خاتمة سورة الأنبياء عليهم السّلام
عليك ايها الطالب القاصد لاقتصاد الأحوال واعتدال الأفعال والأقوال ان تستعين بالله في كل ما صدر عنك وجرى عليك وتسنده الى الله سبحانه بلا رؤية الوسائل في البين وتتخذه وكيلا وتفوض عموم أمورك في جميع شئونك واطوارك اليه سبحانه إذ هي له اصالة وان صدر عنك صورة إذ لا وجود لك في ذلك فكيف ما يترتب عليه من الأفعال والآثار وبالجملة فلك ان تميت نفسك عن عموم ما عداك وبعثك اليه امارة نفسك وشيطان وهمك وخيالك إذ هي مضلتك ومغويتك تبعدك عما يعينك وتغريك الى ما لا يعنيك وترديك فلك ان تميز بين تسويلات الهوى وأماني النفس الملهية عن المولى وبين آيات الهدى وعلامات التقى الموصلة الى الدرجات العلى والفوز بشرف اللقاء وان شئت ان تخلص نفسك من جنود الهوى وعساكر الغفلات من الأوهام والخيالات فاعتزل عن اظهر الناس وابعد عن ملأهم واحذر عن مخالطتهم ومصاحبتهم واتخذ لنفسك خلوة تنجيك عن عموم ما يغويك ويؤذيك إذ المرء ما يذوق حلاوة الوحدة ولذة التوحيد الا في الوحدة والعزلة والفرار عن الخلطة سيما في هذا الزمان الذي قد غلب فيه النفاق وكثر الخلاف والشقاق. ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من لذات الدنيا ومشتهياتها وانسابك يخلصنا عن موانسة غيرك انك على عموم ما تشاء قدير وإنجاح آمال المؤملين جدير
[سورة الحج]
فاتحة سورة الحج
لا يخفى على الموحدين المشمرين أذيال هممهم للتوجه الى كعبة الذات والوقوف عند عرفات الأسماء والصفات والطواف حول البيت الحرام المشتمل على جميع الأركان والمقامات الجامعة لجميع الابعاد والجهات ان الحج الحقيقي والطواف المعنوي الأصلي انما هو بالانخلاع عن لوازم الصور الجسمانية وكذا عن مقتضيات الهياكل الهيولانية بالموت الإرادي والفناء الاختياري المنبعث عن الشوق المفرط نحو الحق المنزه عن تراكم الإضافات المؤدية الى التعدد والكثرات ولهذا قد وضع سبحانه للسالكين القاصدين نحو قبلة الذات مقصدا مخصوصا وعين لهم وجهة معينة وأمرهم بالتوجه إليها والوقوف عندها والطواف حولها من كل فج عميق ومرمى سحيق الا وهي اودية الإمكان وبوادي التعينات واغوار اللذات والشهوات الوهمية البهيمية متزودين زاد التقوى راكبين على مطايا التوفيق متقربين الى الله بذبح كبائش انانياتهم وأنفسهم متكفئين محرمين لابسين. لباس الموت الاضطراري منسلخين عن لوازم الحيوة المستعارة الصورية المبطلين عموم القوى والآلات عن مقتضياتها محرمين على نفوسهم جميع المشتهيات النفسانية الناشئة من الشهوية والغضبية بحيث لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ثم أمرهم بوقوف عرفات المعرفة لهم سرائر الأسماء والصفات ليتأتى لهم الطواف حول كعبة الذات إذ لا سبيل إليها الا من طرق الأسماء والصفات التي هي العرفات والمعرفات حقيقة ثم لما كان الطواف الحقيقي والحج المعنوي مسبوقا برفع جميع التعينات ونفى مطلق الإضافات والكثرات ولا يتم هذا على الوجه الأتم الأكمل الا في النشأة الاخرى والطامة الكبرى حذرهم سبحانه عنها أولا ليتهيأوا لها ويتزودوا بزاد يناسبها فقال مناديا لهم على سبيل التذكير متيمنا باسمه العلى الكبير بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عباده بأحسن التدبير الرَّحْمنِ عليهم بحفظهم(1/545)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
عن الخطر ويعطيهم الخير الكثير الرَّحِيمِ لهم يسهل عليهم كل عسير
[الآيات]
يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسبون للعهود والمواثيق الإلهية اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذي رباكم بأنواع الكرامات وبجلائل النعم واصناف اللذات والشهوات واجتنبوا عما نهاكم سبحانه عنه من المكاره والمعاصي وعموم المنكرات ولا تغتروا بامهاله إياكم في نشأتكم هذه واحذروا عن بطشه في النشأة الاخرى عند قيام الساعة إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ المعدة لانقهار النظام المشاهد وانحلال أجزاء العالم المحسوس شَيْءٌ عَظِيمٌ وامر فظيع هائل فجيع بحيث تضعضعت السموات من هيبتها واندكت الأرضون من شدة صولتها اذكر ايها المعتبر الرائي نبذا من أهوالها وافزاعها
يَوْمَ تَرَوْنَها
اى تلك الزلزلة الشديدة المهيبة بحيث تَذْهَلُ
اى تدهش وتغفل من غاية دهشتها وحيرتها كُلُّ مُرْضِعَةٍ
مشفقة متحننة عَمَّا أَرْضَعَتْ
اى ولدها الرضيع مع كمال محبتها ومودتها إياه
وَايضا تَضَعُ
عند حدوثها من شدة فزعها وهولها كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ
وحبل حَمْلَها
وجنينها
وَبالجملة تَرَى
ايها الرائي النَّاسَ
اى عموم الأنام عند حدوثها سُكارى
حيارى مدهوشين زائلة عقولهم من شدة الهول وَما هُمْ بِسُكارى
حقيقة وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ
النازل إياهم في تلك الحالة شَدِيدٌ
مدهش محير لعقولهم وأبصارهم وجميع قواهم ومشاعرهم
وَكيف لا يكون لله المنتقم القهار الجبار ذي القدرة الكاملة والغيرة التامة العذاب والنكال في النشأة الاخرى سيما على من يسئ الأدب معه وينسب اليه سبحانه ما لا يليق بشأنه وينكر يوم البعث والجزاء مع ورود الآيات العظام من لدنه سبحانه في شأنه إذ مِنَ النَّاسِ المجبولين على المراء والجدال مَنْ يُجادِلُ يمارى ويخاصم داعي الله ورسوله سيما فِي حق اللَّهِ ويبالغ فيه حيث ينفى ذاته سبحانه وعموم صفاته الذاتية الكاملة مع ان نفيه قد صدر عنه جهلا بِغَيْرِ عِلْمٍ دليل عقلي يتشبث به او نقلي يستند اليه بل انما هو ناش من جهل وعناد وَغاية مستنده ومتشبثه انه يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مضل مغو مَرِيدٍ غال مستمر في الشرارة والفساد بين العباد
لذلك كُتِبَ ونص عَلَيْهِ اى على الشيطان الطريد المريد المردود المطرود من لدنه سبحانه أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ اى الشيطان واتخذه وليا من دون الله واقتدى له واقتفى اثره فَأَنَّهُ اى الشيطان باغوائه واغرائه إياه يُضِلُّهُ ويصرفه عن سواء السبيل الذي هو طريق الايمان والتوحيد وَيَهْدِيهِ بمقتضى تلبيسه وتغريره إِلى عَذابِ السَّعِيرِ والله لبئس المولى ولبئس النصير
يا أَيُّهَا النَّاسُ المنهمكون في الغفلة والنسيان المنغمسون بلوازم الحدوث والإمكان المفضية الى انواع العصيان والطغيان إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ شك وتردد مِنَ امر الْبَعْثِ وإمكان وقوعه ومن قدرتنا على اعادة المعدوم فارجعوا الى وجدانكم وتأملوا في ابداعنا نفوسكم من كتم العدم أولا بلا سبق الهيولى والزمان حتى يزول ريبكم ويرتفع شككم فَإِنَّا قد خَلَقْناكُمْ وقدرنا وجودكم مِنْ تُرابٍ جماد ولا مناسبة بينكم وبينه أصلا إذ هو اصل النطفة ومادة المنى إذ المنى انما يحصل من الاغذية المتكونة من التراب ثُمَّ قدرناكم ثانيا مِنْ نُطْفَةٍ مصبوبة في الأرحام حاصلة من أجزاء الاغذية ثُمَّ صورناكم مِنْ عَلَقَةٍ اى دم منعقد من المنى المصبوب في الرحم ثُمَّ عينا اركان اجسامكم مِنْ مُضْغَةٍ اى لحم متكون من الدم المنعقد مُخَلَّقَةٍ كاملة الخلقة سوية الاجزاء بلا عيب ولا نقصان قابلة الفطرة للمعرفة والهداية والرشد التام وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ناقصة الخلقة معيبة الاجزاء والأركان منحطة عن درجة(1/546)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
الكمال كل تلك التبديلات والتغييرات منا دليل على كمال قدرتنا وارادتنا ووثوق حكمتنا وتدبيراتنا واختيارنا فيها انما أظهرناها لِنُبَيِّنَ ونظهر لَكُمْ كمال قدرتنا المتعلقة على جميع المقدورات المحققة والمقدرة على السوية بلا فتور وقصور وَبالجملة نُقِرُّ ونثبت فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ من الولد على اى وجه نريد ثبوته ذكرا او أنثى مبدلين ومغيرين من صورة الى اخرى مرارا كثيرة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت معين قد سميناه وعيناه في حضرة علمنا المحيط لتسويته وتعديله وبعد ما سوينا وعدلنا اركان جسمه على الوجه الذي تقتضيه حكمتنا قد نفخنا فيه من روحنا اى نفخنا الروح فيه علة غائية متقدمة على إيجاده وإظهاره وان كانت متأخرة وجودا وصورة ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ اى كلا منكم من بطون أمهاتكم طِفْلًا محتاجا الى الرضاعة والحضانة وانواع المحافظة ثُمَّ نربيكم بأنواع التربية والتغذية ونقوى امزجتكم ومشاعركم على التدريج كل ذلك لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ اى كمال رشدكم وقوتكم الجسمانية وتثمروا من المعارف والحقائق ما قد جبلتم لأجلها ان وفقتم من لدنا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى بعد ما بلغ أشده ورشده او قبل بلوغه وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وهو سن الكهولة والهرم المستلزم للخرافة ونقصان العقل وضعف القوى والآلات لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ متعلق منه بمعلوم مخصوص شَيْئاً من امارات ذلك المعلوم بل قد صار ذلك المعلوم عنده كأن لم يلتفت اليه قط لغلبة الغفلة والنسيان عليه وسقوط الحفظ والإدراك عنه كل ذلك انما هو لإظهار قدرتنا الكاملة وارادتنا التامة الشاملة واختيارنا الغالب وَلا تعجب من كمال قدرتنا ومتانة صنعتنا وحكمتنا أمثال هذا تَرَى ايها الرائي الْأَرْضَ الممهدة المبسوطة كيف كانت هامِدَةً يابسة ميتة جامدة خامدة بعيدة عن الرطوبة والخضرة مطلقا كالرماد فَإِذا أَنْزَلْنا وقت تعلق قدرتنا وارادتنا باحيائها ونضارتها عَلَيْهَا الْماءَ المشتمل على خاصية الحيوة اهْتَزَّتْ وتحركت اهتزازا شوقيا وتحركا حبيا حضوريا وَرَبَتْ وارتفعت من حضيض الخمود وغورا لجمود طالبا الخروج الى ذروة فضاء الهوى والوصال والعروج الى غاية ما قد اعدله من أوج الكمال وَبعد حركتها وارتفاعها متشوقة أَنْبَتَتْ وأظهرت باقدارنا إياها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ نوع وصنف مما يخرج من الأرض بَهِيجٍ رائق عجيب بديع وهذا من أوضح الدلائل وأوثق البراهين عند ذوى النهى واليقين على وقوع البعث واعادة المعدوم وجميع المعتقدات الاخروية
ذلِكَ اى المذكورات من إيجاد المقدورات التي تستبعدها العقول السخيفة والأحلام الردية الضعيفة بِأَنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء هُوَ الْحَقُّ الثابت المحقق المقصور على الحقية والثبوت لا متحقق في الوجود سواه ولا معبود يعبد بالحق الا هو وَأَنَّهُ سبحانه بخصوصه حسب انفراده واستقلاله هو الحي القيوم المحيي يُحْيِ الْمَوْتى بالإرادة والاختيار وَأَنَّهُ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته هو القادر المقتدر بكمال الاستقلال والاستحقاق عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل تحت قدرته وحيطة حضرة علمه المحيط وارادته الشاملة قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور ولا تزلزل ولا عثور
وَأَنَّ السَّاعَةَ الموعودة من عنده سبحانه آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها إذ هي من جملة المقدورات الإلهية التي قد قدر سبحانه وجودها وأثبتها في لوح قضائه وحضرة علمه المحيط وَأَنَّ اللَّهَ المتصرف بالاستقلال والاختيار يَبْعَثُ وينشر يوم الحشر عموم مَنْ فِي الْقُبُورِ من النفوس الخيرة والشريرة ثم يحاسبهم ويجازيهم على مقتضى حسابه إياهم ان خيرا فخير وان شرا فشر
وَمِنَ النَّاسِ(1/547)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
المجبولين على الكفران والنسيان مَنْ يُجادِلُ ويكابر فِي أوامر اللَّهِ وينكر مقدوراته الماضية والآتية مع انه قد صدر عنه هذا الإنكار بِغَيْرِ عِلْمٍ اى دليل عقلي مسبوق بترتيب المعلومات اليقينية او الظنية وَلا هُدىً اى حدس وكشف ملهم من عند الله ملقى في روعه وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ دليل نقلي منسوب الى الوحى والإلهام بحيث ينور ويضئ قلوب من صدق به وأخذ بما فيه وامتثل بمقتضاه ايمانا واحتسابا ومع انه ليس له سند لا عقلي ولا كشفى ولا شهودي هو معرض عن مطلق الدلائل والشواهد اللائحة مع وضوحها وظهورها صارف عنان فكره وعزمه عن التأمل فيها وبالجملة يجادل في الله حال كونه
ثانِيَ عِطْفِهِ يعنى لاويا عنقه موليا جنبيه طاويا كشحه عنها كبرا وخيلاء على اصحاب الدلائل والبراهين وارباب الكشف والشهود وعتوا واستكبارا وانما فعل ما فعل من عدم الالتفات والتوجه نحو اهل الحق لِيُضِلَّ بفعله هذا ضعفاء الأنام عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي قد بينه الأنبياء العظام وأوضحه الرسل الكرام عليهم التحية والسّلام بوحي الله والهامه إليهم وبانزال الكتب والصحف عليهم وبالجملة لَهُ اى لهذا المستكبر العاتي بسبب ضلاله وإضلاله فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هوان وهون وطرد ولعن وأسر ونهب وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بعد انقراض النشأة الاولى عَذابَ الْحَرِيقِ المحرق الذي هو النار لا عذاب أشد منها وحين تعذيب الموكلين عليه بالنار قد أمرنا لهم ان يقولوا له على سبيل التقريع والتوبيخ زجرا عليه
ذلِكَ الذي قد لحقك الآن ونزل عليك من العذاب المخلد بِما قَدَّمَتْ وكسبت يَداكَ في النشأة الاولى وعلى مقدار ما اقترفته من المعاصي والآثام بلا زيادة عليها عدلا منا إياك وَاعلم ايها المسرف المبالغ في اقتراف الجرائم المستوجبة للعذاب أَنَّ اللَّهَ المتصف بالعدل القويم لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يعنى ليس بمبالغ في جزاء الانتقام عن مقدار الجرائم والآثام مثل مبالغته في جزاء الانعام والإحسان تفضلا وامتنانا
وَمِنَ النَّاسِ المجبولين على نسيان المنعم وكفران نعمه مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ المنزه المستغنى عن إيمانه وسعادته وعن كفره وشقاوته عَلى حَرْفٍ اى شاكا مترددا منتظرا على حرف منصرفا منحرفا بلا جزم منه فيه وطمأنينة كالذي يتمكن يوم الوغاء على طرف الجيش مترددا منتظرا ان أحس الظفر قر في مكانه وتمكن وإلا فر كذلك حال هذا المؤمن المتزلزل المتذبذب فَإِنْ أَصابَهُ بعد ما آمن واسلم خَيْرٌ اى شيء يسره ويفرحه اطْمَأَنَّ بِهِ وتمكن لأجله متفئلا بالإسلام والايمان وَإِنْ أَصابَتْهُ بعد اختياره الايمان والإسلام فِتْنَةٌ اى بلية ومصيبة تمله وتورثه حزنا قد انْقَلَبَ ورجع عَلى وَجْهِهِ اى وجهته التي تركها من الكفر متطيرا متشأما بالإيمان والإسلام وبالجملة قد خَسِرَ ذلك المتزلزل المتذبذب في الدُّنْيا بأنواع المصيبات والبليات وَفي الْآخِرَةَ بالحرمان من درجات الجنات والخلود في دركات النيران بأنواع الخسران وبالجملة ذلِكَ الخسران المستوعب له في النشأتين هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ والحرمان العظيم لا خسران أعظم منه وافحش
وكيف لا يخسر ذلك المطرود المردود هو يَدْعُوا ويعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ المتصف بعموم أوصاف الكمال المستحق للعبادة والإطاعة استحقاقا ذاتيا ووصفيا ما لا يَضُرُّهُ اى شيأ خسيسا دنيا ان عصاه ولم يؤمن به ولم يعبده لا يتأتى منه الضرر والانتقام وَما لا يَنْفَعُهُ ان أطاعه وعبده حق عبادته وأطاعته لا يتأتى منه ان يثيبه ويغفر له ذنوبه ويحسن اليه ذلِكَ اى الإطاعة والانقياد لشيء لا يرجى منه النفع والضر هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ(1/548)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
عن الهداية والتوحيد بمراحل خارجا عن الحصر والتعديد
بل يَدْعُوا ذلك الضال الغوى لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ اليه بسبب اتخاذه شريكا لله في استحقاق العبادة جهلا وعنادا مع انه سبحانه هو الواحد الأحد الصمد الفرد المستقل بالالوهية والربوبية ودخول المشرك المجترئ على الله بإثبات الشريك في النار محقق مقطوع به فيكون ضره بالنسبة اليه اقرب مِنْ نَفْعِهِ الذي توهمه ان يشفع لأجله عند الله مع ان الشفاعة عنده سبحانه انما هي باذنه سبحانه ايضا فثبت ان لا نفع له مطلقا والله لَبِئْسَ الْمَوْلى المعين الناصر الشفيع الأصنام والأوثان الخسيسة وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ العبيد المشركون الذين يعبدونهم ويوالونهم ويتخذونهم أربابا ويطمعون منهم الشفاعة عند الله مع ترك المحقق المجزوم وأخذ المعدوم الموهوم بدله ما هو إلا كفر باطل وزيغ زائل عاطل اللهم اهدنا بفضلك الى سواء السبيل
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد إِنَّ اللَّهَ الهادي الى دار السّلام يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وهم الذين سبقوا بالإيمان بالله وبتصديق رسله وكتبه وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأعمال التي قد أمرهم سبحانه في كتبه وأجرهم على السنة رسله بالإتيان والامتثال به واجتنبوا ايضا عن مطلق النواهي التي قد نهاهم سبحانه عنها جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق الجزئية المتجددة بتجددات الأمثال الا وهي الرموز والإشارات التي يتفطن بها العارف المتعرج من ظواهر المظاهر المرتبطة بالشؤون والتجليات الإلهية وبالجملة إِنَّ اللَّهَ الموفق لخواص عباده يَفْعَلُ معهم من الإحسان ما يُرِيدُ لهم من انواع الصلاح والفوز بالنجاح والتحقق بمقام الرضاء وشرف اللقاء ثم لما اعتقد المشركون ومن في قلبه عداوة راسخة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكيمة شديدة وغيظ مفرط ان لا نصر ولا اعانة له من عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة كما زعمه رد الله عليهم نصرا له وترويجا لقوله
فقال مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ اى انه لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ ولن يعين رسوله صلّى الله عليه وسلّم ابدا لا فِي الدُّنْيا وَلا في الْآخِرَةِ بل اعتقاده في حقه صلّى الله عليه وسلّم ان ما ادعاه من نصر الله إياه في الدنيا والآخرة انما هو لإثبات دعواه وترويج مدعاه والا فلا نصر له ولا ناصر له يقال لذلك المنكر ان شئت ازالة غيظك وحسدك عنه صلّى الله عليه وسلّم فَلْيَمْدُدْ وليتشبث ذلك الظان المنكر بِسَبَبٍ اى بحبل ممدود من الأرض إِلَى السَّماءِ اى نحوها وليرتفع ممسكا متعلقا بالحبل الممدود الى ان يتباعد من الأرض مسافة بعيدة بحيث لو سقط منها لا يرجى حياته أصلا ثُمَّ يقال له بعد ما ارتفع من الأرض جدا لْيَقْطَعْ الحبل ولينفصل عنه فقطع فوقع فَلْيَنْظُرْ بعد ما وقع على الأرض هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مكره هذا وحيلته هكذا ما يَغِيظُ اى غيظه برسول الله صلّى الله عليه وسلم والله يذهب هذا وأمثاله غيظه البتة وبالجملة ما يزول انكار المنكرين وغيظ المشركين المغتاظين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الا بهذه الحيلة والكيد يعنى بالموت والقتل
وَكَذلِكَ اى مثل ما قد نصرناه صلّى الله عليه وسلّم في وقائع كثيرة قد أَنْزَلْناهُ ايضا لتأييده ونصره آياتٍ اى دلائل بَيِّناتٍ واضحات دالة على صدقه في دعواه النبوة والرسالة والتشريع العام والإرشاد التام وَأنزلناه ايضا على سبيل العظة والتعليم أَنَّ اللَّهَ الهادي للعباد الموفق لهم الى سبيل الرشد يَهْدِي بعد ما بلغت لهم طريق الهداية والسداد بوحي الله إياك يا أكمل الرسل مَنْ يُرِيدُ يعنى من يتعلق ارادته ومشيئته سبحانه لهدايته ورشده يهديه ومن يتعلق بضلاله يضله وبالجملة ما(1/549)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
عليك يا أكمل الرسل الا البلاغ وعلى الله الهداية والرشد فلا تتعب نفسك في هداية من أحببت بل امر الهداية والضلال انما هو مفوض الى الكبير المتعال
لذلك قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الهادي لعموم الأنام الى توحيد الذات والصفات والأفعال جميعا وَالَّذِينَ هادُوا وهم الذين قد آمنوا بموسى الكليم عليه السّلام الهادي لامته الى توحيد الصفات وَالصَّابِئِينَ الذين يدعون الاطلاع على سرائر الكواكب والاجرام العلوية وَالنَّصارى وهم الذين آمنوا بعيسى عليه السّلام الهادي لامته الى توحيد الأفعال وَالْمَجُوسَ الذين يدعون التمييز بين فاعل الخير وفاعل الشر وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله واثبتوا له شريكا مع تنزهه عن الشركة مطلقا وبالجملة كل من هؤلاء المذكورين يدعى حقية نفسه وبطلان غيره إِنَّ اللَّهَ المطلع بسرائر عموم عباده وضمائرهم يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ اى بين من هو المحق منهم من المبطل يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للفصل والقطع وكيف لا يميز ولا يفصل سبحانه إِنَّ اللَّهَ المتجلى في الأنفس والآفاق عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ اى حاضر مع كل شيء رقيب عليه غير مغيب عنه أصلا
أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي ولم تعلم أَنَّ اللَّهَ المظهر لعموم المظاهر يَسْجُدُ يتذلل ويخضع لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ من العلويات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من السفليات خصوصا معظمات الاجرام العلوية وَهي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وكذا معظمات الأجسام من السفليات وَهي الْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ اى مطلق الحيوانات وَيسجد له ايضا طوعا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ المجبولين على فطرة التوحيد المخلوقين على استعداد الايمان وقابلية المعرفة والإيقان وَكَثِيرٌ منهم لانحرافهم عن الفطرة الاصلية بتقليد آبائهم ومعلميهم الذين يضلونهم عن سواء السبيل لذلك قد حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وثبت له العقاب في لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي وَبالجملة مَنْ يُهِنِ اللَّهُ ويسقط رتبته ويحط درجته فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ معل رافع أَنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم يَفْعَلُ معهم ما يَشاءُ بمقتضى علمه وخبرته ويحكم لهم وعليهم ما يريد حسب قدرته وارادته ثم لما تطاول نزاع اليهود مع المؤمنين وتمادى جدالهم وخصومتهم حيث قالت اليهود نحن أحق بالله منكم لتقدم ديننا وشرف نبينا وفضل كتابنا وقال المؤمنون نحن أحق منكم لان ديننا ناسخ عموم الأديان ونبينا خاتم دائرة النبوة والرسالة ومتمم مكارم الأخلاق وكتابنا الجامع لما في الكتب السالفة الناسخ لبعض أحكامها أفضل من سائر الكتب ونحن لا ننكر نبيا من الأنبياء وكتابا من الكتب وأنتم قد انكرتم بعيسى عليه السّلام وبدينه وبكتابه وكذا بديننا ونبينا وكتابنا مع انه مسلم عند نبيكم مذكور في كتابكم وأنتم تعلمون حقيته وتنكرونه عنادا او رد سبحانه في كتابه قصتهما وحكم بينهما
فقال هذانِ الفوجان والفرقتان يعنى المؤمنين واليهود خَصْمانِ قد اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ مع وجدة ذاته وشمول ألوهيته وربوبيته لعموم البرايا فَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله المتوحد بذاته واثبتوا شريكا وفرقوا بين كتبه ورسله بالإقرار والإنكار وبالتصديق والتكذيب قُطِّعَتْ اى أعدت وهيئت لَهُمْ ثِيابٌ وملابس متخذة مِنْ نارٍ شبهها بالثياب لإحاطتها وشمولها ومع ذلك يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ الماء الحار البالغ نهاية الحرارة
بحيث يُصْهَرُ ويذاب بِهِ اى بالماء الحار ما فِي بُطُونِهِمْ من الشحوم وغيرها وَكذا يذاب به
الْجُلُودُ وَلَهُمْ اى لردهم وزجرهم قهرا وزجرا مَقامِعُ سياط متخذة مِنْ حَدِيدٍ يعنى بيد كل من وكل عليهم من الزبانية سوط من نار وهم(1/550)
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
من شدة كربهم
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها اى من النار مِنْ غَمٍّ مفرط وشدتهم وكآبة قد عرض لهم من شدة العذاب فطلبوا ان يخرجوا منها حين ألقتهم اللهب الى الطرف الأعلى منها تفريجا وتخفيفا أُعِيدُوا فِيها زجرا وتعنيفا ضاربين عليهم بالمقامع المذكورة وَحينئذ يقول لهم الزبانية الموكلون ذُوقُوا ايها المصرون على الكفر والعناد المسرفون المفسدون بأنواع الفجور والفساد عَذابَ الْحَرِيقِ المحرق أكبادكم بدل ما قد كنتم تبردونها بالسحت والرشى في نشأة الدنيا.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة إِنَّ اللَّهَ المتجلى على اهل الايمان بالتجليات الحبية الجمالية يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاته سبحانه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عنده سبحانه المقربة نحوه تأكيدا لإيمانهم جَنَّاتٍ وحدائق ذات بهجة ونضارة وصفاء ترويحا لهم وتفريحا وانشراحا لصدورهم وتفريجا لغمومهم حيث تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة بمياه المعارف والحقائق المذهبة للهموم الفارجة للكروب والغموم يُحَلَّوْنَ فِيها تهذيبا وتزيينا لظواهرهم من عكوس بواطنهم مِنْ أَساوِرَ متخذة مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً بها يرصع اساورهم وَلِباسُهُمْ دائما فِيها حَرِيرٌ تليينا لبشرتهم وتكميلا لترفههم وتنعمهم بدل ما كانوا يلبسون الصوف والخشن في دار الابتلاء والاختبار
وَلا يقتصر لهم فيها على تزيين الظاهر وتفريح الباطن فقط بل هُدُوا وارشدوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ليتصفوا بالصدق والتصديق ويداوموا على مواظبة شكر الله دائما بقولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده الحمد لله الذي هدانا لهذا وَبعد ما اتصفوا بالصدق والعدالة في الأقوال والأفعال هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ الذي هو التوحيد المسقط لعموم الإضافات مطلقا وقد اتصف به سبحانه لاستحقاقه بالحمد لذاته.
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن شعائر دينه وَمع ذلك يَصُدُّونَ ويصرفون الناس ايضا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وعن سلوك معالم الهدى ومسالك اليقين لا في وقت دون وقت بل دائما مستمرا وَلا سيما يصدونهم عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرم الله عنه الصد والمنع مطلقا مؤبدا لأنه الَّذِي قد جَعَلْناهُ قبلة لِلنَّاسِ كافة وقد فرضنا عليهم الطواف حولها عامة من استطاع أنهم اليه سبيلا ولهذا ما صار مكة شرفها الله وما حولها ملكا لاحد بل نسبة الكل اليه سَواءً الْعاكِفُ المقيم فِيهِ وَالْبادِ المسافر الوارد عليه وَمَنْ يُرِدْ ويقصد سوء بالنسبة اليه من صدود وغيره مع انه مقيم فِيهِ او في حواليه وصدر عنه ذلك السوء بِإِلْحادٍ ميل مقرون بِظُلْمٍ يعنى عن قصد وتعمد لا عن سهو وجهل نُذِقْهُ بمجرد قصده وان لم يأته من الفعل والصدود مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم فجيع
وَكيف لا نذيقه من عذابنا الأليم إذ بناء بيتنا هذا انما هو على الطهارة الكاملة عن جميع الآثام والزكاء التام عن مطلق المعاصي والاجرام لذلك سمى بالمسجد الحرام اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ بَوَّأْنا بينا وعينا لِإِبْراهِيمَ حين شرفناه بخلعة الخلافة والنيابة وأمرنا له ببناء بيتنا هذا مَكانَ الْبَيْتِ اى قد عينا له موضع الكعبة بعد ما اندرست وسقطت بالطوفان وصارت مسواة لا علامة لها أصلا وأعلمنا له مكانه بريح قد أرسلناها مع ابراهيم حين سافر لهذا القصد من فلسطين ووصل الى بطحاء فكنست الريح حولها وأظهرت اصول بنيانها التي قد بنى عليها آدم صلوات الله عليه فبناه على بنائه وحينئذ قد أوحينا لإبراهيم تربية وتعليما أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً من مظاهري واظلالى في الوجود معى وَبعد ما(1/551)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
نزهت ذاتى عن شوب الشركة مطلقا طَهِّرْ بَيْتِيَ هذا الممثل من بيتي الذي قد بنيته انا بكمال قدرتي وحكمتى في صدرك الا وهو قلبك الذي هو بيت الله الأعظم الحقيقي عن عموم المعاصي والآثام وعن انواع المؤذيات والخبائث والقاذورات وعموم المكروهات إذ قد جعلنا بيتنا هذا قدوة وقبلة لِلطَّائِفِينَ والقاصدين بطوافهم حول البيت المتحقق عند كعبة الذات والوقوف على عرفات الأسماء والصفات وَالْقائِمِينَ المواظبين بالتوجه الدائمى والميل الشرفى الحقيقي الحبى بجميع الأركان والجوارح نحو الذات الاحدية المنقطعين عن عموم العلائق والإضافات وَالرُّكَّعِ اى الراكعين الذين قد قصمت ظهور هوياتهم عن حمل أعباء العبودية وامانة المعرفة واليقين السُّجُودِ اى الساجدين المتذللين الخاضعين الواضعين جباه انانياتهم على تراب المذلة والانكسار لدى الملك الجبار القهار بسلب عموم السوى والأغيار
وَبعد ما قد أوصينا خليلنا ما أوصينا قلنا له امرا إياه على سبيل الوجوب أَذِّنْ اذانا تاما واعلم اعلاما عاما فِي النَّاسِ وبشرهم بِالْحَجِّ اى اعلم الداني منهم والقاصي بوجوب الحج عليهم وقد لزمهم بالزامنا وإيجابنا إياهم ان يَأْتُوكَ ويزوروا بيتك ويطوفوا حوله حال كونهم رِجالًا مشاة ان كانوا من الأداني وَركبانا راكبين عَلى كُلِّ ضامِرٍ بعير مهزول قد أهزله وأتعبه بعد المسافة إذ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ طريق عَمِيقٍ غائر بعيد ان كانوا من الأقاصي
وانما امرناهم بالحج وفرضناه عليهم لِيَشْهَدُوا وليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ اى امكنة ينفعهم الحضور فيها والوقوف بها منافع النشأة الاخرى ويسهل عليهم طريق التوحيد بالفناء والافناء والانقطاع من حطام الدنيا والتعري عن لباس البأس والعناء والتخلص عن مقتضيات القوى والهوى والتحلي بلباس التزهد والتقوى عن امتعة الدنيا والتشمر نحو جانب المولى والتجرد عن موانع الوصول الى دار البقاء من الأموال والأولاد وعموم حظوظ الدنيا وَيَذْكُرُوا فيها اسْمَ اللَّهِ المشتمل لجميع الأوصاف والأسماء المحيط لعموم الأشياء احاطة الشمس على عموم الاظلال والأضواء واحاطة الروح على جميع الجوارح والأعضاء بلا تركب وانقسام الى ابعاض وأجزاء سيما فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ محفوظات قد عينها الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء للتوجه والدعاء وهي عشر ذي الحجة الحرام وقيل النحر فلهم ان يذكروا اسم الله ويهللوا به عَلى تذكية ما رَزَقَهُمْ الله وأباح لهم مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ مما ملكت ايمانهم حال كونهم متقربين بها الى الله هدية او اضحية فَكُلُوا بعد ما ذبحتم وذكيتم ايها الزائرون المتقربون مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ اى الذي قد شمله بؤس الفقر وأحاطت عليه شدة الفاقة
ثُمَّ بعد ذبح الهدايا والضحايا لْيَقْضُوا وليزيلوا تَفَثَهُمْ وأوساخهم العارضة لهم من رين الإمكان وشين الهويات ومقتضيات الأنانيات وَبعد تطهير أوساخ الإمكان وإكدار الهيولا والأركان لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ التي قد نذروها في قطع بوادي تعيناتهم ومهاوي هوياتهم وماهياتهم من ذبح بقرة امارتهم المضلة عن سواء السبيل وَبعد ما تطهروا من الأوساخ وأوفوا بالعهود والنذور لْيَطَّوَّفُوا منخلعين عن خلعة ناسوتهم متجردين عن ثياب بشريتهم وجلباب هويتهم بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ والركن الوثيق الذي هو عبارة عن قلب العارف المحقق المتحقق بمقام الفناء الذاتي والبقاء الأزلي الأبدي الذي لا يلحقه انصرام ولا يعرضه انقراض وانخرام فالامر
ذلِكَ لمن أراد السلوك لطريق الفناء والحج الحقيقي والطواف المعنوي وَبالجملة مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ(1/552)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
ويحافظ على حرمة ما قد حرمه الله في اوقات الحج ولم يهتك حرمتها ليجبرها بدم فَهُوَ اى الحفظ بلا هتك خَيْرٌ لَهُ مقبول عِنْدَ رَبِّهِ من هتكها وجبرها بدم وَاعلموا ايها المؤمنون قد أُحِلَّتْ لَكُمُ في دينكم الْأَنْعامُ كلها بأنواعها وأصنافها أكل لحومها وشرب ألبانها والانتفاع بأشعارها واوبارها والتقرب بها الى الله في اوقات الحج إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في كتابكم تحريمه بقوله تعالى حرمت عليكم الميتة الآية وبعد ما عرفتم ما أحل الله لكم فَاجْتَنِبُوا ايها الموحدون الرِّجْسَ والقذر الذي هو حاصل مِنَ الْأَوْثانِ اى من قبلها ومن أجلها إذ هي شرك مناف للتوحيد والشرك من أخبث الخبائث وَاجْتَنِبُوا ايضا قَوْلَ الزُّورِ والبهتان إذ هو ظلم قرين الكفر والشرك معدود من عداده مسقط للمروءة والعدالة اللازمة لأهل الايمان والتوحيد يعنى اجتنبوا عن الشرك وكذا عن مطلق المعاصي المنافية للتوحيد
وكونوا حُنَفاءَ لِلَّهِ مخلصين له غير ملحدين منصرفين عما يليق بدينه غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ شيأ من مظاهره ومصنوعاته مطلقا وَاعلموا ايها العقلاء المكلفون المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد ان مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشريك مطلقا سواء كان شركه خفيا او جليا فَكَأَنَّما خَرَّ وسقط مِنَ السَّماءِ اى أوج الايمان وأعلى درجات التوحيد والعرفان فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ إذا سقط أخذته الطير فجاءة في الهواء فترميه في حضيض غائر عميق بعيد عن العمران أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ حين سقوطه منها فتطرحه فِي مَكانٍ سَحِيقٍ بعيد وواد غائر عميق وبالجملة من أشرك بالله العياذ بالله منه فقد وقع في هاوية الضلال وزاوية الوهم والخيال اللذين هما من أوحش اغوار الإمكان واظلم بوادي الخذلان والخسران بحيث لا يرجى نجاته منها أصلا
وبالجملة الحكم والأمر ذلِكَ لمن أشرك بالله وساء الأدب معه ولم يعرف حق قدره وقدر حقيته وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ المأمورة له في أداء الحج ويوقر حق توقيرها وتعظيمها فَإِنَّها اى شأن تعظيمها وتحسينها عن من صدر انما هو صادر ناشئ مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ الناظرة الى الله بنور الله في جميع أوقاتها وعموم حالاتها
لَكُمْ اى في ملككم وتحت تصرفكم ايها المؤمنون المعظمون شعائر الله الناسكون بمناسك الحج فِيها اى في الهدايا والضحايا التي أنتم تتقربون بها الى الله مَنافِعُ كثير درها وصوفها وشعرها وظهرها ونسلها ما لم تصل إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى الى حلول وقت قد سمى سبحانه لذبحها ثُمَّ بعد ما قرب وقتها وحان حينها مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
اى محل ذبحها عند البيت اى جميع الحرم وحواليه
وَاعلموا ايها الموحدون المحمديون ان لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية والآتية ايضا قد جَعَلْنا مَنْسَكاً ومذبحا معينا قد كانوا يتقربون فيه إلينا ويهدون نحونا بهدايا وقرابين وانما عيناهم ذلك لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عند التذكية والذبح عَلى ما رَزَقَهُمْ مما ملكت ايمانهم مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ قيدنا لهم لان الخيل والحمير لا يليق بالقربان والهدى وبعد ما علمتم ان لكل امة من الأمم مذبحا معينا ومنسكا مخصوصا يتقربون فيه إلينا فَإِلهُكُمْ اى فاعلموا ان اله الكل إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر لا تعدد فيه مطلقا ولا شركة له أصلا فَلَهُ أَسْلِمُوا وتوجهوا ان كنتم مسلمين مسلمين مفوضين اليه أموركم وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل من بين المسلمين بالمثوبة العظمى والدرجة العليا والفوز بشرف اللقاء الْمُخْبِتِينَ المطيعين الخاضعين الخاشعين المتواضعين
الَّذِينَ قد خبت وخمدت نيران شهواتهم من بأس الله وخشيته يعنى الذين إِذا ذُكِرَ اللَّهُ القادر المقتدر بالانعام والانتقام قد(1/553)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
وَجِلَتْ وخشيت قُلُوبُهُمْ خوفا من قهره وغضبه ومن حول صفات جلاله وسطوة سلطنته وكبريائه وَايضا الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من المصيبات والبليات التي قد جرى حكم الله عليها في سابق قضائه وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ المفروضة بأوقاتها المحفوظة مع شرائطها وأركانها المخصوصة وآدابها المسنونة تقربا اليه وتوجها نحوه بكمال الخضوع والخشوع والتذلل والانكسار وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ واستخلفناهم عليه ونسبناه إليهم يُنْفِقُونَ على الوجه الذي قد امرناهم به وعلى المصارف المذكورة المأمورة لهم في قوله سبحانه انما الصدقات للفقراء الآية متقربين بها الى الله ناوين الوصول الى جنة وحدته
وَاعلموا ايها المؤمنون المتقربون إلينا سيما في اوقات الحج انا قد جعلنا خير الهدايا وأكرم الضحايا الْبُدْنَ بادن كبذل وباذل وهي الإبل خاصة سميت بها لعظم بدنها وجسامتها وغلاء ثمنها وعظم وقعها في نفوس الناس لذلك قد جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ واعلام دينه ومعالم بيته واعلموا انه لَكُمْ فِيها خَيْرٌ كثير واجر جزيل وثواب عظيم عند الله ان تقربتم بها وان أردتم ذبحها فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها عند تذكيتها قائلين الله اكبر الله اكبر لا اله الا الله والله اكبر اللهم منك وإليك ومالنا الا الامتثال ما امرتنا به والسر عندك ولديك والحكمة دونك ومنتهى الكل إليك وعليكم ايها القاصدون المتقربون ان تذبحوها صَوافَّ صافة قوائمها مشدودة محكمة ثم تطعنون في لباتها فَإِذا وَجَبَتْ وسقطت جُنُوبُها على الأرض وخرجت روحها من جسدها فَكُلُوا مِنْها ان شئتم وَأَطْعِمُوا ايضا الْقانِعَ وهو الفقير الذي يقنع بما يعطى ولا يبادر الى السؤال والإلحاح وَأطعموا منها ايضا الْمُعْتَرَّ وهو الذي يبادر الى السؤال قبل الإعطاء ويبالغ فيه ويلح كَذلِكَ اى على الوجه الذي امر وذكر قد سَخَّرْناها اى البدن وذللناها لَكُمْ ايها المؤمنون المتقربون بها إلينا مع انها في كمال القوة والجسامة وأنتم في غاية الضعف والنحافة وانما سخرناها وذللناها لكم كي تتفطنوا من تسخيرها وتذليلها الى تذليل امارتكم المسلطة عليكم فتذبحوها في طريق الحق متقربين بها اليه سبحانه مشدودة قوائم قواها عن مقتضاها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الأقدار والتوفيق عليها وتعطون بدلها من لدنه سبحانه مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
واعلموا ايها المتقربون الى الله بالهدايا والضحايا لَنْ يَنالَ اللَّهَ ولن يصيب ويصل اليه سبحانه لُحُومُها المتصدق بها إذ هو سبحانه منزه عنها وعن الانتفاع بها وَلا يصل ايضا اليه سبحانه دِماؤُها المهراقة وَلكِنْ ما يَنالُهُ وما يصل منها اليه سبحانه الا التَّقْوى اى التحرز والاجتناب الصادر مِنْكُمْ عن محارم الله ومنهياته والامتثال بأوامره والإتيان بمأموراته ومرضياته وبالجملة ما يقربكم اليه سبحانه الا امتثال الأوامر واجتناب النواهي لا اللحوم المطعمة ولا الدماء المهراقة ثم كرر سبحانه تأكيدا ومبالغة بقوله كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ اى الهدايا والضحايا لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ المتعزز بالعظمة والكبرياء المستقل بالمجد والبهاء حق تكبيره وتعظموه حق تعظيمه وتوقيره عَلى ما هَداكُمْ وأرشدكم الى الايمان والتوحيد وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُحْسِنِينَ منهم وهم الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ويحسنون الأدب معه كأنهم ينظرون اليه ثم لما خشي المؤمنون عن معاداة المشركين وخافوا عن مخاصمتهم وغيظهم وعن ذبهم وصدهم لو خرجوا نحو مكة للزيارة والطواف قاتلوا معهم وأكبوا عليهم غيبة وعلى أموالهم وأسروا أولادهم أزال الله سبحانه عنهم الرعب
وأسقط عنهم الخشية بقوله إِنَّ اللَّهَ المتكفل لأمور عباده الحفيظ عليهم(1/554)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
عما يؤذيهم يُدافِعُ كيد الكفرة العداة البغاة الطغاة عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وصدقوا بشعائر دينه وقصدوا إقامتها على مقتضى امره ووحيه وكيف لا يدفع سبحانه مع كمال قدرته وقوته خيانة من خان باحبائه واصدقائه إِنَّ اللَّهَ المنتقم لاعدائه لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ مبالغ في الخيانة سيما مع أوليائه كَفُورٍ مبالغ في كفران نعمه غايته إذ قد صرفها في غير محله مثل هدى الكفرة وذبحهم لأصنامهم وأوثانهم ولما اشتد إضرار الكفرة على المسلمين وامتد إذا هم عليهم ظلما وعدوانا أراد المؤمنون ان يقاتلوا ويشاجروا معهم فمنعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القتال والحرب باذن الله ووحيه اليه صلّى الله عليه وسلّم سبعين مرة حتى نزلت سبعون آية في المنع وقال صلّى الله عليه وسلم في كل مرة اصبروا حتى يأتى الله ثم لما شق على المسلمين ظلمهم وضرهم وصاروا مهانين أذلاء صاغرين مع قدرتهم على مقاتلتهم ومدافعتهم
أُذِنَ ورخص من جانب الحق على لسان رسوله صلى الله عليه وسلّم لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ ويريدون القتال معهم بعد ما تحملوا كثيرا من أذاهم وظلمهم فنزلت هذه الآية للرخصة بعد ما نزلت سبعون للمنع ولذلك قيل قد نسخت هذه الآية نيفا وسبعين آية وانما رخصهم سبحانه بها بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا اى بسبب انهم قد صاروا مظلومين صاغرين من أذى الكفار والمشركين وَإِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر عَلى نَصْرِهِمْ اى نصر الأولياء على الأعداء لَقَدِيرٌ ينصرهم ويغلبهم عليهم وان كانوا اكثر منهم
وكيف لا ينتقم سبحانه على أعدائه لأجل أوليائه إذ هم الَّذِينَ قد أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ظلما وعدوانا بِغَيْرِ حَقٍّ وبلا رخصة شرعية موجبة للإخراج والاجلاء إِلَّا أَنْ يَقُولُوا يعنى لا موجب لإخراجهم سوى قولهم هذا رَبُّنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشريك والولد وَكيف لا يدفع سبحانه شر الكفرة عن أوليائه الموحدين ولا ينصرهم على أعدائهم إذ لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط اهل الايمان على المشركين المعاندين لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ لقد خربت وانهدمت البتة باستيلاء الأعداء على الأولياء صوامع اسم لمعابد الرهابنة وَبِيَعٌ للنصارى وَصَلَواتٌ هي كنائس اليهود وَمَساجِدُ للمسلمين وبالجملة انما أعد وهيئ كل واحد منها في الأديان المذكورة يُذْكَرُ فِيهَا اى ليذكر في كل واحدة منها اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً اى ذكرا كثيرا وحينا كثيرا وَالله لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ المتكفل لعباده مَنْ يَنْصُرُهُ ومن يعين دينه ونبيه ويصدق كتابه إِنَّ اللَّهَ المطلع لما في صدور عباده من الإخلاص لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ غالب قادر على وجوه الانعام والانتقام لأوليائه وأعدائه كما سلط ضعفاء اهل الايمان على صناديد العرب والعجم من الاكاسرة والقياصرة وأشاع دينهم بين الأنام الى يوم القيمة وكيف لا ينصرهم سبحانه إذ هم الموحدون
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ وقدرناهم وجعلنا لهم التصرف والاستيلاء فِي الْأَرْضِ وأقطارها المعدة للطاعات والعبادات أَقامُوا واداموا الصَّلاةَ والميل إلينا البتة بجميع جوارحهم واركانهم ميلا مقرونا بأنواع الخضوع والخشوع واصناف الاستكانة والانكسار تطهيرا لنفوسهم عن العتو والاستكبار وتقريبا لأنفسهم إلينا على وجه المذلة والافتقار وَمع ذلك قد آتَوُا الزَّكاةَ مصفية لبواطنهم عن زخرفة الدنيا الغدار وَقد أَمَرُوا ايضا على من دونهم بِالْمَعْرُوفِ المستحسن شرعا وعقلا وَكذلك نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ المستقبح شرعا وطبعا على الوجه المبين لهم من السنة رسلهم وكتبهم المنزلة عليهم من الله وَبالجملة لِلَّهِ المدبر المصلح لأحوال عباده عاقِبَةُ الْأُمُورِ اى عواقب عموم الأمور ومآلها اليه سبحانه حقيقة وان صدرت(1/555)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
عنهم صورة ثم لما تغمم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وتحزن من تكذيب قومه إياه صلّى الله عليه وسلّم وعن نسبتهم اليه ما لا يليق بشأنه أراد سبحانه ان يسلى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ويزيل عنه همه
فقال وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ قومك يا أكمل الرسل لا تبال بهم وبتكذيبهم فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ اى قبل أمتك قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا عليه السّلام وَكذا قد كذبت عادٌ أخاك هودا عليه السّلام وَايضا قد كذبت ثَمُودُ أخاك صالحا عليه السّلام
وَكذا قد كذبت قَوْمُ إِبْراهِيمَ جدك خليل الله الجليل أبا الأنبياء عليه وعليهم التحية والسّلام وَكذا قَوْمُ لُوطٍ قد كذبوا أخاك لوطا عليه السّلام
وَكذا أَصْحابُ مَدْيَنَ أخاك شعيبا عليه السّلام وَلا سيما قد كُذِّبَ أخوك مُوسى الكليم وقد كذبه بنو إسرائيل مرارا متعددة مع ان آياته ومعجزاته من اظهر الآيات وابهر المعجزات وبالجملة قد وقع ما وقع فَأَمْلَيْتُ وأمهلت لِلْكافِرِينَ وجميع المكذبين المعاندين المستكبرين في جميع الصور المذكورة ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ على التفصيل بأنواع العذاب والنكال الى ان أهلكتهم واستأصلتهم بل بالمرة فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إياهم وإنكاري عليهم بعد إمهالي لهم بان بدلنا النعمة عليهم نقمة والمنحة محنة واللذة ألما والفرح ترحا والقصور قبورا ولا تستبعد يا أكمل الرسل من كمال قدرتنا أمثال هذا
فَكَأَيِّنْ يعنى كثيرا مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها واستأصلنا أهلها بأنواع العذاب والعقاب وَالحال انه هِيَ ظالِمَةٌ وأهلها خارجة عن مقتضى لحدود الإلهية فَهِيَ الآن ايضا من ظلم أهلها خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها يعنى جدرانها ساقطة على سقوفها من غاية انهدامها وانتكاسها وتقلبها وانطماسها وَكم بِئْرٍ معينة مُعَطَّلَةٍ لا يستقى منها لهلاك أهلها وَكم قَصْرٍ عال مَشِيدٍ محكم أركانه وبنيانه مجصص أساسه وجدرانه خال عن ساكنيه غير مسكون فيه ولا مأنوس في حواليه
أَينكرون أولئك المنكرون هذه المذكورات جميعا فَلَمْ يَسِيرُوا ولم يسافروا فِي الْأَرْضِ المعدة للعبرة والاستبصار فَتَكُونَ تثبت وتحصل لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ ويعبرون بِها من الوقائع الواقعة فيها للأمم أَوْ يحصل لهم آذانٌ وقوة سماع واستماع يَسْمَعُونَ بِها اخبارهم وآثارهم وكيفية إهلاكهم واستئصالهم فَإِنَّها اى شأن قصصهم ووقائعهم لا تَعْمَى الْأَبْصارُ منها إذ الأبصار تشاهد آثارهم واطلالهم وَلكِنْ تَعْمَى منها الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ يعنى تعمى منها عيون بصائرهم وضمائرهم إذ لم يعتبروا منها ولم يستبصروا ولم ينظروا نحوها نظر المعتبر المتأمل والمستبصر الخبير وبالجملة من لم يعتبر مما جرى على الأمم الهالكة ومن الوقائع الهائلة الجارية عليهم الظاهرة من آثارهم واطلالهم فهم هم عمى القلوب وفاقدوا البصيرة التي هي سبب شهود الغيوب واطلاع عموم العيوب وان كانت عيونهم وحواسهم صحيحة وبعد ما قد استبطأ الكفار نزول العذاب الموعود وقالوا متى هذا لوعد نزل
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ يا أكمل الرسل بِالْعَذابِ الموعود على لسانك وَالحال انه لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ الصادق الصدوق وَعْدَهُ الذي وعده لعباده وان كان بعد حين سينزل عليهم البتة وَإِنَّ يَوْماً من ايام العذاب عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في الدنيا امتدادا وطولا واما في الشدة والعناء فلا يكتنه ولا يحصى فلم يستعجلون أولئك الحمقى
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ اى كثيرا من أهلها قد أَمْلَيْتُ وأمهلت لَها وأخرت عنها عذابها وَالحال انها هِيَ ظالِمَةٌ أهلها مستحقة للعذاب(1/556)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
أمثالها ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب الشديد بعد ما ازداد أهلها موجباته وسنأخذ ايضا هؤلاء الحمقى عن قريب وَبالجملة لا مخلص لهم منه إذ إِلَيَّ الْمَصِيرُ اى مرجع الكل الى ومنقلبهم عندي ولا مقصد بهم غيرى وان لم يعرفوا
قُلْ يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة الكذب صادرا عن محض الحكمة يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مرسل من عند الله مُبِينٌ مظهر لكم موانعكم وعوائقكم عن طريق الحق وصراط مستقيم
فَالَّذِينَ آمَنُوا منكم بالله وصدقوا رسله وكتبه وَمع الايمان والتصديق قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم على السنة رسلهم وكتبهم المقبولة المرضية عند ربهم لَهُمْ بواسطة ايمانهم وعملهم مَغْفِرَةٌ ستر وعفو لما مضى عليهم من الذنوب والمعاصي وَرِزْقٌ كَرِيمٌ من الصوري والمعنوي في الجنة جزاء لإيمانهم وصوالح أعمالهم
وَالَّذِينَ سَعَوْا وبذلوا وسعهم وجهدهم فِي ابطال آياتِنا وردها وتكذيبها ومع ذلك صاروا مُعاجِزِينَ قاصدين مسابقين ساعين مبادرين الى رد الممتثلين المصدقين بها وانكارهم لها وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون هم أَصْحابُ الْجَحِيمِ وملازموها لا نجاة لهم منها أصلا ثم لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إصرار قومه على الكفر وشدة عنادهم وشكيمتهم عليه وعلى دينه وعلى كتابه تمنى عليه السّلام ان يأتيه وينزل عليه من الله ما يقاربهم ويحببهم معه ويزيل غيظه عن قلوبهم ويلينها لقبول الإسلام فانزل الله سبحانه سورة النجم فقرأها صلّى الله عليه وسلّم عليهم فرحا مسرورا كي يسمعوا ويميلوا على طريق الحق ثم لما وصل الى قوله تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الاخرى وتوجهت القريش نحوه صلّى الله عليه وسلّم جميعا حيث سمعوا اسماء أصنامهم منه صلّى الله عليه وسلّم في خلال الآيات والتفتوا اليه عليه السّلام وعلى وجه أشعر منهم التلقي والقبول فالهى تلقيهم الرسول صلى الله عليه وسلّم فغفل صلّى الله عليه وسلّم حينئذ عن قلبه واشتغل بهم تحننا إليهم القى الشيطان على لسانه في أثناء كلامه بعد ما انتهز اللعين الفرصة على مقتضى مناه ومتمناه واسمع لهم الآية هكذا تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ففرح بذلك قريش فلم يعلم صلّى الله عليه وسلّم ماذا صدر عنه لاستغراقه في أمنيته إذ قد وجدهم مائلين نحوه محسنين له وازداد تحسينهم ومحبتهم حينئذ له وكمال تلقيهم اليه وبالغوا في الإقبال عليه صلّى الله عليه وسلّم الى ان سجد المؤمنون والمشركون جميعا في آخر السورة فسر من هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسرت القريش ايضا مما سمعوا منه صلّى الله عليه وسلّم حيث، قالوا ان محمدا قد ذكر شفعاءنا فجاءه جبرائيل مؤدبا معاتبا فأخبر بما صدر عنه من تخليطه بغير الوحى فاغتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشد اغتمام وخاف خوفا شديدا من غيرة الله وصولة قهره فانزل الله سبحانه تسلية لرسول الله وازالة لخوفه
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل مِنْ رَسُولٍ ذي وحى وشرع وكتاب وَلا نَبِيٍّ ذي وحى او منام او الهام له شرع وكتاب او بعث لترويج شرع غيره من الأنبياء والرسل وكتبهم إِلَّا إِذا تَمَنَّى وطلب شيأ قد أحب وقوعه من تلقاء نفسه واهتم بشأنه بلا ورود وحى عليه ومع ذلك قد تمنى من الله مثل تمنيك هذا ان ينزل سبحانه عليه من الآيات مناسبا لما أمله وأحبه أَلْقَى الشَّيْطانُ من تسويلاته وتغريراته فِي أُمْنِيَّتِهِ ومبتغاه كما القى في لسانك يا أكمل الرسل فالهاه عن نفسه الى حيث خلط اللعين بالوحي الإلهي من تسويلاته ثم بعد ما تنبه وتذكر النبي المتمنى ما وقع من نزغ الشيطان استعلى من غوائل اللعين ورجع الى الله متندما تائبا آئبا فَيَنْسَخُ اللَّهُ المؤيد لأنبيائه المراقب في عموم أحوالهم عليهم اى يسقط ويزيل ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ(1/557)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
بعد ما أزال سبحانه ونسخ ما خلطه الشيطان وادخله في خلال الوحى من تلبيساته يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ المنزلة من عنده ويميزها ويفصلها احكاما تاما واتقانا محكما وتمييزا تماما وفضلا كاملا وَبالجملة اللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده المطلع على استعداداتهم عَلِيمٌ بما انزل عليهم مما يناسب استعداداتهم حَكِيمٌ في انزاله وتدبيره حسب مصالحهم وان توهم ان الله قادر على محافظة أنبيائه ورسله سيما نبينا صلّى الله عليه وسلّم عن إلقاء الشيطان وتغريره وتخليطه إياهم أول مرة فلم لم يحفظهم من القائه حتى لا يصدر عنهم أمثال ما صدر حتى أصبح الى نسخه وإزالته بالآخرة
قيل انما لم يحفظهم سبحانه أول مرة لِيَجْعَلَ سبحانه ما يُلْقِي الشَّيْطانُ في أثناء الوحى فِتْنَةً ابتلاء واختبارا لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الحاد وميل عن الحق وانحراف عن طريقه هل يعرفون ويميزون كلام الحق من تسويلات الشياطين أم لا وَلا سيما المرضى الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ عن ان يسع فيها كلام الله وآياته ألا وهم المشركون الذين قد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة عظيمة وغطاء غليظ تمنعهم عن استماع آيات الله وادراك مقاصده وَبالجملة إِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين المتجاوزين عن مقتضى العقل والشرع باتخاذهم الجمادات التي قد نحتوها بأيديهم شركاء شفعاء عنده لَفِي شِقاقٍ خلاف وجدال بَعِيدٍ عن الحق بمراحل فمن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
وَايضا لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني من عند الله ووفقوا من لدنه لقبول أحكامه أَنَّهُ اى القرآن وآياته المشتملة على الأوامر والنواهي والحكم والاحكام والمعارف والحقائق او اقداره سبحانه الشيطان بالإلقاء والتخليط المذكور افتتانا منه سبحانه وابتلاء لعباده الْحَقُّ الثابت المحقق النازل الصادر مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل فَيُؤْمِنُوا بِهِ اى بالله بانزاله القرآن او باقداره الشيطان ان يلقى اختبارا لعباده فكيف بالسنة آحاد عباده وعلى قلوبهم فَتُخْبِتَ وتطمئن لَهُ قُلُوبُهُمْ ويزداد وثوقهم وصاروا على خطر عظيم واحتياط بليغ عن غوائل الشيطان وتغريراته ومن افتتان الله إياهم وَبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا وأخلصوا لله في عموم ما جاءوا به من الأعمال والأحوال والمواجيد والأفعال بلا شوب شك وتردد إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده بلا عوج وانحراف
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وانصرفوا عن مقتضيات آياته الكبرى لمرض صدورهم وقسوة قلوبهم فِي مِرْيَةٍ شك وارتياب مِنْهُ اى من القرآن او من ابتلاء الله إياهم بإلقاء الشيطان حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ اى أشراطها واماراتها بَغْتَةً فجاءة وهم حينئذ في ريبهم وغفلتهم يترددون أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ هو عذاب يوم القيمة وصفه بالعقم إذ لا يقبل فيه توبة ولا ايمان ولا شفاعة كأنه عقيم لا يد لهم خيرا ولا يثمر فيه أعمالهم ثوابا وتوبتهم قبولا وكيف يقبل فيه توبة واستغفار وينفعهم فيه الايمان
إذ الْمُلْكُ المطلق والتصرف التام والاستيلاء الكامل يَوْمَئِذٍ بعد انقضاء نشأة الابتلاء والاختبار لِلَّهِ المستقل بالالوهية والربوبية وعموم التصرف مطلقا وان كان في النشأة الاولى ايضا كذلك إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء ازلا وابدا دنيا وعقبى الا انه سبحانه قد أقدرهم على الإطاعة والانقياد في النشأة الاولى صورة كما أقدرهم على الإنكار والعناد فيها لحكم ومصالح قد استأثر بها سبحانه في غيبه بلا اطلاع احد عليه إذ هي هذه نشأة الافتتان والاختبار وبعد انقضائها لا يقبل منهم جبر ما فوتوا على نفوسهم في تلك النشأة الآتية التي هي نشأة الجزاء(1/558)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
بل يَحْكُمُ سبحانه يومئذ بحكمه المبرم بَيْنَهُمْ بمقتضى ما قد علم منهم وصدر عنهم وجرى عليهم وحاسبهم به ان خيرا فخير وان شرا فشر فَالَّذِينَ آمَنُوا على وجه الإخلاص والإخبات وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المترتبة على الايمان واليقين هم في النشأة الاخرى متمكنون فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دائمون فيها مقيمون لا يتحولون الى ما هو ادنى بل يترقون الى الأعلى حتى يفوزوا بشرف اللقيا واللقاء والبقاء
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله في النشأة الاولى وَكَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا لبيان توحيدنا فَأُولئِكَ الأشقياء المكذبون المردودون لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ مُهِينٌ لإهانتهم أنبياء الله ورسله وما نزل عليهم من الآيات البينات والمعجزات القاطعات الساطعات.
