطنها وبالجملة
هُوَ سبحانه القادر المقتدر الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ايها المكلفون بمقتضى سعة رحمته وجوده الْأَرْضَ ذَلُولًا لينة سهلة قابلة للسلوك عليها فَامْشُوا فِي مَناكِبِها جبالها او جوانبها حيث شئتم وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ رغدا واسعا متى أردتم واشكروا المنعم المتفضل ولا تكفروا به وبنعمه وَاعلموا انه إِلَيْهِ لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية النُّشُورُ اى نشور الكل ورجوعه إذ لا مرجع لكم سواه ولا مقصد الا اليه فيسألكم عما أنعم عليكم ويحاسبكم عليه وكيف لا تشكرون نعمه ولا تواظبون على أداء حقوق كرمه
أَأَمِنْتُمْ ايها المكلفون المسرفون(2/431)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)
مَنْ فِي السَّماءِ اى من هو مستعل على سماء الأسماء ان يظهر ويغضب عليكم حسب اسمه المنتقم سيما على من لم يشكر منكم لنعمائه المتوالية وآلائه المتتالية من أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ويطويكم بها ويغيبكم فيها كما فعل بقارون فَإِذا هِيَ اى الأرض حينئذ تَمُورُ تفتطر وتتحرك وتتزلزل غيظا عليكم
أَمْ أَمِنْتُمْ من عذاب مَنْ فِي السَّماءِ ومن أَنْ يُرْسِلَ ويمطر عَلَيْكُمْ حاصِباً حجارة وحصباء من قبل السماء فيهلككم بها كما فعل بقوم لوط فَسَتَعْلَمُونَ حينئذ ايها المسرفون المفرطون في كفران النعم ونسيان حقوق الكرم كَيْفَ نَذِيرِ وإنذاري عليكم وان كذبوك يا أكمل الرسل وبالغوا في تكذيبك وإنكارك لا تبال بهم وبتكذيبهم بل انتظر وترقب الى ما سيئول أمرهم اليه
وَبالجملة لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفرة المكذبين لرسلهم أمثالهم مبالغين في تكذيبهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ وإنكاري إياهم وانتقامي منهم فسيلحق ايضا بهؤلاء الضالين المكذبين لك بأضعاف ما لحقهم
أَينكرون قدرتنا على الانتقام منهم وإهلاكهم وَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو عند الطيران وَبعد ما أردن السرعة يَقْبِضْنَ ويضممن أجنحتهن الى جنوبهن استظهارا بها على سرعة الحركة مع ان ميلهن بالطبع الى السفل لثقلهن ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو على خلاف الطبع إِلَّا الرَّحْمنُ المستعان الشامل برحمته العامة على كل شيء دخل في حيطة قدرته وارادته وبالجملة إِنَّهُ سبحانه بِكُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة الوجود بَصِيرٌ يدبر امره على وجه يليق به وينبغي له بمقتضى سعة رحمته وجوده. ثم قال سبحانه مستفهما منهم على سبيل الإنكار والتقريع
أَمَّنْ هذَا الناصر الظهير الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ وعونتكم يَنْصُرُكُمْ ويعينكم حين بطش الله بكم ايها المسرفون مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ المستوعب بالرحمة العامة على عموم الأكوان مع انه لا شيء في الوجود سواه وبالجملة إِنِ الْكافِرُونَ اى ما هم إِلَّا فِي غُرُورٍ باطل وزور ظاهر لا وثوق لهم ولا اعتماد
أَمَّنْ هذَا الرازق المتكفل لأرزاقكم الَّذِي يَرْزُقُكُمْ ويسوق إليكم دائما ما يسد رمقكم إِنْ أَمْسَكَ سبحانه رِزْقَهُ عنكم يعنى ألكم رازق كذلك تتمسكون به وتتقون عليه سواه سبحانه أصلا كلا وحاشا ليس لكم الا هذا بَلْ لَجُّوا اى قد تمادوا وأصروا على اللجاج وصاروا دائما فِي عُتُوٍّ لدد وعناد وَنُفُورٍ عن الحق وقبوله تعنتا واستكبارا. ثم قال سبحانه مستفهما على سبيل التوبيخ
أَتعتقدون الآثار الظاهرة في الأقطار من الوسائل والأسباب العادية ولم تنسبوها الى المؤثر المسبب المختار وسلكتم في هذا الطريق بأنواع الإنكار والإصرار فَمَنْ اى فهل من يَمْشِي مُكِبًّا ساقطا عَلى وَجْهِهِ لوعورة طريقه وظلمة سبيله أَهْدى الى مقصده وارشد الى مطلبه أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا مستقيما سالما عن التزلزل والسقوط راكبا عَلى متن صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وطريق واضح بلا عثور وقصور قد مثل بهما سبحانه للمشرك المتشبث بالعقل المنعزل عن الرشد والهداية وللمؤمن المستمسك بالعروة الوثقى التي هي الشرع القويم الموصل الى توحيد الحق
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر وحدة الحق واستقلاله في مطلق التصرفات الواقعة في عالم الكون والفساد هُوَ سبحانه القادر المقتدر الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وأظهركم من كتم العدم إنشاء إبداعيا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا به المواعظ والآثار والاخبار الصادرة عن اولى العزائم الصحيحة المجتازين نحو فضاء اللاهوت بانخلاعهم عن كسوة الناسوت مطلقا وَالْأَبْصارَ لتنظروا بها في ملكوت(2/432)
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
السموات والأرض فتعبروا منها الى مبدعها العليم الحكيم وَالْأَفْئِدَةَ لتتفطنوا بها الى عجائب حكمته وبدائع قدرته كي تنكشفوا بوحدته وتتشرفوا بوصلته لكن قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ اى الشاكرون الصارفون هذه النعم العظام الى ما خلقت لأجله قليلون في غاية القلة
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر قدرتنا على الحشر والنشر والحساب والجزاء وعلى جميع الأمور الواقعة في النشأة الاخرى هُوَ سبحانه العزيز الغالب ذو القدرة والاختيار الَّذِي ذَرَأَكُمْ اى بثكم وبسطكم بمقتضى قدرته فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد وكلفكم بالإيمان والأعمال واختبركم بالأوامر والنواهي وَكما أبدعكم أولا بامتداد اظلاله ورشّ انواره على مرآة العدم اعادكم ايضا بقبض اظلاله وانواره الى ذاته فثبت انكم إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء فيجازيكم بمقتضى ما اقترفتم من المأمورات الإلهية
وَيَقُولُونَ من كمال استبعادهم مَتى هذَا الْوَعْدُ الموعود الذي قد وعدتم بالجزاء والحساب والثواب والعقاب فيه أخبرونا عن وقوعه في أى زمان وآن إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعنون النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما ألحوا عليك والجأوك الى التعيين إِنَّمَا الْعِلْمُ المتعلق بتعيين وقته عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع عليه احد من خلقه وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ بمقتضى الوعيد الإلهي مُبِينٌ مظهر مبلغ ما يوحى الى من عنده سبحانه على وجهه لا طريق لعلمي بوقوع الموعود سوى الوحى ولم يوح الى في تعيينه فأتكلم عنه فعليكم ان لا تستعجلوا وقوعه وبعد ما تحقق قرب وقوعه وحل وقته
فَلَمَّا رَأَوْهُ اى العذاب الموعود في الآخرة زُلْفَةً قريبا منهم سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا اى اسودت وقبحت من شدة الكآبة والحزن المفرط وَقِيلَ لهم حينئذ من قبل الحق هذَا العذاب هو العذاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ تتطلبون وتستعجلون وقوعه مراء واستهزاء على وجه التهكم فالآن يلحقكم ما تنكرون منه فيما مضى
قُلْ يا أكمل الرسل لمشركي مكة بعد ما تطيروا بحياتك وتمنوا بموتك وموت من معك من المؤمنين ليتخلصوا منكم ومن شروركم على زعمهم أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ العليم الحكيم حسب قهره وجلاله وَأهلك ايضا مَنْ مَعِيَ من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا سبحانه بان أخر آجالنا بمقتضى لطفه وجماله ونحن مؤمنون مخلصون له مقرون بوحدته وبانه الفاعل على الإطلاق بكمال الاختيار والاستحقاق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فَمَنْ يُجِيرُ وينقذ الْكافِرِينَ المنكرين الله وارادته واختياره وألوهيته وربوبيته مطلقا مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ نازل عليهم من لدنه سبحانه بشؤم ما اقترفوا من الكفر والعصيان وانواع الفسوق والطغيان
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد تمادى نزاعهم وتطاول جدالهم ولم تنفعهم الدعوة والتبليغ كلاما خاليا عن وصمة الجدال والمراء منبعثا عن محض الحكمة والمصلحة هُوَ الرَّحْمنُ المستعان المستوي على عروش عموم الأكوان بكمال الاستيلاء والاستحقاق قد آمَنَّا بِهِ مخلصين مستوثقين بحبل كرمه وجوده وَعَلَيْهِ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية تَوَكَّلْنا وفوضنا أمورنا كلها اليه بالعزيمة الصادقة الخالصة واتخذناه وكيلا واعتقدناه حسيبا وكفيلا فَسَتَعْلَمُونَ ايها المفسدون المسرفون مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أنحن أم أنتم
قُلْ يا أكمل الرسل للمنكرين بوجود الصانع الحكيم على سبيل التبكيت والإلزام أَرَأَيْتُمْ أخبروني ايها المسرفون المكابرون إِنْ أَصْبَحَ وصار ماؤُكُمْ غَوْراً غائرا عميقا الى حيث لا يصل اليه السجال والدلاء بحبال طوال وحيل فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ(2/433)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
جار ظاهر سهل المأخذ سوى الله رب العالمين فكيف تنكرون وجوده مع انكم مغمورون بسوابغ نعمه مستغرقون بسوابق كرمه
خاتمة سورة الملك
عليك ايها المحمدي المتمسك بعروة الشريعة المصطفوية التي لا عروة أوثق منها ولا جادة أقوم واعدل ان تتشبث بها وتعمل بمقتضاها متوكلا على الرحمن المستعان مفوضا أمورك كلها اليه على وجه الإيقان معرضا عن جنود امارتك ومقتضياتها مجاهدا معها مخاصما إياها حتى تصير مطمئنة راضية بعموم ما جرى عليها من مقتضيات القضاء صابرة على ما اصابها من البلاء الى ان تصير فانية عن هوياتها الباطلة باقية بهوية الحق وبقائه. جعلنا الله ممن فنى فيه وبقي ببقائه بمنه وجوده
[سورة القلم]
فاتحة سورة ن
لا يخفى على من تحقق بحيطة الحق وشمول أوصافه الذاتية على عموم مظاهره ومصنوعاته ان قلم تقديره الذي هو أول مصنوع صدر عنه سبحانه قادر غالب على تصويرات لا تتناهى وتشكيلات لا غاية لها فاثبت به سبحانه في لوح قضائه صدور عموم مظاهره ظاهرا وباطنا غيبا وشهادة ازلا وابدا ومن كمال عظمته ورفعة قدره ومكانته اقسم به سبحانه لبراءة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عما يتهمه الظالمون ويقولون في حقه ما يقولون عنادا ومكابرة أولئك المفسدون المفرطون فقال بعد ما تيمن باسمه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على طريق الرمز والإيماء بِسْمِ اللَّهِ المطلع على عموم ما في استعدادات عباده من الفضائل والكمالات الرَّحْمنِ لهم يهديهم الى سبيل الخيرات الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى أعلى الدرجات وارفع المقامات
[الآيات]
ن ايها النبي النائب عن الحق الناظر بنور الله النقي عن جميع الرذائل والآثام المنافية لمرتبتى النبوة والولاية وَحق الْقَلَمِ الأعلى الذي هو عبارة عن حضرة القدرة الغالبة الإلهية وَبحق ما يَسْطُرُونَ ويكتبون به الملأ الأعلى والاخرى حسب آثار الأوصاف والأسماء الإلهية التي لا تعد ولا تحصى
ما أَنْتَ يا أكمل الرسل المبعوث الى كافة البرايا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ الذي رباك على الهداية العامة والولاية المطلقة واعطاك من الفضائل والكمالات المتعلقة بمرتبتى النبوة والولاية مما لا يعد ولا يحصى بِمَجْنُونٍ اى ما أنت بغافل عنها ذاهل عن أداء حقها جاهل بشكر مولاها ومنعمها
وَإِنَّ لَكَ يا أكمل الرسل لَأَجْراً عظيما عند الله غَيْرَ مَمْنُونٍ منقطع ابد الآباد إذ ما يترتب على مرتبتك الجامعة من الكرامات البديعة اللائقة لا انقطاع لها أصلا
وَإِنَّكَ من كمال تخلقك بالأخلاق الإلهية وتحققك بمقام الخلة والخلافة لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ لا خلق أعظم من خلقك لحيازتك وجمعك خلق الأولين والآخرين حسب جامعية مرتبتك وبالجملة
فَسَتُبْصِرُ يا أكمل الرسل وَيُبْصِرُونَ ايضا أولئك المسرفون المفرطون بنسبتك الى الجنون حين تبلى السرائر وينكشف ما في الضمائر وينزل العذاب على اهله
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ اى مع أيكم الفتنة وأيكم يفتن بالجنون المؤمنون المهتدون بهدايتك وارشادك او الكافرون الضالون بغوايتهم وضلالهم وبالجملة
إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك على الرشد والهداية هُوَ أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِمَنْ ضَلَّ وانحرف عَنْ سَبِيلِهِ الموصل الى توحيده وَهُوَ ايضا أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(2/434)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)
المتمكنين منهم على جادة التوحيد والصراط المستقيم الموصل الى جنة الرضا وروضة التسليم وبعد ما سمعت نبذا من شأنك في نشأتك الاخرى
فَلا تُطِعِ ايها النبي المجبول على فطرة الهداية والفلاح الْمُكَذِّبِينَ المجبولين على فطرة الغواية والضلالة يعنى مشركي مكة خذلهم الله فإنهم كانوا يدعونه الى دين آبائه فنهاه سبحانه ان يطيعهم ويقبل منهم دعوتهم فإنهم وان
وَدُّوا وأحبوا لَوْ تُدْهِنُ وتلاين أنت معهم وتوافقهم في دينهم فَيُدْهِنُونَ ايضا معك ويلاينونك ويوافقونك ولا يطعنون لدينك حينئذ لكن لا يليق بشأنك هذا
وَبعد ما قد صرت يا أكمل الرسل متخلقا بالخلق العظيم ومتصفا بالأوصاف الحميدة الإلهية لا تُطِعْ آراء ذوى الأخلاق الذميمة والأطوار القبيحة مطلقا سيما كُلَّ حَلَّافٍ مبالغ بالحلف الكاذب لترويج الباطل الزاهق الزائل مَهِينٍ مهان عند الناس بسبب الكذب المفرط والحلف الكاذب عليه
هَمَّازٍ عياب طعان يغتاب ويطعن بعض الناس عند بعضهم مَشَّاءٍ يدور بين الناس بِنَمِيمٍ اى بنقل حديث بعض عند بعض حتى يوقع بينهم الفتنة والبغضاء
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ شحيح بخيل لا ينفق من ماله على المستحقين ويمنع ايضا صديقه وصاحبه عن الانفاق لئلا يلحق العار والتعيير عليه خاصة مُعْتَدٍ متجاوز الحد في أنواع الظلم واصناف الفسوق والعصيان أَثِيمٍ مبالغ في اقتراف الإثم والعدوان بلا مبالاة بوخامة شأنه
عُتُلٍّ غليظ الهيكل قاسى القلب كريه المنظر عريض القفاء متناه في البلادة سيما بَعْدَ ذلِكَ اى بعد الاتصاف بالأوصاف المذمومة المذكورة زَنِيمٍ دعىّ بين القوم لا يكون له نسب معروف ولا حسب مستحسن مقبول ومن كمال دناءته وخساسته
أَنْ كانَ ذا مالٍ اى انه كان ذا مال عظيم وَبَنِينَ كثيرة فلا بد له ان يشكر المنعم المتفضل ومع ذلك لم يشكره بل يكفره لأنه
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ وعنده آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا قالَ من غاية كفره وكفرانه ونهاية بغيه وعدوانه ما هذا الا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى الأكاذيب القديمة التي سطرها الأولون ودونوها في كتبهم قيل هذا هو الوليد بن المغيرة الذي جمع الله فيه هذه المثالب الذميمة والمساوى القبيحة وبالجملة لا تطعه أنت يا أكمل الرسل ولا تلتفت الى ثروته وسيادته بحال من الأحوال فانا بمقتضى قهرنا وجلالنا
سَنَسِمُهُ ونعلمه بالكي عَلَى الْخُرْطُومِ اى على انفه بحيث يعرف ويعلم به في عرصات المحشر
إِنَّا بمقتضى جلالنا وقهرنا وانتقامنا من اهل مكة قد بَلَوْناهُمْ اى أصبناهم وابتليناهم بالقحط سبع سنين لكفرانهم بنعمنا التي من معظمها بعثة الرسول الذي هو أكمل الرسل منهم ومن شيعتهم فكذبوه وأنكروا عليه وعلى دينه وكتابه واستهزؤا به كَما بَلَوْنا وأصبنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ التي اسمها ضروان كانت دون صنعاء بفرسخين لصالح قد كان ينادى الفقراء وقت الصرام والقطع فلما مات الصالح قال بنوه ان فعلنا مثل ما كان يفعل أبونا لضاق علينا الأمر فان المال قليل والعيال كثير وكان مال أبينا كثيرا وعياله قليلا فحلفوا فيما بينهم ليصر منها مصبحين خوفا من شدة هجوم المساكين كما حكى عنهم سبحانه إِذْ أَقْسَمُوا يعنى أولاد الصالح وورثته لَيَصْرِمُنَّها وليقطعنها مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح
وَلا يَسْتَثْنُونَ اى لا يتكلمون بكلمة ان شاء الله حين تقاولوا وتقاسموا وهم بعد ما اتفقوا على حرمان الفقراء ومع ذلك لم يفوضوا أمورهم الى مشية الله
فَطافَ عَلَيْها اى على تلك الجنة طائِفٌ اى بلاء مخصوص بها حيث أحاط جميع جوانبها ولم يضر ما في حواليها من الجنان والبساتين الاخر(2/435)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
ناش مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وَهُمْ حينئذ نائِمُونَ في بيوتهم
فَأَصْبَحَتْ الجنة وصارت بعد ما أصاب عليها ما أصاب كَالصَّرِيمِ اى التي صرم ثمارها بحيث لم يبق فيه شيء او صارت كالليل في اسودادها واحتراقها او كالنهار في غاية يبسها وجفافها
فَتَنادَوْا اى نادى بعضهم بعضا حال كونهم مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح المعهود للصرام صايحين
أَنِ اغْدُوا واخرجوا غدوة ايها الملاك عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ قاصدين الصرم والقطع فخرجوا فَانْطَلَقُوا بأجمعهم نحوها
وَهُمْ حين خروجهم يَتَخافَتُونَ ويكتمون ذهابهم عن الناس ويسرون كلامهم فيما بينهم
أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ
وَبالجملة غَدَوْا وذهبوا غدوة عَلى حَرْدٍ اى مع قصد تام وسرعة كاملة قادِرِينَ على القطع بلا مشاركة ومعين
فَلَمَّا وصلوا إليها رَأَوْها كذلك قالُوا في بادى الرأى ما هي جنتنا هذه بل إِنَّا لَضَالُّونَ طريقها ثم لما تأملوا في اماراتها وجزموا بعلاماتها قالوا على سبيل الإضراب عن القول الاول من غاية الحسرة والأسف
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قد حرمنا عنها وعن ثمارها وخيراتها لخساستنا وخباثة نفوسنا وبعد ما حرموا عنها
قالَ أَوْسَطُهُمْ أعدلهم رأيا وعقلا على وجه التقريع والتشنيع لإخوانه أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ وقت مشاورتكم على حرمان الفقراء واتفاقكم على منعهم لَوْلا تُسَبِّحُونَ وهلا تذكرون الله بالخير ولم لا تشكرون نعمه بالإنفاق على الفقراء حتى يزيد عليكم سبحانه نعمه وهو كان قاله هكذا حين عزموا أولا على المنع وشاوروا فيه وبعد ما وقع ما وقع اعترفوا بالظلم والعدوان حيث
قالُوا عن غاية الندامة والإنابة سُبْحانَ رَبِّنا ننزهك من ان ننازع في ملكك وسلطانك ونخالف حكمك وشأنك وبالجملة إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ خارجين عن مقتضى أمرك بالإنفاق عارضين أنفسنا على انتقامك تب علينا بفضلك وكرمك انك أنت التواب الرحيم وبعد وقوع الواقعة الهائلة
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ اى يلوم بعضهم بعضا فان منهم من كان استصوب ومنهم من أشار ومنهم من سكت وبالجملة
قالُوا اى الكل متحسرين يا وَيْلَنا وهلكتنا ادركينا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ متجاوزين حدود الله مستحقين للويل والثبور وبعد ما أنابوا الى الله وتضرعوا نحوه عن محض الندم والإخلاص قالوا على سبيل التمني والرجاء
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها ببركة التوبة والانابة بالإخلاص والاعتراف بالخطإ والاستغفار بالندم والانكسار التام إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ مائلون راجون منه العفو طالبون الخير والمغفرة. وقد روى انهم قد ابدلوا خيرا منها عناية وفضلا وبالجملة
كَذلِكَ الْعَذابُ لمن خرج عن مقتضى الحدود الإلهية في الدنيا وَالله لَعَذابُ الْآخِرَةِ المعدة لأصحاب الغفلة عن الله أَكْبَرُ وأعظم واقطع بل بأضعافه وآلافه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويعتقدون وقوعه لاحترزوا البتة عما يئول بهم اليه ويوقعهم فيه. ثم قال سبحانه
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الحافظين المتحفظين نفوسهم عن غضب الله المحترزين عن الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي وفقهم على صيانة النفس عن المعاصي والمنكرات حين وصولهم الى كنف حفظه وجوار قدسه جَنَّاتِ النَّعِيمِ اى روضة الرضاء وجنة التسليم ولهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها ابدا والله عنده اجر عظيم لمن وصل اليه وتحقق دونه. ثم لما كانت الكفرة يقولون ان صح انا نبعث كما يزعم محمد وأصحابه لا يتفوقون بنا ولا يفضلون علينا أولئك الأراذل هناك ايضا بل نحن هناك ايضا احسن حالا منهم كما(2/436)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
في الدنيا رد الله عليهم زعمهم هذا بقوله
أَفَنَجْعَلُ يعنى أيزعم الكفرة المفسدون المفرطون انا نجعل الْمُسْلِمِينَ المتصفين بالإيمان والأعمال الصالحة المنزهين عن مطلق العصيان ولوازمها كَالْمُجْرِمِينَ الموصوفين بأنواع الجرائم والآثام الخارجة عن مقتضى الاحكام الإلهية الجارية على مقتضى الحكمة والعدالة
ما لَكُمْ وما عرض ولحق بكم ايها العقلاء حتى أخرجكم عن مقتضى العقل الفطري كَيْفَ تَحْكُمُونَ وتدعون مساواة المسيء مع المحسن فكيف يفضله سيما عند العليم الحكيم المتقن في عموم الأفعال بمقتضى القسط والعدل السوى أتحكمون هذا بمقتضى رأيكم الفاسد ايها الضالون
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ نازل عليكم من السماء فِيهِ اى في الكتاب المنزل تَدْرُسُونَ وتقرءون هكذا
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ اى في الكتاب النازل لَما تَخَيَّرُونَ اى ما تختارونه لأنفسكم وتشتهونه من خير ما تجدون فيه
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عهود ومواثيق مؤكدة لازمة عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مشتملة متضمنة لهذا إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ به علينا من ان الخير والكرامة لكم عندنا اكثر مما لهم وبالجملة
سَلْهُمْ يا أكمل الرسل وفتش عنهم على سبيل التبكيت والإلزام أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم زَعِيمٌ قائم متكفل يستدل عليه ويصححه أهو اى الزعيم المستدل واحد منهم
أَمْ لَهُمْ في هذه الدعوى شُرَكاءُ متشاركون في هذا القول والحكم وهم يقلدونهم فان ادعوا شركاء قل لهم نيابة عنا فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ حتى يثبتوا الدعوى ويصححوها إِنْ كانُوا صادِقِينَ في هذه الدعوى وبعد ما بهتوا اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ يُكْشَفُ الأمور والخطوب عَنْ ساقٍ اى عن أصلها وحقيقتها وتبلى السرائر برمتها وارتفعت حجب الأعيان وسدل الاعتبارات بأسرها وبالجملة ثم لم يبق الا الله الواحد القهار وَيُدْعَوْنَ حينئذ هؤلاء الاظلال الهالكون في تيه الحيرة والضلال إِلَى السُّجُودِ والتذلل على وجه الانكسار لدى الملك الجبار فَلا يَسْتَطِيعُونَ حينئذ لمضى نشأة الاختيار وأوان الاختبار بل قد صاروا
خاشِعَةً ذليلة خاسرة أَبْصارُهُمْ هائمة عقولهم وبالجملة تَرْهَقُهُمْ وتلحقهم ذِلَّةٌ عظيمة محيطة بجميع جوانبهم وَكيف لا يكونون كذلك يومئذ إذ هم قَدْ كانُوا في نشأة الاختبار يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ حينئذ سالِمُونَ متمكنون قادرون عليه فلم يفعلوا عنادا ومكابرة فالآن قد انقضى وقت الاختبار فلا ينفعهم التذلل والانكسار سواء قدروا او لم يقدروا وبعد ما بالغ المنكرون المكذبون في قدح القرآن وطعنه وأصروا على العناد والاستكبار
فَذَرْنِي اى خلنى يا أكمل الرسل وَفوض على امر مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ يعنى القرآن ولا تتعب نفسك في معارضتهم ومجادلتهم ولا تعجل في أخذهم وانتقامهم فانى انتقم منهم وأكفيك مؤنة شرورهم فاعلم انا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ اى ندنيهم درجة درجة الى أسوأ العذاب بان نهملهم في الدنيا وننعم عليهم ونديم صحتهم ونوفر عليهم اسباب الشقاوة حتى صاروا مغمورين في الكفران والطغيان منهمكين في الضلال والعصيان ثم نبطشهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ اى من جهة وطريق لا يفهمون انه جهة الأخذ وطريقه مكرا عليهم وزجرا لهم
وَبالجملة أُمْلِي لَهُمْ وامهلهم كيدا عليهم وهم لا يشعرون إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ محكم لا يفهمه احد ولا يدفعه شيء أينكرون ارشادك وتبليغك إياهم عنادا ومكابرة
أَمْ يدعون انك تَسْئَلُهُمْ أَجْراً جعلا على ارشادك وتكميلك إياهم فَهُمْ حينئذ مِنْ مَغْرَمٍ اى من أجل غرامة مُثْقَلُونَ بحملها فيعرضون عنك ويكذبونك بسببها
أَمْ يدعون الاطلاع على المغيبات ويزعمون انه(2/437)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اى لوح القضاء فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه جميع ما يحكمون به من الإقرار والإنكار وبه يستغنون عن تعليمك وارشادك لذلك يكذبونك وينكرون عليك وهم وان بالغوا في العناد والإنكار
فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو تأخير نصرتك عليهم وإمهالهم زمانا على حالهم ولا تستعجل في مؤاخذتهم وَلا تَكُنْ في الاستعجال كَصاحِبِ الْحُوتِ يعنى يونس بن متى صلوات الله عليه قد استعجل العذاب لقومه حين بالغوا في العصيان عليه وتكذيبه ثم لما ظهر اماراته خرج من بينهم مغاضبا عليهم حتى اقتحم البحر فساهم في السفينة فكان من المدهضين فالتقمه الحوت وهو حينئذ مليم نفسه اذكر إِذْ نادى ربه في بطن الحوت وَهُوَ حينئذ مَكْظُومٌ مملو غضبا وغيظا مبتلى بالبلاء العظيم
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ وأدركته نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعنى لو لم يوفقه سبحانه على نعمة التوبة والانابة والرجوع الى الله على وجه الإخلاص والندامة لَنُبِذَ وطرح هو البتة بِالْعَراءِ اى الأرض الخالية من الشجر وَهُوَ حينئذ مَذْمُومٌ مليم مطرود من الرحمة والكرامة لكن قد أدركته العناية الإلهية وانفتح له باب التوبة والاستغفار على وجه الندم والانكسار فاستغفر ربه وتاب عليه واستجاب له تفضلا وامتنانا
فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ايضا لمصلحة النبوة وقبله فأرسله مرة اخرى الى قومه فَجَعَلَهُ حسب فضله وطوله مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح الفائزين بالعصمة والفلاح اللائقين لشأن النبوة والهداية والإرشاد والتكميل
وَمن غلظ غيظهم معك يا أكمل الرسل وشدة شكيمتهم وضغينتهم بالنسبة إليك إِنْ يَكادُ انه يقرب الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وستروا محامد أخلاقكم ومحاسن شيمكم لَيُزْلِقُونَكَ يا أكمل الرسل ويزيلونك عن الحياة بل يريدون ان يصرعوك ميتا على الأرض بِأَبْصارِهِمْ اى بحدة نظرهم نحوك حسدا عليك لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ اى حين سمعوا منك تلاوة القرآن المعجز معجبين من بدائع نظمه وغرائب أسلوبه وكمال فصاحته وبلاغته ومتانة تركيباته الفائقة على تراكيب عموم اللسن والفصاحة وعجائب معانيه التي قرعت اسماعهم لذلك قد حسدوا عليك خفية وقصدوا مقتك باصابة العين اللامّة وَان كانوا يَقُولُونَ عند الملأ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ يتكلم بكلام المجانين ما هو من جنس كلام الناس تلبيسا على ضعفاء الأنام وتغريرا لهم لئلا يتفطنوا على عظمة شأنك ورفعة قدرك ومكانك وهم في خلواتهم على ضنة تامة وحسد كامل مما صدر منك وظهر عنك من الخوارق
وَيقولون لك مجنون وينسبون كلامك الى الجنون ظاهرا مع انه ما هُوَ اى القرآن المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إِلَّا ذِكْرٌ اى محض هداية ورشد وتبصرة كاملة وتذكير شامل لِلْعالَمِينَ اى لعموم المكلفين ممن يوفقهم الحق الى صراط مستقيم. جعلنا الله ممن تذكر به واتعظ بما فيه بمنه وجوده
خاتمة سورة ن
عليك ايها المريد القاصد لسلوك طريق التوحيد هداك الله الى سواء السبيل ان تتصبر في مشاق الطاعات ومتاعب التكاليف الواقعة في سلوك طريق الفناء وسيما على اذيات اصحاب الزيغ والضلال المائلين عن سبيل الهداية والرشد المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية فعليك ان لا تلتفت نحوهم ولا تبالي بشأنهم ولا تستعجل بانتقامهم فان ربك يكفى لك مؤنة شرورهم وبالجملة فعليك بالوقار والاصطبار والأمر بيد الله الحكيم الجبار القدير القهار فسينتقم قريبا عن اهل البغي والإنكار(2/438)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)
[سورة الحاقة]
فاتحة سورة الحاقة
لا يخفى على من تمكن في مقر التوحيد وانكشف بوقوع الطامة الكبرى التي اندكت دونها الأرض السفلى والسموات العلى وفنيت عندها هياكل الأشباح وهويات الأشياء ان ظهور عموم المظاهر والمجالى انما هي على حسب الأوصاف الذاتية الإلهية والأسماء التي امتدت وانبسطت على مرآة العدم وانعكس من ذلك الانبساط عموم ما انعكس من سراب العالم واظلال السوى والأغيار وبالجملة قد قبض الحق ما أبدى وانقهرت ماهيات الأشياء وتلاشت هوياتها الباطلة ولم يبق الا الحق الحقيق بالحقية الوحيد بالقيومية الفريد بالديمومية بحيث لا يعرضه تغير وزوال ولا يعتريه تبدل وانتقال لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن وقوع الحاقة الحقيقية الحقية وابهمها عليه صلّى الله عليه وسلّم تهويلا وتفخيما لشأنها فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم ما ظهر وبطن إظهارا لقدرته الغالبة الرَّحْمنِ عليه بامتداد اظلاله للظهور والبروز الرَّحِيمِ عليه بقبضه الى ذاته للخفاء والبطون
[الآيات]
الْحَاقَّةُ اى النشأة الاخرى التي ظهرت فيها حقية الحق وثبوته وتحقق دونها من على الحق وفاز بمبتغاه واستقر في دار السرور ومن على الباطل ولحق العذاب المعد له واستقر على الويل والثبور ثم استفهم سبحانه عنها تهويلا وتعظيما فقال
مَا الْحَاقَّةُ التي قد انقهرت دونها اظلال الأغيار وأشباح العكوس والسوى مطلقا وبرزوا لله الواحد القهار ثم زاد سبحانه على تهويلها بان نفى احاطة علم حبيبه صلّى الله عليه وسلّم الذي قد جاء من عنده رحمة للعالمين إياها حيث قال
وَما أَدْراكَ وأى شيء أعلمك وأفهمك يا أكمل الرسل مَا الْحَاقَّةُ الحقية الحقيقية التي طويت دونها عموم المراتب ونقوش مطلق الكثرات والإضافات واضمحلت عندها عكوس الأسماء والصفات رأسا وبالجملة قد انقهرت وقت قيامها رسوم الناسوت ولم يبق الا الحي القيوم اللاهوت وحضرة الرحموت ولا شك انه متعال عن مطلق الإدراك والاطلاع المترتب على نشأة الناسوت بل على نشأتى الملكوت والجبروت. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمكذبين المنكرين عليها
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ اى بالحاقة المذكورة التي يقرع الأسماع سماع أهوالها ويدهش العقول ذكر افزاعها
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ اى بسبب طغيانهم المتجاوز عن الحد في تكذيبها اهلكوا بصيحة هائلة متجاوزة عن حد الصياح
وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ باردة في غاية البرودة عاتِيَةٍ شديدة العصف بحيث لم يقدروا على دفعها وردها اصلاحين
سَخَّرَها وسلطها سبحانه حسب قهره عَلَيْهِمْ وانتقامه عنهم بمقتضى سخطه وجلاله لذلك قد أبقى عليهم سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً متتابعة مترادفة قاطعة قالعة فَتَرَى ايها المعتبر الرائي الْقَوْمَ فِيها اى في تلك الأيام ولياليها صَرْعى هلكى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ساقطة عن أصولها لا جوف لها
فَهَلْ تَرى لَهُمْ وما ترى منهم بعد تلك الأيام مِنْ باقِيَةٍ يعنى لم يبق منهم بعد تلك الواقعة الهائلة نفس لها حياة قد استؤصلوا بالمرة في تلك الأيام
وَبعد انقراض أولئك الغواة الطغاة الهالكين في تيه الجهل والعناد جاءَ فِرْعَوْنُ العتو العتل الطاغي المتجاوز عن الحد في البغي والعدوان وَمَنْ قَبْلَهُ ونقدم عليه من الأمم المكذبة الباغية او ومن معه من ملائه واشرافه على القرائتين وَجاء ايضا الْمُؤْتَفِكاتُ اى قرى قوم لوط والمراد من فيها من المكذبين وبالجملة كلهم جاءوا بِالْخاطِئَةِ(2/439)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
المعهودة التي هي انكار يوم الحاقة الحقيقية على وجه المبالغة وبعد نزول الوحى ومجيء الرسل إليهم
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ اى عصى كل امة لرسولها المبعوث إليهم ليهديهم الى طريق الرشد فكذبوه واستهزؤا معه وبالغوا في تكذيبه وعصيانه فَأَخَذَهُمْ سبحانه اى كلا منهم أَخْذَةً رابِيَةً زائدة شديدة بمقتضى ما ازدادوا في العصيان والتكذيب اذكر يا أكمل الرسل شدة أخذنا إياهم
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ بعد ما أمرناه بالطغيان في يوم الطوفان الى حيث حَمَلْناكُمْ اى آباءكم الذين آمنوا بنوح عليه السلام وأنتم حينئذ في أصلابهم فِي الْجارِيَةِ السفينة التي قد صنعها نوح عليه السلام بتعليمنا له قبل الطوفان بمدة وأغرقنا الكفرة بأجمعهم بحيث لم يبق على الأرض سوى اصحاب السفينة احد من البشر وانما حملناكم عليها وأنجيناكم بها
لِنَجْعَلَها
اى هذه الفعلة الجميلة التي هي نجاة المؤمنين من الطوفان العظيم لَكُمْ
ايها المستخلفون المكلفون تَذْكِرَةً
اى عظة وعبرة وتبصرة دالة على كمال قدرة الصانع الحكيم ومتانة حكمته وَتَعِيَها
اى تستحضر وتستحفظ هذه التذكرة والتبصرة الكاملة أُذُنٌ واعِيَةٌ
حافظة لعموم العبر والتذاكير المورثة للقلوب الصافية الخائفة خيرا كثيرا ونفعا كبيرا وبعد ما بالغ سبحانه في وصف القيامة وشرح أهوالها وأحوالها وذكر حال من كذب بها ومآل امره أراد أن يشرح ما يظهر فيها من الأمور الهائلة والوقائع العظيمة عند قيامها فقال
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وهي النفخة الاولى التي عندها خراب العالم
وَحين سماعها وظهورها حُمِلَتِ ورفعت الْأَرْضُ وَالْجِبالُ من أماكنهما التي قد استقرتا عليها بان امر لهما سبحانه بالحركة والاضطراب على مقتضى القدرة الغالبة القاهرة فَدُكَّتا بعد ما سمعتا الأمر الوجوبي وانكسرتا بحيث اضمحلت اجزاؤهما وتفتتت فصارتا دَكَّةً واحِدَةً اى قاعا صفصفا مسواة ملساء بحيث لا عوج لها ولا أمتا نتوا
فَيَوْمَئِذٍ اى حين وقوع هذه الحالة الهائلة قد وَقَعَتِ الْواقِعَةُ العظمى وقامت الطامة الكبرى
وَقد انْشَقَّتِ السَّماءُ وانحلت التيامها ونظامها وتضعضعت بنيانها وأركانها فَهِيَ اى السماء يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ منهدمة منحلة الاجزاء والتراكيب
وَالْمَلَكُ يومئذ اى جنس الملائكة ينزلون عَلى أَرْجائِها اى أقطارها وانحائها بعد ما كانوا في حافاتها وحواقها وَبعد ما خربت السموات وانهدمت يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل فَوْقَهُمْ اى فوق الملائكة النازلين على الارجاء يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ من الملائكة بعد ما كانوا قبل ذلك اربعة إذ حملة العرش في النشأة الاولى اربعة وفي النشأة الاخرى تكون ثمانية على ما أشار اليه صلّى الله عليه وسلّم في الحديث كأنه أشار بالأربعة الى أمهات الصفات الإلهية التي هي الحياة والعلم والقدرة والارادة وبالثمانية الى مجموع الصفات الثمانية الذاتية وبالجملة
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ أنتم ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة على الله عرض العسكر على السلطان بحيث لا تَخْفى ولا تتستر مِنْكُمْ في يوم العرض خافِيَةٌ اى سر مستور مكتوم على الله حتى يكون العرض للاطلاع والشعور بل الكل في حضرة علمه حاضر غير مغيب ومخفي وانما تعرضون ليظهر كمال القسط والعدل الإلهي بالنسبة الى عموم العباد وحتى يظهر عندهم ان الحجة البالغة الغالبة لله ثم فصل سبحانه احوال العباد في الحساب والجزاء وإتيان صحف أعمالهم ليطالعوا فيها جميع ما اقترفوا في نشأة الاختبار فقال
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ لمن حوله فرحا وسرورا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ اى تعالوا فاقرؤا كتابي هذا
إِنِّي ظَنَنْتُ(2/440)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)
في النشأة الاولى ظنا قريبا الى الجزم واليقين إِنِّي اليوم مُلاقٍ حِسابِيَهْ هكذا على الوجه الأحسن وبواسطة يقيني وجزمى قد كنت قدما أخاف ان يصدر عنى شيء يعاقب على بسببه وبالجملة
فَهُوَ حينئذ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ صاحبها لكونها صافية عن مطلق الكدورات متمكنا
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ رفيعة مكانا ومكانة
قُطُوفُها وثمارها دانِيَةٌ قريبة لمن ناولها مهما أراد تناولها نالها وناولها بلا تعب ومشقة ويقال لهم حينئذ
كُلُوا وَاشْرَبُوا من ثمار الجنة ومائها هَنِيئاً سائغا مريئا كل ذلك بِما أَسْلَفْتُمْ وقدمتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية في نشأة الاختبار فيصور لكم أعمالكم بهذه الصور البديعة في النشأة الاخرى
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ بعد ما رأى تفصيل المعاصي والقبائح الصادرة منه في نشأة الاختبار متمنيا متحسرا من غاية الضجرة والأسف المفرط يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ ولم اعط كِتابِيَهْ هذا
وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ فيه
يا لَيْتَها كانَتِ هذه الحالة الآتية على الْقاضِيَةَ الفارقة بيني وبين حياتي بحيث لم أصر حيا بعد هذه الحالة حتى لا افتضح على رؤس الاشهاد. ثم قال متأسفا متحسرا على ما مضى عليه قائلا
ما أَغْنى ودفع العذاب عَنِّي مالِيَهْ اى ما نسب الى من الأموال والأولاد والاتباع بل
هَلَكَ اى قد ضل وضاع اليوم عَنِّي سُلْطانِيَهْ اى تسلطي على الناس وتفوقى على الأقران وهو في أمثال هذه الهواجس على سبيل الضجرة والحسرة قيل للموكلين من قبل الحق
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ بالاغلال الضيقة الثقيلة
ثُمَّ الْجَحِيمَ المسعر العظيم المعهود الذي يعد لأصحاب الثروة والجاه من الكفرة صَلُّوهُ اطرحوه
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها وقدرها طولا سَبْعُونَ ذِراعاً بذراع لا يعرف قدرها الا الله فَاسْلُكُوهُ أدخلوه ولفوه بها بحيث يصير محفوفا بها لا يقدر على الحركة أصلا ألا وهي أغلال الأماني وسلسلة الآمال الطويلة الامكانية وكيف لا يعذب الكافر كذلك
إِنَّهُ من غاية نخوته وتجبره قد كانَ لا يُؤْمِنُ ولا يذعن بِاللَّهِ الْعَظِيمِ المستحق للعبودية والايمان عتوا وعنادا ولا شك ان من تعظم على الله العلى العظيم قد استحق أسوأ العذاب وأشد النكال
وَمع هذا الكفر والكفران لا يَحُضُّ اى لا يحث ولا يرضى فيما مضى عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ان أطعمه احد من ماله فضلا ان يطعمه هو بنفسه عن ماله
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا اى في يوم العرض والجزاء حَمِيمٌ قريب من أقاربه يحميه ويشفع له كما في الدنيا
وَلا طَعامٌ يأكله ويشبع منه إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ اى من غسالة اهل النار وما يسيل منهم من القيح والصديد وبالجملة
لا يَأْكُلُهُ اى الغسلين إِلَّا الْخاطِؤُنَ اى اصحاب الخطايا والمعاصي العظام والجرائم الكبيرة والآثام وبعد ما شرح سبحانه من احوال يوم القيامة وأهوالها وافزاعها وما جرى فيها من الوعيدات الهائلة والمصائب الشديدة الشاملة فرع عليه قوله
فَلا أُقْسِمُ يعنى لا حاجة في اثبات ما ثبت وتبين الى تأييده بالقسم بِما تُبْصِرُونَ من المظاهر والمجالى
وَما لا تُبْصِرُونَ منها من المقسمات التي لم نطلع أحدا عليها فعليكم ايها المكلفون ان تتوجهوا الى القرآن المنزل عليكم لأجل التبيان والبيان فتعتقدوا جميع ما فيها حقا صدقا وتمتثلوا باوامرها وتجتنبوا عن نواهيها
إِنَّهُ اى القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ نفسه لا يتأتى منه الجرأة والافتراء على الله إذ هو ملك منزه عن أمثال هذه الرذائل المنافية لمنصب الرسالة التي هي مرتبة الخلافة والنيابة عن المرسل الكريم
وَما هُوَ اى القرآن بِقَوْلِ شاعِرٍ كما يقول في حقه بعض الكفرة الجاهلين(2/441)
وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
بقدره وشأنه لكن قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ بصدقه وحقيته منكم ايها الكافرون لفرط عنادكم واستكباركم
وَلا هو بِقَوْلِ كاهِنٍ كما زعم بعضهم ان محمدا كاهن لكن قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ وتتعظون منه ان ما فيه ليس من جنس كلام الكهنة لا لفظا ولا معنى إذ ليس في القرآن من السرائر والاحكام إلا وهي مشعرة بالحكمة المتقنة الإلهية التي هي بمراحل عن احلام الكهنة المنحرفين عن جادة التوحيد والإسلام بل ما هو الا
تَنْزِيلٌ صادر ناش مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ لتربية عموم العباد على مقتضى الحكمة المتقنة ليستعدوا بفيضان التوحيد واليقين
وَلَوْ تَقَوَّلَ اى اختلق وافترى عَلَيْنا محمد بَعْضَ الْأَقاوِيلِ من تلقاء نفسه بلا وحى منا اليه
لَأَخَذْنا البتة وانتقمنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ اى بالقدرة الكاملة كما ننتقم عن سائر العصاة المفترين
ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ زجرا عليه وتعذيبا له الْوَتِينَ اى نياط قلبه الذي منه عموم إدراكاته
فَما مِنْكُمْ ايها المكلفون مِنْ أَحَدٍ حينئذ عَنْهُ اى عن أخذنا وعذابنا إياه حاجِزِينَ مانعين يمنعوننا عن بطشه وتعذيبه يعنى ان محمدا صلّى الله عليه وسلّم لا يفترى علينا شيأ لاجلكم ايها الكافرون وهو صلّى الله عليه وسلّم يعلم منا انه لو افترى علينا شيأ من تلقاء نفسه ونسبه إلينا ظلما وزورا لعذبناه عذابا شديدا بحيث لا يقدر احد ان يدفع عذابنا عنه
وَبالجملة إِنَّهُ اى القرآن لَتَذْكِرَةٌ صادرة منا متعلقة لِلْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن مقتضيات قهرنا وجلالنا
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ بحسب علمنا الحضوري أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ للقرآن ولمن انزل اليه ايها المنكرون المسرفون فنجازيكم على مقتضى تكذيبكم
وَبالجملة إِنَّهُ اى القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ في الدنيا والآخرة يتحسرون في الدنيا من نزوله على المؤمنين وان كانوا لا يظهرونه ويتحسرون ايضا في الآخرة بترتب الثواب على من صدقه وآمن به وهم حينئذ يتحسرون ويتندمون على عدم الايمان والتصديق به
وَكيف لا يكون القرآن تذكرة وسبب حسرة عظيمة وندامة بليغة على اهل الإنكار والتكذيب إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فائض نازل من الحق على من وصل الى مرتبة اليقين الحقي مترقيا من اليقين العلمي والعيني
فَسَبِّحْ يا أكمل من وصل الى مرتبة اليقين الحقي بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ الذي رباك على الخلق العظيم وأوصلك الى روضة الرضا وجنة التسليم بلطفه العميم
خاتمة سورة الحاقة
عليك ايها الموحد المتحقق بمرتبة حق اليقين مكنك الله فيها عن تذبذب وتلوين ان تتأمل في مرموزات القرآن وتتدبر في كشف السرائر المودوعة فيه بقلب خال عن مطلق الوساوس والأوهام صاف عن جميع الكدورات الحاصلة من تقليدات ذوى الأحلام الحائضين فيه بمقتضى الآراء والافهام الركيكة بلا تأييد من جانب العليم العلام القدوس السلام فلك ان تتوجه نحوه بقلب فارغ عن عموم الاشغال مائل عن مطلق الزيغ والضلال الواقع فيه من اصحاب الظواهر القانعين منه بالقيل والقال حسب تفاهم عرفهم ومقتضى فهمهم وإياك إياك ان تكتفى بمجرد منطوقات الألفاظ وتقتصر عليها بلا خوض في تيار بحاره الزخارات التي هي مملوة بدرر المعارف ولآلى الحقائق الموصلة الى مرتبة حق اليقين وإذا خضت وغصت فيه على الوجه المذكور واستخرجت من درر فرائده بقدر حوصلتك واستعدادك حق لك ان تقول حينئذ انه لحق اليقين وان تكون مرجعا للخطاب الإلهي بقوله فسبح باسم ربك العظيم(2/442)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
[سورة المعارج]
فاتحة سورة المعارج
لا يخفى على من انكشف له الحجب وارتفع عن بصر بصيرته السدل والاغشية المانعة عن الاطلاع والشهود لوجه الحق الكريم ان المراقي والمعارج من حضيض الإمكان الذي هو عبارة عن مضيق عالم الناسوت نحو ذروة الوجوب الذي هو عبارة عن فضاء عالم اللاهوت اكثر من ان تعدو تحصى لكن المنجذبين نحو الحق من ارباب المحبة والولاء هم الذين قد شملت لهم العناية الازلية وأدركتهم الكرامة السرمدية بحيث رفعت عنهم الاغطية والحجب الظلمانية البشرية وطويت دونهم مطلق المسافات الى ان صار سيرهم من عالم مضيق الناسوت نحو فضاء اللاهوت سيرا كشفيا وعروجهم نحوه عروجا معنويا وتحققهم دونه انما هو بالفناء والموت الإرادي عن لوازم الهوية الصورية وبالانسلاخ والانخلاع عن مقتضيات القوى البشرية فمن كان شأنه هذا وحاله هكذا فلا يكال مدارج ترقيه بمكيال الزمان والآن وما يتركب منهما ويتفرع عليهما من مطلق المقادير التي يقدر بها عموم التقادير واما المحجوبون المقيدون بسلاسل الزمان وأغلال المكان المعذبون بنيران الإمكان ولوازم نشأة الناسوت فلا مخلص لهم عن مقتضيات الطبائع والأركان وعن لوازم بقعة الإمكان ولواحق عرصة الأكوان كما اخبر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم حيث قال بعد التيمن والتبرك بِسْمِ اللَّهِ الذي كشف ذاته لأرباب المحبة والولاء بعد رفع الحجب والغطاء الرَّحْمنِ عليهم يوفقهم للصعود نحو عالم الأوصاف والأسماء الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى مرتبة البقاء بعد الفناء
[الآيات]
سَأَلَ سائِلٌ من اصحاب الفطنة والاعتبار بِعَذابٍ اى عن كيفية عذاب واقِعٍ
لِلْكافِرينَ او المعنى جرى على سبيل السيل والطغيان وادي الإمكان مملوا بعذاب اى بأنواع من العذاب الهائل واقع للكافرين الساترين بطبائعهم الكثيفة وهوياتهم الباطلة السخيفة شمس الحق الظاهرة في الأنفس والآفاق بمقتضى الاستقلال والاستحقاق الى حيث لَيْسَ لَهُ دافِعٌ يرده ويدفعه عنهم
مِنَ اللَّهِ اى من قبله وجهته لتعلق مشيته المحكمة ومضاء قضائه المبرم على وقوعه لاعدائه ذِي الْمَعارِجِ والدرجات العلية والمقامات السنية من القرب والكرامة لأوليائه
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ اى حوامل آثار الأسماء والصفات الإلهية من مجردات العالم السفلى وَالرُّوحُ الفائض من لدنه سبحانه على هياكل الهويات من ماديات عالم الطبيعة والأركان القابلة لآثار العلويات من الأسماء والصفات المسميات بالأعيان الثابتة إِلَيْهِ اى الى الذات البحت الخالص عن مطلق القيود والإضافات بعد ما جذبهم الحق وأدركتهم العناية الإلهية مترقين من درجة الى درجة فِي يَوْمٍ وشأن لا كأيام الدنيا وشئونها وان قسته الى ايام الدنيا وأضفته الى المسافة الدنية الدنياوية كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من سنى الدنيا الا انهم يقطعونها بعد ورود الجذبة الإلهية والخطفة الغالبة الغيبية اللاهوتية كالبرق الخاطف في اقصر من لمحة وطرفة وبعد ما انكشف لك الأمر
فَاصْبِرْ يا أكمل الرسل على اذيات الأعداء واستهزائهم صَبْراً جَمِيلًا بحيث لا يشوبه قلق واضطراب وضجرة وسآمة واستعجال للانتقام وترقب بالعذاب على وجه الهتك فانه سيصيبهم العذاب الموعود عن قريب
إِنَّهُمْ بمقتضى انكارهم وإصرارهم يَرَوْنَهُ اى نزول العذاب بَعِيداً في غاية البعد الى حيث يعتقدونه محالا خارجا عن الإمكان
وَنَراهُ قَرِيباً من لمح البصر بل هو اقرب(2/443)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)
منه اذكر لهم يا أكمل الرسل كيف يعملون
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ من القهر الإلهي كَالْمُهْلِ اى كالفضة المذابة يسيل من مكانها من غاية الخشية الإلهية
وَتَكُونُ الْجِبالُ الملونة بالألوان المختلفة بعد ما شمل النظر القهرى الإلهي كَالْعِهْنِ اى كالصوف المصبوغ المندوف تذروه الرياح حيث شاءت
وَيومئذ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً اى لا يسأل قريب عن قريب وصديق عن صديقه بل يومئذ يفر المرء من أخيه وامه وأبيه وبالجملة لا يلتفت احد الى احد من شدة هوله وشغله بحاله بحيث
يُبَصَّرُونَهُمْ وينبهون عليهم من حال أقاربهم ليرقوا لهم وهم لا يلتفتون إليهم ولا يرقون لهم بل يَوَدُّ ويحب الْمُجْرِمُ حينئذ متمنيا لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ الذين هم أحب اليه وأعز عليه من نفسه في دار الدنيا
وَكيف لا يود ان يفتدى ايضا بأحب الناس اليه بعد بنيه صاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
وَفَصِيلَتِهِ أقاربه وعشيرته الَّتِي تُؤْوِيهِ اى تضمه الى نفسه وقت حلول الشدائد ونزول الملمات في دار الدنيا بل
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعنى بل يود ويرضى ان يفتدى عن نفسه بجميع من في الأرض من الثقلين لو قدر عليه ثُمَّ يُنْجِيهِ اى نفسه بالفدية المذكورة من عذاب ذلك اليوم الهائل
كَلَّا وحاشا ان ينقذ وينجى المجرم بأمثال هذه الافتداءات من عذاب الله بل كل نفس يومئذ رهينة بما كسبت إِنَّها اى النار المسعرة التي اسمها لَظى اى ذات لهب والتهاب تتلظى وتلتهب دائما بحيث تصير
نَزَّاعَةً لِلشَّوى اى تنزع من شدة التهابها الأطراف عن أماكنها سيما جلدة الوجه والرأس وبالجملة
تَدْعُوا وتجذب الى نفسها مَنْ أَدْبَرَ عن الايمان ولم يقبل الى قبول الدعوة وَتَوَلَّى اى انصرف عن الطاعة واطاعة الداعي
وَمع ذلك جَمَعَ مالا عظيما من حطام الدنيا فَأَوْعى اى فجعله في وعائه وكنزه من غاية حرصه وأمله ولم ينفق في سبيل الله لعدم وثوقه بكرم الله وبالجملة
إِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على الكفران والنسيان خُلِقَ هَلُوعاً شديد الحرص قليل الصبر طويل الأمل بحيث
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ اى الضر والسوء صار جَزُوعاً يكثر الجزع ويلح في كشف الأذى
وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ اى الفرح والسرور والسعة والخصب صار مَنُوعاً يبالغ في البخل والإمساك وهؤلاء كلهم هلكى في تيه الحرص والأمل وقلة التصبر على البلوى وكمال التكبر والتجبر عند السراء
إِلَّا الْمُصَلِّينَ المائلين المتوجهين الى الله في عموم الأحوال بمقتضى الرضاء والتسليم قانعين بما وصل إليهم من الإحسان والتكريم صابرين على عموم ما أصابهم من العليم الحكيم منفقين في سبيل الله مما استخلفهم عليه سبحانه من الرزق الصوري والمعنوي لمرضاة الله وهربا عن مساخطه
الَّذِينَ هُمْ من كمال تحننهم وتشوقهم الى الله عَلى صَلاتِهِمْ وميلهم نحوه دائِمُونَ ملازمون بحيث لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ المنسوبة إليهم المسوقة لهم حَقٌّ مَعْلُومٌ كالزكاة والصدقات الموقتة وغير الموقتة
لِلسَّائِلِ يسئل ويفشى فقره وَالْمَحْرُومِ الذي لا يسئل ولا يفشى بل من كمال صيانته وتحفظه واستغنائه يحسب من الأغنياء من كمال التعفف لذلك يحرم
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ ويعتقدون بِيَوْمِ الدِّينِ تصديقا مقارنا لصوالح الأعمال ومحاسن الشيم والأخلاق
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ عاجلا وآجلا مُشْفِقُونَ خائفون وجلون وكيف لا يشفقون
إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ اى من شأن المؤمن ان لا يأمن عذاب الله وان بالغ في طاعته وعبادته على وجه الإخلاص
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ لا يتجاوزون عن الحدود الإلهية(2/444)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من السراري فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ عليهن الا ان المؤمن المخلص لو لم يبالغ في اتباع الشهوات المباحة ايضا لكان له خيرا كثيرا واجرا عظيما
فَمَنِ ابْتَغى وطلب وَراءَ ذلِكَ الذي ذكر من الأزواج والسراري فَأُولئِكَ المسرفون المفرطون هُمُ العادُونَ المتجاوزون عن مقتضى الحدود الموضوعة لحفظ العفة