ثم قال سبحانه وَالموحدون المخلصون الَّذِينَ هاجَرُوا وتركوا مضيق بقعة الإمكان سالكين فِي سَبِيلِ اللَّهِ طالبين الوصول الى فضاء الوجوب والفناء فيه ثُمَّ قُتِلُوا بأيدي الغفلة الكفرة الجهلة عن معرفة الله ووحدة ذاته واستقلاله في عموم التصرفات بل في الوجود ولوازم الحيوة مطلقا أَوْ ماتُوا بالموت الاضطراري حتف أنوفهم بعد ما قد خرجوا من الحيوة الصورية بالموت الإرادي والفناء المعنوىّ الحقيقي لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ المنعم المفضل عليهم رِزْقاً حَسَناً حقيقيا من لدنه تفضلا عليهم وامتنانا وكيف لا يرزقهم سبحانه مع انهم أولياؤه وهو سبحانه رازق لعموم أعدائه فكيف باوليائه وَبالجملة إِنَّ اللَّهَ المتجلى في الآفاق المتكفل بارزاق من عليها وما عليها لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ اى من عموم من ينسب إليهم الرزق صورة ومجازا إذ مرجع الكل اليه ومبدؤه منه وتوفيقهم بيده واقدارهم منه وتمكينهم عليه وهم ظله وفي حيطة حضرة علمه وحوزة قدرته وحومة اختياره وارادته وفعلهم حقيقة منسوب اليه مسند به لا فاعل له ولهم سواه وبعد ما قد رزقهم الله بالرزق المعنوي بدل ما جاهدوا في سبيله من تحمل الأذى والمشاق والمتاعب في القطع والانقطاع عن مألوفات بقعة الإمكان ومشتهيات نفوسهم وهوياتهم فيها سيما من اللذات البهية والشهوات الشهية البهيمية
لَيُدْخِلَنَّهُمْ سبحانه حسب فضله وسعة جوده مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ اى مسكنا ومقاما ترضى به ومنه نفوسهم بدل ما يتركون من البقاع العلية والديار المزينة البهية والقصور المشيدة المرتفعة الا وهي المكاشفات العلية والمشاهدات الواردة عليهم دائما من الاطلاع على سرائر الأسماء والصفات الإلهية والواردات الغيبية الفائضة عليهم من فضاء عالم اللاهوت حسب جود حضرة الرحموت وَإِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده لَعَلِيمٌ بمصالحهم وما يستدعيه استعداداتهم حَلِيمٌ يفعل بهم ما يرضى به قلوبهم ونفوسهم ويسع في قابلياتهم ومشاعرهم
ذلِكَ الأمر والشأن المذكور لمن هاجر الى الله طالبا لقياه مخلصا خالصا لوجهه الكريم ثم قال سبحانه على سبيل الوصاية والتنبيه وَمَنْ عاقَبَ ظالمه بعد ما غلب عليه وأراد ان ينتقم عنه بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ اى بمقدار ظلمه بلا زيادة عليه ونقصان ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ اى غلب الظالم على المظلوم المنتقم كرة اخرى ومرة بعد اولى وأراد أن يظلم عليه ثانيا لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ العزيز الغالب المنتقم للمظلوم في الكرة الثانية ايضا ما لم يتجاوز عن حد الانتقام ولا ينظر سبحانه حسب عدله الى اجترائه الى الانتقام وتركه ما هو الاولى حسب فضله الا وهو العفو عند المقدرة وكظم الغيظ لدى الفرصة إِنَّ اللَّهَ المطلع لمقتضيات استعدادات عباده لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لما صدر عنهم من المبادرة الى الانتقام لدى القدرة
ذلِكَ النصر على من ظلم بِأَنَّ اللَّهَ اى بسبب ان الله المستوي على القسط القويم يُولِجُ ويدخل اللَّيْلَ المظلم اى اجزاءه فِي النَّهارِ(1/559)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
المضيء وَيُولِجُ النَّهارَ المضيء ايضا فِي اللَّيْلِ المظلم على التدريج ليعتدلا ويعتدل من ظهر من كرهما وتجددهما وَأَنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح مظاهره بالحكمة المتقنة سَمِيعٌ يسمع ما هو من قبيل المسموعات من الوقائع التي أدركها السمع بَصِيرٌ يبصر ما هو من قبيل المبصرات من الحوادث المدركة بالبصر
ذلِكَ اى سمعه سبحانه للمسموعات مطلقا وابصاره للمبصرات رأسا بِأَنَّ اللَّهَ المتجلى في الآفاق والأنفس هُوَ الْحَقُّ المقصور على التحقق والثبوت بالاستحقاق لا غيره من الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الواجب وجوده بلا ارتياب الممتنع نظيره على الإطلاق وَأَنَّ ما يَدْعُونَ ايها المشركون مِنْ دُونِهِ من الآلهة الباطلة هُوَ الْباطِلُ المقصور على العدم والبطلان كسائر المظاهر والمجالى التي لا وجود لها فكيف الألوهية والإله لا بد وان يكون واجب الوجود دائم التحقق والثبوت ازلا وابدا حيا قيوما سرمدا ثم جامعا ما يترتب على الوجود من الأوصاف والأسماء الإلهية الفائتة للحصر والإحصاء وهم في أنفسهم معزولون عن الوجود فكيف عن لوازمها ولواحقها وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء المتعزز المتأزر بإزار المجد والبهاء المتوحد المتفرد بالقيومية والبقاء الأزلي الأبدي هُوَ الْعَلِيُّ بذاته المتعالي عن ان تصفه السنة العقلاء وتعرب عنه افهام العرفاء الْكَبِيرُ المستكبر في شأنه جل جلاله عن ان يحيط به وبأوصافه وأسمائه مشاعر شيء من مظاهره ومصنوعاته
أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي أَنَّ اللَّهَ المتخصص بالآثار البديعة والمتجلى بالصنائع العجيبة الغريبة قد أَنْزَلَ بعد تصعيد الابخرة والادخنة وتركيبها وتركيمها مِنَ السَّماءِ اى من جانبها ماءً مصفى على الأرض اليابسة الميتة فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ وتصير مُخْضَرَّةً بعد ما كانت هامدة يابسة أَنَّ اللَّهَ المدبر بالتدابير الباهرة لَطِيفٌ دقيق رقيق علمه متعلق برقائق المعلومات ودقائقها خَبِيرٌ ذو خبرة كاملة بحيث لا يعزب عن خبرته شيء ممارق وغلظ وكيف يعزب عن حيطة علمه شيء من المعلومات
إذ لَهُ ملكا وتصرفا إظهارا وخلقا مظاهر ما فِي السَّماواتِ اى عموم ما في العلويات من الكوائن والفواسد وَكذا مظاهر ما فِي الْأَرْضِ من السفليات مثلها وَإِنَّ اللَّهَ المتجلى على عموم ما ظهر وما بطن غيبا وشهادة لَهُوَ الْغَنِيُّ بذاته عن جميع مظاهره واظلاله الْحَمِيدُ بآثار أوصافه وأسمائه الكاملة
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي ولم تعلم أَنَّ اللَّهَ المتكفل لأمور عباده سَخَّرَ لَكُمْ ولتربيتكم وترتيب معاشكم ما فِي الْأَرْضِ من الحيوانات التي تأكلون منها وتزرعون بها وتركبون عليها وتحملون هذا في البر وَسخر لكم الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وعلى مقتضى مشيئته وارادته حيثما سعيتموها واجريتموها أنتم حسب مقاصدكم ومرماكم تتميما لأمور معاشكم من كمال علمه وحكمته وبقوة قدرته وارادته وَيُمْسِكُ السَّماءَ معلقة بلا عمد وأساطين كراهة أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فيختل امور معاشكم بوقوعها وان كان لا يضركم إذ هي اجرام في غاية الخفة واللطافة بل انسد وبطل من وقوعها على الأرض إنزال المطر على الوجه المعهود المقوى لا نبات الأقوات وبالجملة من شأنها الوقوع لولا إمساكه سبحانه إياها إِلَّا ان تقع عليها بِإِذْنِهِ سبحانه وعند تعلق ارادته ومشيئته بوقوعها وذلك في يوم القيمة وعند الطامة الكبرى أَنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح العباد بِالنَّاسِ المجبولين على الكفران والنسيان لَرَؤُفٌ مشفق عطوف رَحِيمٌ بهم يعفو زلتهم ويرزقهم من حيث لا يحتسبون
وَكيف لا يرحمكم ولا يرأف عليكم مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ في النشأة الاولى(1/560)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
وأظهركم من كتم العدم بحوله وقوته بلا سبق مادة ومدة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ اظهار لقدرته وبسطته ومقتضيات جلاله وقهره ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في النشأة الاخرى لتوفية الجزاء على ما أمركم به في النشأة الاولى وبالجملة إِنَّ الْإِنْسانَ مركب من السهو والنسيان لَكَفُورٌ مبالغ في الكفران لنعم الله ناس لحوق كرمه ومن جملة انعامنا عليه انا
لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم قد جَعَلْنا وعينا لهم مَنْسَكاً معينا ومقصدا مخصوصا هُمْ ناسِكُوهُ اى ينسكونه ويسلكون نحوه ويتقربون فيه بالقرابين والهدايا فَلا يُنازِعُنَّكَ يعنى من حقهم واللائق بحالهم ان لا ينازعنك ولا يخاصمنك يا أكمل الرسل فِي الْأَمْرِ الذي كنت عليه من الذبح وغيره من الشعائر المتعلقة بأمور الدين ومعالم الهدى واليقين وَادْعُ أنت يا أكمل الرسل إِلى توحيد رَبِّكَ عموم الأنام حيث ما أمرت إِنَّكَ في دعوتك هذه لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ اى طريق واضح سوى موصل الى التوحيد الذاتي بلا عوج وانحراف
وَإِنْ جادَلُوكَ في أمرك هذا ودعوتك هذه وخاصموا معك عنادا ومكابرة فلا تلتفت أنت يا أكمل الرسل إليهم ولا تقابل معهم على سبيل المعارضة والممانعة فَقُلِ لهم ولدفعهم اللَّهُ المطلع لخفيات الأمور واسرارها أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ بمقتضى اهوية نفوسكم فيجازيكم على مقتضى علمه وخبرته بكم وبأعمالكم وان الجأتمونى الى الخصومة والحكومة
ف اللَّهُ المحيط المطلع بضمائر كلا الفريقين يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وبيني يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ معى من شعائر ديني وملتي وامارات يقيني وهدايتي
أَتنكر ايها المنكر المجبول على الإدراك والشعور احاطة علم الله بعموم المعلومات ولَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ المتجلى بجميع ما ظهر وبطن يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ من الأمور الكائنة والفاسدة فيهما بحيث لا يعزب عن حيطة خبرته وعلمه شيء وكيف لا يعلمها سبحانه إِنَّ ذلِكَ جميعا مثبت مسطور فِي كِتابٍ هو لوح قضائه وحضرة علمه المحيط ولا تستبعد أمثال هذا عن جنابه سبحانه إِنَّ ذلِكَ الاطلاع على الوجه المذكور عَلَى اللَّهِ المتصف بجميع أوصاف الكمال يَسِيرٌ وبجنب قدرته وارادته سهل حقير
وَهم في غاية غفلتهم عن الله وانكارهم احاطة علمه يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المستحق للعبادة بالاستحقاق ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً اى أصناما وأوثانا لم ينزل سبحانه على استحقاقهم للعبادة برهانا وتبيانا ليكون حجة دالة على مدعاهم وَبالجملة هم يعبدون ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ لا دليل عقلي ولا نقلي دال على لياقتهم واستحقاقهم للعبادة والانقياد بل ما يعبدون الا ظلما وزورا بلا سند عقلي او نقلي وَبالجملة ما لِلظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى العقل والنقل حين بطش الله إياهم وانتقامه عنهم مِنْ نَصِيرٍ ينصرهم او يستدفع عنهم العذاب ويستشفع لهم عنده سبحانه بتخفيفه
وَمن غاية ظلمهم وخروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا مع كونها بَيِّناتٍ واضحة الدلالات عليها تَعْرِفُ وتبصر أنت ايها الرائي فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بها الْمُنْكَرَ اى علامات الإنكار وامارات العتو والاستكبار بحيث ترونهم من شدة شكيمتهم وغيظهم المفرط يَكادُونَ ويقربون يَسْطُونَ يبطشون ويأخذون بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا يعنى النبي وأصحابه غيظا عليهم وعلى ما جرى من ألسنتهم بل على من انزل عليهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع أَتغيظون وتضجرون من استماع هذه الآيات العظام وتتشاءمون من سماعها فَأُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ الآيات وهو أشد غيظا واكثر ضجرة وكآبة منها يعنى النَّارُ المسعرة(1/561)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
الموعودة التي قد وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى لهم ولأجلهم بسبب كفرهم وضلالهم وَبالجملة بِئْسَ الْمَصِيرُ والمنقلب النار المسعرة المعدة لأصحاب الإنكار والضلال
يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان والجهل عن عظمة الله وحق قدره لذلك قد أثبتم له أمثالا واشباها مع تعاليه وتنزهه عن الشركة مطلقا اسمعوا ايها المشركون المبطلون قد ضُرِبَ مَثَلٌ في حق شركائكم ومعبوداتكم الباطلة فَاسْتَمِعُوا لَهُ سمع تدبر وتأمل ثم أنصفوا واعدلوا بلا مكابرة وعناد إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتعبدون أنتم ايها المدعون المكابرون مِنْ دُونِ اللَّهِ القادر المقتدر بعموم المقدورات بالعلم المحيط والارادة الكاملة والحكمة المتقنة البالغة لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً بل لن يقدروا على خلق احقر منه واخس لا كل واحد منهم فرادى بل وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ اى لخلق الذباب وتظاهروا لإيجاده مجتمعين لن يقدروا ايضا البتة وَكيف خلق الذباب وإظهاره من العدم بل إِنْ يَسْلُبْهُمُ ويأخذ منهم الذُّبابُ الحقير الضعيف الذي لا شيء احقر منه وأضعف شَيْئاً من الالهة الباطلة اى من حليهم وزينتهم لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ولا يقدروا على ان يخرجوا من يده لعجزهم وعدم قدرتهم وبالجملة كيف تعبدون ايها الحمقى العابدون لأولئك الهلكى والعاجزين الساقطين ومن انى تطيعون بهم وتقيمون بعبادتهم فقد ظهر ولاح من هذا المثل للمتأمل المتدبر أنه قد ضَعُفَ وحط وسقط عن زمرة العقلاء ورتبتهم الطَّالِبُ العابد الجاهل وَالْمَطْلُوبُ المعبود المجهول المنحط عن رتبة احقر الأشياء وأخسها فكيف عن أعلاها وأقواها فكيف عن خالق الأشياء وموجدها ومظهرها من كتم العدم على سبيل الإبداع والاختراع تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وبالجملة ما صدر عنهم كل ما صدر من الهذيانات الباطلة العاطلة ومن المزخرفات الزاهقة الزائلة الا بواسطة انهم ما قَدَرُوا اللَّهَ القادر المقتدر على عموم المقدورات والمرادات وما عرفوا لوازم ألوهيته وما علموا حَقَّ قَدْرِهِ وقدر حقيته كما هو اللائق بشأنه لذلك ما وصفوه حق وصفه وما نسبوا اليه ما يليق بجنابه جهلا وعنادا بحيث اثبتوا له شركاء عاجزين من أضعف الأشياء وأحقرها إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء لَقَوِيٌّ في ذاته لا حول ولا قوة الا به عَزِيزٌ غالب في امره وحكمه متصرف مستقل في ملكه وملكوته يفعل كل ما يفعل بالإرادة والاختيار ويحكم كل ما يريد بكمال الاستيلاء والاستقلال لا راد لفعله ولا معقب لحكمه الا وهو الكبير المتعال ومن علو شأنه سبحانه وسمو برهانه وكمال عزته وكبريائه وغاية سطوته وسلطانه يتوسل اليه ويتوصل نحوه بوسائل ووسائط قد اختارهم سبحانه لرسالته واجتباهم من خليقته لهداية التائهين في بيداء ألوهيته الى زلال وحدته وهداهم بمقتضى سنته وجرى عادته وحكمته انقياد دينه وملته
كما أشار اليه سبحانه في كتابه حيث قال اللَّهُ العلى المتعالي ساحة عز ذاته عن ان يكون شرعة كل وارد او يطلع على سرائر أسمائه وصفاته واحدا بعد واحد بل يَصْطَفِي ويختار نفسه وذاته حسب دقائق أسمائه وصفاته مِنَ الْمَلائِكَةِ المقربين عنده رُسُلًا يرسلهم سبحانه الى خواص البشر وخلصه وَايضا يصطفى ويختار مِنَ خيار النَّاسِ واشرافهم رسلا يرسلهم نحو عموم العباد بالنبوة والرسالة ليرشدوهم الى توحيده سبحانه ويهدوهم الى سواء طريقه إِنَّ اللَّهَ المطلع لاستعدادات عباده سَمِيعٌ يسمع جميع أقوالهم ومناجاتهم ويقضى عموم حاجاتهم بَصِيرٌ يبصر جميع أعمالهم وأفعالهم ويجازيهم عليها
إذ يَعْلَمُ سبحانه بعلمه الحضوري منهم عموم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من الأفعال(1/562)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
والأحوال حالا حاضرا وَكذا عموم ما خَلْفَهُمْ من الأخلاق والأطوار ماضيا ومستقبلا غائبا وَبالجملة إِلَى اللَّهِ الذي قد بدأ منه عموم ما بدا تُرْجَعُ الْأُمُورُ الكائنة ازلا وابدا ظاهرا وباطنا حالا ومآلا دنيا وعقبى
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق ورجوع الكل نحوه أولا وبالذات ارْكَعُوا عنده خاضعين خاشعين منكوسين منكسرين وَاسْجُدُوا له متواضعين متذللين وَبالجملة اعْبُدُوا بجميع اركانكم وجوارحكم رَبَّكُمْ الذي رباكم بأنواع النعم كي تعرفوا ذاته حسب استعداداتكم وقابلياتكم واشكروا نعمه الفائضة عليكم وأدوا حقوق كرمه مقدار وسعكم واعبدوا إياه حق عبادته حسب طاقتكم وَبالجملة افْعَلُوا الْخَيْرَ على الوجه الذي أمرتم به طلبا لمرضاته واحذروا عن الشر هربا عن سخطه وحلول غضبه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون بما وعدتم من جنة المأوى وشرف اللقاء. وفقنا بفضلك وجودك بما تحب عنا وترضى
وَبعد ما سمعتم ما سمعتم من علو شأنه وكمال عظمته وكبريائه وبسطته وبهائه جاهِدُوا فِي اللَّهِ واجتهدوا في طريق توحيده حَقَّ جِهادِهِ وابذلوا وسعكم وطاقتكم في سلوك سبيل المعرفة والتوحيد مرابطين قلوبكم الى الله باذلين مهجكم في سلوك سبيل الفناء فيه وكيف لا تجاهدون مع انفسكم ولا يرابطون قلوبكم ايها المائلون الى الله بالميل الحبى الشوقى مع انه هُوَ بذاته قد اجْتَباكُمْ واصطفاكم من بين بريته لدرك توحيده والاتصاف بعرفانه وقد أرسل عليكم الرسل وانزل الكتب ليرشدوا لكم اليه ويبينوا لكم طريق توحيده بوضع المناهج والطرق والمسالك الموصلة اليه والملل والأديان المثمرة له وَبالجملة ما جَعَلَ سبحانه عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ والشريعة الموضوعة بينكم مِنْ حَرَجٍ ضيق وعسر خارج عن وسعكم وطاقتكم بل قد وسع سبحانه عليكم الأمر وفضلكم على سائر خليقته حيث فطركم على فطرة المعرفة وجبلكم على جبلة التوحيد وجعل ملتكم مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ صلوات الرّحمن عليه وسلامه إذ لا ضيق فيه ولا حرج أضاف سبحانه ابوة ابراهيم الى الامة إذ هو صلّى الله عليه وسلم جد الرسول صلّى الله عليه وسلّم والرسول أب لهم إذ رسول كل امة بالنسبة الى أمته أب بل هو خير الآباء بإرشادهم الى الحق ولا معنى للأب حقيقة الا المرشد المربى وكما جعل سبحانه ملتكم ملة ابراهيم هُوَ سبحانه بذاته ايضا قد سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في كتبه السالفة حيث قال سبحانه من يؤمن ويصدق بمحمد خاتم النبوة والرسالة يصير مسلما وَفِي هذا الكتاب قد بين التسمية على وجه التسليم وسماكم فيه ايضا مسلمين ضمنا وانما سماكم سبحانه مسلمين مسلمين منقادين لِيَكُونَ الرَّسُولُ الذي هو أكمل الرسل وأفضل الأنبياء بنفسه شَهِيداً عَلَيْكُمْ شاهدا على انقيادكم وتسليمكم في يوم الجزاء وَتَكُونُوا أنتم ايضا بسبب هذا الاسم والتسمية والاضافة أفضل الأمم واشرف الفرق وبواسطة كونكم من أمته وزمرته وتحت لوائه وفي حيطة حوزته تكونون شُهَداءَ أمناء عَلَى عموم النَّاسِ بتبليغ رسالته صلّى الله عليه وسلم إليهم واظهار الدعوة لهم وبعد ما ثبت خيريتكم وشرفكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ واديموا الميل والتوجه نحو الحق بجميع الجوارح والأركان تقربا اليه شوقا وتحننا وَآتُوا الزَّكاةَ المسقطة لميلكم والتفاتكم الى زخرفة الدنيا وحطامها وَبالجملة اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ في كل الأحوال واثقين بفضله وجوده وفوضوا أموركم كلها اليه متوكلين عليه إذ هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومعينكم ومتولى أموركم فَنِعْمَ الْمَوْلى الأمين هو سبحانه وَنِعْمَ النَّصِيرُ الناصر المعين ذو القوة المتين حسبنا الله ونعم الوكيل(1/563)
خاتمة سورة الحج
ايها السالك المجاهد في سبيل الله مع اعداء الله التي هي عبارة عن موانع الوصول الى توحيده الذاتي ان تجاهد او لامع نفسك التي بين جنبيك إذ هي أعدى عدوك وأشد صولة واستيلاء على مملكة باطنك وقلبك الذي هو مخيم سرادقات سلطان الوحدة ومحل نزول قهرمان العزة ومهبط الوحى الإلهي والوارد الغيبى فلك ان تزيل صولتها وتشتت شملها وتفرق جمعها التي هي جنودها وأعوانها من القوى الشهوية والغضبية وجميع الأوصاف البهيمية المستدعية الداعية الى تخريب القلب وتعمير النفس الامارة بالسوء وتقويتها وتقويمها إذ عداوتها ومنعها ذاتية حقيقية بلا واسطة وعداوة سائر الموانع بواسطتها وإياك إياك الإطاعة والانقياد إليها فإنها تشغلك عن الحق وتضلك عن سبيله وتغريك الى الباطل ونفودك الى طريقه. فاعلم ايها المجاهد الطالب للغلبة على جنود النفس الامارة انه لا يمكن لك هذا ولا يتيسر عليك الا بالاعتزال عن أقطاع الشيطان وعن مملكة النفس ومشتهياتها ومستلذاتها بالكلية وبالتشمير نحو الحق بالعزيمة الخالصة عن مطلق الرياء والرعونات والانخلاع عن مقتضيات الأوصاف البشرية بالإرادة الصادقة وبالتوجه التام نحو الوحدة الذاتية من طريق الفناء بإسقاط الإضافات المشعرة لتوهم الكثرة وبالجملة لا يتم سلوك السالك في طريق التوحيد الا بالفناء في الله والبقاء ببقائه ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن مضائق هوياتنا وتوصلنا الى فضاء توحيدك بمنك وجودك
[سورة المؤمنين]
فاتحة سورة المؤمنين
لا يخفى على المؤمنين المفلحين الفائزين بالدرجة العلية والمرتبة السنية من مراتب التوحيد المنتظرة لأرباب الولاء الوالهين في سر سريان الوحدة الذاتية وكيفية امتدادها وانبساطها على هياكل التعينات وتماثيل الهويات العدمية المنصبغة بصبغ الوجود الفائض من التجليات الذاتية والشئون الصفاتية المتشعشعة من الذات الاحدية لإظهار الكمالات المندمجة فيها ان ترقى المؤمنين الموقنين بالتوحيد الذاتي من حضيض البشرية المتصفة بالأوصاف الناسوتية والتطورات الطبيعية الى ذروة الشئون الذاتية اللاهوتية المنعكسة من الأسماء الذاتية الإلهية انما هو بالميل المقارن بالخشوع والخضوع والتذلل التام والانكسار المفرط المسقط للوازم الأنانية المبعدة عن الحق وكذا بالإعراض والانصراف عن فرطات الألحاظ وسقطات الألفاظ وبالتطهر والتعري عن زخرفة الدنيا المانعة من الوصول الى المولى وكذا عن جميع الأوصاف البهيمية من الغضبية والشهوية الا ما تقضيه الحكمة الإلهية من الإبقاء والاستغناء فمن تعدى وتجاوز عنه فقد لحق بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا. وبالجملة لا بد للقاصد السائر السالك نحو الحق من الميل الخالص الدائم والتوجه التام المستمر نحوه مع انخلاع عن لوازم ناسوته ورسوم هويته مطلقا متدرجا في افنائها وفنائها الى ان يفنى عن الافناء والفناء ايضا حتى يمكن له الوصول الى فضاء اللاهوت وسعة حضرة الرحموت فح انقطع السير وارتفع الغير ولم يبق الا الخير الى الخير الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لذلك اخبر سبحانه في هذه السورة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن احوال المؤمنين الموقنين اوصافهم وترقبهم فيها فقال متبركا باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي قد أفاض على ارباب الايمان بعد رسوخهم وتمكنهم فيه كرامة التوحيد والعرفان الرَّحْمنِ عليهم يوفقهم على انواع الطاعات واصناف الخيرات والمبرات الموصلة الى درجات الإحسان الرَّحِيمِ لهم ينجيهم عن دركات النيران ويوصلهم(1/564)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
الى أعلى طبقات الجنان
[الآيات]
قَدْ أَفْلَحَ وفاز بمرتبة حق اليقين التي هي أعلى مراتب التوحيد ومنتهى الصعود والعروج ومنقطع الطلب والسلوك الْمُؤْمِنُونَ الراسخون في اليقين العلمي والعيني الجازمون الثابتون فيهما بلا تزلزل وتلوين
الَّذِينَ هُمْ من كمال رسوخهم وتمكنهم فِي صَلاتِهِمْ وميلهم التي هي عبارة عن معراج الوصول الى مرتبة الرضاء والقبول خاشِعُونَ مخبتون متضرعون متحننون نحو الحق عن ظهر القلب وعموم الجوارح والأعضاء بلا تلعثم وعثور
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ الشاغل لهم عن التوجه نحو الحق مُعْرِضُونَ منصرفون مثل اعراضهم وانصرافهم عن مكروهات نفوسهم وقلوبهم
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ المطهرة لنفوسهم عن الميل نحو امتعة الدنيا وحطامها الفانية فاعِلُونَ تمرينا لنفوسهم على ترك الميل والالتفات إليها
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ التي هي أجل مواريث بهيميتهم وأقوى قوائم بشريتهم حافِظُونَ ناكسون رؤسهم عن مقتضاها راكنون عما تأملها وتهويها
إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الإماء والسراري حفظا لحكمة إبقاء النوع ومصلحة التناسل فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ على ذلك ان ارتكبوا بلا مبالغة مفرطة زائدة على قدر الحاجة
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ وطلب التجاوز عن قدر الحاجة من الحلائل المذكورة فَأُولئِكَ البعداء الخارجون عن مقتضى الحد والحكمة المتقنة الإلهية هم العادُونَ المقصورون على التجاوز والعدوان لا يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح
وَالَّذِينَ هُمْ من كمال عدالتهم وقسطهم الفطري واعتدال اوصافهم الجبلية وأخلاقهم الصورية والمعنوية لِأَماناتِهِمْ التي قد ائتمنوا عليها ثقة واعتمادا وَعَهْدِهِمْ الذي عهدوا به سواء كانت الامانة والعهد لله او لعباده مطلقا سواء كانوا مؤمنين او كافرين راعُونَ قائمون مواظبون على حفظها ورعاية حقها بلا فوت شيء من حقوقها ورعايتها
وَبالجملة المؤمنون المفلحون الفائزون بالعاقبة الحميدة التي هي مرتبة الكشف والشهود المعبر عنها عند ارباب المحبة والولاء بالحق اليقين الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المقربة لهم الى ربهم يُحافِظُونَ يداومون ويواظبون على أدائها في أوقاتها المكتوبة بشرائطها المفروضة وآدابها المسنونة مقارنين موصوفين مع ما ذكر من الأوصاف الجميلة المذكورة آنفا ومع الأخلاق الحميدة المرضية والسجايا الفاضلة الكاملة مخلصين فيها مجتنبين عن رذائل الرياء والرعونة والعجب والسمعة
أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله هُمُ الأولياء الْوارِثُونَ عن الأنبياء والرسل وعن صفوة عباده وخيرتهم
يعنى الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ التي هي عبارة عن التحقق بمقام الكشف والشهود باستحقاقهم الذاتي سيما مع استرشادهم واستفادتهم من الأنبياء والرسل الهادين المهديين الراشدين المرشدين لهم الى ما جبلوا لأجله لذلك هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون متمكنون متقررون بحيث لا يتبدلون ولا يتحولون
وَكيف لا يرثون الفردوس ولا يخلدون فيها أولئك المفلحون مع انهم قد جبلوا لأجلها سيما إذا كملوا وتمموا نسكهم على الوجه الذي هداهم الأنبياء والرسل الهادون والأولياء الأمناء الراشدون المرشدون الذينهم خلفاء عن الرسل الكرام والأنبياء العظام عليهم التحية والسّلام والإكرام وهؤلاء العظماء الواصلون الى أعلى المقامات وارفع الدرجات منتشؤن من نوع الإنسان مع انا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وقدرنا جسم آدم وبنيته أولا مِنْ سُلالَةٍ اى زبدة وخلاصة منتخبة متخذة مِنْ طِينٍ الذي هو أقوى مواد الأجسام السفلية وأقوم عناصرها وهيولاها ولا شك انه أدون الأشياء وارذلها
ثُمَّ جَعَلْناهُ وصيرنا ما انتخبنا وأخذنا من الطين نُطْفَةً بيضاء وقررناها زمانا فِي قَرارٍ ومستقر مَكِينٍ(1/565)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
حصين متين الذي هو ظلمة الرحم
ثُمَّ بعد ما مكناها في المقر المذكور المكين زمانا قد خَلَقْنَا وصيرنا النُّطْفَةَ المقررة المتمكنة في الرحم عَلَقَةً دما حمراء منعقدة ممتزجة بدم الطمث منصبغة به فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ الحمراء مُضْغَةً لحما متصلا ملتصقا اجزاؤه بحيث صار قابلا للمضع فَخَلَقْنَا وصيرنا بعد ذلك الْمُضْغَةَ الملتصقة المتصلة بعد انفصالها وتفريقها التقديري بمقتضى الحكمة عِظاماً صلبة خارجة عن قابلية المضغ والتليين مقومة محكمة غير مائلة وغير قابلة للتبديل والتحريف ليكون قوائم واعمدة للجسم فَكَسَوْنَا الْعِظامَ الصلبة القابلة للكسر والانكسار لَحْماً صونا لها عما يضرها ويكسرها فتم حينئذ تركيب صورته الجسمية وقالبه الطبيعي بجميع لوازمها ومتمماتها من العروق والعظام والغضاريف والشريانات وغيرها من الرباطات والارتباطات ورقائق الامتزاجات ودقائق الاختلاطات الواقعة بين أجزاء البدن ثُمَّ بعد ما تم تركيبه وكمل مزاجه وتصويره على أبدع وجه وأحسنه وصار حيوانا حساسا متحركا بالإرادة كسائر الحيوانات أَنْشَأْناهُ اى قد أبدعنا واودعنا واخترعنا في هيكله خاصة خَلْقاً مخلوقا آخَرَ مختصا به من بين سائر انواع الحيوانات بان قد نفخنا فيه من روحنا حتى يسرى الى عموم أعضائه واجزائه وآلاته مطلقا ليتصف باوصافنا الكاملة ويتخلق باخلاقنا الفاضلة وما ذلك الا ليستحق بخلافتنا ونيابتنا ويليق لان يصير مرأة لنا قابلة لانعكاس اظلال أسمائنا الحسنى واوصافنا العليا فَتَبارَكَ تعالى وتعاظم اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم القادر المقتدر بالقدرة الكاملة على إيجاد أمثال هذه التبدلات والتطورات التي قد تحيرت العقول عندها وانحسرت الافهام دونها وبالجملة سبحانه هو في ذاته أَحْسَنُ الْخالِقِينَ وأكرم القادرين المقدرين تقديرا وخلقا وأتمهم ابداعا واختراعا لو فرض مقدر غيره وخالق سواه مع انه محال عقلا وعادة بل لا اله الا هو ولا موجود سواه
ثُمَّ إِنَّكُمْ يا بنى آدم بَعْدَ ذلِكَ اى بعد تتميم صوركم ومعناكم على الوجه الذي ذكر لَمَيِّتُونَ بالآجال المقدرة من لدنا لانقضاء حياتكم في النشأة الأولى
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة للعرض والجزاء تُبْعَثُونَ وتحشرون في النشأة الاخرى لانتقاد ما اكتسبتم في النشأة الاولى ثم تجازون حسب ما تحاسبون فريق في الجنة معززون وفريق في النار معذبون الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
ثم أخذ سبحانه في تعداد نعمه على عباده تفضلا عليهم وامتنانا فقال وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ سموات طَرائِقَ متطارقة متطابقة بعضها فوق بعض مشتملة على كواكب مدبرات لما في عالم السفلى من الأشياء المتعلقة لمعاشكم وَبالجملة ما كُنَّا في حال من الأحوال السابقة واللاحقة عَنِ الْخَلْقِ اى عن جميع المخلوقات المستندة إلينا الظاهرة من امتداد اظلالنا المنعكسة من اوصافنا وأسمائنا غافِلِينَ ذاهلين عن حفظها وتفقدها ولولا امدادنا إياها طرفة لفنى الكل دفعة
وَمن كمال جودنا ووفور رحمتنا الى عموم عبادنا قد أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بعد ما اصعدنا الابخرة والادخنة من الأرض نحوها وركبناهما تركيبا بليغا بديعا الى ان صارت سحبا متراكمة متكاثفة فتقاطر منها الماء بمجاورة الهواء الباردة إياها ونفوذها فأرسلنا الى الأرض الجرز بِقَدَرٍ معلوم معتدل فَأَسْكَنَّاهُ وأدخلناه فِي خلال الْأَرْضِ وتجاويفها ومساماتها حتى ندخر فيها ثم فجرنا ينابيع يخرج الماء منها متدرجا ويجرى على قدر الحاجة تتميما لحوائج عبادنا وتيسيرا لهم في معاشهم وَإِنَّا بعد ما اسكنا وأجرينا الماء في الأرض عَلى ذَهابٍ بِهِ اى اذهاب الماء واعدامه بالاغوار والتفريق(1/566)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
والتجفيف وغير ذلك من طرق الاذهاب والازالة لَقادِرُونَ كما انا قادرون على انزاله وإخراجه واجرائه وبعد ما اخترنا وادخرنا الماء
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ اى بالماء المدخر جَنَّاتٍ حدائق وبساتين مملوة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ هما معظم الفواكه وأصلها وبالجملة لَكُمْ فِيها اى في تلك الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ متفرعة عليهما ملتفة بهما من انواع الفواكه على ما هو عادة الدهاقين في غرس الحدائق والبساطين وَمِنْها اى من تلك الجنات ايضا تَأْكُلُونَ تغذيا وتقوتا إذ تزرعون فيها ايضا من انواع الحبوبات
وَلا سيما قد انشأنا لكم بالماء شَجَرَةً مباركة تَخْرُجُ وتنشأ مِنْ طُورِ سَيْناءَ هو جبل رفيع بين مصر وايلة تَنْبُتُ وتثمر ملتبسة ممتزجة بِالدُّهْنِ المضيء للسروج والقناديل وَصِبْغٍ ادام حاصل متخذ منها لِلْآكِلِينَ إذ الناس يغمسون اخبازهم فيه تأدما
وَإِنَّ لَكُمْ ايها المتأملون في نعمنا المعتبرون من انعامنا فِي الْأَنْعامِ والدواب التي تنعمون بها من لدنا لَعِبْرَةً عظيمة واعتبارا ظاهرا دالا على كمال قدرتنا وجلالة نعمتنا لو تعتبرون منها إذ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ونخرج لكم من بين الأخلاط والفضلات لبنا خالصا سائغا للشاربين مع انه لا مناسبة بينه وبين مجاوره وملاصقه من الفرث والدم وسائر الأخلاط والفضلات وَايضا لَكُمْ فِيها اى في الانعام مَنافِعُ كَثِيرَةٌ من ظهورها وأصوافها واشعارها واوبارها وغير ذلك وَايضا مِنْها تَأْكُلُونَ اى من لحومها تقوية لأمزجتكم وتقويما لها
بالجملةلَيْها
اى بعض الانعام في البر عَلَى الْفُلْكِ
في البحرحْمَلُونَ
وبعد ما عد سبحانه نبذا من نعمه الجليلة التي قد أنعم بها على عباده شرع في توبيخ من يكفر بها ولم يؤد حق شكرها
فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا حسب حكمتنا واصلاحنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ حين انحرفوا عن جادة العدالة الفطرية وانصرفوا عن طرق الاستقامة وسبل السلامة مطلقا فَقالَ بمقتضى وحينا إياه مناديا لهم ليقبلوا اليه على مقتضى شفقة النبوة والرسالة وعطف الإرشاد والهداية يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه امحاضا للنصح وإظهارا لكمال الإشفاق اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويستحق بالعبادة غَيْرُهُ أَتتخذون الها سواه فَلا تَتَّقُونَ ولا تحذرون عن بطشه وانتقامه بأنواع العذاب والنكال ايها المسرفون المفرطون وبعد ما قد ظهر عليهم بدعوى الرسالة واظهر لهم الدعوة على الوجه المذكور
فَقالَ الْمَلَأُ والأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة قد عبدوها مثل عبادة الله على سبيل الخطاب لضعفاء العوام ترويجا لكفرهم وتحقير اله ولدعوته ما هذا الرجل الحقير الدنى المدعى للرسالة والنبوة من الله الموهوم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بل أضعفكم حالا وأدناكم عقلا ومالا يُرِيدُ مع غاية حقارته ودنائته أَنْ يَتَفَضَّلَ ويتفوق عَلَيْكُمْ بهذه الدعوة الكاذبة والافتراء الباطل وَلَوْ شاءَ اللَّهُ إرسال رسول ونبي لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً إذ هم اولى وأليق بالإرسال من عنده ولهم مناسبة معه بخلاف البشر إذ لا مناسبة له معه سبحانه وتعالى مع انا ما سَمِعْنا بِهذا اى برسالة البشر من الله لا في زماننا هذا ولا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ وبالجملة لم يعهد هذا لا في الازمنة السابقة ولا في اللاحقة
بل إِنْ هُوَ وما هذا المدعى إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ يعنى قد عرض له جنون فاختل دماغه وذهب عقله فيتخبط الشيطان لذلك يتفوه بأمثال هذه الهذيانات المستبعدة المستحيلة وبالجملة فَتَرَبَّصُوا بِهِ وأمهلوه وانتظروا في امره(1/567)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
وشأنه ولا تميلوا نحوه ولا تلتفتوا اليه حَتَّى حِينٍ ومضى مدة وزمان ليظهر لكم خبطه واختلاله او يفيق عما هو عليه من الخبط والجنون وعاد على ما كان قبل ثم لما سمع منهم نوح عليه السّلام ما سمع من التجهيل والتسفيه وايس منهم وقنط عن ايمانهم وصلاحهم
قالَ مشتكيا الى الله مستعينا منه رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرم وأرسلني الى هؤلاء الضالين عن سواء سبيلك لأهديهم الى توحيدك فبلغت ما أرسلت به إياهم فلم تقبلوا منى بل قد كذبوني وسفهونى انْصُرْنِي يا رب باهلاكهم وتعذيبهم بِما كَذَّبُونِ اى بدل تكذيبهم إياي وبسببه
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ انجازا لما قد وعدنا إياهم من العذاب والهلاك بعد تكذيبهم الرسول وعموم ما جاء به من عندنا من الايمان والتوحيد وجميع المعتقدات الاخروية أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ واعمل السفينة الموعودة لك ولا تخف عن فسادها بعدم تعلمك من احد بل اصنعها أنت بِأَعْيُنِنا وبين أيدينا وفي حضورنا نحفظك عن عروض الخطأ والفساد في صنعها وَأعملها على مقتضى وَحْيِنا وأمرنا وتعليمنا لك كيفية صنعها ولا تبال بتسفيههم لك واستهزائهم معك ونسبتك الى الخبط والجنون وانواع الأذيات فَإِذا جاءَ أَمْرُنا الوجوبي المتعلق باغراقهم واستئصالهم وَفارَ التَّنُّورُ المعين المعهود في حضرة علمنا فورة ونبع منه الماء نبعة فَاسْلُكْ أنت حينئذ وادخل على الفور فِيها اى في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ اى من كل نوع من الحيوانات اثنين ذكرا وأنثى إبقاء لعموم الأنواع في العالم وَاسلك ايضا فيها أَهْلَكَ ومن ينتمى إليك قرابة ودينا إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ والحكم منا وجرى في لوح قضائنا وحضرة علمنا بانه من الهالكين مِنْهُمْ اى من أهلك يعنى ادخل عموم أهلك سوى من مضى قضاؤنا ونفذ حكمنا بغرقه وهلاكه وهو ابنه كنعان وَبعد ما سبق القضاء منا باهلاك من كفر من أهلك عليك ان لا تُخاطِبْنِي يا نوح ولا تدع الىّ في حق من سبق الحكم منى بغرقه ولا تسع فِي خلاص القوم الَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بالعرض على عذابنا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ معدودون عن عداد الغرقى الهلكى ولا اثر لدعائك لهم بعد ما قد صار الأمر منا حتما مقضيا وصدر الحكم عنا مبرما جزما
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ يا نوح وتمكنت وَتمكن ايضا مَنْ مَعَكَ مع المؤمنين عَلَى الْفُلْكِ وصرتم متمكنين مستقرين عليها فَقُلِ شكرا لما أنعمنا عليك من انجاز النصرة المعهودة الموعودة لك وإهلاك عدوك وغير ذلك من النعم العظام الواصلة إليك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا من سعة رحمته وكمال جوده ومرحمته مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العقل والشرع عتوا وعنادا
وَقُلْ ايضا بعد ما تمكنت على السفينة رَبِّ أَنْزِلْنِي بفضلك ولطفك مُنْزَلًا مُبارَكاً كثير الخير والبركة وَأَنْتَ من كمال جودك خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ لو فرض منزل سواك ومع انه لا منزل غيرك ولا وجود لسواك لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من قصة نوح مع قومه ونجاته من الغرق وهلاك قومه وتعليم صنع السفينة عليه وخروج الماء من التنور المعهود واحاطته على وجه الأرض وشموله عليها ونجاة من كان في السفينة وغير ذلك من الأمور البديعة لَآياتٍ دلائل واضحات على كمال قدرتنا وارادتنا واختيارنا في عموم أفعالنا وتصرفاتنا على المعتبرين المتأملين في بدائع الأمور وغرائبها الناظرين بعين العبرة والاستبصار في حدوث أمثال هذه الوقائع الهائلة وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ اى ان الشأن والأمر انا باحداث هذه الحوادث مع قوم نوح لمختبرين مجربين عموم عبادنا لننظر من يعتبر ويتعظ بها منهم وما هي الا تذكرة وتذكير منا(1/568)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
إياهم
ثُمَّ بعد إهلاك قوم نوح وإغراقهم أَنْشَأْنا وأظهرنا من ذرية من في سفينة نوح عليه السّلام مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ هم عاد وثمود فانحرفوا ايضا عن جادة التوحيد
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا ناشئا مِنْهُمْ ابتلاء لهم واختبارا لمن اعتبر منهم فقال لهم رسولهم على مقتضى وحينا والهامنا إياه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والوجود واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد له ويرجع اليه غَيْرُهُ أَتتخذون وتأخذون غيره الها وتعبدون له إفكا وتتضرعون نحوه في الوقائع والخطوب فَلا تَتَّقُونَ من غضبه ولا تخافون عن قهره وانتقامه ايها المفسدون المفرطون
وَبعد ما بلغهم الرسول الوحى به قالَ الْمَلَأُ مِنْ اعيان قَوْمِهِ عتوا واستكبارا وهم الَّذِينَ كَفَرُوا بالله باتخاذ الأصنام آلهة وأنكروا وحدة الا له وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ ويوم العرض والجزاء وعموم المواعيد والوعيدات الموعودة فيها وَمع كفرهم وشركهم وانكارهم بالنشأة الاخرى قد أَتْرَفْناهُمْ بوفور نعمنا إياهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا امهالا لهم مخاطبين لضعفة قومهم وسفلتهم ما هذا المدعى الكاذب إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بلا مزية له عليكم يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ ايضا
مِمَّا تَشْرَبُونَ وَالله لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً فيما يأمركم به من تلبيساته وتغريراته مع كونه مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ في إطاعتكم وانقيادكم لبنى نوعكم إِذاً لَخاسِرُونَ خسرانا عظيما لا خسران أعظم منه إذ هو خسران العقل والإدراك وتذليل النفس العزيزة بمثلها تغريرا
أَتسمعون وتقبلون منه ايها المجبولون على الدرية والدراية ما يَعِدُكُمْ به من الخرافات المستبعدة عن مقتضى العقل والإدراك وذلك أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً رميما ورفاتا بحيث قد تفرقت اجزاؤكم وتفتتت الى ان صارت منبثة بل عدما صرفا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ منها احياء معادون الى ما كنتم عليه من التشخصات والتعينات
هَيْهاتَ هَيْهاتَ قد بعد بعدا تاما واستحال استحالة شديدة وامتنع امتناعا ظاهرا لِما تُوعَدُونَ من البعث بعد الموت والوجود بعد العدم والإعادة بعد الاماتة
بل إِنْ هِيَ وما الحيوة لنا ايها العقلاء المجبولون على فطرة الدراية والشعور إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا اى ما هي حاصلة لنا الا فيها إذ وجودنا وعدمنا وايجادنا واعدامنا ما هو الا فيها وبالجملة نَمُوتُ ونعدم بعد ما قد كنا موجودين فيها وَنَحْيا ايضا ونوجد بعد ما كنا معدومين فيها وَبالجملة ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ منشرين من قبورنا احياء بعد ما متنا فيها كما نشاهد من سائر الأشياء يعنى لا منزل لنا سوى الدنيا حياتنا فيها ومماتنا فيها لا دار لنا غيرها
وبالجملة إِنْ هُوَ وما هذا المدعى الكذاب إِلَّا رَجُلٌ مفتر كاذب قد افْتَرى قصدا ونسبه عَلَى اللَّهِ كَذِباً عمدا تغريرا وترويجا مراء وافتراء من انه قال قد أرسلني الله واوحانى كذا كذا وما هي الا مفتريات قد اخترعها من تلقاء نفسه وَبالجملة ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ بمجرد هذا الدعوى وان أثبتها ايضا إذ هو بشر مثلنا ولا رسالة للبشر الى البشر وبعد ما يئس عن ايمانهم أخذ في الدعاء عليهم مشتكيا الى الله
حيث قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ وعذبهم بتكذيبهم إياي وتكذيبي مستلزم لتكذيبك يا ربي
قالَ سبحانه اصبر ولا تستعجل في انتقامهم انهم عَمَّا قَلِيلٍ اى عن زمان قليل وأوان قصير لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ على ما فعلوا من التكذيب والإنكار
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الهائلة من جانب السماء بغتة قيل صاح عليهم جبرائيل عليه السّلام صيحة هائلة مهولة بعد ما تعلق ارادة الله باهلاكهم ملتبسة بِالْحَقِّ اى بالعذاب الثابت المحقق الواجب وقوعه حتما فَجَعَلْناهُمْ وصيرنا اجسادهم(1/569)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
غُثاءً اى كالغثاء التي يسيل بها الماء وهي الزبد والخشائش التي يذهب بها الماء وقت سيلانه فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وبعد ما صاروا كذلك قيل في حقهم قد بعد بعدا وطردا للقوم الخارجين عن مقتضى أوامر الله ونواهيه النازلة منه سبحانه على ألسنة أنبيائه ورسله
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد انقراضهم وانقضائهم قُرُوناً آخَرِينَ يعنى قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم من الأمم الهالكة المستهلكة على الكفر والعناد بسبب تكذيب الرسل والكتب وبالجملة قد أهلكنا كلا منهم فرادى
بحيث ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها اى ما تستعجل وتستقدم امة منهم أجلها الذي قد عيناه لإهلاكهم وقدرنا هلاكهم فيه وَما يَسْتَأْخِرُونَ ايضا اى لا يسع لهم لا الاستقدام ولا الاستئخار في المدة المقدرة المعينة لهلاكهم
ثُمَّ بعد ما انقرضوا قد أَرْسَلْنا ايضا رُسُلَنا على المنحرفين عن جادة توحيدنا المصرفين عن مقتضى سنتنا وحكمتنا تَتْرا متواترة متتالية بلا تخلل فترة بينهم بحيث كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها لإصلاح حالهم واعتدال أخلاقهم وأعمالهم كَذَّبُوهُ وأنكروا له وظهروا عليه بالمقاتلة والمشاجرة فأهلكناهم واستأصلناهم بسبب تكذيبهم وانكارهم وبالجملة فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً بالهلاك اى أهلكناهم متتابعين بعضهم بعد بعض الى حيث طهرنا الأرض عن خباثتهم وقساوتهم وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ اى قد صيرناهم حكايات وقصصا يسمر بها السامرون ويعتبر المعتبرون عما جرى عليهم ويقال في حقهم بعد استماع قصصهم على سبيل العدة فَبُعْداً اى طردا وحرمانا ومقتا وخذلانا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا يصدقون رسله وجميع ما جاءوا به من عنده سبحانه من المعتقدات المتعلقة بالنشأتين
ثُمَّ بعد انقراض أولئك الحمقى الهلكى قد أَرْسَلْنا مُوسى وَقرنا له أَخاهُ هارُونَ ليكون ردأ له ووزيرا عنده مؤيدين بِآياتِنا الدالة على كمال قدرتنا ومتانة صنعتنا وحكمتنا لتكون معجزة لهما خارقة للعادات صادرة عنهما ملزمة لمن يقابلهما وَمع ذلك قد قويناهما بورود سُلْطانٍ مُبِينٍ برهان عقلي مبين ومعجزة ساطعة منا
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ واشراف قومه فبلغ الموحى به إليهم واظهر الدعوة عندهم فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها عنادا وعتوا وَهم قد كانُوا في أنفسهم وحسب زمانهم قَوْماً عالِينَ متجبرين متكبرين بحيث قد ترقى امر فرعون في العتو والاستكبار الى ان ادعى الربوبية والألوهية لنفسه
فَقالُوا بعد ما سمعوا منهما ما سمعوا من الايمان بالله والدعوة الى توحيده والإتيان بالأعمال الصالحة والامتثال بالأوامر والاجتناب عن النواهي المنزلة في التورية متشاورين بينهم مستبعدين عن أمرهما متهكمين معهما قائلين أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ اى لهذين البشرين ونقبل منهما قولهما مع كونهما مِثْلِنا في البشرية بلا مزية لهما علينا لا بالمال ولا بالكمال وَلا بالنسب ايضا إذ قَوْمُهُما الذين قد انتشئا منهم لَنا عابِدُونَ الى الآن ونحن أربابهم مسلطون عليهم وبالجملة كيف ننقاد ونؤمن بهما بلا شرف فيهما لا حسبا ولا نسبا
فَكَذَّبُوهُما أشد تكذيب وأنكروا عليهما آكد انكار ونسبوا عموم ما أتيا به من الحجج والمعجزات الى السحر والشعبذة وبالجملة قد خاصموا معهما أشد الخصومات فَكانُوا بالآخرة بسبب انكارهم وتكذيبهم وإصرارهم مِنَ الْمُهْلَكِينَ المستأصلين بالإغراق في بحر قلزم او النيل
وَاذكر يا أكمل الرسل لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى من كمال كرامتنا ولطفنا معه الْكِتابَ اى التورية الجامع لإصلاح الظاهر والباطن لَعَلَّهُمْ اى قوم موسى يَهْتَدُونَ به الى مقر التوحيد وهم ما آمنوا به وبكتابه وما كانوا مهتدين(1/570)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
وَبعد انقضاء زمن موسى الكليم وانقراض أعدائه قد جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ عيسى عليه السّلام وَأُمَّهُ رضى الله عنها اى كل واحد منهما آيَةً دالة على كمال قدرتنا وبدائع حكمتنا وغرائب صنعتنا بان جعلنا لعيسى عليه السّلام من الخوارق والمعجزات ما لا يخفى ولمريم ايضا من الكرامات والارهاصات الخارقة للعادات منها الحمل بلا مساس زوج وسقوط التمرة من النخلة اليابسة لأجلها سيما في أوان الشتاء وحضور انواع الأطعمة والفواكه عندها حال كونها في المحراب والأبواب مغلقة عليها مع انها ما تشبه باطعمة الدنيا وفواكهها وغير ذلك من الارهاصات الغريبة وَبعد ما أخرجهما الجاهلون عن مقرهما ومنزلهما آوَيْناهُما اى ارجعناهما واوصلناهما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ اى الى مكان مرتفع من الأرض كثير المآكل والمشارب يتنعم ويترفه الساكنون فيها بلا تردد واضطراب في امر المعاش. قيل هي بيت المقدس او دمشق. ثم قال سبحانه مخاطبا لقاطبة رسله وأنبيائه اصالة ولأممهم تبعا مناديا لهم مسقطا منهم الرهبانية والزهد المفرط المؤدى الى تخريب البنية وضعف القوى المدركة والمحركة عن مقتضاها وكذا جميع آلات الجوارح المعمول بها
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ يعنى نادى سبحانه كل واحد منهم في زمانه كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ التي قد أبحنا لكم حسب ما يسد جوعتكم ويعتدل امزجتكم وأطيب مطاعمكم كسب أيديكم وَبعد ما اعتدل امزجتكم وقوى قواكم اعْمَلُوا عملا صالِحاً مقربا لكم إلينا مصلحا لما في نفوسكم من المقاصد الحاصلة من الاهوية الفاسدة ومن تسويلات الشياطين وتغريراته إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ على وجه الإخلاص عَلِيمٌ اجازيكم عليه سواء تتزهدون وتترهبون أولا
وَمتى علمتم ان مناط أمركم في عملكم المقرب الى ربكم على الإخلاص والخضوع فعليكم بأجمعكم ان تداوموا وتلازموا عليه واعلموا إِنَّ هذِهِ الطريقة المعهودة المذكورة لكم من ربكم أُمَّتُكُمْ اى قدوتكم وقبلتكم موصلة الى توحيد ربكم لذلك قد صارت أُمَّةً واحِدَةً وقبلة منفردة بلا تعدد واختلاف فيها أصلا وان كانت جهاتها وطرقها متعددة مختلفة حسب اختلاف الشرائع والأديان بمقتضى الأعصار والأزمان وَاعلموا ايضا أَنَا رَبُّكُمْ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لا أكون عرضة للتعدد والكثرة قطعا فَاتَّقُونِ من أخذي وبطشى ومقتضيات جلالي وقهري إذ لا ملجأ لكم غيرى ولا منجا لكم سواي
ومع ذلك فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعنى جعلوا دينهم الواحد وملتهم المنفردة وأمتهم الواحدة زُبُراً قطعا مختلفة وصاروا أحزابا متفاوتة ومللا متعددة وامما متكثرة متخالفة بحيث يدعى كل منهم حقية دينه وملته نصا كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ وعندهم من الدين والملة المرضية لهم فَرِحُونَ مسرورون معجبون
فَذَرْهُمْ بعد ما تحزبوا وانحرفوا عن التوحيد وانصرفوا عن جادته واتركهم على حالهم يعمهون فِي غَمْرَتِهِمْ وجهلهم وغوايتهم حَتَّى حِينٍ اى حين انكشف الغطاء عن بصائرهم وأبصارهم فعاينوا العذاب ولم يمكنهم رده والنجاة منه فهلكوا به صاغرين مضطرين
أَيَحْسَبُونَ ويعتقدون أولئك الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال ويزعمون بل يصدقون أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ وما نعطيهم امدادا لهم واعانة عليهم مِنْ مالٍ مله لنفوسهم شاغل لقلوبهم وَبَنِينَ الذين هم يستعبدون نفوسهم ويسترقون أعناقهم
نحن نُسارِعُ ونبادر لَهُمْ فِي نيل الْخَيْراتِ ونول المثوبات والكرامات تفضلا منا إياهم وتعظيما وتكريما لهم ولا يفهمون ولا يتفطنون ابتلاءنا واختبارنا إياهم بإعطاء أمثال هذه الزخرفة(1/571)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
الدنية الدنياوية لذلك يباهون ويفتخرون بها ويتفوقون على من دونهم لأجلها بَلْ ما هذا الا استدراج منا إياهم وامهال لهم كي يحصلوا اسباب أشد العذاب وأسوأ العقاب ويستحقوا بواسطتها أسفل دركات النيران وهم لا يَشْعُرُونَ الاستدراج من الكرامة فحملوا عليها وباهوا فسيعلمون مصيرهم ومنقلبهم الى اين.
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون حذرون محترزون
وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ النازلة على رسله يُؤْمِنُونَ يصدقون ويذعنون
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ بحال بل يستقلون سبحانه بالوجود ولا يثبتون لغيره وجودا ولا يسندون الحوادث الكائنة الى الأسباب العادية مطلقا بل يسندون كلها الى الله أولا وبالذات
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا من الأعمال الصالحات وانواع الخيرات والصدقات ومطلق الحسنات وَقُلُوبُهُمْ في حال إتيانها وَجِلَةٌ خائفة مستوحشة بسبب أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ بهذه الأعمال والحسنات هل يقبل منهم او يرد عليهم وهم دائما بين الخوف والرجاء خائفون عن قهره راجون من لطفه
أُولئِكَ السعداء المحسنون الأدب مع الله المخلصون في أعمالهم يُسارِعُونَ يبادرون ويرغبون فِي الْخَيْراتِ وانواع الطاعات والعبادات وعموم الحسنات راجين بها انواع الكرامات والمثوبات من الله وَبالجملة هُمْ في عموم أوقاتهم وحالاتهم لَها سابِقُونَ ساعون سارعون ولمثل هذا فليعمل العاملون
وَاعلموا ايها المكلفون بأنواع التكاليف المصفية لظواهركم وبواطنكم لا نُكَلِّفُ ولا نحمل نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ومقدار طاقتها حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية وكيف نكلفهم بما لا طاقة لهم وَلَدَيْنا كِتابٌ جامع لجميع ما حدث وكان ويحدث ويكون الا وهو لوح قضائنا الشامل وحضرة علمنا المحيط ولا شك انه يَنْطِقُ بِالْحَقِّ السوى الصحيح الثابت المعتدل المطابق للواقع بلا افراط وتفريط وَبالجملة هُمْ لا يُظْلَمُونَ بحال لا بزيادة العذاب ولا بنقصان الثواب بل كل منهم مجزيون بمقتضى ما ثبت فيه والكفار من غاية انهماكهم في الغفلة والضلال منكرون لكتابنا الجامع لجميع الكوائن والفواسد الناطق بالحق الواقع
بَلْ قُلُوبُهُمْ التي قد جبلت وعاء وظرفا للايمان والتصديق فِي غَمْرَةٍ غطاء وغشاء مِنْ هذا الطريق الذي يترتب عليه الفلاح والفوز بالنجاح الا وهو طريق التوحيد والتصديق وَمع ذلك لَهُمْ أَعْمالٌ طالحة صادرة عنهم على مقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة مِنْ دُونِ ذلِكَ الأمر الذي نأمر به عبادنا على السنة رسلنا هُمْ لَها عامِلُونَ وإليها متوجهون مائلون وعن طريق الحق وسبيل التوحيد ناكبون منصرفون
وهم قد صاروا عليها مصرين حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ وانتقمنا من متنعميهم بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ يستغيثون منا وبالجملة هم في الراحة والرخاء عنا غافلون وإذا أخذناهم بالبلاء والعناء فاجؤا الى الاستغاثة والاستعانة منا مصرخين إلينا متضرعين نحونا لذلك يقال لهم من قبلنا تهكما واستهزاء ردا وطردا
لا تَجْأَرُوا ايها المسرفون المفرطون ولا تستنصروا الْيَوْمَ منا حين حلول العذاب عليكم إِنَّكُمْ بسبب غفلتكم عنا وانكاركم علينا في وقت الراحة والرخاء مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أصلا فاليوم لا ينفعكم دعاؤكم وصراخكم وكيف تستنصرون عنى ايها المسرفون اما تستحيون منى
إذ قَدْ كانَتْ آياتِي الدالة على عظمة ذاتى وعلو شأنى وشدة سطوتي وسلطاني تُتْلى عَلَيْكُمْ تليينا لقلوبكم وإصلاحا لعيوبكم فَكُنْتُمْ من شدة عتوكم واستكباركم عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ ترجعون رجوع القهقرى منصرفين من سماعها(1/572)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
حال كونكم مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ اى بالكتاب وبالأوامر والاحكام المندرجة فيه بحيث لا تذكرونه سامِراً ايضا وحاكيا به ليلا على ما هو عادتكم وسنتكم المستمرة بينكم إذ كنتم تسمرون حول البيت في خلال الليالى سيما في الأحاديث الحديثة والحكايات الجديدة بل تَهْجُرُونَ وتتركون السمر مطلقا حتى لا تسمعوا ذكر الآيات والكتاب أصلا فكيف الامتثال والتلذذ بما فيه من الأوامر والنواهي ومع استكباركم بنا وبآياتنا ورسلنا على ابلغ الوجوه وأشدها تستنصرون منا وتستغيثون إلينا.
ثم قال سبحانه على وجه التعيير والتقريع أَينكرون المشركون القرآن ويستكبرون به عنادا ومكابرة فَلَمْ يَدَّبَّرُوا ولم يتأملوا حق التأمل الْقَوْلَ المقبول المطبوع والمقول المعقول المسموع منه ولم يتفكروا في أسلوبه وترتيبه واتساق نظمه وتطابق كلماته ليظهر لهم اعجازه ويتضح لديهم فصاحته وبلاغته الخارجة عن طور العقل وطوق البشر كيلا يبادروا الى إنكاره وتكذيبه بل يصدقوه ويؤمنوا به وبمن جاء به أَمْ جاءَهُمْ يعنى بل يعلمون لو تأملوا في شأن القرآن انه قد جاءهم من الله كتاب كامل شامل هاد منقذ يخلصهم من العذاب الأخروي لو امتثلوا بما فيه من الأوامر والنواهي مع انه ما لَمْ يَأْتِ يعنى كتابهم هذا نور ظاهر باهر لم يأت مثله آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ
حتى تأملوا وتدبروا فيه وتخلصوا من العذاب النازل عليهم فهؤلاء الحمقى الهلكى المنهمكون في الغي والضلال يفوتون على أنفسهم الايمان به والهداية بامتثال ما فيه حتى يتيسر لهم الخلاص والنجاة
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ يعنى بل لم يعرفوا من شدة شكيمتهم وبغضهم علو شأن رسولهم وسمو برهانه وكمال عقله ورشده واعتدال أخلاقه وأطواره وايفائه العهود والأمانات حتى يصدقوه ويؤمنوا به بل فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ من غاية الجهل والعناد
أَمْ يَقُولُونَ وينسبون بِهِ جِنَّةٌ اختلال وخبط ومن اختلاله وخبطه قد ظهر منه أمثال هذه البدائع التي استحدثها من تخيلاته بَلْ قد جاءَهُمْ رسولهم بعموم ما جاء به ملتبسا بِالْحَقِّ الصريح والصدق السوى المطابق للواقع والوحى الإلهي وَلكن أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لأنهم على الباطل مائلون والى مشتهيات نفوسهم آئلون
وَبالجملة لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ اى الوحى النازل من لدنه أَهْواءَهُمْ الباطلة وآراءهم الفاسدة لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ من ذوى الشعور والإدراك المتوجهين نحو الحق طوعا من شؤم أعمالهم وسوء أفعالهم وقبح أخلاقهم وأطوارهم لذلك ما آتيناهم وما أوحينا على رسولهم ما هو مشتهى نفوسهم ومقتضى اهوائهم بَلْ قد أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ وتذكيرهم وما يذكرهم به بل ليس الا ما هو الا صلح بحالهم والأليق بشأنهم من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والإنذار والتبشير والعبر والأمثال والقصص والآثار فَهُمْ من غاية عمههم وسكرتهم عَنْ ذِكْرِهِمْ المصلح بحالهم المنجى لنفوسهم من الوبال والنكال مُعْرِضُونَ منصرفون عنه عتوا واستكبارا
أَمْ تَسْأَلُهُمْ اى أيظنون ويعتقدون انك يا أكمل الرسل تطلب لأداء الرسالة وتبليغها عليهم خَرْجاً جعلا واجرا لذلك انصرفوا عنك وعن دينك وكتابك فَخَراجُ رَبِّكَ الذي رباك بأنواع النعم الصورية والمعنوية واجره لك بأعظم المثوبات وأعلى الدرجات خَيْرٌ لك من جعلهم وخرجهم وَان نسبوك الى الفقر والفاقة قل هُوَ سبحانه خَيْرُ الرَّازِقِينَ لو فرض رازق سواه مع انه لا رازق الا هو
وَبالجملة هم منحرفون في أنفسهم عن جادة العدالة وصراط التوحيد بحيث لا يفيدهم هدايتك وارشادك مطلقا إِنَّكَ بوحي الله إياك لَتَدْعُوهُمْ وتهديهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ(1/573)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
سوى لا عوج له أصلا الا وهو طريق التوحيد الذاتي المنزل على الحضرة الختمى النبي الأمي صلوات الله عليه وسلامه
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا يصدقون بِالْآخِرَةِ التي فيها انتقاد الأعمال والأحوال والعرض على ذي العظمة والجلال عَنِ الصِّراطِ الذي هو سبب اعتدالهم وإخلاصهم فيها لَناكِبُونَ عادلون مائلون لذلك لم يقبلوا منك ما جئت به من عند ربك
يا أكمل الرسل إذ خوف الآخرة من أقوى قوائم الايمان وأشد اعمدته وأركانه وَلَوْ رَحِمْناهُمْ بمقتضى سعة رحمتنا وجودنا وَكَشَفْنا وأزلنا عنهم ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ مفرط مزعج مثل القحط والوباء والزلزلة والعناء وغير ذلك من المحن والشدائد العاجلة لَلَجُّوا وأصروا فِي طُغْيانِهِمْ التي هم عليها من الكفر والشرك والعداوة مع اهل الايمان يَعْمَهُونَ يترددون ولا يتركون
وَكيف لا يعمهون وقد جربناهم مرارا فانا لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ اى بالجدب والقحط وبالقتل يوم بدر فَمَا اسْتَكانُوا وما تذللوا وما تواضعوا لِرَبِّهِمْ من كمال عتوهم وعنادهم وَما يَتَضَرَّعُونَ اليه استكبارا بل هم مصرون على إصرارهم دائما وبالجملة كلما أخذناهم وكشفنا عنهم زادوا على استكبارهم وإصرارهم ولم يرجعوا إلينا خاشعين مخلصين قط
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً من البلاء والعناء ذا عَذابٍ شَدِيدٍ وهو القحط المفرط إذ هو من أصعب العقوبات وأسوئها إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير ومع ذلك لم يتوجهوا إلينا ولم يتضرعوا نحونا مع انه لا منجى لهم سوانا
وَكيف لا تتوجهون الى الله ولا تتضرعون نحوه ايها الحمقى الهالكون في تيه العتو والعناد مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ اظهر لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ من المشاعر التي تحفظون بها انفسكم من الأعادي الخارجة عنكم وَالْأَفْئِدَةَ اى القلوب التي تحفظون بها صدوركم وسرائركم من الأعداء الداخلة من التخييلات الباطلة والتوهمات الزائغة الزائلة المزخرفة المموهة من الرياء والرعونات وانواع التلبيسات النافية لصفاء مشرب التوحيد مع انكم قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ اى ما تشكرون لهذه النعم الجليلة الا قليلا
وَكيف لا تشكرون نعمه سبحانه مع انه هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ اى أوجدكم وأظهركم من كتم العدم في النشأة الاولى وبث نسلكم ونسبكم فِي الْأَرْضِ التي تترفهون فيها وتتنعمون عليها ورزقكم من انواع الطيبات وَفي النشأة الاخرى إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا وجود للغير مطلقا تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الأمواج الى البحر
وَكيف لا تحشرون اليه سبحانه مع انه هُوَ الَّذِي يُحْيِي ويظهر أشباحكم من العدم بامتداد اظلال أسمائه وصفاته وبسطها على مرايا الاعدام وَيُمِيتُ بانقهارها وقبض الاظلال عنها وَمن مقتضيات قبضه وبسطه ان لَهُ سبحانه حسب ارادته ومشيئته اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ طولا وقصرا ضوأ وظلمة أَفَلا تتفكرون وتتأملون ايها المجبولون على التفكر والتدبر حتى تَعْقِلُونَ وتدركون كيفية ظهور الحق وإظهاره مظاهر أسمائه الحسنى وآثار صفاته العليا وبالجملة أولئك البعداء الضالون لا يتفكرون ولا يعقلون مع وضوح الدلائل وسطوع الشواهد
بَلْ قالُوا اى هؤلاء الضالون المفرطون من الهذيانات الباطلة مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ المبطلون المسرفون من آبائهم وأسلافهم تقليدا لهم
حيث قالُوا مستنكرين مستبعدين على مواعيد الحق ووعيداته في النشأة الاخرى أَإِذا مِتْنا وانقرضنا من الدنيا وَقد كُنَّا بعد انقراضنا منها تُراباً وَعِظاماً بالية أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ مخرجون من القبور احياء مثل ما كنا عليه قبل موتنا كلا وحاشا لا حيوة لنا الا هذه الحيوة التي(1/574)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
كنا عليها في دار الدنيا
مع انا لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ على لسان من جاءنا بادعاء الرسالة والنبوة وَقد وعد ايضا آباؤُنا وأسلافنا ايضا هذا الموعود المخصوص على لسان من جاء به مِنْ قَبْلُ وهلم جرا مع انا ولا آباؤنا وأسلافنا لم نر من علامات صدقه وامارات وقوعه شيأ أصلا وبالجملة إِنْ هذا وما هذا الوعد الموعود والقول المعهود وهو انكم إذا مرقتم كل ممزق انكم لفي خلق جديد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أباطيلهم وأكاذيبهم التي قد سطروها في دواوينهم وكتبهم على وجه السمرة والخدعة لضعفاء الأنام وبعد ما بالغوا في الإنكار على البعث والإعادة وعدم قدرتنا عليها مع انا قادرون على الإبداء والإنشاء عن لا شيء
قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم وتبكيتا لِمَنِ الْأَرْضُ المفروشة وَمَنْ فِيها وعليها من انواع النباتات والحيوانات والمعادن ومن المظهر لها من كتم العدم ومن المزين المنبت عليها من الأجناس المختلفة أخبرونا عن موجدها ومخترعها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى من ذوى الشعور والإدراك
سَيَقُولُونَ في الجواب البتة لِلَّهِ إذ لا يمكنهم انكار الصريح المحقق قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اعترفوا بان الأرض ومن عليها لله سبحانه موبخا عليهم ومقرعا أَتنكرون ايها الجاهلون قدرة الله على اعادة المعدوم وحشر الأجساد فَلا تَذَكَّرُونَ ولا تستحضرون قدرة الحق على إبداع هذه البدائع وإيداع هذه العجائب المستحدثة على الأرض بلا سبق مادة ومدة ومع ذلك تنكرون اعادة من عليها سيما بعد سبق المادة مع ان هذا أهون علينا من ذلك
قُلْ لهم ايضا إلزاما وتبكيتا مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ الشداد المطبقات المزينات بالكواكب وَمن رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ المحيط بالكل المحرك لها على وجه السرعة التامة والحركة السريعة الشديدة بلا تخلل سكون أصلا
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ إذ لا يسع لهم الخروج عن مقتضى صريح العقل قُلْ لهم يا أكمل الرسل أَفَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن قهر الله وغضبه تنكرون منه أهون مقدوراته وأسهل مراداته مع انكم قد اعترفتم باشدها وأصعبها
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما تأكد إلزامهم وافحامهم كلاما جمليا شاملا لعموم مقدورات الله ومراداته مَنْ بِيَدِهِ وقبضة قدرته وتحت حوله وقوته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وملكه يتصرف فيه حسب ارادته واختياره على سبيل الاستقلال وَمن هُوَ يُجِيرُ يغيث ويعين الملهوف والمضطر إذا دعاه وَلا يُجارُ ولا ينصر عَلَيْهِ إذ هو سبحانه يعلو ولا يعلى عليه أخبروني إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى من ذوى الخبرة والشعور
سَيَقُولُونَ ايضا بلا تردد لِلَّهِ اختصاصا وملكا تصرفا واستقلالا ارادة واختيارا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اثبتوا اليد الغالبة والقدرة التامة الكاملة والفاعلية المطلقة بالإرادة والاختيار فاعل المختار اختصاصا واستقلالا فَأَنَّى تُسْحَرُونَ اى من اين تخدعون وتلبسون للخروج عن مقتضى العقل والرشد في المقدور المخصوص والمراد المعين حتى تنكروا له ولم تقبلوا وقوعه مع ورود الآيات الكثيرة الكبيرة في الكتب الإلهية والصحف السماوية مطلقا الدالة على وقوعه
بَلْ ما أَتَيْناهُمْ كل ما أتيناهم اى للأنبياء والرسل الهادين المهديين من التوحيد ولوازمه من الايمان بالغيب وعموم المأمورات والمنهيات الصادرة منا المنزلة على رسلنا وجميع ما أوحينا وألهمنا على رسلنا الا بِالْحَقِّ الصدق المطابق لما في حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا الشامل الجامع بلا توهم البطلان في شيء منها وَبالجملة إِنَّهُمْ اى أولئك المكذبين المسرفين لَكاذِبُونَ البتة في نسبة الكذب إلينا وإليها وإليهم الا لعنة الله على الكاذبين(1/575)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
ومن جملة ما نسبوا الى الله سبحانه افتراء ومراء اثبات الولد له سبحانه مع انه مَا اتَّخَذَ اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الفرد الذي شأنه ووصفه المخصوص له انه الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد مِنْ وَلَدٍ إذ هو من أقوى خواص الأجسام وأوضح لوازم الإمكان وهو سبحانه منزه عنهما مطلقا وَمن جملة أكاذيبهم الباطلة ايضا اثبات الشريك له سبحانه مع انه ما كانَ وما صح وما جاز ان يكون مَعَهُ مِنْ إِلهٍ كان شريكا له يعبد بالحق مثله ويستحق بالعبادة له استحقاقا ذاتيا ووصفيا كما هو شأنه سبحانه إِذاً اى حين كان الا له الواجب الوجود المستحق للعبادة متعددا كما زعم أولئك المبطلون لَذَهَبَ وتميز كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أوجد واظهر فيكون مملكة كل منهم ممتازة عن الاخرى ومتى كان الإله متعددا والمملكة ممتازة لأمكن التغالب والتحارب وَلَعَلا اى لغلب وارتفع بَعْضُهُمْ اى بعض الآلهة عَلى بَعْضٍ بالقدرة والاستيلاء فاختل النظام المشاهد المحسوس ولم يبق له انتظام وقيام والتيام ودوام أصلا سُبْحانَ اللَّهِ وتعالى ذاته عَمَّا يَصِفُونَ به ذاته أولئك الجاهلون بقدره الغافلون عن علو شأنه من اثبات الولد والشريك معه مع كمال تنزهه وتقدسه في ذاته عنهما وعن أمثالهما
وكيف يكون له ولد ومعه شريك وهو بذاته عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء منهما فَتَعالى وتنزه سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ أولئك المعاندون المفرطون من ان يكون له ولد يشبهه او شريك يماثله ويشترك معه في أخص أوصافه التي هي وجوب الوجود والعلم بالغيب والشهود
قُلْ يا أكمل الرسل مستعيذا بالله من شر ما سيلحق لأولئك المعاندين المبطلين رَبِّ يا من رباني بمزيد اللطف والإحسان إِمَّا تُرِيَنِّي اى ان تحقق وتقرر عندك في حضرة علمك يا مولاي اراءتك إياي ما يُوعَدُونَ به أولئك المسرفون المشركون من أشد العذاب والنكال في العاجل والأجل أرني وابصرنى بحولك وقوتك يا رب لتكون رؤيتي سبب عبرتي وتذكيري من أحوالهم
وبالجملة رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ مقارنا لهم معدودا من عدادهم ملحقا بي ما سيلحقهم من انواع العذاب الصوري والمعنوي الدنيوي والأخروي
وَقال سبحانه إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ يعنى انا لقادرون على ان نريك ما نعدهم العذاب الموعود إياهم في هذه النشأة لكنا نؤخر عذابهم الى النشأة الاخرى ونمهلهم رجاء ان يؤمن بعضهم او يحصل منهم المؤمنون من نسلهم وذرياتهم وبعد ما قد كنا نمهلهم ونؤخر عذابهم لحكم ومصالح
ادْفَعْ أنت يا أكمل الرسل بِالَّتِي اى بالدلائل والشواهد التي هِيَ أَحْسَنُ من المقاتلة والمشاجرة السَّيِّئَةَ التي هم عليها من الكفر والشرك وانواع الطغيان والعصيان لعل دلائلك تلين قلوبهم وتصفيهم عن المكابرة والعناد معك إذ نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِما يَصِفُونَ اى ما يصفونك به وينسبونك اليه مما لا يليق بشأنك وثق بنا وتوكل في عموم احوالك علينا واتخذنا وكيلا وفوض امر انتقامهم إلينا فانا نكفى ونكف عنك مؤنة شرورهم
وَقُلْ رَبِّ يا من رباني بكنفك وجوارك أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ووساوسه وانواع تسويلاته وتلبيساته
وَلا سيما أَعُوذُ والوذ بِكَ يا رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ عند توجهي نحوك وتحننى إليك ومناجاتي معك سيما خلال صلاتي في خلواتي وعند تلاوتى وعرض حاجاتي والكافرون في غاية انهماكهم في الغفلة مصرون على ما هم عليه من الشرك والكفر
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وعاين من(1/576)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
امارات النشأة الاخرى تنبه حينئذ بقبح صنائعه التي قد اتى بها في النشأة الاولى قالَ حينئذ متضرعا الى الله نادما متمنيا متحسرا رَبِّ ارْجِعُونِ بفضلك وجودك الى النشأة الاولى
لَعَلِّي أَعْمَلُ بعد رجوعي عملا صالِحاً مصلحا فِيما تَرَكْتُ وأفسدت من امور الايمان والإطاعة والانقياد كَلَّا ردع له عن هذا السؤال والدعاء ومنع له عن إنجاح مسئوله إِنَّها اى طلب المراجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها من غاية الحسرة والندامة متمنيا على ما فات عنه في دار الابتلاء وَالا كيف يرجع إليها إذ مِنْ وَرائِهِمْ اى امامهم وقدامهم بَرْزَخٌ وحجاب مانع يمنعهم عن الرجوع إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعنى لا يمكنهم الرجوع الى دار الدنيا والحيوة فيها الا الحيوة في يوم البعث والجزاء ولم يمكن لهم التدارك والتلافي فيها
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لحشر الأموات ونشرها من قبورهم فيخرجون منها حيارى سكارى تائهين هائمين فَلا أَنْسابَ ولا تعارف بَيْنَهُمْ يومئذ بل يفر كل امرء من أخيه وصاحبته وبنيه إذ لكل منهم يَوْمَئِذٍ شأن يغنيه ويشغله وَلا يَتَساءَلُونَ اى لا يسئل بعضهم احوال بعض بل كل نفس منهم رهينة بما كسبت قرينة بما اقترفت بلا التفات منها الى غيرها
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ورجحت خيراته وحسناته على شروره ومعاصيه فَأُولئِكَ السعداء المقبولون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون المقصورون على الفلاح لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ورجحت سيئاته على حسناته فَأُولئِكَ الأشقياء المردودون هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ خسرانا مبينا الى حيث هم لانهماكهم في الشرور والسيئات فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان خالِدُونَ مخلدون دائمون ثابتون لا نجاة لهم منها أصلا ومن شدة اشتعال النار وتلهبها
تَلْفَحُ وتحرق وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها اى في النار كالِحُونَ عابسون حيث تقلص شفاههم عن أسنانهم بحيث تصل شفتهم العليا الى وسط رأسهم والسفلى الى سرتهم ومتى تضرعوا وتفزعوا وبثوا الشكوى الى الله قيل لهم من قبل الحق
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي الدالة على عظمة ذاتى وكمال قدرتي على الانعام والانتقام تُتْلى عَلَيْكُمْ حين ابتليناكم في النشأة الاولى فَكُنْتُمْ من غاية غفلتكم وضلالكم بِها تُكَذِّبُونَ وتنكرون استكبارا فالآن قد لحق بكم وعرض عليكم ما انكرتم له وأعرضتم عنه وبعد ما سمعوا من التوبيخ والتقريع ما سمعوا
قالُوا متضرعين معترفين بما صدر عنهم من البغي والعناد رَبَّنا يا من ربانا على فطرة السعادة والهداية فافسدناها بالإنكار والتكذيب إذ قد غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا واستولت بنا امارتنا وتسلطت اهويتنا وشهواتنا علينا وَبالجملة قد كُنَّا بمتابعة تلك البغاة الغواة قَوْماً ضالِّينَ منحرفين منصرفين عن طريق الحق ناكبين عن الصراط المستقيم
رَبَّنا أَخْرِجْنا بفضلك وجودك مِنْها اى من النار فَإِنْ عُدْنا بعد ما خرجنا منها الى ما قد كنا عليها قبل من الغفلة والغرور فَإِنَّا حينئذ ظالِمُونَ لأنفسنا بالعرض على انواع العذاب والنكال
قالَ سبحانه في جوابهم زجرا لهم وتبكيتا اخْسَؤُا واسكتوا وتمكنوا فِيها اى في النار صاغرين وَلا تُكَلِّمُونِ معى ولا تناجوا الى لدفع عذابكم وتخفيفه وإخراجكم من النار إذ أنتم فيها خالدون اما تستحيون ايها المسرفون المفسدون منى اما تذكرون ما أنتم عليه
إِنَّهُ اى ان شأنكم وأمركم في دنياكم هذا وقد كانَ فَرِيقٌ مِنْ خلص عِبادِي يَقُولُونَ متضرعين متحننين نحونا راجين العفو والرحمة منا بقولهم رَبَّنا كما ربيتنا بأنواع الكرم قد آمَنَّا بك وصدقنا رسلك وكتبك فَاغْفِرْ لَنا ذنوبنا واستر علينا(1/577)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
عيوبنا وَارْحَمْنا تفضلا وامتنانا علينا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ إذ رحمتك بنا لا تعلل بغرض منك وعوض منا ومتى سمعتم مناجاتهم هذه ودعاءهم هكذا
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا مستهزئين بأقوالهم وأعمالهم مبالغين في الهزء والسخرية متوغلين في الغفلة والغرور حَتَّى أَنْسَوْكُمْ جهلكم وغفلتكم ذِكْرِي والتوجه نحوي والرجوع الى بل قد صرتم يومئذ غافلين ذاهلين عن كمال الإنسان مطلقا منحطين عن مرتبة الخلافة مستوجبين لانواع الهزل والضحك بفعلكم ونسيانكم هذا وَمع ذلك قد كُنْتُمْ أنتم مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ مع انهم ساعون نحونا سالكون في طريق توحيدنا طالبون الوصول الى ما هم جبلوا لأجله وأنتم عابثون مبطلون باطلون جاهلون لذلك
إِنِّي من كمال عطفي ولطفي معهم قد جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ احسن الجزاء بِما صَبَرُوا على اذياتكم ايها الجاهلون في النشأة الاولى وهم بسبب صبرهم وتمكنهم في دينهم ورسوخهم في ايمانهم في النشأة الاولى أَنَّهُمْ اليوم هُمُ الْفائِزُونَ المقصورون على الفوز والفلاح الى ما هو النجاة والنجاح بلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وبعد ما صار المفسدون المسرفون مخلدين في النار صاغرين مهانين فيها
قالَ لهم قائل من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع إظهارا لقبح استبدالهم واختيارهم الأدنى بدل الأعلى كَمْ لَبِثْتُمْ ايها الضالون المسرفون فِي الْأَرْضِ التي تستكبرون عليها خيلاء مغرورين عَدَدَ سِنِينَ اى كم مدة وسنة تستقرون عليها مترفهين
قالُوا مستقصرين مستقلين قد لَبِثْنا عليها يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ يعنى بل بعض يوم بالنسبة الى هذه الأيام الطوال التي قد كنا وصرنا فيها معذبين بل قد نسينا نحن مدة ما كنا عليها لغاية قصرها وقلتها ولا نقدر على تعيينها فَسْئَلِ الْعادِّينَ المعاصرين بنا عن اهل القبول والسرور والموكلين علينا من الملائكة المستحضرين لأعمارنا وأعمالنا وعموم ما قد كنا عليها من الأحوال والأفعال
قالَ القائل المذكور في جوابهم تصديقا لهم في مقالهم واستقلالهم واستقصارهم إِنْ لَبِثْتُمْ وما مكثتم فيها إِلَّا قَلِيلًا قصيرا في غاية القلة والقصر وبالجملة لَوْ أَنَّكُمْ ايها الضالون المسرفون قد كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ في انفسكم طول مدة العذاب وعدم تناهيها لما اخترتم لأنفسكم ما يستجلب عليكم العذاب المؤبد وما يوقعكم فيه ومع جهلكم بهذا لم تقبلوه من الأنبياء العارفين الهادين ايضا بل قد انكرتم عليهم واستهزأتم بهم مستكبرين
أَزعمتم ايها الجاهلون المعاندون ان أفعالنا خالية عن الحكمة والمصلحة ومقدوراتنا قد صدرت عنا حشوا لغوا بلا طائل فَحَسِبْتُمْ وظننتم بل قد جزمتم وأيقنتم حسب تركب جهلكم المركوز في جبلتكم أَنَّما خَلَقْناكُمْ واظهرناكم من كتم العدم عَبَثاً اى قد كنا عابثين فيها وفي خلقها ساعين في إحداثها بلا طائل مرتكبين لها بلا حكم ومصالح وَايضا قد ظننتم ايها الغافلون الجاهلون أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ للجزاء وتنقيد الأعمال وعرض الأحوال أصلا وكيف لا ترجعون الى ربكم ايها المجرمون المسرفون وكيف عن أعمالكم وأفعالكم لا تسئلون ايها المسرفون المفرطون ولا تحاسبون ايها الضالون المضلون
فَتَعالَى اللَّهُ المحيط بالكل حضورا وشهودا قد تنزه ان يتصف ذاته بالغفلة والذهول وأوصافه بعدم الحيطة والشمول وأفعاله بالعبث والفضول إذ هو الْمَلِكُ المستجمع المستحضر بجميع مملكته والمالك المراقب المحافظ على عموم مملوكاته ومماليكه شأنه انه لا يعزب عنه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء وكيف يعزب ويغيب عنه شيء من الأشياء إذ هو الْحَقُّ المقرر الثابت المحقق الحي الدائم القيوم المطلق المثبت المتحقق(1/578)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
الذي لا يشغله شأن عن شأن بل هو في شأن لا يعرضه شأن ولا يعتريه زمان ومكان بل مطلق الشئون مستهلكة في علو شأنه لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ وهو رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ المحيط لعروش ذرائر الكائنات الا وهو الوجود العيني الظلي الفائض من حضرة القدس الحقي والوجود المطلق الحقيقي على هياكل العكوس والأشباح واشكال الاظلال والأمثال
وَبعد ما تحقق ان الكل في حيطة أوصافه وأسمائه ومن عكوس اظلاله وتحت لوائه مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ المحيط للكل احاطة حضور وشهود إِلهاً آخَرَ من الاظلال المحاطة والعكوس الساقطة مع انه لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ يثبت به وجود اله آخر سواه سبحانه سيما بعد احاطته وشموله الكل وبالجملة فَإِنَّما حِسابُهُ اى حساب المدعى وجزاء ما ادعى من الشرك عِنْدَ رَبِّهِ وفي حيطة حضرة علمه يجازيه بمقتضى علمه وخبرته إِنَّهُ اى ان الشأن والأمر عنده سبحانه هذا لا يُفْلِحُ ولا يفوز الْكافِرُونَ بكفرهم وشركهم الى ما هو موجب للفلاح ومستلزم للنجاح وبعد ما اثبت سبحانه الفلاح للمؤمنين الموحدين في أول السورة ونفاه عن الكافرين المشركين في آخرها
قال وَقُلْ يا أكمل الرسل تعليما لكل من يقتدى بك ويقتفى اثرك وتنبيها عليهم وتذكيرا لهم رَبِّ يا من رباني بكنفك وجوارك اغْفِرْ واستر عن عين بصيرتي ذنب انانيتى وَارْحَمْ على بنفي هويتى وافنائها في هويتك يا رب وَأَنْتَ بذاتك وبمقتضى أسمائك وصفاتك خَيْرُ الرَّاحِمِينَ الذين هم ايضا من اظلال أسمائك وعكوس اوصافك وبالجملة الكل بك ومنك وفيك وإليك لا راحم سواك ولا مربى غيرك
خاتمة سورة المؤمنين
عليك ايها المحمدي المتحقق بمقام العبودية والإخلاص ان تلازم على هذه الكلمة التي قد أسمعك الحق على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم وتداوم عليها سيما في خلواتك وأعقاب صلواتك عازما عليها عزم صدق وجزم سامعا لها سمع قبول ورضى حتى تترسخ في قلبك وتتمرن في سرك وصدرك الى حيث قد نطقت حالك بها بلا ترجمان لسانك ومتى تحققت وتمكنت في هذه المرتبة العلية ارتقيت الى مرتبة الفناء في الله والبقاء ببقائه وذلك لا يتم الا باضمحلال رسوم هويتك وتلاشى لوازم بشريتك وماهيتك بحيث قد سقطت عنك تعيناتك رأسا وفنيت تشخصاتك الناسوتية جملة فحينئذ قد فزت بما فزت ووصلت الى ما وصلت وليس وراء الله مرمى ومنتهى تم الجزء الاول ويليه الجزء الثاني اوله سورة النور جميع الحقوق محفوظة للناشر رقم الإيداع بدار الكتب: 3882 لسنة 1999(1/579)
الجزء الثاني
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة النور]
فاتحة سورة النور
لا يخفى على من تنور قلبه بنور الكشف والشهود واكتحل عينه بمشاهدة آثار وجود الحق عن مظاهر الوجود ان انبساط نور الحق على ذرائر الأكوان وفيضان اظلال وجوده على صفائح الأعيان حسب جوده انما هو لإظهار الكمالات المندرجة في الذات الاحدية باعتبار الأوصاف والأسماء الذاتية المندمجة فيها حسب التجليات الحبية والتجددات الشوقية المنعثة من المحبة الذاتية الموجبة للجلاء والانجلاء وذلك لا يحصل الا بالتنزلات والهبوطات الى الشئون المتنوعة والتطورات المتلونة المترتبة على الأسماء والصفات المستلزمة للاضافات والكثرات لتعين مراتب الحب والمحبوب والمحبة والطالب والمطلوب والطلب والسير والسلوك والصعود والعروج والوصول والاتصال وبعد حصول التنزلات قد حدثت الإضافات والاختلافات وتفاوتت تشتت الأعمال والأحوال وظهرت الآراء والمذاهب وبرزت الأهواء والمشارب فاقتضت الحكمة الإلهية وضع الحدود والآداب بين المظاهر المختلفة والآراء المتفاوتة ليعتدل امر الأنام ولا يختل النظام واستقام السل وتميزت طرق السعادة والشقاوة والهداية والضلال لذلك أشار سبحانه الى وضع الحدود أولا بين الأنام ومن أهمها محافظة امر التناسل والتناكح من الزنا والسفاح المفضى الى سد باب المعرفة التي هي الحكمة العلية والمصلحة السنية من إيجاد نوع الإنسان وإظهاره إذ لهذا النوع مرتبة الخلافة والنيابة من الله الرحيم الرحمن فالخلطة في حصول هذا النوع مخل بصرافة الوحدة الذاتية إذ لا بد من المناسبة بين المستخلف والمستخلف عنه فقال سبحانه متيمنا متبركا باسمه الجامع بجميع الأسماء والأوصاف بِسْمِ اللَّهِ الذي اظهر نوع(2/2)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
الإنسان بخلافته وأنعم عليهم التخلق بأخلاقه والاتصاف بأوصافه الرَّحْمنِ عليهم حيث أظهرهم بأحسن التقويم واعدله الرَّحِيمِ لهم بإصلاح مفاسدهم وتحسين مقابحهم لئلا ينحطوا عن رتبة خلافته ونيابته هذه
[الآيات]
سُورَةٌ عظيمة وسفر جليل وآيات كريمة قد أَنْزَلْناها من مقام فضلنا وجودنا عليك يا أكمل الرسل تأييدا لنبوتك ورسالتك وترويجا لدينك وملتك وَفَرَضْناها اى قد أوجبنا الاحكام التي ذكرنا فيها وقدرنا الحدود المقررة في ضمنها والزمناها عليك وعلى من تبعك من المؤمنين تهذيبا لظواهرهم وبواطنهم وَبالجملة أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ عظاما دالة على وحدة ذاتنا وكمال اقتدارنا على وجوه الانعام والانتقام مع كونها بَيِّناتٍ واضحة الدلالات لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وتتعظون بها فتتركون ما يوجب مقتكم وهلاككم وتتوجهون الى ما جبلتم لأجله
ثم أخذ سبحانه بتطهير المؤمنين وتهذيبهم عما لا يليق بشأنهم سيما في افحش الفواحش وأقبح الآثام فقال
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي اى حكمهما وحدهما فيما فرضناها وقدرناها لكم حتما ايها المؤمنون الجلد قدم سبحانه الزانية لان وقوع الزنا في الأعم الأغلب انما يحصل من جانبهن ومن عرضهن النفس والزنية على الرجال وبعد ما سمعتم ايها الحكام الحد والحكم فيهما فَاجْلِدُوا بعد ثبوت الزنا بينهما على الوجه المفصل في علم الاحكام وهما غير محصنين إذ حكم المحصنين مطلقا بالإجماع رجم كل منهما ان كانا محصنين او رجم أحدهما ان كان الآخر غير محصن والمحصن هو المسلم الحر العاقل البالغ الذي قد وقع منه الوقاع بنكاح صحيح كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ اى مائة ضربة بسوط مؤلم بجلدة أشد إيلام بدل ضرابات قد استلذ بها حال الوقاع وزاد الامام الشافعى رحمه الله على جلد المائة تغريب العام إذ هو احوط وادخل في الانزجار لقوله عليه السلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وَلا تَأْخُذْكُمْ ايها الحكام سيما وقت اجرائكم الحدود والاحكام بِهِما رَأْفَةٌ رقة ورحمة تضيعون بها حكمة الحد إذ لا رأفة فِي دِينِ اللَّهِ وفي تنفيذ أحكامه وحدوده على من خرج عن مقتضى العدل القويم والشرع المستقيم الإلهي إِنْ كُنْتُمْ ايها الحكام المقيمون للحدود والاحكام بين الأنام تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبعموم ما جاء من عند الله سبحانه من الأوامر والنواهي وجميع الحدود والاحكام الموضوعة من لدنه على مقتضى الحكمة المتقنة وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الذي فيه تبلى السرائر وتكشف الضمائر فلكم ان تقيموا حدود الله على الوجه الذي أمرتم بها لئلا تؤاخذوا في يوم الجزاء وَلْيَشْهَدْ وليحضر وليبصر حين اجراء الحد عليهما عَذابَهُما طائِفَةٌ وجمع كثير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المعتبرين تفضيحا لهما وتشهيرا لامرهما لينزجر مما جرى عليهما من في قلبه ميل الى ما أتيا به من الفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة
ثم أشار سبحانه الى قبح مناكحتهما وشناعة الفتهما ومواصلتهما على وجه المبالغة في النهى والكراهة فقال الزَّانِي اى الذي يرغب ويميل الى عورات المسلمين بلا رخصة شرعية متعديا عن حدود الله وهتكا لستره وحرمته لا يَنْكِحُ ان نكح إِلَّا زانِيَةً مثله مناسبة له مشاكلة إياه إذ الجنسية علة الالفة والتضامّ أَوْ مُشْرِكَةً هي اخس وأخبث وأشد قبحا وشناعة منها وَالزَّانِيَةُ الراغبة للأجانب المائلة إليهم بلا طريق شرعي لا يَنْكِحُها ايضا إِلَّا زانٍ كذلك لكمال الملايمة والمشابهة أَوْ مُشْرِكٌ هو أخبث وأقبح منه وَبالجملة قد حُرِّمَ ذلِكَ الفعل القبيح والخصلة الذميمة الشنيعة حرمة مؤبدة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الموقنين المخلصين من ارباب العزائم ونهى عن اهل الرخص منهم نهيا متناهيا الى حد النفي والحرمة
ثم قال سبحانه(2/3)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ بالزنا الْمُحْصَناتِ الحرائر العاقلات البالغات العفائف من المسلمات سواء كان الرامي أزواجهن او غيرهم وحكم المحصنين ايضا كذلك وانما خصهن بالذكر لكثرة ورود الرمي في حقهن وكون رميهن سببا لنزول الآية الكريمة ثُمَّ بعد ما رموا لَمْ يَأْتُوا لإثباته بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ذوى عدل وامانة ومروة بحيث لم يكونوا متجسسين عن احوال الزانيين البغيين ولا مستورين منتظرين لاطلاع ما يأتيان به من الفعلة الشنيعة بل قد وقع نظرهم عليهما بغتة فرأوا قبح صنيعهما العياذ بالله كالميل في المكحلة فان أتوا باربعة شهداء على الوجه المذكور فقد اثبتوا الزنا وان لم يأتوا فَاجْلِدُوهُمْ ايها الحكام الرامين القاذفين ثَمانِينَ جَلْدَةً لا كجلدة الزنا بل أخف منها كما هي اقل عددا وَبعد ما جلدتم ايها الحكام المقيمون لحدود الله لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً في حال من الأحوال ودعوى من الدعاوى الى انقراض حياتهم وَبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المفترون المردودون هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن مقتضى العقل والشرع المسقطون للمروءة والعدالة التاركون طريق الإنصاف والانتصاف لا يرجى نجاتهم من عذاب الله أصلا
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم ورجعوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الرمي والافتراء وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا على أنفسهم بالتوبة والندامة عن ظهر القلب فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائرهم غَفُورٌ يعفو عنهم جريمتهم ويستر زلتهم رَحِيمٌ يرحمهم ويقبل توبتهم ان أخلصوا فيها
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ بالزنا وَان لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ حضراء عندهم إِلَّا أَنْفُسُهُمْ اى غير أنفسهم فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ فالواجب عليهم لإسقاط حد القذف عنهم في هذه الصورة ان يشهد أحدهم أَرْبَعُ شَهاداتٍ مؤديا في اربع كرات مؤكدات بالقسم بِاللَّهِ إِنَّهُ اى الزوج المدعى لَمِنَ الصَّادِقِينَ في هذه الدعوى لا من الكاذبين المفترين
وَالْخامِسَةُ يعنى بعد ما ادى اربع شهادات مؤكدات بالقسم على عدد شهود الزنا اتى ايضا بالشهادة الخامسة المؤكدة للاربعة وايدها بالقسم ايضا على وجه التغليظ بان قال هكذا أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ اى طرده وتبعيده عن ساحة عز قبوله وسعة رحمته عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ في هذه الدعوى
وَبعد أداء الشهادات الأربع على وجهها وتأكيدها بالخامسة المؤكدة باللعنة فقط سقط عنه حد القذف وثبت حد الزنا على المرأة ووقع التفريق المؤبد بينهما بالفسخ او بالطلاق على اختلاف الرأيين ونفى الولد ايضا ان تعرض له فيها لكن يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ اى يسقط عن المرأة حد الزنا بعد أَنْ تَشْهَدَ المرأة ايضا أَرْبَعَ شَهاداتٍ مؤكدات بالقسم بِاللَّهِ في كل مرة وشهادة إِنَّهُ اى الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ المفترين فيما رمانى به وانا بريئة عنه
وَالْخامِسَةَ يعنى بعد أداء الاربعة المؤكدات بالقسم أتت ايضا بالشهادة الخامسة المؤكدة للاربعة وأيدتها بالقسم ايضا على وجه التغليظ والمبالغة بان قالت هكذا أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ وقهره وتبعيده عن رحمته عَلَيْها إِنْ كانَ زوجها مِنَ الصَّادِقِينَ في هذا الرمي الشنيع وبعد ما أدتها ايضا على وجهها فقد سقط الحد عنها ايضا ووقع التفريق المؤبد بينهما لقوله عليه السلام. المتلاعنان لا يجتمعان ابدا. ثم قال سبحانه
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ المطلع على سرائر عباده عَلَيْكُمْ ايها المجترؤون بالحلف الكاذب وبأداء الشهادات الكاذبة الباطلة وكذا تحمل لعنة الله وغضبه في تغليظ الحلف الجاري في ثبوت الوقائع والخطوب وَرَحْمَتُهُ اى مرحمته وشفقته بالسر والإخفاء عليكم لفضحكم واظهر شنيعتكم البتة ولكن قد أمهلكم وستر عليكم رجاء ان تتوبوا عن هتك محارم الله والخروج عن(2/4)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
مقتضى حدوده وَاعلموا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم تَوَّابٌ لكم يوفقكم على التوبة حَكِيمٌ في عموم أفعاله لا يعاجلكم بالعقوبات كي تتنبهوا عن قبح صنيعكم وترجعوا عن سوء فعالكم لتفوزوا الى ما جبلتم لأجله.