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ التي ائتمنوا عليها وَعَهْدِهِمْ الذي وثقوا به راعُونَ لحقوقهما وحفظهما على الوجه الأصلح الاقسط الأحوط
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ المودعة عندهم المتعلقة بحقوق المسلمين قائِمُونَ حافظون مستحضرون الى وقت الأداء على وجهها
وَبالجملة المؤمنون المخلصون هم الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ المكتوبة لهم في الأوقات المحفوظة المقدرة يُحافِظُونَ على أوانها على وجهها مع كمال الخضوع والخشوع ورعاية الشرائط والأركان والأبعاض وسائر الآداب والمندوبات المتعلقة بالصلوات
أُولئِكَ السعداء المتصفون بهذه الصفات الكاملة مقبولون عند الله متنعمون فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ فيها بأنواع الكرامات تفضلا وإحسانا وبعد ما ظهر وتميز حال المؤمنين وحال الكافرين عند الله في النشأة الاخرى واخبر بها سبحانه عباده قال فما عرض ولحق فمال
الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبدينك وكتابك قِبَلَكَ يعنى الذين هم في حواليك وجوانبك مُهْطِعِينَ مترددين مسرعين
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ متفرقين فرقا شتى يترددون حولك فرقة بعد فرقة ويسمعون منك كلامك فوجا بعد فوج
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ بالتردد حولك أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ بلا ايمان واطاعة وتصديق مقارن بالأعمال الصالحة
كَلَّا وحاشا ان يحصل لهم هذا بلا سبق الايمان وامتثال الأوامر والاحكام وكيف يدخلون أولئك الخبيثون في منازل القدس بلا تصفية وتزكية بالإيمان وتحلية بالأعمال إِنَّا خَلَقْناهُمْ وقدرنا وجودهم مِمَّا يَعْلَمُونَ ألا وهو النطفة القذرة الخبيثة التي لا نسبة لها بالمقام المقدس عن مطلق الرذائل والكدورات المطهر عن أوساخ الطبيعة وأثقال الهيولى الحاصلة من ظلمة عالم الناسوت فما داموا لم يطهروا نفوسهم بنور الايمان ولم يتصفوا بالعرفان لم يصلوا الى روضة الجنان ولم ينالوا بنعم الألوان
فَلا أُقْسِمُ اى لا حاجة لنا الى القسم بإثبات كمال قدرتنا لكن اقسم لتنبيه العباد بِرَبِّ الْمَشارِقِ اى بمربى عموم الذرات التي قد أشرقت عليها شمس الذات باعتبار البروز والظهور وَكذا برب الْمَغارِبِ اى بجميع الذرات التي قد غربت فيها شمس الذات باعتبار الخفأ والبطون إِنَّا لَقادِرُونَ بالقدرة الغالبة الكاملة
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ بان نهلكهم ونستأصلهم بالمرة على وجه الأرض ونأت بدلهم بخلق أفضل منهم وأصلح للايمان وقبول دين الإسلام وَبالجملة ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ مغلوبين من احد فان أردنا هذا التبديل والتغيير وتعلقت مشيتنا به فعلناه البتة وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل كمال قدرتنا على إهلاكهم وتبديلهم
فَذَرْهُمْ واتركهم وحالهم يَخُوضُوا في الأباطيل الزائغة والأراجيف الزاهقة وَيَلْعَبُوا بالآيات الواضحات والبينات اللائحات بأنواع الأكاذيب والمفتريات حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ به ألا وهو يوم الحشر وتنقيد الأعمال والحساب عليهم والجزاء بمقتضاه على الوجه الذي وعد في كتبنا وألسنة رسلنا اذكر لهم يا أكمل الرسل على وجه التهويل والتذكير
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ اى القبور بعد نفخ الصور ويسرعون نحو الداعي سِراعاً مسرعين كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ صنم ينصب للزيارة والاستلام يُوفِضُونَ يسرعون يعنى(2/445)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
إسراعهم في تلك الحالة نحو الداعي يشبه إسراعهم نحو الصنم المنصوب للعبادات ورفع الدرجات كما هو عادتهم طول عمرهم في الدنيا فيكونون حينئذ
خاشِعَةً ذليلة خاسرة خاسئة أَبْصارُهُمْ بحيث لا يمكنهم ان ينظروا اليه إذ تَرْهَقُهُمْ وتغشيهم حينئذ ذِلَّةٌ عظيمة بدل ما يذلون داعي الله حين دعوته إياهم في النشأة الاولى وبالجملة ذلِكَ الْيَوْمُ العظيم الهائل هو اليوم الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ به في نشأة الاختبار فلم يصدقوا به حينئذ ولم يؤمنوا له الى ان يعاينوه ويلاقوه. جعلنا الله من زمرة المصدقين بيوم الدين
خاتمة سورة المعارج
عليك ايها الموحد المحمدي ان تعتقد بل تعاين وتشاهد ان كنت من اولى الأبصار وذوى القدر والاعتبار ان النشأة الاخرى هي دار القرار والخلود بل العالم الموجود حقيقة انما هي تلك النشأة الاخروية والنشأة الاولى انما هي اظلال لا وجود لها وعكوس لا ثبوت لها وإضافات لا حقيقة لها ولا ثبات وتعينات لا تحقق لها ولا قرار فعليك ان لا تستقر عليها الا كالعابر ولا تعيش فيها الا كالمسافر اما تدرى يا أخي ان جميع ما عليها ظل زائل وعموم لذاتها وشهواتها سراب بلا طائل الام تتشبث بها وبما فيها ايها المغرور وعلام تستلذ بمزخرفاتها وملاهيها ايها المبهوت فإنك عن قريب ستموت وما تدخر وتجمع فيها سيضيع ويفوت فعليك ان تستعد لأخراك في أولاك وتتزود لعقباك من دنياك وبالجملة فعليك ان تموت عن مزخرفات هذه الدار بالإرادة والاختيار قبل هجوم الموت على وجه الاضطرار فاعلم ان ما هذه الحياة الدنيا الا متاع وان الآخرة هي دار القرار
[سورة نوح]
فاتحة سورة نوح عليه السلام
لا يخفى على من انكشف بسرائر ظهور مرتبتي النبوة والرسالة من ارباب الولاية المقتبسين من مشكاة النبوة ان مقتضى النبوة والرسالة انما هي الدعوة الى دين الإسلام الموصل الى دار السلام المستلزم للقرب والوصول الى كنف جوار الله العليم العلام فلا بد لمن تصدر بها بتكليف الحق إياه واختياره لها ان يبالغ في تبليغها ويجتهد في إظهارها سيما بعد تأييد الحق وتقويته بالمعجزات القاطعة والبراهين الساطعة متحملا على عموم المتاعب والمشاق وانواع الأذيات الواقعة في إظهارها وترويجها كما اخبر سبحانه عن نجيه نوح عليه السلام مع قومه كيف تحمل عنهم الأذى وصبر الى ان ظفر عليهم وانتصر حيث قال سبحانه بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على أنبيائه ورسله بعموم أسمائه وصفاته ليستخلفهم عن ذاته الرَّحْمنِ على عموم مظاهره بإظهار مرتبة الخلافة والنيابة بينهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم بإرشاد الأنبياء والرسل وهدايتهم إياهم الى زلال توحيده
[الآيات]
إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْنا أخاك يا أكمل الرسل نُوحاً صلوات الله عليه وسلامه إِلى قَوْمِهِ حين انحرفوا عن جادة العدالة والقسط الإلهي ووصيناه له أَنْ أَنْذِرْ اى خوف وحذر قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في غاية الإيلام من قبلنا ألا وهو عذاب يوم الطوفان وبعد نزول الوحى عليه
قالَ يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه وناداهم ليقبلوا اليه ويهتدوا بهدايته وإرشاده إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ظاهر الإنذار والتخويف باذن العليم الحكيم حيث اوحى لي ربي وأرسلني إليكم
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد(2/446)
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)
الحق الحقيق بالالوهية والربوبية القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام وَاتَّقُوهُ بالاجتناب عن ارتكاب محارمه ومنهياته وَأَطِيعُونِ فيما بلغت لكم من أوامر الله ونواهيه وامتثلوا بها واعملوا بمقتضاها
يَغْفِرْ لَكُمْ سبحانه مِنْ ذُنُوبِكُمْ كلها ان استغفرتم منه سبحانه وتبتم اليه مخلصين نادمين وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أقصى أَجَلٍ مُسَمًّى مقدر عنده سبحانه معين لديه بشرط ان تتصفوا بالإيمان والعمل الصالح إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ المقدر لآجال عباده على مقتضى حكمته المتقنة البالغة إِذا جاءَ على الوجه المقدر المقرر عنده لا يُؤَخَّرُ عن وقته ولا يقدم عليه لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وتعتقدون حكمة الحكيم وكمال قدرته ومشيته لعلمتم يقينا ان الأجل المقدر من عنده لا يبدل ولا يتغير وبعد ما قد بالغ نوح عليه السلام في دعوتهم وإرشادهم فلم يهتدوا بل ما زادوا الا إصرارا وإضرارا وعتوا واستكبارا وبعد ما تمادى ضررهم واضرارهم إياه
قالَ نوح عليه السلام مناجيا الى ربه على وجه التضرع والابتهال بعد ما بالغوا في الإنكار والاستكبار رَبِّ يا من رباني على الرشد والهداية إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي حسب وحيك وإلهامك على لَيْلًا وَنَهاراً اى في عموم الأزمان والأحيان بلا مطل ونسيان
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إياهم على الايمان إِلَّا فِراراً عن الانقياد والإطاعة وإصرارا على الكفر والطغيان
وَإِنِّي قد صرت زمانا طويلا ومدة ممتدة كُلَّما دَعَوْتُهُمْ على قصد منى ان يقبلوا منى دعوتي لِتَغْفِرَ لَهُمْ أنت يا ربي بمقتضى عفوك وسعة رحمتك عموم ذنوبهم وزلاتهم قد جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ وقت دعوتي إياهم فِي آذانِهِمْ اى هم سدوا مسامع قبولهم عن استماع دعوتي فكيف عن ان يجيبوا ويؤمنوا وَمع ذلك لم يقتصروا على مجرد السد بل اسْتَغْشَوْا اى قد غطوا ولفوا على رؤسهم ثِيابَهُمْ لئلا يروا صورتي ولا يسمعوا قولي ودعوتي من شدة كراهتهم لها ولسماعها ونهاية شكيمتهم وغيظهم على وَبالجملة هم قد أَصَرُّوا على ما هم عليه كانوا وَقد اسْتَكْبَرُوا على اسْتِكْباراً عظيما الى حيث شتموني شتما فظيعا وضربونى ضربا مؤلما فجيعا
ثُمَّ بعد ما جرى على منهم ما جرى من الزجر والشتم وانواع الطعن والقدح إِنِّي بمقتضى وحيك وأمرك إياي وحكمك على يا ربي قد كنت دَعَوْتُهُمْ جِهاراً على رؤس الملأ وعند الاشهاد
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وصرحت بدعوتهم في الملأ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ ايضا بالدعوة في الخلوات إِسْراراً على سبيل الكناية والرمز والإشارات وبالجملة قد دعوتهم مرة بعد مرة وكرة بعد كرة في المحافل والخلوات وبالصرائح والكنايات
فَقُلْتُ لهم في دعوتي إياهم اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ الذي رباكم على فطرة الايمان وأظهركم قابلا لفيضان اليقين والعرفان وتوبوا اليه عن عموم ما صدر من الكفر والعصيان والكفران والطغيان إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يغفر لكم ذنوبكم ويعفو عن زلاتكم. وقد روى انهم بالغوا في الإصرار والإنكار الى حيث حبس الله عليهم القطر واعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فقال نوح عليه السلام استغفروا ربكم انه كان غفارا يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً بحكم الله وامره عليها بعد ما حبسها عليه زمانا طويلا بشؤم شرككم وكفركم
وَيُمْدِدْكُمْ سبحانه بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ بعد ما منعها عنكم سبحانه بكفركم وشرككم وَبعد ما انزل عليكم من السماء مدرارا يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وبساتين متنزهات وَيَجْعَلْ لَكُمْ ايضا في خلالها أَنْهاراً جاريات بمياه العلوم اللدنية وبالجملة
ما لَكُمْ وأى شيء عرض عليكم قد أغفلكم عن الله حيث لا تَرْجُونَ ولا تأملون لِلَّهِ(2/447)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
المستحق لانواع العبودية والتعظيم وَقاراً توقيرا وتبجيلا لائقا لجلاله وجماله وحسن فعاله معكم
وَالحال انه سبحانه قَدْ خَلَقَكُمْ أوجدكم وأظهركم أَطْواراً مختلفة مترقية في الكمال حيث قدر خلقكم أولا من جمادات العناصر ثم ركبكم الى ان صرتم من اغذية الإنسان ثم صيركم اخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم انشأكم خلقا عجيبا قابلا للخلافة والنيابة ثم بعد ذلك يوصلكم في النشأة الاخرى الى ما يوصلكم وبالجملة فبأى آلاء ربكم تكذبون ايها المكذبون المنكرون مع انه قد وسع عليكم من زوائد النعم وموائد الكرم ما لا مزيد عليه من كمال قدرته ومتانة حكمته
أَلَمْ تَرَوْا ايها الراؤن المعتبرون المجبولون على فطرة الفكرة والعبرة كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ بقدرته الكاملة سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مطبقات بعضها في جوف بعض الى حيث ينتهى الكل الى كرة واحدة قد وقعت مظهرا للوحدة الذاتية الإلهية وان كانت كل ذرة من ذرائر الكائنات مستقلة في مظهرية الوحدة الذاتية
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ اى في خلال السموات نُوراً مقتبسا من شمس الذات وَبالجملة قد جَعَلَ الشَّمْسَ المشرقة المنيرة سِراجاً واضحا وهاجا ودليلا لائحا على شروق شمس الذات الإلهية ولمعانها على مظاهر عموم الذرات المنعكسة منها وعلى انقهار الكل وانطوائها فيها بحسب الظهور والبطون
وَبالجملة اللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء قد أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ اليابسة نَباتاً اى أنبتكم من الأرض إنباتا إبداعيا وصيركم أنواعا وأصنافا أولا من النبات ورباكم الى ان صرتم ثانيا حيوانا ثم إنسانا قابلا للمعرفة والايمان ثم كلفكم بما كلفكم من التكاليف الشاقة لترتقوا من رتبة البشرية الى مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية وتفوزوا بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
ثُمَّ بعد حلول الأجل المقدر يُعِيدُكُمْ فِيها اى في الأرض مقبورين وَيُخْرِجُكُمْ بعد ذلك منها الى المحشر إِخْراجاً عاديا في النشأة الاخرى لتنقيد ما كلفكم الحق عليه في النشأة الاولى من الأعمال والأخلاق ولترتيب الجزاء عليه تتميما للحكمة المتقنة البالغة وتكميلا لها
وَبالجملة اذكروا آلاء الله المترادفة عليكم واشكروا لها إذ اللَّهُ القادر المقتدر الحكيم المدبر قد جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ممهدة تتقلبون عليها وتترددون فيها
لِتَسْلُكُوا وتتخذوا مِنْها حيث شئتم سُبُلًا فِجاجاً اى طرقا واسعة متسعة فبأى آلاء ربكم ونعمائه تنكرون وتكذبون ايها المكافرون المكذبون وبالجملة كلما قد بالغ نوح عليه السلام في إرشادهم ودعوتهم فهم ايضا قد بالغوا في العناد والإصرار وبعد الاضطرار
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي في عموم ما بلغت لهم وامرتهم به وبالجملة قد انصرفوا عنى واعرضوا عن دعوتي واستهزءوا بي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً اى اتبعوا سادتهم ورؤساءهم المعروفين المشهورين بينهم بكثرة الأموال والأولاد الموجبة للثروة والوجاهة عند الناس وان كان أموالهم وأولادهم لم يزدهم الا خسارا وبوارا في النشأة الاخرى
وَبالجملة قد مَكَرُوا لهم اى لضعفاء الناس أولئك الرؤساء الماكرون مَكْراً كُبَّاراً قد بلغ غاية كبره ونهاية شدته في التلبيس والتغرير وذلك احتيالهم على الناس الى حيث لم يقبلوا دعوة نوح عليه السلام مع كونه مؤيدا بأنواع المعجزات بل سفهوه متمسخرين به
وَقالُوا اى قال رؤساؤهم لضعفائهم وعوامهم في نصحهم وتذكيرهم إياهم لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ اى عبادتها أصلا سيما بقول هذا السفيه الطريد المختبط المختل الرأى والعقل وَلا تَذَرُنَّ ولا تتركن(2/448)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
خصوصا وَدًّا فانه من أعظم آلهتكم وَلا سُواعاً ايضا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً فإنها كلها غرانيق عظام ترتجى منها الشفاعة لعصاة العباد وبالجملة عليكم ان لا تتركوا عبادة آلهتكم بقول هذا الطريد السفيه
وَهم بمكرهم هذا قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً من الناس بتزويراتهم الباطلة وتغريراتهم الهائلة الشاملة لأهل الحيرة والضلال وَبالجملة لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ يا ربي إِلَّا ضَلالًا فوق ضلال وإصرارا غب إصرار. ثم قال سبحانه بعد ما بالغ نوح عليه السلام في الضراعة والمناجاة
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ اى من أجل وفور خطاياهم وكثرتها أُغْرِقُوا بالطوفان أولا فَأُدْخِلُوا ناراً نوعا من عذاب النار عقيب عذاب الطوفان في البرازخ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ حين طغيان الماء وطوافه عليهم مِنْ دُونِ اللَّهِ القادر المقتدر على رفع الموانع ودفع المضار أَنْصاراً شفعاء من الأصنام كما زعموا فلهذا لم ينصرهم الله فهلكوا بالغرق بالمرة
وَبعد ما قد يئس نوح عليه السلام عن ايمان قومه وقنط عن فلاحهم وصلاحهم أخذ يدعو عليهم حيث قالَ نُوحٌ رَبِّ يا من رباني على فطرة الهداية والرشد ولا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ التي وضعتها للعبادة والطاعة مِنَ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد والإلحاد عن سبيل الرشد والسداد دَيَّاراً أحدا يدور عليها
إِنَّكَ يا ذا الحكمة البالغة إِنْ تَذَرْهُمْ على الأرض على ما كانوا عليه يُضِلُّوا عِبادَكَ المؤمنين بك المصدقين بوحدانيتك وفردانيتك البتة وَمع ذلك لا يَلِدُوا ولا يتناسلوا بعد ذلك إِلَّا فاجِراً خارجا عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة لحفظ القسط والعدالة كَفَّاراً ستارا للحق بترويج الباطل عليه وانما دعا عليهم بهذا بعد ما قد جربهم ألف سنة الا خمسين سنة فعرف منهم جميع خصائلهم المذمومة. ثم نادى ربه لنفسه ولوالديه ولمن اهتدى بهدايته وإرشاده فقال
رَبِّ يا من ربيتني بمقتضى كرمك وجودك لمصلحة معرفتك وتوحيدك اغْفِرْ لِي بفضلك وإحسانك وَلِوالِدَيَّ اسم أبيه لمك بن متوشلخ واسم امه شمخا بنت أنوش وكانا مؤمنين موحدين وَاغفر ايضا بفضلك يا ربي لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ سفينتي وحرزي وديني ومذهبي مُؤْمِناً موقنا بارشادى وتكميلى وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ من الأمم السالفة واللاحقة الى يوم القيامة وَبالجملة لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن عروة عبوديتك وربقة رقيتك إِلَّا تَباراً هلاكا وخسارا وبالا وبوارا. ونحن ندعو ايضا على الكافرين المصرين على كفرهم وشركهم المتوغلين في بحر الحيرة والضلال المتشبثين بأذيال التقليد الظاهرين على ارباب التوحيد والمعرفة بأنواع الجدال والمراء بما دعا به نوح عليه السلام ونرجو ايضا ان نكون من الناجين ببركة دعائه ودعاء نبينا صلوات الله عليه وسلامه على نبينا وعليه وعلى عموم إخوانه من النبيين
خاتمة سورة نوح عليه السلام
عليك ايها الموحد المحمدي الداخل في سفينة الشريعة المصطفوية المنجية لنفسك عن طوفان القوى البشرية وطغيان اللذة البهيمية المانعة عن التلذذ باللذات المعنوية الروحانية ان تتشبث بذيل همة المرشد الكامل المكمل الذي يرشدك الى سرائر الشريعة وحكم الاحكام الموردة فيها ومصالح الأوامر والنواهي بارادة صادقة وعزيمة خالصة صافية عن شوب مطلق الرياء والرعونات العائقة عن الميل(2/449)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
الفطري والفطنة الجبلية التي قد جبل الناس عليها إذا خلى وطبعه بلا تصرف من شياطين الوهم والخيال وجنود الامارة والهوى. وفقنا الله لما يحب ويرضى وجنبنا عن الميل الى البدع والأهواء
[سورة الجن]
فاتحة سورة الجن
لا يخفى على من تحقق بمقام القلب وسعته وكمال فسحته ووسعته ان مظاهر الحق وجنوده اكثر من ان يحيط به الآراء ويتفوه عنه ألسنة التعديد والإحصاء او يدرك نهايتها عقول العقلاء ومن جملتها جنود الجن ومن يختلط معهم ويصاحبهم من الانس ممن كان بينه وبينهم مناسبة معنوية مخصوصة توجب ائتلافهم واختلاطهم وذلك من جملة المواهب والإعطاءات الإلهية لبعض النفوس القدسية الزكية عن رذائل الطبيعة وإكدار الهيولى ولا شك ان نبينا صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم مختلط معهم مرشد لهم هاد الى طريق التوحيد كما اوحى سبحانه اليه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى بمقتضى كرمه وجوده الرَّحْمنِ لعموم عباده من الثقلين حيث يدعوهم الى الايمان الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى مرتبة اليقين والعرفان
[الآيات]
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر رسالتك على الثقلين وبعثتك إليهما قد أُوحِيَ إِلَيَّ من قبل الحق أَنَّهُ اسْتَمَعَ في بعض الأحيان التي انا تلوت فيها القرآن نَفَرٌ اى طائفة وهو يطلق على ما بين الثلاثة الى العشرة مِنَ الْجِنِّ وهو جنس من جنود الحق ومظاهره مثل جنس الملك لا مناسبة بيننا وبينهم حتى ندركهم ونعرف إنيتهم ولمّيتهم كسائر الأنواع المحسوسة من الحيوانات ومالنا الا الايمان بوجودهم ولوجود أمثالهم إذ لا يعلم جنود الحق الا هو ولا يسع لنا الإنكار سيما بعد ورود القرآن ناطقا بوجودهم وتحققهم وبعد ما سمعوا القرآن رجعوا الى أصحابهم فَقالُوا لهم إِنَّا سَمِعْنا من انسان قُرْآناً وكتابا عَجَباً بديعا نظما وأسلوبا معنى ودلالة حاويا لانواع المعارف والحقائق الإلهية محتويا على دقائق طريق التوحيد والعرفان ما هو من جنس كلام البشر بل هو خارج عن مداركهم مطلقا متعال عن مشاعرهم وعقولهم ومعظم خواصه انه
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ والهداية الموصلة الى مقصد الوحدة الذاتية الإلهية وبالجملة فَآمَنَّا بِهِ واهتدينا بهدايته الى توحيد الحق ووحدته وَلَنْ نُشْرِكَ ابدا بِرَبِّنا الذي وفقنا وهدانا الى توحيده أَحَداً من مظاهره ومصنوعاته إذ المصنوع المربوب لا يصير شريكا للرب الصانع القديم الحكيم
وَكيف يكون للرب الواحد الأحد الفرد الصمد شريك مع أَنَّهُ تَعالى اى قد تبارك وتقدس جَدُّ رَبِّنا اى عظمته وكبرياؤه من ان يكون له شريك في ملكه وملكوته إذ هو الصمد الفرد الذي مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً ألا وهو من أخص أوصافه واشرف خواصه الذاتية وكيف يتخذ له شريك في الملك ونظير في الوجود فكبره تكبيرا ونزه ذاته عما يقول الظالمون تنزيها كبيرا كثيرا
وَبعد ما آمنا بوحدة الحق وعرفناه وحيدا فريدا بلا شبيه ونظير ولا وزير ولا مشير قد عرفنا أَنَّهُ ما كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا يعنى إبليس المردود المطرود عَلَى اللَّهِ المقدس ذاته عن مطلق المماثلة والمشاكلة في الوجود والقيومية وسائر الصفات الذاتية المصححة للالوهية والربوبية الا قولا شَطَطاً باطلا بعيدا عن الحق بمراحل متجاوزا عن الحد في الإفراط تعالى شأنه عما نسب اليه المبطلون المفرطون
وَبالجملة أَنَّا قد كنا قبل انكشافنا بوحدة الحق وتحققنا بمرتبة الكشف والشهود قد(2/450)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)
ظَنَنَّا أَنْ اى انه لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ اى جنس الانس والجن المجبولين على فطرة العبودية والعرفان عَلَى اللَّهِ المعبود بالحق على الإطلاق وفي حقه وشأنه العلى قولا كَذِباً زورا وباطلا صدر عنهم على قصد الافتراء والمراء لذلك اتبعناهم فيما قالوا ظلما وعدوانا وبعد ما قد ظهر الحق وكوشفنا بحقية الحق ووحدته وحقيقة الأمر تبرأنا عنهم وعن أقوالهم جميعا وتبنا الى الله والتجأنا بكنف حفظه وجواره أعاذنا الله بلطفه من زيغ الزائغين وإضلال الضالين المضلين
وَقد كنا قبل انكشافنا بوحدة الحق أَنَّهُ اى الشأن قد كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ ويحرسون بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ عند مرورهم بقفر وهم قد كانوا إذا امسوا فيها يقولون نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ومع استعاذتهم واستعانتهم فَزادُوهُمْ اى الجن الانس رَهَقاً اى كبرا وعتوا فيتحفظون عليهم ويحيطون بهم
وَما ذلك الكبر والطغيان منهم بعد ما استعاذوا الا أَنَّهُمْ اى الجن قد ظَنُّوا او زعموا كَما ظَنَنْتُمْ وزعمتم ايها الناس الموسومون بالجهل والنسيان المنسوبون الى الكفر والطغيان أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ القادر المقتدر على الإعادة والإبداء مطلقا أَحَداً من جنس الانس والجن حتى يستوفى عليه حسابه وجزاءه لذلك يجترءون ويزيدون في الارهاق والطغيان سيما بعد الاستعاذة والالتجاء
وَأَنَّا قد كنا قبل نزول القرآن لَمَسْنَا السَّماءَ اى طلبنا البلوغ إليها وأردنا الصعود نحوها لنسترق من اخبار الملائكة ونخبر بها الكهنة ونوقع الفتنة في العالم السفلى فَوَجَدْناها اى السماء اليوم عند بعثة هذا النبي المؤيد المبعوث الى كافة البرية من الثقلين قد مُلِئَتْ وامتلأت حَرَساً اى حراسا حافظين شَدِيداً قويا على الحفظ والحراسة وَشُهُباً جمع شهاب وهو المضيء المتراكم من أجزاء النار في الجو نرجم بها ونطرد من حواليها
وَبالجملة أَنَّا قد كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها اى من السماء مَقاعِدَ صالحة لِلسَّمْعِ والاستماع فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ بعد نزول القرآن ويقعد في تلك المقاعد يَجِدْ لَهُ وعنده شِهاباً رَصَداً راصدا قاصدا له يرجمه ويمنعه من الاستماع
وَأَنَّا اليوم لا نَدْرِي ولا نعلم أَشَرٌّ وفتنة أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ اى بالساكنين عليها بحراسة السماء ومنع اخبارها عنهم أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً يرشدهم ويهديهم الى التوكل والتسليم وتفويض الأمور الى العليم الحكيم بحيث لا يحترزون عما جرى عليهم من قضائه باخبار السماويين بل يفوضون أمورهم كلها الى الله راضين بعموم ما جرى عليهم من القضاء بلا كهانة وتنجيم
وَأَنَّا اى نحن المخبرون بالاخبار السماوية قد كنا صنفين مِنَّا الصَّالِحُونَ اى الأبرار المؤمنون والآمنون الأمينون حيث لا يخلطون الاخبار المسموعة بشيء من الأكاذيب وَمِنَّا قوم دُونَ ذلِكَ أدون وانزل ذلك اى لا امانة لهم ولا وثوق بقولهم حتى يؤدوا الاخبار على وجهها بل يوقعون انواع الفتن والمحن بين الناس إذ قد كُنَّا طَرائِقَ اى ذو طرق ومذاهب قِدَداً متفرقة مختلفة لذلك منعنا بأجمعنا عن استراق الاخبار السماوية سيما عند بعثة هذا المؤيد المبعوث وانحصر الأمر بالوحي والإلهام الإلهي على النفوس الزكية القدسية من كلا الجنسين لئلا يختل امر النظام الموضوع على القسط والعدالة
وَأَنَّا بعد ما كوشفنا بحقية القرآن وهدايته ورسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم تركنا ما كنا عليه من الضرر والإضرار بعباد الله إذ ظَنَنَّا بل قد علمنا يقينا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ القادر المقتدر على انواع الانتقام كائنين فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ ايضا هَرَباً منه سبحانه الى السماء او الى أى مكان شئنا إذ عموم الأماكن(2/451)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)
والجهات في جنب قدرته الغالبة سهل يسير بعد ما تعلقت ارادته ببطشنا وانتقامنا
وَبالجملة أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى اى القرآن الموضح لطريق التوحيد والعرفان آمَنَّا بِهِ واهتدينا بهدايته فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ ويوقن بوحدانيته فَلا يَخافُ اى فهو لا يخاف بَخْساً نقصا في الجزاء والثواب وَلا رَهَقاً ذلة تذله في الدارين لان من آمن فقد اعتدل ولم يبخس حينئذ حق احد من الخلق ولم يذله بظلم فلذلك هو لا يبخس ولا يظلم
وَأَنَّا بعد ما سمعنا الهدى والرشد ما كنا نؤمن ونهتدي جميعا بل مِنَّا الْمُسْلِمُونَ المنقادون لحكم الله وعموم أوامره ونواهيه الواردة في كتابه المسلمون أمورهم كلها اليه سبحانه وَمِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عنه المائلون عن الهداية القرآنية المنحرفون عن جادة العدالة الإلهية فَمَنْ أَسْلَمَ منا واعتدل وفوض الى الله امره وتوكل عليه فَأُولئِكَ المسلمون المسلمون المتوكلون المفوضون قد تَحَرَّوْا واجتهدوا ففازوا ونالوا رَشَداً وأى رشد رشدا يوقظهم عن سنة الغفلة ويوصلهم الى فضاء الوحدة
أَمَّا الْقاسِطُونَ
الجائرون الحائرون الضالون التائهون في تيه الطغيان والكفران كانُوا لِجَهَنَّمَ
البعد والخذلان وسعير الطرد والحرمان طَباً
توقد بهم النار كما توقد بعصاة الانس وطغاتهم. ثم قال سبحانه
وَأَنْ اى وان الأمر والشأن انهم اى الجن والانس المجبولين على فطرة التكليف لَوِ اسْتَقامُوا واعتدلوا عَلَى الطَّرِيقَةِ المعهودة التي هي جادة المعرفة والتوحيد لَأَسْقَيْناهُمْ تلطفا لهم وترحما عليهم ماءً محييا لأراضي أجسامهم الميتة بسموم الإمكان وبحموم الأماني والآمال الصاعدة من نيران الطبيعة والشهوات المورثة لهم من الحصة الناسوتية غَدَقاً وافرا كثيرا الى حيث يجعل لهم روضة من رياض الجنة وانما فعلنا معهم ذلك
لِنَفْتِنَهُمْ ونختبرهم فِيهِ اى في التنعم والترفه كيف يشكرون لنعمنا وكيف يواظبون على أداء حقوق كرمنا وبالجملة من شكر فإنما يشكر لنفسه ويزيد النعم عليها وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وينصرف عن طاعته وعبادته ويكفر بنعمه ولم يواظب على أداء حقوق كرمه يَسْلُكْهُ يدخله عَذاباً صَعَداً يصعد عليه ويعلو فوقه وبالجملة عذابا شاقا شديدا قاهرا مشرفا عليه غالبا. ثم قال سبحانه على سبيل التوصية والتعليم لخلص عباده المؤمنين والتوبيخ والتعريض للمشركين
وَاعلموا ايها المكلفون من الثقلين أَنَّ الْمَساجِدَ المبنية للميل والتقرب نحو الحق مختصة لِلَّهِ خاصة خالصة فَلا تَدْعُوا ولا تعبدوا فيها الا الله ولا تنسبوا الى ما سواه مطلقا وبالجملة لا تشركوا فيها مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشريك والولد أَحَداً من مظاهره ومربوباته
وَبعد ما علمتم هذا بتعليم الله إياكم اعلموا أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ اى النبي المؤيد من عنده سبحانه بأنواع العناية والكرامة المستلزمة لانواع العبادة والإطاعة في المسجد الحرام المعد لعبادة العليم العلام القدوس السلام يَدْعُوهُ ويعبده ويتذلل نحوه قد كادُوا وقاربوا اى مشركوا الجن والانس يَكُونُونَ عَلَيْهِ ويزدحمون حوله متعجبين لِبَداً متراكمين كلبدة الأسد وهو صلّى الله عليه وسلّم مستغرق في صلاته مع ربه بلا التفات إليهم الى ان اوحى اليه من قبل ربه بما هم عليه من التعجب والتحير من امره فقيل له من قبل الحق
قُلْ يا أكمل الرسل للمزدحمين حولك المتعجبين من أمرك وشأنك إِنَّما أَدْعُوا واعبد وأتوجه الى رَبِّي الذي رباني على فطرة المعرفة والإيقان وأرسلني لان ادعو عموم المكلفين الى توحيده وَلا أُشْرِكُ بِهِ ومعه أَحَداً(2/452)
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
من مظاهره ومصنوعاته فان قالوا استهزاء متمسخرا هل لك ان تشاركنا معك في عبادتك وخضوعك
قُلْ لهم يا أكمل الرسل إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ من تلقاء نفسي لا ضَرًّا اضركم به واعذبكم ان أردت اضراركم وتعذيبكم وَلا رَشَداً أرشدكم به وأهديكم ان أردت هدايتكم ورشادكم بل لا املك لنفسي لا ضرا ولا نفعا فكيف لكم بل ما اتبع انا الا ما يوحى الى والأمر كله بيد الله العليم الحكيم فان قالوا ما فائدة عبادتك وتخصيصها له
قُلْ لهم يا أكمل الرسل لم لم اعبد ربي ولم لم اخصصه بالعبادة والإطاعة إِنِّي اعلم منه سبحانه بتعليمه إياي انه لَنْ يُجِيرَنِي ولن يحفظني مِنَ عذاب اللَّهِ المنتقم الغيور أَحَدٌ من مظاهره ومصنوعاته لو أراد عذابي وتعلقت مشيته بمقتى وَبالجملة لَنْ أَجِدَ ابدا مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ملجأ وملاذا ينقذني من بطشه وعذابه لو مضت مشيته عليه فكيف لا أتوجه نحوه ولا أتضرع اليه وبالجملة لا املك لكم ولا لنفسي لا ضرا ولا نفعا
إِلَّا بَلاغاً وتبليغا مِنَ اللَّهِ العليم الحكيم ما اوحى الى على وجهه إليكم وَلا املك سوى أداء رِسالاتِهِ التي قد أرسلني وأمرني بها ومالي سوى الإبلاغ والتبليغ باذنه وَمن جملة ما اوحى الى انه مَنْ يَعْصِ اللَّهَ المنتقم الغيور ويعرض عنه وعن عبادته من عباده وَلم يصدق رَسُولَهُ المستخلف منه العالم بامره فَإِنَّ لَهُ اى قد حق وثبت له نارَ جَهَنَّمَ القطيعة والحرمان في النشأة الاخرى وبالجملة قد صار العاصون المعرضون خالِدِينَ مخلدين فِيها أَبَداً لا نجاة لهم منها أصلا وهم قد كانوا في النشأة الدنيا ما زالوا عن عتوهم وعصيانهم لله مستظهرين بما معهم من الجاه والثروة وكثرة الأموال والأولاد مستكبرين على ضعفاء عباد الله متفوقين عليهم كبرا وخيلاء
حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ في النشأة الاخرى جزاء ما ارتكبوا في النشأة الاولى فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أعدد النبي واتباعه أم المشركين ومن معهم وفي زمرتهم وبعد ما سمع المشركون كريمة إذا رأوا ما يوعدون قالوا على سبيل التهكم والإنكار والاستبعاد متى يكون فقيل من قبل الحق
قُلْ يا أكمل الرسل انه كائن لا محالة لكن وقته مفوض الى علم الله بحيث إِنْ أَدْرِي وما اعلم انا أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ اى وقوعه وقيامه أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ولوقوعه رَبِّي أَمَداً بعيدا وأجلا طويلا إذ هو من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها إذ هو
عالِمُ الْغَيْبِ بذاته وبخصوصه فَلا يُظْهِرُ ولا يطلع عَلى غَيْبِهِ المختص به علمه سيما امر البعث أَحَداً من خلقه
إِلَّا ان يطلع على بعض غيوبه حسب حكمته مَنِ ارْتَضى ورضى مِنْ رَسُولٍ مأمون على غيبه له قابلية الخلافة والنيابة عنه سبحانه فَإِنَّهُ سبحانه يطلعه على ما غيبه عنه على سبيل الوحى والإلهام حين يَسْلُكُ ويوكل سبحانه لحفظه وحراسته مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ اى بين يدي الرسول المرتضى وَكذا مِنْ خَلْفِهِ اى من جميع جوانبه وجهاته رَصَداً حرسا من الملائكة يحرسونه ويحفظونه من استراق الشياطين واختطافهم وتخبيطهم وتخليطهم وانما فعل كذلك عند اطلاعه ووحيه الى رسوله
لِيَعْلَمَ الرسول الموحى اليه أَنْ اى انه قَدْ أَبْلَغُوا يعنى حوامل الوحى مطلقا رِسالاتِ رَبِّهِمْ على وجهها مصونة محروسة عن اختطاف الشياطين وتخليطاتهم المغيرة لها وَالحال انه سبحانه قد أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ اى لدى الرسل والملائكة جميعا علما حضوريا بل وَقد أَحْصى سبحانه كُلَّ شَيْءٍ دخل في خيطة الحضور والشهود عَدَداً بحيث لا يشذ عن حيطة حضرة علمه وإحصائه شيء مما لمع عليه برق الوجود(2/453)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
خاتمة سورة الجن
عليك ايها المحقق المنكشف باحاطة العلم الإلهي ولوح قضائه وقلم تصويره وتخطيطه ان تعتقد وتذعن ان عموم ما جرى في ملكه وملكوته انما هو بمقتضى امره ووحيه ونفوذ قضائه ومضاء حكمه على حسب الحضور بحيث يجتمع ويتحدد عند حضوره الأزل والأبد والاولى والاخرى والغيب والشهادة إذ لا انقضاء دونه ولا انصرام عنده ولا تجدد لديه ولا انخرام بالنسبة الى علمه وحضوره بل الكل بالنسبة الى قدرته وارادته سواء بلا تفاوت وتخالف جعلنا الله من المنكشفين بحضور الحق وشهوده مع كل شيء ودونه بمنه وجوده
[سورة المزمل]
فاتحة سورة المزمل
لا يخفى على ذوى الألباب والآداب من المتحملين لأمانة التوحيد الإلهي ان من تمكن على تلك المرتبة العلية وتقرر في تلك المكانة السنية لا بد ان لا يشغله شيء سواها ولا يلهيه امل دونها سيما المتحملين معها أعباء الرسالة واردية النبوة المشتملة على دعوة عموم المكلفين الى سبيل الوحدة الذاتية وإرشادهم نحوها بالتصبر على اذياتهم وتحمل المتاعب والمشاق في تبليغ الدعوة إليهم وتكميلهم فلا بد للنبي ان يبذل كمال وسعه وطاقته في اجراء احكام الشرع وإعلاء كلمة التوحيد بلا تكاسل وتغافل عنه لمحة وطرفة كما نبه سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلم مناديا له على وجه الخطاب المنبئ عن العتاب بعد التبرك بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم كمالاته على من اختاره لرسالته واصطفاه لخلافته الرَّحْمنِ لعموم عباده بإرسال الرسل عليهم ووضع الشرع والدين القويم فيما بينهم الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى سرائر التكاليف الواقعة في طريق التوحيد واليقين
[الآيات]
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ اى المتزمل المتغطى والمتلفف بثوبه وقطيفته نائما او مرتعدا عما دهشه من بدء الوحى شأن النبوة والرسالة ما هو هذا ايها المختار شأن النبوة والرسالة
قُمِ اللَّيْلَ وداوم على التهجد فيه إِلَّا قَلِيلًا منه للاستراحة والنوم تقوية وتقويما لمركب بدنك وتنشيطا لجوارحك وآلاتك على العبادة يعنى
نِصْفَهُ اى قم نصف الليل أَوِ انْقُصْ مِنْهُ اى من النصف قَلِيلًا ليقرب الثلث
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ اى على النصف حتى يقرب الثلثين وانما خير صلّى الله عليه وسلّم بين هذه الثلاثة لأنه فرض أولا قيام الليل كله ثم لما تحرجوا ومرضوا او شق الأمر عليهم ارحمهم الله فخيرهم في هذه الأوقات المذكورة بناء على تفاوت امزجة الناس في عروض الكلال بالسهر وبعد ما قمت في خلاله تهجد فيه ليكون نافلة لك وَرَتِّلِ في تهجداتك الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا اى بين حروفه وقدرها في مخارجها حيث لا يشتبه على السامع العارف بأساليب الكلام ومنطوقات الألفاظ معانيها وبالجملة اقرأها على تؤدة تامة وطمأنينة كاملة بعزيمة خالصة وارادة صادقة الى حيث تتأثر من ألفاظ القرآن فطرتك وفطنتك التي هي خلاصة وجودك وزبدة أركانك وأس طبيعتك إذ بها توسلك ووصولك الى مقصد التوحيد واليقين وبالجملة
إِنَّا من مقام عظيم جودنا سَنُلْقِي عَلَيْكَ يا أكمل الرسل قَوْلًا جزلا سهلا خفيفا على اللسان نظم ألفاظه وكلماته ثَقِيلًا عظيما على القلب رموزه وإشاراته والاتصاف بما فيه والامتثال لمقتضيات أوامره ونواهيه والاطلاع على سرائر الاحكام الموردة فيه والاحاطة بقوادمه وخوافيه وبالجملة(2/454)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
من تأمل فيه على وجه التدبر والتدرب فقد غرق في تيار بحاره الزخار وتخصيص الأمر بالليل وترتيل القرآن فيه حيث
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ اى القراءة التي تنشأ من النفس في جوف الليل حين خلو القلب عن جميع الاشغال والملاهي هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً تأثيرا ووقعا في القلب وتنبيها وتنبها له وان كانت أثقل للنفس واتعب للبدن وَأَقْوَمُ قِيلًا اى اعدل الأقوال بالنسبة الى القلب وارسخها فيه وأقواها أثرا وانتباها بخلاف ما في النهار
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ الذي هو وقت الاشغال وأوان الانتقال وزمان الالتفات نحو المهمات ومحل انواع الملمات والواقعات لذلك عرض لك فيه سَبْحاً طَوِيلًا تقلبا وتصرفا ممتدا شاغلا لأوقاتك مشوشا لعموم حالاتك وبالجملة الفراغ الذي يحصل بالليل لا يحصل في النهار فعليك ان تجتهد في التهجد وتقرأ القرآن فيه سيما عند الفجر لان قرآن الفجر كان شهودا
وَبالجملة اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ودم على تسبيحه وتقديسه دائما في عموم أوقاتك وحالاتك على وجه لا تشغلنك عن ذكره مهماتك وَتَبَتَّلْ اى تجرد وانقطع عن عموم المهام إِلَيْهِ سبحانه تَبْتِيلًا بليغا وتجريدا كاملا بحيث لا يخطر ببالك الالتفات لحالك فكيف لحال غيرك وكيف لا تنقطع اليه ولا تتجرد نحوه مع انه هو سبحانه
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اى مربى جنس المشارق والمغارب التي هي ذرائر الكائنات باعتبار ظهور شمس الحق منها وشروقها عليها وباعتبار بطونها وخفاءها فيها إذ لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ ولا شيء في الشهود سواه فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا سيما بعد ما لم يوجد في الوجود سواه أصيلا
وَبعد ما اتخذته وكيلا وجعلته حسيبا وكفيلا اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ اى المشركون المسرفون من الخرافات والجزافات التي لا تليق بشأنك وَان شق عليك الصبر والتحمل اهْجُرْهُمْ وانصرف عنهم هَجْراً جَمِيلًا بحيث تكون أنت حين الانصراف عنهم بشاشا بساما بلا التفات منك الى هذياناتهم الباطلة وبلا مبالاة بهم وبكلامهم وتوكل على الله وفوض امر الانتقام منهم اليه فانه يكفيك مؤنة شرورهم واستهزائهم. ثم قال سبحانه على سبيل التسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلم
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ يعنى لا تلتفت يا أكمل الرسل الى ما قد بالغوا به في قدحك وطعنك بل دعني معهم وفوض امر الانتقام منهم الى فانى انتقم عنهم من قبلك وادفع أذاهم عنك وأغلبك عليهم وان كانوا أُولِي النَّعْمَةِ وذوى الثروة والسيادة واصحاب الترفه والوجاهة يريد صناديد قريش خذلهم الله وَبالجملة لا تستعجل في الانتقام منهم بل مَهِّلْهُمْ امهالا قَلِيلًا او زمانا قليلا ولا تقنط عن مكرنا إياهم
إِنَّ لَدَيْنا من المعد لهم أنواعا من العذاب أَنْكالًا ضيقا ثقالا لتثاقلهم وعدم تحملهم وتصبرهم بمتاعب التكاليف الإلهية ومشاق الطاعات والعبادات المأمور بها من قبله سبحانه وَجَحِيماً عظيما بدل ما يتلذذون بنيران الشهوات ويظلمون الناس بأنواع الغضب والطغيان
وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ينشب بالحلق ولا يسمن ولا يغنى من جوع بدل ما يأكلون من السحت والرشى والرباء واموال اليتامى ظلما وعدوانا وَعَذاباً أَلِيماً لا عذاب أشد ايلاما منه وهو حرمانهم عن لقاء الله وخذلانهم عن ما فات عنهم من التحقق والوصول بكنف حفظه وجواره اذكر لهم يا أكمل الرسل وان لم يصدقوا يَوْمَ تَرْجُفُ تضطرب وتتزلزل الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ من شدة الحركة والاضطراب قد اندكت وتناثرت فصارت كَثِيباً رملا مجتمعا مَهِيلًا منثورا تذروه الرياح حيث شاءت كسائر الرمال الآن في البواري والبوادي وكيف لا نأخذ المشركين المجرمين(2/455)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
بظلمهم يومئذ ولا نعذبهم بأنواع العذاب
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يا اهل مكة بعد ما انحرفتم عن جادة العدالة على مقتضى سنتنا القديمة في الأمم السالفة رَسُولًا ناشئا منكم يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم شاهِداً يشهد عَلَيْكُمْ يوم القيامة بالاجابة والامتناع بعد ما أمرنا له وأوحينا اليه ان يدعوكم الى الايمان ويأمركم بالطاعات والإحسان كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي رَسُولًا يعنى موسى الكليم عليه السلام ليدعوه الى الايمان ويأمره بلوازمه وبعد ما دعاه وامره بما امر به الحق وبالغ في دعوته
فَعَصى وتكبر فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ وعتا عليه واستكبر عن دعوته فَأَخَذْناهُ اى فرعون وقومه أَخْذاً وَبِيلًا ثقيلا شديدا الى حيث قد اغرقناه وجنوده في اليم وأورثنا ارضه ودياره وأمواله لموسى ومن معه هذا أخذنا إياهم في النشأة الاولى وفي الاخرى بأضعافها وآلافها فأنتم ايضا يا اهل مكة مثل فرعون عصيتم رسولكم الذي أرسل إليكم يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم فنأخذكم مثل ما أخذنا آل فرعون في الدنيا حيث نجعلكم صاغرين مهانين وفي الآخرة مسجونين معذبين بعذاب أليم مخلدين في النار ابد الآبدين. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع تهويلا عليهم وتعريضا
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ وتحفظون انفسكم عن عذاب الله ايها المنهمكون في انواع الغفلات والجهالات مع انكم إِنْ كَفَرْتُمْ وبقيتم على الكفر الى ان متم عليه مع انكم ستستقبلون يَوْماً وأى يوم يوما يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً من غاية طوله وشدة أهواله واحزانه هذا على سبيل التمثيل والتشبيه بحسب متفاهم العرف والا فلا يكتنه طول ذلك اليوم وهوله وشدته سيما بالوصف والبيان ومن جملة العلامات الدالة على شدة أهواله واحزانه انه
السَّماءُ المشيدة المحكمة مُنْفَطِرٌ بِهِ اى متشققة متضعضعة منخرمة بحلول ذلك اليوم ووقوعه بمقتضى قهر الله وجلاله وكيف لا يكون كذلك مع انه قد وعد الله القادر المقتدر على عموم ما دخل في حيطة حضرة علمه وارادته بوقوعه ولا شك انه قد كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا دائما وامره مقضيا ابدا وحكمه مبرما ازلا وقضاؤه نافذا ماضيا سرمدا وبالجملة
إِنَّ هذِهِ المقالات الدالة على انجاز وعد الله انما هي تَذْكِرَةٌ وعظة للمتعظين المتذكرين من ارباب العناية والتوفيق فَمَنْ شاءَ ان يتعظ بها اتَّخَذَ وأخذ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بعد ما وفقه الحق وأعانه عليه بالخروج عن لوازم الإمكان وهداه للعروج الى معارج الوجوب مترقيا من درجة الى درجة ومقام الى مقام الى ان وصل الى مبدأ طريق الفناء ثم ترقى منه ايضا من حالة الى حالة الى ان فنى عن الفناء ايضا ثم بعد ذلك صار ما صار وليس وراء الله مرمى ومنتهى وبعد ما امر سبحانه بقيام الليل على الوجه المذكور قد حثه عليه ورغبه اليه على وجه المبالغة والتأكيد بان علله سبحانه بعلمه إياه على أى وجه وقع فقال مخاطبا
إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل يَعْلَمُ بعلمه الحضوري أَنَّكَ تَقُومُ الى التهجد في زمان أَدْنى واقل مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وأعلى واكثر من نصفه تارة وَتارة اخرى تقوم ادنى من نِصْفَهُ وَتارة اخرى تقوم ادنى من ثُلُثَهُ واكثر من ربعه وهذا ادنى تاراتك واعلها ما هو ادنى من ثلثى الليل إذ هي اقرب الى قيام الكل الذي قد فرض أولا ثم الثانية ثم الثالثة وَطائِفَةٌ يعنى يعلم سبحانه ايضا قيام طائفة مِنْ المؤمنين الَّذِينَ يقومون مَعَكَ ويوافقون لك في تهجدك وقيامك في خلال الليل يعنى سبحانه محيط بهذه الأوقات الثلاثة الواقعة منك ومنهم بخلاف علمكم بها فانه لا يقدر بتعينها على وجهها وَبالجملة اللَّهُ العليم الحكيم الذي يُقَدِّرُ بمقتضى حضرة علمه وارادته اللَّيْلَ وَالنَّهارَ(2/456)
على وجه التجدد والتتابع والاختلاف طولا وقصرا وإيلاج بعض أجزاء كل منهما في الآخر وإخراجه منه وضبط اجزائهما وساعاتهما وآناتهما انما هي بعلمه لا يعلم غيره من المظاهر والمصنوعات وبالجملة هو سبحانه عَلِمَ بعلمه المحيط منكم ومن استعداداتكم إِنَّ اى انه لَنْ تُحْصُوهُ يعنى ليس في وسعكم وطاقتكم تقدير الأوقات وضبط الأحيان والساعات وإحصاء الآنات الواقعة في الليل والنهار وقيامكم في جميع الليل او بعضه على وجه التعيين والتخصيص وبعد ما ظهر عنده سبحانه عدم وسعكم وطاقتكم فَتابَ عَلَيْكُمْ اى خفف سبحانه عما ألزمكم وأزال عنكم تعبكم بالرخصة في ترك القيام المقدر المعين على الوجوه المذكورة إذ لا يسعكم ضبطها وبعد ما رخصكم سبحانه وخفف عنكم تفضلا عليكم وامتنانا قوموا في خلال الليل مقدار ما ييسر الله لكم ويوفقكم عليه ولو مقدار حلبة غنم على ما ورد في الحديث صلوات الله على قائله فَاقْرَؤُا اى صلوا تهجدكم بقراءة ما تَيَسَّرَ لكم مِنَ الْقُرْآنِ المقرون بصلاتكم قيل كان التهجد واجبا على التخيير المذكور ثم رخص بترك التقدير والتعيين ثم نسخ هذا ايضا بالصلاة الخمس المفروضة المقدرة في الأوقات الخمسة وانما نسخه إذ عَلِمَ سبحانه بمقتضى حضرة علمه وحكمته إِنَّ اى انه سَيَكُونُ بعض مِنْكُمْ مَرْضى من السهر المفرط إذ الأبدان متفاوتة في تحمل المتاعب والمشاق سيما ترك النوم المعد للاسترخاء واستراحة البدن في الليل وَايضا قوم آخَرُونَ منكم يَضْرِبُونَ ويسافرون فِي الْأَرْضِ سفرا مباحا حيث يَبْتَغُونَ ويطلبون بسفرهم مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ومن سعة جوده وكرمه مزيد رزق صورى او معنوي او طلب علم رسمي او حقيقى او صلة رحم او زيارة صديق الى غير ذلك من الاسفار المشروعة المباحة فيتحرجون بقيام الليل والتهجد فيه وَآخَرُونَ ايضا يُقاتِلُونَ لأعداء الله فِي سَبِيلِ اللَّهِ ترويجا لدينه وإعلاء لكلمة توحيده فإنهم لو تهجدوا لضعفوا البتة فشق عليهم حينئذ امر القتال وبعد ما أزال سبحانه عنكم حرجكم وتعبكم حسب حكمته المتقنة البالغة فعليكم ان لا تتركوا التهجد رأسا ولا تنسوه جملة بل قوموا في خلال الليل للتهجد ان استطعتم فَاقْرَؤُا في صلاته ما تَيَسَّرَ لكم مِنْهُ اى من القرآن وَبالجملة أَقِيمُوا الصَّلاةَ المفروضة وواظبوا على قيامها وأدائها حق المواظبة في الأوقات المخصوصة وراعوا أركانها وأبعاضها وهيآتها على وجوهها وبالجملة أدوها على وجه يرضى عنكم مولاكم ولا تهاونوا عنها ولا تقصروا فيها واعلموا ايها المؤمنون ان الفارق بين الايمان والكفر والهداية والضلال انما هي الصلاة التي هي أقوى اعمدة الدين وأقومها وَايضا آتُوا الزَّكاةَ المفروضة عليكم على سبيل الوجوب تزكية لأنفسكم عن الشح والإمساك وأموالكم عن الفضلات وتمرينا لأنفسكم على الانفاق وفعل الخيرات وَبعد أداء الواجب من الزكاة أَقْرِضُوا اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الإنعامات بإعطاء فواضل أموالكم على سبيل الصدقات للفقراء والمساكين واصرفوها على بناء المساجد والرباطات وغير ذلك من الخيرات والمبرات المتعلقة بمصالح المؤمنين المسلمين من المنافع الحاصلة بالمال قَرْضاً حَسَناً بلا شوب المن والأذى والسمعة والرياء والعجب وانواع الهوى والأهواء وَاعلموا ايها المؤمنون ان ما تُقَدِّمُوا وتؤخروا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ موجب لأجر مستلزم لثواب سواء كان ماليا او بدنيا قبل حلول الأجل وهجوم الموت تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ المتفضل المنعم هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وأكرم محلا وأعز درجة ومنزلا(2/457)
من الذي تدخرونه او تؤخرونه الى حين الوصية وقت حلول الأجل المقدر وَبالجملة قد جرى عليكم
في سالف ازمانكم ما جرى من ترك الاستغفار والانابة وعدم الندامة على ما صدر عنكم من البغي والضلال واصناف الجرائم والمعاصي المستتبعة لانواع العذاب والنكال اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ المتفضل المكرم لعموم ما صدر عنكم واشتغلوا بامتثال أوامره في بقية اعماركم تلافيا لما مضى إِنَّ اللَّهَ المطلع على انابتكم ورجوعكم وعلى نياتكم فيها غَفُورٌ يغفر زلتكم السابقة الماضية ايضا رَحِيمٌ يقبل منكم توبتكم اللاحقة لها التي تأتون بها الآن بمنه وجوده
خاتمة سورة المزمل
عليك ايها السالك المجاهد لسلوك طريق التوحيد والقاصد المجتهد نحو مقصد الفناء ان تبذل وسعك وطاقتك بل روحك ومهجتك في سبيله فعليك ان تجهد فيه ببدنك ومالك وبجميع احوالك واطوارك وعليك ان تصفى ظاهرك وباطنك وتخلى قلبك وسرك عن شوب مطلق الشواغل العائقة عن التوجه التام والالتفات الخالص والعزيمة الصادقة الصافية وان تلازم العزلة وتداوم الخلوة وتواظب على الاتصاف بالاطوار والأخلاق الموروثة لك من النبي المختار والمأثورة عنه من الآثار وعلى امتثال ما في كتاب الله من الأوامر والنواهي وعموم الاحكام الموردة فيه لتصفية الخاطر عن الميل الى ما سوى الحق من الأغيار الساقطة عن درجة الاعتبار لتكون أنت من الأبرار الأخيار الموسومين بأولى العبرة والأبصار كي تفوز أنت كما فازوا من الرموز والأسرار وإياك إياك ومصاحبة الأشرار المغترين بلذات زخرف الدنيا الغدارة وبشهوات عيش الحياة المستعارة المستلزمة لانواع الخسار والبوار. جعلنا الله الغفور الغفار من ذوى العبرة والاستبصار بفضله وطوله
[سورة المدثر]
فاتحة سورة المدثر