ثم أشار سبحانه الى طهارة ذيل عائشة رضى الله تعالى عنها عما رماها وافتراها اهل الزيغ والضلال جهلا بجلالة قدرها وعلو شأنها وكمال عصمتها وعفتها فقال إِنَّ المسرفين المفسدين الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ اى بالكذب المنصرف عن الحق بمراحل عُصْبَةٌ اى فرقة وعصابة معدودة مِنْكُمْ ظاهرا يريد عبد الله بن ابى وزيد بن رفاعة واحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم فعليكم ايها المؤمنون المقذوفون انه لا تَحْسَبُوهُ ولا تظنوه اى الإفك الذي قد جاءوا به شَرًّا لَكُمْ ولحوق عار عليكم منه بَلْ هُوَ اى إفكهم هذا خَيْرٌ لَكُمْ وثواب عظيم واجر جزيل جميل وظهور كرامة ونزول آيات عظام كرام في برائتكم وطهارتكم وتهويل شأنكم وقد حق وثبت عند الله المنتقم الغيور لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ اى من القاذفين المفترين جزاء مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالإفك الَّذِي قد جاءوا به أولئك المفسدون المفرطون ظلما وزورا ولا سيما المفسد المنافق الذي قد تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ اى معظم الآفكين ورئيسهم وهو ابن ابى الذي تحمل كبره وعظمه وهو القيام الى اذاعته وإشاعته إذ هو بنفسه قد أخذ في افشائه وإشاعته أولا عداوة مع رسول الله ومع اهل بيته لذلك لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة إذ هو مهان مطرود بين المؤمنين مشهور بالنفاق والشقاوة وله في الآخرة أشد العذاب
ثم وبخ سبحانه على الآفكين وقرعهم حيث قال لَوْلا وهلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ اى الإفك ايها الآفكون المسرفون لم تظنوا بالمقذوفين خيرا كما ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَلم لم تقولوا مثل ما قالُوا اى المؤمنون المنزهون المطهرون أمثال هذا عن إخوانهم سيما عن اهل بيت العصمة والعفاف هذا إِفْكٌ مُبِينٌ وكذب عظيم وفرية بلا مرية إذ ساحة عصمتها وطهارة ذيلها ونجابة طينتها أجل وأعلى من ان يفترى عليها سيما بأمثال هذه المفتريات الباطلة عصمنا الله عما لا يرضى عنه
لَوْلا جاؤُ اى الآفكون المسرفون وأقاموا عَلَيْهِ اى على إفكهم هذا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدولا ثقات يصدقون فيما قالوا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الأربع العدول فَأُولئِكَ الآفكون المفترون عِنْدَ اللَّهِ المطلع على ضمائرهم ومخايلهم فيها هُمُ الْكاذِبُونَ المقصورون على الكذب يجازيهم سبحانه بمقتضى ما اقترفوا من الكذب والبهتان سيما مع اهل بيت العصمة والكرامة
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ايها الباهتون المفترون بتوفيقكم على الانابة والرجوع من هذه الفرية العظيمة وَرَحْمَتُهُ الشاملة لكم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ وأحاط بكم فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ وخضتم في إشاعته واذاعته عَذابٌ عَظِيمٌ عاجلا وآجلا
وكيف لا إِذْ تَلَقَّوْنَهُ أنتم مع نهاية كراهته وسماجته بِأَلْسِنَتِكُمْ سائلا بعضكم بعضا متلقيا على قبوله وسماعه وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ لا ظن ولا يقين بل جهل وتخمين وَمع عظم هذا الجرم عند الله تَحْسَبُونَهُ أنتم ايها الحمقى المفرطون المسرفون هَيِّناً سهلا يسيرا لا يترتب عليه شيء من العذاب والعقاب وَالحال انه هُوَ اى رمى تلك البريئة العفيفة عِنْدَ اللَّهِ المطلع لعفتها وكمال عصمتها عَظِيمٌ فظيع في غاية العظمة والفظاعة مستجلب لانواع العذاب وأشد النكال إذ الافتراء بآحاد الناس يوجب أشد العذاب وأسوأ العقاب فكيف بأفضلهم وأشرفهم
وَلَوْلا وهلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أولا ايها(2/5)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
الآفكون المفترون قُلْتُمْ ما يَكُونُ اى ما يصح وما يجوز لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا الفحش الباطل والكذب الصريح العاطل سُبْحانَكَ نقدسك وننزهك من ان تمكن أنت أحدا يفعل ويقول سبا وقولا سهلا سمجا خصوصا في حق حليلة حبيبك سيما أمثال هذا الافتراء إذ ما هذا الا بُهْتانٌ عَظِيمٌ تبهت وتتحير منه العقول وتضطرب الأسماع وتتقلقل القلوب
وبالجملة انما يَعِظُكُمُ اللَّهُ المصلح لمفاسدكم ويبالغ في وعظكم وتذكيركم كراهة أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً مادمتم احياء إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله مصدقين لنبيه إذ أمثال هذه الخرافات بالنسبة الى بيت النبوة من امارات الكفر والتكذيب وعلامات سوء الأدب مع الله ورسوله
وَبعد صدور أمثال هذه الخرافات من اصحاب الإسراف والإفساد يُبَيِّنُ اللَّهُ المدبر لمصالحكم لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الصفح والاعراض عن أمثال هذه الافتراءات الهاتكة لأستار محارم الله سيما مع أكرم عترة حبيبه صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ المصلح لمفاسد أحوالكم عَلِيمٌ بما في ضمائركم وخواطركم حَكِيمٌ في ازالة ما يؤذيكم ويغويكم.
ثم قال سبحانه تذكيرا لعموم عباده إِنَّ المفسدين المسرفين الَّذِينَ يُحِبُّونَ من خبث بواطنهم أَنْ تَشِيعَ تظهر وتنتشر الْفاحِشَةُ والخصلة المذمومة عقلا وشرعا فِي الَّذِينَ آمَنُوا اى بين عموم المؤمنين لَهُمْ جزاء لإشاعتهم واذاعتهم عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مقرع فِي الدُّنْيا بالجلد والجلاء وَفي الْآخِرَةِ بالنار المحرقة الملتهبة وَاللَّهُ المطلع على عموم ما جرى في الغيب والشهادة يَعْلَمُ قبح ما في الاشاعة والشيوع من القباحة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ قبحها لذلك تحبون الاشاعة والإذاعة بها
وَبالجملة لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بفتح باب التوبة والرجوع عن المعصية بالندامة الخالصة لفضحكم البتة وعذبكم بقبح صنعكم وشنعة خصلتكم هذه وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المراقب لعموم ما صدر عنكم رَؤُفٌ لكم يحفظكم عما يضركم رَحِيمٌ لكم يرحمكم بعد ما وفقكم على التوبة والندامة
ثم لما كان صدور أمثال هذه المعاصي والآثام انما هي بمتابعة الشيطان المضل المغوى نادى سبحانه عموم عباده المؤمنين ونهاهم عن متابعته والاقتداء به والاقتفاء باثره فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الصانع وصفاته وصدقوا بالنبوة والرسالة والتشريع العام المفيد لاعتدال الأخلاق والأطوار بين عموم العباد مقتضى ايمانكم مخالفة النفس والهوى اللتين هما من جنود الشيطان المضل المغوى عن طريق الحق عليكم ان لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ولا تقتفوا اثره في اشاعة الفاحشة وهتك الحرمة واستحباب المعصية وَمَنْ يَتَّبِعْ منكم ايها المؤمنون خُطُواتِ الشَّيْطانِ المضل المغوى فقد ضل وغوى وكيف لا فَإِنَّهُ اى الشيطان يَأْمُرُ عموم من يتابعه ويقتدى به بِالْفَحْشاءِ والمستقبح عقلا وشرعا وَالْمُنْكَرِ المردود مروءة ونقلا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ المتكفل لإصلاح أحوالكم عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ الواسعة الشاملة لعموم عباده ما زَكى وما طهر وخلص مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ من متابعة الشيطان أَبَداً ما دمتم احياء إذ متابعته مطبوع لكم مستحسن عندكم مقبول لأنفسكم وَلكِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده يُزَكِّي اى يخلص ويطهر من غوائل الشيطان ووساوسه مَنْ يَشاءُ من عباده رعاية لحكمته وضبطا لمصلحته التي قد جبل عباده عليها وَاللَّهُ المطلع على عموم ما ظهر وما بطن سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بقصدهم ونياتهم فيها وبعد ما جاء من القاذفين الآفكين ما جاء(2/6)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
انصرف عنهم المؤمنون واعرضوا عن انفاقهم ورعايتهم وحلفوا ان لا ينفقوا عليهم أصلا مع ان بعضهم في غاية الفاقة رد الله على المؤمنين
هذا وحثهم على الانفاق عليهم وأمرهم بالإحسان بدل الإساءة حيث قال وَلا يَأْتَلِ اى لا يحلف ولا يقصر أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ في الدين وَأولو السَّعَةِ في الرزق والمال أَنْ يُؤْتُوا اى من ان لا يؤتوا او على ان لا يؤتوا أُولِي الْقُرْبى الذين ينتمون إليكم ايها المؤمنون بالقرابة النسبية وَكذا الْمَساكِينَ الفاقدين لقوت يومهم وَلا سيما فقراء الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الباذلين مهجهم في ترويج دينه بسبب انهم قد خاضوا في معصية الإفك والافتراء وجاءوا ببهتان عظيم وأحبوا ان يشيعوه ويتقولوا به ظلما وزورا وَبعد نزول آيات البراءة والتنزيه في شأن العفيفة رضى الله عنها لْيَعْفُوا اى جملة المؤمنين عن ذنوب القاذفين بعد ما تابوا وندموا وقبل الله منهم توبتهم وَلْيَصْفَحُوا وليعرضوا عن جريمتهم ويصافحوا معهم وليعطوا إليهم ما اعطوهم من قبل أَلا تُحِبُّونَ ايها المقذوفون المطهرون المنزهون أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ زلتكم وذنوبكم بسبب عفوكم عن القاذفين وصفحكم عما جاءوا به افتراء ومراء وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ لهم يغفر ذنوبهم بسبب عفوهم جرائم إخوانهم رَحِيمٌ يرحم عليهم تفضلا وامتنانا. روى انه عليه السلام قرأها على ابى بكر رضى الله عنه فقال بلى أحب وأعاد الى مسطح وهو احد القاذفين الآفكين وهو ابن خالة ابى بكر رضى الله عنه فقير ليس له شيء نفقته التي قد أنفق عليه دائما.
ثم قال سبحانه تذكيرا لعموم عباده ونهيا لهم عن الرمي بالزنا مطلقا إِنَّ المسرفين المفرطين الَّذِينَ يَرْمُونَ بالزنا الْمُحْصَناتِ المتعففات المستحفظات لحدود الله الْغافِلاتِ المبرءات المنزهات عما رموا به أولئك الغفلة الجهلة ظلما وزورا الْمُؤْمِناتِ الموقنات بالله وبما جاء من عنده من الحدود والاحكام الجارية على السنة رسله ولا سيما بيوم الجزاء المعد للكشف والتفضيح لُعِنُوا وطردوا عن روح الله وسعة رحمته لقصدهم بعرض العفائف وهتك حرماتهن وطعنهم فيهن افتراء ومراء فِي الدُّنْيا بإجراء الحد وانواع الشتم والطرد ورد شهادتهم مدة حياتهم وَالْآخِرَةِ بأنواع العذاب والنكال وَبالجملة هم بسبب قبح صنيعهم وسوء أفعالهم لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا عذاب أعظم منه لعظم جرمهم وعصيانهم اذكر لهم يا أكمل الرسل توبيخا لهم وعظة وتذكيرا لمن اعترض لهم من المؤمنين يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بالهام الله واعلامه أَلْسِنَتُهُمْ اى القاذفين الباهتين وتقر بعموم ما صدر عنهم من الكذب ورمى المحصنات وقذف العفائف عمدا بلا علم لهم ولا شعور بحالهن وَأَيْدِيهِمْ بما اقترفوا من الأخذ والإعطاء لا على الوجه المشروع وَأَرْجُلُهُمْ بالسعي والتردد الى ما لا يرضى منه سبحانه ولا رسوله ولا المؤمنون وبالجملة يقر كل من أعضائهم وجوارحهم بِما كانُوا يكسبون ويَعْمَلُونَ به من المعاصي والآثام وبالجملة يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ المجازى لاعمالهم دِينَهُمُ وجزاءهم الْحَقَّ اى يوفى عليهم ما يستحقون من الجزاء بلا زيادة ولا نقصان عدلا منه سبحانه وَحينئذ يَعْلَمُونَ يقينا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام هُوَ الْحَقُّ المقصور على التحقق والثبوت بالقسط والعدل الْمُبِينُ الظاهر ألوهيته وربوبيته على الوجه الاقسط الأقوم بلا ميل منه وانحراف عن جادة الاستقامة والعدل الحقيقي
ومن جملة عدالته رعاية المناسبات بين المظاهر والمربوبات كما بينهما سبحانه بقوله الْخَبِيثاتُ من النساء المطعونات بأنواع الرذائل المنحرفات عن جادة السلامة(2/7)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
والطهارة لِلْخَبِيثِينَ كذلك من الرجال يعنى لا يتزوجهن غير الخبيثين لحكم الكفاءة والمناسبة وَكذا الْخَبِيثُونَ من الرجال لِلْخَبِيثاتِ من النساء كل لنظيرتها بحكم المصلحة الإلهية وَكذا الطَّيِّباتُ الطاهرات العفائف لِلطَّيِّبِينَ ايضا كذلك وَكذا الطَّيِّبُونَ المستقيمون على جادة العدالة لِلطَّيِّباتِ ايضا كذلك إذ كل يميل بالطبع الى شاكلته بالميل المعنوي الموضوع بالوضع الإلهي المسمى بلسان الشرع بالكفاءة ومتى ثبت هذا الحكم من الله وتبين هذه المناسبة بتبيين الله أُولئِكَ العفائف المطهرون الطيبون مُبَرَّؤُنَ منزهون مِمَّا يَقُولُونَ أولئك الرماة المفترون والطغاة الخبيثون المنحرفون عن طريق الحق الناكبون عن الصراط المستقيم ولكمال براءتهم ونزاهتهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وعفو من الله المطلع لبراءتهم الشاهد عليها وَرِزْقٌ كَرِيمٌ الا وهو الرزق الصوري والمعنوي الذي يتلذذون به في الجنة عند كشف الغطاء ورفع الحجب عن وجه الله الكريم اللهم ارزقنا بلطفك من رزقك الكريم واجعلنا بجودك من ورثة جنة النعيم
ثم لما كان أمثال هذه الهذيانات الباطلة والمفتريات العاطلة من نتائج الخلطة والاستيناس مع اصحاب الغفلة وكشف الحجب والأستار الواقعة بين ذوى القدر والاعتبار واولى الخطر الكبار الى من هو من السفلة السافلين المنحطين عن درجة ارباب الاستبصار أشار سبحانه الى ان الاختلاط والاستيناس بين المؤمنين لا بد وان يكون مسبوقا بالاستيذان والاسترخاص حتى لا يؤدى الى أمثال هذه الخرافات فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم محافظة آداب المحبة والإخلاص بينكم ومن جملتها انها لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ اى بيتا من بيوت إخوانكم بغتة بلا استيذان من أهلها ان تصبروا حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتستأذنوا وتطلبوا رخصة الدخول وَبعد ما اذنتم ورخصتم لكم ان تُسَلِّمُوا أولا عَلى أَهْلِها بان تقولوا السلام عليكم أأدخل أم لا ثلاث مرات هكذا قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم فان اذنتم بالدخول فادخلوا والا فارجعوا ذلِكُمْ الاستيذان والاستيناس خَيْرٌ لَكُمْ من المبادرة الى الدخول بغتة وانما انزل عليكم هذه الآية الكريمة المتعلقة بالأخلاق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وتتعظون بها وتحفظون حدود المصاحبة والمواخاة بينكم وتحافظون عليها ولا تجاوزون عن مقتضى المروءة والعدالة
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها اى في البيوت أَحَداً تستأذنون منه فَلا تَدْخُلُوها ابدا لئلا تتهموا بأنواع التهمة بل اصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ اى لا تدخلوا حتى تجدوا من يأذن لكم وَبعد ما وجدتم إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فالوقت لا يسع بالدخول فَارْجِعُوا على الفور بلا تفحص ولا تفتيش عن أسبابه على وجه الإلحاح والاقتراح كما يفعله الجهلة من الناس هُوَ اى الرجوع بلا تفحص أَزْكى لَكُمْ واطهر لنفوسكم من الإلحاح وَاللَّهُ المدبر لمصالحكم بِما تَعْمَلُونَ وتأملون في نفوسكم عَلِيمٌ يجازيكم بمقتضى علمه وخبرته
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اى ضيق ومنع أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ سيما قد كان فِيها مَتاعٌ لَكُمْ تستأجرونها وتستعيرونها للادخار والاستخزان وَبالجملة اللَّهُ المطلع على ضمائر عباده يَعْلَمُ منكم ما تُبْدُونَ وتظهرون وَما تَكْتُمُونَ وتخفون يجازيكم على مقتضى علمه.
ثم امر سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم بتذكير عباده وتهذيب أخلاقهم سيما في حفظ المحارم والحدود فقال قُلْ يا أكمل الرسل لِلْمُؤْمِنِينَ المصدقين لحدود الله الممتثلين بأوامره يَغُضُّوا وينقصوا مِنْ أَبْصارِهِمْ دائما حتى لا يقع نظرهم بغتة الى المحارم(2/8)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
والمكاره بل لهم ان يديموا النظر الى الطريق الذي مشوا عليها حتى يسلموا من شرور اماراتهم ومن صولة جنود الشهوات عليهم وَقل لهم ايضا يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عن امارات الزنا وعلامات السفاح ومقدماته ويتقوا عن مواضع التهم ومظان الرمي والقذف مطلقا ذلِكَ الغض والحفظ أَزْكى لَهُمْ واطهر وأليق لنفوسهم وقلوبهم إِنَّ اللَّهَ المراقب على عموم حالاتهم خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ من التغامز والترامز واجالة النظر وتحريك الحدقة وسائر الأعضاء نحو ما تشتهون من المحرمات
وَقُلْ ايضا يا أكمل الرسل لِلْمُؤْمِناتِ المقيمات لحدود الله المحترزات عن محارمه يَغْضُضْنَ وينقصن مِنْ أَبْصارِهِنَّ ويقصرن نظرهن الى أزواجهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ من الميل الى المحارم ولهن ان لا يعرضن انفسهن الى غير أزواجهن وَلا يُبْدِينَ ولا يظهرن زِينَتَهُنَّ لغيرهم إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها من الثياب التي يلبسن وَمن كمال تحفظهن وتسترهن لْيَضْرِبْنَ وليسترن بِخُمُرِهِنَّ ومقانعهن عَلى جُيُوبِهِنَّ اى نحورهن وصدورهن مبالغة في التستر والتحفظ وَبالجملة لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ اى الأشياء التي يتزين بها لازدياد الحسن إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ اى لأزواجهن إذ الزينة انما هي لأجلهم ولازدياد ميلهم إليهن أَوْ آبائِهِنَّ إذ هم الأولياء لهن أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ لحفظهم محارم أبنائهم وحرمتهن عليهم مطلقا أَوْ أَبْنائِهِنَّ لأنهم أمناء على أمهاتهم أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ إذ هم يحفظون حمية آبائهم وحرمة محارمهم أَوْ إِخْوانِهِنَّ إذ هم احفظ عليهن من أنفسهم لخوف لحوق العار عليهم حمية وغيرة أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ إذ هم مثل آبائهم في المحافظة أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ لان نسبتهم إليهن كنسبتهم الى أمهاتهم أَوْ نِسائِهِنَّ اى المسلمات مطلقا إذ لا يتصور منهن الضرر سوى المساحقة والايمان يمنع عنها أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إذ الاحتراز عنهم موجب للحرج لأنهم من اهل الخدمة أَوِ التَّابِعِينَ لهن غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وذوى الحاجة والشهوة مِنَ الرِّجالِ إليهن إذ هم الهرمى الذين لا يرجى منهم الشهوة قطعا أَوِ الطِّفْلِ وهم الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ لعدم بلوغهم أوان الحلم وثوران الشهوة وَقل لهن ايضا يا أكمل الرسل لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ ولا يترقصن ولا يتبخترن على العادة الجاهلية لِيُعْلَمَ ويظهر ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَبالجملة تُوبُوا وارجعوا رجالا ونساء إِلَى اللَّهِ المبدئ المبدع لكم من كتم العدم جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بالله وبوحدة ذاته والمصدقون بكتبه ورسله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بالفلاح والنجاح من عند الله الملك التواب الفتاح.
ثم لما أشار سبحانه الى محافظة الحدود وآداب الالفة والمصاحبة بين المؤمنين ونهاهم عن امارات السفاح ومقدمات الزنا مطلقا لئلا يختل النسب ولا يختلط النطف وقدمها اهتماما بشأنها أراد ان يشير الى ضبط النكاح الصوري المنبئ عن النكاح المعنوي فقال وَأَنْكِحُوا ايها الأولياء السادة المتولون لأمور من في حفظكم وحضانتكم الْأَيامى مِنْكُمْ وهي جمع الايم والايم العزب سواء كان ذكرا او أنثى وبكرا او ثيبا وَانكحوا ايضا الصَّالِحِينَ للنكاح والتزويج مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ فعليكم ايها الولاة تزويج العباد والإماء ولا تبالوا بفقرهم وفاقتهم إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ عند العقد والنكاح يُغْنِهِمُ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوالهم مِنْ فَضْلِهِ وسعة جوده ورحمته لعباده بعد النكاح وَاللَّهُ المتكفل لأرزاق عباده واسِعٌ يوسع عليهم من رزقه عَلِيمٌ برثاثة حالهم مغن علمه بهم عن سؤالهم
وَلْيَسْتَعْفِفِ(2/9)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
وليجتهد في العفة وتسكين الشهوة الفقراء الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً اى أسبابه وصداقه وليصبروا لمشاق العزوبة حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ المصلح لأحوالهم مِنْ فَضْلِهِ وسعة جوده فيجدوا ما يتزوجون. ثم أشار سبحانه الى الموالي وتحريرهم وتخليصهم من ربقة الرقية وعروة العبودية المقتضية لانواع المذلة والهوان طلبا لمرضاة الله وعتقا من عذابه فقال وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ اى العبيد الذين يطلبون الْكِتابَ اى الكتابة المتضمنة لعتقهم وخلاصهم عن الرق بعد ما أدوا المبلغ المعهود الذي يكاتب عليهم وهم مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ايها الموالي سواء كانوا عبيدا او إماء قنا او مدبرا او مستولدة ويطلبون منكم ان تعتقوهم عن مال تكتبون لهم ليؤدوا إليكم منجما وبعد ما أدوا ما تكتبون لهم صاروا أحرارا معتقين فَكاتِبُوهُمْ ايها المالكون واعتقوهم على جعل إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً اى ان علمتم وتفرستم منهم بعد ما فككتم رقابهم يكونون صلحاء أمناء مؤمنين بحيث لا يرجى منهم الشر والفساد وَبعد ما عقدتم الكتابة معهم آتُوهُمْ ايها المسلمون مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ من فضله تفكيكا لرقابهم عن مذلة الرق وهوان العبودية. ثم أشار سبحانه الى حسن المعاشرة مع المماليك ورعاية غبطتهم ومحافظة الحدود منهم بحيث لا يكرهونهم ولا يعرضونهم ظلما وعدوانا الى ما لا يصح ولا يصلح لهم شرعا وعادة بل عقلا ومروءة سيما إذا استحصنوا واستحفظوا صيانة فقال على سبيل المبالغة في النهى وَلا تُكْرِهُوا ايها الملاك المسلمون فَتَياتِكُمْ وشواب جواريكم عَلَى الْبِغاءِ والزنا مطلقا سيما إِنْ أَرَدْنَ بأنفسهن تَحَصُّناً وتحفظا عن البغي مع قلة عقلهن ورشدهن فأنتم ايها الولاة أحق بحفظهن وحصنهن مما لا يرتضيه العقل والشرع والمروءة وبالجملة لا تنصرفوا ولا تعدلوا ايها الولاة الملاك عن مقتضى العقل والشرع لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وتطلبوا متاعها الفانية وحطامها الدنية الزائلة وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ سيما بعد نزول الزاجر فَإِنَّ اللَّهَ المنتقم لعصاة عباده سيما الظالم الخارج عن حدوده مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ يعنى من اكراه الملاك اياهن غَفُورٌ يغفر لهن رَحِيمٌ يرحم عليهن ان كن مخلصات في التحصن والتحفظ ويعاقب على المكرهين الظالمين أشد العقاب ويعذبهم أسوأ العذاب
وَكيف لا يعاقبكم ايها المسرفون المصرون على الفسوق والعصيان مع انا لَقَدْ أَنْزَلْنا من مقام فضلنا وجودنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ واضحات فيها ما هو صلاحكم ونجاتكم وَاوضحناها لكم بان او ردنا فيها مَثَلًا مِنَ احوال الظلمة الغواة الطغاة العداة الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ لتعتبروا أنتم مما جرى عليهم من سوء صنيعهم وَلتكون قصصهم وأمثالهم مَوْعِظَةً وتذكيرا لِلْمُتَّقِينَ منكم المحترزين من بطشنا وانتقامنا ومع ذلك لم تعتبروا ولم تنزجروا حتى لا تستحقوا أشد العذاب وأسوأ العقاب أمثالهم
وكيف لا تنزجرون عن قهر الله ايها الغافلون ولا تخافون عن بطشه وانتقامه ايها الضالون المفسدون المفرطون اما تستحيون منه سبحانه سيما مع حضوره وشهوده في عموم الأماكن والأحيان وظهور نوره في جميع الأنفس والآفاق غيبا وشهادة ظاهرا وباطنا ازلا وابدا أولا وآخرا صورة ومعنى وكيف تتركون حدوده وتخرجون عن مقتضى أوامره ونواهيه الموردة في كتبه المنزلة على رسله ايها الجاهلون المسرفون المفسدون المفرطون إذ هو اللَّهُ المتجلى بأسمائه الحسنى وأوصافه العظمى نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى الظاهر فيهما ومنهما ومظهرهما وكذا موجد ما ظهر بينهما وفيهما وعليهما جميعا من كتم العدم بلا سبق مادة(2/10)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
ومدة بل بامتداد اظلال أسمائه وآثار صفاته عليهما مَثَلُ نُورِهِ وظهور لمعات شمس وجهه حسب جود وجوده من هياكل الهويات وشباك العكوس والتعينات كَمِشْكاةٍ وهي الكوة يوضع القنديل المسرج وهي مثال الأشكال الظاهرة والتعينات المنعكسة من اشعة الأسماء والصفات الإلهية المتشعشعة المتجلية بالتجليات الحبية على مقتضى الذات فِيها اى في تلك الهويات المنعكسة من آثار الأسماء والصفات مِصْباحٌ وهي مثال نور الوجود الإلهي المضيء بنفسه وذاته الظاهر اللائح المتجلى عن عموم مظاهره ومصنوعاته ومن كمال شروقه وبروقه وشدة لمعانه وشعشعته يخطف الأبصار ويكل المدارك والانظار لذلك قد أصبحت الْمِصْباحُ المذكورة أولا فِي زُجاجَةٍ صافية من كدر التعينات ورين التعلقات والتلونات الا وهي مثال رحاجات الأسماء وقناديل الصفات المنبسطة اظلالها وعكوسها على صفائح الأكوان المنتشرة آثارها على صفحات الكائنات الواقعة في بقاع الإمكان وعراص الطبائع والأركان ومن كمال اللطافة والنظافة والصفاء المفرط هذه الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ في غاية الإضاءة والإنارة تتلألأ وتتشعشع دائما بصفائها الذاتي ولطافتها الجبلية إذ هي يُوقَدُ ويسرج بدهن غيبي الهى متخذ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ كثيرة الخير والبركة لمن استدهن منها واستظل تحتها الا وهي شجرة الوجود الممتد اظلالها واضواؤها وكذا أغصانها وأفنانها على صفائح عموم ما ظهر وما بطن من المظاهر والموجودات الغير المحصورة زَيْتُونَةٍ كثيرة النفع والخير إذ الوجود خير محض ونفع صرف بحيث لا شرفيه ولا ضر أصلا لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ بل معتدلة في نفسها خارجة عن مطلق الحدود والجهات غير محاطة بالأقطار والابعاد ومن كمال صفائها الذاتي ولطافتها الجبلية يَكادُ زَيْتُها حسب إضاءتها الذاتية وإشراقها اللطيف يُضِيءُ بضيائها الذاتي وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ هي عبارة عن نار المحبة الخالصة والمودة الصافية الحاصلة من العشق المفرط الإلهي الحاصل لأرباب الولاء الحقيقي من التجلي الحبى الشوقى الجمالي وبالجملة نور الوجود الإلهي نُورُ متراكم عَلى نُورٍ بحيث لا يدرك به ولا يشاهد ولا يتميز ولا يشار اليه ولا يحس به وبالجملة من كمال شعشعته وغاية بروقه وشروقه ولمعانه لا يطلع عليه احد من مظاهره ومصنوعاته بلا توفيق منه سبحانه وجذب من جانبه بل يَهْدِي اللَّهُ الهادي لعباده الى فضاء وحدته لِنُورِهِ وضياء وجوده وسعة رحمته وجوده مَنْ يَشاءُ من عباده ممن جذبه الحق نحو جنابه ووفقه الوصول الى فناء بابه وَللتنبيه الى هذا المقام والإشارة الى هذا المرام يَضْرِبُ اللَّهُ المطلع على استعدادات عباده الْأَمْثالَ المنبهة والأشباه المشيرة الموضحة لِلنَّاسِ المجبولين على فطرة التوحيد لعلهم يتفطنون منها على ما جبلوا لأجله ويتنبهون على مبدئهم ومعادهم وَبالجملة اللَّهُ المحيط بالأنفس والآفاق احاطة حضور وشهود بِكُلِّ شَيْءٍ مما جرى في مملكة الوجود عَلِيمٌ بذاته لا يغيب عن حضرة علمه شيء من مظاهره ومصنوعاته ولحصول هذا التفطن والتنبه يتوجه المخلصون المنجذبون نحو الحق
فِي بُيُوتٍ وبقاع معدة للتوجه والتذكر مع انه قد أَذِنَ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده الميسر لهم طريق الوصول الى جنابه أَنْ تُرْفَعَ اى لان ترفع بناؤها وتشيد اساسها وتعظم غاية التعظيم وَيُذْكَرَ فِيهَا اى لان يذكر في تلك البيوت والمساجد المعدة للتوجه والعبادة اسْمُهُ الذي هو عبارة عن كلمة توحيده وتنزيهه وتقديسه ولهذا يُسَبِّحُ لَهُ وينزه ذاته سبحانه عما لا يليق بشأنه توجها اليه سبحانه وطلبا لمرضاته فِيهَا اى في تلك البيوت المعدة المذكورة بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ اى في عموم(2/11)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
آناء الأيام والليالى
رِجالٌ اى ابطال كمل مخلصون منجذبون نحو الحق مشمرون أذيال هممهم لسلوك طريق الفناء منقطعون عن الدنيا الدنية وما فيها بحيث لا تُلْهِيهِمْ ولا تشغلهم ولا تخدعهم ولا تغرهم تِجارَةٌ وأرباح متعلقة بالنشأة الدنيوية والاخروية ايضا وَلا بَيْعٌ ايضا كذلك مطلقا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعن التوجه نحو جنابه والعكوف حول بابه وَلا عن إِقامِ الصَّلاةِ ودوام الميل اليه والمناجاة معه وَلا عن إِيتاءِ الزَّكاةِ وانفاق ما في أيديهم وما ينسب إليهم خالصا لوجهه الكريم ومع ذلك يَخافُونَ يَوْماً اى عذاب يوم واى يوم يوما تَتَقَلَّبُ اى تتقلقل وتضطرب فِيهِ الْقُلُوبُ وَتدهش وتتحير فيه الْأَبْصارُ
كل ذلك لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ المجازى عن عموم أعمالهم أَحْسَنَ ما عَمِلُوا اى يجزى أعمالهم الجميلة الصادرة عنهم بأحسن الجزاء وأجملها وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ امتنانا عليهم وتفضلا وَاللَّهُ المكرم المفضل لخواص عباده يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ منهم من الرزق المعنوي الحقيقي مستوفى بِغَيْرِ حِسابٍ بلا مقابلة أعمالهم ومعاوضة حسناتهم بل بمحض الكرم والجود.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة منه في كتابه هذا وَالَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق وأنكروا عليه وأظهروا الباطل ظلما وزورا وأصروا عليه عنادا ومكابرة لذلك صارت أَعْمالُهُمْ التي خيلوها صالحة مستجلبة لانواع الخير والحسنى لهم في يوم الجزاء على عكس اعمال اهل الايمان عندهم وبزعمهم كَسَرابٍ اى صارت أعمالهم مثل سراب يلمع ويبرق بِقِيعَةٍ اى بادية وصحراء بحيث يَحْسَبُهُ ويظنه الظَّمْآنُ من بعيد ماءً مسكنا للعطش مبردا للأكباد فلما رآه العطشان سار اليه وسارع نحوه وسعى سعيا سريعا حَتَّى إِذا جاءَهُ بعد تعب كثير وعناء مفرط مؤملا الوصول الى الماء لَمْ يَجِدْهُ ماء بل لم يجد ايضا شَيْئاً آخر متأصلا في الوجود سوى العكوس التي يتراءى كالماء في البريق واللمعان من تقلب الحدقة واضطرابها ومن تشتت البال وضعف القوى واختلال المزاج والحال باستيلاء العطش المفرط وحرقة الكبد وَبعد ما قد ايس من وجدان الماء وكذا عن نفع الأعمال وَجَدَ اللَّهَ المراقب عليه في عموم أحواله محاسبا إياه عن جميع ما صدر عنه حاضرا شهيدا عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ على الوجه الاقسط الأعدل بلا زيادة ولا نقصان وَاللَّهُ المطلع على عموم ما جرى على عباده في جميع شئونهم وتطوراتهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم ويجازيهم بمقتضى علمه وخبرته بلا فوت شيء مما صدر عنهم عدلا منه سبحانه
أَوْ مثل اعمال الكفرة في عدم النفع والخير كَظُلُماتٍ اى كاصحاب ظلمات متراكمة في ليلة مظلمة وهم ليلتئذ مضطرون مغمورون فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق غائر منسوب الى اللج وهو معظم الماء يَغْشاهُ اى يغطى البحر ويعلو عليه مَوْجٌ هائل مِنْ فَوْقِهِ اى فوق الموج الاول وعقبه مَوْجٌ آخر اهول منه وهكذا تترادف وتتوالى وتتعاقب امواج كثيرة متراكمة مترادفة بعضها فوق بعض على التوالي والتتالى مع انه مِنْ فَوْقِهِ اى من فوق الموج المظلم المتجدد بتجدد الأمثال سَحابٌ كثيف ثقيل اظلم منه وبالجملة تلك الأمواج والسحب ظُلُماتٌ متراكمة مترادفة بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ وأشد منه بحيث إِذا أَخْرَجَ من وقع واضطر فيها يَدَهُ حذاء بصره اختيارا لنظره لَمْ يَكَدْ يَراها اى لم يقرب ان يرى يده ويشهدها بالقوة فكيف الرؤية بالفعل هكذا اعمال الكفرة المتوغلين في بحر الغفلة والضلال المغشاة بالأمواج المتراكمة من الظلم والطغيان والبغي والعدوان من فوقها السحب الكثيفة والحجب الغليظة(2/12)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
من الجهل بالله والتعامي عن مطالعة آياته الدالة على توحيده واتصافه بالأوصاف الذاتية وعن ملاحظة آثاره البديعة وصنائعه العجيبة الغريبة وهم من غاية انهماكهم في ظلمات غفلاتهم وجهالاتهم وكمال غيهم وضلالاتهم إذا أمعنوا نظرهم الى مشاهدة ما في نفوسهم من غرائب صنع الله وبدائع حكمته لم يقربوا ان يكونوا قابلين مترصدين مستعدين للوقوف عليها فكيف الشهود والاطلاع بها بالفعل كل ذلك لتركب جهلهم المركوز في جبلتهم واصل فطرتهم وَبالجملة مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ الهادي لعباده الى زلال توحيده لَهُ نُوراً لا معا من جذبة التوفيق او جذوة من نار المحبة الصادقة والمودة الصافية عن مطلق الكدورات يهدى به التائهين الى مقصد توحيده فَما لَهُ من نفسه وبمجرد كسبه وسعيه مِنْ نُورٍ يرشده اليه سبحانه ويوصله الى فضاء وحدته وصفاء جنته. هب لنا من لدنك نورا نهتدي به الى ما قد جبلنا لأجله بفضلك وجودك يا ذا القوة المتين
أَلَمْ تَرَ ولم تعلم ايها المعتبر الرائي أَنَّ اللَّهَ المتوحد برداء العظمة والكبرياء المستقل بالوجود الحقيقي اللائق بكمال الكرامة والجود يُسَبِّحُ لَهُ ويقدس ذاته سبحانه عن جميع ما لا يليق بشأنه لا سيما من شوب النقص وسمات الحدوث والإمكان جميع مَنْ فِي السَّماواتِ من المجبولين على فطرة المعرفة المتوجهين نحو المبدع طوعا وَكذا جميع من في الْأَرْضِ ايضا كذلك وَكذا الطَّيْرُ في جو الهواء الواقع بين الأرض والسماء يسبحن له ويقدسن ذاته صَافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو كُلٌّ اى كل واحد من المسبحين السماويين والارضيين والهوائيين قَدْ عَلِمَ وأدرك صَلاتَهُ وميله الى ربه الذي أوجده وأظهره وَتَسْبِيحَهُ الذي قد سبح ونزه به مبدعه عما لا يليق بشأنه وَبالجملة اللَّهَ المتصف بالأسماء الحسنى والصفات العليا عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بِما يَفْعَلُونَ اى بجميع ما صدر عنهم من التوجه والتسبيح وباخلاصهم فيه
وَكيف لا يعلم سبحانه افعال عباده ومماليكه إذ لِلَّهِ المظهر المبدع ابتداء وانتهاء مُلْكُ السَّماواتِ وجميع من فيها وما فيها وَالْأَرْضِ ومن عليها ومما عليها فله التصرف فيهما وفيما بينهما وفيما امتزج وتركب منهما وفيهما بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة الاضداد والأغيار وَكيف لا إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الاظلال الهالكة في بيداء الضلال الْمَصِيرُ اى المرجع والمنتهى إذ الكل منه بدأ واليه يعود كما بدأ وكيف لا هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء كائن وسيكون ازلا وابدا عليم خبير يظهره ويعدمه حسب علمه وخبرته بإرادته واختياره
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي أَنَّ اللَّهَ المتكفل بارزاق عباده كيف يُزْجِي ويسوق أجزاء الابخرة والادخنة الى فوق متفرقة ليجعلها سَحاباً هامرا ثُمَّ يُؤَلِّفُ ويركب بَيْنَهُ اى بين أجزاء السحاب ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما متكافئا متصلا لتتكون منها مياه كثيرة ثم يجعل له فتوقا ومنافذ فَتَرَى ايها الناظر المعتبر الْوَدْقَ اى المطر المتقاطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وفتوقه عناية منه سبحانه لمن في حوزة فضله وجوده وَكذا يُنَزِّلُ مِنَ جانب السَّماءِ مِنْ جِبالٍ من قطع سحاب متراكم في الجو على هيئة الجبال الرواسي فِيها مِنْ بَرَدٍ متكون من الابخرة والادخنة الواصلة الى الطبقة الزمهريرية من الهواء وصولا تاما الى حيث قد انجمدت انجمادا صلبا كالحجر من شدة البرودة فينزل منها إظهارا لقهره سبحانه وتنبيها على صولة سطوة صفاته الجلالية فَيُصِيبُ بِهِ سبحانه مَنْ يَشاءُ من عباده ممن سبق له القهر والغضب منه سبحانه في سابق علمه بمقتضى جلاله وَيَصْرِفُهُ(2/13)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
اى يصرف شره عَنْ مَنْ يَشاءُ من اهل العناية على مقتضى لطفه وجماله ومن امارات غضب الله وقهره انه يَكادُ ويقرب سَنا بَرْقِهِ اللامع ضوؤه الحاصل منه في كمال الظلمة حالة الاصطكاك يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ الناظرة نحوه ويخطفها بحدوث الضد من الضد فجاءة وذلك من أقوى الأسباب لتفريق البصر
وكيف لا يخطف سبحانه الأبصار حينئذ إذ يُقَلِّبُ اللَّهُ المحول للأحوال بكمال الاختيار والاستقلال فيه اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بغتة بلا تراخ ومهلة اظهار الكمال قدرته واختياره واستقلاله بالتصرف في مظاهره ومصنوعاته إِنَّ فِي ذلِكَ التبديل والقلب واحداث الضد من الضد بغتة لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ المنكشفين بوحدة الواجب وصفاته الذاتية التي هي منشأ عموم ما ظهر وما بطن من الكوائن والفواسد بإرادته واختياره المستدلين من آثار أوصافه وأسمائه لعلو شأنه وسمو برهانه المتيقنين بوحدة ذاته وتنزهه عن وصمة الكثرة والشركة مطلقا
وَاللَّهُ المتوحد بذاته المتعزز بكمالات أسمائه وصفاته خَلَقَ اظهر وقدر كُلَّ دَابَّةٍ تتحرك على الأرض مِنْ ماءٍ هو العنصر الأصلي لوجود الحيوانات إذ هو مبدأ حركاتهم ومنشأ احساساتهم وادراكاتهم لذلك خص بالذكر من بين العناصر وان كانت مركبة من جميعها فَمِنْهُمْ اى من الدواب ذكر الضمير وجمع جمع العقلاء على سبيل التغليب إذ منها مَنْ يَمْشِي ويرجف عَلى بَطْنِهِ بلا آلة المشي كالحية وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالطير والإنسان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم والوحوش وبالجملة يَخْلُقُ اللَّهُ القادر المقتدر على مطلق الخلق والإيجاد ما يَشاءُ من الموجودات والمخلوقات ارادة واختيارا إِنَّ اللَّهَ المتصف بصفات الكمال عَلى كُلِّ شَيْءٍ داخل في حيطة حضرة علمه المحيط قَدِيرٌ بإيجاده وإظهاره في فضاء العلياء حسب حضرة قدرته بلا فتور وقصور.
ثم قال سبحانه تحريكا لحمية عباده وتشييدا لبنيان اعتقاداتهم بالله وبوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته لَقَدْ أَنْزَلْنا من مقام لطفنا وجودنا إليكم ايها المحبوسون في مضيق الإمكان المقيدون بسلاسل الكفران وأغلال العصيان آياتٍ مُبَيِّناتٍ موضحات واضحات مفصلات دالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا واقتدارنا على انواع الانعام والانتقام لعلكم تتفطنون منها الى علو شأننا وكمال سطوتنا وسلطاننا مع ان أكثركم لا تتفطنون ولا تتنبهون لانهماككم في بحر الغفلة والضلال وَاللَّهُ الهادي لعباده يَهْدِي بفضله مَنْ يَشاءُ هدايته منهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى كعبة توحيده ووحدة ذاته بلا عوج وانحراف
وَمن انحراف المنافقين وانصرافهم عن طريق الحق وميلهم الى الباطل يَقُولُونَ بأفواههم خوفا من دمائهم وأموالهم آمَنَّا بِاللَّهِ المتوحد في ذاته وَبِالرَّسُولِ المرسل من عنده لتبليغ دينه وآياته وَأَطَعْنا حكم الله وحكم رسوله سمعا وطاعة ثُمَّ يَتَوَلَّى اى يعرض وينصرف فَرِيقٌ مِنْهُمْ اى من المنافقين مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الإقرار والاعتراف عن حكم الله وحكم رسوله تكذيبا لنفسه من الايمان باللسان وإظهارا لما في قلبه من الكفر والنفاق وَبالجملة ما أُولئِكَ الأشقياء المردودون بِالْمُؤْمِنِينَ وليسوا متفقين معهم حقيقة وان أقروا واعترفوا على طرف اللسان خوفا إذ الايمان من فعل القلب واللسان مترجم له
وَكيف كانوا مؤمنين أولئك المنافقون مع انهم إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ المصلح لأحوال عباده وَكذا الى رَسُولِهِ المستخلف منه سبحانه النائب عنه باذنه لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ويقطع نزاعهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ اى فاجؤا الى الاعراض(2/14)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
والانصراف عن حكم الله وحكم رسوله بعد ما دعوا الى رسوله ان كان الحكم عليهم
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ والحكم يَأْتُوا إِلَيْهِ اى الى الرسول ورضوا بحكمه مُذْعِنِينَ منقادين طائعين وبالجملة هم تابعون لمطلوبهم وما هو مقصودهم طالبون ان يصلوا الى ما أملوا في نفوسهم بلا ميل منهم الى الحق وصراطه المستقيم وميزانه العدل القويم وبالجملة باى سبب ميلهم واعراضهم ولأي شيء ينصرفون عن الحق
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعرضهم عن قبول الايمان ويمنعهم عن اليقين والعرفان أَمِ ارْتابُوا وترددوا في عدالة الله ورسوله أَمْ يَخافُونَ من سوء ظنونهم وجهالاتهم أَنْ يَحِيفَ ويميل اللَّهُ المستوي على القسط القويم والعدل المستقيم عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ المتخلق بأخلاقه ظلما بان أجازوا الظلم على الله وعلى رسوله بَلْ الحق انه لا شك في عدالة الله وعدالة رسوله ولا يليق بشأنهما ان ينسب الحيف والميل إليهما قطعا فتعين انه أُولئِكَ المهجورون عن ساحة عز القبول هُمُ الظَّالِمُونَ المقصورون على الظلم والخروج عن حد الاعتدال المائلون عن الصراط المستقيم الإلهي لمرض قلوبهم وخبث طينتهم.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة في كتابه إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين على عكس المنافقين المترددين إِذا دُعُوا عند النزاع والخصومة إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ويزيل شبههم أَنْ يَقُولُوا طائعين راغبين سَمِعْنا وَأَطَعْنا بلا مطل وتسويف قد رضينا بما حكم الله ورسوله لنا وعلينا وَأُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله وعند رسوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالفلاح المقصورون على الصلاح والنجاح لا يتحولون منه بل يزادون عليه تفضلا وامتنانا
وَكيف لا يزادون على أجورهم مَنْ يُطِعِ اللَّهَ حق أطاعته وينقد له حق انقياده وَيتبع رَسُولَهُ حق أطاعته ومتابعته ايضا وَمع ذلك يَخْشَ اللَّهَ المنتقم الغيور فيما صدر عنه ومضى عليه من الذنوب بعد ما تاب وندم وَيَتَّقْهِ ويحذر عنه سبحانه فيما بقي من عمره فَأُولئِكَ المطيعون المنقادون بالله ورسوله الخائفون الخاشعون المخبتون المتقون هُمُ الْفائِزُونَ بالمثوبة العظمى والدرجة العليا عند الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا
وَ
من خباثة بواطن اهل الشرك والنفاق وشدة شكيمتهم وشقاقهم معك يا أكمل الرسل قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ
ترويجا لنفاقهم وتغريرا للمؤمنين جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
غاية حلفهم مبالغين مغلظين فيها منكرين للامتناع عن حكم الرسول بقولهم والله لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
يا أكمل الرسل يعنى المنافقين بالخروج عن الديار والجلاء عن الوطن لَيَخْرُجُنَ
عنها بلا مطل وتسويف ممتثلين لأمرك مطيعين لحكمك ولا يتأتى منهم الامتناع عن حكمك قطعا وما هذا الا من غاية تلبيسهم ونهاية نفاقهم وتغريرهم قُلْ
لهم يا أكمل الرسل بعد ما ظهر نفاقهم عندك بالهام منا إليك ووحى لا تُقْسِمُوا
بالله ايها المسرفون المفرطون ولا تبالغوا في الحلف الكاذب فان المطلوب منكم طاعَةٌ
واطاعة مجردة مَعْرُوفَةٌ
مشهورة بين الناس فقط بلا إتيان مخالفة منكم ظاهرا واما حال بواطنكم وقلوبكم فأمره عند الله إِنَّ اللَّهَ
المطلع على سرائركم وضمائركم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
وتقصدون في نفوسكم يجازيكم بمقتضى خبرته
قُلْ يا أكمل الرسل لعموم الناس على سبيل التبليغ العام والرسالة المطلقة أَطِيعُوا اللَّهَ المظهر لكم من كتم العدم وانقادوا لعموم أوامره ونواهيه وَأَطِيعُوا ايضا الرَّسُولَ المبعوث إليكم وصدقوه في جميع ما جاء به من عند ربكم فَإِنْ تَوَلَّوْا وانصرفوا بعد ما بلغت(2/15)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
رسالتك حق التبليغ فَإِنَّما عَلَيْهِ اى فاعلم ان ما على الرسول المرسل الا جزاء ما حُمِّلَ من التبليغ واظهار الدعوة وتبيين الرسالة وَعَلَيْكُمْ ايها المكلفون السامعون جزاء ما حُمِّلْتُمْ من الامتثال والانقياد وَاعلموا ايها الأحرار المتوجهون نحو الحق إِنْ تُطِيعُوهُ اى الرسول وتصدقوا قوله وتعملوا بمقتضى ما أمرناكم به على لسانه تَهْتَدُوا الى معرفة ربكم وتفوزوا بتوحيده وَان لم تطيعوا له وتنقادوا لحكمه ولم تقبلوا منه دعوته ولم تهتدوا الى ما جبلتم لأجله فبالجملة ما عَلَى الرَّسُولِ المأمور بالدعوة والتبليغ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الظاهر الواضح لئلا يشتبه عليكم امر الدين فان امتثلتم بما سمعتم منه قد فزتم وان توليتم وانصرفتم فعليكم الوزر والوبال
واعلموا يقينا قد وَعَدَ اللَّهُ المحسن المفضل لعباده بأنواع الفضل والعطاء سيما الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ايها الناس بوحدة الله وصفاته وإرسال الرسل وإنزال الكتب وبالبعث بعد الموت وكذا لجميع الأمور الاخروية وَمع الايمان والإذعان بالمأمورات المذكورة قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عند الله المرضية دونه حسب ما أوحاه على رسوله وأنزله في كتابه وقد اقسم سبحانه بنفسه تأكيدا لوعده لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ وليجعلنهم خلفاء فِي الْأَرْضِ التي قد استولى عليها الكفرة كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ آمنوا مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى بنى إسرائيل قد استخلفهم سبحانه على بلاد العمالقة والفراعنة وارض الشأم والفرس وَبعد استخلافهم لَيُمَكِّنَنَّ ويقررن لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ الا وهو دين الإسلام المبنى على صرافة التوحيد الذاتي المستلزم المتضمن لتوحيد الصفات والأفعال وليشيعن وليذيعن دينهم هذا في جميع اقطار الأرض وانحائها وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ ويحولن حالهم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ الناشئ من تمويهات متخيلتهم وتصويرات متوهمتهم أَمْناً ناشئا من اليقين الحقي المثمر لكمال الاطمئنان والوقار وبعد ما حصل لهم مرتبة الفناء الذاتي في ذاتى قد حصل لهم البقاء الذاتي ببقائى فحينئذ يَعْبُدُونَنِي مخلصين متخصصين بحيث لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ولا يشركون معى في الوجود أحدا من مظاهري ومصنوعاتى بتسويلات شياطين خيالاتهم وتغريرات اوهامهم وَمَنْ كَفَرَ وارتد ورجع بَعْدَ ذلِكَ اى بعد نفى الخواطر والأوهام المضلة عن سواء السبيل فَأُولئِكَ المطرودون المردودون عن ساحة عز الحضور والقبول هُمُ الْفاسِقُونَ الخاسرون المقصورون على الخروج والخسران المؤبد عن مقتضى اليقين العلمي والعيني والحقي الا ذلك هو الخسران المبين
وَبعد ما جعلتم التوحيد الذاتي قبلة مقاصدكم ايها المحمديون أَقِيمُوا الصَّلاةَ المثمرة لكم كمال الشوق والمحبة نحو الحق دائما وَآتُوا الزَّكاةَ المطهرة لنفوسكم عن الميل الى ما سواه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ الهادي المرشد لكم الى طريق التوحيد الذاتي لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وتفوزون بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر حققنا بما أنت به راض منا يا مولانا.
ثم قال سبحانه تأييدا لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تَحْسَبَنَّ ولا تظنن أنت يا أكمل الرسل الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن توحيده انهم هم قد صاروا بكفرهم وعنادهم مُعْجِزِينَ معاجزين الله القادر المقتدر على وجوه الانتقام عن أخذهم وإهلاكهم سيما فِي الْأَرْضِ التي هي مملكة الحق ومحل تصرفاته سبحانه بل قد أخذهم الله الرقيب عليهم بظلمهم وبغيهم واستأصلهم عن وجه الأرض في النشأة الاولى وَمَأْواهُمُ النَّارُ في الاخرى وَالله لَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم ومرجعهم ومنقلبهم ومثواهم. ثم أشار(2/16)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
سبحانه تتميم ما مضى من آداب الخلطة والمؤانسة بين المؤمنين فقال مناديا لهم على العموم ليقبلوا الى امتثال ما أمروا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من آداب المصاحبة والإخاء هذا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ بالدخول على بيوتكم وليسترخص منكم ايها المؤمنون خدمتكم يعنى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ سواء كانوا عبيدا او إماء وأنتم رجال او نساء ذكر الضمير على سبيل التغليب وَكذا الصبيان الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ اى لم يبلغوا وقت الحلم منكم خص بالذكر لكونه أقوى اسباب البلوغ الى وقت التكليف ثَلاثَ مَرَّاتٍ يعنى يستأذنكم الخدمة والصبيان منكم في ثلثة اوقات لدخولهم أحدها مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ إذ هو وقت التجرد والانخلاع عن ثياب النوم والدخول فيه منهى وَثانيها حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ للقيلولة والاستراحة وَثالثها مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وهو وقت التجرد عن الثياب للنوم وبالجملة الأوقات المذكورة ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لا بد من تحفظكم فيها عن من يشوشكم ويطلع على سرائركم لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ ضيق ومنع بَعْدَهُنَّ اى بعد الأوقات الثلاثة لو دخلوا عليكم بلا اذن منكم إذ هم خدمة طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ ليخدموكم إذ جبلتكم واصل فطرتكم على ان يظاهر بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ ويطوف عليه ويحوم ليخدمه كَذلِكَ اى مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللَّهُ المدبر لمصالحكم لَكُمُ الْآياتِ الدالة على آداب المصاحبة والمؤانسة وَاللَّهُ المطلع لأحوال عباده عَلِيمٌ بمصالحهم ومفاسدهم حَكِيمٌ في ضبطها وحفظها بحيث لا يختل امر النظام المتعارف
وَكذا إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ وظهر منهم امارات الميل والشهوات سواء كانوا ذكرا او أنثى فَلْيَسْتَأْذِنُوا مطلقا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأحرار البالغين إذ هم قد دخلوا في حكمهم بعد الحلم وبالجملة كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدالة على آداب مخالطتكم وحسن معاشرتكم وَاللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده عَلِيمٌ بما في ضمائرهم من المنكرات حَكِيمٌ دفعها قبل وقوعها
وَالْقَواعِدُ مِنَ العجائز النِّساءِ اللَّاتِي قد قعدن عن الحيض والحمل وشهوة الوقاع مطلقا بحيث لا يَرْجُونَ ولا يأمن نِكاحاً فراشا وزواجا لكبرهن وكهولتهن فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ اى ذنب وكراهة أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ اى الثياب الظاهرة التي تلبسها فوق الأستار كالجلباب حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ ومظهرات بِزِينَةٍ مشهية للرجال مثيرة لشهواتهم يعنى الزينة التي قد منعن من ابدائها في كريمة ولا يبدين زينتهن الآية وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ عن الوضع خَيْرٌ لَهُنَّ سواء كن عجائز أم شواب لان العفة ابعد من التهمة في كل الأحوال وَاللَّهُ المطلع بسرائرهن سَمِيعٌ لمقالتهن مع الرجال عَلِيمٌ بنياتهن منها
ثم لما كان العرب قد كانوا يتحرجون عن مصاحبة ذوى العاهات والمؤاكلة معهم استقذارا وكانوا ايضا يتحرجون من دخول البيوتات المذكورة لأكل الطعام تعظما واستكبارا بل يعدونه عارا ويستنكفون منه تجبرا واستكبارا رد الله عليهم ونفى الحرج عنهم فقال لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ان يأكل مع البصير وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ان يأكل مع السوى الصحيح السالم ويجلس معه وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ان يأكل مع الأصحاء وَلا حرج ايضا عَلى أَنْفُسِكُمْ في أكلكم مطلقا سواء أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ وعند أهليكم ومحارمكم وسواء كان من اكسابكم او اكساب أولادكم أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ او أجدادكم إذ هم مستخلفون لكم أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ إذ بينكم وبينهن نسبة الكلية والجزئية(2/17)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ لاشتراككم في المنشأ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ لاشتراك آبائكم معهم في المنشأ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ لاشتراك أمهاتكم في المنشأ أَوْ بيوت ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ يعنى بيوت عبيدكم الذين أنتم علل واسباب لإنشائهم سواء كانوا معتقين أم لا والتعبير عنهم بما للتمليك والرقية أَوْ بيوت صَدِيقِكُمْ بالمناسبة المعنوية التي هي أقوى من القرابة النسبية الصورية كل ذلك المذكور مسبوق بالإذن والرضا والتبسط والنشاط من اصحاب البيوتات ثم أشار سبحانه الى آداب المؤاكلة فقال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً مجتمعين في اناء واحد يأكل بعضكم سؤر بعض إذ هو ادخل في التآلف والتحابب أَوْ أَشْتاتاً متفرقين كل في اناء وهذا ادخل في التزكية والنظافة فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً اى كل واحد منكم بيتا من البيوت التي قد رخصتم بالأكل فيها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ اى فابدءوا بالسلام أولا على أهلها لأنهم منكم دينا وقرابة حتى صار سلامكم إياهم تَحِيَّةً زيادة حيوة لهم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تفضلا عليهم وإحسانا مُبارَكَةً كثير الخير والبركة النازلة من عنده سبحانه على أهلها طَيِّبَةً خالصة صافية عن كدر النفاق واثر الخلاف والشقاق كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على آداب معاشرتكم في النشأة الاولى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تتفطنوا منها الى أحوالكم في النشأة الاخرى فتزودوا فيها لأجلها.
ثم أشار سبحانه الى محافظة الآداب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورعاية حقوقه وكمال انقياده والإطاعة اليه فقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الموحدون الكاملون المنكشفون بسرائر التوحيد الذاتي هم الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ الجامع بجميع الأسماء والصفات المنسوبة الى الذات الاحدية وَرَسُولِهِ الجامع بجميع مراتب المظاهر والمصنوعات بحيث لا يخرج عن حيطة مرتبته الجامعة الكاملة مرتبة من المراتب أصلا وَبعد ما عرفوا جمعيته صلى الله عليه وسلم إِذا كانُوا مجتمعين مَعَهُ صلى الله عليه وسلم عَلى أَمْرٍ جامِعٍ يعنى امرا قد اشترط في حصوله الاجتماع والاقتحام كالزحف والجهاد والجمع والأعياد لَمْ يَذْهَبُوا ولم ينصرفوا من عنده صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ بالانفضاض والانصراف وان كانوا مضطرين الى الذب والذهاب ثم كرر سبحانه امر الاستيذان على الوجه الأبلغ تأكيدا ومبالغة فقال مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في الذهاب والانصراف على احسن الأدب معك يا أكمل الرسل أُولئِكَ السعداء المستأذنون هم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ في الذهاب حقا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ويراعون حق الأدب معهما من صفاء بواطنهم وخلوص طوياتهم فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ يا أكمل الرسل بعد اضطرارهم لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ وأمرهم المتعلق لمعاشهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ يعنى أنت مخير في إذنهم بعد اضطرارهم وَبعد ما أذنت لهم اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ من ذنبهم الذي قد اختاروا امر الدنيا على امر العقبى واستأذنوا له واهتموا بشأنه إِنَّ اللَّهَ المطلع لاستعدادات عباده غَفُورٌ يغفر لهم أمثال هذه الفرطات الاضطرارية رَحِيمٌ مشفق يرحم عليهم بعد ما ندموا في نفوسهم
ومن جملة الآداب التي قد وجبت عليكم رعايتها ومحافظتها بالنسبة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم انه لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ونداءه بَيْنَكُمْ وبين أظهركم كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً بالاسم واللقب بلا ضميمة تدل على تعظيمه وتوقيره بل قولوا له وقت ندائه يا نبي الله او يا خير خلق الله او يا أكرم الخلق على الله وأمثالها او لا تجعلوا دعاءه ومناجاته مع الله ورفع حاجاته صلّى الله عليه وسلّم اليه(2/18)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
سبحانه في الاجابة والقبول كدعاء بعضكم بعضا بان قبل مرة ورده اخرى بل قد رده مرارا كثيرة فان دعاءه صلّى الله عليه وسلّم لا يرد عند الله أصلا أو لا تقيسوا دعاءه ونداءه إليكم في الوقائع والأمور كدعاء بعضكم بعضا بان تجيبوا مرة وتردوا اخرى بل عليكم ان تبادروا لإجابة ندائه صلّى الله عليه وسلّم سمعا وطاعة بلا مطل وتسويف خافضين أصواتكم وقت اجابته مسرعين إليها بالآداب 7 والجوانح ساعين الى إنجاح مسئوله ومطلوبه صلّى الله عليه وسلّم دفعة ثم أشار سبحانه الى توبيخ المنافقين وتقريعهم حيث قال قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المطلع على سرائر عباده بمقتضى علمه الحضوري كيد المنافقين الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ ويخرجون متدرجين قليلا قليلا من بينكم وجمعكم ايها المؤمنون لِواذاً اى حال كونهم ملاوذين ملتجئين بغيركم بان يستتر بعضهم خلف بعض حتى يخرج ويذهب بلا اذن ورخصة منه صلّى الله عليه وسلّم فَلْيَحْذَرِ أولئك الماكرون المخادعون الَّذِينَ يُخالِفُونَ وينصرفون عَنْ أَمْرِهِ سبحانه وامر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بلا رخصة من أَنْ تُصِيبَهُمْ في الدنيا فِتْنَةٌ اى مصيبة ومحنة عظيمة مثل القتل والنهب والأسر وانواع البليات أَوْ يُصِيبَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا عذاب أشد منه وكيف تعرضون وتنصرفون عن امر الله وامر رسوله ايها المفسدون المسرقون المفرطون اما تستحيون من الله المراقب عليكم
أَلا اى تنبهوا ايها الغافلون الجاهلون بقدر الله وحق ألوهيته وربوبيته وكمال استقلاله وبسطته إِنَّ لِلَّهِ المظهر الموجد تصرفا وملكا مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات قَدْ يَعْلَمُ سبحانه بعلمه الحضوري على وجه الإحصاء والتفصيل عموم ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ في نشأتكم هذه اليوم وَايضا يعلم ما ستكونون عليه فيما سيأتى يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ في النشأة الاخرى المعدة للعرض والجزاء كما علم منكم ما أنتم عليه فيما مضى إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء مما جرى ويجرى في عالم الغيب والشهادة والنشأة الاولى والاخرى فَيُنَبِّئُهُمْ ويخبرهم حينئذ بِما عَمِلُوا في النشأة الاولى على التفصيل بلا شذوذ شيء منها ثم يجازيهم عليها وَاللَّهُ المجازى لعموم عباده في يوم الجزاء بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنهم في أولاهم وأخراهم عَلِيمٌ محيط علمه بجميع أعمالهم وأفعالهم وشئونهم وحالاتهم وجميع ما جرى عليهم يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته ان خيرا فخير وان شرا فشر اصنع بنا ما أنت به اهل يا مولينا
خاتمة سورة النور
عليك ايها الموحد المستنير المقتبس من المشكوة الجامعة المصطفوية والمصباح اللامعة النبوية المحمدية أرشدك الله الى غاية ما املك ووفقك الى كمال ما جبلك لأجله ان تحسن الأدب مع النبي الهادي لك الى طريق التوحيد الذاتي وتلازم على محافظة ما أوجب عليك الحق من حقوقه وآدابه صلى الله عليه وسلم فلك ان تجعل رتبته صلى الله عليه وسلم نصب عينيك وقدوة مناك بحيث لا تترك شيأ من سنته المأثورة وأخلاقه المشهورة وشيمه المعروفة بين اهل الحق وارباب المحبة من المنكشفين بعلو مرتبته صلّى الله عليه وسلّم ورفعة قدره ومكانته ولا تهمل شيأ من الحدود والاحكام الموضوعة في دينه وشريعته ولك ان تختار لنفسك من عزائم شرعه وملته مهما أمكنك ولا تميل الى رخصتها إذ الرخصة انما هي لعوام اهل الايمان والعزائم من شيم الخواص فلك الإخلاص في العمل وعليك(2/19)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
الاجتناب عن الرياء والسمعة وعن عموم الرعونات الواقعة في صدور الأعمال سواء كان عملك قليلا او كثيرا عزائم او رخصا وإياك إياك الحذر عن مداخل الرياء والتلبيس فإنها من شباك إبليس يضل بها ضعفاء الأنام من منهج الرشد وسبيل الاستقامة والسداد عصمنا الله وعموم عباده من تغريرات الشياطين وتسويلاتها بفضله وجوده
[سورة الفرقان]
فاتحة سورة الفرقان
لا يخفى على ذوى البصائر والألباب المنقطعين نحو الحق السائرين اليه الفارقين بينه وبين الباطل من اظلاله المستهلكة المعدومة في أنفسها الظاهرة المرئية في هياكل الموجودات وأشكالها ان إنزال هذا الكتاب الجامع لأحوال النشأتين الحاوي لأطوار المنزلتين انما هو لتفرقة الحق عن الباطل وتمييز المحق من المبطل لذلك قد سماه سبحانه فرقانا بين اهل الهداية والضلال من المجبولين على فطرة التوحيد المخلوقين لمصلحة الايمان والعرفان فمن امتثل بما فيه امرا ونهيا عظة وتذكيرا اشارة ورمزا حقيقة ومعرفة خلقا وأدبا مثالا وعبرة فقد فاز بمرتبة العرفان بعد جذب الحق نحو ذاته وكحل عين بصيرته بكحل التوحيد ورفع سبل الغربة وسدل التعينات عنها برمتها والاسترشاد من هذا الكتاب موقوف على الاتصاف بأوصاف من انزل اليه وعلى التخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه والسلوك اثر سننه بلا فوت شيء منها وإهمال دقيقة من دقائقها حتى تحصل المناسبة المعتبرة بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين هذا الكتاب وينزل على قلبه ما نزل فيه من المعارف والحقائق كما اخبر سبحانه عن تنزيله إياه صلّى الله عليه وسلّم متيمنا متبركا باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي قد انزل الكتاب على عبده ليبين للناس احوال مبدئهم ومعادهم وينبه عليهم طريق التفرقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد الرَّحْمنِ عليهم بإرسال الرسول المبين لهم ما هو الأصلح لحالهم من السداد والإرشاد الرَّحِيمِ يوصلهم الى مرتبة التوحيد الذاتي بعد رفع الحجب بلا ميل والحاد
[الآيات]
تَبارَكَ الله تعاظم وتعالى ذاته سبحانه من ان يحيط بمنافعه وكثرة خيراته وبركاته عقول مظاهره ومصنوعاته حتى يعدوها بألسنتهم ويعبروا عنها بأفواههم حالا او مقالا الحكيم العليم الَّذِي نَزَّلَ بمقتضى جوده الواسع وكرمه الكامل الْفُرْقانَ اى القرآن الجامع لفوائد الكتب السالفة مع زوائد قد خلت عنها تلك الكتب تفضلا وامتنانا ومزيد اهتمام عَلى شأن عَبْدِهِ صلّى الله عليه وسلّم بعد ما هيأه لقبوله وأعده لنزوله ورباه أربعين سنة تتميما لأمر المناسبة المعنوية وتحصيلا لها حتى يستعد ويستحق لنزول الوحى والإلهام ولخلعة الخلافة والنيابة وانما أنزله هذا لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ اى كافة المخلوقين على فطرة التكليف وعامة المجبولين على استعداد المعرفة واليقين نَذِيراً ينذرهم ويحذرهم عما يضرهم ويغويهم عن صراط الحق وطريق توحيده عناية منه سبحانه إياهم ومرشدا لهم الى مبدئهم ومعادهم
وكيف لا يرشدهم سبحانه مع انه هو المالك المطلق والمتصرف المستقل الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات المعبر عنها بالعلويات وَالْأَرْضِ اى الطبائع السفلية القابلة للانعكاس من العلويات فلا يضر كثرة الأسماء والصفات وحدوث العكوس والتعينات حسب الشئون والتجليات الإلهية وحدته الذاتية وانفراده الحقيقي وَلهذا لَمْ يَتَّخِذْ سبحانه وَلَداً حتى يتكثر وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ اى في تحققه ووجوده وملكه وملكوته حتى ينازع ويتضرر(2/20)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
بل له خاصة التصرف بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة العكوس والاظلال الهالكة المستهلكة في صرافة وحدته وشمس ذاته وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بعد ما قدره أولا في حضرة علمه المحيط وأظهره حسب تجلياته بمقتضى آثار أسمائه وصفاته وبعد ما اظهر عموم ما اظهر فَقَدَّرَهُ ثانيا تَقْدِيراً بديعا ودبر امره تدبيرا محكما عجيبا بان اقدر البعض على اختراع انواع الصنائع والبدائع من الحرف والإدراكات الكاملة والتدبيرات الغريبة المتعلقة لتمدنهم ومعاشهم وجعل بعضهم آلة للبعض وبعضهم مملوكا وصيرهم ارواجا وأصنافا مؤتلفة وفرقا وأحزابا مختلفة متخالفة وأنواعا متفاوتة الى ما شاء الله وما يعلم جنود ربك الا هو كل ذلك ليتعاونوا ويتظاهروا واختلطوا وامتزجوا الى ان اعتدلوا وانتظموا وصاروا مؤتلفين موانسين محتاجين كل منهم بمعاونة الآخر وانما فعل سبحانه ما فعل ليظهر كمالاته المتكثرة المندرجة في وحدة ذاته ويظهر سلطان الوحدة الذاتية بظهور ضده وبعد ما بلغت الكثرة غايتها فقد انتهت الى الوحدة كما بدأت منها وانتشئت عنها فحينئذ قد اتصل في دائرة الوجود قوسا الوجوب والإمكان البداية والنهاية ومنشأهما الاول والآخر والظاهر والباطن واتحد الأزل والأبد وارتفعت الكثرة والعدد ولم يبق الا الواحد الفرد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد
وَكيف لا يدبر سبحانه امر عباده بانزال الكتب وإرسال الرسل المرشدين لهم الى توحيده بعد ما تاهوا في بيداء الكثرة والضلال مع انهم قد اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ سبحانه آلِهَةً يعبدونها كعبادته مع ان آلهتهم الباطلة لا يَخْلُقُونَ ولا يوجدون ولا يظهرون شَيْئاً من المخلوقات حتى يستحقوا الألوهية والعبادة مع ان من شأن الإله الخلق والإيجاد حتى يستحق التوجه والرجوع اليه بل وَهُمْ يُخْلَقُونَ اى مخلوقون مقدورون لا قادرون خالقون بل هم مرادون وَالمخلوقات التي هي الجمادات لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا اى دفع ضر عنها وَلا نَفْعاً اى جلب نفع إليها وَلا يَمْلِكُونَ ايضا مَوْتاً اى اماتة احد وَلا حَياةً اى احياء له وَلا نُشُوراً اى بعثا وحشرا بعد الموت للحساب والجزاء ومن كان وصفه هذا كيف يتأتى منه الألوهية والربوبية المقتضية للعبودية
وَبعد ما أنزلنا القرآن الفرقان على عبدنا ليهدى به التائهين في بيداء الغفلة والضلال قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عما جاء به من عنده لتكميل الناقصين إِنْ هَذا وما هذه الأراجيف التي قد جاء بها هذا المدعى إِلَّا إِفْكٌ كذب صرف يصرف به العباد عن الحق ويلبس الباطل بصورته ويروجه بهذه الحيل إذ هو افْتَراهُ واختلقه عن عمد من عنده ونسبه الى الوحى تغريرا وتزويرا وترويجا لأمره وَمع ذلك قد أَعانَهُ ولقن له فحواه عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ وهم احبار اليهود وبعد ما قد سمع فحواه منهم عبر عنه في قالب بليغ فأتى به على الناس ولقبه بالقرآن المعجز وبالفرقان والبرهان المثبت المنزل عليه من ربه بطريق الوحى والإلهام ترويجا لمفترياته وتغريرا للناس على قبولها وبالجملة فَقَدْ جاؤُ اى أولئك المسرفون المفرطون بجعل القرآن الفرقان المعجز لفظا ومعنى إفكا صرفا وافتراء محضا ظُلْماً عدوانا ظاهرا وخروجا فاحشا عن حد الاعتدال وَزُوراً قولا كذبا باطلا وبهتانا ظاهرا متجاوزا عن الحد مسقطا للمروءة سقوطا تاما إذ نسبة هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه الى أمثال هذه الخرافات التي قد جاء بها أولئك الجهلة بشأنه في غاية الظلم والزور ونهاية المراء والغرور
وَقالُوا ايضا في حق هذا الكتاب ما هو افحش منه وابعد عن شأنه بمراحل وهوانه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أكاذيب قد سطرها(2/21)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
الأولون الأقدمون فيما مضى وهو اكْتَتَبَها واستنسخها من حبر وكتبها له كاتب وبعد ما أخذ سوادها فَهِيَ الأساطير المذكورة تُمْلى وتقرأ عَلَيْهِ اى على محمد بُكْرَةً وَأَصِيلًا غداة وعشيا على سبيل التكرار ليحفظها إذ هو أمي لا يقدر على ان يكرر من الكتاب وبعد ما قد حفظها على وجهها قراها على الناس مدعيا انها قد اوحى الى من عند الله وقد أنزلها على ملك سماوي اسمه جبرئيل
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما سمعت مقالهم وتفرست حالهم في العتو والعناد وانواع الإنكار والفساد قد أَنْزَلَهُ اى الفرقان على مع انى أمي كما اعترفتم لا قدرة لي على الإملاء فكيف على الإنشاء العليم الَّذِي يَعْلَمُ بعلمه الحضوري السِّرَّ المكنون والحكمة الكامنة فِي اشكال السَّماواتِ وَاقطار الْأَرْضِ ولهذا أعجزكم بكلامه هذا عن آخركم مع انكم أنتم من ذوى اللسن والفصاحة وعلى أعلى طبقات البلاغة والبراعة فعجزتم عن معارضته بحيث لم يتأت لكم إتيان مثل آية قصيرة منه مع كمال تحديكم ووفور دواعيكم ومع ذلك اما تستحيون ايها المسرفون المفرطون قد نسبتم اليه ما هو برئ منه وبنسبتكم هذه قد استوجبتم العذاب والعقاب عاجلا وآجلا الا انه سبحانه قد أمهلكم رجاء ان تنتبهوا بسوء صنيعكم هذا فترجعوا اليه سبحانه تائبين نادمين فيغفر لكم ما تقدم من ذنبكم ويرحمكم بتوبتكم إِنَّهُ سبحانه في ذاته قد كانَ غَفُوراً للأوابين التوابين رَحِيماً للمتندمين المخلصين
وبعد ما قد افرطوا في طعن الكتاب المنزل والقدح ولم يقصروا على القدح والطعن فيه فقط بل أخذوا في طعن من انزل اليه ايضا حسب عداوتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم معه وَقالُوا مستهزئين متهكمين مالِ هذَا الرَّسُولِ يدعى الرسالة والنبوة مع انه لا يتميز عن العوام إذ يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكل وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لضبط امور معاشه كما نمشي فما مزيته علينا وامتيازه عنا حتى يكون رسولا علينا اولى منا وان كان صادقا في دعوى نزول الملك اليه بالوحي لَوْلا هلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ظاهرا بلا سترة حتى نراه ونعاين به ونؤمن له بلا تردد فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً اى يكون الملك المنزل ردأ له في انذارنا وتبليغ الدعوة إلينا
أَوْ هلا يُلْقى إِلَيْهِ من قبل ربه كَنْزٌ فيستغنى به عن الخلق فيتبعه طمعا للإحسان أَوْ هلا تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ موهوبة له من ربه فيها انواع الثمرات والفواكه يَأْكُلُ مِنْها رغدا ويترفه بها أمدا ويعطى منها الناس فيتبعونه أفواجا وأحزابا وبالجملة ما له لا هذا ولا ذاك ولا ذلك فمن اين نصدق برسالته وباى شيء نعتقده نبيا وَبعد ما قد بالغوا في قدحه وإنكاره وافرطوا في استهزائه وسوء الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم وبالجملة قد قالَ الظَّالِمُونَ المنكرون المستكبرون على سبيل الذب والاعراض لضعفاء الأنام عن متابعته صلّى الله عليه وسلّم لو اتبعتم ايها الناس لهذا المدعى وآمنتم به مع انكم قد سمعتم بل علمتم بيانا وابصرتم عيانا ان لا مزية له عليكم ولا امتياز بينه وبينكم إِنْ تَتَّبِعُونَ وما تؤمنون وتقتدون إذا إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مجنونا قد سحر له فجن فاختبط واختل عقله وكل فهمه لذلك قد تكلم بكلام المجانين فاعرض عن معارضته العقلاء إذا لعقل قاصر عن ادراك مموهات الوهم وتسويلات الخيال وتصويراته
انْظُرْ يا أكمل الرسل كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ هؤلاء الضلال بعد ما عجزوا عن معارضتك وتاهوا في كمال رشدك وهدايتك وكيف توغلوا في الحيرة والضلال عن مدركاتك ومكانك فَضَلُّوا وتحيروا وانحسرت عقولهم عن الوصول الى كمالات مدركاتك وانواع هداياتك فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا لتعاليه عن مداركهم(2/22)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
وعقولهم فنسبوك الى ما لا يليق بشأنك عنادا واستكبارا
مع انه قد تَبارَكَ وتعالى ربك الَّذِي رباك بأنواع الكرامات الخارقة للعادات الشاملة لانواع السعادات المعدة لأرباب الشهود والمكاشفات وكذا بأصناف المعجزات الباهرة الدالة على صدقك في جميع ما جئت به من قبل ربك من الآيات البينات وانواع الخيرات والبركات ومع ذلك إِنْ شاءَ ربك وتعلقت مشيئته وارادته جَعَلَ لَكَ يا أكمل الرسل واعطاك في النشأة الاولى ايضا خَيْراً واحسن مِنْ ذلِكَ اى مما قالوا أولئك المسرفون المفرطون وأملوا لك تهكما واستهزاء ولكن قد اخره سبحانه الى النشأة الاخرى إذ هي خير وأبقى والتنعم فيها ألذ واولى إذ اللذات الاخروية انما هي مؤبدة مخلدة بلا انقطاع ولا انصرام. ثم بين سبحانه ما هيأ لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وما أعد لأجله جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المتجددة بتجددات التجليات الإلهية بمقتضى الكمالات الاسمائية والصفاتية وَيَجْعَلْ لَكَ ايضا فيها قُصُوراً عاليات ودرجات مرتفعات متعاليات عن مدارك ذوى العقول والإدراك مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهم من قصور نظرهم وعمى قلوبهم في هذه النشأة لا يلتفتون في أمثال هذه الكرامات العلية الاخروية
بَلْ هم بمقتضى أحلامهم السخيفة قد كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ الموعودة المعهودة وكذا بجميع ما يترتب عليها من المثوبات السنية والدرجات العلية ومن العقوبات والدركات الهوية إذ نظرهم مقصور على هذا الأرذل الأدنى وما فيه وَلهذه قد أَعْتَدْنا وهيئنا بمقتضى قهرنا وجلالنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ وبالأمور الموعودة فيها سَعِيراً نارا مسعرة متلهبة في غاية التلهب ونهاية الاشتعال
بحيث إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يعنى إذا كانوا بمرأى العين منها مع انهم بعيد عنها بمسافة طويلة قد سَمِعُوا لَها مع بعدها تَغَيُّظاً صوتا كصوت المغتاظ من شدة تلهبها وغليانها وَزَفِيراً ايضا كزفرة المغتاظ والزفرة في الأصل ترديد النفس بحيث تنتفخ عند خروجها الضلوع والجوانب يعنى من شدة غيظها لهم تغلى وتتلهب تلهبا شديدا وغليانا مفرطا وتردد نفسها ترديدا بليغا حتى يردوا فيها وهبطوا إليها
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها اى من النار مَكاناً اى في مكان من أماكنها قد صار ذلك المكان ضَيِّقاً لهم من تشدد العذاب عليهم بحيث صار كل منهم من ضيق مكانهم كأنهم مُقَرَّنِينَ قد قرنت أيديهم الى أعناقهم بالسلاسل والأغلال وبالجملة قد دَعَوْا وتمنوا حينئذ من شدة حزنهم وكربهم هُنالِكَ ثُبُوراً هلاكا وويلا قائلين صائحين صارخين وا ثبوراه وا ويلاه تعال تعال فهذا وقت حلولك وأوان نزولك
ويقال لهم حينئذ لا تَدْعُوا ولا تتمنوا ايها الجاهلون الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً بل وَادْعُوا فيه ثُبُوراً كَثِيراً إذ انواع العذاب يتجدد عليكم دائما مستمرا فاطلبوا لكل منها ثبورا
قُلْ يا أكمل الرسل موبخا عليهم ومقرعا لهم ومعيرا عليهم بعد ما بينت لهم منقلبهم ومثواهم في الآخرة أَذلِكَ السعير الذي قد سمعتم وصفه او المعنى إذ لك الجنة التي قد املتم لنا مستهزئين من جنات الدنيا ومتنزهاتها خَيْرٌ مرجعا ومصيرا أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ المؤبد المخلد أهلها ونعيمها فيها بلا تبديل ولا تغيير الَّتِي قد وُعِدَ الْمُتَّقُونَ بها وبدخولها والخلود فيها حتى كانَتْ لَهُمْ جَزاءً لاعمالهم الصالحة التي قد أتوا بها في النشأة الاولى وصارت بدلا من مستلذاتها الفانية وَمَصِيراً اى مرجعا ومنقلبا لهم بعد ما خرجوا من الدنيا الدنية
مع ان لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من النعيم المقيم الدائم لكونهم(2/23)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
خالِدِينَ فيها ابدا لا يتحولون عنها أصلا لذلك قد كانَ وصار هذا الوعد الموعود عَلى رَبِّكَ يا أكمل الرسل وَعْداً مَسْؤُلًا مطلوبا للمؤمنين في دعواتهم ومناجاتهم مع الله حيث قالوا في سؤالهم ودعائهم ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك الآية الى غير ذلك من الآيات المشتملة على الدعوات ورفع الدرجات والمناجاة المأثورة من الأنبياء والأولياء وخواص العباد
وَاذكر يا أكمل الرسل للمشركين المتخذين آلهة سوانا وحذرهم يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ونبعثهم من قبورهم للعرض والجزاء وَنحشر ايضا معهم ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد يعنى آلهتهم الذين كانوا يعبدون لهم مثل عبادة الله كالملائكة وعزيز وعيسى والجن والكواكب والأصنام عبر سبحانه عن آلهتهم بما مع ان بعضهم عقلاء لعموم لفظة ما او للتغليب او باعتبار ما يتخذون ويعتقدون آلهة من تلقاء أنفسهم بلا حقيقة لها أصلا سوى الاعتبار إذ معبوداتهم لا يرضون باتخاذهم آلهة وبعد ما حشر الآلهة ومتخذوهم مجتمعين فَيَقُولُ الله سبحانه مستفهما عن الآلهة مخاطبا لهم على سبيل التوبيخ والتبكيت لمتخذيهم أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي عن عبادتي ودعوتم أنتم هؤُلاءِ الى عبادة انفسكم مدعين الشركة معى في الإلهية أَمْ هُمْ بأنفسهم قد ضَلُّوا السَّبِيلَ
قالُوا يعنى الآلهة مبرئين نفوسهم عن أمثال هذه الجرأة والجريمة العظيمة منزهين ذاته سبحانه عن وصمة المشاركة والمماثلة عن مطلق الكفاءة سُبْحانَكَ نحن ننزه ونقدس لك يا ربنا عن توهم الشركة في الوهيتك وربوبيتك بل في وجودك وتحققك مطلقا ما كانَ يَنْبَغِي لَنا وما يليق بنا وما يصح منا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ فكيف ان ندعى الولاية لأنفسنا دونك او نزعم الاشتراك معك مع انا نعلم ان لا وجود لنا إلا منك ولا رجوع لنا الا إليك وأنت يا ربنا تعلم منا عموم ما في ضمائرنا وأسرارنا بل جميع ما في استعداداتنا ونياتنا وجميع شئوننا وقابلياتنا وأنت تعلم ايضا منا يا مولانا مالنا علم باتخاذهم وايضا لا إضلال ولا تغرير من قبلنا إياهم وَلكِنْ أنت مَتَّعْتَهُمْ حسب فضلك وجودك بأنواع النعم واصناف الكرم زمانا وَكذا قد متعت آباءَهُمْ كذلك وقد أمهلتهم زمانا مترفهين مترفين مستكبرين حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ اى ذكر المنعم المفضل وغفلوا عن شكر نعمه بالمرة وصاروا عليها زمانا بطرين مفتخرين الى حيث قد أخذوا واتخذوا بمقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة اولياء ظلما وزورا وسموهم أربابا دونك وعبدوهم كعبادتك عتوا واستكبارا وَبالجملة هم قد كانُوا مقدرين مثبتين في حضرة علمك ولوح قضائك قَوْماً بُوراً
هالكين في تيه الغفلة والضلال معدودين من اصحاب الشقاوة الازلية الابدية بحيث لا يرجى منهم السعادة والفلاح أصلا
ثم قيل للمشركين من قبل الحق تفضيحا لهم وإلزاما وتبكيتا فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ آلهتكم ايها الضالون بِما تَقُولُونَ انهم آلهتنا او بما تقولون هؤلاء أضلونا او بقولكم هؤلاء شفعاؤنا فَما تَسْتَطِيعُونَ اى فالان قد لاح وظهر ان آلهتكم وشفعاءكم لا يقدرون صَرْفاً من عذابنا إياكم شيأ وَلا يقدرون ايضا نَصْراً لكم حتى تصرفوا أنتم عذابنا عن انفسكم بمعاونتهم ولا يقدرون ايضا ان يشفعوا لكم ليخفف عذابنا عنكم وَبالجملة مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ايها المشركون علينا باتخاذ غيرنا الها سوانا عنادا ومكابرة ولم يتب عن ذلك حتى قد خرج من الدنيا عليه نُذِقْهُ الآن اى يوم الجزاء عَذاباً كَبِيراً لا عذاب اكبر منه.