لا يخفى على ارباب الكشف والشهود من المتجردين عن جلباب عالم الناسوت الرافلين في حلل عالم اللاهوت انه من خرج عن بقعة الإمكان مهاجرا الى الله بعد ما جذبته العناية والتوفيق من جانبه سبحانه فحين خروجه وتفرقه عن مألوفات عالم الطبيعة وظهور طلائع سلطان الوحدة الذاتية واستيلائه بنظر شهوده قد تطرأ عليه حينئذ حالات عجيبة وصور بديعة الى حيث ارعدته وأزعجته الى الفرار والالتجاء نحو مألوفات الطبيعة والى التغطى بملابسها وملاحفها فصار فيها مترددا متلونا قلقا حائرا هائما الى ان تمكن في فطرة الوحدة وتمرن عليها بلا خوف ورعدة ان أدركته العناية الإلهية وشملته الجذبة الاحدية هكذا جرى على نبينا صلّى الله عليه وسلّم في أوائل شهوده وانكشافه إذ كان هو صلّى الله عليه وسلّم يوما من الأيام متوجها بحراء الفناء ومتخلصا عن لوازم عالم الناسوت بالمرة حتى ظهرت ولاحت عليه في تلك الحالة علامات عالم اللاهوت من وراء سرادقات عالم الجبروت فنودي حينئذ من قبل فناء الفناء ومن وراء عالم العماء نداء عجيبا وسمع صداء غريبا مهيبا بحيث لم يسمع مثله سمع سره صلّى الله عليه وسلّم قط وقد كان صلى الله عليه وسلّم حينئذ في عالم التلون فنظر بعين شهوده يمنة ويسرة فلم ير شيأ فنظر نحو ذلك العالم فرأى ما رأى وانكشف بما انكشف فرعب رعبا شديدا وارتعد ارتعادا غريبا. ثم رجع هاربا مرعوبا مغلوبا قلقا حائرا هائما حتى وصل الى خديجة الطبيعة وتكلم معها بكلمة دثّرينى بملابسك وجلبابك فدثرته الطبيعة مرة اخرى(2/458)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
فأدركه الخطاب الإلهي المشعر بنوع من العتاب فأدبه سبحانه وأخرجه من سجن الطبيعة وملابس الهيولى بالكلية حيث قال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ربي حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلّم على فطرة المعرفة والتوحيد الرَّحْمنِ عليه حيث أخرجه عن مضيق الإمكان المستلزم لانواع التخمين والتقليد الرَّحِيمِ عليه يوصله الى سماء التجريد ويمكنه الى فضاء التفريد
[الآيات]
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ المتدثر المتغطى بملابس الطبيعة وثياب الإمكان المورثة لانواع الخيبة والخسران واصناف الحرمان والخذلان الى متى كنت فيها مقيما
قُمْ من عالم الطبيعة واخرج من مضيق بقعة الإمكان وسجن عالم الناسوت سيما بعد انكشافك بطلائع فضاء عالم اللاهوت وبعد ما خلصت من قيود الطبيعة وأغلال الهيولى فَأَنْذِرْ منها عموم بنى نوعك وخوف المحبوسين في سجن الإمكان المقيدين بسلاسل الزمان وأغلال المكان من دركات النيران وعن اودية الضلالات والجهالات المترتبة على الأوهام والخيالات الباطلة الموجبة لانواع الحرمان والخسران في النشأة الاولى والاخرى
وَخصص يا أكمل الرسل رَبَّكَ الذي رباك على فطرة المعرفة والإيقان بأنواع التبجيل والتعظيم فَكَبِّرْ ذاته تكبيرا كاملا الى حيث لا يخطر ببالك معه شيء في الوجود إذ هو المتفرد المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا شيء سواه ولا اله الا هو
وَبعد ما انكشفت بوحدة ربك وكبرته تكبيرا لائقا بشأنه ثِيابَكَ التي هي ملابس بشريتك وملاحف هويتك فَطَهِّرْ أوساخ الإمكان واقذار الطبيعة وإكدار الهيولى فان طهارتك عنها واجبة عليك سيما عند ميلك الى مقصد الوحدة
وَالرُّجْزَ اى الرجس العارض لبشريتك من التقليدات المورثة والتخمينات المستحدثة من الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة المكدرة لصفاء مشرب التوحيد واليقين من الأخلاق الردية والملكات الغير المرضية الناشئة من الشهوية والغضبية المترتبة على القوى البهيمية الى غير ذلك من القبائح الصورية والمعنوية فَاهْجُرْ اى جانب وافترق ليمكن لك التخلق بأخلاق الله والاتصاف بأوصافه ومن جملة الأخلاق المذمومة بل من معظمها المنة على الله بالطاعة وفعل الخيرات وعلى عباده بالتصدق والانفاق عليهم
وَبعد ما سمعت ما سمعت لا تَمْنُنْ على الله مباهيا بطاعتك وعلى عباده تفوقا عليهم وترفعا تَسْتَكْثِرُ وتستجلب نعم الله على نفسك وإحسانه عليك وامتنانه لك بما لا مزيد عليه او المعنى لا تمنن تستكثر اى لا تعط أحدا شيأ على نية ان تستكثر وتستعوض منه بدلا مما أعطيته على مقتضى القراءتين
وَبالجملة لِرَبِّكَ الذي رباك على الخلق العظيم فَاصْبِرْ على مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات والعبادات وعلى اذيات المشركين حين تبليغ الدعوة لهم وإيصال الوحى إليهم وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت من الوصايا امتثل بها واتصف بمقتضاها اتقاء عن اهوال يوم الجزاء وافزاعها
فَإِذا نُقِرَ ونفخ أولا فِي النَّاقُورِ اى الصور المصور لتصويت الأموات ليبعثوا من قبورهم احياء كما كانوا. ثم نفخ ثانيا ليحشروا ويحاسبوا بين يدي الله ثم يجازوا حسب ما يحاسبوا ان خيرا فخير وان شرا فشر
فَذلِكَ اى وقت النقر الثاني للحشر والوقوف بين يدي الله يَوْمَئِذٍ اى يوم القيامة يَوْمٌ عَسِيرٌ ووقت صعب وحين مهيب سيما
عَلَى الْكافِرِينَ إذ قد عسر عليهم حينئذ الأمر واشتد الهول وتشتتت أحوالهم واضطربت قلوبهم وبالجملة غَيْرُ يَسِيرٍ عليهم حسابهم لذلك قد عسر عليهم وبعد ما تحققت وانكشفت يا أكمل الرسل بقيام يوم القيامة ووقوعها وبتنقيد الأعمال فيها والجزاء عليها لا تستعجل بانتقام المشركين المسرفين ولا تعجل عليهم بل
ذَرْنِي واتركني يا أكمل الرسل(2/459)
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
وَمَنْ خَلَقْتُ اى مع شخص قد خلقته وَحِيداً فريدا من اهل عصره مفروزا منهم بكثرة الأموال والأولاد وبالجاه والثروة والسيادة والرياسة الى حيث لقب بين قومه بريحانة قريش يعنى وليد بن المغيرة
وَجَعَلْتُ لَهُ توسيعا عليه افتتانا له وابتلاء مالًا مَمْدُوداً كثيرا وافرا متزايدا يوما فيوما بالتجارة والنتاج والزراعة وغير ذلك من صور الأرباح
وَبَنِينَ شُهُوداً حضورا معه دائما لا ينفصلون عنه زمانا لاستغنائهم عن التجارة والحراثة وسائر الأعمال والمصالح لكثرة خدمهم وحشمهم بحيث لا احتياج في تهيئة الأسباب الى ترددهم بأنفسهم لذلك يحضرون معه في عموم المحافل والمجالس والأندية تكميلا لثروته ووجاهته
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً اى قد جعلت له بسطة واستيلاء بحيث يتحسر من حاله جميع بطون العرب وافخاذه ومع تلك الوجاهة العظمى والكرامة الكبرى الموهوبة له من لدنى لم يشكر لى ولم يرجع الى قط
ثُمَّ يَطْمَعُ ويرجو منى أَنْ أَزِيدَ على ما آتيته وأعطيته من النعم العظام مع انه مصر على الكفر والكفران وانواع الفسوق والعصيان
كَلَّا اى كيف أزيد عليه مع ان كفرانه وطغيانه يوجب زوال ما اعطى له وكيف لا يوجبه إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا الدالة على كمال عظمتنا واقتدارنا على انواع الانعام والانتقام عَنِيداً معاندا منكرا وعناده هذا امارة زوال ماله وثروته وجاهه وبالجملة
سَأُرْهِقُهُ اى سأغشيه وأكلفه بالعنف في النشأة الاخرى صَعُوداً هي عقبة شاقة المصعد والمهوى فاكلفه بالزجر التام على الصعود والهبوط دائما بحيث لا نجاة له منها ابدا. وعنه عليه السلام الصعود جبل من نار يصعد فيه اهل النار سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك ابدا وهو مثل لما يلقى من الشدائد وكيف لا أكلفه بصعود الصعود وهبوطه
إِنَّهُ من شدة شكيمته وخباثة طينته قد فَكَّرَ في آيات القرآن على وجه التدبر فلم يجد فيه قدحا وطعنا وَبعد ما لم يجد فيه مطعنا قَدَّرَ في نفسه بمقتضى خباثته ما يتفوه به ويقول فيه على سبيل القدح والطعن. ثم قال سبحانه على سبيل التعجب من افكه وتقديره
فَقُتِلَ اى لعن وطرد هذا الطاغي الباغي المتناهي في البغي والطغيان كَيْفَ قَدَّرَ للقرآن قدحا مع انه منزه عن القدح مطلقا
ثُمَّ قُتِلَ وطرد ذلك المعاند الطاغي كَيْفَ قَدَّرَ للقرآن ما هو بعيد عن شأن القرآن بمراحل كرره سبحانه مبالغة في التعجب والاستبعاد
ثُمَّ نَظَرَ كرة بعد اولى ومرة بعد اخرى في القرآن
ثُمَّ لما لم يجد فيه طعنا مع انه من ارباب اللسان والفصاحة والبيان والبلاغة عَبَسَ اى قطب وجهه وكلح واستكره منه استكراها شديدا وَبَسَرَ اهتم وبالغ في وجدان القدح اهتماما بليغا ومبالغة بليغة فلم يجد وأيس ملوما مخذولا
ثُمَّ بعد ما تدبر ذلك مرارا وفكر هكذا تكرارا فلم يجد ما يتمسك به وما يقدح فيه بسببه أَدْبَرَ عن الايمان به وعن تصديقه بعد ما اشرف على الإقبال بالإيمان به وقبوله وَبالجملة ما حمله على الأدبار الا انه قد اسْتَكْبَرَ واستحيا عن اتباعه
فَقالَ بعد اللتيا والتي إِنْ هذا اى ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ اى يروى ويتعلم
إِنْ هذا وما هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ما هو من الوحى وكلام الله كما ادعاه محمد مفتريا على الله. روى انه مر الوليد بن المغيرة بالنبي عليه السلام وهو يقرأ حم السجدة فسمعه بسمع الرضا متدبرا في أسلوبه ونظمه ثم اتى قومه فقال لقد سمعت من محمد آنفا كلاما والله ما هو من جنس كلام الانس والجن ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وان أعاليه لمثمرة وان اسافله لمغدقة وانه يعلو ولا يعلى عليه ثم خرج فقال قريش والله قد صبأ الوليد ولتصبأن قريش كلهم فقال ابن أخيه ابو جهل انا أكفيكموه فجلس(2/460)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
الى جنبه حزينا فقال الوليد مالي أراك حزينا يا ابن أخي فقال هذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك يزعمون انك زينت كلام محمد لتنال من فضل طعامه فغضب وقال الم تعلم قريش انى أكثرهم مالا وولدا وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل ثم قام مع ابى جهل حتى اتى قومه فقال تزعمون ان محمدا مجنون فهل رأيتموه يتجنن قط قالوا اللهم لا ثم قال تزعمون انه شاعر فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط قالوا اللهم لا ثم قال تزعمون انه كاهن فهل رأيتموه يتكهن قط قالوا اللهم لا قال تزعمون انه كذاب فهل جربتم عليه شيأ من الكذب قالوا اللهم لا ثم سكت قالت قريش فما هو فتفكر في نفسه وقدر في نحوه ثم قدر فقال ما هو الا ساحر اما رأيتموه يفرق بين المرء واهله وولده ومواليه وما يقوله مفتريا على ربه ليس الا سحر يؤثر فقال تعالى زجرا عليه وجزاء له
سَأُصْلِيهِ وادخله سَقَرَ
وَما أَدْراكَ وأعلمك يا أكمل الرسل ما سَقَرُ وما شأنها وأمرها ابهمها سبحانه تفخيما وتهويلا وغاية ما يدرك من شأنها انها
لا تُبْقِي شيأ يقع فيها بل تمحيه وتهلكه وَمع افنائه وإهلاكه لا تَذَرُ ولا تتركه على هلاكه وفنائه بل يوجده الله بكمال قدرته ثم تهلكه ثم يوجده فتهلكه ابدا كذلك وسرمدا هكذا ومن شأنها ايضا انها
لَوَّاحَةٌ مسودة من شدة إحراقها لِلْبَشَرِ اى البشرة التي هي عبارة عن ظاهر الجلد وايضا من شأنها ان قد وكل سبحانه
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ اى من الزبانية الموكلة عليها باذن الله وهم من الملائكة او شبيهة بهم انما اختص هذا العدد لان الأعمال الفاسدة والأفعال القبيحة الموجبة لدخول سقر انما تكتسب بالقوى البهيمية والقوى الطبيعية اما القوى البهيمية فاثنتا عشرة الشهوية والغضبية والحواس الظاهرة والباطنة واما القوى الطبيعية فسبع الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وبالجملة يصور سقر من مقتضيات هذه القوى لذلك يوكل عليها من زواجر الزبانية على عدد مأخذها عدلا منه سبحانه لينزجر كل من القوى بزاجر يناسبها وبعد ما نزلت هذه الآية قال ابو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم يخبر ابن ابى كبشة ان خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم اى الجمع الشجعان أيعجز كل عشرة ان يبطش بواحد منهم وبعد ما قالوا على سبيل التهكم والاستهزاء انزل سبحانه
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ وخزنتها إِلَّا مَلائِكَةً أقوياء قوتهم لا تقاس بقوى البشر بل لا يقاوم جميع من على الأرض من افراد البشر بواحد من الملك في القوة والصولة وَايضا ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ هذه وعددهم هذا إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اختبارا وابتلاء وبسبب افتتان لهم يفتنون بهذا العدد تارة يستقلون وتارة يستبعدون ويتعجبون من مقاومة هؤلاء المعدودين لعموم العباد المستحقين لدخول سقر من الثقلين وبالجملة يستهزؤن بهذا القول ويضحكون منه وانما أنزلنا هذه الآية وخصصنا هذا العدد وهؤلاء المعدودين لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى ليكتسبوا اليقين ويجزموا بنبوة محمد عليه السلام وبصدق القرآن وحقيته وهذا ليس ببدع منا في كتابنا هذا بل قد أنزلنا كذلك في سائر الكتب المنزلة من عندنا وبعد ما وجدوه اى عموم اهل الكتاب موافقا لما في كتبهم تيقنوا البتة بصدق القرآن وبنبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وتصديقا على ايمانهم وتصديقهم اى يرسخ ايمانهم ويتأكد بتصديق اهل الكتاب كتابهم ونبيهم وَبعد ما استيقنوا واستقاموا على اليقين وتمكنوا فيه لا يَرْتابَ ولا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ جميعا في حقية هذا الكتاب وهذا النبي المؤيد به وَايضا انما خصصنا هذا العدد في الموكلين على سقر لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وشك في حقية هذا الكتاب(2/461)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)
وهذا النبي من اهل النفاق وَالْكافِرُونَ المجاهرون الجاحدون الجازمون في الإنكار والتكذيب صريحا ماذا أَرادَ اللَّهُ العليم الحكيم بِهذا اى شيء أراد بهذا العدد المستغرب المستبعد الى حيث صار في الاستغراب والاستبعاد مَثَلًا سائرا دائرا بين الناس يتداورونه ويتداولونه مستبعدين مستهزئين وبالجملة كَذلِكَ اى مثل ما سمعت يا أكمل الرسل من استيقان البعض واستنكار البعض الآخر بهذا العدد المذكور يُضِلُّ اللَّهُ الحكيم العليم حسب قهره وجلاله مَنْ يَشاءُ إضلاله من عباده ويريد مقته وضلاله وَيَهْدِي ايضا بمقتضى لطفه وجماله مَنْ يَشاءُ منهم إذ هو فاعل على الإطلاق بالإرادة والاختيار وكمال الاستقلال والاستحقاق وَبالجملة ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل اى مظاهر لطفه وقهره وجلاله وجماله إِلَّا هُوَ إذ هو المستقل بالاحاطة والشمول لا يعزب عنه شيء من الفروع والأصول إذ لا سبيل للعباد الى إحصاء أوصافه وأسمائه التي تترتب عليها مظاهره ومصنوعاته ما للعباد ورب الأرباب وَبالجملة ما هِيَ اى ذكر سقر ووصفها وعدة خزنتها إِلَّا ذِكْرى اى عظة وتذكرة نازلة من قبل الحق لِلْبَشَرِ المجبولين على العبرة والنظر المكلفين بجلب النفع ودفع الضرر وبالحذر عن مقتضى القهر والجلال والركون الى مقتضى اللطف والجمال
كَلَّا وحاشا ان يتذكر بها هؤلاء الحمقى الا من وفقه الحق وأدركته العناية من جانبه وَحق الْقَمَرِ المنير
وَاللَّيْلِ المظلم وكيفية تصاريف القمر المضيء في ظلمة الليل وانمحاء نوره إِذْ أَدْبَرَ اى قد ولى وانصرف ذاهبا يعنى بالقمر نور الايمان المشرق في الليل الذي هو عبارة عن ظلمة عالم الكون والفساد والمترتب على التعينات العدمية الحاصلة من انعكاس شمس الذات
وَالصُّبْحِ الذي هو عبارة عن ظهور نور الوجود وطلوع شمس الذات الاحدية التي انمحت وفنيت إِذا أَسْفَرَ اى أضاء وأشرق اظلال التعينات وانتثرت كواكب الهويات وأنطقت شهب العكوس واضمحلت مطلقا الإضافات المترتبة على تلك التعينات
إِنَّها اى سقر الطرد والحرمان وسعير الزجر والخذلان والخزنة المعدودين الموكلين عليها بقدرة الله وارادته لَإِحْدَى الْكُبَرِ اى احدى البلايا والمصائب الكبار النازلة لأصحاب الضلال بمقتضى القهر الإلهي وجلاله وانما أنزلها في كتابه واخبر عنها لتكون
نَذِيراً لِلْبَشَرِ ينذرهم ويحذرهم عن حر سقر
لِمَنْ شاءَ وأراد سبحانه مِنْكُمْ ايها المكلفون المجبولون على الهداية والضلالة أَنْ يَتَقَدَّمَ بالإيمان والأعمال الصالحة وفعل الخيرات وترك المنكرات فيهتدى بطريق النجاة منها أَوْ يَتَأَخَّرَ للكفر وارتكاب المناهي والمنكرات وفعل المحرمات فوقع فيها وازدجر وبالجملة
كُلُّ نَفْسٍ من النفوس الخيرة والشريرة بِما كَسَبَتْ واقترفت رَهِينَةٌ مرتهنة مرهونة عند الله بكسبها فكسبها ان كان لأجل الدنيا وما يترتب عليها من اللذات والشهوات البهيمية والوهمية والخيالية من الجاه والثروة والاستكبار والاستعظام بالأموال والأولاد ترتب عليها انواع العقوبات والمصيبات وان كان لأجل الآخرة من الايمان والإسلام وصوالح الأعمال والأفعال واحتمال المتاعب والمشاق في طريق الحق وتوحيده ترتب عليها اصناف المثوبات وانواع الكرامات والدرجات العلية والمقامات السنية من اللذات الروحانية
إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ وهم الصائرون الى الله السائرون نحوه بافناء هوياتهم الباطلة في هوية الحق المتجردون عن لوازم عالم الناسوت بالمرة المتلبسون بحلل عالم اللاهوت حسب جود حضرة الرحموت المتمكنون
فِي جَنَّاتٍ متنزهات موصوفة(2/462)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ومن كمال تمكنهم وتقررهم في مقر الوحدة يَتَساءَلُونَ
عَنِ الْمُجْرِمِينَ على سبيل التعجب والاستبعاد
ما سَلَكَكُمْ وأى شيء أدخلكم فِي سَقَرَ الإمكان وسعير الطرد والخذلان
قالُوا اى المجرمون في جوابهم متحسرين متأسفين لَمْ نَكُ في دار الاختبار ونشأة الاعتبار مِنَ الْمُصَلِّينَ المتوجهين نحو الحق في الأوقات المكتوبة علينا
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ بمقتضى الأمر الإلهي عطفا ولطفا
وَمع ذلك قد كُنَّا نَخُوضُ ونشرع في الباطل الزاهق الزائل ونروجه ونترك الحق ونهمله مَعَ الْخائِضِينَ الشارعين المزورين والمروجين عنادا ومكابرة
وَأعظم من الكل انا قد كُنَّا من غاية جهلنا وغفلتنا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ اى بوقوع الطامة الكبرى وقيام الساعة العظمى مقتفين في هذا الإنكار والتكذيب اثر الضالين المضلين مستظهرين بالمعبودات الباطلة مغترين بشفاعتهم العاطلة لدى الحاجة وبالجملة قد كنا مصرين على ما كنا عليه
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ وحل علينا الأجل وظهرت مقدماته وانقرضت نشأة الاختبار وبالجملة
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ حين أخذوا بظلمهم ولو شفعوا لهم اجمعهم
فَما لَهُمْ وأى شيء عرض لهم ولحق بهم مع انهم هم المجبولون على فطرة التوحيد واليقين حتى صاروا عَنِ التَّذْكِرَةِ المفيدة التي هي آيات القرآن المبينة لسرائر التوحيد والعرفان مُعْرِضِينَ منصرفين على سبيل الإنكار والاستكبار وبالجملة
كَأَنَّهُمْ في هذا الاعراض والنفرة المستتبعة لغاية السخافة ونهاية البلادة حُمُرٌ هي مثل في البلادة المتناهية مُسْتَنْفِرَةٌ من شدة رعبها وخوفها سيما قد
فَرَّتْ وهربت مِنْ قَسْوَرَةٍ اسد صائل هائل يريد ان يصول عليها شبه نفرتهم عن التذكر بآيات القرآن حسدا وحمية جاهلية بالحمر المستنفرة من الأسد والجامع بينهما البلادة المتناهية بل هم أسوأ حالا من الحمر إذ الحمر فرت من العدو خوفا من ضرره وهؤلاء قد فروا من الحق المشفق المفيد النافع لهم نفعا صوريا ومعنويا وما حملهم وحداهم على فتنة الاستنفار والاستنكاف الا غيرتهم وحميتهم الجاهلية بان لم يؤمنوا بما نزل على غيرهم
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى له من قبل الحق صُحُفاً قراطيس مدونة مُنَشَّرَةً تنشر وقت القراءة ثم تطوى كالصكوك والسجلات لذلك قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لن نتبعك حتى تأتى كلامنا بكتاب من السماء مكتوب فيه من الله الى فلان اتبع محمدا فانه نبي صادق. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردا عليهم وردعا لهم عن الاعراض عن الايمان والتذكر لا عن امتناع المقترح فانه لا يستحيل على الله شيء لو تعلق به مشيته بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ولم يؤمنوا لها لذلك اعرضوا عن التذكرة
كَلَّا اى كيف يتأتى لهم الاعراض عن التذكرة إِنَّهُ اى القرآن تَذْكِرَةٌ وآية مذكرة بل هو تبصرة كاملة شاملة نافعة مفيدة
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ اى اتعظ وتذكر به فقد هدى واهتدى الى الله
وَغاية ما في الباب انه ما يَذْكُرُونَ اى يتذكرون ويتعظون به إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تذكرهم وهدايتهم إذ افعال العباد كلها مستندة اليه سبحانه مخلوقة له وكيف لا يفوض الى مشيته سبحانه عموم امور عباده مع انه هُوَ الفاعل المطلق المختار الخالق لها بالإرادة والاختيار وهو ايضا بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته أَهْلُ التَّقْوى وأحق من يتقى من انتقامه وقهره إذ هو القادر المقتدر على وجوه الانتقام وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بان يرجى منه العفو والغفران سيما على المتقين المستغفرين إذ هو ايضا القادر المقتدر بالاستقلال على عموم الكرم والانعام.
جعلنا الله من زمرة اهل التقوى والمغفرة بمنه وجوده(2/463)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
خاتمة سورة المدثر
عليك ايها المريد المتحقق بسر سريان الوحدة الذاتية الإلهية السارية في عموم المظاهر والمجالى في الوجود وفي جميع الآثار الظاهرة في الأنفس والآفاق ان تذعن وتعرف ان عموم الأفعال الجارية في عالم الغيب والشهادة انما هي مستندة اليه سبحانه صادرة منه اصالة على وفق الارادة والاختيار وانما أظهرها سبحانه في مظاهر أسمائه وملابس صفاته إظهارا لكمال قدرته ومتانة حكمته واحاطة علمه وارادته وعجائب صنعه وصنعته فلك ان تعتقدها على الوجه المذكور وتجزم بها علما الى ان يصير علمك عينا وعينك حقا وبيانا وليس وراء الله مرمى ومنتهى. وفقنا بما تحبه منا وترضى به عنا يا مولانا
[سورة القيامة]
فاتحة سورة القيامة
لا يخفى على من تحقق في مقر التوحيد وتمكن على مقام التجريد والتفريد ان عموم المظاهر والمجالى منقهرة تحت سلطنة الوحدة الذاتية فانية فيها مضمحلة دونها وان التعينات المحسوسة والهويات الغير الموجودة انما هي من اظلال أسمائه وعكوس أوصافه الذاتية المتفرعة على شئونه وتطوراته القبضية والبسطية المترتبة على التجليات الجمالية والجلالية وبعد ما انكشف الأمر على هذا المنوال ثبت ان الكل برزوا لله الواحد القهار الكبير المتعال. ثم لما أراد سبحانه ان ينبه عباده على ظهور هذه الحالة وبروز هذه الواقعة الموعودة في النشأة الاخرى أشار سبحانه الى وقوعها وقيامها على وجه المبالغة والتأكيد بطريق مخصوص من طرق المبالغة والتوكيد واردفها بالإشارة الى النفس اللوامة المعينة على تصديقها وتهيئة ما يناسبها من الأخلاق والأعمال ايضا على طرزها من المبالغة والتأكيد فقال سبحانه بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي استغنى عن عموم مظاهره ومصنوعاته بمقتضى ذاته الرَّحْمنِ عليها في النشأة الاولى حيث أظهرها حسب آثار أسمائه وصفاته الرَّحِيمِ عليها في النشأة الاخرى حيث قهر الكل في وحدة ذاته وأفناها في هويته الذاتية
[الآيات]
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ اى بوقوع الطامة الكبرى وتحققها وقيامها إذ هي من غاية ظهورها وجلائها غنية ان يؤكد امر وقوعها وقيامها بالقسم عند العارف المحقق المتحقق بمقام التوحيد واليقين
وَلا أُقْسِمُ ايضا بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ اى وكذا لا حاجة الى القسم بظهور النفس اللوامة في عالم الكون والفساد إذ كل نفس من النفوس الكائنة الزكية المؤيدة بالتأييد الإلهي تعلم ان العالم ما هو إلا سراب باطل وعكس زائل عاطل لا قرار له ولا مدار لما فيه وتلوم دائما نفسها عليها الا انها لا تتنبه على سلطنة سلطان الوحدة الذاتية ولا تتفطن بسريانها واستيلائها على عموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد حتى تصير لوامته مطمئنة ومطمئنته راضية وراضيته مرضية ومرضيته فقيرة وفقيرته فانية وفانيته باقية ببقاء الله وليس وراء الله مرمى ومنتهى. أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف. ثم التفت سبحانه نحو حقيقة الإنسان المجبول على فطرة التوحيد والعرفان حسب حصة لاهوته ووبخه بما وبخه تشنيعا عليه وتقريعا فقال
أَيَحْسَبُ ويظن الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان حسب حصة ناسوته أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ يعنى انا لن نقدر مع كمال قدرتنا على ابدائه وابداعه على إعادته وجمع عظامه مرة بعد اخرى وكرة بعد اولى في يوم البعث والجزاء(2/464)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وعند قيام الطامة الكبرى
بَلى نحن نقدر على إعادته وجمع عظامه وتسوية جميع أعضائه على الوجه الذي كان عليه من قبل بل نحن كما كنا في النشأة الاولى نكون قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ اى سلاماه ورؤس أصابعه في النشأة الاخرى خص البنان بالذكر لان جمع اجزائها أصعب من أجزاء سائر الجسد لاشتمالها على دقائق العظام ورقائق العروق والاعصاب والغضاريف والرباطات المعينة على القبض والبسط والأخذ والبطش ولصعوبة الاطلاع على اجزائها قد عجز الأطباء عن تشريحها وبالجملة انا نقدر على جمعها مع صعوبتها فكيف بجمع غيرها
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ المركب من الجهل والنسيان بظنه الباطل وحسبانه الزاهق الزائل لِيَفْجُرَ أَمامَهُ اى يدوم ويمضى دائما على الفجور والفسوق والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية فيما يستقبله من الزمان كما كان عليها فيما مضى لذلك
يَسْئَلُ سؤال انكار واستبعاد أَيَّانَ متى يقوم واى آن يقع يَوْمُ الْقِيامَةِ اى يوم تبلى السرائر وتكشف الستائر فيها بين لي ايها المدعى وقت وقوعه حتى اكف وامنع نفسي عن الفجور وأتوب عنها ثقة ويقينا وانما قال ما قال على سبيل الاستهزاء والتهكم وكيف يستهزئ ويصر على الإنكار ذلك المستهزئ المسرف المصر
فَإِذا بَرِقَ وتحير الْبَصَرُ اى حاسة عالم الناسوت وجاسوس عالم الطبيعة والهيولى حين ظهور طلائع عالم اللاهوت وبروز مقدماته واماراته فزعا وهولا ودهشا مما يرى من العجائب والغرائب الموعودة التي كان ينكر ويكذب بها في دار الدنيا وبقعة الإمكان وعرصة الزمان والمكان
وَمع ذلك خَسَفَ الْقَمَرُ اى قد ذهب ضوء الوجود الإضافي المستعار وانمحى نوره واشرف على الأفول في أفق العدم
وَجُمِعَ الشَّمْسُ اى ظهر نور الوجود المطلق المستغنى عن عموم المظاهر والمجالى وَالْقَمَرُ اى اندرج ضوء الوجود المستعار الإضافي المنعكس من الشمس الحقيقية فيها واندمج وصار كما كان بحيث لم يبق كون ولون ولا بين ولا بون وبعد رجوع الكل إليها وانطماسها فيها وانقهارها دونها
يَقُولُ الْإِنْسانُ المنعزل عن اليقين والعرفان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ والملجأ حتى افرّ اليه والجأ نحوه
كَلَّا وحاشا ان يكون له حينئذ ملجأ ومفر في الوجود حتى يطلبه ويصل اليه إذ لا وَزَرَ اى لا حصن ولا حرز ولا مخلص ولا ملجأ يومئذ بل في عموم الأوقات والأزمان عند العارف غير الحق إذ لا شيء في الوجود سواه فثبت انه
إِلى رَبِّكَ
يا أكمل الرسل والى كنف حفظه وجواره يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
اى لا مفر ولا مقر يومئذ لعموم العباد الا عنده سبحانه إذ لا مرجع لهم سواه وبعد رجوع الكل اليه سبحانه وحضوره عنده يُنَبَّؤُا
ويخبر الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ
من الأعمال الصالحة وأتى بها
وَ
بما أَخَّرَ
منها ولم يأت بها وتركها بل قد أتى بأضدادها على التفصيل بلا فوت شيء منها
بَلِ
لا حاجة حينئذ الى الأنباء والاخبار عما صدر عنه وجرى عليه إذ الْإِنْسانُ
له حينئذ عَلى نَفْسِهِ
وبما صدر عنه من الأعمال الصالحة والطالحة بَصِيرَةٌ
كاملة وبينة واضحة موضحة إذ يشهد له او عليه جوارحه وأركانه التي قد اقترف بها ما اقترف من الحسنات والسيئات وَلَوْ أَلْقى
حينئذ مَعاذِيرَهُ
اى جميع ما يعتذر به من الاعذار الكاذبة لم يسمع مع حضور الشهود العدول التي هي أعضاءه وجوارحه بل يعامل معه بمقتضى ما يحاسب عليه ان خيرا فخير وان شرا فشر. ثم لما استعجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بادر بالتقاط الوحى من في جبرائيل عليه السلام الى حيث سبق عليه بالتلفظ خوفا من ان ينفلت منه شيء نهى سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن(2/465)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
ذلك الاستعجال تأديبا له وإرشادا فقال
لا تُحَرِّكْ
يا أكمل الرسل بِهِ
اى بالقرآن لِسانَكَ
حين التقاطك من حامل الوحى قبل ان يتم وحيه وإلقاءه لك لِتَعْجَلَ بِهِ
اى لتأخذ منه على عجلة خوفا من انفلات شيء منه عنك وبالجملة لا تعجل يا أكمل الرسل ولا تخف من الانفلات
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
في خاطرك وضميرك
وَايضا علينا بعد جمعنا قُرْآنَهُ
وقراءته على لسانك على وجهه بلا فوت شيء من اجزائه وبالجملة لا تتعب نفسك بالعجلة ولا تستعجل بالالتقاط قبل التمام وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل فاجر عليه واذكر
فَإِذا قَرَأْناهُ
اى القرآن حين الوحى عليك بلسان حامله فَاتَّبِعْ
أنت قُرْآنَهُ
وتذكر قراءته ثم تتبع تلاوته وكرر حتى ينتقش في صحيفة خاطرك ويترسخ في ذهنك ثم اجر على لسانك مرارا كذلك
ثُمَّ ان بق لك شك وتردد في فحواه ومعناه وفي ما هو مقراه ومرماه إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ اى تبينه وتوضيحه لك وازالة ترددك وإشكالك عنه. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا لرسوله صلّى الله عليه وسلم وكفا لعموم عباده عن العجلة في جميع الأمور مبالغة وتأكيدا إذ الإنسان مجبول على العجلة مطبوع عليها لذلك قد بالغ سبحانه في النهى عنه واردف بهذا النهى حب العاجل على الآجل فقال على سبيل الإضراب
بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ يعنى ان بنى آدم كلهم مجبولون على العجلة لذلك يحبون ويختارون اللذة العاجلة الدنياوية مع سرعة انقضائها وزوالها على اللذة الآجلة الاخروية مع بقائها ودوامها وعدم انقضائها أصلا ويتركون الأعمال المقتضية لها لذلك
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ اى يوم قيام الساعة ناضِرَةٌ طرية بهية مشرقة يتلالأ منها أنوار اليقين والعرفان وآثار الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية ألا وهي وجوه ارباب العناية الموفقين على صلاح الدارين وفلاح النشأتين لذلك حينئذ
إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وبمطالعة لقائه مشرفة مسرورة
وَوُجُوهٌ أخر يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ عبوسة كلوحة متغيرة مسودة بحيث
تَظُنُّ بل يجزم كل من نظر إليها أَنْ يُفْعَلَ بِها ويعرض عليها فاقِرَةٌ داهية شديدة ومصيبة عظيمة تكسر فقار ظهرها من هولها وشدتها كَلَّا اى كيف تحبون وتختارون اللذة الفانية العاجلة على الباقية الآجلة ايها المشركون المفرطون المسرفون اما تتذكرون
إِذا بَلَغَتِ النفس التَّراقِيَ اى اعالى الصدر قريب المخرج وعزمت على التوديع والخروج
وَقِيلَ
حينئذ في حقه اى قالت الملائكة الموكلون على الموت والاماتة مستفهمين فيما بينهم على سبيل المشورة مَنْ
هو راقٍ
منا قابض روحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب
وَحينئذ ظَنَّ بل قد جزم المحتضر أَنَّهُ الْفِراقُ والافتراق من الدنيا وما فيها من عموم اللذات والشهوات المحبوبة فيها
وَبعد ما جزم بفراق الأحبة الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ اى التوت ساقه بساقه من كمال ضجرته وأسفه فلا يقدر على حركتها وتحريكها وبالجملة
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ اى السوق اليه ورجوعه نحوه وحكمه عنده وحسابه عليه وبالجملة إذا سئل الإنسان حينئذ عما امر له ونهى عنه في النشأة الاولى كيف يحسب مع انه
فَلا صَدَّقَ على من امر بتصديقه ولا قبل منه ما هو صلاحه في دينه وَلا صَلَّى وما مال الى الله في الأوقات المكتوبة المقدرة المعينة للتوجه والرجوع نحوه سبحانه
وَلكِنْ قد عكس الأمر إذ كَذَّبَ على من امر بتصديقه وَتَوَلَّى اى اعرض وانصرف عن الطاعات والعبادات المأمور بها مطلقا
ثُمَّ بعد انصرافه واعراضه عن المرشد الداعي ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ويتبختر فرحانا مسرورا مباهيا بفعله مفتخرا بشأنه(2/466)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
قيل له حينئذ من قبل الحق مخاطبا إياه بالويل والهلاك بسبب فعله هذا ومباهاته به
أَوْلى وأليق لَكَ وبحالك وشأنك هذا الويل والهلاك فَأَوْلى لك وبحالك الويل والهلاك
ثُمَّ أَوْلى لَكَ الويل والهلاك لذلك فَأَوْلى لك كذلك تأكيدا على ذلك وتشديدا على عذابك ووخامة حالك ومآلك ايها المسرف المفرط المباهي بالإعراض والانصراف عن الايمان والطاعات المراد منه ابو جهل عليه اللعنة. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتهديد
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ المصر على الكفران والطغيان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مهملا لا يكلف ولا يحاسب بعد التكليف ولا يجازى ولا يعاقب على أفعاله مع انه انما جبل على فطرة التكليف والمعرفة وبمقتضى حسبانه هذا أنكر البعث والجزاء وخرج عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة عليه في نشأة الاختبار مصرا على الكفر والكفران ومن أين يتأتى له الخروج عن ربقة العبودية وأنى له الاعراض والانصراف عن مقتضى الأوامر والنواهي الموردة من لدنا
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مهينة مرذولة حاصلة مِنْ مَنِيٍّ مهين مرذول يُمْنى وينصب في الرحم المرذول
ثُمَّ كانَ عَلَقَةً قذرة خبيثة باقية في الرحم كسائر الأقذار فَخَلَقَ اى قدر سبحانه اجزاءه وأعضاءه وعموم أركانه وجوارحه منها وبعد ما قدره وصوره فَسَوَّى اى عدله وقومه سبحانه بحوله وقوته فصار جسدا ذا حس وحركة ارادية وقواه فأقامه فَجَعَلَ وخلق بكمال قدرته ومتانة حكمته وصنعته لمصلحة التناسل والتكاثر وإبقاء النوع
مِنْهُ اى من منى الإنسان ونطفته الزَّوْجَيْنِ الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى تتميما للحكمة البالغة المتقنة. ثم قال سبحانه موبخا مقرعا على وجه الاستبعاد عن كفران الإنسان وإصراره على انكار البعث والحشر واعادة الأموات احياء كما كانوا
أَلَيْسَ ذلِكَ القادر المقتدر الذي قدر على خلق هذه الصور المهينة الخبيثة وتبديلها الى صور عجيبة طيبة قابلة لفيضان انواع الكمالات لائقة للخلافة والنيابة الإلهية بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى مرة بعد اخرى وكرة بعد اولى مع ان الإعادة أهون من الإبداء بلى لك الإعادة والإبداء ايها القادر المقتدر على خلق الأشياء من كتم العدم كيف تشاء بل تفعل أنت ما تشاء وتحكم ما تريد لا تسأل عن فعلك انك حميد مجيد
خاتمة سورة القيامة
عليك ايها الموحد المتحقق بحيطة الحق وشموله واستقلاله في تصرفات ملكه وملكوته وجبروته ولاهوته ان تعتقد ان قدرته الكاملة لا يعتريها كلال ولا يعرض لها فترة ولا زوال بل له ان يظهر ويوجد بمقتضى قدرته جميع ما قد ثبت وتحقق في حضرة علمه ولوح قضائه من الصور البديعة التي لا يخطر ببالك مطلقا بل له ان يكوّن ويوجد من كل ذرة عوالم ما شاء الله وكذا له ان يدرج العوالم الغير المحصورة في كل ذرة من ذرائر الكائنات وبالجملة من وصل الى سعة قلب الإنسان وساحة صدره ظهر عنده ان المذكورات لا تمتنع ولا تستحيل من قدرته الغالبة وارادته الكاملة بل ما هو بأضعافها وآلافها فهيهات هيهات لو نظرت الى أجزاء العالم بنظرة الاستبصار بل الى دقائق نفسك ورقائق اعضائك وجوارحك ورفعت الالف والعادة عن البين لرأيت في كل شيء وفي كل ذرة من ذرائر العالم عجائب وغرائب لا تعد ولا تحصى غاية ما في الباب ان الفك قد حجبك عن هذا الإدراك وعادتك عاقتك عن رؤية البدائع الإلهية ولو تنور بصر بصيرتك ونظر سرك(2/467)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
وسريرتك بكحل العبرة والاستبصار لرأيت من عجائب قدرة الله ومن بدائع صنعه وحكمته في كل طرفة ولمحة ما بجنبه امر الحشر والنشر والإعادة والأحياء سهل يسير. حققنا بحق حقيتك وبقدر قدرتك وقيوميتك يا ذا القوة المتين
[سورة الإنسان]
فاتحة سورة الإنسان
لا يخفى على من انكشف بحقيقة الإنسان وكيفية تطوراته المتلونة وشئونه المترقية من الخباثة والخساسة الى انواع النجابة والكرامة حتى وصل الى رتبة الخلافة والنيابة الإلهية ان مبنى ترقيه وترفعه من حضيض الإمكان الى أوج الوجوب انما هي بالتربية الإلهية وتكريمه بمقتضى تجليه عليه بعموم أسمائه الكاملة وأوصافه الشاملة ليرشده الى وحدة ذاته ويخلقه بأخلاقه وأوصافه ولا شك ان تربية الدنى المرذول انما هي بتغيير الخصلة المذمومة وتبديل الديدنة المستهجنة الراسخة المستقرة فيه وذلك لا يتيسر الا بوضع التكاليف وتحميل المتاعب والمشاق القالعة المصفية لأقذار الطبائع وإكدار الهيولى اللازمة للقوى البشرية وايضا بتلميظ المعارف والحقائق المشوقة الى اللذات الروحانية والمكاشفات اللدنية المخلصة للنفوس الزكية عن الرسوم العادية مطلقا لذلك أشار سبحانه في هذه السورة العظيمة الشأن الى احوال الإنسان وكيفية ترقيه من شأن الى شأن الى ان وصل الى الهداية والعرفان فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بمقتضى عموم أسمائه الحسنى وصفاته العليا في مظهر الإنسان الرَّحْمنِ عليه بأنواع التربية واصناف الإحسان حتى أوصله وهداه الى طريق الايمان والعرفان الرَّحِيمِ عليه يوصله الى مرتبة الكشف والعيان
[الآيات]
هَلْ أَتى اى قد سبق ومضى عَلَى الْإِنْسانِ المصور بصورة الرحمن حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ اى شأن محدود من الشئون الغير المحدودة الإلهية بحيث لَمْ يَكُنْ الإنسان فيه شَيْئاً إذ العدم والمعدوم ليس بشيء فكيف كان مَذْكُوراً مسمى باسم يذكر به ويشار اليه
إِنَّا خلقنا من مقام عظيم جودنا وبمقتضى كمال قدرتنا وارادتنا ووفور حكمتنا قد خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وقدرنا وجوده بعد ما أخرجناه وأظهرناه من العدم الصرف نحو فضاء البروز وحضرة العلم والأعيان الثابتة ثم صورناه بصور العناصر مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مرذولة أَمْشاجٍ مختلطة مجتمعة من الذكر والأنثى وبعد ما قد صورناه هيكلا سويا قابلا واودعنا فيه من روحنا ما اودعنا وسميناه إنسانا مصورا بصورتنا نَبْتَلِيهِ نختبره ونجربه هل يتفطن الى موجده ومظهره أم لا وكيف لا نختبره فَجَعَلْناهُ يعنى انما خلقناه وصيرناه لحكمة الاختبار ومصلحة الاعتبار سَمِيعاً متمكنا قادرا على استماع آياتنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا بَصِيراً مقتدرا على مشاهدة بدائع صنعنا وغرائب صنعتنا وعجائب حكمتنا ليكون معتبرا منها متوجها الى فاعلها ومع إعطائه تلك الكرامات العظيمة
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ يعنى قد اودعنا فيه العقل الفطري الجزئى المنشعب من العقل الكلى الذي هو حضرة علمنا المحيط بكل ما لمع عليه برق الوجود وبواسطته هديناه إلينا سبيلا بان أرسلنا الرسل المنبهين عليه الموقظين له من نعاس النسيان العارض له من حصة ناسوته المشيرين له الى ما اودعنا فيه من الوديعة البديعة وأيدنا الرسل بالكتب والآيات النازلة من لدنا الدالة على صدقهم في الرسالة وبالبينات الواضحات لسلوك طريق توحيدنا وسبيل شهودنا وتفريدنا وبعد ما وضح الحق واتضح السبيل على وجه الأبلغ الأكمل فله الاختيار(2/468)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
إِمَّا شاكِراً اى اما ان يكون شاكرا شكورا مشغولا بشكر النعم مواظبا على أداء حقوق الكرم صارفا عنان عزمه الى صوب الهداية والرشد حتى يكون من ارباب العناية والسداد المتنعمين في روضة الرضا وجنة التسليم وَإِمَّا كَفُوراً للنعم كافرا لمنعمها مقتفيا اثر اصحاب الغفلة والعناد واللدد والفساد حتى يكون من زمرة اصحاب الجحيم فهما عندنا سيان غاية الأمر
إِنَّا حسب قهرنا وجلالنا قد أَعْتَدْنا وهيأنا لِلْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الحقيقية المشرقة الظاهرة على صفائح ذرائر الكائنات لذلك خرجوا عن ربقة الرقية وعروة العبودية وانصرفوا عن مقتضيات حدوده الموضوعة بين عباده سَلاسِلَ اى سلاسل الحرص وطول الأمل يقادون ويسحبون بها نحو نيران الإمكان وجحيم الطرد والحرمان بأنواع الخيبة والخسران وَأَغْلالًا يعنى أغلال الأماني والشهوات يغلّون ويقيدون بها طول دهرهم بأنواع الصغار والهوان وَسَعِيراً مسعرا مملوا بنيران الافتقار والاحتياج المترتبة على الأماني والآمال الغير المنقطعة يطرحون فيها ابدا ويعذبون بها خالدا مخلدا ثم اردف سبحانه وعيد الكفرة بوعد المؤمنين على مقتضى سنته المستمرة في كتابه فقال
إِنَّ الْأَبْرارَ الأخيار البارين المبرورين ذوى الأيدي والأبصار المستغرقين في بحار المعارف والأسرار يَشْرَبُونَ لدى الملك الغفار خمور الشهود ورحيق الاعتبار مِنْ كَأْسٍ من كؤس ذرائر العالم المستعار لذلك كانَ مِزاجُها اى ما يمزج بها ويخلط كافُوراً هو عبارة عن برد اليقين يعنى
عَيْناً معينا معينا هي ينبوع بحر الوجود يَشْرَبُ بِها ومنها عِبادُ اللَّهِ الواصلون الى عالم اللاهوت الفانون عن فنائهم في فضاء الجبروت الباقون ببقاء حضرة الرحموت لذلك يُفَجِّرُونَها ويجرونها تَفْجِيراً واجراء حيث شاءوا وصاروا من كمال وصولهم واتصالهم
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويوفرون على المنذور وَكيف لا يوفون ولا يوفرون أولئك السعداء الموفون الموفرون مع انهم هم يَخافُونَ يَوْماً وأى يوم يوما قد كانَ شَرُّهُ اى شدائده وأهواله مُسْتَطِيراً منتشرا مستفيضا شائعا بين عموم العباد
وَمن كمال استغراقهم بمطالعة الوجه الكريم يُطْعِمُونَ الطَّعامَ اى الرزق الصوري والمعنوي المسوق لهم من عنده سبحانه تقوية لهم وتقويما لأمزجتهم عَلى حُبِّهِ اى طلبا لمرضاته سبحانه مِسْكِيناً قد اسكنه الفقر وأزعجته المذلة اى المعاودة للسؤال وَيَتِيماً أدركه الذل وأحوجه الى الافتقار وَأَسِيراً اذله الرق والصغار والهوان وأفقره الى الرعاية والترحم. عن ابن عباس رضى الله عنهما ان الحسن والحسين سلام الله وصلواته على جدهما ووالديهما وعليهما مرضا مرضا هائلا مخوفا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ناس فقالوا لعلى يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر على وفاطمة على النبي وعليهما وابنيهما الصلاة والسلام وفضة جارية لفاطمة رضى لله عنهما صوم ثلاثة ايام ان برئا فلما برئا صاموا وما معهم شيء فاستقرض على رضى الله عنه من شمعون الخيبرى ثلاثة أصوع من الشعير فطحنت فاطمة رضى الله عنها صاعا وخبزت خمسة اقراص على عدد رؤسهم فوضعوا بين يديهم ليفطروا فجاء على الباب مسكين فأعطوا له وآثروه على أنفسهم وباتوا فلم يذوقوا الا الماء وأصبحوا صياما فلما امسوا فعلوا ايضا كذلك فألم عليهم يتيم فآثروه كذلك فأصبحوا صياما ففعلوا اليوم الثالث مثل ذلك فجاء أسير فأعطوه فباتوا بلا طعام فنزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية فقال هناك الله في اهل بيتك يا نبي الله. ثم لما اضمروا في نفوسهم ونجواهم حين صدور هذا(2/469)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
الإحسان عنهم طلبا لمرضاة الله وتثبيتا لهم على دينه وطاعته وتشويقا منهم الى لقائه نزل في حقهم وفق ما نووا
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ اى ما نطعمكم ايها المطعمون المحتاجون الا لِوَجْهِ اللَّهِ الكريم وطلبا لمرضاته إذ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً ليصير عوضا لا طعامنا لا في الدنيا ولا في الآخرة وَلا شُكُوراً بان تدعوا أنتم لنا الأجر بل ما نطعمكم الا من مال الله يا عيال الله خالصا لوجهه الكريم ما لنا مع الشكر والجزاء امر وشأن وكيف يتأتى منا طلب الشكر والجزاء إذ قدرتنا على الإطعام ايضا انما هو باقدار الله إيانا واعطاؤنا انما هو من عطاياه حقيقة وبالجملة
إِنَّا نَخافُ بطلب الأجر والجزاء مِنْ غضب رَبِّنا يَوْماً وأى يوم يوما عَبُوساً تعبس فيه مطلق الوجوه من شدة هوله وحزنه بل قد صارت كل الوجوه قَمْطَرِيراً في غاية الشدة والعبوسة سيما على اهل الرياء والسمعة الطامعين بصدقاتهم الذكر الجميل والثناء الجزيل مع انهم انما يعطون من مال الله لعيال الله وبعد ما أخلصوا لله وخافوا من عذابه
فَوَقاهُمُ اللَّهُ الحكيم العليم الحفيظ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ اى قد رفع عنهم شره وأبدله لهم خيرا وَلَقَّاهُمْ اى لقى لهم يومئذ نَضْرَةً طراوة وصفاء في وجوههم وَسُرُوراً وبهجة في قلوبهم
وَبعد ما فعلوا ما فعلوا خالصا لوجه الله جَزاهُمْ سبحانه بِما صَبَرُوا وحبسوا نفوسهم عن المشتهيات المنهيات والمحرمات بل عن المباحات ايضا وعلى أداء الواجبات وإيثار الأموال والأرزاق المسوقة لهم لطلب المرضات جَنَّةً مصورة من صالحات أعمالهم وحالاتهم ومقاماتهم يتلذذون فيها باللذات الروحانية ابد الآباد وَيلبسون فيها حَرِيراً متخذا من حلل الأسماء والصفات التي لا يتصور فيها الهول والخشونة أصلا
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ يعنى مستظهرين فيها بالألطاف الإلهية مستظلين بكنف حفظه وجواره حيث لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً اى حرارتها المؤذية لهم وَلا زَمْهَرِيراً اى البرودة المضرة بهم بل يعتدل فيها الهواء والأهواء لتعديلهم الأخلاق والأعمال والأحوال
وَبالجملة ليس ظلال الجنة المذكورة بعيدة عنهم بل قد كانت دانِيَةً قريبة عَلَيْهِمْ ظِلالُها الموعودة لهم من قبل الحق وَلهم فيها ثمار متجددة متلونة من انواع المعارف والحقائق اللدنية المترتبة على أشجار الأسماء والصفات الإلهية التي قد اتصفوا بها وتخلقوا بمقتضاها ولا تكون تلك الأشجار وأغصانها وأثمارها بعيدة عنهم آبية سيما بعد ما اتصفوا بمقتضاها بل قد ذُلِّلَتْ وسخرت قُطُوفُها وثمارها لهم تَذْلِيلًا بحيث متى أرادوا تلذذوا بها بلا تردد إذ كمالاتها كلها حينئذ بالفعل بلا انتظار لهم إياها وترقب لها
وَلتكميل ترفههم وتنعمهم يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ متخذة مِنْ فِضَّةٍ اى من فضة عقائدهم الصافية البيضاء الشفافة الخالصة عن مطلق الكدورات وَأَكْوابٍ اى كيزان لا عروة لها وهي من غاية صفائها وجلائها كأنها كانَتْ قَوارِيرَا في الرقة وأية
قَوارِيرَا متخذة مِنْ فِضَّةٍ وهي من غاية صفائها وشفيفها لا يرى لها لون ولا كون بحيث قد اشتبه أمرها عند الرائي في بادى الرأى ولذلك قَدَّرُوها تَقْدِيراً بمقتضى ما رعوا من الاعتدال والأخلاق والأطوار
وَهم يُسْقَوْنَ فِيها اى في تلك الجنة الموعودة لهم كَأْساً مملوا من خمور المحبة والمودة قد كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا اى كالزنجبيل في المساغ وسرعة الانحدار يعنى
عَيْناً جارية فِيها مملوة بماء الحياة الازلية الابدية السرمدية تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا لهدايتها وارشادها الى مشرب التوحيد وبحر الوحدة الذاتية كأنها تلقى وتلقن تلك العين المترشحة من بحر الحياة الازلية(2/470)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
الابدية لأرباب العناية بقولها سل ايها الطالب الحائر في بيداء الطلب سبيلا الى الوحدة الحقيقية الحقية واسترح عندها
وَايضا يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ثانيا وتصحيبا وِلْدانٌ حسان صباح ملاح مصورون من أعمالهم وأحوالهم مُخَلَّدُونَ دائمون مستمرون على صباحتهم وملاحتهم بحيث إِذا رَأَيْتَهُمْ ايها المعتبر الرائي حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً من صفاء ألوانهم وبهاء هياكلهم واشكالهم وصباحة خدهم ورشاقة قدهم ومن انعكاس اشعة وجوههم ومن كمال اللطافة والطراوة والصفاء المفرط نهاية النظافة
وَبالجملة إِذا رَأَيْتَ ايها الفطن الرائي ثَمَّ اى في الجنة المذكورة الموعودة رَأَيْتَ وما أدراك ما رأيت رأيت نَعِيماً وأى نعيم نعيما لا يكتنه غوره وطوره وَمُلْكاً وأى ملك ملكا عظيما كَبِيراً وسيعا فسيحا لا يدرك وسعته وقدره ولا يكتنه طوره وغوره ومع ذلك
عالِيَهُمْ اى يعلو عليهم ويحيط بهم فيها تعظيما لهم وتكريما ثِيابُ سُندُسٍ هو رقيق من الديباج خُضْرٌ على لون الحياة إذ حياتهم فيها سرمدية وَإِسْتَبْرَقٌ هو غليظ منه كذلك وَهم قد حُلُّوا فيها أَساوِرَ اى زينوا بأساور متخذة مِنْ فِضَّةٍ صافية عن الغش بصفاء عقائدهم عنه تتميما لتنعمهم وَبالجملة قد سَقاهُمْ رَبُّهُمْ بعد ما تمكنوا في مقعد الصدق عند المليك المقتدر شَراباً من كأس المحبة ورحيق التوحيد والتحقيق طَهُوراً خاليا خالصا عن شوب الثنوية وشين الكثرة مطلقا وبعد ما شربوا منه جرعة سكروا سرمدا ولم يصحوا ابدا ثم قيل لهم من قبل الحق
إِنَّ هذا الذي قد فزتم به الآن قد كانَ لَكُمْ جَزاءً موعودا معهودا في مقابلة أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم ومواجيدكم ومعارفكم التي أنتم عليها في النشأة الاولى وَبالجملة قد كانَ سَعْيُكُمْ الذي كنتم عليه في عالم الناسوت مَشْكُوراً مجازا عليه غير مضيع بل مع زيادات تفضلا وامتنانا عليكم. ثم لما جمع سبحانه جميع الفضائل والكمالات الانسانية وعموم المعارف والمشاهدات والمكاشفات اللدنية في المرتبة الجامعة الختمية الخاتمية المحمدية المحيطة المشتملة على عموم المراتب والمناصب العلية خاطبه سبحانه خطاب رحمة وامتنان على سبيل التعطف فقال
إِنَّا بمقتضى فضلنا وجودنا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك الْقُرْآنَ الحاوي لعموم ما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي ومطلق الحكم والاحكام والحقائق والمعارف الموردة فيها المحتوى لجميع الكمالات اللائقة بسائر الأنبياء والرسل المجتازين في سبيل التوحيد تَنْزِيلًا مفرقا منجما على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة الباعثة على انزاله حسب طاقتك اليه وانكشافك بما فيه لتتدرج أنت في سلوكك وشهودك وبعد ما سمعت من الكرامة والتعظيم
فَاصْبِرْ يا أكمل الرسل لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تستعجل في غلبتك وظهورك على عموم أعدائك من جنود اهل التقليد والضلال سيما كفار مكة خذلهم الله وَبعد ما قد كوشفت بحقية الحق وبوحدته واستقلاله في الوجود ومطلق الآثار لا تُطِعْ مِنْهُمْ اى من اهل التقليد واصحاب الضلال أحدا سواء كان آثِماً متناهيا في الفسوق والعصيان حيث ينتهى إثمه الى الشرك أَوْ كَفُوراً لنعم الله مبالغا في كفران نعمه ونسيان كرمه حيث ينتهى كفرانه الى الكفر. أعاذنا الله وعموم عباده منهما
وَبعد ما تحققت يا أكمل الرسل تمام الكشف والشهود اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا اى في عموم أوقاتك وحالاتك وداوم على ذلك دائما مستمرا
وَعليك ان تتخذ مِنَ اللَّيْلِ الموضوع للخلوة مع الله ودوام المراقبة والحضور معه(2/471)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
فَاسْجُدْ لَهُ وتوجه نحوه توجها خالصا مقرونا بكمال الخضوع والخشوع والتذلل التام وَسَبِّحْهُ اى نزه ذاته عن جميع ما لا يليق بشأنه لَيْلًا اى في خلاله وآنائه تسبيحا طَوِيلًا خاليا عن مطلق الشواغل فارغ البال عن تشتت الآمال هكذا آداب اصحاب المآل وديدنة ارباب الوجد والحال
إِنَّ هؤُلاءِ اى اصحاب الضلال المنحرفين عن جادة الاعتدال يُحِبُّونَ اللذة الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ اى يتركون امامهم وخلفهم بلا مبالاة منهم يَوْماً ثَقِيلًا شديدا يشتد الأمر فيه عليهم ويصعب ومع ذلك ينكرونه ويكذبونه وكيف يذرونه وينكرونه مع انا نخبر به ونأمر بتصديقه وكيف لا نأمرهم إذ