ثم أشار سبحانه الى تسلية حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عما عيره الكفرة الجهلة المستهزءون معه بقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق الآية فقال وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا أكمل الرسل رسولا(2/24)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ كما تأكل أنت وسائر الناس وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ لحوائجهم كما تمشى أنت وغيرك وامتياز الرسل والأنبياء من عوام بنى نوعهم انما هو بأمور معنوية لا اطلاع لاحد عليها سوى من اختارهم للرسالة واجتباهم للنبوة والخلافة وهم في ظواهر أحوالهم وأطوارهم مشتركون مع نبي نوعهم بل ادنى حالا منهم في ظواهرهم لعدم التفاتهم الى زخارف الدنيا الدنية ومموهاتها العائقة عن اللذة الاخروية ولهذا ما من نبي ولا رسول الا وقد عيرتهم العوام بالفقر والفاقة الا نادرا منهم وَبالجملة من سنتنا القديمة انا قد جَعَلْنا بَعْضَكُمْ ايها الناس لِبَعْضٍ فِتْنَةً اى سبب افتتان وابتلاء وامتحان واختبار من ذلك ابتلاء الفقراء بتشنيع الأغنياء وتعييرهم والنبيين والمرسلين باستهزاء المنكرين المستكبرين وكذا المرضى بالأصحاء وذوى العاهات بالسالمين الى غير ذلك وانما جعلناكم كذلك لنختبر ونعلم أَتَصْبِرُونَ ايها المصابون بما أصابكم من البلاء فتفوزون بجزيل العطاء وجميل اللقاء أم لا وَالحال انه قد كانَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل في سابق قضائه وحضرة علمه بَصِيراً لصبر من صبر وشكر من شكر من اولى العزائم الصحيحة ولمن لم يصبروا ولم يشكروا من ذوى الأحلام السخيفة وسر الاختبار والابتلاء الإلهي انما هو اظهار الحجة البالغة الإلهية حين الأخذ والانتقام إذ الإنسان مجبول على الجدال والكفران
وَمن جملة جدالهم قالَ الكافرون الجاحدون الملحدون الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا بل لا يؤملون لقيانا قطعا ولا يخافون عنا مطلقا لإنكارهم بنا وبعموم ما قد وعدنا لهم في يوم الجزاء لو كان محمد رسولا مؤيدا من عند الله لَوْلا هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ المصدقون لرسالته ليخبرونا بصدقه في دعواه أَوْ هلا نَرى رَبَّنا الذي يدعونا اليه معاينة فيخبر لنا بصدق رسالته حتى نصدقه بلا تردد قال سبحانه في ردهم مقسما على سبيل الاستعجاب والاستغراب والله لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أولئك المسرفون المفرطون بقولهم هذا مكابرة حيث طلبوا من الله ما لا يسع لخلص عباده من ذوى النفوس القدسية فكيف لهؤلاء الملحدين وَبالجملة قد عَتَوْا باخطار هذا المطلب العظيم في خواطرهم وان صدر عنهم هذا تهكما واستهزاء عُتُوًّا كَبِيراً فاستحقوا بذلك اكبر العذاب وأصعب النكال والوبال اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ اى ملائكة العذاب مع انه لا بُشْرى ولا بشارة برؤيتهم يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ بل انما يجيئون إليهم ليجروهم الى جهنم صاغرين مهانين وَبعد ما يرونهم صائلين عليهم صولة الأسود يَقُولُونَ متحسرين خاسرين قولا يقول به العرب عند هجوم البلاء وحلول العناء وعند اليأس التام من الظفر بالمطلوب وهو قولهم هذا حِجْراً مَحْجُوراً هو كناية عن قولهم قد حرمنا عن التبشير بالجنة حرمانا مؤبدا وصرنا مسجونين في النار سجنا مخلدا.
ثم قال سبحانه وَبعد ما قد حرمنا الجنة عليهم وجعلنا مصيرهم النار ابدا قد قَدِمْنا وعمدنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ اى أصلح أعمالهم وأحسنها التي قد أتوا بها في النشأة الاولى كقرى الضيف وصلة الرحم واعانة الملهوف واغاثة المظلوم وغير ذلك من حسنات أعمالهم فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً اى قد صيرناه كالغبار المنثور بالرياح بلا ترتب الثواب والجزاء عليه لفقدهم شرط القبول والاثابة وقت صدورها عنهم الا وهو الايمان والتوحيد والتصديق بالرسل والكتب والعمل بمقتضى الوحى وبالجملة هم كفار مكذبون مستكبرون لذلك لم تقبل أعمالهم
واما أَصْحابُ الْجَنَّةِ المتصفون بالإيمان والتوحيد وتصديق الرسل والكتب الممتثلون بالأوامر والنواهي بمقتضى(2/25)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
ما بلغهم الرسل وبينهم فهم هم يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا اى من جهة مكان يستقرون عليه ويتوطنون فيه وَأَحْسَنُ مَقِيلًا يستريحون ويستروحون فيه ومع الحور والولدان والغلمان يتلذذون او هم يومئذ اى حين انقطاع السلوك وانكشاف السدل والاغطية المانعة من الشهود خير مستقرا من استقرارهم في مقر التوحيد آمنين من وساوس الأوهام والخيالات الباطلة واحسن مقيلا يستريحون فيه بلا مقتضيات القوى والآلات البشرية منخلعين عن جلابيب ناسوتهم مطلقا مشرفين بخلع عالم اللاهوت المهداة الموهوبة لهم من قبل حضرة الرحموت
وَذلك يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ اى تتصفى وتتجلى سماء الأسماء الإلهية المستورة المحتجبة بِالْغَمامِ اى بغيوم التعينات العدمية المنعكسة منها وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ المهيمين عند الذات الاحدية الا وهي الأسماء والصفات التي قد استأثر الله به في غيبه بلا انعكاس وانبساط وامتداد ظل كسائر الأسماء الفعالة الإلهية تَنْزِيلًا على صرافة تجردهم بلا تدنس وانغماس بغيوم التعلقات والتعينات مطلقا
فحينئذ نودي من وراء سرادقات العز والجلال الْمُلْكُ المطلق والاستيلاء التام والسلطنة الغالبة يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ الثابت اللائق المثبت على ما ينبغي ويليق لِلرَّحْمنِ المستوي على عروش ذرائر الأكوان بعموم الرحمة وشمول الفضل والامتنان بلا تقدير مكيال وميزان من زمان ومكان وَقد كانَ ذلك اليوم والشأن يَوْماً وشأنا عَلَى الْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة هوية الحق الظاهر في الأنفس والآفاق عَسِيراً في غاية العسرة والشدة وعلى الموحدين الواصلين الى مرتبة الفناء الفانين في الله الباقين ببقائه سهلا يسيرا في غاية اليسر والسهولة
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن ظلمك وأساء الأدب معك وأراد مقتك وطردك بغيا عليك وعدوانا بك يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ الجاحد الخارج عن مقتضى الأدب مع الله ورسوله عَلى يَدَيْهِ تحسرا على افراطه وتفريطه في العتو والاستكبار والجحود والإنكار يَقُولُ حينئذ متحسرا متمنيا يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ الهادي الى سواء السبيل سَبِيلًا يوصلني الى منهج الرشد وينجيني عن هذا العذاب
يا وَيْلَتى تعالى ويا هلكتي اسرعى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً مضلا مذلا خَلِيلًا صديقا قد أضلني عن خلة الرسول المرشد المنجى وازالنى عن شرف صحبته والله ذلك المغوى المضل
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ اى عن ذكر الله وتذكير رسوله وعن مصاحبة المؤمنين ومواخاتهم بَعْدَ إِذْ جاءَنِي واختلط معى وصار صديقي وخليلي وخير قرينى ورفيقي بل صار شيطاني فوسوس على وصرفني عن طريق الحق بتغريره وتلبيسه وَبالجملة قد كانَ الشَّيْطانُ المضل المغوى سواء كان جنا او انسا او نفسا لِلْإِنْسانِ المجبول على الغفلة والنسيان خَذُولًا يخذله ويحرمه عن الجنان ويسوقه الى دركات النيران بأنواع الخيبة والحرمان. نعوذ بك يا ذا الفضل والإحسان من شر الشيطان
وَبعد ما قد طعنوا في القرآن طعنا كثيرا ونبذوه وراء ظهورهم نبذا يسيرا بلا التفات لهم اليه والى ما فيه من الأوامر والنواهي قالَ الرَّسُولُ مشتكيا الى الله مناجيا معه يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي الذين قد بعثتني إليهم لأهديهم وارشدهم الى طريق توحيدك وأبين لهم حدود ما أنزلت الى من الكتاب المعجز الجامع لجميع ما في الكتب السالفة المشتمل على عموم المعارف والحقائق والحكم والاحكام المتعلقة بالتدين والتخلق في طريق توحيدك وتفريدك وتقديسك مع ان هؤلاء الجهلة المسرفين قد اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مع سطوح برهانه وقواطع حججه وبيانه مَهْجُوراً متروكا لا يلتفتون اليه ولا يسترشدون(2/26)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
منه بل لا يتوجهون نحوه بل يقدحون فيه ويكذبونه وينسبون اليه ما لا يليق بشأنه
وَبعد ما قد بث صلّى الله عليه وسلّم شكواه الى ربه وبسط فيها معه سبحانه ما بسط قال سبحانه تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وازالة لشكواه لا تبال بهم وبشأنهم ولا تحزن من سوء فعالهم وخصالهم إذ كَذلِكَ ومثل ما جعلنا لك يا أكمل الرسل اعداء منكرين مكذبين قد جَعَلْنا ايضا لِكُلِّ نَبِيٍّ من الأنبياء الماضين عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ المنكرين المكذبين لهم يسيئون الأدب معهم ويطعنون بكتبهم وصحفهم ولا ينصرونهم ولا يروجون دينهم ولا يقبلون منهم قولهم ودعوتهم وليس هذا مخصوصا بك وبدينك وكتابك وَبالجملة لا تحزن عليهم إذ قد كَفى بِرَبِّكَ اى كفى ربك لك هادِياً يرشدك الى مقصدك ويغلبك على عدوك وَنَصِيراً حسيبا يكفيك ويكف عنك مؤنة شرورهم وعداوتهم وانكارهم
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا على سبيل الإنكار والتكذيب للقرآن والرسول على وجه الاعتراض والاستهزاء لَوْلا هلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً من عند ربه كالكتب الثلاثة على الأنبياء الماضين يعنى انهم قد استدلوا بنزوله منجما على انه ليس من عند الله إذ من سنته سبحانه إنزال الكتب من عنده جملة واحدة كالكتب السالفة قال سبحانه تسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وردا للمنكرين انما أنزلناه كَذلِكَ اى منجما متفرقا لِنُثَبِّتَ نقوى ونشيد بِهِ فُؤادَكَ يا أكمل الرسل ونمكنك على حفظه نجوما لان حالك مخالف لحال موسى وداود وعيسى صلوات الله عليهم إذ هم اهل الإملاء والإنشاء والكتابة وأنت أمي ولان انزاله عليك بحسب الوقائع والأغراض والإنزال حسب الوقائع والأغراض ادخل في التأييد الإلهي وَلهذه الحكمة العلية والمصلحة السنية قد رَتَّلْناهُ وتلوناه لك وقرأناه عليك تَرْتِيلًا تدريجيا شيأ بعد شيء على التراخي والتؤدة في عرض عشرين سنة او ثلاث وعشرين
وَايضا من جملة حكمة انزاله منجما انه لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ عجيب غريب يضربون لك جدلا ومكابرة في وقت من الأوقات وحال من الحالات على تفاوت طبقاتهم إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ اى قد جئناك بالمثل الحق على طريق البرهان تأييدا لك وترويجا لأمرك ودينك أوضح بيانا وابلغ تبيانا مما قد جاءوا به وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً كشفا وتبيينا وكيف يتأتى لهم المعارضة والمجادلة معك يا أكمل الرسل مع تأييدنا إياك في النشأة الاولى والاخرى وهم في الدنيا مقهورون مغلوبون
وفي الآخرة هم الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ويسحبون عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان وبالجملة أُوْلئِكَ الأشقياء المردودون عن شرف القبول شَرٌّ مَكاناً منقلبا ومصيرا وَأَضَلُّ سَبِيلًا واخطأ طريقا. اهدنا بفضلك سواء سبيلك
ثم أخذ سبحانه في تعداد المنكرين الخارجين على رسل الله المكذبين لهم المسيئين الأدب معهم وما جرى عليهم بسوء صنيعهم من انواع العقوبات والنكبات فقال وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ اى التورية المشتملة على الاحكام ليبين الأنام ما فيها من الأوامر والنواهي المصفية للنفوس المنغمسة بالمعاصي والآثام ليستعدوا بقبول المعارف والحقائق المنتظرة لهم المكنونة في استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً ظهيرا له يوازره ويعاون له في ترويج دينه وتبيين احكام كتابه وبعد ما ايدناهما بانزال التورية واظهار المعجزات
فَقُلْنَا لهما اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا واستقلالنا في تصرفات ملكنا وملكوتنا ارادة واختيارا يعنى فرعون وهامان ومن معهما من العصاة والبغاة الهالكين في تيه(2/27)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
العتو والعناد وادعوهم الى توحيدنا واظهرا الدعوة لهم فذهبا بمقتضى الأمر الوجوبي فدعوا فرعون وقومه الى ما امرا فأبوا عن القبول وكذبوهما واستهزؤا معهما كبرا وخيلاء فأخذناهم بتكذيبهم واستنكافهم فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً اى قد أهلكناهم إهلاكا كليا بحيث لم يبق احد منهم على وجه الأرض
وَقد دمرنا ايضا قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ اى حين كذبوا نوحا ومن مضى قبله من الأنبياء إذ قد أمرهم نوح بتصديقهم ايضا والايمان بهم فكذبوا به اصالة وبهم تبعا لذلك أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان جميعا وَجَعَلْناهُمْ اى قد جعلنا اغراقنا إياهم بالمرة لِلنَّاسِ المعتبرين من أمثال هذه الوقائع والخطوب العظام آيَةً علامة وعبرة يعتبرون منها ويستوحشون من إلمام أمثالها إياهم لذلك يحسنون الأدب مع الله ورسوله خوفا من بطشه وانتقامه وَكيف لا يخافون من بطشنا وانتقامنا إذ قد أَعْتَدْنا وهيئنا لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات حدودنا وأحكامنا عَذاباً أَلِيماً مؤلما أشد إيلام وانتقمنا منهم صعب انتقام
وَقد دمرنا ايضا عاداً وَثَمُودَ يعنى قوم هود وصالح عليهما السلام المكذبين لعموم الأنبياء بتكذيبهم إياهما وانكارهم على ما قد ظهر عليهما من الدعوة الى طريق الحق وَكذا قد دمرنا أَصْحابَ الرَّسِّ ايضا بتكذيبهم رسولهم قيل هم كانوا يعبدون الأصنام فأرسل الله سبحانه إليهم شعيبا عليه السلام فكذبوه وهم يسكنون حينئذ حول الرس وهو البئر الغير المطوية فانهارت فخسف بهم وبديارهم وقيل الرس قرية بفلج اليمامة قد كان فيها بقية قوم ثمود فبعث الله إليهم نبيا فقتلوه فهلكوا وقيل اصحاب الرس هي اصحاب الأخدود وقيل قرية بانطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار وقيل هم اصحاب حنظلة بن صفوان النبي عليه السلام ابتلاهم الله بطير عظيم كان فيها من كل لون وسموها عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتخ او دمخ وكانت تنقض على صبيانهم فتخطفهم وقت إذ أعوزها الصيد فلذلك سميت مغربا فدعا عليها حنظلة عليه السلام فاصابتها الصاعقة ثم انهم قد كذبوا حنظلة عليه السلام فقتلوه فاهلكوا لذلك وقيل قوم قتلوا نبيهم ورسوه اى دسوه في بئر وَبالجملة قد دمرنا بواسطة تكذيب رسلنا قُرُوناً أخر اى اهل قرون وإعصار قيل القرن أربعون سنة وقيل مائة وعشرون سنة بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الأمم الهالكة كَثِيراً لا يعلم عددها الا الله
وَبالجملة كُلًّا اى كل واحد من الأمم الهالكة المذكورة وغير المذكورة قد ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أولا من الذين هلكوا قبلهم بالتكذيب وبينا له الاحكام والشرائع الموضوعة على مقتضى حكتنا ومصلحتنا فكذبوها ظلما وعدوانا فأهلكناهم بتكذيبهم خيبة وخسرانا بواسطة تلك الخصلة المذمومة المشتركة بينهم وَكُلًّا منهم قد تَبَّرْنا وفتتنا اجزاءه تَتْبِيراً تفتيتا شديدا وتشتيتا بليغا الى حيث لم يبق منهم احد يخلفهم ويحيى اسمهم
ثم أخذ سبحانه بتعيير قريش وتوبيخهم وبيان قساوة قلوبهم وشدة شكيمتهم مع رسول الله وكمال غيهم وغفلتهم عن الله ونهاية عمههم وسكرتهم وعتوهم واستكبارهم وخيلائهم في أنفسهم بحيث لم يتأثروا ولم يتعظوا مما جرى على أمثالهم من العصاة البغاة المتمردين عن الله ورسله فقال سبحانه مؤكدا بالقسم على سبيل التعجب من شدة قسوتهم وَالله لَقَدْ أَتَوْا يعنى القريش كانوا يذهبون الى الشأم للتجارة ويمرون في كل مرة ذهابا وإيابا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي قد أُمْطِرَتْ على أهلها مَطَرَ السَّوْءِ يعنى الحجارة قهرا من الله إياهم وزجرا لهم من سوء فعالهم وخروجهم عن حدود الله وسوء الأدب مع الله ورسوله(2/28)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
يعنى لوطا والقرية سدوم معظم بلاد قوم لوط أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في مرات مرورهم حتى يتذكروا ويتعظوا منها بَلْ كانُوا يرونها في كل مرة إذ هي على طرف الطريق لكن بكفرهم بالله وبكمال قدرته وعزته لا يَرْجُونَ ولا يأملون نُشُوراً اى يوم ينشرون ويحشرون فيه للجزاء ولا يخافون مما سيجرى عليهم فيه لذلك لم يعتبروا ولم يتعظوا منها ومما جرى على أهلها
وَمن كمال استكبارهم وشدة غيظهم معك يا أكمل الرسل إِذا رَأَوْكَ في المرأى إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وما يحدثون عنك وفي شأنك إِلَّا هُزُواً كلاما مشعرا بالاستهانة والاستحقار والسخرية حيث يقولون في كل مرة من مرات رؤيتهم بك متهكمين أَهذَا الَّذِي قد بَعَثَ اللَّهُ إليكم رَسُولًا يرشدكم ويهديكم الى توحيد ربه ويقيم لكم الحجج والبراهين ليصرفكم عن الهتكم وآلهة آبائكم واسلافكم
ومن كمال جده وجهده في شأنه ونهاية سعيه واجتهاده إِنْ كادَ اى انه قد قرب لَيُضِلُّنا ويصرفنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا اى ثبتنا أقدامنا ومكنا قلوبنا ووطنا أنفسنا عَلَيْها اى على عبادة آلهتنا لصرفنا عن آلهتنا البتة وأضلنا عن طريق عبادتهم بسعيه التام وجده البليغ المفرط في ترويج دينه واثبات دعواه وكثرة اظهار ما يخيل له انها حجج ومعجزات وكمال فصاحته في تبيينها وبالجملة لولا صبرنا وثباتنا على ديننا لضللنا عن آلهتنا بإضلاله البتة قال سبحانه ردا عليهم على وجه التنذير والتوبيخ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أولئك الحمقى الجاهلون حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ النازل عليهم مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا واخطأ طريقا وأسوأ حالا ومآلا أنتم ايها الجاهلون المصرون على الجهل والعناد أم المؤمنون.
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ لعامة المشركين المتخذين الها من غير الله سواء كانوا مشركين بالشرك الجلى او الخفى المسندين الأفعال والحوادث الكائنة في عالم الكون والفساد الى الأسباب والوسائل العادية بمقتضى اهوية نفوسهم وما ذلك الا لجهلهم بالله وغفلتهم عن احاطة علمه وقدرته وجميع أوصافه وأسمائه بجميع ما ظهر وبطن وكان ويكون أَرَأَيْتَ اى أخبرني يا أكمل الرسل ان كنت من اهل الخبرة والذكاء أتهدي أنت وترشد بسعيك وجهدك الى طريق التوحيد ودين الإسلام مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ اى من اتخذ هوى نفسه ومشتهى قلبه الها يعبده كعبادة الله قدم المفعول الثاني للعناية والاهتمام أَفَأَنْتَ يا أكمل الرسل تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا تحفظه عن متابعة هواه ومقتضى طبعه مع انا قد جبلناه على تلك الشقاوة والغي والغباوة وأثبتناه في لوح قضائنا وحضرة علمنا كذلك
أَمْ تَحْسَبُ أنت وتظن من غاية حرصك وشغفك على ايمان هؤلاء الهلكى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر المشركين يَسْمَعُونَ كلمة التوحيد سمع قبول ورضاء أَوْ يَعْقِلُونَ ويفهمون معناه وليس بينهم عارف متدرب متدبر الا من سبقت له العناية الازلية والتوفيق بل إِنْ هُمْ وما أكثرهم في حدود ذواتهم إِلَّا كَالْأَنْعامِ يأكلون ويمشون وعن السمع والشعور الفطري معزولون بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا منها إذ هم مجبولون على فطرة المعرفة والشعور والانعام ليس كذلك فهم أسوأ حالا منها فكيف لا يكونون أسوأ حالا وأضل سبيلا من الانعام ومع استعدادهم وقابليتهم لقبول فيضان أنوار التوحيد ومعرفة كيفية سريان الوحدة الذاتية وامتداد اظلالها على هياكل المظاهر والموجودات قد صاروا محرومين عنها وعن شواهدها والاطلاع عليها غافلين عن لذاتها مع انهم انما جبوا لان يدركوها ويشاهدوا عليها وينكشفوا بسرائرها ومع ذلك لا يجتهدون في شأنها بل لا يلتفتون ايضا مع انه سبحانه قد أشار إليها وصرح بها في كتابه العزيز إرشادا لنبيه العزيز صلّى الله عليه وسلّم(2/29)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
وتنبيها على من تبعه من المؤمنين ليتفطنوا منها الى مبدئهم ومعادهم ويتصفوا بكمال المعرفة والتوحيد فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذا مثال هذه الخطابات الحبيبية لا يسع في سمع غيره صلى الله عليه وسلم
أَلَمْ تَرَ ايها المسترشد البصير والمستكشف الخبير إِلى رَبِّكَ اى مربيك الذي رباك بأنواع الكمالات وهداك الى أعلى المراتب وارفع الدرجات كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ اى كيف مهد وبسط اظلال أوصافه وأسمائه وعكوس شئونه وتطوراته على مرايا الاعدام القابلة للتأثر فيتراءى فيها حسب اقتضاء أسمائه الحسنى وصفاته العليا ما لا يتناهى من الصور العجيبة والهياكل الغريبة حتى توهم المحجوبون الفاقدون بصر البصيرة وظنوا انها موجودات حقيقية متأصلة في الوجود مستقلة في الآثار المرتبة عليها ثم افترقوا فذهب قوم الى انها موجودات متأصلة مستقلة بأنفسها مستغنية عن فاعل خارجى يؤثر فيها الا وهم الدهريون القائلون بان الطبيعة تكفى في تكون الأشياء وإذا وجدت الشرائط وارتفعت الموانع تكون الشيء البتة بلا احتياج الى فاعل خارجى مؤثر في وجوده ولم يتفطنوا أولئك الحمقى العمى ان هذه الصور المرئية والاظلال المحسوسة والعكوس المتشعشعة اللامعة عن سراب العدم باقية على عدمياتها الاصلية ما شمت رائحة من الوجود سوى ان ظل الوجود قد انبسط عليها وانعكس منها وآخر الى انها موجودات حقيقية قديمة بالنوع لها صور ومواد قديمة محتاجة الى فاعل خارجى مؤثر موجب بمقارنة الصورة للمادة وهذا مذهب جمهور الحكماء وهؤلاء الهلكى القاصرون عن درك الحق ومعرفته لم يتنبهوا ايضا ان لا قديم في الوجود الا الله الواحد القهار لمطلق السوى والأغيار وآخر الى انها موجودات حقيقية قد ابدعها الله تعالى من العدم على حسب علمه وقدرته واختياره وارادته بلا وجوب شيء عليه في إيجادها وبلا سبق مادة ومدة عليها وهذا مذهب جمهور المتكلمين المليين وهؤلاء ايضا لم يتفطنوا ان العدم لا يقبل الوجود أصلا كما ان الوجود لا يقبل العدم قطعا إذ بينهما تناقض وتضاد حقيقى وتقابل ذاتى لا يتصف أحدهما بالآخر مطلقا ومنشأ توهم هؤلاء الفرق الثلاث اقتصار نظرهم على الصور المرئية ظاهرا وغفلتهم وذهولهم عن ذي الصورة الذي هي اى الصور المرئية والأشباح المحسوسة عكوس واظلال وآثار له ولو علموا ارتباط هذه الصور المرئية المعدومة بذي الصورة وكوشفوا بوحدة الوجود وشهدوا ان لا موجود الا الله الواحد القهار لجميع السوى والأغيار لم يبق لهم شائبة شك في عدمية هذه الصور المرئية كما لا شك لهم في عدمية الصور المرئية في المرايا والعكوس والاظلال المحسوسة في الماء. ومن لم يجعل الله نورا فماله من نور وَبالجملة لَوْ شاءَ وأراد سبحانه عدم انبساط عكس وجوده وإبقاء العدم على صرافته ولم يجعله مرآة لكمالات جود وجوده ولم يلتفت اليه ولم يتجل عليه لَجَعَلَهُ ساكِناً اى لجعل ظل وجوده مقبوضا غير مبسوط ولفنى العالم دفعة وزال وذهب ما فيه من الصور والأشباح لزوال اسبابها واربابها ثُمَّ أوضحنا هذا المد والبسط بمثال واضح من جملة المحسوسات عناية منا لعبادنا حيث جَعَلْنَا الشَّمْسَ حسب إضاءتها وإشراقها وانبساط نورها وشعاعها على ظلمة الليل المشابه بالعدم عَلَيْهِ اى على بسط الوجود على مرايا الاعدام دَلِيلًا أمثالا واضحا موضحا لكيفية امتداد اظلال الوجود وانعكاسها من العدم وذلك ان الشمس إذا أخذت في الإشراق وبسطت النور على الآفاق قد استنار العالم بعد ما كان مظلما وإذا غربت وقضبت عاد العالم على ظلمته التي كان عليها
ثُمَّ اى بعد قد بسطنا ظل وجودنا على هياكل المظاهر والموجودات قَبَضْناهُ إِلَيْنا دفعا لتوهم الشركة المنافية لصرافة(2/30)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
التوحيد وان كان بحسب الظاهر إذ لا موجود حقيقة الا الواحد القهار قَبْضاً يَسِيراً سهلا بان قدر ناله التغير والتجدد على تعاقب الأمثال ليدل على ان لا وجود لها لذاتها إذ لو كان وجود من نفسها لم يطرأ عليها التغير والانتقال مطلقا فعلم من هذه التغيرات الواقعة في الأكوان ان لا وجود لها لذاتها في الحقيقة بل لا وجود حقيقة الا للواجب الذي هو نفس الوجود المنبسط عليها.
ثم نزل سبحانه عن خطاب حبيبه صلّى الله عليه وسلّم في المعارف والحقائق المتعلقة بالوحدة الذاتية السارية في الأكوان وكيفية ارتباط الأكوان عليها الى مخاطبة العوام على مقتضى استعداداتهم وقابلياتهم فقال وَكيف تغفلون أنتم عن مبدعكم ومظهركم ايها الغافلون مع انه هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً تسترون بظلمته عن أعين الناس لئلا يطلع بعضكم مقابيح بعض وَايضا قد جعل النَّوْمَ فيه سُباتاً راحة للأبدان بعد قطع المشاغل وقضاء الأوطار المتعلقة بالنهار وَايضا قد جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً تنتشرون فيه في اقطار الأرض لطلب المعاش كل ذلك بتقدير الله وتدبيره وإصلاحه لأمور عباده
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً مبشرا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى قدام المطر يبشركم بنزوله وَبعد تبشيرنا إياكم بالرياح المبشرات قد أَنْزَلْنا من مقام جودنا مِنَ جانب السَّماءِ ماءً طَهُوراً متناهيا في الطهارة والنظافة بالغا أقصى غايتها
لِنُحْيِيَ بِهِ اى بالماء بَلْدَةً مَيْتاً قفرا يابسا جامدا بأنواع النباتات والخضروات وَنُسْقِيَهُ اى بالماء مِمَّا خَلَقْنا في البراري والبوادي أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً وهي جمع انسان حذف نونه وعوض منها الياء فأدغم او جمع انسى خصهم بالذكر لان اهل الحضر يسكنون قريب المنابع والأنهار وهم ودوابهم انما يسقون من المطر لبعدهم عن المنابع والأنهار
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ اى المطر بَيْنَهُمْ انعاما لهم وإصلاحا لحالهم وكررنا ذكره في هذا الكتاب وكذا في الكتب السالفة لِيَذَّكَّرُوا ويتفكروا في جلائل نعمنا وانعامنا ويواظبوا على شكرها لنزداد لهم ومع ذلك فَأَبى وامتنع أَكْثَرُ النَّاسِ عن قبوله وتذكره بل ما ازدادوا إِلَّا كُفُوراً اى كفرانا للنعم وإنكارا لمنعمها حيث يقولون منكرين على المنعم قد مطرنا بنوء كذا
وَمن شدة بغيهم وكفرانهم لَوْ شِئْنا وتعلقت مشيئتنا لإنذار كل منهم بمنذر مخصوص لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ من القرى نبيا نَذِيراً ينذرهم عما هم عليه من الكفران والطغيان ولكن قد بعثناك يا أكمل الرسل الى كافتهم وعامتهم تعظيما لشأنك وإجلالا لقدرك ومكانك فلك ان لا تعي من أعباء رسالتنا وتبليغ ما امرناك به ولا تلتفت الى مزخرفاتهم التي أرادوا ان يخدعوك بها
وبالجملة فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والكفران والعناد والطغيان بحال ولا تتبع أهواءهم مطلقا بل وَجاهِدْهُمْ بِهِ اى بدينك هذا جِهاداً كَبِيراً حتى تقمع وتقلع دينهم الباطل عن أصلها وتروج دينك الحق ترويجا بليغا الى حيث يظهر دينك على الأديان كلها وكفى بالله حسيبا
وَقل لهم تنبيها عليهم كيف تغفلون عن ربكم وتنصرفون عن دينه الموضوع فيكم إصلاحا لحالكم مع انه سبحانه هُوَ الحكيم العليم الَّذِي قد مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ اى الشرك والتوحيد وكلاهما متجاورين متلاصقين في فضاء الوجود مع انه هذا اى التوحيد عَذْبٌ فُراتٌ سائغ شرابه للمتعطشين بزلاله وَهذا اى الشرك والكفر مِلْحٌ أُجاجٌ اى مر مالح في كمال الملوحة والمرارة بحيث يقطع أمعاء شاربيها وَمن كمال لطف الله ومرحمته على عباده قد جَعَلَ سبحانه دين الإسلام والشريعة المصطفوية الموضوعة لضبطه بَيْنَهُما(2/31)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
اى بين التوحيد والشرك بَرْزَخاً مانعا من التصاقهما واتصالهما وَقد جعله حِجْراً مَحْجُوراً اى حدا حصينا محدودا مانعا عن امتزاجهما واختلاطهما
وَكيف تنكرون ايها المنكرون سريان وحدته الذاتية على صفائح مظاهره مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي خَلَقَ اى اظهر وأوجد تنبيها لعباده على سر توحيده مِنَ الْماءِ اى النطفة بَشَراً سويا ذا أجزاء مختلفة طبعا وشكلا صلابة ولينا قوة وضعفا رقة وغلظا الى غير ذلك من الصفات المتقابلة والاجزاء المتفاوتة التي قد عجزت عن تشريح جزء من أجزاء شخص من اشخاص نوع الإنسان فحول الحكماء مع توفر دواعيهم لكشفها الى حيث تاهوا وتحيروا عن ضبط ما فيه من الامتزاجات والارتباطات فكيف عن جميع اجزائه وبعد ما قد قدره سبحانه وسواه بكمال قدرته وقوته ووفور حكمته قسمه قسمين فَجَعَلَهُ نَسَباً وقد جعل قسما منه ذكرا ذا نسب ونسل نسب اليه من يخلفه من أولاده الحاصلة من نطفة وَجعل قسما آخر منه صِهْراً أنثى يصاهر بها اى يختلط ويمتزج الذكر معها إبقاء للنوع وتتميما له لبقائه على سبيل التناسل والتوالد الى ما شاء الله وَبالجملة قد كانَ رَبُّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل على كمال الذكاء والفطنة في فهم دقائق توحيده ورقائق تجلياته الجلالية والجمالية قَدِيراً على كل ما أراد وشاء بلا فتور وقصور
وَمع كمال قدرته سبحانه وعلو شانه وسطوع برهانه يَعْبُدُونَ من خبث طينتهم وشدة قسوتهم وضغينتهم مِنْ دُونِ اللَّهِ الحقيق بالمعبودية الوحيد في الربوبية والألوهية ذاتا ووصفا واسما ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ يعنى أصناما وأوثانا لا يرجى نفعهم ولا ضرهم لا لأنفسهم ولا لغيرهم وبالجملة لا يملكون شيأ من لوازم الألوهية والربوبية مطلقا وَبالجملة قد كانَ الْكافِرُ الجاهد الجاهل بذات الله وبكمالات أسمائه وصفاته عَلى رَبِّهِ الذي رباه بمقتضى أوصافه وأسمائه ظَهِيراً يظهر عليه بالباطل ويظاهره وينبذ الحق وراء ظهره ويخالفه ولا يلتفت اليه عتوا واستكبارا
وَما أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً الى كافة البرايا وعامة العباد لتبشرهم وترشدهم على ما ينفعهم وتنذرهم عما يضرهم يعنى تهديهم الى المعرفة والتوحيد الذي هم جبلوا لأجله وتمنعهم عن المفاسد المنافية له ولطريقه وان نسبوك يا أكمل الرسل الى أخذ الجعل والرشى لإرشادك وهدايتك إياهم
قُلْ لهم تبكيتا وإلزاما ما أَسْئَلُكُمْ وما اطلب منكم عَلَيْهِ اى على تبليغى إياكم ما اوحى الى من ربي وإرشادي لكم بمقتضى الوحى الإلهي مِنْ أَجْرٍ جعل ومال آخذه منكم واجعله سببا للجاه والثروة وانواع المفاخرة والمباهات بها كما هو عادة الجهلة المتشيخين في هذا الزمان هم من عونة الشيطان نسبوا أنفسهم الى الصوفية المتشرعين تلبيسا وتغريرا وأخذوا من ضعفاء العوام من حطام الدنيا بعد ما أفسدوا عقائدهم بأنواع التلبيسات والتدليسات وتحليل المحرمات واباحة المحظورات واختزنوها ثم ادعوا بسببها السيادة والرياسة حتى مضوا عليها زمانا وكثروا الاتباع والاحشام بها وهيئوا الأعوان والأنصار بتلبيسهم هذا ثم بعد ذلك قد بغوا على السلطان وقصدوا الخروج على اولى الأمر والطاعة واشتغلوا بتخريب البلدان وإضرار اهل الايمان وقصدوا اموال الأنام واعراضهم وسبى ذراريهم ومع ذلك قد سموا أنفسهم اهل الحق والعدل واصحاب المعرفة والايمان وارباب اليقين والعرفان الا ذلك هو الخسران المبين والطغيان العظيم عصمنا الله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا بل ما أريد واطلب بتبليغي هذا إِلَّا هداية مَنْ شاءَ وأراد سبحانه بتوفيقه إياه ممن قد سبقت لهم العناية الازلية أَنْ يَتَّخِذَ(2/32)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
ويطلب إِلى رَبِّهِ الذي رباه بأنواع الكمالات سَبِيلًا يوصله الى معرفته وتوحيده
وَان انصرفوا عنك يا أكمل الرسل واعرضوا عن هدايتك وارشادك وقصدوا مقتك وقتلك عدوانا وظلما لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبشأنهم ولا تحزن عن أمرهم هذا بل تَوَكَّلْ في مقابلتهم ومقاومتهم عَلَى الْحَيِّ القيوم الَّذِي لا يَمُوتُ اى لا يطرأ عليه الموت والفناء وَسَبِّحْ ربك ونزهه عما لا يليق بشأنه مقارنا تسبيحك بِحَمْدِهِ على آلائه ونعمائه الفائضة عليك على التعاقب والتوالي سيما على ما قد اصطفاك من بين البرايا واعطاك الرياسة والسيادة على كافة الأنام والرسالة العامة على قاطبة الأمم وبلغ ما انزل إليك ولا تفرح من ايمانهم ولا تحزن ايضا على كفرهم وطغيانهم وَاعلم انه كَفى بِهِ اى كفى الله سبحانه بِذُنُوبِ عِبادِهِ ما ظهر منهم وما سيظهر وما بطن في استعداداتهم وكمن في قابلياتهم خَبِيراً مطلقا بصيرا على وجه الحضور والشهود ولا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط شيء منها ومجازيا قديرا ومنتقما عزيزا يجازيهم بقدرته بمقتضى اطلاعه وخبرته
وكيف لا يعلم ولا يطلع سبحانه بعموم ما ظهر وما بطن إذ هو القادر الخالق الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى ابدعهما واظهرهما وَما بَيْنَهُما من كتم العدم بلا سبق الهيولى والزمان فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اى في الجهات والأقطار الستة المحفوفة بها عموم الكوائن والفواسد ثُمَّ بعد ما كمل ترتيبها على ابلغ النظام قد اسْتَوى وتمكن وبسط واستولى عَلَى الْعَرْشِ اى عروش عموم المظاهر بالاستيلاء التام والبسطة العامة الغالبة الرَّحْمنُ الذي قد وسعت رحمته وعمت مرحمته على كل ما ظهر وما بطن غيبا وشهادة فَسْئَلْ بِهِ اى بما ذكر من خبرة الله واحاطة علمه وقدرته وإظهاره عموم ما برز وخفى وغاب وشهد واحاطته وشموله واستيلائه على عروش عموم الأكوان بالرحمة العامة الشاملة خَبِيراً بصيرا اذله خبرة تامة وولاية كاملة يخبرك بصدقها ارباب القلوب الصافية الواصلين الى مرتبة الكشف والشهود ممن سبقت لهم العناية الازلية وجذبته الجذبة الجالبة الغالبة الإلهية من قبل الحق المفنية لهم عن ذنوب انانياتهم الباطلة المبقية لهم ببقاء الحق الحقيق بالحقية
وَمع ظهور استيلاء الحق وانبساطه على عروش ذرائر الأكوان إِذا قِيلَ لَهُمُ على وجه الإيقاظ عن نعاس النسيان والتنبيه عن نومة الحرمان ورقدة الخذلان اسْجُدُوا واخضعوا وتذللوا لِلرَّحْمنِ المظهر من كتم العدم بسعة رحمته وجوده قالُوا منكرين له مع كمال ظهوره مستفهمين على سبيل الاستغراب والاستبعاد وَمَا الرَّحْمنُ الذي أنت تدعونا الى سجوده وقد أتوا في سؤالهم بلفظة ما من غاية نكارته عندهم وشدة انكارهم عليه قائلين ايضا أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا يعنى انخضع ونتذلل اى كل منا لكل مما تأمرنا بسجوده وتذلله أنت من تلقاء نفسك بلا برهان لاح لدينا ودليل ظهر علينا وَبالجملة ما زادَهُمْ قولك وأمرك هذا إياهم الا نُفُوراً عن الحق وطريق توحيده بخبث طينتهم وشدة شكيمتهم وغاية غيهم وقسوتهم
وكيف يتنفرون وينصرفون أولئك الجاهلون الغافلون عن سجوده سبحانه مع انه قد تَبارَكَ وتعالى شأنه ان ينصرف عنه ويتنفر عن عبادته احد من عباده سبحانه مع كثرة خيراته وبركاته عليهم لأنه الَّذِي قد جَعَلَ فِي السَّماءِ اى العلويات بُرُوجاً لتكون منازل الكواكب المدبرة للأمور الارضية وَبعد ما هيأها سبحانه على ابلغ النظام وابدعه قد جَعَلَ فِيها سِراجاً اى شهبا مضيئة دائرة من بروج الى بروج وَقَمَراً مُنِيراً منقلبا من منزل الى منزل من المنازل المذكورة المعروفة(2/33)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
ليحصل من دورانهما وانقلاباتهما الفصول الاربعة المصلحة لأحوال ما في السفليات من المواليد الثلاثة
وَكيف تغفلون عن الصانع الحكيم ايها الضالون المكابرون مع انه سبحانه هُوَ الحكيم العليم المدبر العظيم الَّذِي جَعَلَ لكم اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً متعاقبة متجددة مخلفا أحدهما بالآخر ليكونا مرصدا وميقاتا لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ يتذكر لآلاء الله المتوالية المتتالية عليه الفائضة من عنده على تعاقب الأوقات والآنات وتتابع الازمنة والساعات أَوْ أَرادَ شُكُوراً اى أراد ان يشكر على نعمائه الواصلة اليه في خلالهما
وَالمتذكرون لآلاء الله المواظبون لأداء حقوقها حسب طاقتهم وقدر قوتهم هم عِبادُ الرَّحْمنِ الواصلون الى مرتبة الرضوان الفائزون بلقاء الحنان المنان اللائح على صفائح الأكوان وعلامتهم انهم الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى وجه الْأَرْضِ التي هي محل انواع الفتن والفسادات هَوْناً هينين لينين بلا منازعة وجدال مع احد من بنى نوعهم وبلا سوء خصال وقبح فعال معهم من كبر وخيلاء وعجب ورياء وَهم من كمال سكينتهم ووقارهم وتلطفهم لعباد الله إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ بعلو شأنهم ورفعة مكانتهم ومكانهم سيما بما يكرهون من الشتم والوقاحة والاستهزاء قالُوا من سلامة نفوسهم وطيب قلوبهم سَلاماً وتسليما عليهم بلا تغير منهم وتأثر من قولهم وتركا لانتقامهم ومخاصمتهم توطينا لنفوسهم على التسليم والرضا بجريان القضاء من غاية الحلم وكظم الغيظ هكذا حالهم وشغلهم بين الناس في النهار
واما في الليل وَهم الَّذِينَ يَبِيتُونَ ويدخلون في الليل بائتين قد صاروا في خلاله لِرَبِّهِمْ سُجَّداً ساجدين واضعين جباههم على تراب المذلة والهوان طلبا لمرضاة الله بلا شوب السمعة والرياء والعجب والهوى لكونهم خالين في خلاله مع الله بلا وقوف احد عليهم وَقِياماً قائمين بين يدي الله تواضعا وإكراما
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ في مناجاتهم مع الله ورفع حاجاتهم نحوه سيما أعقاب صلواتهم وتهجداتهم في خلواتهم رَبَّنَا يا من ربانا بأنواع الكرامات اصْرِفْ عَنَّا بفضلك وجودك عَذابَ جَهَنَّمَ المعدة لعصاة عبادك إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً حتما لازما لنا لولا فضلك بنا وإحسانك علينا فإنهم مع كمال توجههم وتحننهم نحو الحق على وجه الإخلاص ورسوخهم في الأعمال الصالحة الخالصة بلا فوت شيء من لوازمها خائفون وجلون عن بطشه سبحانه وانتقامه لأنهم لا يتكؤن ولا يتكلون الى أعمالهم وطاعاتهم ولا يثقون بها بل ما يعتمدون ولا يثقون ولا يتمسكون الا بفضل الله وسعة رحمته وجوده قائلين مستبعدين من النار إِنَّها اى جهنم البعد والحرمان قد ساءَتْ مُسْتَقَرًّا لا يستقر احد فيها ساعة وآنا وَكيف ان يكون لنا مُقاماً نقيم فيها زمانا
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا مما رزقهم الله من الأطائب المكتسبة بالأيدي على الفقراء والمساكين لَمْ يُسْرِفُوا في الانفاق الى ان وصل حد التبذير المذموم عقلا وشرعا وَلَمْ يَقْتُرُوا في الإمساك والمنع ايضا الى ان وصل حد التقتير المحرم المكروه المنكر شرعا وعقلا ومروءة وعادة وَبالجملة قد كانَ انفاقهم بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وسطا عدلا بين طرفي الإفراط والتفريط المذمومين الساقطين عن درجة الاعتبار عند الله وعند المؤمنين المسقطين للنفس عن الاعتدال الحقيقي المقبول عند الله وعند عموم عباده
وَبالجملة أولئك المعتدلون المقسطون هم الموحدون الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الواحد المستقل بالالوهية والربوبية إِلهاً آخَرَ يستحق للعبودية مثله وَمن جملة خصائلهم الحميدة انهم لا يَقْتُلُونَ بحال من الأحوال النَّفْسَ الَّتِي(2/34)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
قد حَرَّمَ اللَّهُ الحكيم العليم المتقن في أفعاله وأحكامه قتلها إذ كل نفس من النفوس البشرية انما وضعت وبنيت لتكون بيتا لله مهبطا لوحيه والهامه منزلا ومحلا لحلول سلطان وحدته الذاتية ومجلى لظهور أسمائه الحسنى وصفاته العظمى فلا يصح ولا يجوز هدم بيته وتخريب بنائه إِلَّا بِالْحَقِّ اى بالرخصة الشرعية الموضوعة بوضع الله سبحانه حدا او قصاصا وَمن جملة أخلاقهم الحميدة انهم لا يَزْنُونَ عدوانا وعدولا عن مقتضى الحد الشرعي والوضع الإلهي في حفظ النسب وعن اختلاط النطف والمياه إذ هو من اخس المحرمات وافحش المحظورات لذلك عقبه سبحانه بالوعيد الهائل تنبيها لفظاعتها فقال وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اى الزنا التي هي الفعلة الشنيعة والديدنة القبيحة المتناهية في القبح والشناعة المستكرهة عند الطبائع السليمة المسقطة للمروءة الفطرية والعدالة الإلهية يَلْقَ يوم الجزاء أَثاماً اى جزاء مسمى بالآثام مبالغة وتأكيدا كان اسم الإثم موضوع له حقيقة وهو الجامع لجميع ما يطلق عليه اسم الإثم مبالغة ادعاء لذلك
يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا تضعيفا مرة بل أضعافا كثيرة وَمع ذلك التضعيف والتشديد يَخْلُدْ ويدم فِيهِ اى في العذاب مُهاناً صاغرا ذليلا بين عموم اهل النار إذ الزنا من أقبح الجرائم عند الله وأفحشها إذ لا جرم عنده سبحانه أعظم من هتك محارمه أعاذنا الله وعموم عباده من ذلك
إِلَّا مَنْ تابَ عما جرى عليه من سوء القضاء ورجع الى الله نادما عن فعله خائبا خاسرا مستحيا من الله خائفا عن بطشه مكذبا لنفسه معيرا عليها متأوها متحسرا عما صدر عنها وَمع ذلك قد آمَنَ بتوحيد الله وأكد توبته بتجديد الايمان المقارن بالإخلاص الصائن للمؤمنين عن ارتكاب عموم المحظورات المنافية للايمان وَبالجملة قد جدد إيمانه معتقدا انه حين صدور الزنا عنه لم يكن مؤمنا ومع اظهار التوبة على وجه الندم والإخلاص وتجديد الايمان ساعة فساعة قد عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً منبئا عن إخلاصه في إيمانه وتوبته مشعرا على يقينه ومعرفته دالا على انابته ورجوعه عن ظهر القلب وصميم الفؤاد فَأُوْلئِكَ السعداء التائبون الآئبون المقبولون هم الذين يُبَدِّلُ اللَّهُ الحكيم المصلح لأحوال عباده بعد ما وفقهم على التوبة الخالصة والانابة الصحيحة الوثيقة سَيِّئاتِهِمْ التي قد أتوا بها قبل التوبة حَسَناتٍ بعدها بان يمحو سبحانه بفضله معاصيهم المثبتة في صحائف أعمالهم قبل انابتهم ويثبت بدلها حسنات بعدها وَكانَ اللَّهُ المطلع لسرائر عباده وإخلاصهم غَفُوراً لهم متجاوزا عن ذنوبهم وان عظمت بعد ما جاءوا بالتوبة الخالصة رَحِيماً عليهم يقبل توبتهم ويعفو زلتهم
وَبالجملة مَنْ تابَ ورجع الى الله نادما على ما مضى عليه من المعاصي وَعَمِلَ عملا صالِحاً تلافيا لما فات عليه من الطاعات والحسنات جابرا بما انكسر من قوائم إيمانه واعمدة يقينه وعرفانه فَإِنَّهُ يَتُوبُ ويرجع إِلَى اللَّهِ المفضل المحسن الكريم الرحيم مَتاباً توبة مقبولة عند الله مرضية دونه سبحانه
وَبالجملة المؤمنون المقبولون المبرورون عند الله هم الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ والشهادة الباطلة المسقطة للعدالة والمروءة رأسا وَايضا إِذا مَرُّوا فجاءة بغتة بلا سبق ترقب وتجسس بِاللَّغْوِ مطلقا اى ما يجب ان يلقى ويطرح من المكروهات الشرعية والمحظورات والمستهجنات سواء كانت قولية او فعلية قد مَرُّوا عليها كِراماً مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه مستغفرين من الله لمن ابتلاه الله به غاضين أبصارهم عن تدقيق النظر نحوه وتكرير المشاهدة اليه والمبالغة في المطارحة والمطالعة فيه وبالجملة قد مروا باللغو على وجه التلطف والرفق والتستر والتليين(2/35)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
بحيث يستحيى من غاية رفقهم ولطفهم المبتلون به لعل الله يتوب عليهم بكرامة رفقهم وبكرمه سبحانه بحيث لا يحومون حول ذلك اللغو بعد ذلك أصلا ولا يرومونه مطلقا لو جبلوا على فطرة الهداية والكرامة
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا ووعظوا بِآياتِ رَبِّهِمْ الدالة على توحيده واستقلاله في ألوهيته وربوبيته لَمْ يَخِرُّوا ولم يسقطوا عَلَيْها اى على تلك الآيات صُمًّا أصمين غافلين عما فيها من الأوامر والنواهي والعبر والأمثال والرموز والإشارات وَعُمْياناً عميا عن مطالعة آثار أوصافه الجلالية وصفاته الجمالية فيها بل يخرون ويتذللون عند سماعها داعين حافظين بما فيها من المواعظ والتذكيرات المتعلقة لأحوالهم في النشأتين مطالعين منها آثار الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية ناظرين عليها بنظر العبرة والاستبصار مسترشدين منها حسب ما يسر الله لهم ووفقهم عليه
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ داعين نحونا مناجين إلينا متضرعين قائلين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة التوحيد والإيقان هَبْ لَنا بفضلك وسعة لطفك وجودك ممن في حوزتنا وحيطتنا وكشف حفظنا وجوارنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ اى اجعلهم بحيث تقر وتتنور عيوننا برؤيتهم من كمال صلاحهم وسدادهم ممتثلين بعموم أوامرك مجتنبين عن جميع نواهيك وَبعد ما قد وهبت لنا ولاهلينا يا مولانا ما تقر به عيوننا من الاتقاء عن محارمك والامتثال بأوامرك اجْعَلْنا بلطفك لِلْمُتَّقِينَ المحترزين الحذرين الحاذرين الخائفين عن محارمك ومنهياتك إِماماً مقتدى لهم مرشدا إياهم حسب توفيقك وتيسيرك نرشدهم الى طريق توحيدك وسبيل تقريدك وتمجيدك
وبالجملة أُوْلئِكَ السعداء المقبولون عند الله المذكورة اوصافهم من قوله سبحانه وعباد الرحمن الى هنا هم الذين يُجْزَوْنَ عند ربهم تفضلا عليهم وامتنانا الْغُرْفَةَ التي هي عبارة عن أعلى درجات الجنان وارفع مقاماتها كل ذلك بِما صَبَرُوا اى بسبب صبرهم وثباتهم على مشاق الطاعات والعبادات ومتاعب الرياضات والتحمل على قطع التعلقات وترك المألوفات وعلى الذب والانصراف عن جملة المشتهيات والمستلذات وَبعد ما استقروا عليها يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وترحيبا من قبل الملائكة من جميع الجوانب والجهات وَسَلاماً اى سلامة وتسليما لهم عن جميع الآفات والعاهات
خالِدِينَ فِيها اى الجنة لا يتحولون عنها ولا يتبدلون بل دائمون فيها مقيمون لذلك قد حَسُنَتْ الجنة مُسْتَقَرًّا لهم يستقرون فيها ويتمكنون عليها وَمُقاماً يقيمون ويتوطنون.