نَحْنُ بمقتضى قدرتنا قد خَلَقْناهُمْ وقدرنا وجودهم أولا من أهون الأشياء وأخسها واخبثها وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ اى قد عدلنا اركانهم وجوارحهم وأحكمنا مفاصلهم واوصالهم وبالجملة قد سويناهم اشخاصا قابلين للتكليف ليترتب عليه الايمان والتصديق بعموم المعتقدات اللدنية وَبعد ما لم يؤمنوا ولم يصدقوا عنادا ومكابرة إِذا شِئْنا وتعلقت مشيتنا على إهلاكهم واستئصالهم أهلكناهم واستأصلناهم وبَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ في الخلقة وجميع لوازمها تَبْدِيلًا حسنا بحيث يكون المبدل خيرا واحسن وأكمل من المبدل منه وبالجملة
إِنَّ هذِهِ الآية الدالة على تهذيب الأخلاق والأطوار تَذْكِرَةٌ ناشئة من قبل الحق فَمَنْ شاءَ ان يتعظ بها ويتذكر بما فيها اتَّخَذَ أولا إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا يعنى شرع أولا في مسالك القرب والوصول الى الله فتقرب نحوه بالمعاملات ثم بالأحوال والمقامات وبالجملة ليس وراء الله مرمى ومنتهى
وَلكن ما تَشاؤُنَ اى المتقربون الى الله السائرون نحوه حسب التوفيق والتيسير الإلهي إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الموفق لهم الموجد المقدر لعموم أفعالهم وأعمالهم المنجى لهم عن غياهب الإمكان وظلمات الخيالات والأوهام
إِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده كانَ عَلِيماً بقابلياتهم اللائقة لفيضان الكشف والشهود حَكِيماً في تربيتهم وتكميلهم
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ بهدايته ولطفه فِي رَحْمَتِهِ التي هي سعة وحدته وَلكن الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية المحرومين عن نظر العناية والتوفيق مطلقا قد أَعَدَّ لَهُمْ سبحانه عَذاباً أَلِيماً لا عذاب أشد منه ايلاما وأفزع انتقاما ألا وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول. نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين
خاتمة سورة الإنسان
عليك ايها المريد المتوحد بمشية الله وتيسيره وفقك الله على ما املك واعانك على انجاحه ان تفرغ همك وتخلى قلبك عن الالتفات الى الدنيا معرضا عن آمالها وأمانيها متوجها الى الآخرة وما فيها متعرضا لنفحات الحق مستنشقا من روائح روحه ورحمته راجيا من سعة لطفه وجوده ان ييسرك ويوفقك في عموم أوقاتك وحالاتك على ما هو خير لك في أولاك وأخراك ويدفع عنك شرور بشريتك ومقتضيات بهيميتك وقواك وبالجملة فاتخذه سبحانه وكيلا وثق اليه واجعله حسيبا وكفيلا وتوكل عليه إذ هو اعلم بما ينبغي لك منك وبما يليق بحالك فلك التفويض والتكلان والأمر بيد الله الحكيم المستعان(2/472)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)
[سورة المرسلات]
فاتحة سورة المرسلات
لا يخفى على من انكشف بوحدة الحق وانجذب نحو مرتبة الكشف والشهود والانجلاء التام المسقط لعموم الاعتبارات والاعتباريات ان الركون اليه سبحانه والانجذاب نحوه انما يحصل بجذبات الهية ونفحات غيبية ونسمات روحانية روحية هابة من نفسات الرحمن ناشئة منتشئة من قبل يمن عالم اللاهوت وحضرة الرحموت ولا شك ان الجذبات الإلهية متفاوتة بتفاوت الاستعدادات والقابليات المترتبة المتفرعة على تربية الأسماء والصفات الإلهية المتفاوتة في أنفسها حسب الشئون الكمالية والتطورات الذاتية الناشئة من التجليات الحبية فمنهم من جذبته العناية وأدركته النفحات والنسمات اللاهوتية كالبرق الخاطف فعصفن ونزعن عنهم ملابس الإمكان بالكلمة واخرجنهم عن سجن الطبيعة والهيولى على الفور بلا تراخ ومهلة ومنهم من نشرت عليهم هينات لينات بحيث يستروحون من هبوبها ويستريحون فيها حتى تترسخ في نفوسهم آثارها فيتدرجون إليها ويتحنون نحوها متشوقين فيتطرقون أثرها حتى يصلوا الى ما وصلوا بل اتصلوا ومنهم من يهببن عليهم ويفرقن في نفوسهم بين الحق والباطل والهداية والضلال على سبيل التدريج فيوقعن بينهم الفتن والبليات وانواع التجارب والاختبارات حتى يتفطن البعض منهم ويتنبه فيكون من اصحاب الجنة والبعض الآخر لا يتفطن ولا يتنبه فيكون من اصحاب النار ومنهم من يلقين لهم بعد هبوبهن عليهم ذكرا فقط حسب فطرتهم الاصلية التي هم فطروا عليها ناشئا من عالم اللاهوت مجردا عن الفكر والفطنة فكيف عن التحنن والشوق فكيف عن السيران والطيران فالاولى اشارة الى طريق الشطار الطائرين الى الله بعد ادراك الجذبة الاحدية كالبرق الخاطف بلا توقف وتأخر والثانية الى طريق الأبرار وارباب المواجيد والواردات الغيبة وذوى الأذواق الصافية المنجذبين نحو الحق من طريق السلوك والمجاهدة والثالثة الى طريق الأخيار واصحاب المعاملات والاستدلالات المتوجهين نحو الحق من طريق التدين والتخلق بالأخلاق الفاضلة والمعاملات الصالحة والرابعة الى طريق العوام القانعين بالذكر والتكرار بلا وجدان وفطنة وذوق ومعرفة لذلك قال سبحانه في شأن العوام أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
ثم لما أراد سبحانه ان يشير الى هذه الاربعة المذكورة اقسم بحوامل وحيه ونفسات رحمته الفائضة منه سبحانه على عموم عباده على الدوام ليستمدوا منه ويتطرقوا نحوه متذكرين لمبدئهم ومعادهم حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المظهر لعموم مظاهره بامتداد اظلاله المترتبة على أوصافه الذاتية وأسمائه الحسنى الرَّحْمنِ عليهم بافاضة نسمات روحه ونفسات رحمته الرَّحِيمِ عليهم يوصلهم الى فضاء وحدته بإرسال شمائم روحه وراحته
[الآيات]
وَحق الْمُرْسَلاتِ اى رياح الجذبات الهابة من قبل يمن عالم اللاهوت المنتشئة من حضرة الرحموت لاسترواح أرواح سكان عالم الناسوت وأشباحهم عُرْفاً لأجل اظهار التعارف والائتلاف الواقع بينهم بحسب الحقيقة والوحدة
فَالْعاصِفاتِ النازعات ملابس عالم الناسوت واكسية الإمكان عن أرواح المحبين المجذوبين المنجذبين نحو الحق بالهمم العالية عَصْفاً سريعا شديدا تخليصا لهم عن سجن الطبيعة تفريحا وترويحا
وَالنَّاشِراتِ المنتشرات على أراضي استعدادات ارباب الطلب والإرادات المتوجهين نحو الحق بالعزيمة الخالصة نَشْراً لينا هينا بحيث توقظهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان وتخلصهم عن مضيق الضلال وترشدهم الى فضاء(2/473)
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)
الوصال
فَالْفارِقاتِ الواصلات الى بقعة الإمكان من قبل الرحمن ليفصلن ويفرقن لساكنيها بين الحق والباطل والحرام والحلال والهداية والضلال الواقعة في سلوك طريق الحق وسبيل توحيده فَرْقاً بينا واضحا ليتنبهوا الى مبدئهم ومعادهم
فَالْمُلْقِياتِ الملقنات لحوامل أثقال الطبيعة والأركان المسجونين في سجن الإمكان المقيدين بسلاسل الزمان وأغلال المكان المتفرعة على أثقال الطبائع والأركان ذِكْراً حسنا من عالم اللاهوت بحيث يجرونه على ألسنتهم لعلهم يتذكرون به مبدأهم الأصلي ويتفطنون منشأهم الحقيقي ليكون لهم ذكرهم هذا
عُذْراً يزيل ويمحو سيئات عالم الناسوت وآثام الإمكان بعد ما تنبهوا به الى عالم اللاهوت وتطرقوا نحوه مهاجرين من بقعة الناسوت أَوْ نُذْراً ينذرهم عن نيران الإمكان وسعير الطرد والخذلان بعد ما تذكروا نعيم عالم اللاهوت وفضاء الجبروت يعنى وبحق هذه المقسمات العظام المكرمات عند الله المنتشآت من لدنه سبحانه حسب حكمته المتقنة البالغة لمصلحة التوحيد والايمان والمعرفة والإيقان
إِنَّما تُوعَدُونَ ايها المكلفون من قبل الحق في يوم العرض والجزاء لَواقِعٌ محقق وقوعه وثبوته بلا ريب وتردد واعلموا انه بعد ما قد وقعت الواقعة الهائلة وقامت القيامة المبدلة
فَإِذَا النُّجُومُ اى الهويات المحسوسة المرئية في عالم الكون والفساد طُمِسَتْ انمحقت وانمحت وغابت وتلاشت عند ظهور شمس الحقيقة
وَإِذَا السَّماءُ اى نظام عالم الكون والفساد فُرِجَتْ صدعت وشقت وانفصمت وتلاشت
وَإِذَا الْجِبالُ الرواسي التي هي أوتاد الأرض وهي في الحقيقة عبارة عن الهياكل المحسوسة في عالم الأشباح نُسِفَتْ قلعت من أماكنها ثم ذريت برياح الفناء
وَإِذَا الرُّسُلُ المبعوثون للإرشاد ولإصلاح العباد وسداد فسادهم أُقِّتَتْ وقتت اى قد عين لهم وقت الشهادة على أممهم بعد ما أبهم عليهم وقتها في النشأة الاولى كأنه قيل لهم من قبل الحق
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ وأخرت شهادتهم وأجيب ايضا من جانبه سبحانه
لِيَوْمِ الْفَصْلِ
وَما أَدْراكَ وأعلمك يا أكمل الرسل ما يَوْمُ الْفَصْلِ أبهمه سبحانه تهويلا وتعظيما وبالجملة
وَيْلٌ وهلاك مؤبد وزجر مخلد مستمر يَوْمَئِذٍ اى في يوم الفصل لِلْمُكَذِّبِينَ به المنكرين له في النشأة الاولى سيما بعد اخبار الرسل والكتب وكيف يكذبونه وينكرون عليه أولئك الضالون المكذبون مع انهم قد سمعوا حال المكذبين المنكرين الماضين
أَلَمْ نُهْلِكِ المكذبين الْأَوَّلِينَ كقوم عاد وثمود ولم نستأصلهم بسبب انكارهم وتكذيبهم بهذا اليوم الموعود
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ يعنى نتبع ونعقب إهلاك الأولين باهلاك الآخرين كقوم شعيب وموسى وعيسى عليهم السلام وغيرهم ايضا بسبب تكذيب هذا اليوم وتكذيب من اخبر به من الكتب والرسل وبالجملة
كَذلِكَ اى مثل ما فعلنا بالمكذبين السابقين والآخرين اللاحقين نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ اى بعموم هؤلاء المجرمين الحاضرين المكذبين على رسول الله وآياته النازلة عليه من عند ربه لذلك
وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وكيف تكذبون ايها المكذبون بما أمرتم بتصديقه من لدنا مع انكم قد عرفتم قدرتنا عليه وعلى أمثاله
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ ايها المجبولون على النسيان مِنْ ماءٍ مسترذل مَهِينٍ في غاية المهانة والخباثة وبعد نزوله
فَجَعَلْناهُ وصيرناه مستقرا فِي قَرارٍ يعنى مقر الرحم مَكِينٍ متمكن فيه
إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وأجل معين قدره الله العليم الحكيم للولادة وتسوية الخلق والخروج الى عالم الشهادة وبالجملة
فَقَدَرْنا على خلقكم وايجادكم من النطفة المهينة المكينة في ظلمة الرحم وعلى إخراجكم واظهاركم منها الى(2/474)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
فضاء العالم وتربيتكم فيه الى ان صار كل منكم ذا رأى ورشد قابلا لحمل التكاليف المثمرة بثمرة المعرفة والايمان فَنِعْمَ الْقادِرُونَ المقتدرون نحن ايضا على بعثكم وإخراجكم من قبوركم احياء كما كنتم في يوم البعث والجزاء فلم تكذبون به ايها المكذبون مع انكم قد سمعتم من الثقاة العدول ألا وهم الأنبياء والمرسلون انه
وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا على الإعادة وكيف تنكرون قدرتنا الكاملة الشاملة على مطلق المقدورات
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ اليابسة كِفاتاً جامعة كافتة ضامة لكم
أَحْياءً مرة وَأَمْواتاً اخرى اى تكفت وتجمع الأحياء والأموات من الإنسان على التعاقب والتوالي تارة فيها وتارة عليها
وَجَعَلْنا فِيها اى في الأرض اى عليها رَواسِيَ أوتادا واقطابا شامِخاتٍ عاليات متعاليات عن ان ينال بكنه معارفهم وشهوداتهم ادراك احد وَقد أَسْقَيْناكُمْ ايها المكلفون من لدنيات أولئك الأوتاد والأقطاب المتعالية اغوار أطوارهم عن ادراك الأنام وافهامهم ماءً علما لدنيا كشفيا ذوقيا محييا لأموات الجهل فُراتاً عذبا سائغا شرابه لأولى العزائم الصحيحة والمشارب الصافية عن كدر الرعونات مطلقا وبالجملة
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا واقتدارنا على اظهار هذه البدائع التي قد كلّت دونها وصف الألسن والأحلام ودرك العقول والافهام وكيف يسعهم التكذيب والإنكار وقت إذ عاينوه ويقال لهم حينئذ زجرا عليهم وتوبيخا
انْطَلِقُوا وادخلوا ايها المكذبون إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من العذاب والنكال وانواع العقوبات والمكروهات.
ثم قيل لهم ايضا تأكيدا وتشديدا على توبيخهم وتقريعهم
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ واى ظل ظل ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ حاصلة منشعبة من القوى البهيمية الوهمية والشهوية والغضبية إذ بهذه الثلاثة تقترف عموم المعاصي وتكتسب جميع الآثام الموجبة لدخول النار
لا ظَلِيلٍ إذ لا يدفع ضرر الحرارة العارضة من نيران الغضب والشهوات وَلا يُغْنِي ولا يدفع مِنَ حر اللَّهَبِ الجهنمية وإحراق النيران الامكانية الحاصلة من القوى البشرية وكيف يمكن ان يدفع حر جهنم
إِنَّها اى جهنم الطرد والحرمان تَرْمِي بِشَرَرٍ وهو ما يتطاير من النار حين التهابها وسورتها وأى شرر كل شرر منها كَالْقَصْرِ الرفيع في الكبر والعظيم في المقدار
كَأَنَّهُ في الكثرة والتتابع والتوالي جِمالَتٌ وابل متسلسلة مترادفة متتابعة صُفْرٌ لونها شبهها بها في عظم أجرامها وتتابعها وصفرة لونها
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بتكذيبهم لهذا العذاب الهائل بعد ما أمروا بتصديقه على ألسنة الرسل والكتب وبعد ما قد ساقهم الخزنة إليها بالزجر التام والعنف المفرط أخذوا يطرحونهم إليها مهانين صاغرين وهم حينئذ يتضرعون صائحين فزعين وقيل لهم تقريعا وتوبيخا
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ إذ نطقهم بالأعذار الكاذبة كلا نطق في عدم الدفع والنفع
وَبالجملة لا يُؤْذَنُ لَهُمْ يومئذ فَيَعْتَذِرُونَ إذ لا يسمع منهم العذر لانقضاء نشأة التلافي والتدارك بالأعذار والتوبة وبالجملة
وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وأى ويل عظيم ويل لا يكتنه غوره ولا طوره ولا شدة هوله وحزنه. ثم قيل لهم من قبل الحق حينئذ
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين المحق والمبطل والمسيء والمحسن جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ اى قد جمعنا الآخرين مع الأولين والسابقين مع اللاحقين فيه
فَإِنْ كانَ لَكُمْ ايها المكلفون كَيْدٌ ومكر تقاوموننى به وتدفعون به عنكم عذابي فَكِيدُونِ وامكرونى ان استطعتم والا ف
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حتما لازما جزما ومن اين يتأتى منهم المكر والحيلة حينئذ مع الله(2/475)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
حتى يتخلصوا من عذابه سيما في تلك الحالة وبالجملة هؤلاء الضالون سيقوا نحو النار وطرحوا فيها مهانين وجذبوا إليها صاغرين خالدين. ثم اردف سبحانه وعيد المكذبين بوعد المصدقين فقال
إِنَّ الْمُتَّقِينَ المتحفظين على نفوسهم من الشرك ومن عموم المعاصي المصدقين بيوم الذين والجزاء مستغرقون في بحار الانعام والإحسان يومئذ متنعمون بأنواع التنعم والترفه إذ هم حينئذ متمكنون متكؤن فِي ظِلالٍ ممدودة من ظلال البساتين وَعُيُونٍ جارية فيها
وَفَواكِهَ كثيرة في حواليها مِمَّا يَشْتَهُونَ ويقال لهم حينئذ تلطيفا وتكريما
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً لكم مريئا كل ذلك بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في النشأة الاولى من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية المثمرة لتلك الحالات العلية والمقامات السنية وبالجملة
إِنَّا كَذلِكَ اى مثل ما أنتم عليه من الترفه والتنعم نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ المخلصين في الأعمال والأخلاق الراضين بما جرى عليهم من مقتضيات قضائنا وبالجملة
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لكم ايها المخلصون المهتدون هذا النعيم المقيم ولهم ذلك العذاب الأليم. ثم يقال على سبيل الفرض والتقدير للمكذبين من قبل الحق زجرا عليهم وتوبيخا لهم بما اختاروا اللذة الفانية على اللذة الباقية كأنهم قد أمروا به في النشأة الاولى وقيل لهم على سبيل التهديد فيما مضى
كُلُوا من حطام الدنيا حيث شئتم رغدا واسعا وافرا وَتَمَتَّعُوا بامتعتها زمانا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ بالجرائم العظيمة مؤاخذون عليها بالآخرة في النشأة الاخرى بشؤم تكذيبكم بما أمرتم بتصديقه وبالجملة
وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وهم قد عرضوا أنفسهم على العذاب المخلد المؤبد
وَكيف لا يؤاخذون أولئك المعاندون المكابرون إذ هم قد كانوا من كمال استكبارهم وعتوهم إِذا قِيلَ لَهُمُ امحاضا للنصح ارْكَعُوا اى تواضعوا لأمر الله واخضعوا له سبحانه وانقادوا لحكمه وصلوا نحوه متذللين وهم لا يَرْكَعُونَ من غاية استكبارهم واستعظامهم ولا يمتثلون لحكم الله وأوامر رسله ولا يطيعونهم تعنتا وعنادا بل يكذبونهم ويستهزؤن بهم لذلك يحل عليهم
وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ المستهزئين برسل الله الظاهرين عليهم بالإساءة والاستكبار المنكرين المكذبين بعموم ما نزل عليهم من الكتب المبينة لمعالم الدين ومراسم التوحيد واليقين بعد ما لم يؤمنوا أولئك الضالون المكذبون بهذا الكتاب المبين المبين بطريق الحق ومنهج الصدق والصواب
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ وكلام مصلح مرشد هادلهم منقذ إياهم من الضلال بَعْدَهُ اى بعد القرآن يُؤْمِنُونَ أولئك المنكرون المعاندون المفسدون المفرطون. جعلنا الله ممن آمن به وامتثل لما فيه وتفطن برموزه وإشاراته بمنه وجوده
خاتمة سورة المرسلات
عليك ايها الموحد المحمدي القاصد لسلوك طريق الهداية والتوفيق العازم والجازم على التحقق والتمكن في مقعد صدق التوحيد والتحقيق يسر الله عليك مبتغاك وأوصلك الى غاية متمناك ان تتمسك بالحبل المتين القرآنى وتتشبث بأذيال هدايته وإرشاده وتمتثل بما فيه من الأوامر والنواهي والاحكام الموردة كي تتفطن أنت بما رمز فيه وأشير اليه من المعارف والحقائق المصفية لسرك عن الالتفات الى ما سوى الحق المعدة قلبك لفيضان الكشف والشهود فلك ان تتبتل الى الله حسب استعدادك وتتخلق بالأخلاق المحمدية التي هي القرآن المنزل الموروث الموهوب له من ربه(2/476)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)
مقدار ما يسر الله لك وقدره لأجلك في حضرة علمه والتوفيق بيد الله والهداية من عنده يهدى من يشاء الى صراط مستقيم
[سورة النبإ]
فاتحة سورة النبأ
لا يخفى على من انكشف له سرائر التكاليف الإلهية وحكم الاحكام الموردة من لدنه سبحانه ومصالح الأوامر والنواهي الناشئة من قدس ذاته ان مقتضى الألوهية والربوبية تربية المربوب وتأديبه بتحميل المتاعب والمشاق المانعة عن مقتضيات الهوى ومتابعة شياطين الأوهام والخيالات الباطلة التي هي جنود النفس الامارة بالسوء إياه وبعد ما لم يمتنع من مقتضيات القوى الطبيعية ولم يأت بالطاعات والعبادات المكلفة المأمور بها من قبل مربيه لم يعتدل على صراط العدالة الإلهية ولم يستقم له الوصول الى روضة الرضاء وجنة النعيم فالحكمة الإلهية تقتضي ان يعذبه بالعذاب الأليم ويدخله في نار الجحيم ابدا مؤبدا خالدا مخلدا لذلك وضع سبحانه بمقتضى حكمته نشأتين نشأة الاختبار والابتلاء ونشأة الانتقاد والجزاء فجعل الاولى منزل العبور والاعتبار والاخرى دار الثبوت والقرار فالعاقل العارف لا بد وان يؤمن ويوقن بكلتيهما ويستعد في أولاهما لاخريهما ومن اغتر بالأولى وشغل بها عن الاخرى فقد لحق بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ولكمال ظهور امارات النشأة الاخرى ووضوح براهين وقوعها وقيامها الى حيث يتساءلون مترددين مستبعدين ويتقاولون فيما بينهم بخبر وقوعها وقيامها ويتداولونها على سبيل المراء والاستهزاء فقال سبحانه بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم ما ظهر وبطن حسب النشأتين الرَّحْمنِ للكل حسب النشأة الاولى الرَّحِيمِ لخواص عباده حسب النشأة الاخرى
[الآيات]
عَمَّ اى عن ما وعن اىّ شأن وامر يَتَساءَلُونَ ويتقاولون فيما بينهم مراء ومجادلة
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ اى هم يختلفون في قيام الساعة الموعودة لتنقيد اعمال العباد والجزاء عليهم على وفقها مع ان امره اظهر من ان يشك فيه ويسأل عنه ويستهزأ به ويختلف فيه وفي وقوعه فلأى شأن وامر يختلفون ويترددون أولئك المسرفون المترددون
كَلَّا وحاشا من اين يتأتى لهم إنكاره والتساؤل فيه والتقاول في شأنه على وجه المراء مع انهم سَيَعْلَمُونَ عن قريب قيامه ووقوعه بل قربه اقرب إليهم من رجع الطرف ولمح البصر بل هو اقرب
ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ حين ينزل عليهم بغتة وهم لا يشعرون وبالجملة من اين يتأتى لهم انكار يوم البعث والجزاء هل ينكرون قدرتنا الكاملة على أمثاله أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً لهم ممهدة ينتشرون عليها ويستريحون فيها وَنجعل الْجِبالَ عليها أَوْتاداً تقريرا لها وتثبيتا
وَخَلَقْناكُمْ اى قدرنا أشباحكم ايها المكلفون أَزْواجاً أصنافا ذكرا وأنثى لتتآنسوا وتتناسلوا
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ في خلال الليالى سُباتاً انقطاعا عن الاحساس والحركة ليحصل إرخاء الاعصاب والفضلات لتستريحوا بسببه ويزول كلال القوى وفتورها فتستمد بالاستراحة وتشتغل بافعالها في النهار بجرأة تامة وقوة كاملة
وَبالجملة قد جَعَلْنَا اللَّيْلَ لكم لِباساً غطاء وغشاء تستترون فيه وتختفون به فيما فيه إخفاء مطلوبكم
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً لكم وقتا تطلبون فيه ما تعيشون به من حوائجكم ومطعوماتكم وملبوساتكم
وَ(2/477)
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
كذا قد بَنَيْنا بكمال قدرتنا ومتانة حكمتنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً طباقا شِداداً أقوياء محكمات مستحكمات لا يتأثرن بمر الدهور وكر الأعصار كسائر الابنية
وَجَعَلْنا في خلالها سِراجاً مضيئا متلألأ متشعشعا وَهَّاجاً حارا سخينا في غاية السخونة عند الانعكاس لتنضيج ما تحتاجون اليه في امور معاشكم
وَأَنْزَلْنا ايضا تتميما لتربيتكم وتربية معيشتكم مِنَ السحب الْمُعْصِراتِ بالرياح ماءً ثَجَّاجاً مطرا كثير الانصباب متتالى القطر
لِنُخْرِجَ بِهِ اى بالماء الماطر حَبًّا تقتاتون به وَنَباتاً تعتلف بها مواشيكم
وَجَنَّاتٍ متنزهات لكم وبساتين أَلْفافاً أشجارها وثمارها من كثرتها وكثافتها كل ذلك من المقدورات التي يتفطن منها العاقل المنصف على وقوع الحشر والنشر من الأمور الغيبة الموعودة في يوم الجزاء بل جميع المقدورات الداخلة تحت قبضة القدرة الإلهية إذ نسبة القدرة الكاملة الإلهية الى هذه المقدورات وأمثالها بل الى اضعافها وآلافها وكذا الى الأمور الموعودة فيها على السواء والارادة الكاملة الإلهية ترجح كلا منها عند حلول ما قدر الله له من الوقت والأجل وبالجملة من ترقى إدراكه عن مضيق الالف وخرق حجب الرسوم والعادات وخلص عن ظلمات الأوهام والخيالات العائقة عن الوصول الى وحدة الذات التي هي منبع عموم الخيرات ومنشأ جميع الكمالات قد انكشف له ولاح عنده ان امرى النشأة الاولى والاخرى وأمثالهما بل اضعافهما وآلافهما في جنب القدرة الغالبة الإلهية سهل يسير لكن المحجوب المحبوس في عالم المحسوس المقيد بعقال العقل المبهوت المشوب بالوهم المنحوس والخيال المزور المنكوس قد يتخيل حصر المظاهر والمجالى الإلهية بما لمع له من سراب عالم الطبيعة والهيولى لذلك وقع فيما وقع من البلوى وزلت قدمه في سبيل القرب من المولى. هب لنا من لدنك رحمة تنجينا عن أمثال هذه المهالك انك أنت الوهاب. ثم قال سبحانه
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ الفارق بين اصحاب الحيرة والضلال وارباب العناية والوصال قد كانَ له مِيقاتاً وقتا معينا في حضرة علم الله مقدرا في لوح قضائه لم يطلع أحدا عليه وعلى تعيينه بل أخبرهم باماراته وعلاماته اذكر يا أكمل الرسل
يَوْمَ اى يوم إذ حل فيه وقت الفصل وقيام الساعة وحينئذ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ النفخة الاولى لبعث الموتى وإذا وصل لهم ذلك النداء والصداء فيخرجون من قبورهم حيارى وسكارى مبهوتين ثم ينفخ فيه ثانيا للحشر فَتَأْتُونَ المحشر أَفْواجاً فرقا فرقا وزمرا زمرا
وَفُتِحَتِ السَّماءُ اى قد خرقت وشقت يومئذ فَكانَتْ الخرق والشقوق لها أَبْواباً
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ اى قلعت عن وجه الأرض وتحركت فطارت اجزاؤها كالهباء نحو الهواء
فَكانَتْ أشكالها وهيآتها سَراباً اى كالسراب يلمع ويرى على صورة الجبال ولا حقيقة لها كما هي الآن كذلك عند العارف المكاشف بحقيقتها وبالجملة
إِنَّ جَهَنَّمَ يومئذ قد كانَتْ مِرْصاداً مرصدا ومعبرا لعموم العباد يعبر منها اهل الجنة على تفاوت طبقاتهم سرعة وبطأ مترتبين على تفاوت أعمالهم وأحوالهم ومواجيدهم ومقاماتهم ومنهم من لا يلتفت نحوها ولا يدركها اين هي وان عبرها ومنهم من يعبرها كالبرق الخاطف ثم الأمثل فالأمثل فينجون من غوائلها ويسقط فيها اهل النار ويغلون باغلالها وسلاسلها فتصير
لِلطَّاغِينَ المصرين على طغيانهم وكفرهم مَآباً مرجعا ومأوى لا يخرجون منها أصلا بل يكونون
لابِثِينَ ماكثين فِيها أَحْقاباً وأى احقاب أحقابا لا كاحقاب الدنيا بل لا نهاية لها ولا غاية لحدها فذكرها كناية عن عدم التناهى وهم
لا يَذُوقُونَ فِيها في جهنم(2/478)
إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
البعد وسعير الحرمان بَرْداً لحرمانهم عن لذة برد اليقين في النشأة الاولى وَلا شَراباً لأنهم لم يشربوا في النشأة الاولى من زلال الايمان شربة ولا من رحيق التحقيق والعرفان جرعة لذلك ما يشربون في النشأة الاخرى
إِلَّا حَمِيماً ماء حارا يسخن بنيران غضبهم وشهواتهم بحيث يقطع أمعاءهم من شدة حرارته وَغَسَّاقاً صديدا سائلا من جراحات اهل النار بدل ما كانوا يأكلون ويشربون من اموال اليتامى والمظلومين ظلما وعدوانا وبالجملة قد جوزوا فيها جَزاءً وِفاقاً موافقا مطابقا لاعمالهم التي قد أتوا بها في دار الدنيا وبالجملة
إِنَّهُمْ كانُوا حين يمموا المعاصي وعزموا على الآثام لا يَرْجُونَ ولا يأملون حِساباً ولا يخافون عذابا
وَلهذا قد كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على كمال قدرتنا واقتدارنا على وجوه الانعام والانتقام وعلى رسلنا المنزلة إليهم تلك الآيات كِذَّاباً تكذيبا بليغا وإنكارا شديدا بحيث كانوا يستهزؤن بالآيات والرسل مكابرة وعنادا
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً يعنى وهم وان بالغوا في التكذيب والعناد قد فصلنا نحن أعمالهم وأخلاقهم وجميع خصائلهم المذمومة على صحف أعمالهم التي سيحاسبون عليها على التفصيل ويجازون بمقتضاها وبعد ما يحاسبون ويؤاخذون يقال لهم زجرا عليهم وتوبيخا
فَذُوقُوا ايها المسرفون المفرطون فَلَنْ نَزِيدَكُمْ بأعمالكم وتكذيبكم إِلَّا عَذاباً فوق العذاب في الحديث صلوات الله على قائله هذه الآية أشد ما في القرآن على اهل النار. ثم اردف سبحانه بوعيدهم وعد المؤمنين تشديدا لعذابهم وتأكيدا فقال
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الحافظين نفوسهم عن محارم الله خوفا من عذاب الله ورجاء من فضله مَفازاً مخلصا ومنجاة من جميع المكاره اللاحقة للكفار والعصاة في النار
حَدائِقَ ذات بهجة وبهاء ونضارة ونزاهة وَأَعْناباً معروشات
وَان لهم فيها أزواجا كَواعِبَ نواهد قد استدارت ثديهن مثل الزمان أَتْراباً أبكارا لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان
وَكَأْساً من خمور المحبة الإلهية دِهاقاً ملآنا وهم
لا يَسْمَعُونَ فِيها اى في الجنة عند شرب خمور المحبة لَغْواً فضولا من الكلام وَلا كِذَّاباً اى مكاذبة يكذب بعضهم بعضا كما يقع بين شاربي شراب الدنيا وانما يجازون بما يجازون
جَزاءً ناشئا مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل عَطاءً من لدنه تفضلا عليهم وإحسانا إذ لا يجب عليه سبحانه شيء حِساباً كافيا وافيا لا ينقصون ولا ينتظرون وكيف لا يتفضل سبحانه على أوليائه مع انه (5)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مربى العلويات والسفليات وَما بَيْنَهُمَا من الممتزجات لا مربى لها سواه الرَّحْمنِ المستوي على عروش عموم المظاهر بالرحمة العامة والاستيلاء التام والسلطنة القاهرة والبسطة الغالبة بالإرادة والاختيار بحيث لا يَمْلِكُونَ ولا يقدرون اى اهل السموات والأرض مِنْهُ سبحانه خِطاباً اى لا يسعهم ان يخاطبوه ويطلبوا منه شيأ من زيادة ثواب او نقص عقاب بل هو بذاته فعال لكل ما يريد من مقتضيات أسمائه وصفاته بالإرادة والاختيار لا يسأل عن فعله انه حكيم حميد وكيف يملكون ويقدرون على خطابه سبحانه هؤلاء الاظلال الهلكى في حدود ذواتهم مع انه
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ المطلق وَالْمَلائِكَةُ اى حوامل الأسماء والصفات الإلهية المجردات المنفصلات عن التعلقات المادية مطلقا صَفًّا صافين مصطفين ساكتين صامتين من كمال دهشتهم عن سطوة سلطنة الذات القاهرة الغالبة بحيث لا يَتَكَلَّمُونَ حينئذ ولا يقدرون على التفوه بالحال او المقال إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بالشفاعة والسؤال فتكلم باذنه وَقالَ صَواباً مرضيا(2/479)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
عند الله مستجابا وبالجملة
ذلِكَ الْيَوْمُ اى يوم الفصل والقيامة هو اليوم الْحَقُّ الثابت الكائن وقوعه بلا خلف ولا ريب فَمَنْ شاءَ ان يأمن من فتنته ويخلص من عذابه اتَّخَذَ وأخذ في النشأة الاولى إِلى رَبِّهِ مَآباً مرجعا ومنقلبا يتوجه اليه ويتحنن نحوه متقربا بصوالح الأعمال ومحاسن الشيم والأخلاق والأطوار وبالجملة
َّا أَنْذَرْناكُمْ
ايها المعرضون عن الله المنصرفون عن طاعته وعبادته مطلقاذاباً قَرِيباً
غريبا فجيعا فظيعا سيلحقكم بغتة وأنتم لا تشعرون باماراته ومقدماته اذكروا الأحوال والافزاع الطارية لكم وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ
ويرى جميع اقَدَّمَتْ يَداهُ
خيرا كان او شرا نفعا كان او ضرا
بعد ما قد رأى الكل يومئذ ما رأى من الصوالح والمقابح الصادرة عنه الجارية عليه قُولُ الْكافِرُ
الرائي قبائح أفعاله وفواسد اعماله متأسفا متحسرا متمنيا هلاكه على سبيل المبالغةا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
لم اخلق ولم اكلف حتى لا استحق هذا الويل والثبور. هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الرحيم الغفور
خاتمة سورة النبأ
عليك ايها الموحد المحمدي ان تتزود ليوم الجزاء بالتقوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته والامتثال بأوامره والتخلق بأخلاقه حتى لا تستحيي من الله في يوم الجزاء ولا تتمنى مقتك وهلاكك مثل من كفر وعصى فعليك ان تلازم على أداء الواجبات والمسنونات والمستحبات من الصلوات والزكوات وانواع الطاعات وعلى التقرب نحوه بالنوافل من الصلوات والصدقات والخدمة بالجوارح والآلات لعموم عباد الله والسعى الى مطلق الخيرات والمبرات والاجتهاد في طريق الحسنات ومطلق المكفرات وترك السيئات حتى تتخلص عن كؤد العقبات وتصل الى روضات الجنات وتفوز بالفوز والسعادات وانواع الكرامات. جعلنا الله من ارباب الهداية والتوفيق ويسر لنا الوصول الى مقر التوحيد والتحقيق بمنه وجوده
[سورة النازعات]
فاتحة سورة النازعات
لا يخفى على السالكين المتدرجين عن مضيق الطبيعة نحو فضاء الحقيقة مهاجرا عن بقعة الإمكان ولوازمها نحو الوجوب الذاتي ان التخلص والنجاة من سلاسل الأماني وأغلال الآمال مطلقا لا يتيسر إلا بجاذبة الحق ووحيه المفيض من عنده على أسمائه وصفاته الفعالة في عالم الكون والفساد الموسومين المتسمين بالملائكة النازعات المخلصات للأرواح البشرية التي هي من جنود عالم اللاهوت المسجونة في مضيق عالم الناسوت في حصون الهويات الامكانية وقلاع الطبائع والأركان فبعضهم بعد ما هبطوا إليها وتوطنوا الفوا ونسوا موطنهم الأصلي ومنزلهم الحقيقي وبعضهم قد صاروا محبوسين محجوبين متذكرين الموطن الأصلي راجين الخلاص عن ورطة الهلاك وبعضهم مترددون شاكون وبعضهم متحركون مضطربون للخروج ولا يتأتى لهم ولما كان حالهم في سجن الطبيعة وعالم الإمكان هكذا وكل عليهم سبحانه عناية منه وفضلا نوازع نازلة من عالم الجبروت حسب قيوداتهم التي كانوا عليها حتى تخلصوهم من مضيق الناسوت وتوصلوهم الى فضاء اللاهوت ولذلك اقسم سبحانه بحق هذه النوازع العظيمة الشئون لثبوت يوم البعث والجزاء الذي قد انقهر وانعدم عند قيامه وظهوره سراب عالم الناسوت مطلقا ليرتدع المنكرون عن إنكاره وينزجر الملحدون عن الجحود فيه(2/480)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المقدر المدبر لأمور عباده حسب ما اقضته الحكمة والمصلحة الرَّحْمنِ عليهم في النشأة الاولى ينبههم عن سنة الغفلة الرَّحِيمِ في النشأة الاخرى يخلصهم عن سجن الطبيعة
[الآيات]
وَحق النَّازِعاتِ المخلصات أرواح المحبين من محابس الطبائع والأركان غَرْقاً لاستغراقهم في لوازم الناسوت ومقتضياتها المغشية صفاء عالم اللاهوت
وَالنَّاشِطاتِ المنزعات المخرجات لنفوس ارباب المحبة والولاء المتشوقين الى عالم العماء وفضاء اللاهوت نَشْطاً رفقا ولطفا بهم لكمال تحننهم وتشوقهم الى الخلاص
وَالسَّابِحاتِ المخرجات أرواح الأبرار المحسنين عن أشباحهم هينات لينات بحيث تقبضهم رفقا ثم تمهلهم حتى يستريحوا ثم تقبضهم هكذا الى ان تخلصهم كالسابح في الماء يتحرك ثم يستريح ثم يتحرك سَبْحاً لكونهم سابحين في بحر الحيرة دائما حتى وصلوا الى بحر اليقين
فَالسَّابِقاتِ اى النفوس الفانية في الله الباقية ببقائه المبادرة الى الخروج قبل نزول النازعات سَبْقاً لكمال شوقهم وانبعاثهم وتجردهم عن ملابس عالم الناسوت وانتزاعهم عن مقتضيات الطبيعة والأركان قبل حلول الأجل وهجوم المخرجات المخلصات
فَالْمُدَبِّراتِ الموكلات على تدابير عموم المظاهر من الأرزاق والآجال وجميع الأمور الجارية في عالم الكون والفساد أَمْراً لكونهم مأمورين بها موكلين عليها بمقتضى حكمة القدير العليم يعنى بحق هذه الحوامل العظام والموكلات الكرام لتبعثن أنتم من قبوركم ولتحاسبن على أعمالكم ايها المكلفون اذكروا
يَوْمَ تَرْجُفُ تتحرك وتضطرب الرَّاجِفَةُ المتقررة الساكنة التي لا حركة لها أصلا كالأرض وسائر الجمادات وبعد تحرك هؤلاء الجوامد
تَتْبَعُهَا في الحركة والاضطراب والاندكاك الرَّادِفَةُ اى العلويات السائرة المتحركة دائما حيث تتشقق السموات وتنتثر الكواكب وبالجملة تختلط العلويات بالسفليات وتتمازجان بحيث لا علو ولا سفل من شدة الهول ونهاية الفزع
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ قلقة حائرة شديدة الاضطراب
أَبْصارُها اى ابصار اصحاب القلوب حينئذ خاشِعَةٌ شاخصة ذليلة من شدة الخوف والهول المفرط مع ان هؤلاء الشاخصين الواجفين قد كانوا
يَقُولُونَ في النشأة الاولى حين أخبرهم الرسل بالبعث والحشر على سبيل الاستبعاد والإنكار أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ اى الحالة التي قد كنا عليها يعنى انبعث احياء كما كنا من قبل ثم يزيدون الإنكار بقولهم
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً بالية رميمة نبعث ونحيى كلا وحاشا من اين يتأتى لنا هذا وبعد ما استبعدوا واستكبروا بما استنكروا
قالُوا متهكمين مستهزئين تِلْكَ الحالة المفروضة لو وقعت ورددنا الى الحياة بعد الموت كما زعم هؤلاء المدعون يعنون الرسل لحصل لنا ذلك إِذاً كَرَّةٌ عودة ورجعة خاسِرَةٌ اى ذات خسران وخذلان إذ قد كنا نكذب بها ولا نصدق بمن اخبر وبعد ما وقعت قد كنا خاسرين خسرانا عظيما وبعد ما تقولوا من بطرهم وخيلائهم بما تقولوا قيل لهم من قبل الحق مقرعا على استماع استعداداتهم لا تستبعدوا امر الساعة الموعودة المعهودة ايها المسرفون المفرطون ولا تستصعبوها
فَإِنَّما هِيَ اى امر الساعة وقيامها عند كمال قدرتنا الغالبة القاهرة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ اى ما هي الا نفخة واحدة تنفخ في الصور بأمرنا وحكمنا فإذا نفخت النفخة الثانية
فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ اى فاجأت بنى آدم بأجمعهم فصاروا احياء على وجه الأرض كما قد كانوا عليها في النشأة الاولى من الهيآت والأشكال والهياكل والهويات. ثم أشار سبحانه الى تسلية حبيبه صلّى الله عليه وسلّم وحثه على الاصطبار باذيات(2/481)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
اصحاب التكذيب والاستكبار فقال
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى يعنى لما اضطربت أنت بتكذيب قومك وانكارهم عليك واعراضهم عن هدايتك وارشادك يا أكمل الرسل أليس قد أتاك حديث أخيك موسى الكليم حتى يسليك ويزيح كربك ويرشدك الى الصبر والثبات مثل أخيك موسى عليه السلام حتى تظفر على أعدائك مثله وذلك وقت
إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بلا وسيلة الملك وسفارة السفير إذ هو حينئذ من افراط المحبة بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ عن رذائل الأغيار وعن الالتفات الى ما سوى الملك الجبار طُوىً اى قد طويت دونه حينئذ مطلق التعينات والنقوش والتموجات الطارية على بحر الوجود من عواصف الإضافات المتموجة والنكبات وبعد ما قد تقرر عليه السلام في مقعد الصدق وتمكن على مكمن اللاهوت امره سبحانه بالالتفات الى عالم الناسوت والرجعة نحوه للإرشاد والتكميل تتميما لقضية الحكمة البالغة المتقنة الإلهية بقوله
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ العالي العاتي الطاغي الباغي إِنَّهُ قد طَغى وتجاوز عن مقتضى العبودية طغيانا فاحشا الى ان قد ادعى الألوهية لنفسه
فَقُلْ له مستفهما أولا على طريقة الملاينة اللازمة لمرتبة النبوة والإرشاد هَلْ لَكَ بعد ما انحرفت عن جادة العبودية بهذه الدعوى الكاذبة الباطلة ميل إِلى أَنْ تَزَكَّى تتزكى وتتطهر عن رذائل الكفر ونقيصة الظلم والعدوان
وَأَهْدِيَكَ وأرشدك انا باذن الله ووحيه إِلى توحيد رَبِّكَ وتقديس مربيك الذي قد أظهرك من كتم العدم ورباك بأنواع اللطف والكرم وبعد ما تعرف أنت وحدة ربك وتؤمن بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وتصدق أنت بكمال قدرته واقتداره على وجوه الانتقامات والإنعامات باستقلاله في عموم التدبيرات والتصرفات فَتَخْشى
حينئذ عن بطشه وقهره وتشتغل بأداء المأمورات وترك المنكرات والمحرمات والاجتناب عن مطلق المنهيات وبالجملة تكون أنت حينئذ من زمرة ارباب العناية والكرامات وتتخلص من نيران الطبيعة ودركاتها وبعد ما ذهب موسى بمقتضى امر الله ووحيه الى فرعون الطاغي الباغي وبالغ في التبليغ واظهار الدعوة والملاينة على وجه الرفق والمداراة
فَأَراهُ على سبيل التبيين والتوضيح الْآيَةَ الْكُبْرى يعنى العصا وتقليبها حية او جنس الآيات النازلة عليه وبعد ما سمع فرعون من موسى ما سمع ورأى من الآيات ما رأى استكبر وغوى
فَكَذَّبَ موسى واستكبر عليه وَعَصى المولى وزاد بغيا وطغيانا
ثُمَّ بعد ما اقبل عليه موسى للإرشاد والتكميل بأمر الله قد أَدْبَرَ واستدبر فرعون عن الإقبال بل اقبل على البغي والضلال لذلك يَسْعى ويجتهد في المعارضة والابطال
فَحَشَرَ جنوده وسحرة بلاده فَنادى على رؤس الملأ على سبيل الاستعلاء والاستكبار
فَقالَ ذلك المسرف المفرط من كمال البطر والافتخار أَنَا رَبُّكُمُ ومربيكم الأجل الْأَعْلى من كل من يلي أمركم ايها البرايا. ثم لما أفرط اللعين في البغي والطغيان وبالغ في الظلم والعدوان
فَأَخَذَهُ اللَّهُ القدير القهار بمقتضى اسمه المضل المذل فجعل سبحانه طغيانه وعدوانه في النشأة الاولى نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى اى سبب الأغلال والسلاسل في النشأة الاخرى وسببا للاهلاك والإغراق ايضا في النشأة الاولى
إِنَّ فِي ذلِكَ الشأن الذي قد جرى على فرعون من انواع البلاء في النشأة الاولى والاخرى لَعِبْرَةً وعظة عظيمة وتذكيرا بليغا لِمَنْ يَخْشى من غضب الله وعن مقتضيات قهره وجلاله. ثم أشار سبحانه الى توبيخ مطلق المنكرين للنشأة الاخرى وتقريعهم وتسفيههم بمقتضى عقلهم فقال
أَأَنْتُمْ ايها المنكرون المفرطون المسرفون(2/482)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)
في امر الحشر والنشر أَشَدُّ وأصعب خَلْقاً وإيجادا على سبيل الإعادة أَمِ السَّماءُ التي هي ارفع الابنية وأعلاها وأشدها نظاما وأقواها بنيانا والتياما إذ هو سبحانه بَناها بقدرته الكاملة واحسن بناءها بحيث
رَفَعَ سَمْكَها وسقفها بلا اعمدة وأسانيد وأسطوانات فَسَوَّاها وعدلها بلا قصور وفطور وبعد ما سواها كذلك قد أدارها وحركها على الاستدارة كذلك
وَقد رتب على حركاتها المددين حيث أَغْطَشَ واظلم لَيْلَها الحاصل من حركاتها وَأَخْرَجَ اى ابرز واظهر ضُحاها ضوء شمسها في النهار الحاصل من تلك الحركات
وَبعد ما رتبها كذلك قد خلق الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ اى بعد خلق السموات واعجب في خلقها بان دَحاها ومهدها اى بسطها لمن يسكن عليها ويستقر فيها وبعد ما بسطها كذلك
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها حيث فجر فيها عيونا واجرى أنهارا وَاظهر وأنبت ايضا عليها مَرْعاها تقويتا لمن عليها وما عليها
وَقد رتب الْجِبالَ الطوال الثقال ايضا عليها حتى أَرْساها أحكمها وأثبتها وانما مهدها وبسطها وأنبت عليها وفجر منها لتكون
مَتاعاً لَكُمْ اى ترفها وتمتعا لكم عليها وَكذا لِأَنْعامِكُمْ ومواشيكم ايضا فإنها من لواحق معايشكم ومتمماتها وبعد ما قد فضلكم سبحانه ورباكم عليها بأنواع الخيرات والبركات قابلتموها بالجحود والنسيان فتربصوا
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى اى فاذكروا الداهية العظمى التي هي عبارة عن قيام الساعة الموعودة واذكروا
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ فيه الْإِنْسانُ عموم ما سَعى واقترف في النشأة الاولى حيث يعطى لهم صحائف أعمالهم الماضية مفصلة فينظرون فيها ويتذكرون بها جميع ما صدر عنهم من الأعمال الصالحة والفاسدة فيجازون بمقتضاها
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ اى قد لاحت وظهرت الجحيم يومئذ لِمَنْ يَرى اى لكل من يتأتى منه الرؤية اى يظهر أمرها بحيث لا يخفى على احد. ثم قسم الناس حينئذ قسمين
فَأَمَّا مَنْ طَغى في النشأة الاولى
وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا اى اختار الحياة المستعارة الدنية الدنياوية ولوازمها من اللذات الوهمية والشهوات الفانية البهيمية على الحياة الاخروية وما يترتب عليها من اللذات اللدنية الباقية
فَإِنَّ الْجَحِيمَ المسعرة بنيران غضبهم وشهواتهم هِيَ الْمَأْوى لهم مقصور عليهم إذ لا مأوى سواها
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ اى خاف عن قيامه بين يدي الله ووقوفه في المحشر للحساب وعرض الأعمال عليه سبحانه والجزاء عليها وَمع كمال خوفه وخشيته نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى اى قد كف نفسه عن مقتضياتها التي ترديها وتغويها
فَإِنَّ الْجَنَّةَ الموعودة لهم على لسان الكتب والرسل هِيَ الْمَأْوى اى مأواهم مقصور على الجنة وهم فيها ابدا خالدون ولا يتحولون الا الى ما هو اولى منها وأعلى درجة ومقاما من درجاتها ومقاماتها. ثم قال سبحانه
يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ السَّاعَةِ ووقت قيامها الذي هو من جملة الغيوب التي لا نطلع أحدا عليها أَيَّانَ مُرْساها اى متى ارساؤها وإقامتها وأى آن إتيانها وقيامها عين لنا وقتها
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها اى أنت في أى شيء وشأن منها ان تذكر لهم وقتها او تعينها مع انا لا نطلعك على وقتها سوى انا قد أوحينا لك انيتها وثبوتها وتحقق قيامها فما لك الا تبليغ ما يوحى إليك بل
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها اى منتهى علمها وتعيين وقتها انما هو مفوض الى حضرة علم الله موكول الى لوح قضائه
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها اى ما أنت الا نذير لم تبعث الا لإنذار الخائفين الموفقين على الخوف من أهوالها وافزاعها لا من المقدرين المعينين لوقتها وكيف يسع لك هذا التعيين والتقدير إذ هو من(2/483)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها. ثم قال سبحانه تهويلا على المنكرين
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها ويعاينون قيامها يتيقنون حينئذ على سبيل الجزم انهم لَمْ يَلْبَثُوا ولم يمكثوا في دار الدنيا مدة حياتهم فيها إِلَّا عَشِيَّةً اى عشية يوم أَوْ ضُحاها اى ضحى تلك العشية يعنى يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا بالنسبة الى يوم الدين وطولها. نعوذ بك من النار ومما قرب إليها يا غفار
خاتمة سورة النازعات
عليك ايها المحمدي المحقق الواقف لقيام الساعة وما يترتب عليها من الثواب والعقاب والجنة والنار ان تبذر وتزرع في محرثك هذا ما ستحصده هناك من بذور الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية والأطوار المحمودة المحمدية وسائر السنن والآداب المقبولة المأثورة من النبي المختار ومن عترته الأخيار الاطهار ولا بدلك ان تكون دائما على ذكر كامل من قيامها وأهوالها في عموم أوقاتك وحالاتك وإياك إياك الاغترار بالحياة المستعارة والالتفات الى مزخرفات الدنيا الغدارة المكارة فإنها تمكر بك وتغويك وتضلك عن طريق الحق وترديك فعليك ان لا تتبع لغوائلها ولا تنخدع بمخائلها حتى لا تكون من زمرة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. جعلنا الله من زمرة الآمنين الفائزين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[سورة عبس]
فاتحة سورة عبس
لا يخفى على من تمكن بمقر عز الوحدة وتوطن في السواد الأعظم اللاهوتى ان علامة التمكين والتثبيت ان لا يبقى مع الموحد المحقق شيء من لوازم عالم الناسوت بحيث لا يتكبر على من دونه ولا يتحسر على من فوقه بل لم يبق في عين شهوده سدل الاثنينية ورمد الفوقية والتحتية مطلقا بل قد صار الكل في نظر شهوده على السواء بحيث ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت سيما ترجيح اصحاب الثروة والغفلة وذوى البطر والاستكبار والاستنكار على ارباب الارادة والاعتبار وان فقد منهم الحس الظاهر. ثم لما كان صلّى الله عليه وسلّم مشغوفا بإيمان رؤساء مكة شرفها الله تعالى وصناديدهم طالبا لدعوتهم وإرشادهم جلس يوما من الأيام معهم على سبيل الملاينة رجاء ان يوفقوا للايمان ويرغبوا الى قبول الدعوة وكان صلّى الله عليه وسلّم يصاحبهم ويداريهم حتى دخل عليه صلى الله عليه وسلّم ابن أم مكتوم الأعمى رضى الله عنه ولم يدر من هم عنده صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله علمني بما علمك الله ولم يلتفت صلى الله عليه وسلّم واشتغل مع اهل الثروة فناداه بما نادى مرة بعد اخرى حتى غضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقطب وجهه فعبس فجرى في نجواه ما جرى من لحوق العار بان يعيب عليه أولئك الصناديد الأشرار بان اتباعه ما هي الا العجزة والعميان والمساكين وكان عليه صلّى الله عليه وسلّم حتى أوحاه سبحانه معاتبا عليه مؤدبا له فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على قلوب أوليائه بمقتضى سعة رحمته الرَّحْمنِ عليهم بحفظ مرتبتهم الرَّحِيمِ عليهم يوقظهم من غفلتهم قد
[الآيات]
عَبَسَ وجهه من جهة الكراهة عن المسترشد الفقير الضرير وَتَوَلَّى اى اعرض عنه وانصرف وحول صفحة وجهه منه كارها إياه وذلك وقت
أَنْ جاءَهُ المسترشد الْأَعْمى اخرج الكلام سبحانه مع حبيبه(2/484)
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
صلى الله عليه وسلم على طريق الغيبة إظهارا لكمال الغيرة والحمية الإلهية عن هذه الغفلة الغير المرضية ثم التفت الى الخطاب لكمال التأديب فقال على سبيل التهويل
وَما يُدْرِيكَ وأى شيء يكشف لك حاله وقلبه لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يتزكى ويتطهر عن الآثام ويهتدى الى طريق الإسلام بهدايتك وارشادك هذا الأعمى بخلاف أولئك الجهلة الغفلة الذين قد تحننت نحوهم وأحببت دعوتهم فإنهم لا يهتدون ولا يتطهرون
أَوْ يَذَّكَّرُ اى يتعظ ويتذكر هذا المريد الفقير الضرير من كلامك فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى والعظة ويتوجه هو بسببها نحو المولى
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى عن الله واعرض عن آياته وعن تذكيرك ودعوتك إياه مستكبرا بماله وثروته وسيادته وكمال نخوته
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى يعنى تميل وتتعرض بالإقبال اليه وتتحنن بكمال المحبة نحوه
وَما عَلَيْكَ وأى شيء عرض عليك ولحق بك من المكاره الامكانية حتى حجبك وأغفلك أَلَّا يَزَّكَّى اى انه لا يتطهر عن خبائث الآثام وادناس الكفر والعصيان ذلك المعرض المستغنى والمسرف المفسد المستعلى وما سبب اهتمامك حتى يبعثك على الاعراض عن اهل الحق وعدم الالتفات نحوهم مع ان ما عليك الا البلاغ والتبليغ لا الهدى فكيف تحننت نحو اعداء الله
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ من ارباب الطلب والإخلاص يَسْعى ويسرع بطلب الخير والهداية منك في دين الله
وَالحال انه هُوَ يَخْشى من غضب الله وهو يرجو من ثوابه مؤملا منك الإرشاد ومن الله الهداية والرشد
فَأَنْتَ مع كونك مبعوثا على الهداية والإرشاد الى اصحاب الارادة والقبول عَنْهُ تَلَهَّى تتشاغل وتنصرف كأنك تحقره ولا تبالي بشأنه وإيمانه لرثاثة حاله وفقره. ثم بالغ سبحانه في تأديب حبيبه صلّى الله عليه وسلّم وأكده حيث قال
كَلَّا ردع اى ارتدع عن فعلتك هذه ايها المبعوث للرسالة العامة ولا تمل الى اصحاب الزيغ والضلال معرضا عن ارباب الهداية والكمال إذ ليس عليك التمييز والاختيار بل ما عليك الا التبليغ والإنذار إِنَّها اى عموم دعواتك وتذكيراتك إياهم بمقتضى الآيات البينات انما هي تَذْكِرَةٌ نازلة عليك من ربك وأنت مأمور بتبليغها الى الناس من لدنه
فَمَنْ شاءَ وأراد سبحانه اتعاظه من عباده ذَكَرَهُ بالقرآن ووعظه به سواء كان فقيرا او غنيا ومن لم يشأ لم يتعظ وكيف لا يوعظ ولم يتعظ به مع انه منزل من عند الله مثبت
فِي صُحُفٍ نازلة على رسل الله مُكَرَّمَةٍ عنده سبحانه
مَرْفُوعَةٍ مقبولة لديه درجة ومكانا ملقاة من عند الله الى رسل الله مُطَهَّرَةٍ عن تخليطات الوهم والخيال منزهة عن تحريفات الشياطين إذ هي نازلة من عند الله الى رسل الله
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ اى ملائكة يتوسلون سفراء بين الله ورسله
كِرامٍ أعزة عند الله ذوى كرم وكرامة عظيمة على اهل الايمان بَرَرَةٍ أتقياء مبرورين في أنفسهم بارين على عباد الله ومع هذه الكرامة العظيمة الإلهية والإشفاق البليغ من لدنه سبحانه والرحمة العامة
قُتِلَ الْإِنْسانُ اى لعن وطرد عن ساحة عز القبول ما أَكْفَرَهُ أى أىّ شيء حداه وبعثه الى الكفر والاعراض عن الله المنعم المفضل والانصراف عن طاعته وعبادته مع انه عالم بكمال كرامته سبحانه عليه معترف ببدائع صنعه وصنعته معه ووفور انعامه وإحسانه عليه متذكر في نفسه مستحضر بشئونه وتطوراته السالفة القذرة الخبيثة الواردة عليه سيما
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ مسترذل مستنزل خَلَقَهُ وأوجده سبحانه حسب قدرته
مِنْ نُطْفَةٍ مهينة خبيثة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ اى هيأ آلاته وأعضاءه منها فعدله وسوى هيكله كل ذلك ليعرف مبدأه ومعاده
ثُمَّ السَّبِيلَ الموضح الموصل الى ربه وموجده(2/485)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
الذي هو مبدؤه ومعاده يَسَّرَهُ وسهل عليه وأودع فيه العقل الفطري المنشعب من العقل الكل الذي هو عبارة عن حضرة العلم المحيط الإلهي
ثُمَّ أَماتَهُ عن نشأة الابتلاء والاختبار تخليصا وتقريبا الى ربه فَأَقْبَرَهُ في البرزخ
ثُمَّ إِذا شاءَ وتعلقت مشيئته للأحياء أَنْشَرَهُ من القبر وحشره الى المحشر فحاسبه فجازاه على مقتضى حسابه خيرا كان او شرا فضلا عنه او عدلا
كَلَّا ردع له وويل عليه ما هذا النسيان والكفران لهذه النعم العظام والكرامات الجسام لَمَّا يَقْضِ اى لم يقض ولم يجر من لدن وجوده وظهوره على ما أَمَرَهُ الحق به إذ قلما يخلو افراد الإنسان عن الكفر والكفران والإثم والعدوان الا ان بعضه متدارك متلاف قد جبر بالتوبة والايمان ما كسر بالكفر والكفران وبعضه مغمور في عصيانه ونسيانه وبغيه وطغيانه الى حيث لا يتنبه قط وبالجملة
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان إِلى طَعامِهِ المسوق له من لدنا تفضلا عليه وتكريما لتقويته وتقويم بنيته
أَنَّا من مقام عظيم جودنا كيف صَبَبْنَا الْماءَ وافضناه من جانب السماء صَبًّا ترويحا له وتهيئة لأسباب معاشه
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بعد ما صببنا الماء عليها شَقًّا بديعا
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا من انواع الحبوب التي يقتات بها نوع الإنسان
وَعِنَباً متضمنا لانواع الأدم والمشروبات وَقَضْباً هو نبات يقطع في السنة مرة بعد اخرى مثل النعناع والطرخون والكراث وغيرها مما يعين للأكل
وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا
وَبالجملة حَدائِقَ غُلْباً مملوة بأنواع الأشجار والثمار
وَفاكِهَةً اى ألوان الفواكه وأنواعها وأصنافها وَأَبًّا علفا لمواشيه ومراكبه التي بها يتم ترفهه وتنعمه وبالجملة قد اعطاكم واحسن إليكم سبحانه ما اعطى واحسن من النعم العظام والكرامات الجسام ليكون
مَتاعاً وتمتيعا لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ التي بها يتم ترفهكم وتنعمكم وانما أنعم عليكم سبحانه لتعرفوا المنعم وتواظبوا على شكر نعمه وأنتم ايها المسرفون المفرطون تكفرون للنعم والمنعم جميعا واذكروا
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ الصيحة المقرعة لصماخكم وأسماعكم فحينئذ شق عليكم الأمر وصعب الهول مع انه لا نصر يومئذ ولا مظاهرة ولا اغاثة حينئذ من احد ولا اعانة بل
يَوْمَ اى يومئذ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ شقيقه وشفيقه
وَمن أُمِّهِ التي يأوى إليها في الوقائع والملمات وَأَبِيهِ الذي يظاهر ويفتخر به
وَصاحِبَتِهِ التي هي أحب اليه من عشائره وَبَنِيهِ الذين هم أعز عليه من عموم أقاربه وسبب التفرة والفرار اشتغال كل منهم بحاله بلا التفات منه الى حال غيره إذ
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ يشغله عن شئون غيره ويزعجه عن الاهتمام به مع انه لا يكف ولا يكفيه احد منه وكيف لا يكون كذلك إذ
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ مضيئة مشرقة منورة بنور الايمان والعرفان
ضاحِكَةٌ فرحا وسرورا بلقاء الرحمن مُسْتَبْشِرَةٌ بعلو الدرجات والمقامات وبأنواع السعادات والكرامات
وَوُجُوهٌ أخر يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ غبار وكدورة ناشئة من إكدار الكفر والكفران واقذار الآثام والعصيان مظلمة الى حيث
تَرْهَقُها وتغشيها قَتَرَةٌ مذلة وصغار وذلة وخسار موجبة لانواع الهلاك والبوار وبالجملة
أُولئِكَ الأشقياء البعداء عن ساحة عز القبول المكدرون بكدورات الكفر والشرك وانواع الفسوق والفجور هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية وعن نور المعرفة والايمان بمتابعة القوى البهيمية من الشهوية والغضبية إذ كلتاهما مناط عموم الشرور والخسران. أعاذنا الله وعموم عباده من شرهما بمنه وجوده(2/486)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
خاتمة سورة عبس
عليك ايها المستنشط القاصد لتبشير الحق وتيسيره ان تسمع نداء البشرية والتوفيق من ألسنة عموم رسل الله وكتبه فلك ان تقتفى اثر هؤلاء الكرام وتمتثل بما في كتاب الله العليم العلام من الأوامر والنواهي ومطلق الاحكام والعبر والتذكيرات الموردة فيه المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن عن الميل والإلحاد الى الأمور المؤدية الى إفساد العقائد والعناد فلك الفرار عن اصحاب الزيغ والضلال والانصراف عن مخالطتهم ومصاحبتهم في كل حال حتى تكون أنت من زمرة اصحاب اليمين المتنعمين في جنات النعيم لا من الضالين المكذبين في دركات الجحيم المعذبين بالعذاب الأليم. نسأل منك يا ذا القوة المتين الفوز بدرجات النعيم والعوذ عن دركات الجحيم يا من فضله عظيم وكرمه عميم ولطفه جسيم
[سورة التكوير]
فاتحة سورة التكوير
لا يخفى على المنكشفين بسطوة سلطنة جلال الله وقهره الغالب ان قيام الساعة ووقوع الطامة الكبرى التي انقهرت دونها نقوش السوى مطلقا في جنب القدرة الكاملة الإلهية انما هي في غاية اليسر والسهولة والمنكر المستبعد لها وللأمور الموعودة فيها مكابر لمقتضى عقله سيما بعد ورود الوحى الإلهي وبالجملة ليس انكار المنكر سيما بعد وضوح الآيات وسطوع البينات الا من اعتياده بمزخرفات الوهم والخيال اللذين هما من أقوى اسباب الكفر والضلال ومن خلص عن رقّية تينك القوتين ونجا عن غوائلها وتغريراتهما فقد جزم بعموم ما اخبر الحق به في هذه السورة بلا تردد وارتياب على الوجه الذي نص عليه سبحانه وفصله بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم كمالاته في النشأتين الرَّحْمنِ في النشأة الاولى ببسط اظلاله على عموم الأشياء الرَّحِيمِ في النشأة الاخرى بقبضه الكل الى ما منه البداء
[الآيات]
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ يعنى إذا قامت القيامة ولاحت شمس الذات الاحدية عن مكمن العماء وغلبت نشأة اللاهوت على نشأة الناسوت قد كور الوجود الإضافي المنعكس من الوجود المطلق الإلهي المنبسط على صفائح مطلق العكوس والاظلال ولف وطوى بحيث لم يبق له اثر عن ظهور شمس الحقيقة الحقية
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ يعنى قد انقضت واضمحلت حينئذ نجوم الهويات وهياكل الماهيات الحاصلة من الأوضاع والنسب والإضافات العدمية الاعتبارية المحضة لم يبق لها رسم واثر عند ظهور الهوية الذاتية الإلهية الحقية
وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ يعنى قد سارت وانقلعت وطارت عن أماكنها جبال الأنواع والأجناس الواقعة في عالم التعينات
وَإِذَا الْعِشارُ يعنى السحب الماطرة لمياه المعارف والحقائق الفائضة على أراضي الاستعدادات القابلة لها اللائقة لفيضانها قد عُطِّلَتْ وتركت لاضمحلال محالها وتلاشى قوابلها بانقضاء نشأة الاختبار
وَإِذَا الْوُحُوشُ اى النفوس المستوحشة الآبية الوحشية التائهة في بوادي الطبيعة وقفر الهيولى حُشِرَتْ وجمعت الى ما فيه انتشت وبدت
وَإِذَا الْبِحارُ اى البحار الحاصلة من اعتبارات الوجود وشئونه الكلية ظاهرا وباطنا غيبا وشهادة دنيا وعقبى قد سُجِّرَتْ جمعت وملئت واتحدت فصار بحر الوجود بحرا واحدا زخارا قهارا لا ساحل له أصلا ولا قعر له حقيقة
وَإِذَا النُّفُوسُ يعنى الأرواح(2/487)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
الفائضة على هياكل الأشباح من عالم الأمر زُوِّجَتْ وقرنت يومئذ ببواعثها وموجباتها التي هي الأسماء والصفات الإلهية واسبابها اللاهوتية
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ اى أبكار المعاني والمعارف الإلهية المودعة المدفونة في أراضي الطبائع والأركان مع اتصافها بالحياة الازلية الابدية سئلت من سكان تلك البقاع عن احوال تلك المخدرات الحسان
بِأَيِّ ذَنْبٍ وجريمة قُتِلَتْ تركت ودفنت في أراضي الطبائع والأركان مع انها انما حييت وجبلت لكسب انواع الخيرات واقتراف اصناف السعادات والكرامات
وَإِذَا الصُّحُفُ اى صحائف تفاصيل الأعمال المشتملة على عموم الأماني والآمال المطوى فيها جميع الأحوال الصادرة من اصحاب الغفلة والضلال نُشِرَتْ قد فرقت وكشفت بين أصحابها
وَإِذَا السَّماءُ اى سماء الأسماء والصفات الإلهية المتجلية على شئون الظهور والنزول كُشِطَتْ طويت وأزيلت عن هذه الشئون الى شئون البطون والخفاء
وَإِذَا الْجَحِيمُ المعدة لأصحاب الغفلة والضلال التائهين في بوادي الجهالات بمتابعة اهويتهم وآرائهم الفاسدة العاطلة سُعِّرَتْ أوقدت وأحميت بنيران غضبهم وشهواتهم التي هم كانوا عليها في نشأة الاختبار
وَإِذَا الْجَنَّةُ المعدة لأرباب العناية والوصال المتصفين بالتقوى عن مطلق المحارم وبالامتثال بمقتضيات الأوامر والنواهي وعموم الاحكام الموردة في الكتب الإلهية المتعلقة بإرشادهم وتكميلهم أُزْلِفَتْ قربت وقرنت بهم بحيث قد فازوا بعموم ما وعدوا من قبل الحق
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ يعنى قد علمت كل نفس من النفوس المودعة في هياكل الهويات لحكمة المعرفة والتوحيد أى شيء أحضرت عند الحساب عليها من الأمور المأمور بها حتى تجازى بها على مقتضاها وبعد ما عد سبحانه احوال القيامة وأهوالها أشار الى ما يدل على التأكيد والمبالغة في وقوعها
فَلا أُقْسِمُ اى لا حاجة الى القسم لإثبات هذه المذكورات إذ هي في غاية السهولة والظهور سيما عند القدرة الغالبة الإلهية بل اقسم بِالْخُنَّسِ اى بالنفوس الزكية عن لوث لوازم الناسوت الراجعة المقبلة نحو عالم اللاهوت وفناء حضرة الرحموت قبل قيام الساعة لصفاء مشربها ونظافة طينتها
الْجَوارِ الْكُنَّسِ اى النفوس القدسية الفائضة من المبدأ الفياض على الشطار الطائرين الى الله الطائفين حول بابه المختفين تحت قباب عزه وشمس ذاته بحيث لا يعرفهم احد سواه سبحانه
وَبحق اللَّيْلِ عالم العماء الإلهي والفضاء الصمداني المتعالي عن ادراك الشعور مطلقا إِذا عَسْعَسَ واقبل ظلامه واشتد بحيث قد اختفى واضمحل وبطن وغاب وشهد
وَبحق الصُّبْحِ اى عالم الجلاء والانجلاء المنعكس من تلك العماء اللاهوتى إِذا تَنَفَّسَ اى أضاء وأشرق على اهل الفناء الفانين عن الفناء المتعطشين لزلال البقاء الباقين تحت قباء العز الاحدى الصمدى
إِنَّهُ يعنى اقسم سبحانه بهذه المقسمات العظيمة ان القرآن الفارق بين الحق والباطل والهداية والضلال والسعادة والشقاوة لَقَوْلُ رَسُولٍ مرسل من قبل الله كَرِيمٍ متصف بأنواع الكرامة والامانة يعنى العقل المفاض المسمى بجبريل الأمين
ذِي قُوَّةٍ غالبة على تحمل الوحى الإلهي عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ العظيم المحيط بعروش عموم المظاهر مَكِينٍ ذي مرتبة سنية ومكانة عظيمة
مُطاعٍ ثَمَّ اى في عالم الأسماء والصفات إذ عموم المدارك والقوى تابعة مطيعة للعقل الكل الذي هو عبارة عن حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح قضائه المحفوظ أَمِينٍ حفيظ على الوحى الإلهي بحيث لا يشذ عنه شيء من أوامره ونواهيه المأمور بها له
وَايضا اقسم سبحانه بتلك المقسمات العظام على انه ما صاحِبُكُمْ اى ليس نبيكم(2/488)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
الذي نزل عليه هذا الأمين بهذا الكتاب المبين يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم بِمَجْنُونٍ مختل القوى والآلات كما زعمتم إذا زعمكم هذا بالنسبة اليه صلّى الله عليه وسلّم انما هو من غاية انحطاطكم عن رتبته وجهلكم بمكانته والا فهو صلّى الله عليه وسلّم في أعلى طبقات الإدراك
وَكيف لا يكون صلّى الله عليه وسلّم في أعلى طبقات الإدراك والمعرفة لَقَدْ رَآهُ يعنى قد علم وعرف صلّى الله عليه وسلّم جبرائيل الذي هو العقل الكل بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ الذي هو حضرة العلم الإلهي ولوح قضائه
وَما هُوَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْغَيْبِ الذي اطلعه الحق عليه من الحقائق والرموز والإشارات المتعلقة بتصفية الظاهر والباطن وتخلية السر والضمير عن الالتفات الى الغير مطلقا بِضَنِينٍ شحيح بخيل سيما بعد ما امره سبحانه بنشرها وتبليغها او ما هو صلّى الله عليه وسلّم على المغيبات التي نطق بها بمقتضى الوحى الإلهي والهامه بضنين متهم يتهمه احد وينسبه على الافتراء المستبعد عن علو شأنه وعن رفعة قدره ومكانه صلّى الله عليه وسلّم بمراحل
وَكذا ما هُوَ يعنى القرآن الذي هو صلّى الله عليه وسلّم تكلم به ونزل هو عليه صلّى الله عليه وسلم بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ اى ما هو شعر وكهانة ناشئة من شياطين الوهم والخيال كما زعمه اهل الزيغ والضلال المتردين في اودية الجهل والغفلة وهاوية العناد والجدال وبعد ما قد لاح عظم شأن القرآن ورفعة قدره وعلو مكانته
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ تعدلون وتنصرفون عن جادة العدالة الإلهية المذكورة المبينة في هذا الكتاب المبين ايها الضالون المضلون
إِنْ هُوَ اى ما هذا القرآن العظيم إِلَّا ذِكْرٌ عظيم وعظة كبيرة لِلْعالَمِينَ اى بعموم من جبل على فطرة التذكير وقابلية الإرشاد والتكميل
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ اى عظة وتذكير لمن قصد الاستقامة على صراط العدالة الإلهية وتذكر به واتعظ بإرشاده وهدايته
وَغاية ما في الباب انه ما تَشاؤُنَ وتختارون طريق الهداية والرشاد لأنفسكم إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لكم هدايتكم ويوفقكم على الاستقامة والرشاد عناية منه وفضلا إذ عموم أفعالكم وأحوالكم وأقوالكم انما هي مستندة الى الله صادرة منه سبحانه اصالة إذ هو سبحانه رَبُّ الْعالَمِينَ لا مربى في الوجود سواه ولا مدبر للعالم في الشهود الا هو ومقتضى تربيته وتكميله ارشاد عباده وتوفيقه الى ما هو أصلح لهم وأليق بحالهم. وفقنا بفضلك وجودك لما تحب وترضى عنا يا مولانا
خاتمة سورة التكوير
عليك ايها الطالب لتوفيق الحق وتربيته على الوجه الأصلح الأليق ان تفوض عموم أمورك وأعمالك واحوالك كلها الى مشيته وتسلمها اليه سبحانه طوعا ورغبة بلا توهم تخيير واختيار منك وارادة جزئية او كلية إذ ليس لك من الأمر شيء بل الأمور الجارية كلها لله وبمقتضى تقديره وقضائه وليس لك الا التسليم والرضاء بجميع ما جرى عليك من القضاء وإياك إياك الاغترار بالحياة الدنيا الغدارة وما فيها من المزخرفات الخداعة المكارة فإنها دار العبور والاعتبار لا منزل الاقامة والقرار واللائق بحال الفطن الزكي ان لا يتمكن فيها الا على وجه الضرورة والاضطرار لا على سبيل الرضاء والاختيار. جعلنا الله ممن تنبه لبطلان الدنيا الدنية وعموم ما فيها وتحقق عنده عدم ثباتها وقرارها بمنه وجوده(2/489)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
[سورة الانفطار]
فاتحة سورة الانفطار
لا يخفى على من لاح عليه آثار القدرة الغالبة الإلهية وانكشف دونه غناه سبحانه في ذاته عن عموم مظاهره ومصنوعاته ان جميع ما ظهر وبطن غيبا وشهادة انما هو محكوم حكمه المحكم وقضائه المبرم له سبحانه ان يتصرف فيها ويقلبها كيف يشاء ارادة واختيارا لكنها مرهونة بأوقات ومسبوقة بأمارات مقدرة من عنده سبحانه ومن تلك العلامات ما ذكره سبحانه في هذه السورة بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على ما ظهر وبطن حسب قدرته الكاملة الغالبة الرَّحْمنِ على عموم مظاهره بإعطاء الوجودات الاضافية الرَّحِيمِ عليها بنزعها عنها عند ظهور الوحدة الذاتية على صرافتها
[الآيات]
إِذَا السَّماءُ المعبر بها عن العلويات المتأثرات عن الأسماء والصفات الإلهية انْفَطَرَتْ انشقت وانخرقت ولم يبق قابليتها للتأثر والاستمداد من الأسماء والصفات الإلهية
وَإِذَا الْكَواكِبُ التي قد تعينت عليها بالهويات وتكثرت بالهياكل والماهيات انْتَثَرَتْ تفرقت أوضاعها وتلاشت أشكالها وهيآتها واضمحلت اجزاؤها
وَإِذَا الْبِحارُ الكلية المستحدثة من الأمواج المتراكمة المترادفة على بحر الوجود الوحدانى واتصف كل واحد منها بالصفات المتنوعة مثل اللاهوت والناسوت والغيب والشهادة والاولى والاخرى الى غير ذلك من العوالم التي لا تعد ولا تحصى فُجِّرَتْ انفجرت وانفتح بعضها الى بعض وارتفعت صور الأمواج واتصل الكل فصار بحرا واحدا وحدانيا فردانيا على ما قد كان عليه أزلا وابدا
وَإِذَا الْقُبُورُ والأجداث اى الهويات والتعينات المندرسة المنعكسة التي لم يبق في أجوافها شيء من امارات عالم الناسوت بل عادت على ما عليه كانت من العدم بُعْثِرَتْ بحثرت وقلبت وخرج عن مطاويها ما فيها من حصة عالم اللاهوت
عَلِمَتْ يومئذ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ واقترفت في نشأة الاختبار والاعتبار من صوالح الأعمال ومقابح الأخلاق والأطوار وَما أَخَّرَتْ أهملت وتركت فيها ما من صوالح الأعمال ومحاسن الأخلاق والأطوار. ثم نادى سبحانه للمظهر الإنساني المصور بصورة الرحمن نداء معاتبة وتخجيل على ما عرض عليه من الغفلة والنسيان مع انه قد جبل على فطرة التوحيد والعرفان فقال
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ المنعم عليه بأنواع الإحسان ما غَرَّكَ اى أى شيء خدعك ومكر بك حتى جرأك على الكفر والعصيان بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ
الَّذِي خَلَقَكَ اى أوجدك وأظهرك وصورك في احسن تقويم فَسَوَّاكَ اى سوى اعضاءك وجوارحك سليمة عن مطلق العيوب فَعَدَلَكَ اى جعلك معتدل المزاج متناسبة الأعضاء مطبوع الهيكل مقبول الشكل وبالجملة
فِي أَيِّ صُورَةٍ حسنة وشكل مطبوع مرغوب ما شاءَ وأراد بك يعنى في أى صورة بديعة عجيبة ممتازة عن صور عموم الحيوانات تعلقت بها مشيته وارادته سبحانه رَكَّبَكَ عليها اى انتخب صورتك من صور جميع المظاهر فركبك عليها وأظهرك فيها لتكون أنت مؤمنا موقنا بوحدة ذاته عارفا موحدا مع انك عصيت وأشركت معه غيره وخرجت عن ربقة عبوديتك مكابرة وعنادا. قيل لفضيل بن عياض قدس سره لو أقامك الله تعالى بين يديه يوم القيامة فقال يا فضيل ما غرك بربك الكريم ماذا كنت تقول قال أقول غرني ستورك المرخاة وقال يحيى بن معاذ قدس سره لو أقامني بين يديه فقال يا يحيى ما غرك بي قلت غرني برك بي سالفا وآنفا يا ربي وقال ابو بكر الوراق قدس سره لو قال لي ما غرك بربك الكريم لقلت كرم ربي الكريم(2/490)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وانا الفقير الحقير خادم الفقراء وتراب اقدامهم أقول لو قال لي ربي ما غرّك بربك لقلت كفالتك بي واحاطتك على وكونك سمعي وبصرى وعموم قواي ومشاعري يا ربي. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا للإنسان عن الغفلة والاغترار بإيراد الاعذار الكاذبة بَلْ تُكَذِّبُونَ ايها المغترون المسرفون بِالدِّينِ وبترتب الجزاء على أعمالكم وأخلاقكم من حسناتكم وسيئاتكم لذلك غرتكم الحياة المستعارة الدنياوية ففعلتم ما فعلتم من المفاسد والمقابح بشدة الإنكار والإصرار بلا مبالاة وخشية من القدير العليم
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ من قبل الحق لَحافِظِينَ رقباء
كِراماً أمناء لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها لكونهم كاتِبِينَ مثبتين في صحف أعمالكم
يَعْلَمُونَ منكم جميع ما تَفْعَلُونَ فيقررون عليكم وقت حسابكم ثم تجازون على مقتضاها
إِنَّ الْأَبْرارَ البارين المبرورين لَفِي نَعِيمٍ مقيم ومسرة دائمة وفوز عظيم
وَإِنَّ الْفُجَّارَ المسرفين المفترين لَفِي جَحِيمٍ معذبين بعذاب أليم
يَصْلَوْنَها ويدخلون فيها يَوْمَ الدِّينِ والجزاء بعد ما حوسبوا
وَبالجملة ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ متحولين مفارقين ابدا بل صاروا فيها خالدين مخلدين. ثم أبهم سبحانه ذلك اليوم على السامعين تعظيما له وتفخيما على سبيل التهويل فقال
وَما أَدْراكَ وأعلمك ايها المغرور ما يَوْمُ الدِّينِ وما شأنه الفظيع وما شدة هوله وفزعه
ثُمَّ ما أَدْراكَ ايها المغرور الممكور ما يَوْمُ الدِّينِ وما يجرى عليك فيها من الشدائد والأهوال وانواع الهموم والأحزان وبالجملة
يَوْمَ وأى يوم يوم لا تَمْلِكُ تنفع وتدفع نَفْسٌ لِنَفْسٍ حميم لحميم وصديق لصديق شَيْئاً مما حكم عليها واستحق لها من الجزاء بل كل نفس رهينة بما كسبت مشغولة بما اقترفت بلا التفات منها الى غيرها من شدة هولها وحزنها وَبالجملة الْأَمْرُ اى عموم امور العباد وما جرى عليهم من الثواب والعقاب كله يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ مختصة به موكولة بمشيته مفوضة الى ارادته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فضلا وعدلا لا يسأل عن فعله انه حكيم حميد. اصنع بنا ما أنت به اهل يا مولانا
خاتمة سورة الانفطار
عليك ايها المترقب لفضل الحق ولطفه في يوم الجزاء ان تفوض أمورك كلها الى الله في نشأتك هذه وتقوم بين يدي الله في كل الأحوال وتتجرد عن مقتضيات ناسوتك في عموم الشئون والأطوار الطارية عليك على تعاقب الأدوار في مدة حياتك المستعارة وإياك إياك الاغترار بخداع هذه الغدارة المكارة فاعتبر من اهل هذا الدار ان كنت من ذوى العبرة والاستبصار فاعبر عنها فإنها ما هي دار القرار بل منزلة الخبرة والاعتبار فاعتبروا يا اولى الأبصار
[سورة المطففين]
فاتحة سورة التطفيف
لا يخفى على من تمكن في جادة العدالة الإلهية ورسخ قدم عزمه وهمته على صراط الاستقامة الحقيقية الموصلة الى ينبوع بحر الوحدة الذاتية ان الانحراف والميل عن مقتضى القسط والإنصاف الإلهي انما هو من طغيان القوى البهيمية ومن استيلاء شياطين الامارة على جنود المطمئنة وغلبة مقتضيات لوازم الإمكان ولواحق الطبيعة المورثة لانواع الخذلان والخسران على القوى الوجوبية والنواميس الإلهية المسقطة للاضافات المانعة من الوصول الى ينبوع الوحدة الذاتية ولا شك(2/491)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
ان طريان هذه الخصال المذمومة انما نشأ من متابعة الهوى والركون الى مزخرفات الدنيا ومن جملتها البخس والتطفيف في المكاييل والموازين الموضوعة لحفظ الاعتدال ومراعات الاتصاف والانتصاف بين المسلمين من عدل عنها مفرطا فقد استحق الويل الأبدي والهلاك السرمدي كما قال سبحانه متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المستوي على صراط العدالة والتقويم الرَّحْمنِ لعموم عباده بوضع القسطاس القويم الرَّحِيمِ لخواصهم يهديهم الى صراط مستقيم
[الآيات]
وَيْلٌ عظيم وعذاب اليم لِلْمُطَفِّفِينَ
الَّذِينَ ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس سماهم سبحانه مطففين لأنهم يسرقون من الحقوق طفيفا اى قليلا حقيرا على وجه الدنائة والخساسة وهو من اخس الأفعال الذميمة وأدناها واخبثها. وفي الحديث صلوات الله وسلامه على قائله خمس بخمس ما نقض العهد قوم الا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما انزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل الا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة الا حبس عنهم القطر والمطففون هم الذين إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ اى أخذوا منهم لأنفسهم يَسْتَوْفُونَ الكيل ويزيدون على المكيال قليلا قليلا ترجيحا لأنفسهم عليهم
وَإِذا كالُوهُمْ اى للناس أَوْ وَزَنُوهُمْ لأجلهم يُخْسِرُونَ ينقصون منه قليلا قليلا ترجيحا لغبطتهم عليهم مع ان وضع الكيل والوزن انما هو للتسوية والتعديل. ثم قال سبحانه على سبيل التعجب والتشنيع
أَلا يَظُنُّ ولا يزعم ولا يشك أُولئِكَ المسرفون المفرطون بارتكاب هذه الخصلة الذميمة مع ان المناسب لهم ان يجزموا ويستيقنوا أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لعظم ما فيه من الشدائد والأهوال وانواع الافزاع والأحزان سيما على اهل العصيان والفساد إذ هم يومئذ يفتضحون على رؤس الاشهاد
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ بأجمعهم لأجل العرض لِرَبِّ الْعالَمِينَ ليحكم عليهم سبحانه بمقتضى السؤال والحساب اما بالجنة او بالنار. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا للمطففين بفجورهم وخروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة فيما بينهم بالقسط والعدالة يعنى كيف يخرجون عن مقتضاها إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ اى ما ثبت فيه من تفاصيل أعمالهم وأفعالهم وأخلاقهم وأطوارهم المذمومة كلها مضبوطة فيه محكوم عليهم من قبل الحق حينئذ بمقتضى ما ثبت في كتبهم وصحائف أعمالهم انهم لَفِي سِجِّينٍ اى مقرهم في الدرك الأسفل من النار ثم أبهمه سبحانه تهويلا وتفخيما فقال
وَما أَدْراكَ ايها المسرف المفرط ما سِجِّينٌ ما لم تقع فيه ولم تذق من عذابه ونكاله وبالجملة كتاب الفجار
كِتابٌ وأى كتاب كتاب مَرْقُومٌ محرر مسطور بين الرقوم والرسوم يعرفه من نظر اليه ان لا خير فيه ولا نفع في ضمنه بل انما هو في بادى الرأى مشعر بأنواع العذاب والعقاب وبالجملة
وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ اى يوم اعطى ذلك الكتاب لِلْمُكَذِّبِينَ له في النشأة الاولى وبواسطة تكذيبهم وانكارهم به يرتكبون من الجرائم والمعاصي ما لا يعد ولا يحصى وبالجملة هؤلاء المسرفون المفرطون
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ والجزاء وبجميع الأمور الاخروية من السؤال والحساب وإعطاء الكتب وسائر المعتقدات الاخروية
وَبالجملة ما يُكَذِّبُ بِهِ سيما بعد نزول الآيات القاطعة والبراهين الساطعة الدالة على وقوع يوم القيامة والطامة الكبرى الموعودة من قبل الحق بالحق على اهل الحق إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ متجاوز عن الحد في الإفراط والغلو منكر لكمال قدرة الله واحاطة علمه حتى أنكر القدرة على الإعادة مع ان الإبداء الابداعى(2/492)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
مقدور قدرته الغالبة ايضا أَثِيمٍ متبالغ في الغفلة بارتكاب الشهوات المعمية لعيون بصائره عن ادراك آثار القدرة الغالبة الإلهية الفائتة للحصر والإحصاء مع ان كل واحدة من تلك الآثار دليل مستقل على إمكان الإعادة عند المتأمل المنصف الا ان المنكر مكابر لمقتضى عقله وما اجرأه واغريه على الإنكار والإصرار الا شياطين الأوهام والخيالات الموروثة له من ألف الطبيعة ورسوخ العادات المبنية على التقليدات الراسخة المتقررة في قلوب اصحاب الغفلة والضلال لذلك
إِذا تُتْلى وتقرأ عَلَيْهِ آياتُنا الدالة على كمال قدرتنا واختيارنا واستقلالنا في عموم المرادات والتصرفات الواقعة في ملكنا وملكوتنا قالَ من فرط جهله ونهاية غفلته واعراضه عن الحق واهله ما هي الا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أكاذيبهم المسطورة في دواوينهم المختلقة المختلفة. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا من هذا الافتراء والمراء على سبيل الإنكار والاستهزاء يعنى ما هذه الآيات البينات من المفتريات الباطلة كما زعمها أولئك البغاة الطغاة الهالكون في تيه البغي والطغيان وبيداء الغي والعدوان بَلْ رانَ يعنى بل قد ظهر وحدث في نفوسهم رين الغفلة وصدأ الجهل والضلال وازداد وغلب حتى علا واحاطه عَلى قُلُوبِهِمْ فكثفها وكدرها الى حيث اظلمها وسوّدها ولم يبق فيها لمعة من بياض نور الايمان وما ذلك الا بسبب ما كانُوا يَكْسِبُونَ من المعاصي والشهوات المذهبة لجودة الفطرة الاصلية والفطنة الجبلية التي فطروا عليها في اصل الخلقة. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا لهم عن ارتكاب اقتراف الرين المصدئ بقلوبهم كيف يكسبونه مع انهم قد جبلوا على فطرة الايمان والتوحيد إِنَّهُمْ أولئك المفسدين المسرفين عَنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم لمصلحة المعرفة والايمان يَوْمَئِذٍ اى يوم اقتراف المعاصي الرائنة لَمَحْجُوبُونَ عن الله وعن ظهور نوره اللامع في صفائح الأنفس والآفاق مع انه لا سترة له سبحانه ولا حجاب في حال من الأحوال الا ان خفافيش بقعة الإمكان لا يرون شمس ذاته اللامعة بواسطة غيوم هوياتهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة
ثُمَّ إِنَّهُمْ بعد ما حجبوا من الله وحرموا عن مطالعة وجهه الكريم لَصالُوا الْجَحِيمِ اى داخلوها وخالدون فيها ابدا
ثُمَّ يُقالُ لهم تعييرا عليهم وتشديدا لعذابهم من قبل الحق حينئذ هذَا العذاب هو العذاب الَّذِي قد كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في سالف الزمان مصرين على تكذيبه وإنكاره بل مستهزئين به متهكمين. ثم كرر سبحانه لفظة
كَلَّا ردعا لهم بعد ردع تقريعا وتأكيدا وليكون توطئة وتمهيدا لتعقيب وعيدهم بوعد المؤمنين مع ان في هذا التعقيب زيادة زجر وتقريع عليهم لما اقترفوا من الآثام والعصيان المؤدية لهم الى دار الندامة والحرمان فقال إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ اى ما كتب فيه عموم آثارهم الصالحة الصادرة عنهم ايمانا واحتسابا ثقة بالله وخوفا من غضبه محفوظ فيه جميع ما ذكر محكوم عليهم بمقتضى ما فيه انهم لَفِي عِلِّيِّينَ اى هم متمكنون في أعلى درجات الجنان وارفع غرفها ثم أبهمه سبحانه تعظيما وتفخيما فقال
وَما أَدْراكَ ايها البار المبرور ما عِلِّيُّونَ وما شأنه الرفيع ومكانة البديع وما فيه من اللذات الروحانية التي من لم يذقها لم يعرفها. رزقنا الله الوصول إليها والحصول دونها وبالجملة
كِتابٌ للأبرار كتاب مَرْقُومٌ بين الرقوم والرسوم بحيث
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ اى ارباب العناية والتوفيق فيعلمون من عنوانه ان ما فيه خير كله بمجرد رؤيتهم وشهودهم في بادى النظر وبالجملة
إِنَّ الْأَبْرارَ البارين على الله المبرورين بين الناس لَفِي(2/493)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
نَعِيمٍ
مقيم متكئين
عَلَى الْأَرائِكِ المصورة من صالحات أعمالهم وصفاء عقائدهم وأخلاقهم يَنْظُرُونَ الى ما يسرهم ويفرحهم من الصور الحسنة والمتنزهات البهية البديعة بحيث
تَعْرِفُ أنت ايها الرائي فِي وُجُوهِهِمْ في بادى الرأى نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعم وبريق الرضاء والتسليم ومع ذلك
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ خمر من خمور المحبة والولاء مَخْتُومٍ مطبوع عليه حفظا له عن غيرهم بحيث لا يشمون روائحه أصلا
خِتامُهُ مِسْكٌ اى روائحه الواصلة إليهم منه قبل كشفهم عنه كالمسك بلا كراهة وبشاعة كخمور الدنيا وَفِي ذلِكَ اى في رحيق التحقيق وكأس المحبة والتصديق فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ اى فليرغب الرغبون لنفاسته وسرعة سوغانه وانحداره وكمال لذته وذوقه
وَمِزاجُهُ اى ما يمزج به ويخلط من ماء المعارف منتشأ مِنْ تَسْنِيمٍ اى من مقام عال هو ينبوع بحر الوجود الذي هو عين الوحدة الذاتية الإلهية فكان
عَيْناً وأى عين عينا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ اى يشرب عنه بمائها وفراتها من تقرب نحو الحق باليقين الحقي فإنهم يشربون من عين الوحدة بلا مزج وخلط. أذقنا حلاوة نعيمك وبرد يقينك وشربة تسنيمك يا خير الرازقين
إِنَّ المشركين المسرفين الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالجرائم العظام الموجبة لانواع الانتقام من جملتها انهم قد كانُوا مِنَ المخلصين الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ويستهزؤن بفقراء المؤمنين
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ
متهكمين يَتَغامَزُونَ
اى يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم كبرا عليهم وخيلاء
وَإِذَا انْقَلَبُوا ورجعوا إِلى أَهْلِهِمُ وأماكنهم دخلوا مع إخوانهم انْقَلَبُوا وصاروا فَكِهِينَ متلذذين متهكمين بما رأوا من شيم المؤمنين من صلواتهم وخشوعهم فيها وضراعتهم واستكانتهم وتواضعهم مع إخوانهم
وَهم من شدة شكيمتهم وغيظهم إِذا رَأَوْهُمْ اى المؤمنين قالُوا مستهزئين إِنَّ هؤُلاءِ السفلة المستحسنين أفعالهم لَضالُّونَ منحرفون عن مقتضى الرشد والهداية بمتابعة هذا المجنون يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم
وَهم يقولون هكذا من كمال ضلالهم في أنفسهم بل من شدة حسدهم عليهم مع انهم ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ اى على المؤمنين حافِظِينَ يحفظون عليهم أعمالهم ويشهدون بهدايتهم او ضلالهم بل الأمر بالعكس
فَالْيَوْمَ اى اليوم الموعود المعهود الذي هو يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا بالله وصدقوا بالآخرة وبجميع الأمور الموعودة فيها مِنَ الْكُفَّارِ المصرين على العناد والإنكار يَضْحَكُونَ اى يضحك المؤمنون يومئذ من حال الكافرين على عكس ما كانوا عليه في النشأة الاولى إذ يرونهم أذلاء صاغرين مغلولين معذبين في نار القطيعة بأنواع الحسرة وهم اى المؤمنون حينئذ متكؤن
عَلَى الْأَرائِكِ المعدة لهم جزاء ما يتكلون على الله ويتكؤن الى فضله وإحسانه مواظبين على أداء المأمورات وترك المنكرات صابرين على متاعب الطاعات ومشاق التكاليف القالعة لعرق مطلق المستلذات الجسمانية والمشتهيات النفسانية يَنْظُرُونَ حينئذ بنور الايمان وصفاء اليقين والعرفان الى وخامة عاقبة اصحاب الكفر والكفران ويشكرون لنعمة الايمان والإحسان
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ وأثيبوا بما عملوا ثوابا والحال انهم قد جوزوا يومئذ بأسوء الجزاء بسبب ما كانُوا يَفْعَلُونَ من الاستهانة والاستهزاء بالمؤمنين ومن ضحكهم بأعمالهم وتغامزهم فيما بينهم بعيونهم تهكما عليهم. جعلنا الله من زمرة من بصرهم سبحانه بعيوب أنفسهم وأعماهم من عيوب غيرهم بمنه وجوده(2/494)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
خاتمة سورة التطفيف
عليك ايها المحمدي المراقب على تربية النفس المداوم على تهذيب الأخلاق ان تصفى نفسك عن مطلق الرذائل المنافية لصفاء مشرب التوحيد وتخلصها عن عموم القيود الامكانية المتولدة عن طغيان الطبيعة وتحليها بمحاسن الأخلاق والأطوار المناسبة للفطرة الاصلية التي جبلت عليها في مبدأ خلقتك فلك الاتكال على الله والانعزال عن اصحاب الغفلة والضلال وإياك إياك ان تخالطهم وتجالس معهم فان صحبة الأشرار تميت قلوب الأبرار الأحرار وتؤثر في السر وتذهب جودة الفطنة وتكدر صفاء مشرب الوحدة وتزيد الوحشة وتورث النسيان المستلزم لانواع الخسران والحرمان. جعلنا الله ممن اذاقه سبحانه حلاوة خلوته وأنسه مع وحدته واوحشه عن الخلق وكثرته بمنه وجوده
[سورة الانشقاق]
فاتحة سورة الانشقاق
لا يخفى على من سلك عن مضيق الناسوت نحو فضاء اللاهوت وتوجه الى كعبة الوحدة مهاجرا عن عالم الكثرة ان العود والرجوع انما هو على مقتضى البدء والظهور وان الترقي والارتفاع انما هو على طبق التدنى والانحطاط فكلما نزلت نفس الإنسان وهبط روحه في النشأة الاولى من سماء الأسماء المعبر بعالم اللاهوت المقدس عن شوائب النقص وسمات الحدوث مطلقا الى عالم الطبيعة والهيولى المكدرة بأنواع الكدورات كذلك صعدت نحوها منها بعد ما وفقه الحق وأدركته العناية من جانبه وللصعود والعروج علامات واوقات قدرها الله العليم الحكيم في سابق علمه ولوح قضائه ولم يطلع أحدا على وقتها بل قد اخبر سبحانه في هذه السورة عن بعض علاماتها واماراتها فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم التعينات في بدأ الوجود بمقتضى الجود الرَّحْمنِ عليها بامدادها وابقائها الى اليوم الموعود الرَّحِيمِ على خواص عباده يوصلهم الى مرتبة الكشف والشهود
[الآيات]
إِذَا السَّماءُ اى سماء عالم الطبيعة انْشَقَّتْ وانحرقت لتصعد وتعرج الأرواح الفائضة الى الأشباح نحو سماء الأسماء والصفات بعد خرق التعينات ورفع الإضافات
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها اى اصغت وانقادت لحكم ربها وامره الذي قد مضى منه سبحانه على انشقاقها وَبعد ما أمرت حُقَّتْ لها ولاقت بحالها اى امتثلت بالمأمور وانقادت
وَإِذَا الْأَرْضُ اى ارض الطبيعة والهيولى القابلة المجبولة لقبول انعكاس تأثيرات الأسماء والصفات مُدَّتْ قد امتدت وانبسطت وانتشرت مطاويها
وَأَلْقَتْ أخرجت وأظهرت ما فِيها من النفوس المودعة القابلة لفيضان أنوار الذات وَتَخَلَّتْ عن حفظ الامانة الإلهية
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها في الإلقاء والتخلية وَقد حُقَّتْ لها الاستيذان والإصغاء لاقتضاء مرتبة العبودية ذلك فحينئذ قد انكشف لها جزاء ما كسبت واقترفت في نشأة الاختبار. ثم نادى سبحانه الإنسان نداء تنبيه وتخطئة وتحريك حمية فطرية وسلسلة جبلية فقال
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ المصور على صورة الرحمن المنتخب من بين سائر المظاهر لحكمة الخلافة والنيابة ومصلحة المعرفة والتوحيد فاعرف قدرك ولا تغفل عن حقيقتك إِنَّكَ كادِحٌ جاهد للتقرب والوصول إِلى رَبِّكَ كَدْحاً وجهدا وسعيا منتهيا الى افناء هويتك في هوية الحق وبالجملة فَمُلاقِيهِ يعنى أنت ايها الإنسان ملاق ربك بمقتضى سعيك واجتهادك فلك ان لا تفترق عما يوصلك اليه ويفنيك فيه بعد جذب(2/495)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
من جانب الحق وتوفيق من لدنه لتكون أنت من ارباب اليمن والكرامة الموسومين باصحاب اليمين الذين لهم صحف أعمالهم من قبل ايمانهم التي هي علامة ايمانهم وعرفانهم
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ الطاوى المشتمل على تفاصيل ما صدر عنه بِيَمِينِهِ التي هو عنوان اليمن وعلامة الكرامة وبرهان الرضوان
فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً سهلا سريعا
وَيَنْقَلِبُ ويرجع هو بعد الحساب إِلى أَهْلِهِ الذي هم رفقاؤه في سبيل السعادة والكرامة الموصلة الى فضاء عالم اللاهوت وصفاء الوحدة الذاتية التي هي عبارة عن ينبوع بحر الوجود مَسْرُوراً مبسوطا فرحانا
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ وشماله التي هو عنوان الشقاوة ودليل العتاب والعقاب وانواع الملالة والندامة
فَسَوْفَ يَدْعُوا ويتمنى هو لنفسه ثُبُوراً ويلا وهلاكا لصعوبة حسابه وغلبة سيئاته على حسناته
وَبالآخرة يَصْلى يدخل ويطرح صاغرا ذليلا سَعِيراً مسعرة مملوة بنيران الشهوات والغفلات الصادرة منه بمتابعة الأوهام والخيالات وانواع الضلالات والجهالات الناشئة من القوى البهيمية الحاصلة من طغيان الطبيعة وثوران لوازم الإمكان
إِنَّهُ قد كانَ فِي أَهْلِهِ في دار الدنيا مَسْرُوراً بطرا فرحانا فخورا بالمال والجاه والثروة والسيادة متفوقا على الأقران يمشى على الأرض خيلاء وانما حمله عليه
إِنَّهُ ظَنَّ بل قد تيقن وجزم جهلا مركبا وعنادا أَنْ لَنْ يَحُورَ اى انه لن ينقلب ولن يرجع الى الله ولن يقوم بين يديه سبحانه للحساب والجزاء لذلك اجترأ على ما اجترأ من المعاصي. ثم قال سبحانه
بَلى ردعا عما قبله تصديقا لما بعده على سبيل التعريض إِنَّ رَبَّهُ الذي رباه على فطرة المعرفة وجبله على نشأة التوحيد قد كانَ بِهِ بَصِيراً عالما بتفاصيل اعماله الصادرة عنه على وجه الخبرة والبصارة بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء من اعماله وأحواله فلا يهمله بل يعده عليه ويفصله له ويعيده ويجازيه حسب ما فصله. ثم قال سبحانه
فَلا أُقْسِمُ لإتيان يوم القيامة ولا ثبات ما فيها من الثواب والعقاب والجزاء والحساب وغير ذلك إذ هي امور ظاهرة مكشوفة عند ذوى الكشف والشهود من ارباب المحبة والولاء الواصلين الى بحر الوحدة وينبوع الحقيقة بل اقسم بِالشَّفَقِ المنبئ عن الشفقة والترحم الإلهي وهو عبارة عن البياض المعترض من أفق عالم اللاهوت عند انقضاء نشأة الناسوت حين حكم سبحانه بانطواء سجلات عموم التعينات ومطلق الهويات
وَاللَّيْلِ اى اقسم ايضا بالليل اى مرتبة العماء الإلهي وَما وَسَقَ اى ما ضم وجمع من الأنوار المنعكسة منها الى هياكل الأشباح
وَالْقَمَرِ اى أقسم ايضا بالقمر اى الوجود الظلي الكلى الإضافي المنبسط على مرآة العدم المنعكس من شمس الذات الاحدية المتشعشعة المتجلية من مطالع فضاء العماء اللاهوتية إِذَا اتَّسَقَ تم وعم وشمل الكل وصار بدرا كاملا بلا نقصان
لَتَرْكَبُنَّ ايها المكلفون ولتطرحن في نار القطيعة والحرمان طَبَقاً بعد طبق متجاوزا عَنْ طَبَقٍ بعيد عنه متجاوز في شدة الأهوال والافزاع وبعد الغور والطور والحرقة وانواع العذاب والنكال وبالجملة بحق هذه المقسمات العظام لدخلتم أنتم البتة في طبقات النيران لو كفرتم بالله وعصيتم امره وخرجتم عن مقتضى حدوده وأحكامه وبعد ما سمعوا ما سمعوا من الصادق الصدوق
فَما لَهُمْ اى أى شيء عرض عليهم ولحق بهم لا يُؤْمِنُونَ ولا يتصفون بالانقياد والتسليم سيما بعد ورود الزواجر من قبل الحق على ألسنة الرسل والكتب
وَمن كمال غفلتهم عن الله وضلالهم عن سنن الهداية والرشد إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ المبين لطريق الحق(2/496)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
وسبيل الايمان والعرفان لا يَسْجُدُونَ اى لا يخضعون ولا يتذللون له مع انه انما نزل لهدايتهم وإرشادهم بل يكذبونه وينكرون نزوله عنادا ومكابرة فكيف التذلل والخضوع
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ به وبمنزله وبمن انزل اليه جميعا
وَبالجملة اللَّهُ المطلع لعموم ما في ضمائر عباده أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِما يُوعُونَ اى بجميع ما يضمرونه في نفوسهم من الكفر والكفران وانواع البغي والعدوان والغفلة والطغيان على مقتضى علمه بهم وبخبرته بما في نفوسهم وبالجملة
فَبَشِّرْهُمْ يا أكمل الرسل بشارة على سبيل التهكم والاستهزاء بِعَذابٍ أَلِيمٍ نازل عليهم حين أخذوا بعصيانهم وآثامهم
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا منهم وخرجوا عن ورطة الطغيان متمسكين بعروة الايمان متشبثين بحبل القرآن وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عند الله لَهُمْ عند ربهم أَجْرٌ عظيم غَيْرُ مَمْنُونٍ اى غير مقطوع ومنقوص ان أخلصوا في ايمانهم وإذعانهم. اصنع بنا ما أنت له اهل يا مولانا
خاتمة سورة الانشقاق
عليك ايها الموحد المحمدي المجبول على فطرة الايمان والعرفان مكنك الله فيما يسر لك وثبتك عليه ان تتمسك بحبل التوفيق الإلهي وتتشبث بأذيال همم ارباب التحقيق من الأنبياء والرسل الهادين المهديين والأولياء الألباء المهتدين بهدايتهم إذ هم خلاصة بحر الوجود وزبدة ارباب الكشف والشهود فلك ان تتخلق بأخلاقهم وتقتفى بآثارهم المأثورة عنهم وتسترشد من المرشد الرشيد الذي هو القرآن المجيد الموصل لأرباب التوحيد المسقط لانواع التقاليد الراسخة في قلوب اصحاب الغفلة والتخمين فلك ان تتأمل ظاهره وباطنه وحده ومطلعه حتى تتوسل بها الى ما فوقها من الرموز التي قد وهبها سبحانه وجادبها لبعض النفوس الزكية القدسية الفانية في قدس الذات الإلهية الباقية ببقائها. جعلنا الله من خدامهم وقرابهم
[سورة البروج]
فاتحة سورة البروج
لا يخفى على من تحقق بسماء الأسماء اللاهوتية المشتملة على بروج عالم الجبروت وقصور مملكة الملكوت الموهوبة لسكانها من حضرة الرحموت ان الوصول إليها والحصول دونها انما يتيسر للمستوحشين عن لوازم الإمكان ومقتضيات نشأة الناسوت المستأنسين بسكان عالم اللاهوت وقطان سواد أعظم الفقر ولا شك ان الاستيناس معهم انما يحصل بجذبة غالبة وخطفة جالبة الهية والجذبة الإلهية مسبوقة بالمحبة المفرطة والمودة المزعجة الى الفناء في المحبوب الحقيقي والمحبة انما تنشأ من الشوق الغالب الجالب والشوق انما ينبعث من الارادة والطلب الصادر عن العزيمة المذكورة الخالصة والعزيمة لا تخلص ولا تصفو عن إكدار الطبيعة الا بالخلوة والعزلة عن الناس ودوام العفة والقناعة ومقارنة الرضاء والتسليم والتفويض والتوكل على وجه التبتل الى الحكيم العليم فالكل مسبوق برفاقة التوفيق والتصبر على متاعب الطاعات ومشاق العبادات والرياضات القالعة لمقتضيات القوى البشرية المورثة له من القوى الطبيعية والمنهمكون في بحر الغفلة والضلال لا يتيسر لهم الاستيناس بالكبير المتعال لذلك لعنوا وطردوا عن ساحة عز القبول والحضور على وجه المبالغة والتأكيد كما قال سبحانه في شأن طردهم ولعنهم مقسما بالأمور العظام متيمنا بِسْمِ اللَّهِ(2/497)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
المتجلى في عموم المجالى بمقتضى أسمائه وصفاته إظهارا لقدرته الغالبة الكاملة الرَّحْمنِ للكل تتميما لتربيته الشاملة الرَّحِيمِ لنوع الإنسان تعظيما لحكمته المتقنة ومصلحته المستحسنة المودعة في نشأته
[الآيات]
وَالسَّماءِ اى بحق سماء الأسماء والصفات المتشعشعة المتجلية في عالم اللاهوت ذاتِ الْبُرُوجِ من النفوس القدسية القابلة لانعكاسها وتشعشعها المستعدة لفيضان أنوارها الذاتية
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ للانجلاء الكامل والانكشاف التام المنعكس عن عالم العماء عند ارتفاع سدول الأسماء والصفات عن البين
وَاتحاد شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ في العين انكم ايها المحجوبون عن الله المطرودون عن ساحة عز حضوره الملعونون المردودون من كنف قربه وجواره يعنى كفار مكة لعنهم الله لان السورة نازلة في تثبيت المؤمنين على أذاهم كما
قُتِلَ ولعن أَصْحابُ الْأُخْدُودِ الخد الشق في الأرض وغيرها روى انه كان لملك ساحر فلما كبر ضم اليه غلاما ليعلمه وكان في طريق الغلام راهب يستمع منه كلاما فرأى في طريقه يوما حية قد حبست الناس فأخذ الغلام حجرا فقال اللهم ان كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها فضربها فقتلها وكان بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص ويشفى المريض فعمى جليس الملك فابرأه فاسلمه فسأله الملك من ابرأك فقال ربي فغضب الملك عليه فعذبه فدل على الغلام فعذبه فدل على الراهب فقده بالمنشار وذهب بالغلام الى جبل ليطرحه من أعلاه فرجف بالقوم فطاحوا ونجا الغلام وذهب به الى سفينة ليغرق فانكفأت السفينة بمن معه ونجا وقال الغلام للملك لست بقاتلي حتى تأخذ سهما من كنانتي وتقول بسم الله رب الغلام ثم ترميني به فرماه فقال بسم الله رب الغلام فأصاب صدغه فوضع عليه يده فمات فآمن الناس برب الغلام وقيل للملك نزل بك ما قد كنت تحذر فأمر بحفر أخاديد فأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم عن دين الغلام طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي رضيع فتقاعست فقال الرضيع بالهام إياه مع انه في غير أوان تكلمه مثل عيسى النبي صلى الله عليه وسلم يا أماه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت في
النَّارِ بدل من لفظة الأخدود بدل الاشتمال ذاتِ الْوَقُودِ والحطب الكثير تهويلا عليهم بشدة التهابها وسورتها لينزجروا عما اختاروا ويعودوا عن الإسلام والتوحيد ثم لما طرح المؤمنون فيها التهبت النار التهابا شديدا وخرجت على أطرافها فأحرقت كثيرا من صناديد أولئك الظلمة
إِذْ هُمْ عَلَيْها وفي أطرافها قُعُودٌ قاعدون على الكراسي حول النار
وَهُمْ اى رؤساؤهم عَلى ما يَفْعَلُونَ اى الموكلون بِالْمُؤْمِنِينَ من الأخذ والافناء شُهُودٌ وعدول مشرفون من قبل الملك أمناء من جانبه اقعدهم حوله لئلا يتهاون الأعونة في إهلاك المؤمنين وطرحهم في النار
وَبالجملة ما نَقَمُوا وما انتقموا أولئك الظالمون المنهمكون في بحر الغي والطغيان والعدوان مِنْهُمْ اى من المؤمنين بهذا الانتقام الصعب الهائل إِلَّا انهم كرهوا منهم واستنكروا عليهم أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الواحد الفرد الأحد الصمد الحي القيوم الحقيق بالإيمان والإطاعة الْعَزِيزِ الغالب القاهر على من دونه من السوى والأغيار مطلقا الْحَمِيدِ المستحق لأصناف الاثنية والمحامد استحقاقا ذاتيا ووصفيا وكيف لا يكون سبحانه عزيزا حميدا مع انه القادر
الَّذِي لَهُ وفي حيطة قدرته وارادته مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مظاهر العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات وَكيف لا هو اللَّهُ المستقل بالالوهية والربوبية عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما لمع عليه برق وجوده شَهِيدٌ حاضر غير مغيب عنه وبالجملة
إِنَّ المسرفين المفسدين الَّذِينَ فَتَنُوا واحرقوا(2/498)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ظلما وعدوانا كراهة هدايتهم وايمانهم ثُمَّ بعد ما فعلوا من الإفراط والإسراف لَمْ يَتُوبُوا الى الله ولم يرجعوا نحوه سبحانه عن ظلمهم ولم يستغفروا نحوه نادمين منه فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ الطرد والحرمان عن حضور الحنان المنان وَلَهُمْ ولحق بهم بسبب كفرهم بالله وانكارهم توحيده عَذابُ الْحَرِيقِ بدل ما فعلوا بالمؤمنين من إحراقهم في الأخاديد. ثم عقب سبحانه وعيدهم بوعد المؤمنين فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وَأكدوا ايمانهم حيث عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقرونة بالإخلاص في القصد والنيات لَهُمْ عند ربهم جزاء لإيمانهم وأعمالهم تفضلا عليهم جَنَّاتٌ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى جداول المعارف والحقائق المنتشئة من بحر الحقيقة وبالجملة ذلِكَ الْفَوْزُ العظيم الشأن البعيد رفعة مكانته عن افهام الأنام هو الفوز الْكَبِيرُ والفضل العظيم الذي لا فوز أعظم منه وارفع. ثم أشار سبحانه الى تهديد اصحاب الضلال المنحرفين عن جادة الاعتدال مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم فقال
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل واخذه بالعنف لعصاة عباده المائلين عن سبيل سداده وجادة رشاده لَشَدِيدٌ بحيث لا يقاس على شدة بطشه ومضاعف عذابه وانتقامه وكيف يطلق بطشه ويقاوم اخذه
وإِنَّهُ سبحانه هُوَ القادر الغالب الذي يُبْدِئُ ويظهر عموم المظاهر والموجودات من كتم العدم بالقدرة الكاملة الغالبة ثم يخفيها ويعدمها كلها ايضا بكمال قدرته وَيُعِيدُ ويخرجها في فضاء الظهور مرة بعد اخرى بمقتضى قدرته واختياره فكيف يقاوم ويقاس شيء مع قدرته سبحانه هذه وكيف يطيق احد ان يقوم بمعارضته تعالى شأنه في حكمه وينازع سلطانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسئل عن فعله انه حكيم مجيد
وَهُوَ سبحانه ايضا بمقتضى سعة جوده ورحمته الْغَفُورُ الستار المحاء لذنوب من تاب ورجع نحوه مخلصا نادما وان كبرت وكثرت فان رحمته أوسع منها واشمل الْوَدُودُ المحب لإخلاص المذنبين وتوبة المستغفرين وفراغة الخائبين المخبتين المستحيين من الله النادمين على ما صدر عنهم وقت الغفلة والغرور وكيف لا يود ولا يغفر سبحانه مع انه
ذُو الْعَرْشِ إذ هو المستوي على عروش عموم ما ظهر وبطن بالاستيلاء التام والاستقلال الكامل الْمَجِيدُ العظيم في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إذ لا وجود سواه ولا كون لغيره فظهر انه
فَعَّالٌ بالاستقلال والاختيار لِما يُرِيدُ إذ جميع الأفعال الجارية في ملكه وملكوته صادر عنه باختياره بلا شركة فيها ومظاهرة إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء بمقتضى علمه الشامل وحكمه الكامل سواء كان انعاما او انتقاما. ثم أشار سبحانه الى تسلية حبيبه صلى الله عليه وسلم وحثه على الصبر على اذيات قومه وتكذيبهم إياه مكابرة فقال
هَلْ أَتاكَ اى قد أتاك ووصل إليك وثبت ذلك عندك يا أكمل الرسل بالتواتر حَدِيثُ الْجُنُودِ اى اخبار الأمم السالفة وقصة تكذيبهم للرسل السابقة والكتب السالفة وانتقامنا منهم بعد ما بلغت اذياتهم للرسل غايتها سيما حديث
فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي وملائه كيف كذبوا أخاك موسى الكليم عليه السلام وكيف قصدوا مقته وإهلاكه مرارا وكيف انتقمنا منهم واستأصلناهم وَثَمُودَ المردود كيف كذبوا أخاك صالحا عليه السلام وكيف انتقمنا منهم تذكر يا أكمل الرسل قصصهم مع رسلهم وما جرى عليهم من لدنا وبالجملة فاصبر يا أكمل الرسل على ما اصابك من قومك فان ذلك من عزم الأمور فسننتقم منهم ايضا مثل ما انتقمنا من الأمم السالفة الهالكة
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك فِي(2/499)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
تَكْذِيبٍ
عظيم من تكذيب الماضين لأنهم قد سمعوا قصصهم وما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم فلم يعتبروا ولم ينزجروا فسيلحقهم أشد مما لحقهم من العذاب عاجلا وآجلا
وَبالجملة اللَّهُ المطلع بعموم ما جرى في ضمائرهم من الكفر والشقاق مِنْ وَرائِهِمْ اى وراء هوياتهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة مُحِيطٌ بهم بالاحاطة الذاتية بحيث لا يفوته سبحانه شيء من جرائمهم وآثامهم فسيجازيهم عليها حسب احاطته وخبرته وهم ينكرون احاطته ولذلك ينكرون كتابه الجامع لجميع الكمالات الدنيوية والاخروية الغيبية والشهادية ويسبونه الى الشعر والكهانة وانواع التزويرات والمفتريات الباطلة عنادا ومكابرة مع انه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ فرقان بين الحق والباطل والهداية والضلال مَجِيدٌ عظيم عند الله مبين مبين لأحكام الدين المستبين مثبت مركوز