ثم لما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عموم المشركين الى طريق الايمان والتوحيد وأمرهم بالطاعة والانقياد بعموم ما أمرهم الله ونهاهم سبحانه عنه بمقتضى الوحى والإلهام والكتاب المنزل من عنده وكذبوه وأنكروا له مكابرة وعنادا قائلين نحن لا نؤمن بك ولا بكتابك ولا بربك الذي ادعيت الرسالة من عنده ولا نطيع بما أمرنا به ونهينا عنه مطلقا وبالجملة نحن لا نقبل منك عموم ما جئت به من قبل ربك ونسبته اليه افتراء ومراء رد الله عليهم بقولهم هذا على ابلغ وجه وآكده مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم آمرا له بقوله قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما انصرفوا عن دعوتك وعن الايمان بك وبربك وبكتابك ما يَعْبَؤُا بِكُمْ وما يبالى ولا يعتد لا بايمانكم ولا بكفركم رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ اى إطاعتكم وعبادتكم إياه وانقيادكم له فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أنتم بي وبربي وانكرتم بجميع ما جئت به من عنده سبحانه عنادا ومكابرة الزموا مكانكم فتربصوا وانتظروا لجزاء تكذيبكم وانكاركم فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً اى سيكون جزاء تكذيبكم وانكاركم حتما لازما ملازما عليكم جزما لا مقطع عنكم ابدا بل يكبكم سبحانه في النار خالدين صاغرين ويعذبكم فيها ذليلين مهانين نعوذ بك يا ذا القوة المتين(2/36)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
خاتمة سورة الفرقان
عليك ايها المحمدي الملازم لتهذيب الأخلاق عن الرذائل وتطهير الصفات عن ذمائم الأفعال والأطوار وعن القبائح والأسرار وعن الميل والالتفات الى السوى والأغيار من الأمور المنافية المكدرة لصفاء مشرب التوحيد ان تتأمل وتتعمق في مرموزات الآيات العظام المذكورة في هذه السورة سيما في الآيات التي قد وصف بها سبحانه خلص عباده المتحققين بمرتبة العبودية المنكشفين بسعة اسمه الرحمن المظهر لمظاهر عموم الأكوان شهادة وغيبا وتتدبر في إشاراتها حق التدبر والتفكر الى ان يترسخ في قلبك معانيها ترسخا تاما وينتقش في صحيفة سرك وخاطرك فحاويها انتقاشا كاملا الى ان تصير من جملة وجدانياتك وذوقياتك وبعد ما قد صرت ذا وجدان وحال بها وذقت حلاوتها قد فزت بغرفات جنة الرضا ورضوان التسليم فحينئذ يترشح في صدرك من رشحات بحر الوحدة الذاتية وتعرضت أنت لروح الحق واستنشقت من نفحات النفسات الرحمانية المهبة من فناء حضرة الرحموت ومن قبل يمن عالم اللاهوت المصفية عن كدر التعينات الهيولانية والتعلقات الطبيعية فلك ان لا تنظر ولا تلتفت بعد ذلك ابدا الى مقتضيات علائق ناسوتك مطلقا وتجمع همك نحو لوازم لاهوتك لعل الله ينقذك بفضله عن أغلال انانيتك وسلاسل بشريتك بمنه وجوده
[سورة الشعراء]
فاتحة سورة الشعراء
لا يخفى على من تحقق بمقام الرضا والتسليم وفوض امره الى الحكيم العليم وانكشف له ان لا فاعل للافعال الا هو بل لا موجود في الوجود سواه ولا متصرف بالاستقلال والاختيار غيره ان جميع ما جرى في فضاء الوجود غيبا وشهادة ازلا وابدا انما هو مستند اليه سبحانه ومن آثار أوصافه وأسمائه بلا شركة ومظاهرة من احد سواه ومتى تحقق عنده هذه الأمور واتضح لديه هذا المذكور فله ان يترك التصرف مطلقا بحيث لا يحزن عن فقد شيء ولا يفرح عن وجده بل حينئذ لا بد ان يرتفع عنه الارادة والكراهة والوجدان والفقدان والربح والخسران والسرور والخذلان مطلقا بل صار راضيا بجميع ما جرى عليه من القضاء لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب وعاتبه بما لاح عليه من امارات المحبة المفرطة والارادة الكاملة بإيمان من يدعوهم الى التوحيد من الكفرة المعاندين وعلامات الحزن والكراهة من إصرارهم وتعنتهم على ما هم عليه من الكفر والشقاق فقال متيمنا باسمه الأعلى تبارك وتعالى بِسْمِ اللَّهِ المدبر المصلح لمفاسد عباده بمقتضى ارادته واختياره الرَّحْمنِ عليهم بافاضة الوجود ليتنبهوا بربوبيته ويواظبوا على أداء طاعته وعبادته الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى فضاء وحدته بعد ما أخلصوا التوجه نحوه وأتوا بالأعمال الصالحات طلبا لمرضاته
[الآيات]
طسم يا طالب السعادة والسيادة المؤبدة المخلدة ويا طاهر الطينة والطوية من ادناس الطبيعة البشرية ويا سالم السر والسريرة من العلائق الناسوتية ويا ما حي آثار الرذائل المكدرة لصفاء مشرب التوحيد
تِلْكَ الآيات العظام المذكورة في هذه السورة آياتُ الْكِتابِ اى نبذ من آيات القرآن الْمُبِينِ المبين المظهر لدلائل التوحيد واليقين الموضح للبينات الساطعة والبراهين القاطعة الدالة على حقية دينك القويم انا أنزلناه إليك يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك فلك ان تبلغها على قاطبة الأنام وعامة المكلفين على الوجه(2/37)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
الذي تلى واوحى إليك بلا التفات منك الى ايمانهم وكفرهم وتصديقهم وتكذيبهم بل ما عليك الا البلاغ وعلينا الحساب الا انك في نفسك ومن فرط محبتك لإيمانهم بك وبدينك وبكتابك
لَعَلَّكَ باخِعٌ مهلك قاتل نَفْسَكَ تحسرا وتحزنا أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ اى لأجل ان لا يكونوا مصدقين لك ولدينك وكتابك مع انا لا نريد ايمانهم وهدايتهم بل قد مضى في لوح قضائنا وثبت في حضرة علمنا المحيط كفرهم وضلالهم وما يبدل القول لدينا ولا يغير حكمنا
بل إِنْ نَشَأْ اى ان تعلقت ارادتنا ومشيئتنا لإيمانهم نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ملجئة لهم الى الايمان والتصديق فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ اى قد صارت حين نزول الآية أعناقهم التي هي آلات كبرهم وخيلائهم من كمال الإطاعة والانقياد لَها اى للآية الملجئة النازلة خاضِعِينَ منكوسين منكسرين منخفضين بحيث لا يتأتى لهم الاعراض عنها والتكذيب بها أصلا
وَمتى لم تتعلق مشيئتنا لم ننزل آيتنا فلم يؤمنوا بل صاروا مصرين على إصرارهم إذ ما يَأْتِيهِمْ وما ينزل عليهم مِنْ ذِكْرٍ من عظة وتذكير نازل مِنْ قبل الرَّحْمنِ تفضلا عليهم مُحْدَثٍ مستبدع على الأعصار والأزمان لإصلاح ما في نفوس أهلها من المفاسد والضلال إِلَّا كانُوا عَنْهُ اى عن الذكر المحدث والهداية المبدعة مُعْرِضِينَ منصرفين لعدم تعلق مشيئتنا بقبولهم بل ما أرسلناك يا أكمل الرسل إليهم وما امرناك بدعوتهم وتبليغهم الا ليتعظ ويتذكر منهم من وفقناه وسبقت له العناية الازلية من لدنا من خلص عبادنا وقد تعلقت ارادتنا بهدايتهم ورشدهم من اصل فطرتهم واستعدادهم بعد ما بلغت إليهم الذكر والعظة المهذبة لقلوبهم عن رين الكفر وشين الشرك العارض لهم من قبل آبائهم وأسلافهم قد سمعوها سمع قبول ورضا إذ كل ميسر موفق لما خلق له واما المجبولون على فطرة الشقاوة المطبوعون على قلوبهم بغشاوة الغفلة والضلال أمثال هؤلاء الضلال
فَقَدْ كَذَّبُوا بها حين سمعوها ولم يقتصروا على تكذيبها فقط بل قد استهزؤا بها وبك يا أكمل الرسل عتوا واستكبارا فلك ان لا تلتفت إليهم ولا تبالي بهم وبايمانهم فَسَيَأْتِيهِمْ عن قريب أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ اى اخبار ما أنكروا واستهزؤا به عنادا ومكابرة وما يترتب عليها من الجزاء فيظهر حينئذ اهو حق حقيق بان ينقاد ويتبع أم هو باطل واجب التكذيب والانصراف عنه وكيف ينكرون بآياتنا الدالة على كمال قدرتنا أولئك المعرضون المصرون عنادا ومكابرة
أَوَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا ولم يتفكروا حتى يعتبروا مع انهم مجبولون من اهل النظر والاعتبار إِلَى عجائب الْأَرْضِ اليابسة الجامدة كَمْ أَنْبَتْنا وكثيرا أخرجنا من كمال قدرتنا ووفور حكمتنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ اى أجناس كثيرة من النباتات والحيوانات والمعدن وغير ذلك مما لا اطلاع لهم عليه إذ ما يعلم جنود ربك الا هو كَرِيمٍ كلها ذوو الكرامات والبركات وانواع المعارف والخيرات
وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ اى في إنبات كل من انواع النباتات وإخراج كل من اصناف الحيوانات وأجناس المعادن منها لَآيَةً بينة واضحة قاطعة دالة على ان منبتها ومخرجها متصف بعموم أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال فاعل بالاختيار والاستقلال بلا مزاحمة الأشباح والأمثال وَهي وان كانت في غاية الوضوح والجلاء لكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس مُؤْمِنِينَ موقنين على الايمان والتوحيد في علم الله ولوح قضائه لذلك لم يؤمنوا بالآيات العظام ولم يستدلوا منها الى وجود الصانع الحكيم العليم العلام القدوس السلام المنزه ذاته عن طريان التقضي والانصرام
وَ(2/38)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
ان كذبوك يا أكمل الرسل بما قد جئت به من الآيات العظام وعاندوا معك في قبولها لا تبال بهم ولا تحزن عليهم إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع الكرامات لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب المقتدر على انواع البطش والانتقام الرَّحِيمُ الحليم الذي لا يعجل بالعذاب وان استوجبوا بل يمهلهم زمانا لعلهم يتنبهون على ما فرطوا من سوء المعاملة مع الله ورسوله وآياته فيتوبون نادمين خاشعين صاغرين.
ثم أشار سبحانه الى تعداد المكذبين الضالين عن طريق التوحيد التائهين في تيه الغفلة والغرور فقال وَاذكر يا أكمل الرسل للمنصرفين عنك وعن آياتك عنادا قصة أخيك موسى الكليم عليه صلوات الرحمن مع فرعون وملائه وقت إِذْ نادى رَبُّكَ عبده مُوسى واوحى اليه بعد ما قد ظهر الفساد في الأرض من استيلاء فرعون وملائه على بنى إسرائيل واستعبادهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم عدوانا وظلما حيث قال سبحانه أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ اى لك الإتيان بالدعوة والرسالة يا موسى على القوم الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة بين العباد لبقاء الإنصاف والانتصاف بينهم
يعنى قَوْمَ فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي الذي قد ظهر على عباد الله بأنواع الجور والفساد فقل لهم أولا بعد ما ذهبت إليهم على سبيل التنبيه أَلا يَتَّقُونَ اما يحذرون عن قهر الله أولئك المفسدون المسرفون المكابرون المتجاوزون عن مقتضى العقل والنقل
وبعد ما ناداه سبحانه بما ناداه قالَ موسى ملتجأ الى الله مناجيا له رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم إِنِّي من شدة ضعفى وانفرادي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ولا يقبلون منى دعوتي ولا يلتفتون الى وَبذلك يَضِيقُ صَدْرِي ويكل خاطري عن تبليغ ما أمرتني وَبعد ما قد ضاق صدري وكل خاطري لا يَنْطَلِقُ ولا يجرى حينئذ لِسانِي على تبيينه وتفهيمه مع ان في لساني لكنة جبلية وبالجملة انا وحدي لا اطيق بحمل أعباء الرسالة وتبليغها إليهم واجعل لي يا رب ظهيرا لي يعينني في شأنى هذا وأخي اولى بي بالمظاهرة والمعاونة إياي فَأَرْسِلْ حسب فضلك وجودك حامل وحيك جبريل عليه السلام إِلى هارُونَ أخي وأمره ان يشرك في امرى حتى نذهب كلا الأخوين الى فرعون ونبلغ رسالتك إياه
وَلا سيما لَهُمْ اى لقوم فرعون عَلَيَّ ذَنْبٌ عظيم وهو انى قد قتلت منهم قبطيا فيما مضى فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بقصاصه
قالَ سبحانه في جوابه على سبيل الردع والمنع كَلَّا اى ارتدع يا موسى عن الخوف منهم وانزجر عنه بعد ما أيدناك واصطفيناك للرسالة ولا تبال بهم وبكثرتهم وشوكتهم إذ لا يسع لهم ان يقتلوك وان أردت ان نشرك أخيك معك في أمرك هذا فنشركه فأرسل سبحانه جبرائيل عليه السلام الى هارون بالوحي واشركه مع أخيه وأمرهما بتبليغ الرسالة الى فرعون بقوله فَاذْهَبا بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وبلغا ما أمرتكما بتبليغه بلا خوف منهم وبلا مبالاة لهم إِنَّا حاضرون مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ما جرى بينكم حافظون مراقبون لكما عما قصدوا من المقت والأذاة
ْتِيا فِرْعَوْنَ
مجترئين بلا مبالاة له وبشأنه وأعوانه قُولا
بلا دهشة وخوف من سطوته واستيلائه نَّا
اى كل واحد مناسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
إليك ايها الطاغي نبلغك من عنده سبحانه
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا قومنا بَنِي إِسْرائِيلَ وخل سبيلهم حتى يذهبوا بنا الى ارض الشأم سالمين مخلصين عن ظلمك وجورك فقبلا من الله امره سبحانه فذهبا الى فرعون وملائه فقالا لهم ما قالا على الوجه المذكور بلا مبالاة لهم وبعد ما بلغا الرسالة على وجهها
قالَ فرعون في جوابهما مخاطبا لموسى إذ هو اصل(2/39)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
في الرسالة معاتبا عليه متهكما موبخا أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا زمانا يا موسى حين كنت وَلِيداً لا متعهد لك سوانا وَلَبِثْتَ فِينا بعد ما كبرت الى حيث قد مضى مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ قيل قد لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج الى مدين عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم الى التوحيد ثلاثين سنة ثم بقي بعد غرقهم خمسين سنة
وَبعد ما ربيناك بأنواع التربية والكرامة قد فَعَلْتَ من سوء صنيعك فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ بان قتلت نفسا بلا جريمة صدرت منها موجبة لقتلها بل قد قتلتها ظلما وعدوانا وَبالجملة ما أَنْتَ يا موسى الا مِنَ الْكافِرِينَ لنعمنا وحقوق كرمنا كفرا قد سقط به لياقتك للرسالة والهداية فالآن جئت تدعى الرسالة والإرشاد الى الهداية ايها الكافر الضال
قالَ موسى في جوابه معترفا بما صدر عنه في أوان جهله وغفلته قد فَعَلْتُها اى الفعلة المذكورة المذمومة إِذاً اى حينئذ وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ في تلك الحالة ومن الجاهلين بعواقب الأمور ومن الغافلين عما ترتب عليه من الأوزار والآصار
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ وبعد ما فررت منكم لأجلها قد وصلت الى خدمة مرشد رشيد ومرب منبه نبيه يرشدني ويربيني بأنواع الفضائل والكرامات فَوَهَبَ لِي رَبِّي من شرف صحبته وحسن تربيته حُكْماً اى حكمة متقنة كاملة بالغة وَجَعَلَنِي حسب فضله وطوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ فأرسلني إليكم لأدعوكم الى توحيد رب العالمين ثم شرع موسى في جواب ما قد من عليه فرعون من حقوق النعمة والتربية فقال
وَتِلْكَ النعمة التي قد عددت أنت ايها الطاغي الباغي نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ ليست تبرعا منك الى حتى أكون ممنونا بها منك بل ما هي الا أَنْ عَبَّدْتَ أنت زمانا طويلا قومي بَنِي إِسْرائِيلَ بك لها صاغرين مهانين مظلومين بأنواع الظلم والهوان وبالجملة ما انا ممنون منك حقيقة بل منهم لأنهم هم متسببون لتربيتك وحضانتك بي وبعد ما جرى بينهم ما جرى
قالَ فِرْعَوْنُ مستكبرا مستفهما على سبيل الإنكار والاستبعاد وَما رَبُّ الْعالَمِينَ اى ما هو وما ماهيته وحقيقته ولأي شيء تدعونا اليه عبر عنه لعنه الله سبحانه بما من غاية إنكاره واستحقاره إذ لفظة ما هي موضوعة للنكارة والإبهام
قالَ موسى في جوابه منبها له بناء على ظهوره سبحانه في الأكوان والآفاق هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وموجدهما ومظهرهما من كتم العدم وَكذا موجد ما حدث بَيْنَهُمَا من الكوائن والفواسد إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ اى من ذوى الإيقان والعرفان بحقائق المحدثات المبدعة بإبداع الله إياها من كتم العدم بلا سبق مادة وزمان بل بمجرد امتداد اظلال أسمائه وصفاته الذاتية على مرايا الاعدام بمقتضى التجليات الحبية المنتشئة من الذات الاحدية والا فلا يمكن تعريفه بإيراد الأجناس والفصول إذ هو سبحانه منزه عن الاشتراك والامتياز إذ الواحد من كل الوجوه المستقل بوجوب الوجود والتحقق مع امتناع غيره مطلقا لا يمكن ان يقومه جنس ويميزه فصل حتى يركب له حد او رسم وبعد ما سمع فرعون من موسى ما سمع
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ من ملائه واشرافه متهكما بجوابه حسب بطره وخيلائه وترفعه بنفسه أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه ايها العقلاء قد سألته عن حقيقته وذاته فأجاب بعدّ أفعاله وآثاره المترتبة على أوصافه وأسمائه التي هي من عوارض ذاته وبعد ما سمع موسى بجوابه حسب تشنيعهم واستبعادهم أراد ان يزيد ايضا على تنبيههم فأجاب بظهوره سبحانه في الأنفس رجاء ان يتنبهوا حيث
قالَ هو رَبُّكُمْ مظهركم ومربيكم بأنواع التربية والكرامة وَايضا رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ الأقدمين وبعد ما سمع فرعون كلامه ثانيا
قالَ حينئذ جازما عازما(2/40)
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
إِنَّ رَسُولَكُمُ سماه رسولا تهكما واستهزاء الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لإرشادكم وإصلاحكم لَمَجْنُونٌ لا يتكلم بالمقابلة بل يتفوه كيف ما اتفق بلا تأمل وتدرب بأسلوب الكلام إذ قد سألته عن حقيقة شيء ما أجاب عنه بل أجاب عن أشياء لا أسألها وبعد ما لم يتنبهوا بالتنبيهات المذكورة بل ما زادوا منها الا خبالا غب خبال وإنكارا فوق انكار وبالغوا فيه الى حيث نسبوه الى الخبط والجنون وبعد ما قد عتوا عتوا كبيرا
قالَ موسى كلاما جمليا كليا مشتملا على عموم الأمور المنبهة بما هو له سبحانه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما اى هو بذاته مشرق الشمس ومديرها كل يوم بمدار مخصوص ومغيبها كذلك تتميما وتدبيرا لمصالح عباده وجميع حوائجهم المتعلقة بمعاشهم على الوجه الأحكم الأبلغ الأعدل بلا فوت شيء منها إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتطرحون عقولكم الى التأمل والنظر في عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته في كيفية تدبيراته في ابدائه وإنشائه وابقائه وافنائه وكذا في جميع الأمور المتعلقة بألوهيته وربوبيته وان اجتهدتم وسعيتم حق السعى والجهد في شأنه لاهتديتم الى وحدة ذاته ووجوب وجوده واستقلاله بالتصرف في مظاهره ومصنوعاته فحينئذ لم يبق لكم شائبة شك في ذاته سبحانه حتى تحتاجو الى السؤال والكشف عن جنابه وبعد ما جهلهم موسى وشدد عليهم وسفههم
قالَ فرعون مغاضبا مستكبرا مستعليا مهددا مقسما بعزته وجلاله قائلا فو عزتي وعظمتي لَئِنِ اتَّخَذْتَ وأخذت وعبدت يا موسى إِلهَاً غَيْرِي بمقتضى زعمك لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ المعهودين عندك من انهم لا مخلص لهم عن سجنى حتى الموت فيه فانه قد كان يطرح المخالفين في هوة عميقة حتى يموتوا فيها وبعد ما سمع موسى تهديده وعتوه
قالَ له مستفهما على سبيل التعجيز والغلبة أَتفعل أنت ما هددتنى به وَلَوْ جِئْتُكَ ايها الطاغي المتجبر بِشَيْءٍ مُبِينٍ وبمعجزة عظيمة ظاهرة الدلالة على صدقى في دعواي
قالَ فرعون مستحيا من الناس مستبعدا نفسه عن العجز والافحام فَأْتِ بِهِ اى بالذي ادعيت من المعجزة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى
فَأَلْقى موسى أولا عَصاهُ على الفور فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته عظيم بحيث لا يشتبه على احد امره وصولته
وَبعد إلقاء العصا قد نَزَعَ يَدَهُ ثانيا وأخرجها من جيبه ليثبت مدعاه بشاهدين فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ محيرة مفرقة للابصار من غاية شعاعها ولمعانها سيما لِلنَّاظِرِينَ إليها مدهشة لقلوبهم الى حيث قد تاهوا وتحيروا من شعشعتها فلما رآهما فرعون
قالَ بعد ما اوجس في نفسه خيفة لِلْمَلَإِ الذين يجلسون حَوْلَهُ مستغربا من امره مستعجبا من شأنه إِنَّ هذا المدعى لَساحِرٌ عَلِيمٌ ماهر في علم السحر بالغ نهايته
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ المألوفة ووطنكم الموروث بِسِحْرِهِ هذا وبكماله فيه فَماذا تَأْمُرُونَ في امره ايها الأشراف والأعيان. انظر ايها المتأمل الناظر الى كمال قدرة الله وسطوع حجته البالغة كيف تأثر منها فرعون المتكبر المتجبر الطاغي مع كمال عتوه واستعلائه الى حيث قد اضطر الى المشورة مع الناس في امر موسى ودفعه مع انه كان في فرط عتوه واستعلائه وعزته قد ادعى الألوهية لنفسه وبعد ما سمع الأشراف قوله
قالُوا له مقتضى شأنك وجلالك أن لا تسارع الى قتلهما لئلا تنسب الى العجز والإلزام منهما ومن حجتهما بل أَرْجِهْ واحبس موسى وَأَخاهُ هارون وأخر قتلهما زمانا وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ المحروسة شرطا حاشِرِينَ جامعين حاصرين وأمرهم حتى
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ مبالغ في السحر عَلِيمٍ فائق في علمه متناه فيه بالغ نهايته فبعث شرطا الى الأقطار بعد ما قد وكل عليهما وكلاء يحبسونهما(2/41)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ المهرة في فن السحر لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ اى لوقت قد عين لجمعهم في يوم الزينة وهو وقت الضحى
وَقِيلَ لِلنَّاسِ اى نودي عليهم في الطرق والسكك هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لموعد يوم معلوم حتى تشاهدوا حال موسى وهارون وغلبة السحرة عليهما وابطال ما أتيا به من السحر
لَعَلَّنا بأجمعنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ إياهما فخرج فرعون الى الموعد واجتمع الناس فيه واحضروا موسى وهارون
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ الموعد قالُوا لِفِرْعَوْنَ مؤملين طالبين الجعل منه أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ المبطلين ما جاءوا به من السحر
قالَ لهم فرعون نَعَمْ ان غلبتم أنتم لكم من الأجر أقصى ما املتم وطلبتم وَمع ذلك إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ اى المصاحبين معى فلكم الترقي في المراتب والمناصب والزيادة في الانعام والإحسان في كل حين وأوان يوما فيوما وبعد ما قد رضوا بما وعدوا جاءوا بمقابلة موسى واشتغلوا بمعارضته
قالَ لَهُمْ اى للسحرة مُوسى على سبيل الجرأة وعدم المبالاة بهم وسحرهم أَلْقُوا ايها الطغاة المعارضون المتعارضون بأكاذيب السحر والشعبذة مع آيات الله ومعجزاته عنادا ومكابرة ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ من الأباطيل الزائغة الزائلة
فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ التي قد احتالوا فيها بأنواع الحيل وَقالُوا حين القائها مقسما بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ وبسطوته وجلاله إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ المقصورون على النصر والغلبة على موسى وأخيه هارون ولما رأى موسى من أباطيلهم ما رأى
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ على الفور بالهام الله إياه فَإِذا هِيَ ثعبان مبين أخذت تَلْقَفُ تبتلع وتلتقم عموم ما يَأْفِكُونَ ويحتالون فيه ويخيلونه حيات تسعى بتمويهاتهم وتزويراتهم وبعد ما قد شاهد السحرة من عصا موسى ما شاهدوا من الأمر العظيم المعجز الذي لا يتأتى للساحر مثله تيقنوا انها ما هي سحر وشعبذة بل امر سماوي الهى لا يكتنه لميته ولا كيفيته
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ على الفور بلا تردد وتأمل ساجِدِينَ متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة استحياء من مقابلة أباطيلهم الزائغة معه
قالُوا حين سقطوا ساجدين قد آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ وقد صدقنا الآن بأنهما رسولان من الحق بالحق لترويج الحق واذعنا الآن ان لا معبود يعبد بالحق ويستحق للعبادة سواه ولا اله غيره وبعد ما قد رأى فرعون منهم ما رأى
قالَ مهددا متوعدا إياهم قد آمَنْتُمْ لَهُ اى لموسى ولإلهه بعينه قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ انا بتصديقه وإيمانه فقد لاح لدى ووضح عندي إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ومعلمكم الَّذِي قد عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ واتفقتم معه في الخلوة لتفضحونا على رؤس الملأ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ايها المفسدون انا اقدر على الانتقام والتعذيب أم رب موسى لَأُقَطِّعَنَّ البتة اليوم أولا أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ متبادلتين وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ بعد ذلك على رؤس الاشهاد أَجْمَعِينَ بجمعكم هذا ليعتبر من حالكم من كان في قلبه خلافنا ونفاقنا وبعد ما سمعوا منه تهديده ووعيده
قالُوا منقطعين نحو الحق متشوقين بلقياه لا ضَيْرَ ولا ضر يلحق بنا من قتلك وإهلاكك إيانا ايها المتجبر الطاغي بل ما قتلك الا عين مصلحتنا ومرمانا إِنَّا بالموت الصوري والهلاك المجازى إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ صائرون راجعون متصلون واصلون بعد ارتفاع انانيتنا الباطلة من البين واضمحلال هويتنا العاطلة عن العين
إِنَّا نَطْمَعُ من سعة رحمة الله ومن وفور لطفه وإحسانه بعد ما خرجنا عن كسوة ناسوتنا أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا التي قد صدرت عنا أوان جهلنا وغفلتنا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ اى لان كنا أول المؤمنين الموقنين بتوحيده اليوم
وَبعد ما قد قضى اللعين عليهم ما قضى وجرى على أولئك المظلومين المقبولين(2/42)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
ما جرى قد اقام فيهم موسى زمانا يدعوهم الى التوحيد دائما مستمرا وما زادوا الا عتوا وعنادا وادي عتوهم وعنادهم الى ان قصدوا مقته وهلاكه وقتل من معه من المؤمنين لذلك قد أَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد ما صمموا العزم لإهلاكه وقلنا له أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي يعنى سر ليلا يا موسى مع من تبعك من عبادي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ حتى يتبعكم ويعقبكم فرعون وجنوده فاسرى موسى مع المؤمنين امتثالا للأمر الوجوبي فاطلع فرعون وقومه على أسراء موسى ومن معه
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ شرطا فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ جامعين لجنوده ليتبعوهم وامر لشرطه بان قالوا للجيش ترغيبا لهم وتحريكا لحميتهم وتطميعا
إِنَّ هؤُلاءِ الفارين لَشِرْذِمَةٌ اى لطائفة وجماعة قَلِيلُونَ بالنسبة إلينا مع انهم ستمائة وسبعون الفا وقوم فرعون من كثرتهم لا يعد ولا يحصى
وَقد لزم علينا ان نتبعهم ونستأصلهم إِنَّهُمْ قوم عدو لَنا لَغائِظُونَ بنا يفعلون افعالا تغيظنا وتحرك غيظنا دائما فلنا ان نقلع عرقهم عن وجه الأرض
وَإِنَّا وان كنا أقوياء أشداء على عموم الأعداء لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ دائما عن كيدهم ومكرهم وافسادهم بأنواع الفسادات من قطع الطريق والالتجاء بالأعادي والمظاهرة معهم فلا بد لذوي الحزم والعزم من الضبط والاحتياط في عموم الأحوال وبالجملة
فَأَخْرَجْناهُمْ بعد ما تعلق ارادتنا باهلاكهم وإغراقهم بهذه الدواعي والبواعث المهيجة لنفوسهم الى الخروج والاقتفاء اثر أعدائهم مِنْ جَنَّاتٍ متنزهات بهية فيها فواكه شهية وَعُيُونٍ اى منابع وينابيع تجرى منها في خلال جناتهم الأنهار لنزيد صفاء ونضارة وبهجة وبهاء
وَكُنُوزٍ من الذهب والفضة مدفونة وغير مدفونة وَمَقامٍ كَرِيمٍ هو المنازل الحسنة والقصور المرتفعة الموضوعة فيها الأرائك العالية والسرر الرفيعة والبسط المفروشة من الحرير وغيرها
كَذلِكَ يعنى قد اخرجناهم إخراجا كذلك باحداث بواعث الخروج في نفوسهم وازعاجهم الى ان خرجوا مضطرين وَبعد ما اخرجناهم كذلك عما اخرجناهم قد أَوْرَثْناها اى عموم ما سمعت من المذكورات بَنِي إِسْرائِيلَ انعاما لهم وامتنانا عليهم بما صبروا بظلمهم وبأنواع اذياتهم طول عمرهم وبعد ما اجتمع الجيش من أطراف المدائن وازدحموا على باب فرعون خرجوا خلفهم مسرعين
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ وقت طلوع الشمس من المشرق
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ اى تقاربا الى ان رأى كل من الجمعين صاحبه قالَ أَصْحابُ مُوسى مشتكيا اليه مأيوسا من الحياة بعد ما رأوا من خلفهم جيشا لا يعد ولا يحصى وعن امامهم البحر الذي لا يمكن العبور عنه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ملحقون يلحقنا العدو الآن وبعد غرقنا في البحر
قالَ موسى ردعا لهم وازالة لرعبهم كَلَّا اى ارتدعوا عن هذا ولا تخافوا عن ادراكهم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ويلهمني الى طريق النجاة والخلاص إذ قد وعدني ربي اليوم بالخلاص والنجاة فان وعده سبحانه حق ولا يخلف فصبر الى ان قرب العدو ووصل موسى على شاطئ البحر مضطرا مضطربا مرعوبا وبعد ما رأينا كليمنا كذلك
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بان قلنا له أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضرب على الفور فَانْفَلَقَ البحر اى قلزم او النيل وافترق فرقا فرقا وانقطع قطعا قطعا كثيرة فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ بعد انفلاقه وانقطاعه كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل الشامخ المرتفع نحو السماء الثابت في مقره بلا حركة وجرى وذهاب وانفرج بين الفلق فرجا وسيعة فسيحة فدخل على الفور موسى باذن منا وقومه تبعا له في تلك الشعوب والفرج كل سبط بشعب
وَبعد ما دخلوا في شعاب البحر المنفلق أَزْلَفْنا(2/43)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
وقربنا ثَمَّ الْآخَرِينَ اى قربنا فرعون وقومه هناك يعنى قد وصلوا على شاطئ البحر متعاقبة فرأوهم في شعاب البحر المنفلق على العبور فاقتحموا على الفور أثرهم طامعين النجاة والعبور مثلهم
وَقد أَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ حيث حفظنا البحر على انفلاقه وعدم جريه الى ان عبروا سالمين من تلك الفرج ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ اى فرعون وقومه جميعا بعد ما دخلوا مغترين مغرورين في تلك الفرج باطباق البحر واجرائه واعدام انفلاقه وافتراقه واتصاله على الوجه الذي قد كان عليه قبل الانفلاق حسب وضعه الأصلي وبالجملة
إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء والإغراق على الوجه المذكور لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرة الله ومتانة حكمته بالنسبة الى ذوى الأبصار والنهى واولى العبر والاعتبار من الأبرار الأخيار المشمرين أذيال الهمم والاهتمام نحو التفكر والتدبر في آثار أوصاف الفاعل المختار وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس المجبولين على فطرة الاستدلال والاعتبار مُؤْمِنِينَ بالله موقنين بتوحيده وبأسمائه الكاملة وأوصافه الشاملة حتى يتأملوا في آثار صفاته ليتمكن لهم الاستدلال بها على ذاته
وَبالجملة إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على امره القادر المقتدر على اجراء أحكامه وإنفاذ قضائه الرَّحِيمُ المشفق لخلص عباده الموفقين من عنده للوصول الى مبدئهم ومعادهم
وَاتْلُ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ اى على مكذبي قريش ومعانديهم نَبَأَ إِبْراهِيمَ اى قصة جدك ابراهيم الخليل صلوات الرحمن عليه وسلامه مع قومه وقت
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ سائلا لهم عن حقيقة ما يعبدون من الآلهة ليريهم ان الأصنام لا تستحق ولا تليق للعبادة والانقياد ما تَعْبُدُونَ ولأي شيء تنقادون وتطيعون ايها المكلفون العابدون
قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ اى تدوم عكوفنا إياها واطاعتنا لها
قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ ويجيبون دعوتكم إِذْ تَدْعُونَ إليهم في السراء والضراء
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ ويثيبون جزاء إطاعتكم وعبادتكم أَوْ يَضُرُّونَ لكم ان أعرضتم وانصرفتم عن عبادتهم
قالُوا مستغربين عن مسئولاته نحن لا نرجو منهم أمثال هذه الصفات إذ هم جمادات لا يتأتى منهم افعال ذوى الحياة والشعور بَلْ قد وَجَدْنا آباءَنا وأسلافنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ اى يعبدون لها ويعكفون عليها خاشعين متذللين ونحن على آثارهم نعبدهم ونتذلل لهم تقليدا لآبائنا
قالَ لهم ابراهيم على سبيل النصيحة والتذكير أَفَرَأَيْتُمْ وعلمتم ان ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ من دون الله
أَنْتُمْ في مدة اعماركم وَكذا آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ في مدة اعمارهم ايضا وفيما مضى عليهم من الزمان لا يليق بالالوهية ولا يستحق للاطاعة والانقياد إذ الإله المستحق بالعبودية لا بد وان يتصف بالصفات الكاملة الفاضلة التي هي مبادي لآثار كثيرة وان يكون ذا نفع وضر وثواب وعقاب حتى يعبد له وهؤلاء معطلون عن أوصاف الألوهية مطلقا بل
فَإِنَّهُمْ اى الالهة الباطلة عَدُوٌّ لِي نسب عداوتهم لنفسه أولا امحاضا للنصح والتوجه إليهم والتذلل نحوهم يجلب عذاب الله ونكاله فهم وعبادتهم من اسباب غضب الله وقهره فلكم ان لا تتوجهوا نحوهم ولا تعبدوا إياهم ولا تتخذوا غير الله سبحانه الها كما انى ما أتوجه وما اعبد إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ إذ هو المستحق للالوهية والربوبية ذاتا ووصفا وكيف لا اعبد الها واحدا أحدا حيا قيوما قادرا مقتدرا مع انه سبحانه هو
الَّذِي خَلَقَنِي اى أوجدني وأظهرني من كتم العدم حسب جوده فَهُوَ يَهْدِينِ الى توحيده واستقلاله في الوجود والتصرف بمقتضى لطفه
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي إذا(2/44)
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
افتقرت الى الغذاء وَيَسْقِينِ حين احتياجى الى الماء
وَكذا إِذا مَرِضْتُ من اختلاف الأمزجة وتداخل الاغذية فَهُوَ يَشْفِينِ باعتدالها واستقامتها
وَالَّذِي يُمِيتُنِي حين حلول اجلى وانقضاء مدة حياتي في النشأة الاولى ثُمَّ يُحْيِينِ في النشأة الاخرى للعرض والجزاء
وَالَّذِي أَطْمَعُ وأرجو من سعة رحمته وجوده أَنْ يَغْفِرَ لِي ويمحو عنى جميع خَطِيئَتِي التي قد صدرت عنى في نشأة الاختبار ويعفو زلتى التي قد عرضت على فيها يَوْمَ الدِّينِ والجزاء ثم ناجى مع الله بقوله
رَبِّ يا من رباني بلطفك وهداني الى صراط توحيدك هَبْ لِي حُكْماً يقينا علميا وعينيا حتى استحق ان تفيض على اليقين الحقي الذي قد صرت بفيضانه مستحقا لمرتبة الخلة والخلافة وَبالجملة أَلْحِقْنِي بعد ما وهبت لي من حكمك وأحكامك ومعارفك ما قدرت لي في حضرة علمك ولوح قضائك بِالصَّالِحِينَ المرضيين عندك المقبولين في حضرتك
وَاجْعَلْ لِي بفضلك وجودك لِسانَ صِدْقٍ اى لسانا يتكلم بالصدق في عموم حكمك وأحكامك ومعارفك وتوحيدك وفي جميع أوامرك ونواهيك بحيث يدوم اثر صدقى في أقوالي وأفعالي وأحوالي وفي عموم اطوارى واخلاقى فِي الْآخِرِينَ اللاحقين من عبادك المخلفين لي من بعدي لذلك ما من دين من الأديان الا وله صلوات الرحمن عليه وسلامه فيه اقوال وافعال واخلاق وسنن وآداب منسوبة اليه مسلمة منه معمولة بمتابعته
وَبالجملة اجْعَلْنِي بسعة رحمتك ووفور إحسانك وعطيتك بي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ اى من الذين يرثون من فضلك وجودك مرتبة الرضا والتسليم إذ لا نعمة أجل منها وأتم عند المنقطعين نحوك والمتشوقين بلقياك
وَاغْفِرْ لِأَبِي واعف عن زلته وذنوبه ان سبقت عنايتك له في حضرة علمك وسابق قضائك إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ التائهين في تيه الغفلة والغرور
وَبالجملة لا تُخْزِنِي ولا تخجلنى من قبل نفسي وابى يَوْمَ يُبْعَثُونَ اى الأموات ويحشرون من قبورهم نحو العرصات لعرض الأحوال وجزاء الأعمال ان خيرا فخير وان شرا فشر واحسن الى يا ربي
يَوْمَ لا يَنْفَعُ فيه مالٌ ولا يفيد صاحبه ويخلص من العذاب او يخفف العذاب لأجله وَلا بَنُونَ يظاهرون لآبائهم وينقذونهم من عذاب الله وذلك يوم لا مخلص فيه لاحد من عذاب الله من ذوى المعاصي والآثام
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ المطلع على سرائر العباد وضمائرهم بِقَلْبٍ سَلِيمٍ خال عن الميل الى الهوى ومزخرفات الدنيا خالص عن رعونات العجب والرياء مخلص في التوجه نحو المولى بلا طلب الثواب منه والعطاء والجزاء بل لمحض الرضاء والامتثال بما امره الله ونهى راضيا في كل الأحوال بما جرى عليه من نفوذ القضاء
وَفي تلك الحالة التي قد أتوا كذلك أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ وقربت لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله استحياء منه وطلبا لمرضاته بحيث يرونها ويسرعون إليها تشوقا وتحننا ويتفطنون انهم يدخلون فيها خالدين مؤبدين
وَكذا قد بُرِّزَتِ وأظهرت الْجَحِيمُ المسعرة لِلْغاوِينَ الذين يضلون عن طريق الحق في النشأة الاولى بالميل الى الهوى وبالركون الى مستلذات الدنيا والاعراض عن ارشاد الأنبياء والأولياء والمصاحبة مع اهل البدع والآراء الفاسدة والأهواء الباطلة المضلة عن صراط الله الأعدل واتخاذ الآلهة الباطلة بمقتضى اهويتهم الفاسدة
وَقِيلَ لَهُمْ حين ظهرت الجحيم عليهم ويتفطرون انهم مسوقون نحوها صاغرين مهانين أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ يعنى اين الآلهة الباطلة التي قد كنتم عبدتم لها
مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بالالوهية والربوبية معتقدين انها شفعاؤكم ينقذونكم عن عذاب الله هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ اليوم بان يدفعوا عنكم العذاب أَوْ يَنْتَصِرُونَ(2/45)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
فيدفعون العذاب عن أنفسهم وبعد ما قد جرى عليهم ما جرى من التقريع والتوبيخ
فَكُبْكِبُوا فِيها اى ادخلوا في النار قسرا وقهرا هُمْ اى آلهتهم المضلة المغوية وَالْغاوُونَ اى العبدة الضالون
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ مصاحبون معهم ملازمون إياهم من القوى البهيمية الشهوية والغضبية التي هي من اعونة النفوس الامارة أَجْمَعُونَ إذ كل منهم سبب تام لإضلالهم وبعد ما دخلوا في النار بأجمعهم صاغرين مهانين
قالُوا اى الداخلون في النار تابعا ومتبوعا وَالحال انه هُمْ فِيها اى في النار يَخْتَصِمُونَ اى يتخاصم بعضهم بعضا حيث قال العابدون لمعبوداتهم مقسمين مغلظين تحسرا وتحزنا
تَاللَّهِ إِنْ اى انه قد كُنَّا باتخاذكم ايها المضلون المبطلون آلهة من دون الله وعبدناكم كعبادته سبحانه لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر لا يشتبه على ذي مسكة ضلالنا وكيف لا يكون ضلالا ظاهرا
إِذْ نُسَوِّيكُمْ مع كونكم من ادنى الأشياء وارذلها نرجحكم ونفضلكم بِرَبِّ الْعالَمِينَ الذي هو احد صمد فرد وتر ليس كمثله شيء وليس له كفو لإضلال أبين من هذا وأعظم
وَبالجملة ما أَضَلَّنا واوقعنا في هذا الضلال المبين إِلَّا الْمُجْرِمُونَ الذين قد اقتدينا بهم من رؤسائنا وكذا من تقليدات آبائنا الذين مضوا قبلنا على هذا
فَما لَنا بعد ما قد وقعنا في النار صاغرين مِنْ شافِعِينَ يشفعون لنا ينقذون منها
وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ اى ذي قرابة وصداقة تكفى صداقته وحمايته لإنقاذنا ونجاتنا وانما قالوه تحسرا وتحزنا وبعد ما قد قنطوا عن الشفاعة والحماية تمنوا الرجعة والإعادة المستحيلة وقالوا
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً رجعة وعودة الى الدنيا مرة بعد اخرى وكرة بعد الاولى فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بالله الموحدين له لا نشرك به شيأ من مظاهره ومصنوعاته
إِنَّ فِي ذلِكَ اى فيما ذكر من نبأ ابراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه لَآيَةً عظيمة دالة على توحيد الحق وعلو شأنه وسمو برهانه وعظة وتذكيرا للمتذكرين المعتبرين من أخلاقه وأطواره صلوات الرحمن عليه وكمال علمه ودعوته وانصافه في محاورته وارخائه العنان الى من قصد مجادلته ومعارضته وإظهاره الحق على ابلغ وجه وآكده عاريا عن جميع الرعونات والخرافات الواقعة بين اصحاب المناظرات والمجادلات وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس مُؤْمِنِينَ بتوحيد الله وخلة خليله وصفوة أخلاقه وحسن خصاله
وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على انتقام من خرج عن رق عبوديته الرَّحِيمُ لمن وفق عليها وجبل لأجلها ثم قال سبحانه مخبرا عن المكذبين
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ لان تكذيب نوح والإنكار على إرساله يستلزم تكذيب مطلق الإرسال فيستلزم تكذيبه تكذيب جميع الرسل الذين مضوا قبله بل من سيأتى بعده من الرسل ايضا لاتحاد المرسل والمرسل به وذلك وقت
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ حين لاح عليهم امارات الكفر والفسوق والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة على العدالة المعنوية والقسط الحقيقي أَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن محارم الله ايها المكلفون المسرفون
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبل الحق أَمِينٌ بينكم أرشدكم الى ما يعنيكم وينفعكم واجنبكم عما يضركم وما لا يعنيكم بل يؤذيكم ويغويكم
فَاتَّقُوا اللَّهَ القادر المقتدر على انواع الانتقام وَأَطِيعُونِ في عموم ما جئت به من قبل ربي
وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ ولا اطلب منكم عَلَيْهِ اى على إرشادي وتكميلى واصلاحى لكم ما أفسدتم على انفسكم من الأخلاق والأعمال مِنْ أَجْرٍ جعل ومال كما يسأل المتشيخة خذلهم الله عن مريديهم ومحبيهم إِنْ أَجْرِيَ وما جعلى إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فانه سبحانه قد أرسلني إليكم وأمرني بتبليغ ما اوحى الىّ إليكم(2/46)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
فَاتَّقُوا اللَّهَ حق تقاته واحذروا من بطشه وانتقامه وَأَطِيعُونِ في جميع ما جئت به من عنده من الأوامر والنواهي المصلحة لمفاسد أحوالكم حتى تستقيموا وتعتدلوا في النشأة الاولى وتفوزوا بما قد وعد لكم ربكم في النشأة الاخرى
قالُوا في جوابه مستكبرين مستهزئين أَنُؤْمِنُ لَكَ ونتبعك نحن مع شرفنا وثروتنا وَالحال انه قد اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ منا الأقلّون مالا الأنزلون جاها ورتبة ومن هذا ظهر ان مناط الأمر عندهم على الحطام الدنياوية والمفاخرة بها واظهار الجاه والثروة بسببها ومتابعتهم انما هي لحصولها لا لأغراض دينية ومصلحة اخروية مصفية ببواطنهم عن العلائق المادية والشواغل الهيولانية العائقة عن الوصول الى مقر التوحيد لذلك
قالَ نوح متكأ الى الله مفوضا امره اليه وَما عِلْمِي وادراكى محيطا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ويؤملون في نفوسهم من اى غرض وسبب يؤمنون بي ويمتثلون بأمري إذ مالي اطلاع على ضمائرهم وسرائرهم بل بظواهرهم
إِنْ حِسابُهُمْ وما امر بواطنهم وأسرارهم إِلَّا عَلى رَبِّي المطلع على خفايا الأمور ومغيباتها لَوْ تَشْعُرُونَ وتدركون أنتم وتعقلون ما أبث لكم من الكلام لفهمتم ما هو الحق منه ولكنكم أنتم قوم تجهلون لذلك تقولون ما لا تعلمون ولا تفهمون
وَبعد ما سمعتم مقالتي هذه فاعلموا انى ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ونافيهم من عندي بسبب ميلكم الى واستدعاكم طردهم وتوقيفكم الايمان بي على تبعيدهم وبالجملة
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من قبل الحق مُبِينٌ ظاهر الحجج واضح البينات والمعجزات بالنسبة الى عموم المكلفين سواء كانوا اغنياء او فقراء إذ الايمان والتوحيد والتدين والإخلاص انما هي من افعال القلوب لا مدخل للأمور الخارجية فيها التي هي الغناء والثروة والفقر والرذالة فمن وفقه الحق على التوحيد وسبقت له العناية في سابق القضاء فهو مؤمن سواء كان فقيرا او غنيا ومن سبق عليه الغضب الإلهي وكتب في لوح القضاء من الأشقياء فهو كافر ناف للصانع مشرك له سواء كان غنيا او فقيرا وبعد ما سمعوا من عدم مبالاته بهم وبشأنهم وعدم رعاية جانبهم وغبطتهم
قالُوا من فرط عتوهم واستكبارهم مقسما والله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عن دعوتك وادعائك هذا ولم تترك هذياناتك التي قد جئت بها من تلقاء نفسك افتراء ومراء لَتَكُونَنَّ باصرارك عليها مِنَ الْمَرْجُومِينَ المقتولين زجرا وقهرا فارجع الى حالك وتب من هذياناتك حتى لا نقتلك بأقبح الوجوه وبعد ما قنط نوح عن ايمانهم وايس عن توحيدهم وعرفانهم
قالَ مشتكيا الى الله ملجأ نحوه رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرامة ووفقني على الهداية والتوحيد إِنَّ قَوْمِي الذين قد بعثتني إليهم لأهديهم الى دينك وطريق توحيدك كَذَّبُونِ بجميع ما جئت به من عندك تكذيبا شديدا وسفهونى تسفيها بليغا بل قد قصدوا مقتى وقتلى باشد العذاب وأقبح العقاب وبالجملة ما بقي بيني وبينهم ائتلاف وارتباط
فَافْتَحْ فاحكم أنت يا رب حسب عدلك وقضائك بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً حكما مبرما منجزا لوعدك الذي وعدتني به بعد ما كذبون وانزل عليهم العذاب الموعود من عندك وَبعد إنزال العذاب عليهم نَجِّنِي منه بلطفك وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بدينك ونبيك الممتثلين بأوامرك المجتنبين عن نواهيك بفضلك وطولك وبعد افراطهم وإصرارهم المتجاوز عن الحد في الاعراض عن الله والانصراف عن دينه وتكذيب نبيه وإيذائهم إياه والى من آمن له من المؤمنين قد انزل الله عليهم الطوفان الموعود
فَأَنْجَيْناهُ اى نوحا وَمَنْ مَعَهُ من متابعيه ومصدقيه حيث أدخلناهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملو منهم ومن كل شيء زوجين اثنين
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ اى بعد انجائنا وادخالنا نوحا ومن معه في الفلك أغرقنا الباقين من قومه بحيث لم(2/47)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
يبق منهم احد على وجه الأرض سوى اصحاب السفينة
إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء والإغراق لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرتنا وشدة سطوتنا وعلو شأننا وبسطتنا وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس مُؤْمِنِينَ بوحدة وجودنا وكمال قدرتنا وعزتنا ومتانة حكمنا وحكمتنا
وَإِنَّ رَبَّكَ الذي وفقك يا أكمل الرسل على الايمان والتوحيد وكشف لك سرسريان وحدته الذاتية على هياكل المظاهر لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر في نفسه القهار للاغيار بحيث لم يكن احد في فضاء الوجود سواه ولا اله يعبد له ويرجع في الخطوب والمهمات نحوه الا هو ليس كمثله شيء وهو السميع العليم الرَّحِيمُ لخلص عباده ممن جذبته العناية الازلية نحو بابه ويسر له الوصول الى جنابه. رب اجعلنا من المنجذبين إليك المنكشفين بوحدة ذاتك. ثم قال سبحانه مخبرا عن احوال المكذبين ايضا قد
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ جميعه على الوجه الذي ذكر في تكذيب نوح عليه السلام وانما أنث باعتبار القبيلة وعاد اسم أبيهم اذكر وقت.