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ألا وهو حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح قضائه المصون عن مطلق التحريف والتغيير. جعلنا الله ممن فاز بنور الايمان وانكشف بحقية القرآن الفرقان بمنه وجوده
خاتمة سورة البروج
عليك ايها الموحد المحمدي المنكشف بحقية القرآن هداك الله الى حقيقته ان تعتقد ان مطلق الحوادث الجارية في عالم الكون والفساد انما هو مثبت في لوح القضاء المصون عن سمة التبديل والتغيير إذ ما يبدل القول والحكم لدى القادر الحكيم العليم والتصرفات الواقعة في عالم الملك والملكوت انما هي مرقومة مرسومة فيه على وجهها بحيث لا يشذ شيء منها عنه والقرآن المجيد منتخب منه وحاو عموم ما ثبت فيه اجمالا ومن أدركته العناية السرمدية وجذبته الجذبة الاحدية يصل من رموز القرآن الى كنوز الأسرار والمعارف التي فصلها الحق في لوح قضائه وحضرة علمه لكن الواصل الى هذه المرتبة العلية أقل من القليل فكن راجيا من الله الجميل ولا تيأس من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الخاسرون
[سورة الطارق]
فاتحة سورة الطارق
لا يخفى على من تحقق بحيطة الحق وحفظه ورقابته لعموم مظاهره ومجاليه ان كل ما صدر عن من صدر وعلى اى وجه صدر فان الله عليه رقيب عتيد يحافظه ويراقبه سواء كان خيرا او شرا نفعا او ضرا عملا او اعتقادا حالا او مقالا والسر في ذلك ان لا يغفل العبد عن الله بحال من الأحوال ولا في شأن من الشئون وكيف يغفل عنه سبحانه فانه دائما مستمد منه سبحانه في عموم حالاته حسب أنفاسه ولحظاته وخطراته لذلك اقسم سبحانه لإثبات هذا المطلب العظيم العزيز بما اقسم ليكون العبد على ذكر من ربه وحضور عنده بحيث لا يغيب عنه سبحانه لمحة وطرفة حتى لا يصدر عنه ما لا يرضى به سبحانه بمتابعة شياطين القوى الامارة الناسوتية فقال سبحانه متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المراقب لأحوال عباده كيلا يوسوس في صدورهم الشيطان الرَّحْمنِ عليهم يحفظهم عن موجبات الندامة والخذلان الرَّحِيمِ لهم يهديهم الى طريق الجنان
[الآيات]
وَالسَّماءِ اى بحق سماء الأسماء اللاهوتية المصونة عن مطلق التغيير والزوال المتعالية عن مدارك الوهم ومشاعر الخيال وَبحق الطَّارِقِ الذي يتخطف منها على آحاد الرجال بعد ما هاجروا عن بقعة الناسوت متشمرين بالعزيمة الخالصة نحو فضاء اللاهوت بمقتضى الجذب الجبلي والميل الفطري المعنوي ثم أبهمه سبحانه(2/500)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)
على حبيبه تعظيما وتفخيما فقال
وَما أَدْراكَ ايها المظهر الكامل اللائق لفيضان الطوارق اللاهوتية مَا الطَّارِقُ حين كنت مقيدا في عالم الناسوت حسب هويتك وبعد ما أطلقك الحق عن قيود عالم الناسوت عرفت ان الطارق الذي يطرقك من عالم اللاهوت وفضاء الجبروت انما هو
النَّجْمُ الثَّاقِبُ اى الجذبة الاحدية المضيئة اللامعة المتشعشعة الناشئة البارقة من عالم العماء الذي هو محل كمال الجلاء والانجلاء الذاتي والجذوة المتشعشعة المشتعلة الساطعة من نار العشق والمحبة المفرطة الإلهية الى شجرة ناسوتك القابلة ذلك بعد ما أمرك بالتجرد عن كسوة ناسوتك أنا الله لا اله الا أنا فاخلع نعليك واطرح لوازم نشأتك بعد ما سمعت يا أكمل الرسل فاسترح في مقعد صدقك عند ربك انك بالوادي المقدس عن رذائل لواحق نشأة الناسوت طوى أى قد طويت دونك العوائق البشرية مطلقا وأنا اخترتك لمظهرية المعارف والحقائق المستلزمة لرتبة الخلافة والنيابة فاستمع لما يوحى إليك من الآيات البينات لمراسم التوحيد واليقين وبالجملة وبحق هذين القسمين العظيمين
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ اى ما كل نفس من النفوس الطيبة والخبيثة الكائنة في عالم الكون والفساد لَمَّا اى الا عَلَيْها حافِظٌ من قبل الحق يحفظ لها أقوالها وافعالها وحالاتها حتى يدفعها ويسلمها الى المقادير التي حصلت عنها وصدرت على طبقها حتى جوزيت على مقتضاها وبعد ما سمع الإنسان ما سمع من الحكمة العلية الإلهية
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ المركب من الجهل والنسيان وليتأمل في منشئه مِمَّ خُلِقَ يعنى فليراجع وجدانه ولينظر مبدأه ومنشأه حتى يظهر له من أى شيء قدر وجوده فيعرف قدره ولم يتعد طوره مع انه انما
خُلِقَ وقدر مِنْ ماءٍ مهين مسترذل دافِقٍ مدفوق مصبوب في الرحم على وجه التلذذ والاضطراب من كلا الجانبين مع انه
يَخْرُجُ ذلك الماء المهين مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ اى من ظهر الرجل وصدر المرأة وبعد ما تأمل الإنسان في مبدئه وعرف اصل نشأته تفطن منه ان وفقه الحق الى قدرة الصانع الحكيم العليم الذي خلقه من هاتين الفضلتين الخبيثتين ورباه الى ان صار بشرا سويا قابلا لفيضان انواع المعارف والحقائق لائقا للخلافة الإلهية مهبطا للوحى والإلهام من لدنه سبحانه وتفطن ايضا بل جزم وتيقن ان من قدر خلقه وإيجاده ابتداء
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ وإعادته وبعثه من القبور لَقادِرٌ البتة فكيف ينكر قدرته سبحانه على البعث والحشر مع ان الإعادة أهون عنده من الإبداء تأملوا ايها المجبولون على فطرة العبرة والتكليف
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ وتكشف الستائر ويظهر ما خفى من الضمائر من الإنكار والإصرار وفواسد النيات والأعمال
فَما لَهُ اى للإنسان حينئذ مِنْ قُوَّةٍ يدفع بها عن نفسه ما يترتب على اعماله وأحواله من العذاب والعقاب على وجه الجزاء وَلا ناصِرٍ يدفعه وينصره إذ كل نفس يومئذ رهينة بما كسبت مشغولة بجزاء ما جرت عليه خيرا كان او شرا. ثم اقسم سبحانه بما اقسم لإثبات حقية القرآن وفضله وكونه برئيا عن قدح القادحين وطعن الطاعنين فقال وَالسَّماءِ اى وحق سماء الأسماء اللاهوتية الإلهية التي هي في أعلى درجات الارتفاع ذاتِ الرَّجْعِ والعود إذ تدور على هياكل عالم الناسوت طرفة وترجع في الحال الى عالمها دفعة كالبرق الخاطف ولا تدوم ولا تستقر آثارها الا لأرباب العناية من البدلاء الذين قد بدلت لوازم ناسوتهم بالمرة بخواص اللاهوت وارتفعت البشرية عنهم مطلقا
وَالْأَرْضِ اى ارض الطبيعة والهيولى القابلة لانعكاس ما لمع عليه سماء الأسماء ذاتِ الصَّدْعِ اى التأثر والتشقق بقبول اثر مؤثرات عالم اللاهوت يعنى وبحق هذين القسمين العظيمين
إِنَّهُ(2/501)
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
اى القرآن لَقَوْلٌ فَصْلٌ فاصل فارق بين الحق والباطل والهداية والضلالة
وَما هُوَ بِالْهَزْلِ كما زعمه المسرفون المفرطون في شأنه بل هو جد كله صدر عن حكمة متقنة بالغة الهية لمصلحة الهداية والإرشاد لعموم العباد وبالجملة إِنَّهُمْ يعنى طغاة مكة خذ لهم الله يَكِيدُونَ كَيْداً ويمكرون في ابطال القرآن واطفاء نوره الفائض على عموم الأعيان فيرمونه بأنواع القدح والطعن مراء ومكابرة وينسبونه الى ما لا يليق بشأنه عنادا
وَأَكِيدُ انا ايضا في أخذهم وانتقامهم بعد ما استحقوا الأخذ والانتقام كَيْداً على سبيل الاستدراج والاستمهال بحيث لا يحتسبون بل يحملون امهالنا إياهم على الإهمال لذلك يغترون ويجترءون في قدحه وطعنه وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل
فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أنت ايضا ولا تستعجل بانتقامهم ولا تشتغل بالدعاء عليهم سريعا إذ امهالنا ابتلاء منا لهم وفتنة جالبة لمصيبة عظيمة ومتى تحققت يا أكمل الرسل ما قلنا لك أَمْهِلْهُمْ واعرض عن المراء والمجادلة معهم وانتظر لمقتهم وترقب لهلاكهم رُوَيْداً امهالا يسيرا في زمان قليل وسيظهر عن قريب دينك على عموم الأديان وهم يقهرون ويستأصلون. جعلنا الله ممن صبر وظفر بمبتغاه بمنه وجوده
خاتمة سورة الطارق
عليك ايها المتوكل على الحق المتبتل نحوه بالعزيمة الخالصة ان تفوض عموم أمورك الى ربك بحيث لا يحظر ببالك ان تلتفت الى تحصيلها باستبدادك وتتخذه كفيلا حسيبا كافيا لجميع حوائجك واشغالك وبالجملة كن فانيا في الله يكفك جميع مؤنك إذ الكل بالله ومن الله وفي الله بل أنت ما أنت بل أنت هو بل هو هو لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون
[سورة الأعلى]
فاتحة سورة الأعلى
لا يخفى على المحمديين الموحدين الواصلين الى مقام التمكين بلا تلعثم وتلوين ان العارف المحقق بعد ما قد وصل الى مقام الفناء في الله وحصل له ذوق التوحيد الذاتي والبقاء السرمدي لم يبق في بصر شعوره من مشهوده سوى الوحدة الذاتية الصرفة الخالية عن تعدد الأسماء والصفات مطلقا إذ تلون الأوصاف وتعدد الأسماء من جملة الحجب والغطاء عند ارباب المحبة والولاء المتحققين بعالم العماء الذي لا يمكن التعبير عنه مطلقا لاضمحلال الحجب والآلات التي بها يتوسل الى التعبير والإشارة والرمز والغمز والإيماء وبالجملة لا يسع حينئذ سوى التقديس والتسبيح إذ لا يحتاج المسبح المقدس الى التوسل مطلقا لذلك امر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بعد ما وصل الى ما وصل من القرب والشهود بالتسبيح ولقنه بالتقديس المقارن لاسمه الأعلى لا على وجه الاسمية والاضافة ولا على وجه الوصفية إذ الاسم والوصف وسائر الاعتبارات المسبوقة بالشعور والإدراك لا يسعه في ذلك المقام ولا على معنى التفضيل ايضا فانه مسبوق بالإدراك والحضور بل على وجه العجز والقصور عن الإدراك والتعبير والإشارة وعن مطلق الوسائل والأسباب المؤدية الى الاخبار عنه سبحانه إذ قد كلت حينئذ ألسنة الاستعدادات عن مطلق الإيماء والإشارات وانحسرت المدارك والعقول عن عموم الإدراكات والشعور فصار الكل مبهوتا حائرا هائما بل فانيا مضمحلا بحيث لم يبق له لا اسم ولا رسم ولا خبر ولا اثر وبعد ما وقع ما وقع ووصل الى ما وصل فقد وقع(2/502)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
على الله فأمره بمقتضى علمه وحكمته حسب ارادته ومشيته فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الى ذاته عن احلام الأنام وافهام الخواص والعوام الرَّحْمنِ لعموم عباده يدعوهم الى دار السلام الرَّحِيمِ لخواصهم يهديهم الى ارفع المكانة وأعلى المقام
[الآيات]
سَبِّحِ لله يا من غرق في تيار البحر الزخار للوجود وتلاشى في لمعات شمس الشهود اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وان لم يبق لك التوسل بمطلق الأسماء بعد ما فنيت في المسمى ثم تذكر بمقتضى حصة عبوديتك نعمه الواصلة إليك بعد ان فزت بحلل البقاء استحضارا وتذكيرا لما جرى عليك من الشئون والأطوار في نشأة ناسوتك إذ هو سبحانه القادر المقتدر
الَّذِي خَلَقَ وأوجد عموم ما خلق واظهر فَسَوَّى خلق الكل بحوله وقوته واختياره مع ما يتعلق به ويترتب عليه في معايشه ومعاده
وَهو الحكيم العليم القدير الَّذِي قَدَّرَ المقادير ودبر التدابير واحسن التصاوير وأودع فيها ما أودع من الاستعدادات والقابليات الجالبة لانواع الكمالات وبعد ما هيأها وعدلها فَهَدى اى هدى الكل الى ما جبلوا لأجله بوضع التكاليف المشتملة على الأوامر والنواهي والاحكام الواجبة والمندوبة والأخلاق المرضية والآداب السنية ليتمرنوا على الأمور المذكورة ويترسخوا فيها بالعزيمة الخالصة والجزم التام حتى يستعدوا لان تفيض عليهم طلائع سلطان الوحدة الذاتية المنقذة لهم عن ورطة الناسوت الموصلة لهم الى فضاء اللاهوت
وَهو سبحانه القادر المقتدر الَّذِي أَخْرَجَ بكمال قدرته واثبت واظهر الْمَرْعى الحاصل في مرتع الدنيا باجناسها وأصنافها تتميما لتربية دواب الطبائع وحوامل الأركان القابلة لتأثيرات عالم الأسماء والصفات ليتقوموا بها ويستعدوا لفيضان المعارف والحقائق وانواع الكمالات اللائقة التي هم جبلوا لأجلها وبعد ما حصل من الكمالات المنتظرة في نشأة الناسوت
فَجَعَلَهُ سبحانه مرعى العالم مع كمال نضارتها وبهائها في نظر شهود اولى الألباب الناظرين بنور الله من وراء سدول الأسماء والصفات غُثاءً يابسا بل سرابا باطلا عاطلا وبعد ما تحققوا بمقر التوحيد ورفعوا وسائل الأوصاف والأسماء من البين فصار الكل حينئذ هباء أَحْوى بل عدما لا يبقى اسود موحشا بعد ما كان اخضر مفرحا ثم التفت سبحانه نحو حبيبه صلى الله عليه وسلم على سبيل التفضل والامتنان فقال على طريق الوصاية والتذكير
سَنُقْرِئُكَ ونجعلك قارئا يا أكمل الرسل مراقبا على وجوه الوحى والإلهام النازل من لدنا عليك مع انك أمي لم يعهد من مثلك أمثالها فَلا تَنْسى يعنى عليك ان تضبط هذه النعمة وتحفظها على وجهها وتواظب على أداء شكرها بلا فوت شيء منها بزيادة عليها او تحريف فيها
إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ العليم الحكيم نسيانه منك بان نسخ تلاوته او حكمه او كلاهما على مقتضى حكمته المتقنة ومصلحة عباده المستحكمة وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت فدم عليها ولا تغفل عنها سرا وجهرا حالا ومقالا إِنَّهُ سبحانه يَعْلَمُ منك الْجَهْرَ وَما يَخْفى يعنى ظاهرك وباطنك اى يعلم سبحانه منك جميع ما امتثلت بظاهرك من مقتضيات الوحى والإلهام وبباطنك من الإخلاص في النيات والحالات والخلوص في العزائم والمقامات
وَاعلم يا أكمل الرسل انا بمقتضى عظيم جودنا معك مراقبون لك في عموم شئونك واطوارك نُيَسِّرُكَ ونوفقك على التدين والتحفظ بمقتضيات الوحى لِلْيُسْرى اى الطريقة والشريعة السهلة السمحة البيضاء وبعد ما يسرنا لك وسهلنا عليك طريق الهداية والإرشاد
فَذَكِّرْ بالقرآن وبين الاحكام الموردة فيه للناس إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى اى سواء نفعت عظتك وتذكيرك إياهم او لم تنفع(2/503)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
إذ ما عليك الا البلاغ وعلينا الحساب ولا تيأس يا أكمل الرسل من مبالغتهم في الاعراض والانصراف عنك وعن تذكيرك واعلم انه
سَيَذَّكَّرُ ويتعظ بتذكيرك مَنْ يَخْشى من بطش الله ومن كمال قدرته على وجوه الانتقام سيما بعد التأمل في معاني القرآن مرارا والتدبر في فحاويه تكرارا قد تنبه على حقيته فتذكر به وامتثل بما فيه
يَتَجَنَّبُهَا
اى يعرض عنها وعن سماعها يعنى سماع الذكرى والعظة التي هي القرآنْ َشْقَى
اى الكافر الذي جبل على فطرة الشقاوة وجبلة الجهل والغباوة
الَّذِي يَصْلَى ويدخل في النشأة الاخرى النَّارَ الْكُبْرى التي هي أضعاف نار الدنيا في الحرارة والحروقة لذلك قال كبرى او في الدرك الأسفل منها وهو أكبرها
ثُمَّ لما دخل في نار القطيعة والحرمان بأنواع الخيبة والخذلان لا يَمُوتُ فِيها حتى يستريح ويخلص وَلا يَحْيى حياة نافعة طيبة كسكان بقعة الإمكان الداخلين في نيران الشهوات ودركات الأماني والآمال بحيث لا يموتون حتى يستريحون ولا يحيون بلا منية الامنية وغل الأمل وسلسلة الحرص والطمع وبالجملة هم معذبون في عموم الأوقات والأحوال لا نجاة لهم فيها ما داموا في قيد الحياة وبعد ما ماتوا بأنواع الحسرات سيصلون في أسفل الدركات وأصعب العقبات. هب لنا جذوة من نار المحبة تنجينا من نيران الإمكان في النشأة الاولى والاخرى. ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه
قَدْ أَفْلَحَ وفاز بالدرجة القصوى والمرتبة العليا مَنْ تَزَكَّى وتطهر عن ادناس الطبائع وإكدار الهيولى من الميل الى الدنيا وما فيها من اللذات الفانية والشهوات الغير الباقية وتوجه نحو المولى بالعزيمة الخالصة
وَذَكَرَ في أوائل الطلب ومبادي الارادة اسْمَ رَبِّهِ اى جنس الأسماء الإلهية متفطنا بمعناها يقظانا بفحواها فرحانا بمضمونها متشوقا الى لقياه سبحانه فَصَلَّى ومال نحوه سبحانه في الأوقات المحفوظة المأمور بالأداء فيها محرما على نفسه عموم مبتغاه من دنياه
بَلْ هؤلاء الحمقى الهلكى التائهون في تيه الغفلة والضلال المغلولون بأغلال الأماني والآمال تُؤْثِرُونَ وتختارون الْحَياةَ الدُّنْيا المستعارة الفانية على الحياة الحقيقية الاخروية الباقية وكذلك تجمعون اسباب الفساد والإفساد ولا تتزودون ليوم المعاد
وَالْآخِرَةُ اى والحال ان الآخرة وما وعد فيها من اللذات الروحانية الباقية خَيْرٌ مما في الدنيا وأمانيها وَأَبْقى وأدوم بحيث لا انقطاع لها ولا نهاية للذاتها وبالجملة
إِنَّ هذا الذي وعظك الحق به يا أكمل الرسل ووصاك بحفظه وبالامتثال به والاتصاف بمضمونه لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى اى مثبت مسطور فيها على وجهه وتلك الصحف هي
صُحُفِ جدك يا أكمل الرسل إِبْراهِيمَ الخليل الفائق في الخلة والفلاح على عموم ارباب الصلاح والنجاح وَصحف أخيك مُوسى الكليم الفائز من عند الله بالفوز العظيم ألا وهو مرتبة التكلم والتكليم مع الله العليم. جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم
خاتمة سورة الأعلى
عليك ايها الطالب للفلاح الأخروي الحقيقي والنجاح المعنوي ان تزكى أولا نفسك عن مطلق الرذائل العائقة عن التوجه الحقيقي نحو الحق وتصفى سرك عن الميل الى مزخرفات الدنيا الدنية وأمانيها الغير المريئة الهنيئة فعليك ان ترغب نفسك عن مقتضيات الإمكان ولا تغريها الى لذاتها وشهواتها فعليك ان تلازم الخلوة والخمول وتجتنب عن اصحاب الثروة والفضول حتى يعينك الحق(2/504)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
على التلقي بالقبول ويوفقك على ما يوصلك الى الفوز والفلاح ويرشدك الى سبيل النجاة والنجاح. ربنا افتح لنا أبواب رحمتك انك أنت الكريم الفتاح
[سورة الغاشية]
فاتحة سورة الغاشية
لا يخفى على المحققين المنكشفين بالنشأة الاخروية المتحققين بظهور الحق حسب النشأتين ان وقوف العباد بين يدي الله وعرض الأعمال عليه سبحانه والحساب عليها والجزاء على مقتضاها مشهودة للعارف المحقق مكشوفة عنده في كل آن وزمان وبعد الحساب والجزاء فرقة منهم رابحون مقبولون عند الله وفرقة خاسرون مردودون فالمقبولون في كنف جوار الله مسرورون متنعمون والمردودون في نار القطيعة والحرمان محزومون مطرودون لذلك اخبر سبحانه في هذه السورة على سبيل المبالغة والتأكيد مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ القادر المقتدر على عموم مقدوراته حسب النشأتين الرَّحْمنِ على عموم عباده ينبههم نحو المرجع والمعاد الرَّحِيمِ لخواصهم يهديهم الى سبيل الرشاد
[الآيات]
هَلْ أَتاكَ اى قد أتيك ووصل إليك وانكشف لك يا أكمل الرسل حَدِيثُ الْغاشِيَةِ اى الداهية العظيمة التي تغشى الناس وتحيط بهم يوم القيامة بشدائدها حين وقفوا بين يدي الله للعرض والجزاء وهم حينئذ من شدة الهول والفزع حيارى سكارى تائهون هائمون مرعوبون ما يفعل بهم وكيف يحكم عليهم وبعد ما أخذوا للحساب وحوسبوا
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ذليلة شاخصة منكوسة
عامِلَةٌ يومئذ باعمال لا تنفعها كالتوبة والتوجه وطلب العفو والمغفرة بعد مضى أوانها ناصِبَةٌ مبالغة في تحمل التعب والمشقة رجاء ان يعفى عنها ويغفر لها مع انها لا ينفعها حينئذ عملها وان اتعب نفسها لانقضاء نشأة الاختبار المأمورة فيها الأعمال بل
تَصْلى بالطرح حينئذ ناراً حامِيَةً في نهاية الحر والحرقة تأكيدا وتشديدا لعذابها
تُسْقى عند الأشراف على الهلاك عن غاية العطش مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ متناهية في الحرارة والسخونة المفرطة وكيف لا وقد أوقدت حولها نار جهنم منذ خلقت هذا شرابهم
ولَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ اى شبرق يابس امر من الصبر وابشع من جميع الأشياء البشيعة ومع نهاية بشاعته ومرارته وشدة حرارته
لا يُسْمِنُ حتى يزيد في قوتهم وَلا يُغْنِي ولا يدفع مِنْ جُوعٍ وبالجملة لا يفيدهم أصلا
ووُجُوهٌ أخر يَوْمَئِذٍ على عكس ذلك إذ هي ناعِمَةٌ متنعمة مبتهجة مسرورة
لِسَعْيِها الذي قد تحملته من انواع المتاعب والمشاق في نشأة الدنيا راضِيَةٌ سيما بعد ما رأت ما ترتب على سعيها من الجزاء وكيف لا ترضى وهي متنعمة يومئذ بسبب ذلك السعى وبالجملة هي متمكنة يومئذ
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ متعالية أوصاف نزاهتها ونضارتها عن مدارك العقول ومشاعر الخواص مصفاة عن مطلق المكاره بحيث
لا تَسْمَعُ فِيها كلمة لاغِيَةً لا فائدة لها ولتتميم نزاهتها ونضارتها
فِيها عَيْنٌ ماؤها في غاية البياض والصفاء جارِيَةٌ في خلالها وكذلك أنهارها ابدا ولتكميل ترفههم وتنعمهم
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ مرتفعة عن الأرض على قوائم طوال
وَأَكْوابٌ أوان لا عروة لها مَوْضُوعَةٌ بين أيديهم
وَنَمارِقُ وسائد في غاية الصفاء والبهاء متلونة بألوان مطبوعة مَصْفُوفَةٌ مفروش بعضها في جنب بعض
وَزَرابِيُّ بسط أخر فاخرة متلونة مَبْثُوثَةٌ مبسوطة مفروشة وبالجملة لا تستبعدوا ولا تستغربوا عن قدرة الله أمثال هذا
أَ(2/505)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
ينكرون ويستبعدون أولئك البعداء المنكرون المفرطون قدرة الله القادر الحكيم على أمثال هذه المقدورات فَلا يَنْظُرُونَ بنظر التأمل والاعتبار إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ على الهيكل الغريب والشكل العجيب تحمل كثيرا وتأكل قليلا وتصير منقادة لكل احد حتى النسوان والصبيان مع عظم جسمها وكمال قوتها وقدرتها وتتحمل على الجوع والعطش مدة وتتأثر من المودة والغرام وتسكر منها الى حيث تنقطع عن الأكل والشرب زمانا ممتدا وايضا قد تتأثر من الأصوات الحسنة والحدى وتصير من كمال التأثر الى حيث تهلك نفسها من سرعة الجري ويجرى الدمع من عينيها عشقا وغراما وشوقا اواما وبالجملة قد ظهر منها حين حدى عليها وصوت لها بأصوات حسنة ونغمات مستحسنة عجائب كثيرة يتفطن بها اهل العبر والاستبصار
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ بلا عمد وأسانيد منثورة عليها الكواكب التي لا ندرك حقائقها وأوصافها وأشكالها وطبائعها ومالنا منها الا الحيرة والنظرة على وجه العبرة
وَكذا إِلَى الْجِبالِ الرواسي كَيْفَ نُصِبَتْ على وجه الأرض مشتملة على معادن ومياه وآجام
وَإِلَى الْأَرْضِ التي هي مقر انواع الحيوانات واصناف المعادن وانواع النباتات كَيْفَ سُطِحَتْ مهدت وبسطت ومع وضوح صدور أمثال هذه المقدورات العظيمة الشأن من الحكيم الحنان المنان ذي الطول والإحسان ينكرون قدرته سبحانه على المقدورات الاخر الاخروية فالعجب كل العجب ممن شهد وشاهد آثار القدرة الغالبة الإلهية في الأنفس والآفاق فتردد في المقدورات الاخروية وأنكر عليها ظلما وعدوانا وما ذلك الإنكار والإصرار الا من ظلمات الالف والعادات المترتبة على شياطين الأوهام والخيالات الباطلة الطارئة على اهل الغفلة والضلالة المسجونين في سجن الإمكان بأنواع الخيبة والخسران والا فظهور آثار القدرة الغالبة الإلهية أجل وأعلى من ان تتردد فيه الآراء وتنكر عليه الأهواء وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فما له من نور وبعد ما سمعت ما سمعت من مقتضيات القدرة الغالبة الإلهية
فَذَكِّرْ يا أكمل الرسل بالقرآن حسب ما أمرت به وألهمت إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ مبلغ فلا بأس عليك ان لم ينظروا ولم يعتبروا بل ما عليك الا البلاغ فلا تقصر في تبليغك إذ
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ مسلط ملزم مكره للقبول البتة
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى يعنى لكن من اعرض وبغى بعد تذكيرك وتبليغك وَكَفَرَ وطغى بما سمع منك واستهزأ معك وكذبك
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العزيز الحكيم المقتدر على وجوه الانتقام الْعَذابَ الْأَكْبَرَ الذي لا عذاب أعظم منه وأشد ألا وهو حرمانهم عن رتبة الخلافة وخلودهم في نار القطيعة بأنواع الخذلان والخسران وبالجملة بلغ يا أكمل الرسل جميع ما انزل إليك على كافة البرية ولا تبال باعراضهم وتكذيبهم
إِنَّ إِلَيْنا لا الى غيرنا من الوسائل والأسباب العادية إِيابَهُمْ ورجوعهم كما ان منا مبدأهم وصدورهم
ثُمَّ بعد ما رجعوا إلينا صاغرين إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ على أعمالهم التي صدرت عنهم في نشأة الاختبار جزيناهم احسن الجزاء ان كانوا من اصحاب اليمين وعذبناهم بأنواع العذاب والنكال ان كانوا من اصحاب الشمال. ربنا يسر حسابك علينا وادفع عذابك عنا انك أنت الرءوف الرحيم
خاتمة سورة الغاشية
عليك ايها المحمدي المتوجه نحو الحق الحقيق بالتوجه والرجوع ان ترجع الى الله قبل حلول الأجل المقدر للقيامة الصغرى والطامة الكبرى وتفوض أمورك كلها اليه سبحانه بالإرادة والرضا وتنتزع عن(2/506)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
لوازم ناسوتك بالمرة ولا تلتفت الى مزخرفات الدنيا بل الى مستلذات العقبى ايضا ان كنت من أهل الله المؤمنين بلقاء الله والوصول الى كنف جواره وبالجملة عليك ان تتصف بالموت الإرادي قبل حلول الأجل الاضطراري الطبيعي حتى تكون أنت عند ربك دائما وفي كنف حفظه وجواره مستمرا بلا انتظار منك الى الطامة الكبرى والى الحساب والجزاء ولا يتيسر لك هذا الا بتوفيق الله وجذب من جانبه فلك السعى والاجتهاد والله الملهم للرشاد والهادي الى سبيل السداد
[سورة الفجر]
فاتحة سورة الفجر
لا يخفى على من ترقى عن حضيض الغفلة وغور الغرور الى ذروة المعرفة وأوج السرور ان الترفع من مضيق الناسوت والترقي نحو فضاء اللاهوت انما يحصل بالجذبة الغالبة الإلهية المفنية للقوى البهيمية المانعة عن مقتضياتها الطبيعية مطلقا المعطلة للوهم والخيال عن التصرف في عالم المثال الرادعة للعقل الفطري المنشعب من حضرة العلم الإلهي المقتبس من مشكاة لوح القضاء عن متابعة القوى الداركة البشرية وآلاتها وكذا عن سفارة الحواس الظاهرة والباطنة له ومعاونة الواهمة والمتخيلة اللتين هما من جنود إبليس الامارة بالسوء ولا شك ان هذا الترقي انما يتيسر بعد الموت الإرادي وبعد التبدل عن مقتضيات الأوصاف البشرية وحصوله انما هو بالميل الفطري المترتب على الرابطة المعنوية والعلقة الحقيقية التى هي مناط التكاليف الإلهية المثمرة لانواع المعارف والحقائق اللدنية المنتشئة عن صفاء مشرب التوحيد لذلك اقسم سبحانه بمسالك ارباب السلوك المهاجرين عن عالم الناسوت نحو فضاء اللاهوت منبها اصحاب اليقظة المترددين في بادية الطلب الساعين فيها لوجدان الارب وابتدأ بفلق صبح الانجلاء اللاهوتى فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عباده ليخرجهم من ظلمات الطبيعة الى نور الحقيقة الرَّحْمنِ عليهم بوضع التكاليف الشاقة القالعة لعرق الالف والعادة الموروثة لهم من مقتضيات عالم الناسوت الرَّحِيمِ لهم يميتهم بالموت الإرادي عن لوازم بشريتهم الزائلة الاركانية ولواحق هوياتهم الباطلة الامكانية
[الآيات]
وَالْفَجْرِ اى بحق انفلاق صبح السعادة الازلية المتنفس بالانفاس الرحمانية المتلألئ من سماء العماء وأفق العالم الأعلى اللاهوتى
وَلَيالٍ عَشْرٍ اى بحق ليالي الحواس العشر المقبلة الى الأدبار والانمحاء عند انجلاء الفجر اللاهوتى وضياء صبح العماء الذاتي وطلوع الفجر الجبروتى
وَالشَّفْعِ اى بحق رفع شفع الملوين وتجدد الجديدين وارتفاعهما عن العين وانمحائهما من البين وَالْوَتْرِ اى بحق الوجود الوحدانى المطلق المنزه عن التعدد والتكثر مطلقا في ذاته
وَاللَّيْلِ اى بحق ليل العدم المظلم في ذاته المرأة للوجود المطلق الذي يتراءى منه عموم كمالاته إِذا يَسْرِ وذهبت ظلمته بامتداد اظلال الوجود وشروق شمس الذات عليه
هَلْ يحتاج فِي ذلِكَ اى في كل واحد واحد من المقسمات العظيمة الشأن قَسَمٌ ويمين يؤكدها لِذِي حِجْرٍ وعقل فطري خالص عن شوب الوهم والخيال خال عن مزاحمة مطلق الالف والعادات الحاصلة من سلاسل الرسوم وأغلال التقليدات الناشئة من ظلمات الطبيعة وبالجملة قد اقسم سبحانه بهذه المقسمات الرفيعة القدر والمكان انه سبحانه يعذب اصحاب الزيغ والضلال المقيدين بسلاسل الحرص وأغلال الآمال في الدنيا بشهوات الإمكان وفي الآخرة بدركات النيران يعنى كفار مكة خذلهم الله
أَاستبعدت أنت ايضا يا أكمل الرسل تعذيبنا إياهم وانتقامنا عنهم ولَمْ تَرَ اى لم تعلم ولم تجزم بالتواتر(2/507)
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
الموجب للجزم واليقين كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ يعنى كيف أهلك عادا
إِرَمَ اسم لبنائهم وبلدتهم ذاتِ الْعِمادِ اى الأساطين الطوال شديدة الأساس رفيعة السمك عريضة الجدار
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ ولم يوجد مِثْلُها اى مثل بنائهم وبلدتهم فِي الْبِلادِ في الاحكام والرفعة وانواع النزاهة واللطافة وهم قد كانوا اكثر الناس أعمارا واولادا وأموالا وأتمهم جاها وثروة بأضعاف هؤلاء المسرفين المفسدين فاهلكهم سبحانه واستأصلهم بالمرة بعد ما افرطوا في أطوارهم الخارجة عن حد الاعتدال
وَثَمُودَ يعنى كيف فعل ربك مع ثمود المردود ايضا ما فعل من الهلاك والإهلاك مع انهم هم البطرون المفرطون الَّذِينَ جابُوا قطعوا ونقبوا الصَّخْرَ اى صخور الجبال بِالْوادِ اى بواد القرى واتخذوا فيها بلادا حصينة منيعة من شدة قدرتهم وقوتهم ومع ذلك قد اهلكهم سبحانه
وَكيف فعل مع فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي ذِي الْأَوْتادِ اى ذي العسكر الكثير المشتمل على المضارب والخيام المشتملة على الأوتاد والاطناب وهؤلاء المذكورون هم
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ وقد استكبروا على ضعفاء العباد اتكالا واتكاء على ما عندهم من المال والجاه والثروة والسيادة
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ والإفساد
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ اى نوعا من العذاب كأنه يصب عليهم ويمطر كالماء من السحاب وهو كناية عن ترادف موجبات الهلاك وتتابعها وبالجملة قد اهلكهم الله جميعا باشد العذاب وأفظعه. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم منبها له على كمال قدرته على الانتقام من عصاة عباده
إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل على كمال المعرفة واليقين لَبِالْمِرْصادِ اى مراقب محافظ لطرق عباده يرقبهم سبحانه كيف يسلكون نحوه هل هم في سبيل الضلال والفساد او في طريق الهداية والرشاد مع ان الكل مجبولون على فطرة التوحيد لكن الحكمة الإلهية تقتضي الابتلاء والاختبار
فَأَمَّا الْإِنْسانُ المذبذب بين الإحسان والكفران إِذا مَا ابْتَلاهُ اختبره وجربه رَبُّهُ بالغنى واليسر فَأَكْرَمَهُ بالجاه والثروة وَنَعَّمَهُ بالأموال والأولاد فَيَقُولُ شكرا لما وصل اليه من النعم ومقتضيات الكرم رَبِّي أَكْرَمَنِ وتفضل على بما أعطاني من الخير والحسنى
وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ ربه بالفقر والعسر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وقصر على قدر كفايته وحاجته وقوت يومه بحيث لم يزد على مؤنة معاشه فَيَقُولُ مشتكيا الى الله باثا شكواه عنده سبحانه رَبِّي أَهانَنِ وأذلني حيث لم يعط لي ما اعطى وأنعم لفلان وفلان تفضلا وإحسانا مع ان الفقر خير له من الغنى إذ الفقر لو اقترن بالتسليم والرضا لأدى صاحبه الى جنة المأوى وملك لا يبلى والغناء لو لم يقترن بالشكر والانفاق والإحسان لأدى صاحبه الى دركات الجحيم واودية النيران. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا له عن هذا الاعتقاد بان الكرامة باليسرى والتوسعة والاهانة بالفقد والفقر بَلْ الكرامة بالإنفاق والإطعام لفقراء الله طلبا لمرضاته وأنتم ايها الأغنياء الممسكون لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ولا تتفقدونه بالنفقة والكسوة
وَلا تَحَاضُّونَ اى لا تأمرون غيركم ايضا عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ او إطعامه
وَمع ذلك الشح والبخل أنتم ايها الأغنياء تَأْكُلُونَ التُّراثَ اى ميراث الأيتام التي هي اخطر المحظورات وأخسها واخبثها أَكْلًا لَمًّا اى اكلا على سبيل الجمع بين سهامكم وسهام الأيتام بان تأخذوا وتخزنوا أموالهم لتحفظوا حالهم وتزيدوها لأجلهم فتأكلوا منها ومن نمائها دائما
وَما سبب ذلك الا انكم تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا كثيرا مع حرص(2/508)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
شديد وامل كامل ولا تطعمون الفقراء والمساكين خوفا من نفاده. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا لهم عما هم عليه من حب المال والخلط بين الحلال والحرام يعنى كيف تؤدون ايها البخلاء الممسكون حسابها وقت إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ اى كسرت واستوت فصارت دَكًّا دَكًّا وهباء منبثا
وَجاءَ يومئذ رَبُّكَ يا أكمل الرسل اى امره وظهرت طلائع هيبته وآثار قهره وجلاله وَصف الْمَلَكُ اى الملائكة الموكلون من عنده سبحانه المأمورون لتنقيد اعمال العباد والحساب والسؤال صَفًّا صَفًّا اى صفا بعد صف بما يؤمرون من قبل الحق
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ اى قد أحضرت وهيأت تهويلا على أصحابها وتفظيعا وبالجملة يَوْمَئِذٍ اى يوم القيامة التي ظهرت فيها هذه الآثار يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ المجبول على السهو والنسيان المبادر على الكفر والكفران معاصيه وقول من كان يمنعه ويزجره عنها وينذره منها فيتندم عليها ويتأسف وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى اى من أين ينفعه التذكر والذكر حينئذ والتندم والتلهف إذ نشأة التلافي والتدارك قد انقضت ومضت وبعد ما قد جزم الإنسان انه لا نفع يومئذ لتذكرة
يَقُولُ متمنيا على سبيل الحسرة والندامة يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ في نشأة الاعتبار والاختبار لِحَياتِي ونجاتي في هذا اليوم وبالجملة
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ اى لا يعذب احد من الزبانية إياه مثل ما عذبه هو نفسه بالحسرة والندامة وانواع الكربة والكآبة والحرمان والخذلان
وَلا يُوثِقُ ولا يحكم وَثاقَهُ ونكاله ايضا أَحَدٌ مثل ما أوثقه وأحكمه هو على نفسه بأنواع الخيبة والخسران واصناف القطيعة والحرمان إذ العذاب الروحاني الطارئ من الندامة والخذلان لا تقاس شدة تأثيره بسائر العذاب الجسماني. ثم أشار سبحانه الى حسن احوال ارباب العناية والكرامة يومئذ من المؤمنين الذين تزودوا في النشأة الاولى للأخرى واتصفوا بالتقوى ولم يعصوا في مدة اعمارهم للمولى ولم يتبعوا الهوى بل اطمأنوا ووطنوا نفوسهم بما جرى عليهم من مقتضيات القضاء وبالجملة لم يضطربوا مطلقا لا في السراء ولا في الضراء ولم يبالوا لا بالشدة ولا بالرخاء بل قد كان في دار الدنيا قرينهم الرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء لذلك يقال لهم من قبل الحق يومئذ على سبيل التبشير
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ويا اصحاب النفوس الزاكية والقلوب الصافية المتقررة المتمكنة في مقام التسليم والرضا
ارْجِعِي إِلى كنف رَبِّكِ واصعدي على الطريق الذي قد هبطت عنه راضِيَةً متصفة بالرضاء كما كنت راضية بالقضاء في النشأة الاولى مَرْضِيَّةً مقبولة مكرمة عند المولى وبعد ما قد رجعت على الوجه المذكور
فَادْخُلِي فِي زمرة عِبادِي الذين وصلوا الى كنف جواري وحصلوا في مقعد الصدق لدى
وَبالجملة ادْخُلِي جَنَّتِي اى جنة وحدتي واستريحى في خلدة لاهوتي. جعلنا الله ممن خوطب بهذا الخطاب المستطاب انه هو الملهم للصواب وعنده حسن المآب
خاتمة سورة الفجر
عليك ايها الموحد المترقب لهذا النداء والمحب المترصد لسماع هذا الصداء ان تكون في عموم أوقاتك على حضور مع ربك بحيث لا يشغلك عنه سبحانه الالتفات الى غيره مطلقا من الميل الى الدنيا وآمالها وأمانيها وعموم ما فيها بل لك ان تكون مطمئنا راضيا بعموم ما جرى عليك من(2/509)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
القضاء ومفوضا أمورك كلها اليه سبحانه على وجه التسليم والرضا متوجها بالعزيمة الخالصة نحو المولى حتى تكون مخاطبا بهذا الخطاب المستطاب في كل نفس من أنفاسك التي جرت عليك في عموم افعالك وحالاتك وبالجملة لا تغفل عن الله مطلقا تفز بتشريف أمثال هذه الخطابات العلية والكرامات السنية من الحق. جعلنا الله من زمرة المستيقظين المطمئنين بمنه وجوده
[سورة البلد]
فاتحة سورة البلد
لا يخفى على من وصل الى مقام القلب الذي هو عبارة عن البيت الحرام الحقيقي والكعبة المعنوية التي قد دحيت وبسطت من تحتها أراضي مطلق الاستعدادات وعموم القابليات وتوجهت نحوها زوار القوى والآلات من كل فج عميق ومرمى سحيق من بوادي الإمكان واودية الطبائع والأركان ان من وصل اليه وعكف حول بابه وتشرف بطوافه ووقف بين يدي الله ناويا الموت الإرادي محرما عن لوازم الطبيعة ومقتضيات الإمكان من ميقات الطلب والارادة الصادقة مغتسلا بزمزم التوبة والانابة تائبا عن الالتفات الى مطلق السوى والأغيار متجردا عن ثياب الغفلة وجلباب الاغترار ساعيا بين صفاء المحبة ومروة المودة الإلهية بكمال الشوق والذوق متوجها للوقوف الى عرفات اللاهوت متعريا عن عوارض عالم الناسوت ذابحا كبش نفسه تقربا الى الحي الذي لا يموت منخلعا عن جلباب البدن ولوازمه في منا الفناء معاملا مع الله في سوق البقاء طالبا لربح اللقاء حل له ان يقاتل عند الحرم الإلهي جنود الامارة وكفار القوى والآلات المانعة عن الوصول الى كعبة الذات وعن الوقوف عند عرفات الأسماء والصفات الى ان يغلب عليهم ويهلكهم ويصفى البيت العتيق الإلهي الذي هو عبارة عن قلب العارف الكامل عن أصنام مطلق الأحلام وأوثان عموم الأماني والآمال الحاصلة من الخيالات والأوهام لذلك رخص سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم القتال في حرم مكة شرفها الله مع ان الحرمة فيها مؤبدة فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي اختار لنفسه بيتا صوريا ليكون قبلة لأصحاب الصورة وبيتا معنويا ليكون وجهة لأرباب القلوب الصافية الرَّحْمنِ لعباده حيث يدعوهم الى كعبة المقصود الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى عرفات الوحدة وبيت معمور الوجود
[الآيات]
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ الذي هو كعبة آمال ارباب الارادة والطلب ألا وهو السواد الأعظم اللاهوتى إذ لا حاجة في ثبوته ووضوحه الى القسم بالنسبة الى ارباب المعرفة واليقين بل اقسم لأصحاب الغفلة والضلال بهذا البلد يعنى مكة شرفها الله التي قد وضعت بيتا حراما لا يحل لاحد ان يفعل فيها شيأ من المحظورات والمباحات سيما القتل والصيد
وَمن جملة خواصك التي قد اصطفيناك وميزناك بها عن سائر الناس يا أكمل الرسل هي انه أَنْتَ حِلٌّ يعنى أنت لجمعك وكمال جامعيتك وحيازة مرتبتك عموم المراتب مستحل للتعرض خاصة القتل والأسر في الحرم بين عموم الناس لمزيد فضيلتك ومنزلتك عند الله وزيادة خصوصيتك بِهذَا الْبَلَدِ الذي حرم على عموم العباد وانما أحل لك ايضا ما أحل في ساعة من نهار لا أزيد منها وبعد تلك الساعة يحرم لك ايضا
وَوالِدٍ اى اقسم ايضا بالوالد الذي هو عبارة عن حقيقة آدم الصفي عليه السلام حسب ثبوته في فضاء عالم اللاهوت وَما وَلَدَ منه في عالم اللاهوت وما ولد منه في عالم الطبيعة بعد هبوطها الى مضيق الناسوت وبالجملة بحق هذه المقسمات العظام
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ اى أظهرنا نشأة ناسوته مغمورا فِي كَبَدٍ تعب ومشقة كثيرة شاغلة لعموم حواسه ومداركه(2/510)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
بحيث يستوعب ويحيط بجميع القوى والآلات حوائج المعاش وأسبابه فاشتغل عن الله بسبب ذلك وترك امر معاده ايضا بواسطته فأخذ في كسب الأموال وجمع الحطام والآثام المبعدة عن الحكيم العلام فصار من غاية استغراقه بالدنيا قد نسى العقبى وزلت نعله عن طريق المولى لذلك كذب وتولى واستكبر واستولى واستظهر بأمواله وأولاده واستعلى وترقى امره في الغفلة والغرور الى ان طغى على الله وبغى على عباده وظن انه لا يغلب ولا يعلى عليه. كما قال سبحانه مقرعا عليه مسفها له مستفهما
أَيَحْسَبُ الإنسان المجبول على الكفران والنسيان أَنْ لَنْ يَقْدِرَ اى انه لن يستطيع عَلَيْهِ أَحَدٌ فينتقم منه او يأخذه على ما صدر عنه من العتو والعناد ومن كمال بطره وغروره ومفاخرته على بنى نوعه
يَقُولُ على سبيل الرعونة والخيلاء والسمعة والرياء قد أَهْلَكْتُ وأنفقت في سبيل الله مالًا لُبَداً مالا كثيرا ملبدا منضدا مجتمعا متراكما
أَيَحْسَبُ ويعتقد ذلك الأحمق المباهي أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ اى انه لم يعلم الله إنفاقه ونيته فيه واعتقاده عليه وإبطاله بالمن والأذى كيف يتأتى له انكار اطلاعنا عليه وعلى ما صدر عنه
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ ولم نظهر في جسده حين صورناه حسب حولنا وقوتنا وكمال قدرتنا عَيْنَيْنِ ليبصر بهما عجائب صنعتنا وغرائب حكمتنا
وَايضا ألم نجعل له لِساناً ليعرب ويترجم به عموم ما يدور في خلده وَشَفَتَيْنِ معينين على التكلم والاعراب على وجه الإفصاح والتوضيح
وَبالجملة قد هَدَيْناهُ بإعطاء هذه النعم العظام النَّجْدَيْنِ اى طريقي الخير والشر والهداية والضلالة واختبرناه بهما وابتليناه بانه أى طريق يختار لنفسه بعد ما وفقناه لكليهما ونبهناه عليهما وبعد ما أعطيناه ما أعطيناه وهديناه بما هديناه
فَلَا اقْتَحَمَ وما دخل الإنسان المجبول على الكفران والنسيان الْعَقَبَةَ الكؤدة الوعرة على نفسه الشاقة لها حتى يؤدى شكر ما أعطيناه ثم ابهمها سبحانه تعظيما وتفخيما فقال
وَما أَدْراكَ ايها المغرور بالحياة المستعارة الدنياوية ولوازمها مَا الْعَقَبَةُ الكؤدة في طريق اهل الايمان والعرفان ثم بينها بقوله
فَكُّ رَقَبَةٍ اى العقبة الكؤدة عبارة عن فك الرقبة المملوكة للنفس الامارة عن رقية الأماني والآمال الطوال
أَوْ العقبة الكؤدة إِطْعامٌ لفقراء الله وعجزة عباده فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ اى حاجة شديدة وجوع مفرط
يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ اى له رحم وقرابة الى المطعم
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ قد اسكنه الفقر واغبره في تراب المذلة والصغار
ثُمَّ بعد ما اقدم على اقتحام العقبة المذكورة قد كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأيقنوا ان ما في يدهم لله ومن مال الله وهم منفقون باقدار الله لعيال الله في سبيل الله وَمع ايمانهم بالله واتصافهم بالأعمال الصالحة المؤكدة لإيمانهم قد تَواصَوْا بينهم اى اوصى بعضهم بعضا بِالصَّبْرِ على مشاق التكاليف الإلهية ومتاعب الطاعات المأمور بها لهم وَكذلك تَواصَوْا بينهم بِالْمَرْحَمَةِ والشفقة على عباد الله وتعظيمهم والتحنن نحوهم والإحسان معهم ولو بكلمة طيبة وبالجملة
أُولئِكَ الموصوفون بهذه الكرامة العظمى أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ عند الله اى ذوو اليمن والكرامة وانواع اللطف وأعلى الدرجات والمقامات. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ اى ذوو الملامة والندامة المأخوذون بشؤم كفرهم ومعاصيهم المجزيون بفواسد ما اقترفوا من الجرائم والآثام لذلك
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة مكتوبة محفوفة بحيث لا يمكنهم التنفس فيها أصلا لكونهم(2/511)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
منهمكين في النشأة الاولى في لوازم الإمكان بحيث لا يمكنهم التنفس من لوازمها ومقتضاها أصلا. نعوذ بك من النار ومما قرب إليها يا غفار
خاتمة سورة البلد
عليك ايها المترقب للكرامة الإلهية والسعادة الابدية يسر الله لك طريق الوصول إليها ان تتصف بصوالح الأعمال وتجتنب عن فواسدها وتكتسب الأخلاق المرضية المقربة الى الله المبعدة عن شآمة اصحاب الزيغ والضلال المنهمكين في بحر الغفلة بأنواع الشهوات واللذات البهيمية والوهمية الفانية العائقة عن الوصول الى اللذات الروحانية الباقية وإياك إياك الاختلاط مع ارباب الثروة المفتخرين بالمال والجاه والمتصفين بالنخوة الحاصلة منهما فان صحبتك معهم تزل قدمك عن منهج التوكل وتميل قلبك عن الرضا والتسليم. ثبت أقدامنا على جادة توحيدك يا ذا القوة المتين
[سورة الشمس]
فاتحة سورة الشمس
لا يخفى على من انكشف بوحدة الوجود وسريان شمس الذات على صفائح ذوات المظاهر والمجالى الإلهية الفائتة للحصر والإحصاء ان انبساط الحق وظهور الوجود انما هو على مقتضى الجود الإلهي وحسب اقتضاء رقائق الأسماء الإلهية والصفات الكاملة المندرجة فيه للظهور والجلاء بمقتضى الحب الذاتي المنبعث من التجلي الجمالي المتجددة على شئون متنوعة واطوار شتى لذلك أقسم سبحانه بكليات الأطوار وابتدأ بظهور شمس الذات الاحدية التي هي ينبوع بحر الوجود فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المنزه عن الظهور والبطون بحسب ذاته الرَّحْمنِ بإظهار كمالات أسمائه وصفاته حسب بسطه الرَّحِيمِ باخفائها في وحدة ذاته حسب قبضته
[الآيات]
وَالشَّمْسِ اى بحق شمس الذات الاحدية المتلألئة المتجلية من سماء عالم العماء وافق فضاء اللاهوت وَبحق ضُحاها المنبسطة على مرآة العدم القابلة لانعكاسها
وَبحق الْقَمَرِ اى الوجود الإضافي الكلى المحيط على مطلق العكوس والاظلال المنعكسة من مرآة العدم التي هي عبارة عن سراب العالم عينا وشهادة إِذا تَلاها اى تبعها ولحقها اى شمس الذات في الاحاطة والشمول
وَالنَّهارِ اى بحق نشأة الظهور والبروز المنعكسة من عالم الأسماء والصفات إِذا جَلَّاها اى شمس الذات وفصلت آثار أسمائها وصفاتها الكامنة فيها على صفحات الكائنات
وَاللَّيْلِ اى نشأة البطون والخفأ المنعكسة عن عالم العماء وعن السواد الأعظم الذي قد اضمحلت دونه نقوش عموم الكثرات مطلقا وتلاشت آثار الأسماء والصفات جملة لكمال تشعشعها وبريقها ولمعانها المفرطة المسقطة للشعور والإدراك مطلقا ولهذا سمى مرتبة العماء بالسواد الأعظم
إِذا يَغْشاها حيث خفيت شمس الظهور من افراط النور ومن كمال تشعشعها ولمعانها في البريق والظهور
وَالسَّماءِ اى سماء الأسماء والصفات المزينة بنجوم الآثار والشئون الإلهية المتفرعة عليها وَما بَناها وأظهرها من التجليات الحبية الجمالية والجلالية
وَالْأَرْضِ اى استعدادات القوابل السفلية القابلة لانعكاس آثار العلويات وَما طَحاها ونشرها من الآثار المترتبة المتفرعة على الصفات الفعالة الإلهية
وَنَفْسٍ اى روح فائض من عالم الأسماء والصفات على هياكل المسميات المحسوسة وقوابل العلويات والسفليات المدركة ليستفيد كل منها بتذكر الموطن الأصلي والنشأة الجبلي وَما سَوَّاها اى عدلها(2/512)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
وركبها ممتزجة من الآثار العلوية والسفلية وبعد ما سواها وعدلها كذلك
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على مقتضى ما أودع فيها من الآثار العلوية والسفلية وخصص اللاهوت والناسوت ثم كلفها ليتميز المحق من المبطل والضال من الهادي والمؤمن من الكافر تتميما للحكمة المتقنة البالغة الإلهية وإظهارا للقدرة الكاملة. ثم قال سبحانه مجيبا لهذه المقسمات المذكورة على سبيل الكناية والتنبيه
قَدْ أَفْلَحَ وفاز عند الله بالدرجات العلية والمقامات السنية مَنْ زَكَّاها اى من طهر نفسه عن الرذائل السفلية ومقتضياتها الامكانية وأمانيها الدنية الدنياوية
وَقَدْ خابَ خسر وهلك مَنْ دَسَّاها ونقص عن كمالاتها واضلها عنها حيث حملها على اقتراف انواع المعاصي والآثام المترتبة على سفليات الطبائع والهيولى ورذائل الإمكان المورث لهم انواع الخيبة والخسران واصناف الحرمان والخذلان لذلك
كَذَّبَتْ ثَمُودُ المبالغ في إهلاك النفس وتضليلها وتغريرها بمن أرسل إليها وامر لإرشادها حين انحرفت عن جادة العدالة بِطَغْواها اى بسبب طغيانها وتغليبها حظوظ السفليات على حظوظ العلويات وبعدوان القوى الامارة على جنود المطمئنة وبانقهار نشآت اللاهوت بغلبة مقتضيات الناسوت وذلك انهم قد بالغوا في العتو والعناد والتكذيب والإفساد سيما وقت
إِذِ انْبَعَثَ اى قام واقدم مسرعا أَشْقاها اى أشقى القبيلة واردؤها واضلها عن طريق الحق وهو قدار بن سالف الى عقر الناقة المعهودة المخصوصة المحفوظة بالوصية الإلهية وبعد تصميم العزم اى العقر
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ باذن الله ووحيه وهو صالح عليه السلام على مقتضى شفقة النبوة ذروا ناقَةَ اللَّهِ واحذروا عن عقرها وَبالجملة لا تمسوها بسوء مطلقا فيأخذكم عذاب عظيم اى لا تعرضوا لها وذروا أيضا لها سُقْياها التي قد عينها الله حسب حكمته ومصلحته ولا تذبوها عن الماء والكلأ
فَكَذَّبُوهُ ولم يقبلوا قوله ونصحه واجتمعوا على عقرها فَعَقَرُوها فخرج الرسول من بينهم خوفا من حلول عذاب الله عليهم وسطوة قهره وجلاله وبعد ما ارتكبوا المنهي المحظور فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اى أطبق عليهم الصيحة الهائلة فاهلكهم بها بالمرة بِذَنْبِهِمْ الذي صدر عنهم وهو تكذيب الرسول المرشد لهم من قبل الحق فَسَوَّاها اى سوى البلاء على تلك القبيلة وأعمه عليهم وأشمله بحيث لا ينجو منهم احد وبالجملة قد اقدم العاقر اللعين على عقرها واتفقوا معه
وَلا يَخافُ لا هو ولا هم عُقْباها اى ما يعقب عقرها ويتبعه وما يترتب عليه من انواع البلاء والمصيبة والعناء مع ان الرسول قد أخبرهم بها وحذرهم عنها فكذبوه واستهزؤا به لذلك لحقهم ما لحقهم بشؤم أعمالهم الفاسدة. نعوذ بك يا ذا اللطف والجلال من سيئات الأعمال وتشتت الأحوال وتفاقم الأهوال
خاتمة سورة الشمس
عليك ايها الطالب للفلاح الأبدي والصلاح السرمدي المترتب على العناية الإلهية وفضله ان تصفى نفسك عن مقتضيات الإمكان وظلمات الهيولى والأركان حتى تأمن أنت عن طغيانها وعدوانها فعليك ان تحليها بالمعارف والحقائق الإلهية ومحاسن الشيم والأعمال والأخلاق المرضية الموجبة لفيضان لوامع الكشف والشهود المخلص عن مطلق القيود المنافية لصرافة اطلاق الوحدة الذاتية المسقطة لعموم الكثرات المتفرعة على مطلق الإضافات الطارئة على التعينات العدمية. وفقنا الله لتخلية النفس عن مطلق الرذائل وتحليتها بمحاسن الشيم والخصائل(2/513)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
[سورة الليل]
فاتحة سورة الليل
لا يخفى على المنكشفين بنشآت الحق وشئونه الغيبية والشهادية ان تنزلات الحق عن مكمن العماء اللاهوتى نحو فضاء الناسوت على اطوار متفاوتة وشئون شتى حسب اقتضاء رقائق أسمائه الذاتية المقتضية للظهور والجلاء لذلك اقسم سبحانه بنشأتى الغيب والشهادة وبما امتزج منهما واجتمع واختلط في البرزخ الجامع الإنساني المحتوى على نشأتى الغيب والشهادة المتفرعة عليهما التكاليف الإلهية فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى على عموم شئونه المترتبة على أسمائه الغير المحصورة الرَّحْمنِ لجميع مظاهره حيث يطلعها على ذاته ليتوجه الكل نحوه طوعا الرَّحِيمِ لنوع الإنسان حيث نبه عليه سر سريان وحدته الذاتية على صحائف الكثرات المرئية الموهوبة ليتصف بالخلافة والنيابة الإلهية ويتحلى بحلل التفضيل والتكريم
[الآيات]
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى اى بحق الهوية الغيبية الإلهية المتمكنة في مكمن العماء الذاتي المغشى لنقوش الكثرات الموهوبة المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية المنعكسة منها من شدة بريقها ولمعانها
وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى اى وبحق الهوية الشهادية الإلهية في عالم البروز والجلاء المظهرة لآثار الأسماء والصفات إظهارا للحكمة البالغة التي هي ترتب الايمان والعرفان على تلك الآثار
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى اى وبحق القادر الحكيم العليم الذي قدر وصور برزخ الإنسان المصور على صورة الرحمن الجامع لمراتب عموم الأكوان حيث ركبه وأودع فيه من الحصص اللاهوتية الغيبية والناسوتية الشهادية ثم كلفه بالتكاليف الشاقة ليترقى من حضيض الناسوت الى ذروة اللاهوت لذلك استخلفه واصطفاه وانتخبه من عموم مظاهره وهداه ليترتب على مرتبته هذه المصلحة العلية الحاصلة السنية وانما خلقه زوجا ليدوم ولا يبيد في نشأة الشهادة وجود المرتبة التي هي الغاية القصوى من نشأة الشهادة.
ثم قال سبحانه مجيبا للقسم مخاطبا لافراد الإنسان تربية لهم وتنبيها على مقاصدهم ومصالحهم
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى مختلف متفاوت حسب تفاوت ما أودع ربكم فيكم من الحصص المذكورة
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى منكم للفقراء الفاقدين وجه الكفاف مما ساق له الحق من الرزق الصوري والمعنوي مقارنا للخشوع والخضوع وخلوص النية وصدق العزيمة واتى بأنواع الطاعات والعبادات المأمور بها وَاتَّقى واجتنب عن مطلق المحارم والمنهيات التي قد وردت الزواجر الإلهية فيها
وَمع ذلك قد صَدَّقَ بِالْحُسْنى اى صدق بعموم مقتضيات الأسماء الحسنى الإلهية وبجميع آثار صفاته العليا التي لا تعد ولا تحصى
فَسَنُيَسِّرُهُ نعده ونوفقه لِلْيُسْرى اى للطريقة السهلة السمحة الموصلة الى مقصد الوحدة والمعرفة المنجية عن غياهب الشكوك وظلمات الأوهام
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ ولم ينفق على مقتضى ما امره الحق وَاسْتَغْنى بلذات الدنيا الدنية عن اللذات الاخروية
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى بعموم مقتضيات الأسماء
فَسَنُيَسِّرُهُ نبتليه ونستعده لِلْعُسْرى اى للطريقة العسرة الوعرة التي هي طريق الكفر والمعصية المؤدية الى اودية الشهوات المستلزمة لدركات النيران
وَبعد ما نأخذه في النشأة الاخرى بسبب بخله وكفره ما يُغْنِي وما يكف ويدفع عَنْهُ مالُهُ شيأ من غضبنا عليه إِذا تَرَدَّى اى وقت إذ هوى وهلك في قعر جهنم الإمكان وسعير نيران الخيبة والخذلان. ثم قال سبحانه تعريضا للمفرطين المسرفين
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى يعنى ما علينا من إصلاحكم الا الهداية والإرشاد فهديناكم ولم تهتدوا(2/514)
وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى يعنى ما لنا الا التبيين والتنبيه بان الآخرة خير من الاولى فبينا لكم طريق المعاش في النشأة الاولى وطريق التزود والتهيئة للأخرى فلم تقبلوا منا ولم تمتثلوا لما بينا مع انا قد أكدنا هدايتكم وإرشادكم بأنواع الإنذار والتبليغ
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى تتوقد وتتلهب من شدة سورتها وبينا لكم ايضا انها
لا يَصْلاها ولا يدخل فيها إِلَّا الْأَشْقَى
الَّذِي كَذَّبَ بالكتب الإلهية وما فيها من الحكم والاحكام وَتَوَلَّى اعرض عن الرسل وانصرف عن دعوتهم ومع ذلك لم تقبلوا منا عموم ما أنزلنا وبينا
وَكذا قد بينا لكم ايها المكلفون انها سَيُجَنَّبُهَا اى يبعد ويخلص عن عذاب النار المسعرة في دركات الجحيم الْأَتْقَى عن المحارم والمحظورات الشرعية مطلقا
الَّذِي يُؤْتِي يعنى ومع ذلك التقوى يتصدق ويعطى مالَهُ في سبيل الله طلبا لمرضاة الله على فقراء الله يَتَزَكَّى ويتطهر عن التلطخ بقاذورات الدنيا الدنية مطلقا بحيث لم يبق في قلبه سوى التوجه الى المولى حتى وصل الى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ومع وجود هذه المبالغات البليغة لم تتنبهوا ولم تتفطنوا
وَبالجملة ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يعنى ما يصح وما ينبغي ويليق لاحد ان يتصدق بماله على طمع الجزاء والعوض والمكافاة بل اللائق بحاله ان لا يعطى لمن يعطى
إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى يعنى طلبا للقاء الله في يوم الجزاء لا لأجل الجزاء والثناء الدنيوي ولا للثواب والعطاء الأخروي ايضا بل رجاء ان يلقى ربه الرحيم ويطالع وجهه الكريم
وَلَسَوْفَ يَرْضى المعطى المذكور عن الله بفوز شرف اللقاء وبكرامة كشف الغطاء. اللهم ارزقنا لقاءك يوم نلقاك
خاتمة سورة الليل
عليك ايها الطالب لرضاء الله والراجي مطالعة جمال الله وجلاله ان تحسن الأدب مع الله في عموم احوالك في النشأة الاولى وتزكى نفسك عن مطلق الأماني والآمال الشاغلة عن التوجه نحوه فعليك بالتبتل والاجتهاد على وجه الإخلاص وطلب التوفيق من الله ليهديك الى سبيل الرشاد وإياك إياك ان تلتفت الى مزخرفات الدنيا الدنية فإنها تلهيك عن الدرجات العلية الاخروية الوجوبية وتغريك الى الدركات الهوية الجهنمية الامكانية فلك ان تطرحها كلها حتى تتخلص عن رذائلها وتنفرج عنك غوائلها. جعلنا الله ممن تنفر عن الدنيا وما فيها وترك عموم آمالها وأمانيها بمنه وجوده
[سورة الضحى]
فاتحة سورة الضحى
لا يخفى على من دخل تحت قباب العز الإلهي وفنى في هويته وتلاشى في ذاته وغرق في بحر وحدته واضمحل في فضاء صمديته ان عموم احوال العباد وأحلامهم وأطوارهم بعد تجردهم عن لوازم ناسوتهم واتصافهم بأوصاف اللاهوت قد صارت راجعة الى الله مستندة اليه صادرة منه سبحانه اصالة وهم حينئذ في كنف حفظه وحضانته يرقبهم حيث شاء بمقتضى حكمته المتقنة ومصلحته المستحكمة ولا شك ان أفضل من تخلق بأخلاق الله وخير من دخل تحت حيطة حضانته سبحانه وتمكن في مقعد صدق سواد أعظم اللاهوت هو نبينا صلوات الله عليه وسلامه لذلك خاطبه سبحانه خطاب ملاطفة وتكريم وسلاه عما أورده المشركون في شأنه من انه قد قلاه ربه وودعه وبالغ سبحانه في تسليته صلى الله عليه وسلم حيث أقسم بما أقسم بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ(2/515)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
الذي ظهر على حبيبه صلى الله عليه وسلم حتى أخرجه عن مضيق الناسوت مهاجرا الى فضاء اللاهوت الرَّحْمنِ لعموم عباده حيث أرسل إليهم حبيبه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين الرَّحِيمِ لخواصهم يرشدهم بمتابعته الى روضة الرضاء وجنة التسليم
[الآيات]
وَالضُّحى اى بحق شروق شمس الذات الصمدية عند ضحى بعثة الحضرة الختمية الخاتمية الأحمدية
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى اى وبحق الانجلاء والانكشاف التام المنعكس من عالم العماء اللاهوتى المسمى بالليل السرمدي المغشى لمطلق الأضواء والأنوار المتفاوتة المدركة المرئية في نشأتى الغيب والشهادة المقتبسة من الأسماء والصفات المستتبعة للاضافات المتكثرة في عالم التفصيل
ما وَدَّعَكَ ما انقطع قطع المودع عنك رَبُّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل على عينه واصطفاك لنفسه وَما قَلى اى ما أبغضك ربك وما أسخطك يعنى لا تحزن من قول المشركين وزعمهم في حقك يا أكمل الرسل قد ودعك ربك وقلاك ربك في النشأة الاولى بل راعاك في أولاك ولاقاك في أخراك
وَلَلْآخِرَةُ التي هي حصة جبروتك ونشأة لاهوتك خَيْرٌ لَكَ وانفع بك مِنَ نشأتك الْأُولى التي هي حصة ملكك في نشأة ناسوتك وكيف لا تكون نشأتك الآخرة خيرا من نشأة الدنيا إذ هي باقية ببقاء الله دائمة بدوامه وهذه محدثة فانية بل هي باطلة زاهقة زائلة بزهوق التعينات وبطلان الأوضاع والإضافات التي هي حاصلة منها
وَبالجملة لا تحزن ايها النبي المستوي على جادة العدالة اللاهوتية من هذيانات اهل الكفر والضلال لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ بعد تجردك عن ملابس ناسوتك وملاحف بشريتك من اللذات اللاهوتية التي لا يدرك كنهها الا من اتصف بها وذاق منها فَتَرْضى أنت حينئذ من ربك ويرضى ربك عنك ايضا وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت من مواعيد ربك تذكر كرمه معك فيما مضى وترقب بكراماته التي ستأتيك وبالجملة لا تيأس من روح الله ورحمته وكيف تيأس وتقنط أنت ايها النبي المغمور المستغرق في بحار لطفه وجوده عن كرم مربيك الكريم
أَلَمْ يَجِدْكَ حين بروزك وتربيتك يَتِيماً متفقدا حالك حين كونك بلا رشد ولا مرشد فَآوى اى قد ضمك سبحانه نحو كنف حفظه وحضانته تحننا وإشفاقا وجذبك عنك اليه وقرن اسمك باسمه
وَوَجَدَكَ ايضا ضَالًّا خاليا عن الحكم والاحكام مطلقا محفوفا بلوازم الإمكان كما هو حال الأقران والاخوان فَهَدى اى هداك وأرشدك الى الإسلام وأوصلك الى زلال التوحيد والعرفان
وَوَجَدَكَ ايضا عائِلًا فقيرا حسب إمكانك ومقتضيات بشريتك الموروثة لك من نشأة ناسوتك فَأَغْنى اى قد أغناك بغنائه الذاتي بعد ما افناك في ذاته وشرفك بحلل لاهوتك بعد ما اخرجك عن ملابس ناسوتك بالمرة وبعد ما وجدك ربك يا أكمل الرسل يتيما فآواك وصادفك ضالا فهداك ولاقاك فقيرا فأغناك وبالجملة قد كرمك واصطفاك وعظمك واجتباك تذكر عموم ما اعطاك ربك وأولاك وتخلق بأخلاق مولاك
فَأَمَّا الْيَتِيمَ الفاقد للرشد والمرشد متى يأوى إليك للرعاية والاسترشاد فَلا تَقْهَرْ اى لا تردعه ولا تزجره وتكلم معه حسب استعداده وبقدر قابليته الى حيث توصله وترشده الى طريق الطلب والارادة
وَأَمَّا السَّائِلَ الذي يسألك من مكنونات ضميرك ومن السرائر المودعة فيك من بدائع الودائع اللاهوتية فَلا تَنْهَرْ اى لا تمنعه ولا تخيبه بل احسن اليه كما احسن الله إليك حسب استفاضته واستعداده
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وهدايته وإرشاده فَحَدِّثْ يا أكمل الرسل مع عموم المسترشدين المستكملين فان حديثك عن سرائر(2/516)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)
الدين واسرار المعرفة واليقين مع المؤمنين المسترشدين والظالمين المستوجبين شكر منك لنعم الله وأداء لحقوق كرمه واستجلاب لمزيد نعمه وفضله
خاتمة سورة الضحى
عليك ايها المحمدي الملازم لتعديد نعم الحق على نفسك ان تداوم وتواظب على أداء حقوق ما وصل إليك من نعمه العظام وكرمه الجسام فلك ان تحدث في عموم أوقاتك وحالاتك عن كرم مولاك وتشكره على ما أولاك واعطاك من الآلاء والنعماء في أولاك وعدلك في أخراك وبالجملة كن في نفسك من الراجين الشاكرين لنعم الحق ومن المحدثين بحقوق كرمه ولا تكن من القانطين الغافلين في حال من الأحوال وسبح بحمد ربك بالغدو والآصال
[سورة الانشراح]
فاتحة سورة الانشراح
لا يخفى على من شرح الله صدره للإسلام ووسع قلبه لقبول عموم الحكم والاحكام بحيث قد وسع الحق فيه مع عموم شئونه وتطوراته الغير المتناهية المترتبة على أسمائه وصفاته ان تفسيح الصدر وتوسيعه انما هو من علامات العناية الإلهية لخلص عباده إذ مقام الخلة والخلافة انما يترتب على هذا الشرح والتوسيع وهو من أعظم الفتوحات الإلهية وأجل الفيوضات الربانية لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم في مقام الامتنان به وعاتبه عليه تنبيها على جلالة شأنه ورفعة مكانه عند الله فقال متيمنا باسمه مستفهما على سبيل التأكيد والتقرير بِسْمِ اللَّهِ الذي شرح صدور عباده لقبول سرائر المعرفة واليقين الرَّحْمنِ عليهم برفع الأوزار والأثقال المانعة عن القبول عنهم بعد هداهم الى الصراط المستبين الرَّحِيمِ لهم يعليهم ويرفع ذكرهم بعد ما أخرجهم عن مقتضيات بشريتهم الى أعلى عليين
[الآيات]
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ يا أكمل الرسل ولم نجعل ممن اجتبيناه للخلافة واصطفيناه للنيابة والرسالة ولم نفتح ونوسع خلدك لقبول الآيات الواردة عليك من لدنا وللامتثال لمقتضى الاحكام الموردة من عندنا تفضلا منا إليك وامتنانا عليك مع كونك اميا عاريا خاليا عنها وعن ما يترتب عليها بالكلية وبعد ما قد شرحنا صدرك لشعائر الإسلام ووسعناه لقبول معالم الدين ومراسم التوحيد واليقين قد اخترناك للرسالة والتبليغ الى عموم الأنام
وَوَضَعْنا اى قد أزلنا عَنْكَ بعد ما اخترناك للرسالة وأوحينا إليك وِزْرَكَ اى ثقلك الطارئ عليك من أجل أعباء الرسالة وأداء التبليغ
الَّذِي من غاية شدته وثقله قد أَنْقَضَ أثقل واتعب ظَهْرَكَ لأنك أمي ذاهل عن مطلق الاحكام المأمور بها لذلك ثقل واشتد وضاق عليك الأمر
وَبعد ما وفقناك على تبليغ الرسالة وأيدناك بالآيات الموردة المنزلة في موارد الاحكام من لدنا قد رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ حيث قرننا اسمك باسمنا وخلفناك عنا واخترناك لخلافتنا ونيابتنا لذلك قد أنزلنا في شأنك من يطع الرسول فقد أطاع الله وان الذين يبايعونك انما يبايعون الله الى غير ذلك من الآيات وأى رفعة وكرامة أعلى وأعظم من ذلك وبعد ما كرمناك بأمثال هذه الكرامات العلية لا تيأس من سعة رحمتنا وروحنا واعانتنا إياك وإغاثتنا لك ولا تحزن على أذى قومك واستهزائهم بك وتطاول معاداتهم وعنادهم معك
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ الذي قد عرض عليك ولحق بك من قبلهم أحيانا يُسْراً ناشئا من قبل الحق مقابلا له وأصلا(2/517)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
إليك من حيث لا تحتسب. ثم كرر سبحانه مبالغة وتأكيدا
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ الذي ألم بك الآن من قبل أعدائك يُسْراً ناشئا منا مترقبا من عموم الجهات كيف ما اتفق وفي تعريف العسر أولا وإعادته ايضا معرفة وتنكير اليسر أولا وإعادته نكرة ايضا اشعار بقلة طرق العسر وأسبابه وكثرة طرق اليسر وموجباته يعنى لا تيأس من العسر الطارئ عليك أحيانا معهودة معدودة عن يسر ملازم لك في اكثر الأوقات وأغلبها بل مصاحب معك في جميع حالاتك وبعد ما قد امرناك يا أكمل الرسل بتبليغ الرسالة وأرسلناك لنشرها فلك ان تمتثل بالمأمور به على مقتضى الوحى والإلهام
فَإِذا فَرَغْتَ عن الدعوة والتبليغ على مقتضى منصب الرسالة ومرتبة النبوة فَانْصَبْ نفسك وأتعبها بالمجاهدات والرياضات القالعة لعرق لوازم الإمكان عن أصلها على مقتضى رتبة الولاية
وَبالجملة إِلى رَبِّكَ لا الى غيره من وسائل المظاهر واسبابها فَارْغَبْ في خلواتك وفي خلال سؤلك وصلواتك وفي عموم أوقاتك وحالاتك بلا رؤية الوسائل في البين والوسائط في العين
خاتمة سورة الانشراح
عليك ايها الطالب الراغب الى الله القاصد المعكوف حول بابه ان تفرغ بالك عن مطلق الأماني والآمال وعموم الاشغال المانعة عن الوصول الى فنائه سبحانه وترغب عن الدنيا وما فيها وتتوجه نحو الحق من طريق الفناء فيه وتطرح لوازم الحياة المستعارة ومقتضيات القوى والهوى عن هويتك بالكلية حتى تصل الى مرتبة الموت الإرادي المستلزم للبقاء الأبدي الأزلي السرمدي. جعلنا الله من زمرة ارباب الرغبة الى المولى وعن الدنيا بمنه وجوده
[سورة التين]
فاتحة سورة التين
لا يخفى على من انكشف عنده رفعة رتبة الإنسان ووضح لديه علو شأنه وسمو برهانه ان من انحط عن الرتبة الانسانية التي هي عبارة عن الخلافة الإلهية وسقط عنها الى مهاوي الإمكان واغوار الطبائع والأركان فقد لحق بأنزل المراتب وادنى المنازل لذا عبر سبحانه عنه بأسفل السافلين واقسم سبحانه بمعظمات مظاهره لإثبات لحوق الإنسان بأسفل دركات النيران بعد ما انحط عن أعلى غرفات الجنان فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي خلق الإنسان في احسن تقويم الرَّحْمنِ عليه بأنواع التعظيم والتكريم الرَّحِيمِ عليه يوصله الى روضات النعيم
[الآيات]
وَبحق التِّينِ وَالزَّيْتُونِ هما جبلان في الأرض المقدسة يكثر فيهما كلتا الفاكهتين
وَبحق طُورِ سِينِينَ اى الجبل الذي قد ناجى عليه مع ربه موسى الكليم
وَلا سيما بحق هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعنى مكة شرفها الله سماها أمينا لان من دخله مؤمنا محتسبا كان آمنا من العذاب الأليم وبالجملة بحق هذه المقسمات العظام
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ اى جنسه فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وأقوم تعديل إذ لا مظهر اعدل منه وأقوم بحسب الظاهر والباطن لذلك اصطفيناه لخلافتنا من بين خليقتنا واجتبيناه لرسالتنا الى عموم بريتنا
ثُمَّ بعد ما تعلقت ارادتنا لرداءة فعله رَدَدْناهُ وحططناه من تلك المرتبة العلية والدرجة السنية أَسْفَلَ سافِلِينَ ألا وهي مقتضيات الإمكان المستلزم لدركات النيران وسلاسل أمانيها وأغلال آمالها الطوال
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق(2/518)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المخلصة لهم عن قيود الإمكان المقربة لهم الى فضاء الوجوب فَلَهُمْ بعد ما وصلوا الى عالم اللاهوت أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ اى نعم لا تنقطع ولا يمن بها عليهم أصلا وبعد ما نبه سبحانه على ما نبه بأبلغ وجه وآكده حث عموم الإنسان على الايمان ورغبهم الى طريق اليقين والعرفان فقال على وجه التقريع والتوبيخ
فَما يُكَذِّبُكَ اى يحملك على الكفر والطغيان والتكذيب والكفران ايها الإنسان المجبول على فطرة التوحيد والعرفان بَعْدُ اى بعد ما قد ظهر الحق ولاحت دلائل التصديق وامارات اليقين بِالدِّينِ والسبيل المستقيم
أَلَيْسَ اللَّهُ القادر المقتدر على أمثال هذا الرد والخلق بالإرادة والاختيار بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ على كل ما شاء وأراد سواء كان بدأ او اعادة فله ان يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عن فعله انه حكيم مجيد
خاتمة سورة التين
عليك ايها المحمدي الطالب للتقرر والثبوت على جادة التوحيد التي هي احسن تقويم للإنسان واعدل طريقة له ان تتأمل في هذه السورة حق التأمل وتدخر لنفسك من فوائدها ما هواهم فعليك بالتوجه الى الله والإتيان بصوالح الأعمال والاجتناب عن فواسدها وإياك إياك ان تتلطخ بقاذورات الدنيا الدنية وتنغمس بامانيها فإنها ترديك وتردك الى ادنى مراتب الإمكان الجالب لاسفل دركات النيران وتغويك فيها بأنواع الخيبة والخذلان
[سورة العلق]
فاتحة سورة العلق
لا يخفى على من أيقظه الحق عن منام الغفلة ووفقه للخروج عن اقطار عالم الإمكان نحو فضاء الوجوب ان علامة العناية الإلهية وامارة كرامته على الموفقين من لدنه المنجذبين نحوه ان يذكرهم ويلقنهم أولا تعديد أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى ويلزمهم المواظبة عليها الى ان ينبع ينبوع الحكمة اللدنية المودعة في قلبه المترشحة من بحر الذات الاحدية ثم يظهر على لسانه وصار حينئذ على ذكر من ربه متمكنا في مرتبة اليقين العلمي ثم يترقى منها الى ان يصير علمه عيانا ثم يصير عيانه حقا وبيانا لذلك امر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم أولا بالقراءة والتذكير بأسمائه وصفاته بعد ما أراد سبحانه تربيته وتكريمه فقال سبحانه بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي دبر امر الإنسان بأحسن تدبير الرَّحْمنِ عليه حيث صوره بأحسن تصوير الرَّحِيمِ عليه حيث هداه الى خير منقلب ومصير
[الآيات]
اقْرَأْ يا أكمل الرسل وتذكر بعد ما أدركتك العناية الحقية وحطت عليك الكرامة الإلهية بِاسْمِ رَبِّكَ اى داوم على تذكر عموم اسماء مربيك الَّذِي خَلَقَ كل شيء وأظهره من كتم العدم حسب أسمائه وصفاته ورباه بأنواع اللطف والكرم وأباح عليه من جلائل النعم سيما
خَلَقَ الْإِنْسانَ وخصه من عموم الأكوان بمزيد الانعام والإحسان مع انه قد خلقه وقدر وجوده مِنْ عَلَقٍ دم معلوق مستنزل مكون من منى مرزول مكون من الدم المسفوح المتكون من أجزاء الاغذية وبعد ما امر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بالقراءة وتعديد الأسماء وإحصائها أولا امره بالقراءة ايضا ثانيا للتأمل والتدبر في معانيها والاستكشاف عن فحاويها بمرموزاتها المطوية في مطاوى ألفاظها وعباراتها فقال
اقْرَأْ قراءة تدبر وتعمق واستكشاف(2/519)
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
لما في مطاويها من البدائع والغرائب المودوعة فيها ولا تنظر الى كونك اميا لست من اهل الإملاء وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الأكمل في الكرامة والهداية لأرباب العناية
الَّذِي عَلَّمَ الخط والرقم بِالْقَلَمِ الذي هو بمراحل عن التكلم والتفهم ولا تستبعد من كمال كرامته وعنايته تعليمك يا أكمل الرسل إذ هو سبحانه
عَلَّمَ الْإِنْسانَ المصور على صورة الرحمن عموم ما لَمْ يَعْلَمْ من البيان والتبيان وانواع طرق الكشف والعيان فأنت يا أكمل الرسل من أعز افراد الإنسان شأنا وأعلاه شرفا وبرهانا وارفعه قدرا ومكانا. وبعد ما أشار سبحانه الى مبدأ الإنسان ومادته والى منتهاه وغايته تعجب سبحانه من حاله واستبعد ما صدر عنه من الكفران والطغيان والبغي والعدوان مع كمال عناية الله به ووفور كرامته له فقال على سبيل الردع والزجر
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ المستحدث من الأقذار المهانة المترقى الى غاية الكرامة وأعلى المقام حسب فضلنا وجودنا لَيَطْغى ويتجاوز عن حده ويستكبر على ربه وينسى اصل منشئه لأجل
أَنْ رَآهُ وعلم نفسه انه اسْتَغْنى اى قد صار غنيا عن الله مستغنيا عن الافتقار اليه مستكبرا على عباده يمشى على وجه الأرض خيلاء بما عنده من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية وكيف يتأتى لك الطغيان والاستكبار ايها المسترزل المهان المستحدث من الماء المهين
إِنَّ إِلى رَبِّكَ
الذي أظهرك من كتم العدم وأحدثك من الأمشاج المرذولة الرُّجْعى
اى الرجوع المعهود الموعود في النشأة الاخرى فسيجزيك ربك بجميع ما صدر عنك بعد ما حاسبك عليه حسب العدالة والإنصاف. ثم نص سبحانه على ذكر بعض الطاغين المستغنين المستكبرين بما عنده من الجاه والثروة وهو ابو جهل اللعين فقال
أَرَأَيْتَ ايها المعتبر الرائي الطاغي الباغي الَّذِي يَنْهى اى يمنع ويكف
عَبْداً كاملا في العبودية يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم إِذا صَلَّى وتوجه نحو ربه بجميع أعضائه وجوارحه وأراد ان يصرفه عنها ويعوق عليه وذلك ان أبا جهل لعنه الله قال لو رأيت محمدا ساجدا لأطأن عنقه فرآه ساجدا فجاءه ليطأه ثم نكص واستدبر فقيل له ما لك فقال ان بيني وبينه لخندقا مملوا من النار وهولا واجنحة. ثم خاطب سبحانه هذا الطاغي الناهي خطاب تهديد وتقريع
أَرَأَيْتَ اى أخبرني ايها المفسد المتناهي في البغي والعناد إِنْ كانَ العبد المصلى نحو الحق تابعا عَلَى الْهُدى والرشد
أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى والاجتناب عن مقتضيات الهوى لتنهاه أنت ايها الطاغي عن فعله هذا وتمنعه عن رشاده وإرشاده البتة
أَرَأَيْتَ أخبرني ايضا انك قد نهيته عن الصلاة إِنْ كَذَّبَ على الله وَتَوَلَّى اى اعرض عن مقتضيات أوامره سبحانه ونواهيه وبالجملة نهيته ايها الناهي المتناهي في العتو والعناد عن الصلاة مطلقا سواء كان على الهدى آمرا بالتقوى متجنبا عن الهوى او مكذبا على المولى معرضا عما جرى عليه من القضاء مستنكفا عن مطلق الأوامر والنواهي والاحكام المأمور بها الموردة في الكتب السماوية يعنى ليس سبب نهيك الا العصبية والعناد سواء كان محقا في فعله او مبطلا. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع لهذا المكابر الناهي
أَلَمْ يَعْلَمْ ذلك الناهي المباهي المتناهي في الكبر والخيلاء بِأَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام يَرى يعلم ويشهد جميع ما صدر عنه من المجادلة والمراء فيجازيه بمقتضى علمه وخبرته. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا للناهى عما عليه من المكابرة والعناد لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الناهي المباهي المتناهي فيما عليه من المكابرة والعناد لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ اى لنأخذن البتة بناصيته ونسحبنه مكبا على وجهه نحو النار المعدة لتعذيب الكفرة الفجار المبالغين في الكفر والكفران(2/520)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
على وجه الإصرار والاغترار وأى ناصية
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ اى كاذب خاطئ صاحبها متناه في الطغيان والعدوان وصف الناصية بها للمبالغة والتأكيد وبعد ما نسحبه كذلك ونأخذه على ظلمه هكذا
فَلْيَدْعُ وليناد حينئذ نادِيَهُ اهل مجلسه وأعوانه صارخا عليهم مستعينا منهم مستغيثا بهم حتى ينصروه وينقذوه من العذاب النازل عليه بمقتضى القهر الشامل مع انا ايضا
سَنَدْعُ ونأمر يومئذ الزَّبانِيَةَ الشرطة الموكلين على جهنم ليجروه نحو النار على وجه الهوان والصغار ثم كرر سبحانه قوله
كَلَّا تأكيدا لردعه وتشديدا عليه ثم نهى سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم عن اطاعة ذلك الباغي والإصغاء الى قوله والمؤانسة معه والالتفات اليه بقوله لا تُطِعْهُ اى دم يا أكمل الرسل على صلاتك واثبت عليها ولا تلتفت الى هذياناته الباطلة وَاسْجُدْ لربك على وجه الخضوع والخشوع وَاقْتَرِبْ اليه وتقرب نحوه باطراح لوازم ناسوتك مكبرا إياه محرما على نفسك عموم حظوظك من دنياك مسقطا عنك مقتضيات بشريتك ولواحق مادتك مطلقا وفي الحديث صلوات الله وسلامه على قائله اقرب ما يكون العبد الى ربه إذا سجد وبالجملة سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
خاتمة سورة العلق
عليك ايها الطالب للتقرب نحو الحق والوصول الى فضاء اللاهوت اعانك الله في مطلبك هذا وطلبك ان تداوم على عموم الطاعات ومطلق العبادات التي أمرت بها على وجه الإخلاص والتذلل التام والانكسار المفرط إذ ما تقرب العبد الى ربه الا بالاستكانة التامة والضراعة الكاملة بالافناء والفناء عن لوازم نشأة الناسوت وبالاتصاف بالموت الإرادي المورث للحياة الازلية الابدية والبقاء السرمدي. جعلنا الله من المتصفين به بمنه وجوده
[سورة القدر]
فاتحة سورة القدر
لا يخفى على من كوشف بسرائر إنزال الكتب وإرسال الرسل من الموفقين على الاطلاع والوقوف بسر سريان الوحدة الذاتية الإلهية على صفحات الكثرات الفائتة عن الحصر والإحصاء ان المقادير المحفوظة في لوح القضاء والتصاوير المضبوطة في حضرة العلم والقلم الأعلى انما هي في عالم العماء الغيبى المسمى بليلة القدر وانزالها منها نحو فضاء الشهادة ونهار الجلاء انما هو ايضا فيه ولا شك ان سر إنزال مطلق الكتب والصحف الإلهية انما هو لضبط تلك المقادير والاخبار عنها على الوجه الذي ثبت في حضرة العلم ولوح القضاء لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم في مقام الامتنان بانزال القرآن في ليلة القدر الغيبى التي هي خير من ألف شهر من ازمنة نشأة الشهادة فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي قدر عموم المقادير في حضرة علمه ولوح قضائه الرَّحْمنِ لعباده بانزال القرآن المبين لهم طريق المعرفة والايمان الرَّحِيمِ بايقاظهم عن نوم الغفلة ورقود النسيان
[الآيات]
إِنَّا من مقام عظيم لطفنا وجودنا لعموم عبادنا قد أَنْزَلْناهُ اى القرآن المبين لهم طريق النجاة عن نيران الجهالات واودية الضلالات فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الغيبى التي لا اطلاع لاحد عليها الأعلام الغيوب لذلك ابهمها سبحانه على حبيبه صلى الله عليه وسلم فقال
وَما أَدْراكَ اى اى شيء أعلمك من مقتضيات بشريتك ولوازم ناسوتك ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2/521)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)
إذ هي خارجة عن مدارك عالم الناسوت ومشاعر سكانه مطلقا ثم بينها سبحانه على مقتضى افهام البشر ومداركهم فقال
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ من ايام عالم الشهادة ولياليه إذ
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ اى سكان السواد الأعظم اللاهوتى وَالرُّوحُ الأمين المدبر لأمور أرواح أشباح عالم الناسوت فِيها اى في تلك الليلة ونزولهم فيها انما هو بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الذي يأمرهم بالنزول فيها ومع كل منهم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ من الأمور الإلهية الجارية في عالم الشهادة
سَلامٌ تفويض وتسليم من قبل الحق يسلم لهم سبحانه حكمه ويفوض إليهم امره حسب حكمته المتقنة ومصلحته المستحكمة ليقوم كل منهم به ويحسن تدبيره على الوجه الذي امر به وبالجملة هِيَ اى حالهم وشأنهم هذا وهكذا حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ اى الى طلوع شمس الذات الإلهية المفنية بأشعتها الذاتية عموم اضواء الاظلال والعكوس المنعكسة منها مطلقا كأن ليلة القدر التي قد سترت في خلال ليالي السنة او في ليالي شهر رمضان او في ليالي العشر الأخير منه على ما قيل هي حاكية ممثلة من تلك الليلة القدرية الغيبية العمائية اللاهوتية لذلك ما عينها الشارع وما عرفها بل ابهمها وأخفاها قيل يقدر في تلك الليلة عموم احوال تلك السنة وجميع ما يجرى فيها من الحوادث الكائنة كما ان في أصلها ومنشئها التي هي ليلة القدر الغيبة قد قدر فيها عموم المقادير الكائنة ازلا وابدا لذلك من وجدها وأحياها فقد فاز بخير الدارين. رزقنا الله وجدها والوصول إليها والتحقق دونها بمنه وجوده
خاتمة سورة القدر
عليك ايها العازم القاصد لإحياء تلك الليلة والطالب المتشوق لإدراكها ان تشمر ذيلك لإحياء عموم الليالى الآتية عليك في ايام حياتك إذ هي مستترة فيها وبالجملة لا تغفل عن الله في عموم أوقاتك حتى تكون لك لياليك قدرا خيرا من الدنيا وما فيها
[سورة البينة]
فاتحة سورة البينة
لا يخفى على المستكشفين عن سرائر الآيات الموضحة لمعالم الدين ومراسم التوحيد واليقين ان ظهور طريق الحق وسلوك سبيل الهداية انما يحصل ببعثة الرسل وإنزال الكتب إذ تبيين الحق ما هو الا من قبل الحق بل بالحق كما اخبر سبحانه عن حقيقة حال الكفرة في الايمان والكفر والكفران بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المظهر لطريق الحق بإرسال الرسل وإنزال الكتب والآيات الرَّحْمنِ لعموم عباده بإيضاح البينات الرَّحِيمِ لخواصهم بايصالهم الى أعلى المقامات وارفع الدرجات
[الآيات]
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ اى عبدة الأصنام والأوثان مُنْفَكِّينَ اى لم يكونوا زائلين منفصلين في حين من الأحيان عن الايمان والاعتقاد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ اهل الكتاب آمنوا بنبوته حسب ما وجدوا في كتبهم المنزلة عليهم والمشركون سمعوا من أسلافهم وكهنتهم وصفه ونبوته فاعتقدوا بعثته فآمنوا به ولم يزالوا على هذا الاعتقاد حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ على مقتضى سنة الله فظهرت الحجة الواضحة والبينة والبرهان القاطع الساطع وتلك البينة والبرهان القاطع
رَسُولٌ مرسل مِنَ اللَّهِ مؤيد من لدنه بالآيات الواضحة والبينات اللائحة المصححة يَتْلُوا عليهم صُحُفاً وأسفارا(2/522)
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
محفوظة مسورة معجزة مُطَهَّرَةً عن مطلق الرذائل بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إذ هي منزلة من حكيم عليم
فِيها اى في خلالها ومطاويها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ اى مكتوبات صادقة حقية مملوة من الأوامر والنواهي والاحكام المتعلقة بدين الإسلام صادقة في نفس الأمر مطابقة للواقع مستقيمة لا عوج لها ولا انحراف فيها ناطقة بالحق الصريح
وَبالجملة ما تَفَرَّقَ واختلف في الإنكار والاعتقاد والايمان والكفر الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ يعنى ما تفرق تلك الأمم عماهم عليه من تصديق النبي الموعود الا من بعد ما ظهر الرسول الموعود ولاحت البينة الواضحة الدالة على صدقه في نبوته ودعوته ألا وهو القرآن المعجز المبين لشعائر الإسلام وبالجملة قد اختلفوا في شأنه صلى الله عليه وسلم بعد بعثته فمنهم من آمن به على مقتضى ما وجده في كتابه ومنهم من كفر وأنكر عليه عنادا ومكابرة ولهذا قد حرفوا أوصافه المذكورة في الكتب السالفة مع انهم لم يجدوا في دينه وكتابه ما يخالف احكام كتبهم واديانهم وَالحال انهم ما أُمِرُوا في كتبهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالحقية والألوهية مُخْلِصِينَ مخصصين لَهُ الدِّينَ والانقياد بلا اشراك والحاد حُنَفاءَ مائلين عن مطلق الأديان الباطلة وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ المكتوبة لهم في أوقاتها الموعودة المحفوظة وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ المصفية لأموالهم على وجهها وَذلِكَ الذي أمروا به في كتبهم دِينُ الْقَيِّمَةِ يعنى ملة الإسلام المستقيمة التي قد ظهر عليها محمد صلى الله عليه وسلم بلا تغير وانحراف فيه واختلاف وبالجملة هم ما كفروا وأنكروا نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم الا عنادا ومكابرة بلا مستند صحيح لا عقلي ولا نقلي وبالجملة
إِنَّ المكابرين المعاندين الَّذِينَ كَفَرُوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَمن الْمُشْرِكِينَ المعاندين هم داخلون فِي نارِ جَهَنَّمَ التي هي دار الطرد والحرمان خالِدِينَ فِيها ابدا لا يتحولون عنها أصلا الا الى عذاب فوق ذلك العذاب وأشد منه وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون المطرودون عن ساحة عز القبول هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ وأسوأ الخليقة واردؤهم كأنهم مقصورون على الشرارة والرداءة مجسمون منها. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا منهم بوحدة الحق وصدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقبلوا دعوته ودينه حسب ما وجدوا في كتبهم وسمعوا وصفه من أسلافهم بلا تحريف ولا تغيير وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى الله المرضية عنده سبحانه أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ واحسن الخليقة
جَزاؤُهُمْ اى أجزأتهم الحسنة التي قد استحقوها بايمانهم وأعمالهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ متنزهات علم وعين وحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى جداول المعارف والحقائق الممتدة المترشحة من بحر الحقيقة خالِدِينَ فِيها أَبَداً دائمين فيها أمدا سرمدا وبالجملة قد رَضِيَ اللَّهُ المنعم المتفضل العليم الحكيم عَنْهُمْ وعن أعمالهم ونياتهم وإخلاصهم فيها وَرَضُوا ايضا عَنْهُ سبحانه بما قسم الله لهم وأفاض عليهم حسب استعداداتهم وقابلياتهم وبالجملة ذلِكَ الأجر الجزيل والرضاء الجميل لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ وخاف عن سخطه وغضبه وعن القيام بين يديه فامتثل أوامره واجتنب نواهيه واتصف بالتقوى عن مطلق محارمه ومحظوراته. جعلنا الله من زمرتهم وخدامهم(2/523)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
خاتمة سورة البينة
عليك ايها المريد القاصد نحو الحق الراجي منه القبول والرضاء ان تصفى سرك عن مطلق الرعونات المنافية للرضاء والتسليم بما جرى به القضاء وتخلى خلدك وضميرك عن الميل الى مطلق البدع والأهواء المبعدة عن التقرب نحو المولى فعليك بالتسليم والرضاء والتبتل الى الحق في السراء والضراء والتوكل عليه في الخصب والرخاء فانه لا يجرى في ملكه الا ما يشاء وما يشاء سبحانه الا على وفق الرضاء تفضلا منه وامتنانا
[سورة الزلزال]
فاتحة سورة الزلزال
لا يخفى على الموحدين المنكشفين بأحوال النشأة الاخرى التي هي نشأة انتقاد الأعمال وجزائها ان الحكمة المتقنة الإلهية الباعثة على إيجاد الموجودات واظهار عموم المخلوقات تقتضي ان تكون نشأة الاختبار والابتلاء سابقة على نشأة الجزاء لتظهر سرائر التكاليف الإلهية وفوائد الأوامر والنواهي والاحكام المنزلة من عنده وتتميز مرتبة الربوبية عن مرتبة العبودية والألوهية عن المألوهية وبعد ما قد اقتضت الحكمة المتقنة الإلهية ترتب النشأة الاخرى على الاولى أشار سبحانه الى امارات النشأة الاخرى وعلاماتها بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عباده حسب النشأتين الرَّحْمنِ عليهم في النشأة الاولى حيث وضع عليهم التكاليف المثمرة لهم خير الجزاء الرَّحِيمِ لخواصهم في النشأة الاخرى يجزيهم جزاء الأوفى اذكر يا أكمل الرسل لمن كذب بالنشأة الاخرى وأنكر يوم العرض والجزاء كيف وقت
[الآيات]
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ اى هاجت واضطربت بعد ما وصل إليها الأمر الإلهي المتضمن للتحريك والتهييج زِلْزالَها الذي قدره الله لها عند النفخة الاولى
وَبعد ما هاجت وتحركت قد أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها اى دفائنها ومكنوناتها وما في جوفها من الأموات
وَبعد ما رأى الناس زلزالها وإخراجها قالَ الْإِنْسانُ من كمال حيرته وتعجبه ما لَها اى ما عرض على الأرض وما لحق بها حتى اضطرت الى الحركة والاضطراب مع انها ساكنة في حد ذاتها جامدة دائما وبالجملة
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ الأرض بالهام الله إياها أَخْبارَها اى الأعمال التي قد عمل عليها بنو آدم عن ابى هريرة رضى الله عنه انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية يومئذ تحدث اخبارها قال اتدرون ما اخبارها قالوا الله ورسوله اعلم قال فان اخبارها ان تشهد على كل عبد وامة بما عمل على ظهرها اى تقول عمل على كذا وكذا يوم كذا فهذه اخبارها وذلك
بِأَنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل أَوْحى لَها اى امر لها سبحانه واذن لها بالكلام فحينئذ لتكلمت وتحدثت واذكر يا أكمل الرسل
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ يرجع ويعود النَّاسُ عن موقف العرض والحساب أَشْتاتاً متفرقين متحزبين حسب مراتبهم في الحساب كل منهم مع شاكلته لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أجزأتهم المعدة لهم في الجنة او النار
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ اى مقدار نملة صغيرة ووزنها خَيْراً يَرَهُ اى ير جزاءه في الجنة
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ اى جزاءه في النار هذه الآية احكم آية وأقسطها من الآيات الدالة على كمال العدل الإلهي وأشملها حكما لذلك قال صلى الله عليه وسلم إذا زلزلت تعدل نصف القرآن وقل هو الله احد تعدل ثلث القرآن وقل يا ايها الكافرون تعدل ربع القرآن(2/524)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
خاتمة سورة الزلزال
عليك ايها المتوجه نحو الحق ان تأتى وتتصف بصوالح الأعمال وتزيد عليها حسب إخلاصك فيها وخشوعك في إتيانها وتجتنب عن فواسدها لترى احسن الجزاء فلك ان تجعل مضمون هذه الآية نصب عينك في عموم احوالك وأعمالك لتكون على ذكر تام وفطنة كاملة مما يترتب على أعمالك من الجزاء. جعلنا الله من زمرة المتذكرين الممتثلين لمقتضى هذه الآية الكريمة بمنه وجوده
[سورة العاديات]
فاتحة سورة العاديات
لا يخفى على المستلشقين من نفحات الحق المستروحين بنسمات النفثات الرحمانية المهبة من قبل اليمن اللاهوتى بإرسال الفيض الرحموتى ان النيل والوصول الى تلك المنازل البهية والمقامات العلية انما هو بعد رفض شواغل الناسوت ورفع موانع بوادي الإمكان وقطع آماله المتسعة وأمانيه المتسلسلة وذلك لا يتيسر الا بجذب الحق وتأييده واجتهاد العبد وبذل جهده ووسعه لذلك اقسم سبحانه بما اقسم من النفوس القدسية المتشوقة وقرن مع القسم ما قرن من كفران الإنسان نعم الحق وخسرانه فيها باشتغاله بما لا يعنيه من لوازم الحجب الناسوتية فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور الإنسان حتى أوصله الى مرتبة اليقين والعرفان الرَّحْمنِ عليه بخلقه على صورته ليليق لخلافته الرَّحِيمِ له يربيه ويهديه الى حيث يوصله الى بحر وحدته
[الآيات]
وَالْعادِياتِ اقسم سبحانه بالنفوس القدسية الزكية عن مطلق الرذائل الانسية وشبهها في سرعة العدو والجري بالخيول الجياد فكأنها تعدو للمجاوزة عن مضائق بقعة الإمكان ومحابس نشأة الناسوت نحو فضاء الوجوب ومتنزهات عالم اللاهوت شوقا إليها وتحننا نحوها لذلك كلما قطعت عقبة من تلك العقبات الناسوتية تضبح ضَبْحاً والضبح هو صوت أنفاس الفرس عند العدو وتلك النفوس ايضا تضبح حينئذ تشوقا الى مقعد الوجوب وتنفسا عن كروب الإمكان واحزان الهيولى والأركان
فَالْمُورِياتِ قَدْحاً اى النفوس المتحننة المسرعة المستعجلة نحو الموطن الأصلي بالميل الجبلي سيما بعد الجذب الإلهي المورى بحوافر مراكب الشوق المسرعة عند عدوها على أحجار الطبائع وجنادل الهيولى والأركان نار المحبة والمودة والغرام المفرط من شدة تشوقها وتلذذها الى النيل والوصول واستنشاقها من نسائم روائح الحضور والقبول
فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً اى النفوس التي تغير في المبادرة والمسابقة نحو عالم اللاهوت وتجتهد وتسعى لان تصل اليه قبل كل واحدة من النفوس المبادرة المتوجهة إليها الساعية نحوها
فَأَثَرْنَ بِهِ وهيجن وحركن في تلك الأوقات التي وصلن فيها اليه نَقْعاً غبارا وصياحا لتكون علامة دالة على قربهن ووصولهن
فَوَسَطْنَ بِهِ اى دخلن وتوسطن بذلك الوقت جَمْعاً من سكان عالم اللاهوت المطلقين عن جميع القيود الناسوتية وبالجملة بحق هذه المقسمات العظام
إِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على الكفران والنسيان لِرَبِّهِ الذي رباه بأنواع الكرم والإحسان لَكَنُودٌ كفور متبالغ في الكفران والطغيان
وَإِنَّهُ اى الإنسان نفسه عَلى ذلِكَ اى على كفوريته وكنوديته لَشَهِيدٌ لظهور آثار الكفران والطغيان عليه دائما وصدور انواع البغي والعدوان عنه مستمرا وبالجملة هو نفسه شاهد على كفره وكفرانه وشركه بالله وطغيانه الى حيث يلوح اثر عصيانه عليه ساعة فساعة
وَإِنَّهُ من شدة بغيه وعدوانه وغفلته عن الله وعن إحسانه لِحُبِّ الْخَيْرِ اى المال والجاه والثروة(2/525)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
والسيادة المبعدة له عن كنف مولاه لَشَدِيدٌ قوى مبالغ فيه مباه به حريص في طلبه متعب نفسه في تحصيله وحبه وما هذا الا من غاية كفرانه بنعم الله وحرمانه عن مقتضى كرمه سبحانه وضعف يقينه بفضل الله وموائد انعامه وإحسانه
أَفَلا يَعْلَمُ ولا يدرك ولا يشعر الإنسان الكفور الكنود المحب للجاه والمال وقت إِذا بُعْثِرَ اى بعث ونشر وحشر ما فِي الْقُبُورِ من الموتى
وَحُصِّلَ اى جمع وميز ما فِي الصُّدُورِ من المكنونات والمضمرات خيرا كان او شرا
إِنَّ رَبَّهُمْ الذي أظهرهم من كتم العدم ورباهم بأنواع الكرم بِهِمْ وبعموم ما جرى عليهم من شئونهم وتطوراتهم يَوْمَئِذٍ وهو يوم القيامة التي فيها تبلى السرائر وتكشف الضمائر لَخَبِيرٌ وبصير بعموم ما جرى عليهم في نشأة الاختبار خيرا كان او شرا فيجازيهم على مقتضى علمه وخبرته بلا فوت شيء من ذلك ومع علمه سبحانه بهم وبما صدر عنهم يعملون عملا سيئا يؤاخذون عليه. نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
خاتمة سورة العاديات
عليك ايها الإنسان الكامل المجبول على حكمة المعرفة والإيقان ان تشمر ذيلك الى ما جبلت لأجله وتخلى خلدك عن مطلق الاشغال العائقة عن التوجه الحقيقي نحو الحق فلك ان ترى يوم الجزاء بين يديك ونصب عينيك وبالجملة لا تغفل عن الله فانه يرقبك في أولاك وأخراك وفي عموم أوقاتك وازمانك وحالاتك
[سورة القارعة]
فاتحة سورة القارعة
لا يخفى على الموقنين المنكشفين بسرائر النشأتين ان النشأة الاولى ما هي الا لاكتساب المعارف والحقائق الكامنة في مطاوى التكاليف الإلهية المكنونة في سرائر أوامره ونواهيه وحكمه وأحكامه والثانية انما هي للجزاء المترتب على تلك المعارف والحقائق ولا شك ان من تهاون وتقاصر عن ما لزمه في الاولى فقد ضل وغوى واستحق الويل واللظى ولحق بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة يجازون بمقتضاها وللتهويل على اصحاب الغفلة وتقريعهم على ترك ما أوجب عليهم وأمرهم سمى سبحانه يوم القيامة بالقارعة وابهمها تفظيعا وتهويلا فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتصف بالقهر واللطف حسب النشأتين الرَّحْمنِ على عموم المطيعين من عباده في النشأة الاولى الرَّحِيمِ على المخلصين منهم في النشأة الاخرى يوصلهم الى أقصى درجات النعيم
[الآيات]
الْقارِعَةُ اى الساعة الموعودة المعهودة التي تقرع الأسماع من هولها وهيبتها وتدهش العقول من شدتها وصولتها ثم ابهمها سبحانه تهويلا فقال
مَا الْقارِعَةُ المذكورة وايّة شيء هي ثم ابهمها مرة اخرى مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم تأكيدا لتهويلها ومبالغة على تفظيعها فقال
وَما أَدْراكَ وأعلمك يا أكمل الرسل مَا الْقارِعَةُ العجيبة الشأن الفظيعة العظيمة الهائلة المهولة ثم عد سبحانه لوازمها وما يترتب عليها لينتقل منها إليها وانما أشار سبحانه بهذه الطريقة ايضا الى شدة هولها وفظاعتها فيكون تهويلا وتأكيدا على تأكيد ومبالغة غب مبالغة اذكر يا أكمل الرسل لمن تذكر واتعظ
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ من نهاية افزاعهم واخوافهم كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ اى كالطير المتهافت المتساقط على النار من شدة اضطرابه يعنى يكون الناس(2/526)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
يومئذ مثل الفراش المتفرق في الجهات من غاية الاضطرار والاضطراب بحيث لا يتمالكون على نفوسهم بل يركب بعضهم فوق بعض ويطأ بعضهم بعضا من غاية خشيتهم ورعبهم وازدحامهم
وَتَكُونُ الْجِبالُ يومئذ من كمال قهر الله وغضبه كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ اى كالصوف الملون المندوف تطير في جو الهواء يمنة ويسرة وبالجملة
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ يومئذ مَوازِينُهُ اى رجحت مقادير حسناته على مقادير سيئاته
فَهُوَ يومئذ فِي عِيشَةٍ هنيئة مريئة راضِيَةٍ صاحبها عنها
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ يومئذ مَوازِينُهُ اى من خفت حسناته وثقلت سيئاته
فَأُمُّهُ اى مستقره ومأواه الذي يأوى اليه يومئذ هاوِيَةٌ هي من اسماء جهنم ثم ابهمها سبحانه تهويلا وتفظيعا فقال
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ اى الهاوية ثم فسرها ليكون ادخل في التهويل فقال
نارٌ حامِيَةٌ اى ماهية الهاوية وحقيقتها نار ذات حمى وحرارة بحيث قد انتهت في الحرارة والسخونة غايتها. أعاذنا الله وعموم عباده منها بمنه وجوده
خاتمة سورة القارعة
عليك ايها الطالب لترجيح الحسنات على السيئات ان ترغب في سرك ونجواك عن مستلذات الدنيا وعن مشتهياتها الفانية وتركن الى اللذات الروحانية من الأحوال والمواجيد الاخروية الباقية المستلزمة للدرجات العلية والمقامات السنية عند الله وإياك إياك الأماني وطول الأمل فإنها توقعك في فتنة عظيمة وبلية شديدة لا نجاة لك منها ولا خلاص لك عنها وعن ما يترتب عليها ابدا. خلصنا الله وعموم عباده من غوائل الدنيا وما فيها
[سورة التكاثر]
فاتحة سورة التكاثر
لا يخفى على من هداه الله الى طريق المعرفة والايمان وكشف لهم سبيل الكشف والعيان وأفاض عليه بلطفه سجال الفضل والإحسان ان الأموال والأولاد ومطلق المزخرفات الدنية الدنياوية ما هي الا اسباب التكاثر والتفاخر وعلل الاستكبار والخيلاء في النشأة الاولى وموجبات العوائق عن الوصول الى روضة الرضا وجنة المأوى في النشأة الاخرى فلا بد لأرباب الارادة والولاء ان يتزهدوا عنها ولا يلتفتوا إليها مطلقا بل يتزودوا فيها للنشأة الاخرى بزاد التقوى فنعم الزاد التقوى والرضا بما جرى عليه القضاء لذلك خاطب سبحانه في هذه السورة اهل المفاخرة والمباهاة بتكاثر الأموال والأولاد وأوعدهم بما أوعدهم تسجيلا على ضلالهم وانحرافهم عن جادة العدالة الإلهية وصراط التوحيد فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بكمالاته في الإنسان ليربيه على نشأة الايمان والعرفان الرَّحْمنِ عليه بأنواع اللطف والإحسان ليتوجه نحوه سبحانه في عموم الأحيان الرَّحِيمِ له يهديه الى مرتبة الكشف والعيان
[الآيات]
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ اى شغلتكم المفاخرة والمباهاة بكثرة الأموال والأولاد ايها المنهمكون في بحر الغفلة والضلال عن توحيد ربكم وطاعته وقد كنتم أنتم على هذا طول عمركم
حَتَّى زُرْتُمُ ولحقتم الْمَقابِرَ وصرتم فيها أمواتا أمثالهم وبالجملة ما صدر عنكم ما جبلتم لأجله طول دهركم حتى متم وخرجتم عنها بلا ترتب حكمة المعرفة ومصلحة الايمان قال سبحانه ردعا لهم وتهديدا
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ان أمركم وشأنكم ما هذا التكاثر والتفاخر وستعلمون غدا ما يترتب عليه
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ان الأمر ليس كذلك كرره تأكيدا ومبالغة في التهديد والوعيد وتهويلا للموعود ثم سجل عليهم(2/527)
وَالْعَصْرِ (1)
سبحانه جهلهم وضلالهم رادعا لهم بقوله
كَلَّا يعنى ما تتكاثرون ولا تتفاخرون وتتباهون بهذه الزخرفة الفانية الدنية ايها الجاهلون المكابرون لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ اى لو علمتم يقينا علميا وصدقتم تصديقا قلبيا انكم
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ لما تكاثرتم ولا تفاخرتم بما تفاخرتم وما خطر ببالكم أمثال هذه الخواطر الكاذبة الا انكم جاهلون ذاهلون غافلون عن رؤيتها بل أنتم منكرون لها ايها المسرفون المفرطون لذلك قد كنتم تفتخرون وتتكاثرون بالحطام الدنية الدنياوية وتستلذون بلذاتها الفانية وشهواتها الغير الباقية. ثم كرر سبحانه امر الرؤية تهويلا عليهم وتنصيصا على وعيدهم فقال
ثُمَّ لَتَرَوُنَّها اى الجحيم المعدة لتعذيبكم عَيْنَ الْيَقِينِ اى يقينا عينيا حين تعاينونها وترون منازلكم فيها
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ ولتحاسبن ايها الناس الناسون لعهود الحق ومواثيقه يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ الفاني الذي قد شغلكم عن الحق وألهاكم عن طاعته وعبادته وصرفكم عن النعيم المقيم فحينئذ ظهر عندكم خطأ آرائكم وفساد اهوائكم التي قد كنتم عليها في النشأة الاولى ولا يفيدكم ظهورهما لانقضاء زمان التدارك والتلافي. ربنا آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
خاتمة سورة التكاثر
عليك ايها المحمدي المتصف باليقين العلمي بعموم المعتقدات الاخروية ان تكون على ذكر تام منها واستحضار كامل بحيث يكون علمك بها عينا بل حقا قبل حلولها ونزولها فعليك ان تركن عن الدنيا ومزخرفاتها الفانية ونعيمها الغير الباقية ولذاتها وتقنع بالكفاف وتتصف بالعزوبة والعفاف سيما في هذا الزمان الخوان وبين هذه الاخوان الذين هم اخوان الشياطين مشغولون بتكثير الزخارف والحطام في كل حين وأوان لتحصيل المال والجاه ليتفوقوا على الأقران وبالجملة عليك ان تلازم العزلة والفرار عن اصحاب الثروة والفضول فان صحبة الأشرار يعوقك عن ملاحظة الأسرار ويمنعك عن مشاهدة الأنوار. ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من فضول الكلام وتوصلنا الى دار السلام
[سورة العصر]
فاتحة سورة العصر
لا يخفى على من انكشف له وحدة الحق واستقلاله في الوجود وسريانه في جميع الموجودات والمشهودات الظاهرة في صفحات الكائنات من عكوس أسمائه وصفاته الغير المحصورة ان ما سوى هذه الملاحظات والمشاهدات المتعلقة بكيفية شئون الحق وتطوراته المترتبة على أسمائه الحسنى وصفاته العليا انما هو خسران مبين ونقصان عظيم إذ الفطرة الانسانية انما جبلت لأجلها فمن لم يتصف بها فقد خسر خسرانا مبينا لذلك نبه سبحانه في هذه السورة على خسران الإنسان وحرمانه عن طريق العرفان ما لم يتصف بالإيمان والأعمال الصالحات والطاعات فقال سبحانه مقسما بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي خلق الإنسان على صورته ليتخلق بأخلاقه الرَّحْمنِ عليه حيث أظهره من كتم العدم ورباه بأنواع اللطف والكرم الرَّحِيمِ عليه يهديه الى صراط مستقيم موصل الى توحيده
[الآيات]
وَالْعَصْرِ اقسم سبحانه بالعصر والدهر الذي هو عبارة عن بقاء الوجود الأزلي الأبدي دوامه السرمدي المنبسط الممتد من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات ألا وهو حبل الله(2/528)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
الممدود والعروة الوثقى التي لا انفصام لها في عين الشهود
إِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على فطرة المعرفة والايمان حسب حصته اللاهوتية لَفِي خُسْرٍ عظيم وخيبة بينة بسبب اشتغاله بما لا يعنيه من لوازم بشريته المتعلقة بحصة ناسوته
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وتفطنوا لاستقلاله سبحانه في التصرفات الجارية في ملكه وملكوته وَهم مع الايمان والإذعان قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الدالة على إخلاصهم ويقينهم في ايمانهم ونياتهم وَذلك قد تَواصَوْا بِالْحَقِّ اى اوصى بعضهم بعضا بسلوك طريق الحق وتوحيده إرشادا وتنبيها وَتَواصَوْا ايضا بِالصَّبْرِ على مشاق الطاعات ومتاعب الرياضات الطارئة عليهم من قطع المألوفات الامكانية وترك اللذات والمستلذات البهيمية اللازمة للقوى البشرية. وفقنا الله على قطعها وقلعها بمنه وجوده
خاتمة سورة العصر
عليك ايها المحمدي القاصد لقطع العلائق الامكانية الطالب الجازم لان يخلص عن الوساوس الشيطانية والعوائق النفسانية الموروثة لك من القوى الطبيعية والمدارك الحيوانية والمشاعر البشرية ان تتصبر على عموم البلوى والمعيبات العارضة لك في نشأتك الاولى وتسترجع الى الله في جميعها وتسندها اليه سبحانه أولا وبالذات بلا رؤية الوسائل في البين والأسباب العادية في العين وتوطن قلبك مع ربك في جميع حالاتك وترضى عن الله في عموم ما جرى عليك من مقتضيات قضائه وبالجملة كن فانيا في الله تفز بخير الدارين وفلاح النشأتين وصلاح المنزلتين
[سورة الهمزة]
فاتحة سورة الهمزة
لا يخفى على الموحدين المستكشفين عن سرائر التوحيد واليقين ان الكمالات الدينية كلها منوطة مربوطة بالتخلق بأخلاق الله والتأدب بآدابه فلا بد لأرباب الارادة والطلب ان يهذبوا ظواهرهم أولا بالشرائع النبوية والنواميس المصطفوية المقتبسة من مشكاة النبوة والولاية وبواطنهم بالخواطف الغيبية والهواتف اللدنية الملهمة إليهم حسب القوى القدسية اللاهوتية المتعلقة باستعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية فمن رغب عنها ولم يتصف بها فما له في الآخرة من خلاق لذلك قد حث وحرض سبحانه في هذه السورة ارباب العناية والتوفيق على كسب الآداب والتخلق بمحاسن الأخلاق والاتصاف بأوصاف الكمال بتوبيخ اصحاب الغفلة والضلال المسيئين الأدب مع الله ومع خلص عباده وبسوء منقلبهم ومآبهم عنده سبحانه فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم كمالاته في مظهر الإنسان الرَّحْمنِ عليه بأنواع الكرم والامتنان الرَّحِيمِ بخواص عباده حيث خلقهم بأخلاقه الحسان ويسر لهم طريق العرفان
[الآيات]
وَيْلٌ عظيم وهلاك هائل شديد لِكُلِّ فرد من افراد الأقوام هُمَزَةٍ وهو الذي يمشى بين الناس بالهمز وكسر العرض وقد صارت له هذه الديدنة القبيحة عادة راسخة وملكة مستمرة وايضا لكل لُمَزَةٍ وهو الذي يطعن في انساب الأنام وينسبهم الى انواع البغي والآثام افتراء ومراء وما حداه وحمله على هذه الخضلة القبيحة والفعلة المستهجنة الوقيحة الا ثروته وماله وسيادته وجاهه وهو
الَّذِي جَمَعَ مالًا وامتعة كثيرة من الزخارف الدنية الدنياوية التي قد مالت قلوب ابنائها إليها بالطبع وَعَدَّدَهُ اى جعل ماله عدة عموم النوائب والنوازل وخيل انه يردها به وقت إلمامها(2/529)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
بل
يَحْسَبُ ويظن أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ اى ادام وأبقى ماله نفسه وجعله مخلدا في الدنيا مستمرا فيها ابدا بحيث لا يطرأ عليه زوال وانتقال أصلا فقد اغتر بماله وجاهه الى حيث قد خيل له الخلود به فيها والدوام عليها بطرا وغرورا. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا له عن حسبانه واغتراره هذا وخطأ رأيه وطغيانه يعنى من اين يتأتى ويتيسر له الخلود والدوام فيها والله لَيُنْبَذَنَّ ويطرحن ذلك المفسد المفرط يوم الجزاء فِي الْحُطَمَةِ اى النار التي من شأنها انها تحطم اى تكسر وتفنى من يطرح فيها ثم ابهمها سبحانه تهويلا فقال
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ المعدة لتعذيبه ثم فسرها لكونه ادخل في التهويل والتفظيع بقوله
نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ المسعرة
الَّتِي تَطَّلِعُ وتعلو عَلَى الْأَفْئِدَةِ والأكباد اى حرقها وايلامها غير مختص بظواهر الجلود بل يسرى الى الاعماق والبواطن ايضا كما ان اثر الهمز واللمز اللذين هما سبب التعذيب بهذه الخطمة يشمل ظواهر الناس وبواطنهم كذلك الجزاء المترتب عليهما وبالجملة
إِنَّها اى النار الموقدة الإلهية عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ اى مطبقة عليهم محيطة بهم حافة بجوانبهم وحواليهم وهم حينئذ مشدودون موثوقون بأيديهم وأرجلهم
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ اى اعمدة وأخشاب طوال مثقوبة مربوطين من أعناقهم بالسلاسل والأغلال ألا وهي مصورة لهم من سلاسل الآمال وأغلال الأماني التي هم مقيدون بها في سجن الإمكان. أعاذنا الله وعموم عباده منها
خاتمة سورة الهمزة
عليك ايها الموحد المحمدي الوجل الخائف عن مقتضيات القهر الإلهي وموجبات غضبه ان تعدل في عموم اخلاقك واطوارك وتعيش بين بنى نوعك هينا لينا فرحانا سليما يقظانا بلا مماراة ومخاصمة وبلا أغراض نفسانية من شيطنة الشيخية وعجب الدرويشية وكيد الرياء ورعونات الهوى وحفظ الجاه والثروة والسيادة وكثرة التبع والخدم والخيل والخشم بل لك ان تصاحبهم وتداريهم خالصا لله على سبيل الوفاق والملاطفة بلا شوب الشقاق والنفاق وبالجملة ترجحهم جميعا على نفسك في كل الأمور وتراعيهم حسب المقدور فان رعايتك إياهم وترجيح جانبهم يؤدى الى مراعاة جانب الحق وترجيحه وبالجملة احسن إليهم كما احسن الله إليك فكن من المحسنين المتخلقين بالأخلاق الإلهية واعبد ربك في كل ذرة من ذرائر المظاهر حتى يأتيك اليقين
[سورة الفيل]
فاتحة سورة الفيل
لا يخفى على من انكشف بحيطة الأوصاف الإلهية وشمول أسمائه الحسنى وأمهات أوصافه السنى على عموم ذرائر الأكوان ان من جملتها القدرة الغالبة الإلهية المودعة في أجزاء العالم كلها متى تعلقت ارادته سبحانه بإظهار القدرة اظهر من كل ذرة ونملة حسب قدرته الغالبة افعالا عجيبة وآثارا بديعة تدهش العقول وتقرع الأسماع كما اخبر سبحانه في هذه السورة لحبيبه صلى الله عليه وسلم تثبيتا له وتوطينا تتميما لتربيته وتأييده صلى الله عليه وسلم فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ القادر المقتدر على عموم ما دخل في حيطة حضرة علمه المحيط وإراداته الكاملة الرَّحْمنِ لعموم عباده حيث دبر أمورهم حسب الحكمة المتقنة البالغة الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى الدرجة الرفيعة اللاهوتية
[الآيات]
أَلَمْ تَرَ ولم تعلم يا أكمل الرسل يقينا علميا حاصلا لك من طريق السمع(2/530)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
الى حيث قد وصل الى مرتبة اليقين العيني من كثرة السماع والاستماع من الثقاة العدول وتكرره كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل لرسالته واظهر دينك على الأديان كلها ونصرك على عموم أعدائك بقدرته الغالبة بِأَصْحابِ الْفِيلِ وهو جيش ابرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل اصحمة النجاشيّ قصد هدم الكعبة عمرها الله فخرج مع جيشه ومعه فيل كثير وفيها فيل عظيم جسيم في غاية الجسامة مسمى بمحمود قد كانوا يأمرون بهدم البنيان العظام فيهدمها في الحال ولذا سموه بهذا الاسم وسبب هذا القصد ان ابرهة بنى كنيسة بصنعاء فسماها القليس فعزم ان يصرف الحاج من مكة إليها فلما انتشر الخبر ذهب رجل من كنانة الى القليس ذات ليلة فتغوط فيها ولطخ بها محاربها فوصل الخبر الى ابرهة فغار غيرة شديدة فحلف والله لاهد من الكعبة فخرج مع جيشه وفيله حتى وصل الى حوالى الحرم وأراد ان يأمر الفيل بهدمها فبرك ولم يبرح فضربوه وشددوا عليه فلم يفدوهم قد كانوا إذا وجهوه الى جهة غير جهة البيت هرول واسرع واما الى نحوها فلا يمشى قط فصاروا متحيرين في شأنه كما قال سبحانه
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ الذي كادوا به لهدم البيت وصرف الزوار عنه نحو بيتهم الذي قد بنوا كيف صار فِي تَضْلِيلٍ ضياع وهلاك وخسار وبوار
وَكيف لا يكون سعيهم في الضياع والخسار إذ أَرْسَلَ سبحانه بمقتضى قدرته الغالبة عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ أفواجا كثيرة متفرقة متفوجة من جنس واحد من الطير مع كل واحد منها ثلاثة أحجار
تَرْمِيهِمْ يعنى ترمى الطير جيش ابرهة بِحِجارَةٍ متخذة مِنْ سِجِّيلٍ هو معرب سنك وكل
فَجَعَلَهُمْ من كثرة ما ترميهم بها كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ اى كتبن يأكله الانعام ويدوس فيه فيفرقه الرياح اى صاروا من شدة غضب الله عليهم هباء منثورا
خاتمة سورة الفيل
عليك ايها السالك الخائف عن بطش الله المحترز عن مقتضى قهره وجلاله ان تكون في عموم احوالك واطوارك بين الخوف والرجاء عن جلاله وجماله بحيث لا يجرى عليك نفس من أنفاسك وأنت فيه خال عن كلا النقيضين بل لك ان تحيط عموم أوقاتك بهما بلا إهمال وقت منها وبالجملة لا تيأس عن روح الله ولا تتكل على كرمه وحلمه فاعلم انه سبحانه يرقبك في جميع حالاتك ويعلم منك ما لم تعلم أنت من نفسك فكن في نفسك من الموقنين المخلصين ولا تكن من الشاكرين المترددين القانطين فان ناقدك خبير بصير
[سورة قريش]
فاتحة سورة قريش
لا يخفى على من تفطن بسرائر العبودية المستلزمة لانواع التذلل والخضوع والانكسار التام والخشوع المفرط ان الباعث عليها والداعي إليها انما هو الانعام العام والإحسان التام الذي هو القيام بعموم الحوائج اللازمة للهوية الشخصية المقومة لها المبقية لماهيتها كما قيل الإنسان عبيد الإحسان ولا شك ان المتكفل المستقل لحوائج عموم المظاهر والمجالى هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر على جميع المقدورات بالاستقلال والاختيار، المربى للكل بأنواع اللطف والكرم فهو المستحق للاطاعة والانقياد استحقاقا ذاتيا ووصفيا وكيف لا إذ لا معبود سواه ولا اله(2/531)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
غيره لذلك امر سبحانه في هذه السورة عباده بعبوديته وانقياده فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المظهر للكل من كتم العدم الرَّحْمنِ على الكل بأنواع الكرم الرَّحِيمِ عليهم بالزام العبودية والذمم تعجبوا ايها المعتبرون
[الآيات]
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ اى ائتلافهم وتألفهم فيما بينهم واتفاقهم على ان ينصرفوا عن حوالى بيت الله حين
إِيلافِهِمْ واتفاقهم على الظعن والارتحال رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ يعنى يرتحلون في كل سنة مرتين مرة في الشتاء نحو اليمن ومرة في الصيف الى الشام وما كان الباعث على ترحالهم الا فقد الزاد في مكة إذ هي بواد غير ذي زرع فيشق عليهم الأمر فيتجرون في كل سنة مرتين فكره الله منهم هذا وأمرهم بالعكوف والاقامة حول بيته بقوله
ْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
وليعتكفوا في حواليه وليتوكلوا عليه ولا يتجروا إذ هو القادر المقتدر
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ واشبعهم مِنْ جُوعٍ قد شملهم وأحاط بهم حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ لحقهم من أعدائهم مرارا ببركة هذا البيت فلهم ان يسكنوا في حواليه متوكلين على ربهم وهو يكفى لهم مؤنة أرزاقهم ايضا بحوله وقوته فيما سيأتى كما قد كفى لهم فيما مضى
خاتمة سورة قريش
عليك ايها المتوجه الى الله المتوكل على كرمه وإحسانه ان تمتثل لجميع ما أمرك الحق عليه وتفوض أمورك كلها اليه وترضى بعموم ما جرى عليك من القضاء وتعتقد ان الأمر كله لله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عن فعله انه حكيم حميد
[سورة الماعون]
فاتحة سورة الماعون
لا يخفى على من انكشف له سرائر الدين القويم وحكم الاحكام الموردة في الشرع المستقيم ومصالح التكاليف الواردة من العليم الحكيم ان سر العبودية والتدين والانقياد انما هو التأدب مع الله وحسن القيام على أداء حقوق ربوبيته ومقتضيات ألوهيته ولا شك ان من تقاصر فيه وتهاون عليه فقد انحرف عن جادة العدالة وانصرف عن طريق العبودية والتحق الويل والثبور من الله المنتقم الغيور كما أشار سبحانه في هذه السورة مستفهما على سبيل التعجب والاستبعاد فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي وضع الدين بين الأنام ليهديهم الى دار السلام الرَّحْمنِ عليهم بانزال التكاليف والاحكام الرَّحِيمِ إليهم يوصلهم الى أعلى المكانة وارفع المقام
[الآيات]
أَرَأَيْتَ اى هل عرفت وأبصرت يا أكمل الرسل المعاند المكابر الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ اى بيوم الجزاء والحساب الموعود لتنقيد الأعمال والأفعال الجارية في نشأة الاختبار
فَذلِكَ المكذب المنكر هو الَّذِي يَدُعُّ ويدفع بالعنف المفرط الْيَتِيمَ الذي جاءه لينفق من ماله الذي قد كان عنده لكونه قيما وصيا له قيل هو الوليد بن المغيرة وقيل غيره
وَما ذلك الا من غاية بخله وخساسته وإمساكه المفرط لا يَحُضُّ ولا يحث أحدا عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وإطعامه يعنى هو لا يطعم أحدا ولا يرضى ايضا باطعام الغير إياه من شدة شحه وإمساكه هذا امارة تكذيبه وتكذيب أمثاله بالدين والجزاء بحسب الظاهر واما بحسب الباطن
فَوَيْلٌ عظيم وعذاب اليم لِلْمُصَلِّينَ المكذبين بيوم الجزاء المنكرين بمعالم الدين المستبين لأنهم هم(2/532)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
المسرفون المفرطون
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ المفروضة لهم في الأوقات المحفوظة ساهُونَ غافلون لا يحافظون عليها في أوقاتها المعهودة المحفوظة لها ولا يواظبون على إقامتها فيها بل هم المنافقون
الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ بها على رؤس الملأ ويتركونها في خلواتهم لعدم اعتدادهم واعتقادهم بها وبما يترتب عليها من الجزاء
وَمع تهاونهم وتكاسلهم في الصلاة التي هي من أقوى اعمدة الدين وأعلى مراسم التوحيد واليقين يَمْنَعُونَ الْماعُونَ اى الزكاة المهذبة لنفوسهم عن الشح المستهجن والتقتير المستقبح المسقط للمروات والفتوات المؤدية الى عموم الخيرات والحسنات
خاتمة سورة الماعون
عليك ايها الطالب لطريق الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع ان تهذب ظاهرك وباطنك عن مطلق الرذائل المنافية للعدالة الإلهية وتخلى سرك وسريرتك عن الالتفات الى ما سوى الحق لتكون صلاتك منك ميلا حقيقيا الى الله ومعراجا معنويا موصلا الى توحيده وإياك إياك المراء والمجادلة مع بنى نوعك والاستكبار عليهم واظهار الثروة والسيادة فيما بينهم بالمال والجاه فإنها تميت قلبك وتزيد في هواك وتبعدك عن مولاك وبالجملة تضرك في أولاك وأخراك
[سورة الكوثر]
فاتحة سورة الكوثر
لا يخفى على من وصل الى بحر الحقيقة وورد على الحوض المورود والمقام المحمود الذي هو ينبوع الوجود الإلهي المترشح المنبسط بمقتضى الجود الذاتي الى عموم الموجود ان الوصول الى هذا المطلب الأعلى والمقصد الأقصى الذي هو التوحيد الذاتي المعبر بالحوض الكوثر الذي هو عبارة عن كثرة الخير والبركة ما تيسر هذا الشأن وما اتفق حصوله بحقيقته لجماهير الأنبياء والرسل الا للحضرة الختمية المحمدية صلوات الله عليه وسلامه وهو صلى الله عليه وسلم قد خصص بهذه الكرامة الكبرى والموهبة العظمى لذلك ختم ببعثته امر الإرسال والتشريع وتم بظهوره صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق ولهذا نبه سبحانه في هذه السورة على عظم شأنه صلى الله عليه وسلم وجلالة قدره ومكانته فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى على حبيبه صلى الله عليه وسلم بعموم كمالاته ليكون هو مرآة له سبحانه كي يتراءى منه صلى الله عليه وسلم آثار جميع أسمائه الحسنى وصفاته العلياء الرَّحْمنِ على عموم الأنام ببعثته صلى الله عليه وسلم إليهم حتى يهديهم الى دار السلام الرَّحِيمِ للخواص منهم يرشدهم الى التوحيد الذاتي الذي هو المنجى من ظلمات الأوهام
[الآيات]
إِنَّا من مقام عظيم جودنا ومحض كرامتنا أَعْطَيْناكَ يا أكمل الرسل إعطاء وهب وكرامة وفضل وامتنان الْكَوْثَرَ الذي هو عبارة عن التحقيق بوحدة الذات والانكشاف بها والوقوف عليها وبعد ما أعطيناك وخصصناك بالكرامة التي لم نعط أحدا من الأنبياء والرسل الذين مضوا قبلك
فَصَلِّ لِرَبِّكَ ودم أنت على التوجه نحونا وأخلص فيه واستقم عليه وَانْحَرْ بدنة ناسوتك بعد ما وصلت الى كعبة الذات وفزت بعرفات الأسماء والصفات تقربا إلينا وتوصلا لحمى قدس لاهوتنا ولا تلتفت في ميلك وتوجهك الى هذيانات من يشينك ويعيبك من الجهلة المكابرين
إِنَّ شانِئَكَ الذي يشينك ويبغضك في شأنك وأمرك هذا هُوَ الْأَبْتَرُ المقطوع العقب منقطع الأثر والذكر واثرك يبقى ويدوم الى قيام الساعة(2/533)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
خاتمة سورة الكوثر
عليك ايها المحمدي القاصد للورود الى الحوض الكوثر والشرب منها ان تتوجه في عموم أوقاتك وحالاتك الى الله على وجه التبتل والإخلاص وتميت بهيمة بدنك بالموت الإرادي وتهذبها في طريق الحق تقربا اليه سبحانه لتنال خير الدارين وفلاح النشأتين
[سورة الكافرون]
فاتحة سورة الكافرون
لا يخفى على ارباب الخبرة والوقوف بأمارات مقصد التوحيد الذاتي وعلامات مسلك الفناء في الله والبقاء ببقائه ان الطريق الى الله متفاوتة والمعارج نحوه متنوعة متخالفة إذ لكل وجهة هو موليها وأكمل الطرق وأشملها وأسلمها وأوضحها هو الذي قد سلكه واستقام عليه بتوفيق الله الحضرة الختمية الخاتمية صلى الله عليه وسلم إذ طريقه صلى الله عليه وسلم مستوعب لعموم الطرق والسبل لكونه مبنيا على التوحيد الذاتي المشتمل على توحيد الصفات والأفعال مطلقا ولا يهتدى اليه احد من الخلق الا بجذب من جانب الحق وتوفيق من لدنه ومن لم يؤيد من قبل الحق ولم تدركه العناية الإلهية ما اهتدى اليه سبحانه سبيلا لذلك امر سبحانه في هذه السورة حبيبه صلى الله عليه وسلم حين دعاه الكفرة ليعبد صلى الله عليه وسلم سنة الى ما عبدوا من آلهتهم الباطلة حتى يعبدوا بعد تلك السنة لله الواحد الأحد الفرد الصمد المستحق للعبودية والتذلل سنة اخرى مجازاة لها ومقابلة إياها بان لا يلتفت صلى الله عليه وسلم الى قولهم الباطل ورأيهم الزائغ الزائل فقال بعد ما تيمن وتبرك بِسْمِ اللَّهِ المطلع لما في ضمائر عموم عباده من الهداية والضلال الرَّحْمنِ عليهم بإرسال الرسل يدعوهم الى سبيل السلامة والرشد الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى خير المنقلب والمآب
[الآيات]
قُلْ يا أكمل الرسل مناديا لمن دعاك الى عبادة الآلهة الباطلة يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ الساترون شمس الحق الظاهرة في الأنفس والآفاق بغيوم هوياتكم الباطلة
لا أَعْبُدُ اى لا انقاد ولا أتوجه انا سيما بعد ما وفقني الله الى توحيده الذاتي وهداني نحو شمس ذاته وشرفني بمطالعة وجهه الكريم وخصصنى من بين عموم مظاهره ومصنوعاته بهذه الكرامة العلية ما تَعْبُدُونَ أنتم ايها الجاهلون من الآلهة الباطلة والاظلال الهالكة العاطلة قد اتخذتموها آلهة من تلقاء انفسكم أنتم وآباؤكم مع انه ما انزل الله بها من سلطان حجة وبرهان بل ما تتبعون أنتم وآباؤكم في اتخاذكم هذا الا الظن وما تهوى الأنفس من غير ورود الهداية والإرشاد من قبل الحق
وَلا أَنْتُمْ ايضا عابِدُونَ ما أَعْبُدُ من الحق الوحيد الفريد الحقيق بالاطاعة والعبادة بالاستحقاق إذ لا اله في الوجود معه ولا شيء يماثله حتى يشارك معه في أخص أوصافه التي هي الألوهية والربوبية ووجوب الوجود إذ ليس في وسعكم واستعداداتكم الايمان به والإيقان بوحدته وباستقلاله في ملكه وملكوته ومع ذلك ما وفقكم الحق عليه وما أقدركم به
وَبالجملة لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ إذ هي لا يليق بالعبودية والمعبودية حتى اعبد له
وَلا أَنْتُمْ ايضا عابِدُونَ ما أَعْبُدُ إذ لا يتيسر لكم الايمان به والاطلاع على وجوده والاتصاف بمعرفته وشهوده فكيف تعبدون أنتم لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد بلا جذب من جانبه وتوفيق من لدنه وانا ايضا لا اعبد لمعبوداتكم الباطلة التي هي بمراحل عن رتبة الألوهية والمعبودية وبالجملة(2/534)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
لَكُمْ دِينُكُمْ الذي أنتم عليه وطريقكم الذي تتوجهون اليه بعد ما لم يوفقكم الحق على الهداية والايمان وَلِيَ دِينِ الذي انا عليه وبالجملة لا تتركون دينكم بديني وما انا ايضا بتارك ديني بدينكم بل لكم دينكم ولى ديني والتوفيق بيد الله والهداية والضلال
خاتمة سورة الكافرون
عليك ايها الموحد المحمدي الحنيف المائل عن عموم الأديان والمذاهب الباطلة المنافية لصرافة مشرب التوحيد الذاتي ان لا تجالس مع اهل الغفلة والضلال المترددين في اودية الجهالات بأنواع الخيالات الباطلة والأوهام العاطلة المترتبة على هوياتهم العدمية وتعيناتهم الوهمية ولا تصاحبهم في حال من الأحوال فان صحبتك معهم تبعدك عن الحق وتغريك نحو الباطل فان النفوس الانسانية سارقة طبعا مائلة نحو الباطل قطعا ولهذا صارت اسرع عدوا وأشد ميلا الى البدع والأهواء الفاسدة والآراء الباطلة. أعاذنا الله وعموم عباده منها بمنه وجوده
[سورة النصر]
فاتحة سورة النصر
لا يخفى على من فتح عليه الحق باب العناية وكشف له سبيل الهداية والكرامة ان كل من دخل في كنف حفظ الحق وجواره وتوكل عليه وفوض أموره كلها اليه فقد أعانه الله ونصره على جميع أعاديه وأنجح عموم مطالبه ومآربه وجميع ما قدر له من الكمالات التي اودعها الحق في استعداده الفطري وقابليته الجبلية ولا شك ان أكمل الناس استعدادا وأتمهم قابلية وأفضلهم شرفا وكمالا هو الحضرة الختمية الخاتمية صلى الله عليه وسلم إذ قد طويت المراتب كلها دون مرتبته صلى الله عليه وسلم ولهذا كمل جميع مكارمه وكمالاته المنتظرة له صلى الله عليه وسلم في نشأته الاولى ليكون مقدمة وعنوانا على تكميل كمالاته الاخروية كما نبه سبحانه في هذه السورة بعد التيمن والتبرك بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور حبيبه صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل الأحكم الرَّحْمنِ عليه بنصر أوليائه وقهر أعدائه الرَّحِيمِ له حيث فتح عليه أبواب الفتوحات الغيبية والشهادية والفيوضات اللدنية الفائضة عليه من عالم اللاهوت
[الآيات]
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ اى إذا جاءك يا أكمل الرسل وعد الله الذي قد وعدك به ان ينصرك على جميع أعدائك ويظهر دينك على الأديان كلها وقد جاءك ايضا الفتح الذي أخبرك الحق بقوله انا فتحنا لك فتحا مبينا وبعد ما جاءك النصر وَالْفَتْحُ الموعود آن لك وكمل ظهورك واستيلاؤك على عموم الأعادي وظهر دينك على سائر الأديان الباطلة والآراء الفاسدة
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ حينئذ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فوجا فوجا فرقة فرقة بعد ما كانوا يدخلون فيه فرادى فرادى
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يا أكمل الرسل شكرا لما اعطاك جميع ما وعدك وفتح عليك الآفاق وأتم ببعثتك وظهورك محاسن الشيم ومكارم الأخلاق على الإطلاق وَاسْتَغْفِرْهُ واطلب منه الرجوع الى من عن نوره صدرت لأنك مظهر اسراره وانواره واليه يرجع الأمر كله بعد إظهاره إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً رجاعا لأوليائه الى مستقر قدسه وحضرة أنسه وبعد ما نزلت هذه السورة وامر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم فيها بالحمد والاستغفار اغتم الأصحاب وحزنوا إذ قد فهموا منها ان أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرب فودعه الحق وامره بالحمد والاستغفار وما عاش صلى الله عليه وسلم بعد نزوله الا أياما قلائل لذلك سموا هذه السورة سورة التوديع ايضا(2/535)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
خاتمة سورة النصر
عليك ايها الطالب للنجاة الاخروية والراغب الى اللذات اللدنية الروحانية الموعودة ان تسترجع الى الله وتستغفره في عموم أوقاتك وحالاتك وتفوض أمورك كلها اليه وتتخذه وكيلا وتجعله حسيبا وكفيلا فعليك ان تواظب على الطاعات والعبادات وتجتنب عن مطلق المحارم والمنكرات يحفظك الحق عن جميع المصائب والملمات ويوصلك الى عموم المطالب والمهمات بفضله ولطفه
[سورة تبت]
فاتحة سورة تبت
لا يخفى على من كشف له الغناء الذاتي الإلهي وظهر عنده ان الدنيا وما فيها ما هي إلا سراب باطل وظل زاهق زائل لا ثبات لنعيمها ولا قرار لمقيمها وان الاغترار بها وبما يترتب على حطامها وأمتعتها الفانية انما هو من كمال الجهل والغفلة عن الله وعن اللذات الاخروية المعدة عنده سبحانه لأرباب العناية والكرامة كما اخبر سبحانه في هذه السورة عن بعض المسرفين المحتجبين عن الله المشتغلين عن مقتضيات ألوهيته وربوبيته من غاية اغتراره بماله وجاهه وثروته ونخوته وسيادته بين الأنام فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الغنى بذاته عن عموم مظاهره ومصنوعاته الرَّحْمنِ عليهم بافاضة الوجود الرَّحِيمِ عليهم حيث يوصلهم الى مرتبة الكشف والشهود في اليوم الموعود لو أخلصوا في التوجه والطاعات نحو الخلاق الودود
[الآيات]
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ اى قد خابت وخسرت خيبة ابدية وخسرانا سرمديا بحيث قد هلكت في نار القطيعة نفس الجهنمى الذي يداه كناية عن نفسه وذلك لأنه من غاية نخوته وغروره وشدة بطره وشروره ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنواع المنكر والمكروه وعارضه على وجه لا يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم اتكالا على ماله وجاهه ورئاسته بين أمته وذلك انه لما نزل الآية الكريمة وانذر عشيرتك الأقربين صعد رسول الله صلى الله عليه ذات يوم الى الصفا فنادى يا بنى فهر يا بنى عدى لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال أرأيتم لو أخبرتكم ان خيلا بالوادي يريد ان يغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا نعم ما جربنا عليك الا صدقا قال فانى نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال ابو لهب على سبيل الاستهزاء تبا لك يا محمد لهذا جمعتنا فنزلت تبت يدا ابى لهب بمجادلته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرائه معه وقصد استحقاره واستهانته إياه صلى الله عليه وسلم وَقد تَبَّ وهلك ذلك اللعين المفرط على الوجه الذي اخبر الله بهلاكه الى حيث
ما أَغْنى ودفع عَنْهُ مالُهُ الذي اتكل عليه واستظهر به شيأ من غضب الله وَما نفع له ونصره ما كَسَبَ وجمع وادخر من الأموال والأولاد والأعوان والاتباع قيل مات بالعدسة بعد وقعة بدر بأيام معدودة وترك ثلاثة ايام حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه فهو اخبار عن الغيب وقد وقع هذا على وجهه في النشأة الاولى
سَيَصْلى ويدخل ذلك اللعين ناراً ذاتَ لَهَبٍ واشتعال من شدة سورتها والتهابها وصولتها وفظاعتها
وَامْرَأَتُهُ التي كانت تمشى بالنميمة بين الناس وتوقد نيران الفتن والعداوة بينهم ايضا معه بل تصير هي حينئذ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ لنار جهنم تحتطب لها من الضريع والزقوم او هي حمالة الحطب فيها على قراءة الرفع يعنى صورت نميمتها التي قد مشيت بها في دار الدنيا بايقاد نار الفتن على هذه الصورة فتلازمها دائما
فِي جِيدِها وعنقها(2/536)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)
حَبْلٌ اى سلسلة متخذة مِنْ مَسَدٍ مفتول قد فتل من الحديد تحمل بها الحطب مع انها من اشرف قريش اى وزوجها ايضا
خاتمة سورة تبت
عليك ايها المريد المعتبر المستبصر عصمك الله عن تباب الدارين وخسارهما وبوارهما ان تتأمل في رموزات القرآن من القصص والاحكام والعبر والأمثال فتأخذ حظك منها مقدار ما يسر الله لك وأودعه في وسعك وطاقتك واعلم ان كل ما ذكر في القرآن انما نزل للإرشاد والتكميل فلك ان تأخذ من إشارات هذه السورة حسن المعاشرة وآداب المصاحبة سيما مع الاخوان والجيران وارباب العرفان وتتفطن منها بحقارة مزخرفات الدنيا وما يترتب عليها من اللذات البهيمية الساقطة عن رتبة الاعتبار الزائغة الزائلة بلا قرار ومدار
[سورة الإخلاص]
فاتحة سورة الإخلاص
لا يخفى على من اتصف بالمعرفة الإلهية وانكشف بوحدته واستقلاله سبحانه في الوجود والوجوب الذاتي واستغنائه سبحانه في ذاته عن عموم المظاهر والمجالى وتعاليه عن لوازم الافتقار والاحتياج المؤدى الى وصمة الإمكان وسمة الاستكمال والنقصان ان الذات الاحدية منزهة في ذاته عن مطلق التحديد والتوصيف الذي يصف به الواصفون ذاته سبحانه لذلك بين سبحانه ذاته في هذه السورة ووصفه الذاتي بمقتضى علمه الحضوري بذاته تنبيها وتعليما على عباده وإرشادا لهم فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي لا يكتنه ذاته بمدارك مظاهره ومصنوعاته مطلقا الرَّحْمنِ عليهم بتوصيف ذاته إياهم الرَّحِيمِ لخواصهم حيث يهديهم الى سرائر معرفته وتوحيده
[الآيات]
قُلْ يا أكمل الرسل لمن يسأل منك بقوله صف لنا ربك الذي تدعونا الى الايمان به وعبادته هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اى هو الذات المتصفة بالالوهية الغيبية والشهادية الجامعة بينهما ظاهرا وباطنا المتعالية عن كليهما بحسب الذات المتصفة بالالوهية والربوبية ووجوب الوجود المستجمعة لجميع شرائط الكمال حسب الأسماء والصفات الكاملة الكامنة في تلك الذات المتصفة بالأحدية المطلقة المنزهة عن التعدد والكثرة مطلقا المستقلة في الوجود والحياة والقيومية المطلقة المستلزمة للديمومية والبقاء الأزلي الأبدي السرمدي لا يكال بقاؤه ودوامه بمطلق الموازين والمقادير ولا يحيط به وبقيوميته مطلق التدابير والتقادير فكيف كان سبحانه محلا للتقدير إذ هو
اللَّهُ الصَّمَدُ اى السيد السند الذي يقصد نحوه ويرجع اليه عموم ما ظهر وبطن من الكوائن الفاسدة الكائنة في نشأتى الغيب والشهادة والاولى والاخرى وهو في ذاته مستغن عن جميعها مطلقا وكيف لا يكون مستغنيا إذ هو الله الأحد الفرد الصمد القيوم الذي
لَمْ يَلِدْ ولدا إذ الإيلاد انما هو للمعاونة والمظاهرة او للاخلاف وخوف الانعدام والانقضاء وهو سبحانه بمقتضى قيوميته واستقلاله بحوله وقوته ووجوب وجوده ودوام بقائه لا يطرأ عليه أمثال هذه النقائص الامكانية المستلزمة لضبط العاقبة والمآل إذ لا يجرى عليه سبحانه انقضاء وانتقال ولا يلحقه زوال وارتحال وَكذلك لَمْ يُولَدْ لذلك إذ كل ما ظهر وبطن ازلا وابدا انما هو منه واليه وبه وله وفيه وكل ما فرض من الموجود ازلا وابدا ذهنا وخارجا غيبا وشهادة ما هو خارج عن حيطة اظلال أسمائه وعكوس صفاته فكيف يتصور ان(2/537)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
يسبقه شيء هو غيره مع انه لا غير في الوجود ولا شيء سواه موجود مطلقا حتى يلده
وَبالجملة هو سبحانه منفرد في توحده متوحد في انفراده وتفرده ومستقل في استقلاله بحيث لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ لا قبله ولا بعده ولا معه بل لا اله سواه ولا موجود غيره
خاتمة سورة الإخلاص
عليك ايها الموحد المحمدي المنكشف بالتوحيد الذاتي مكنك الله في مقر عزك وتمكينك ان تصرف عنان همتك وعزمك بعد ما كوشفت لوحدة ذات الحق وكمالات أسمائه وصفاته نحو سوابغ آلائه ونعمائه الفائضة منه سبحانه حسب رقائق أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى وتشاهد اثار قدرته الغالبة التي تتحير منها العقول والآراء وإياك إياك ان تغفل عن الله طرفة عين فإنها تورثك حسرة طويلة ان كنت من ذوى العبرة واولى الأبصار إذ كل نفس من الأنفاس الإلهية التي قد جرت عليك في اوقات حياتك مشتملة على عجائب صنع الله منصبغة ببدائع حكمته المتقنة البالغة بحيث ما مضى مثلها ازلا ولا سيئاتي شبهها ابدا فعليك ان تغتنم الفرصة وتتعرض للنفحات الإلهية دائما بحيث لا يشغلك شيء منها. جعلنا الله من زمرة المتعرضين لنفحات الحق ومن المستنشقين من نسمات روحه وراحته بمنه وجوده
[سورة الفلق]
فاتحة سورة الفلق
لا يخفى على من اعتصم بالله ودخل في كنف حفظه وجواره مفوضا أموره كلها اليه ان الله سبحانه يراقبه من كل ما يضره ويغويه ويحفظه عن كل ما يرديه ويؤذيه لذلك امر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم حين قصده اعداؤه بالسوء وسخروا له حسدا على ظهوره واستيلائه وانتشار صيته الحسن في الآفاق والأقطار بالاستعاذة والاستلجاء نحوه بكمال الوثوق والخلوص فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المراقب على محافظة خلص عباده من جميع ما يضرهم ويؤذيهم بعد ما رجعوا اليه وتعوذوا به مخلصين الرَّحْمنِ عليهم بانزال الرقى وتلقين الدعاء الرَّحِيمِ لهم حيث يبرؤهم ويشفيهم بعد ما أخلصوا في التعوذ والالتجاء
[الآيات]
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما اصابتك من سحر أعدائك مصيبة وعرضتك بشؤم أعينهم عارضة ازالة لها ودفعا لضررها أَعُوذُ والوذ مخلصا بِرَبِّ الْفَلَقِ اى الذي فلق وشق ظلام الليل المظلم بنور الصبح المنير وفلق ظلمة العدم باشراق نور الوجود
مِنْ شَرِّ جميع ما خَلَقَ في عالم الكون والفساد من النفوس الخبيثة
وَكذا الوذ به سبحانه مِنْ شَرِّ كل غاسِقٍ مظلم محيل إِذا وَقَبَ دخل وانغمس في ظلامه ليحيل ويمكر
وَكذا مِنْ شَرِّ عموم الساحرات النَّفَّاثاتِ النفاخات بريق أفواههن فِي الْعُقَدِ التي يعقدن على الخيط ليسحرن الناس بها
وَبالجملة أعوذ برب الفلق مِنْ شَرِّ كل حاسِدٍ إِذا حَسَدَ وقصد ان يحسد فانه سبحانه يكفيك مؤنة شرورهم عنك بحوله وقوته
خاتمة سورة الفلق
عليك ايها المحمدي الملتجئ الى الله المستعد لفيضان حوله وقوته ان تداوم على ذكر الله وقراءة القرآن وتكرار الاذكار والتسابيح المأثورة من النبي المختار في عموم أوقاتك وحالاتك سيما(2/538)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
في خلال الليالى والأسحار وفي آناء الليل وأطراف النهار لعل الله يرقبك عن فتنة ما ذرأ وبرأ ويكف عنك شرور من عاداك بالسحر والعين وغيرها بمنه وجوده
[سورة الناس]
فاتحة سورة الناس
لا يخفى على من انكشف له سرائر التوحيد واليقين وانفتح عليه أبواب معالم الدين القويم والصراط المستقيم اى من تمسك بحبل التوفيق الإلهي واستمسك به لا بد وان يحفظ نفسه دائما عن فتنة شياطين القوى الامارة التي توسوس في صدور الأنام بأنواع الوسوسة وتوقعهم في اصناف الفتن والمحن الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة المتعلقة بنشأة الناسوت حتى تزيغ قلوبهم وتضلهم عن الطريق المستبين لذلك لقن سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم الاستعاذة والالتجاء نحوه سبحانه من غوائل الشيطان واغوائه تتميما لتربيته وتكميله وتنبيها على من تبعه من المؤمنين وإرشادا لهم فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المدبر لمصالح عباده بمقتضى جوده الرَّحْمنِ عليهم يحفظهم عما يبعدهم عن كنف حفظه الرَّحِيمِ عليهم ينبههم على ما يضرهم ويغويهم ليتمكنوا في الدين القويم ويترسخوا على الصراط المستقيم
[الآيات]
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما مكنك الحق في مقعد التوحيد وهداك للوصول الى ينبوع بحر الحقيقة التي هي الوحدة الذاتية ملتجأ الى الله مستمسكا بعروة عصمته أَعُوذُ والوذ بِرَبِّ النَّاسِ الذي أظهرهم من كتم العدم ورباهم بأنواع اللطف والكرم
مَلِكِ النَّاسِ ومتولى أمورهم
إِلهِ النَّاسِ إذ ظهور الكل منه ورجوعه اليه ولا مالك لهم سواه ولا اله غيره
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الموسوس المثير للفتن في قلوب الناس الْخَنَّاسِ الدفاع الرجاع للناس عن نور الهداية والفلاح الى ظلمات البدع والضلال
الَّذِي يُوَسْوِسُ دائما فِي صُدُورِ النَّاسِ ويلقى في روعهم ما يغويهم عن طريق الحق ويغريهم الى الباطل الزائغ الزائل وهذا الخناس الموسوس في صدور الناس قد يكون
مِنَ الْجِنَّةِ اى من جنس الجن يوسوس على الانس من طرق الوهم والخيال فيضله عن الصراط المستقيم وَقد يكون من جنس النَّاسِ ايضا يوسوس من طرق الحواس إذ بعض النفوس الخبيثة الانسية يضل بعض الضعفاء عن طريق الحق ويوقعهم في فتنة عظيمة وعذاب اليم.
أعاذنا الله وعموم عباده من شر كلا الفريقين بفضله وجوده
خاتمة سورة الناس
عليك أيهما المحمدي المعتصم بحبل التوفيق المستمسك بالعروة الوثقى التي هي الدين القويم الإلهي والشرع الشريف المصطفوى ان تواظب على امتثال الاحكام الشرعية والأوامر الإلهية النازلة في القرآن العظيم وتجتنب عن مطلق النواهي والمحظورات الموردة فيه من لدن حكيم عليم فعليك بالإخلاص في كل الأعمال والاتكال على الله في عموم الأحوال وعليك الاشتغال بالطاعات ودوام المراقبة مع الله في عموم الحالات فانه سبحانه يوصلك حسب لطفه وجوده الى أعلى المقامات وارفع الدرجات نعتصم بك يا ذا القوة المتين ونتوكل عليك يا ذا الجود العظيم ونستعيذ بك في عموم الأحوال والأهوال من الشيطان الرجيم. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب وأنت الملهم للصواب والموفق على نيل الثواب منك المبدأ وإليك المآب وعندك أم الكتاب
وبعد ما اتفق بتوفيق الله إتمامه وتم بلطفه ختمه وختامه جاء بفضل الله وسعة رحمته وجوده كنزا مملوا بلآلى نفيسة(2/539)