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ حين رأى منهم ما هو امارات الكفر والفسوق وعلامات الخروج عن مقتضى العدالة والاستقامة الموضوعة بينهم بوضع الهى أَلا تَتَّقُونَ من بأس الله ايها المفرطون المسرفون ولا تحذرون عن حلول قهره وانتقامه ايها الجاهلون
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ مرسل إليكم من عنده لا بلغكم ما أرسلت به من قبل الحق من الأوامر والنواهي المصلحة لأحوالكم المبعدة عن غضب الله إياكم وقهره
فَاتَّقُوا اللَّهَ الغالب القادر المقتدر على انواع الانتقامات وَأَطِيعُونِ فيما أمرت لكم بوحي الله والهامه من الأمور المهذبة لأخلاقكم
وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ومن جملة تربيته إرسال الرسل على المنحرفين عن سبيل الاستقامة المنصرفين عن طريق توحيده
أَتَبْنُونَ وتعمرون ايها المسرفون المستكبرون بِكُلِّ رِيعٍ تلال مرتفعة من الأرض آيَةً وعلامة تستدلون بها على سلوككم نحو مقاصدكم ومناهجكم مع ان النجوم الزاهرات انما ظهرت لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وبالجملة أنتم بوضع هذه الآيات والعلامات تَعْبَثُونَ وترتكبون فعلا عبثا لا فائدة لكم فيها أصلا
وَايضا من جملة كبركم وخيلائكم تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ اى منابع الماء والقوانيت او قصورا عاليات وابنية شامخات مجصصة مشيدة لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وتأملون الخلود في دار الابتلاء والغرور لذلك تحكمون بناءكم وتشيدونها
وَمن غاية استكباركم وتجبركم إِذا بَطَشْتُمْ وأخذتم أحدا بجريمة صدرت عنه بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ متجبرين متكبرين خارجين عن مقتضى الحد الإلهي الموضوع للتأديب والتعزير
فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ان لا يأخذكم على أمثال هذه الجرائم والعدوان على عباده وَأَطِيعُونِ في نصحى وتذكيري لتنجوا من سخط الله وغضبه
وَبالجملة اتَّقُوا الله القادر العليم الحكيم الَّذِي أَمَدَّكُمْ ونصركم بِما تَعْلَمُونَ من انواع النعم واصناف الكرم الفائضة عليكم ثم فصل بعضا منها تنصيصا فقال قد
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ تستمدون بها اكلا وحملا وركوبا وَبَنِينَ تظاهرون بهم وتفاخرون بنسبهم وسببهم
وَجَنَّاتٍ متنزهات ملتفة بأنواع الأشجار والكروم وَعُيُونٍ جاريات تجرى بين جناتكم من انهار المياه الصافيات وبالجملة
إِنِّي من غاية عطفي ومرحمتى قد أَخافُ عَلَيْكُمْ من شدة تعنتكم واستكباركم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ اى نزول عذاب الله وانواع عقوباته فيه ثم لما سمعوا منه ما سمعوا من العظة والتذكير والنصيحة على طريق المبالغة
قالُوا من نهاية استكبارهم واستنكافهم وشدة انكارهم سَواءٌ عَلَيْنا يا هود أَوَعَظْتَ(2/48)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
بما وعظت أَمْ لَمْ تَكُنْ أنت مِنَ الْواعِظِينَ المذكرين إذ نحن ما نسمع منك خرافاتك ولا نمتثل بها ولا نترك لأجلها وأجلك اخلاق أسلافنا التي قد كانوا عليها
إِنْ هذا وما كنا عليه من الأخلاق والشيم ما هي إِلَّا خُلُقُ آبائنا الْأَوَّلِينَ وعادتهم المستمرة وسننهم السنية الموروثة لنا منهم
وَبالجملة ما نَحْنُ ولا أسلافنا الذين قد مضوا عليها بِمُعَذَّبِينَ بعد انقراضنا عن هذه النشأة كما زعمت إذ لا اعادة ولا رجوع ولا عود ولا نشور لنا من قبورنا بعد ما متنا وكنا ترابا وعظاما بالية وبالجملة لم يقبلوا منه دعوته مطلقا ولم يصدقوا قوله أصلا
فَكَذَّبُوهُ تكذيبا شديدا وصاروا بسبب تكذيبهم إياه وانكارهم عليه مستحقين لقهرنا وغضبنا فَأَهْلَكْناهُمْ من كمال غيرتنا واستأصلناهم بمقتضى قدرتنا وحميتنا إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك والاستئصال لَآيَةً دالة على استقلالنا واستيلائنا بالسلطنة القاهرة على عموم مظاهرنا ومربوباتنا وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بنا وبأسمائنا واوصافنا الكاملة الشاملة آثارها لعموم المظاهر والمصنوعات
وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب المستقل بالتصرف في آثار أوصافه وأسمائه بلا مشاركة له في الوجود والإيجاد الرَّحِيمُ بتجلياته اللطفية الجمالية في اظهار الكائنات المشهودة في الأنفس والآفاق حسب إمداده واعانته. ثم قال سبحانه مخبرا عن المكذبين المهلكين ايضا
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ المصلح لأحوالهم حين لاح عليهم علامات الاعراض عن الله والانحراف عن جادة توحيده أَلا تَتَّقُونَ عن قهر الله فتخرجون عن مقتضى حدوده
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ من عنده سبحانه انبهكم على ما يصلح حالكم واجنبكم عما يفسدكم
فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور واحذروا من قهره وصولته وغضبه وجلاله وَأَطِيعُونِ فيما انصح لكم وأذكركم به
وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تذكيري وإرشادي إياكم مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وهو سبحانه قد اختارني للبعثة والرسالة واصطفاني لجمل وحيه فأرجو انا من فضله وسعة جوده ان يفيض على من معارفه وحقائقه الى حيث قد اضمحل هويتى الباطلة العاطلة في هوية الحق وتلاشى تعيناتى بالفناء فيه أَتُتْرَكُونَ وتبقون فِي ما اى في انواع النعم واصناف الإحسان والكرم وتستمرون هاهُنا اى في هذه النشأة كذلك آمِنِينَ بلا فترة وانتقال وتحويل مترفهين
فِي جَنَّاتٍ اى حدائق ذات بهجة وَعُيُونٍ جاريات فيها
وَزُرُوعٍ كثيرة من أطرافها وَلا سيما في نَخْلٍ لطيف طَلْعُها هَضِيمٌ إذ هو ينكسر وينهضم بسهولة ويستحيل دما بسرعة
وَمن شدة بطركم ونهاية حرصكم واملكم تَنْحِتُونَ اى تنقبون وتثقبون مِنَ الْجِبالِ المتحجرة بُيُوتاً ومخازن تدخرون وتخزنون أمتعتكم فيها صونا لها من انواع الحادثات بطرين فارِهِينَ متنعمين
فَاتَّقُوا اللَّهَ المحول للأحوال حتى لا يبدل يسركم الى العسر وتنعيمكم الى التنقيم وَأَطِيعُونِ في نصحى وتذكيري
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ في الإغراء على المعاصي والتغرير فيها يعنى
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات ومن جملتها افسادكم واغراؤكم الى ما يضركم ويغويكم وَبالجملة هم لا يُصْلِحُونَ مفاسد احد أصلا وبعد ما سمعوا من صالح ما سمعوا من النصيحة والإرشاد وانواع الصلاح والسداد
قالُوا من فرط تعنتهم وعنادهم وكمال توغلهم في بحر الغفلة والغرور إِنَّما أَنْتَ يا صالح مِنَ الْمُسَحَّرِينَ المختلين المحتبطين عقولهم بالسحر لذلك قد تخيلت انك رسول مرسل من(2/49)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
قبل الحق هاد الى طريقه مع انك
ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا بلا رجحان لك علينا ولم يعهد إرسال البشر الى البشر من عند الله وبعد ما قد عيروه وشنعوا عليه قصدوا تعجيزه فأمروه بإتيان البرهان على صدقه فقالوا متهكمين فَأْتِ يا صالح بِآيَةٍ معجزة دالة على صدقك في دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
قالَ صالح معجزتي الدالة على حقية دعوتي ورسالتي هذِهِ ناقَةٌ مخرجة من الصخرة بإخراج الله بعد ما اقترحتمونى بإخراجها فدعوت الله القادر المقتدر على اختراع الأمور المستبدعة وتضرعت نحوه فقبل دعائي فأخرجها بقدرته التامة على الوجه المقترح واعلموا ايها المتهكمون في بحر الغفلة والغرور انه لَها اى الناقة شِرْبٌ الى يوم قد عين الله لشربها من بئركم هذا وَلَكُمْ ايضا شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ معين فعليكم ان لا تتجاوزوا من شربكم الى شربها ولا تضروا بها
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ من ضرب وذب وظمأ وجوع فإنكم ان تمسوها بسوء فَيَأْخُذَكُمْ وينزل عليكم عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ وصف به لعظم ما فيه من العذاب. ثم لما أوصاهم بحفظها وحضانتها وبالغ في شأنها لم يقبلوا منه ولم يبالوا بقوله فاتفقوا على عقرها
فَعَقَرُوها بعد ما اجمع الكل فَأَصْبَحُوا بعد ما عقروها وصاروا نادِمِينَ خائفين من نزول العذاب لا تائبين آئبين عما فعلوا من ترك المأمور وارتكاب المنهي وبعد ما استحقوا العذاب بصنيعهم هذا
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود المعهود من قبل الحق فنزل عليهم فاهلكهم بالمرة بحيث لم يبق منهم احد على وجه الأرض إِنَّ فِي ذلِكَ الابتلاء والإنزال والإهلاك لَآيَةً عظيمة مثبتة لكمال قدرة الله وقهره بمقتضى صفاته الجلالية وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بقهره وجلاله
وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر على أعدائه حسب غضبه وجلاله الرَّحِيمُ المشفق على أوليائه بمقتضى لطفه وجماله ثم قال سبحانه مخبرا ايضا قد
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ مثل ما كذب السابقون وذلك وقت
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ حين شاعت بينهم الفعلة القبيحة والديدنة الذميمة الشنيعة الى حيث يباهون بها ولا يخفونها أَلا تَتَّقُونَ من غضب الله ايها المسرفون المفرطون اتقوا الله الغالب الغيور واحذروا من سخطه
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبله أَمِينٌ يؤمنكم من مكر الله وحلول غضبه وعذابه لو قبلتم منى قولي
فَاتَّقُوا اللَّهَ حق تقاته وَأَطِيعُونِ في عموم ما جئت لكم من عنده
وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغى ونصحى مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ وما جزائي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فانه المتكفل لأجور عباده حسب أعمالهم ونياتهم فيها
أَتَأْتُونَ وتجامعون ايها المسرفون المفرطون الذُّكْرانَ الذكور الأمارد وتخصون أنتم بهذه الفعلة القبيحة الشنيعة مع انه ما سبق مثلها مِنَ الْعالَمِينَ يعنى الذين مضوا من بنى نوعكم
وَتبالغون أنتم فيها بحيث تَذَرُونَ وتتركون ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ لإتيانكم وحرثكم مِنْ أَزْواجِكُمْ ونسائكم ليترتب عليها حكمة التناسل وإبقاء النوع بَلْ أَنْتُمْ بسوء صنيعكم وقبح فعلتكم هذه قَوْمٌ عادُونَ متجاوزون من حدود الله ومقتضى حكمه وحكمته وبعد ما سمعوا منه تشنيعه على ابلغ الوجه واشنعه
قالُوا من شدة شكيمتهم وضغينتهم معه لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ ولم تنزجر عن تشنيعنا وتقبيح فعلنا ونهينا عنه لَتَكُونَنَّ أنت بجراءتك علينا مِنَ الْمُخْرَجِينَ من قريتنا على أقبح وجه وأسوئه وبعد ما سمع لوط عليه السلام منهم ما سمع من الغلظة والتشديد في التهديد
قالَ مستوحشا منهم مستنكرا عليهم إِنِّي لِعَمَلِكُمْ هذا مِنَ الْقالِينَ المبغضين غاية البغض بحيث اكره(2/50)
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
مساكنكم وجواركم مطلقا وأريد الخروج من بينكم ولا أبالي من تهديدكم على بالإخراج والاجلاء ثم توجه نحو الحق وناجى معه مبغضا عليهم مشتكيا الى ربه بقوله رَبِ
يا من رباني بأنواع الطهارة والنظافة الصورية نَجِّنِي بفضلك وجودك وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ من العذاب الموعود النازل عليهم بشؤم عملهم هذا وبعد ما قد أصروا وبالغوا في الإصرار أنزلنا العذاب عليهم بعد ما استحقوا لإنزاله
فَنَجَّيْناهُ اى لوطا وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ من اصابة العذاب المنزل على قومه
إِلَّا عَجُوزاً من اهله وهي امرأته قد بقيت فِي الْغابِرِينَ الهالكين لميلها إليهم ومحبتها لهم
ثُمَّ دَمَّرْنَا وأهلكنا الْآخَرِينَ عن آخرهم
وَذلك بان قد أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً لم يعهد مثله إذ هو حجارة مهلكة لكل من أصاب فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مطرهم هذا
إِنَّ فِي ذلِكَ الأمطار والإهلاك لَآيَةً عظيمة على علو شأننا وسطوع حجتنا وبرهاننا وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بآياتنا العظام لذلك قد لحقهم ما لحقهم
وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بالوجود والبقاء لا موجود سواه ولا اله الا هو الرَّحِيمُ المتجلى بالتجليات الحبية حسب الأسماء والصفات الذاتية من الأعيان والأكوان المنعكسة من الأسماء والصفات قال سبحانه
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ حين رأى منهم امارات الميل والانحراف عن القسطاس المستقيم الموضوع من لدن حكيم عليم المنبئ عن الاعتدال المعنوي أَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن بطش الله ايها المتجاوزون عن حدوده
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من عنده سبحانه أَمِينٌ مبلغ إليكم أمانته
فَاتَّقُوا اللَّهَ حق تقاته ولا تنقصوا المكيال والميزان وَأَطِيعُونِ فيما أرسلت به
وَلا تخافوا عن أخذ الجعل والرشى إذ انا ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ان شاء يعطيني جزاء إرشادي وإبلاغي ويوصلني الى منتهى املى ومرادى وعليكم ايها المكلفون المنحرفون عن جادة العدالة الإلهية إيفاء الكيل
أَوْفُوا الْكَيْلَ إيفاء تاما كاملا وَلا تَكُونُوا بتطفيفه وتنقيصه مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين حقوق عباد الله حتى لا يخسركم من رحمته
وَزِنُوا وقت وزنكم بغيركم من عباد الله بِالْقِسْطاسِ والميزان الْمُسْتَقِيمِ العدل السوى بحيث لا يميل ولا ينحرف الى جانب أصلا
وَعليكم ايضا ان لا تَبْخَسُوا ولا تنقصوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تكسروا سلعهم ولا تنقصوا من أسعارها وَبالجملة لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ ولا تتمشوا عليها بالظلم مُفْسِدِينَ بأنواع الفسادات
وَكيف تفسدون فيها وتظلمون من عليها اتَّقُوا الله القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَكُمْ وأظهركم من كتم العدم وَكذا قد خلق وأوجد أمثالكم الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وذوى الخلقة من المتقدمين من اسلافكم وغيرهم ايضا وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا من الحكم والتذكيرات
قالُوا متهكمين مستهزئين إِنَّما أَنْتَ يا شعيب مِنَ الْمُسَحَّرِينَ المجنونين الذين قد ضاعت عقولهم بالسحر والافتتان
وَكيف تكون أنت من المرسلين مع انك ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ومن اين يتيسر لبشر أن يكون مرسلا من رب العالمين وَبالجملة إِنْ نَظُنُّكَ في دعواك الرسالة لَمِنَ الْكاذِبِينَ المفترين والا
فَأَسْقِطْ بدعائك عَلَيْنا كِسَفاً قطعا مِنَ السَّماءِ اى من بعض اقطاعها لتهلكنا بها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أمرك هذا ورسالتك هذه وبعد ما ايس شعيب عليه السلام عن ايمانهم
قالَ لهم مشتكيا الى الله رَبِّي أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِما تَعْمَلُونَ أنتم(2/51)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
من انواع الفسادات وبمقدار ما تستحقون عليها من العذاب والجزاء وبالجملة
فَكَذَّبُوهُ تكذيبا شديدا وأنكروا عليه إنكارا بليغا ولم يقبلوا قوله فاستحقوا العذاب فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ على الوجه الذي اقترحوا منه بان قد شدد الله عليهم الحر حيث اضطروا الى الاستظلال وذلك يوم قد غلت المياه في الأنهار فأظلتهم السحابة بغتة فازدحموا تحتها مستظلين بها فأمطر الله عليهم نارا فاحترقوا بالمرة إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظم جرمهم وعذابهم فيه
إِنَّ فِي ذلِكَ الأخذ والإنزال والاظلال لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قهرنا إياهم وزجرنا وانتقامنا عنهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بقهرنا وغضبنا ومقتضيات اوصافنا الجلالية
وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على عموم المرادات والمقدورات من الثواب والعقاب والانعام والانتقام الرَّحِيمُ على من وفقهم الى مقتضى ما رضى عنهم ويسر لهم الامتثال بما أمرهم ونهاهم هذا آخر القصص السبع المذكورة لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدالة على ان المكذبين للرسل مأخوذون بأنواع العذاب مستهلكون بأصناف العقاب والنكال انما ذكر سبحانه ليعتبر منها المعتبرون من المؤمنين ويتفطن المكذبون ما سيلحقهم من العذاب لو أصروا على ما هم عليه من التكذيب والعناد
وَإِنَّهُ اى القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ كالكتب السالفة قد
نَزَلَ بِهِ بالتخفيف الرُّوحُ الْأَمِينُ كما نزل بسائر الكتب الماضية وهو جبريل عليه السلام سمى به لأمانته على الوحى الإلهي حيث أوصله الى من اليه انزل على وجهه بلا تغيير وتبديل أصلا دائما وانما نزل به
عَلى قَلْبِكَ يا أكمل الرسل لِتَكُونَ أنت ايضا كسائر الرسل مِنَ الْمُنْذِرِينَ لتنذر اهل الغفلة والغرور من قومك كما انذروا لذلك قد أنزله سبحانه
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ظاهر الدلالة واضح الفحوى مناسبا بلغة من أرسلت إليهم ولو أنزله على لغة العجم كالكتب السابقة لقالت العرب ما نفهم معناه ولا نعرف فحواه ومقتضاه
وَإِنَّهُ اى إنزال القرآن عليك يا أكمل الرسل عربيا لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مثبتا مزبورا في كتبهم مع نعتك ايضا وحليتك وجميع اوصافك وأسمائك
أَينكرون صدق القرآن وصحة نزوله من عند العليم العلام على محمد صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ولم يكف آيَةً ودليلا تدل على صدقه وحقيته وصحة نزوله من عند الله أَنْ يَعْلَمَهُ ويعرفه ويروى أوصافه عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ وأحبارهم يخبرون به ويقرؤن في كتبهم اسمه واسم من انزل اليه ونعته وحليته
وَلَوْ نَزَّلْناهُ اى القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ بلسانهم وعلى لغتهم ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ حينئذ البتة معللين بانا لا نفهم معناه ولا نعرف فحواه فكيف عملنا به وامتثلنا بما فيه
كَذلِكَ اى مثل ما قررنا القرآن وأدخلناه في قلوب المؤمنين سَلَكْناهُ وأدخلناه ايضا فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ان المؤمنين قد آمنوا به وامتثلوا بما فيه لصفاء طينتهم والمجرمون
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عنادا ومكابرة لخبث طينتهم حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم الملجئ لهم الى الايمان فآمنوا به لكن في وقت لا ينفعهم ايمانهم
فَيَأْتِيَهُمْ العذاب الموعود لهم حينئذ من قبل الحق بَغْتَةً بلا تقديم مقدمة وسبق امارة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ نزوله فَيَقُولُوا بعد ما نزل عليهم ووقعوا فيه متحسرين متحننين هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ممهلون زمانا حتى نتدارك ما قد فوتنا على أنفسنا من الايمان بالله وتصديق كتبه ورسله قيل لهم حينئذ من قبل الحق
أَيستمهلون ويستنظرون أولئك المصرون المسرفون فَبِعَذابِنا هذا قد كانوا يَسْتَعْجِلُونَ فيما مضى مستهزئين متهكمين(2/52)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
قائلين لرسلنا فأتنا بما تعدنا الآية وأمطر علينا حجارة الآية وأسقط علينا كسفا الآية وأمثال ذلك من الآيات وحين نزل عليكم العذاب الموعود تستنظرون وتستمهلون
أَفَرَأَيْتَ وعلمت ايها الرائي الخبير والمعتبر البصير إِنْ امهلناهم في الدنيا زمانا طويلا بان مَتَّعْناهُمْ فيها سِنِينَ تمتيعا بليغا ورفعناهم فيها ترفيها بديعا
ثُمَّ جاءَهُمْ ونزل عليهم بعد زمان طويل ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب البتة وبالجملة
ما أَغْنى عَنْهُمْ ولم يدفع طول مكثهم فيها شيأ من العذاب ولم يخفف عذابهم أصلا ما كانُوا يُمَتَّعُونَ اى تمتيعهم زمانا طويلا فإذا لا فرق بين إمهالهم وبين تعجيل العذاب عليهم وَمن سنتنا المستمرة وعادتنا القديمة انا ما أَهْلَكْنا مِنْ اهل قَرْيَةٍ من القرى القديمة الهالكة إِلَّا قد أرسلنا أولا لَها أنبياء ورسلاهم مُنْذِرُونَ يخوفون عماهم عليه من الأمور المستجلبة للعذاب المستوجبة له وانما أرسلنا إليهم من أرسلنا وانذرناهم عما انذرناهم أولا ليكون
ذِكْرى اى تذكرة وعظة منا إياهم حتى لا ينسبوننا الى الظلم ولا يجادلون معنا وقت حلول العذاب عليهم وَايضا قد ظهر عندهم انا ما كُنَّا ظالِمِينَ بتعذيبهم بأنواع العذاب وبعد ما نسب المشركون المكابرون تنزيل القرآن المعجز إليك يا أكمل الرسل بالشياطين وطعنوا فيه بانه ما يلقى الشيطان الى الكهنة والرهابين رد الله عليهم بقوله
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ اى بالقرآن الفرقان المعجز لفظا ومعنى المبنى على الهداية المحضة ظاهرا وباطنا الشَّياطِينُ الضالون المضلون إذ لا يتأتى منهم الهداية أصلا
وَما يَنْبَغِي وما يصح لَهُمْ الإتيان بالهداية والرشد وَما يَسْتَطِيعُونَ وما يقدرون عليها إذ الهداية والإرشاد انما هي من طيب النفس وطهارة الفطرة وزكاء الفطنة وصفاء الجبلة وهم ليسوا كذلك بل هم مجبولون على الخباثة في اصل الخلقة واما استماعهم وسماعهم من الملائكة أمثال هذا ايضا فلا يتأتى منهم ولا يمكنهم من رداءة فطرتهم وفطنتهم وخباثة جبلتهم وطينتهم
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة لَمَعْزُولُونَ لان الاستماع منهم مشروط بالمناسبة لهم في التجرد عن العلائق مطلقا وصفاء الفطرة عن إكدار الطبيعة رأسا إذ قبول الفيض انما هو عند هبوب نسمات النفسات الرحمانية والتعرض والاشتياق منها ومن نفحاتها على الدوام وظاهر ان نفوسهم الخبيثة ليست بهذه المثابة والقرآن الفرقان محتو على حقائق ومعارف ومكاشفات ومشاهدات لا يمكن صدورها الا ممن هو منبع جميع الكمالات ومنشأ عموم الخيرات والمطلع على جميع السرائر والخفيات والقادر المقتدر على عموم المرادات والمقدورات فكيف يليق بكمال القرآن ان ينسب الى الشيطان تعالى شأن القرآن عما ينسب اليه الظالمون علوا كبيرا. ثم أشار سبحانه الى تحريك سلسلة اشواق المحبين وتهييج اخلاص الموحدين المخلصين المنقطعين نحو الحق الساعين بافناء هوياتهم الباطلة في طريق توحيده الباذلين مهجهم في مسلك الفناء ليفوزوا بشرف البقاء واللقاء فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ناهيا له عن التوجه والالتفات نحو الغير مطلقا
فَلا تَدْعُ ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق على الحق مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية إِلهاً آخَرَ من مظاهره ومصنوعاته إذ الكل في حيطة أوصافه وأسمائه لا وجود لها لذاتها بل انما هي عكوس واظلال للأسماء والصفات الإلهية فَتَكُونَ أنت بجمعيتك وكمالك لو دعوت واتخذت الها آخر لقد صرت أنت البتة مِنَ الْمُعَذَّبِينَ بأنواع التعذيبات الصورية والمعنوية العقلية والحسية الجسمانية والروحانية انما خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بهذا(2/53)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
الخطاب الهائل وعاتبه بهذا العتاب الهائب ليتنبه المؤمنون ويتفطنوا بكمال غيرة الله المتفرد المتوحد القهار للاغيار مطلقا
وَبعد ما قد ظهر عندك يا أكمل الرسل غوائل الشرك بالله ولاح دونك ما يترتب عليه من القهر الإلهي وغضبه أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ وقرابتك سيما الْأَقْرَبِينَ منهم واهتم بشأنهم أشد اهتماما حتى تنقذهم من الشرك المستجلب لانواع الغضب والعذاب من قبل الحق
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ وآمن لك منهم اى لين جانبك نحوهم وابسط موانستك معهم ومصاحبتك إياهم حتى صار كلهم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الناجين من عذاب الله وسخطه
فَإِنْ عَصَوْكَ وانصرفوا عنك واعرضوا عن موانستك بعد ما قد لنت لهم وواسيت معهم ولم يقبلوا منك دعوتك وإنذارك فَقُلْ مستبرأ منهم مستنزها نفسك عنهم وعن أعمالهم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يعنى منكم ومن عملكم الذي أنتم تعملونه مصرين مستكبرين
وَان عادوك وعاندوا معك الى ان قصدوا مقتك تَوَكَّلْ في دفعهم ورفع مؤنتهم عَلَى الْعَزِيزِ الغالب لقهر الأعداء القادر المقتدر على غضبهم وانتقامهم بأنواع البلاء والعناء الرَّحِيمِ على الأولياء ينصرهم على أعاديهم ويدفع عنهم شرورهم وكيف لا يرحمك يا أكمل الرسل ولا يكفيك ولا يكف عنك مؤنة أعدائك
الَّذِي يَراكَ
اى القيوم القادر الذي يشهدك ويشاهدك حِينَ تَقُومُ
من منامك خلال الليالى طلبا لمرضاته ورفعا لحاجاتك نحوه
وَايضا يشاهد تَقَلُّبَكَ وترددك جوف الليل فِي تفقد احوال المؤمنين السَّاجِدِينَ المتذللين نحو الحق الواضعين جباههم على تراب المذلة والانكسار شوقا اليه وتحننا نحوه من افراط المودة ومن شدة اشتعال نار العشق والمحبة الإلهية المطفئة لنيران الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة وكيف لا يتذللون اليه سبحانه ولا يتمنون نحوه
إِنَّهُ بذاته هُوَ السَّمِيعُ لمناجاتهم وعرض حاجاتهم الْعَلِيمُ لمقاصدهم وطيب أغراضهم وخلوص نياتهم وإخلاصهم في أعمالهم وبعد ما رد سبحانه قول من قال ان القرآن منزل من قبل الشياطين لا من الملائكة واثبت ان انزاله منه سبحانه وإيصاله من الروح الأمين على الرسول الأمين إذ المناسبة بينهما مرعية والمشاكلة مثبتة مرضية أراد ان يشير سبحانه الى ان تنزيل الشياطين وتسويلهم انما هو لأوليائهم الذين قد كملت نسبتهم إليهم وصحت مناسبتهم معهم فقال
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ وأخبركم ايها المسرفون المردودون في امر القرآن واعجازه وانزاله من قبل الحق القادحون فيه بنسبته الى تنزيل الشياطين او الى الشعر الذي من جملة وساوسهم وتخييلاتهم ايضا مع ان القرآن الفرقان مشتمل على معارف وحقائق ورموزات وشهودات لا يسع الإتيان بها والتعبير عنها الا لمن هو علام الغيوب مطلع على سرائر ارباب الكشف والشهود وأبين لكم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ للاضلال والوسوسة والتحريف عن طريق الحق والتغرير بالأباطيل
تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ مبالغ في الإفك والافتراء أَثِيمٍ مغمور في الإثم والعصيان وانواع الفسوق والطغيان لتحقق مناسبته مع الشياطين الذين
يُلْقُونَ السَّمْعَ للملائكة ويصغون منهم بعض المغيبات ويخبرون بها لا على وجهها إذ ليس غرضهم من الإصغاء الا الإفساد والرد لا الإصلاح والقبول وَلذلك قد كان أَكْثَرُهُمْ هم كاذِبُونَ فيما يسمعون ويلقون إذ هم يحرفون ويزيفون ما سمعوا ترويجا لما هم عليه من الفساد والإفساد وتغريرا لأوليائهم بأنواع التغريرات
وَمن جملة اولياء الشياطين المنتسبين إليهم بالنسبة الكاملة الكاذبة الشُّعَراءُ المذبذبون بين الأنام بأكاذيب الكلام واباطيله لذلك يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الضالون من جنود الشياطين المتبعون لهم لترويج أباطيلهم الزائغة(2/54)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ ومن تابعهم من الغواة فِي كُلِّ وادٍ من اودية الضلال والطغيان يَهِيمُونَ ويترددون حيارى سكارى تائهين بلا ثبات ولا قرار مترددين في معاشهم ومعادهم
وَأَنَّهُمْ من غاية غفلتهم وسكرتهم في امور معاشهم يَقُولُونَ بأفواههم ويخبرون بألسنتهم تلقفا ما لا يَفْعَلُونَ ولا يتصفون به من الأخلاق والحكم والمواعظ والرموز والإشارات التي قد صدرت عنهم هفوة وهم لا يمتثلون بها أصلا
إِلَّا الشعراء الحكماء الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله واتصفوا بالحكمة المعتدلة المودعة في قلوبهم الظاهرة آثارها من ألسنتهم ومضوا على مقتضى الاعتدال المعنوي الذي قد جبلهم الحق عليه بلا تلعثم منهم وتزلزل عن مقتضى فطرتهم الاصلية وفطنتهم الجبلية وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأعمال المصلحة لمفاسدهم المهذبة لأخلاقهم وأطوارهم وَمن اجلة أخلاقهم انهم قد ذَكَرُوا اللَّهَ المستوي على صراط العدالة والاستقامة في اشعارهم وقصائدهم كَثِيراً في عموم أوقاتهم وحالاتهم بل اكثر اشعارهم انما هو لإثبات توحيد الحق وتبيين معارفه وحقائقه وكذا لإظهار رموز ارباب الكشف والعيان والتذكيرات المتعلقة بترك المألوفات وقطع التعلقات المنافية لصفاء مشرب التوحيد وبعض اشعارهم متعلق بردع اهل الهواء والآراء الفاسدة وهتك محارمهم واعراضهم وتعداد مقابحهم ورذائلهم وَذلك بأنهم قد انْتَصَرُوا باشعارهم هذه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا من أيدي الجهلة وألسنة الكفرة المتعنتين المستكبرين على ارباب المحبة والولاء من المنقطعين نحو الحق السالكين سبيل توحيده وَبالجملة سَيَعْلَمُ الظلمة المفسدون والكفرة المستهزءون المسرفون الَّذِينَ ظَلَمُوا على اهل الحق وآذوهم بالسنان واللسان وانواع القدح والطعنان ونسبوهم الى الإلحاد والعناد ورموهم بأنواع الفسوق والفساد مع انهم هم على صرافة التوحيد متمكنون ومن امارات الكثرة والتقليد متنزهون وسيعلمون أولئك المردة الرامون المفرطون المسرفون أَيَّ مُنْقَلَبٍ واى مرجع ومآب يَنْقَلِبُونَ ويرجعون أيدخلون في حفر النيران والخذلان وهم منكوسون أم الى روضة الرضا وجنة التسليم وهم مسرورون ألا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
خاتمة سورة الشعراء
عليك ايها السالك المراقب لاعتدال الأطوار والأخلاق والأعمال وجميع الشئون والأحوال المتعلقة بنشأتى الدنيا والعقبى ان تراجع ذوقك ووجدانك في جميع ما جرى عليك من الأحوال وتتأمل فيه حق التأمل الى ان تطلع على مبدئه ومنشأه ثم تتفكر في صدوره هل هو على مقتضى الاعتدال والقسط الإلهي صدر ما صدر أم على مقتضى الهوى الغالب الذي من جنود الامارة المستمدة من إغواء الشيطان واغرائه فان وجدته على مقتضى القسط والهدى الإلهي والعدل الجبلي السوى فطوبى لك وان وجدته على مقتضى الهوى فعليك ان تعالجه وتلازم في إصلاحه واستقامته بالرياضات القالعة لعرق الأماني والآمال والمرادات المتعلقة بمستلذات الدنيا الفانية عن أصلها وتواظب على أشق الطاعات واتعب العبادات عن صوم الأيام ومشى الاقدام ومشق الأقلام وانقطاع صحبة الأنام والخروج من بين العوام والاعتزال نحو الجبال والآجام والعكوف في مطاوى الكهوف وخلال الخلوات والاشتغال بالميل والصلوات المقربة نحو الحق حتى تعتدل اوصافك واخلاقك وتستقيم افعالك واحوالك فحينئذ قد انكشف لك باب التوحيد وانفلق عليك وسد دونك مداخل الرياء(2/55)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
والسمعة والعجب وانواع الكدورات اللاحقة من الخلطة والمؤانسة مع الناس والمصاحبة معهم المكدرة لصفاء مشرب التوحيد. واعلم يا أخي احسن الله احوالك وأصلح شأنك ان ارباب المحبة الكاملة والولاء التام هم الذين يبذلون مهجم في سلوك سبيل الفناء والافناء بلا التفات منهم الى احد من الناس لا خيرا ولا شرا ولا نفعا ولا ضرا بل هم من كمال حيرتهم واستغراقهم في مطالعة جمال الله وجلاله لا يلتفتون الى نفوسهم فكيف الى غيرهم ولا يتيسر لك هذا الا بتوفيق الهى وجذب من جانبه ومتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلّم في عموم أطواره وأخلاقه وجميع سننه وآثاره وبملازمة خدمة مرشد رشيد عاقل كامل منبه نبيه هاد مهتد يوقظك من منام غفلتك ويرشدك الى منتهى مقصدك وقبلتك. رب هب لي من لدنك حكمة وحكما والحقنى بالصالحين
[سورة النمل]
فاتحة سورة النمل
لا يخفى على ارباب الهداية الكاملة من الراسخين في مقر العز والتمكين الواصلين الى سر الوحدة الذاتية بمقتضى اليقين الحقي متدرجين من مرتبتي العلم والعين إلهاما بعد ما سبقت لهم العناية الازلية والجذبة الإلهية والبشارة المتضمنة لانواع الرموز والإشارة من قبل الحق الحقيق بالحقية ان من اهتدى الى مرتبة التوحيد الذاتي وتمكن على تلك المرتبة مطمئنا راسخا بلا طريان تزلزل وتلوين لا بد ان يقيم ويديم صلاته وميله نحو الذات الاحدية مهذبا ظاهره وباطنه عن الميل والالتفات الى ما سواه من المزخرفات الفانية الشاغلة الملهية له عن الفناء فيه والبقاء ببقائه وايضا لا بد له ان يميت نفسه بالموت الإرادي عن مقتضيات أوصافه البشرية وقواه الناسوتية المبعدة عن التقرب بكنف اللاهوت وجوار حضرة الرحموت القيوم الذي لا ينام ولا يموت وبالجملة لا بدله الانخلاع عن خلعة التعيينات العدمية المقتضية للتعدد والكثرة مطلقا حتى يتصف بالطهارة الحقيقية والطيب المعنوي والسعادة السنية والسيادة السرمدية وبذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا على ما ظهر وبطن من الأشياء الرَّحْمنِ لعموم عباده بالرزق الأوفى الرَّحِيمِ لخواصهم بالمثوبة العظمى والدرجة العليا وبالترقى من ارض الطبيعة الى سموات الصفات والأسماء واللحوق بالملإ الأعلى والوصول الى سدرة المنتهى
[الآيات]
طس يا طالب السيادة السرمدية والسعادة السنية الازلية الابدية تِلْكَ الآيات المتلوة عليك تعظيما لشأنك وتتميما لبرهانك آياتُ الْقُرْآنِ اى بعض آيات القرآن المبين المبين لدلائل التوحيد وبينات الفرقان الفارق بين الحق والباطل من الاحكام وَكِتابٍ مُبِينٍ منتخب من لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي المحيط بجميع ما لمع عليه برق تجلياته الحبية انما أنزلت إليك يا أكمل الرسل من عنده سبحانه لتكون
هُدىً هاديا لك الى مقام التمكن من التوحيد الذاتي وَلتكون ايضا بُشْرى بأنواع السعادات ونيل اصناف الخيرات والبركات ورفع الدرجات وانواع المثوبات لِلْمُؤْمِنِينَ التابعين لك في شأنك ودينك ان اطمأن قلوبهم بالإيمان اى اليقين العلمي المستجلب لليقين العيني والحقي والمطمئنون المتمكنون
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ المكتوبة المفروضة لهم من قبل الحق في الأوقات المخصوصة ويؤدونها على الوجه الذي وصل إليهم من صاحب الشرع الشريف والدين الحنيف بلا تخفيف ولا تسويف ليتقربوا بها نحو الحق ويزداد يقينهم وتصديقهم بسببها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ المصفية لقلوبهم عن الميل الى ما سوى الحق من الزخرفة الفانية الدنية الدنيوية(2/56)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
ويتمكنوا بسببها على إسقاط عموم الإضافات العائقة عن الوصول الى وحدة الذات وَبالجملة هُمْ في عموم شئونهم وحالاتهم بِالْآخِرَةِ المعدة لجزاء الأعمال وتنقيد الأفعال هُمْ يُوقِنُونَ علما وعينا لان ارباب الخبرة والبصيرة المنكشفين بتعاقب النشأتين يرون في النشأة الاولى ما سيحلقهم في الاخرى لذلك يترددون في الاولى للأخرى ويزرعون فيها ما يحصدون فيها. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بِالْآخِرَةِ عنادا ومكابرة قد زَيَّنَّا وحسنا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة الفاسدة الدنيوية وامهلناهم عليها زمانا ليستحقوا أشد العذاب وأسوأ العقاب فَهُمْ بواسطة امهالنا إياهم في سكرتهم وغفلتهم يَعْمَهُونَ يترددون ويتحيرون بطرين بما لهم من التنعم والترفه وبالجملة
أُوْلئِكَ البعداء عن عز الحضور الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ في النشأة الاولى إذ هم مترددون في اودية الإمكان بأنواع الخيبة والحرمان مقيدون بأصناف الأماني والآمال الطوال في بيداء الوهم والخيال وصحراء الحيرة والضلال لا نجاة لهم منها ولا ثبات لهم فيها وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والخذلان السرمدي لا يرجى لهم نيل مثوبة ورفع درجة وتخفيف عذاب وقبول شفاعة ولا خسران أعظم من ذلك لذلك قد أصاب يوم بدر ما أصاب ويصيب لهم في الآخرة بأضعافه وآلافه قال سبحانه مخاطبا لحبيبه تفضلا عليه وامتنانا له في انزاله القرآن اليه ووحيه عليه
وَإِنَّكَ يا أكمل الرسل لنجابة طينتك وطهارة فطنتك وفطرتك لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ ويؤتى بك وينزل إليك مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ مبالغ في الإتقان والاحكام عَلِيمٍ باستعدادات الأنام وقابلياتهم التي بها تتفاوت طبقاتهم فضلا وكرامة. ثم أخذ سبحانه بتعداد بعض ارباب الطبقات والكرامات حثا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم الى التوجه نحوه والتحنن اليه والمواظبة على شكر نعمه فبدأ بموسى صلوات الرحمن عليه وسلامه فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ قالَ أخوك مُوسى الكليم صلوات الرحمن عليه وسلامه لِأَهْلِهِ وزوجته ابنة شعيب عليه السلام حين سار معها من مدين الرشد الى مصر وهي حاملة والليلة شاتية مظلمة وهم ضالون عن الطريق فجاءها الطلق واضطر موسى في أمرها فرأى شعلة نار من بعيد فقال لأهله اثبتوا مكانكم إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ هذه الساعة مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق يخبر به من عندها إذ النار قلما تخلو عن ناس موقدين لها أَوْ آتِيكُمْ ان لم أجد عندها أحدا بِشِهابٍ اى جمر ذي قَبَسٍ اى مقتبس مشتعل منها لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ وتستدفئون من البرد وتستضيئون منها للطريق فاستقروا في مكانهم فذهب موسى نحوها
فَلَمَّا جاءَها اى النار ووصل عندها نُودِيَ من وراء سرادقات العز والجلال تكريما لموسى وتعظيما له وتنبيها عليه من ان مرجع جميع مقاصدك وحوائجك هو الحق فاطلبه وصل اليه حتى تجد عنده عموم مقاصدك أَنْ بُورِكَ اى الشأن انه قد اكثر عليك الخير والبركات يا موسى مَنْ فِي النَّارِ اى من ظهر فيها ولاح عليها وَمَنْ ظهر حَوْلَها اى أطرافها وحواليها إذ هو سبحانه محيط بعموم الأماكن والجهات ظاهر منها متجل عليها غير متمكن فيها وَبعد ما تحققت بشهود الحق من جميع الأماكن ومن عموم الأشياء نزه ذاته عن الحلول فيها والاتحاد بها فقل سُبْحانَ اللَّهِ المنزه عن الأماكن كلها المتجلى في جميعها رَبِّ الْعالَمِينَ يربيها بدوام التجلي الحبى عليها وبامتداد الاظلال والعكوس الفائضة منه سبحانه عليها المظهرة لها المربية إياها(2/57)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
ثم لما سمع هذا الصدا وقلق وارتعد واستوحش عن هذا النداء وقرب الى ان صار مغشيا عليه من شدة هوله ودهشته وكمال ولهه وحيرته نودي ثانيا ايضا باسمه استيناسا له وازالة لاستيحاشه
يا مُوسى إِنَّهُ اى ان من ناداك في النار وظهر عليك على صورتها أَنَا اللَّهُ المحيط بعموم المظاهر والأكوان احاطة البحر لجميع الأمواج والازباد والشمس لعوم الأضواء والاظلال والروح لجميع الأعضاء والاجزاء من البدن الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر لقهر مطلق السوى والأغيار الْحَكِيمُ المتقن في جميع الأفعال والآثار الصادرة الظاهرة منى على أبدع ارتباط وابلغ انتظام ونظام
وَبعد ما أزال الله سبحانه وحشته واذهب ولهه ودهشته بالمؤانسة والمواساة معه قال له سبحانه آمرا إياه أَلْقِ عَصاكَ التي قد أخذتها بيدك يا موسى على الأرض لترى من عجائب صنعتنا وغرائب حكمتنا ما ترى حتى تتنبه أنت من تبدل صورتها وسيرتها الى سرسريان وحدتنا الذاتية السارية في المظاهر فألقاها على الفور فإذا هي حية تسعى فَلَمَّا رَآها اى موسى العصا تَهْتَزُّ وتتحرك كَأَنَّها جَانٌّ اى حية صغيرة سريعة السير وَلَّى وانصرف موسى منها مُدْبِراً خائفا منها قلقا حائرا من أمرها وَلَمْ يُعَقِّبْ موسى نحوها ولم يرجع إليها ليأخذها هيبة وخوفا وقلنا له مناديا إياه ليقبل عصاه يا مُوسى لا تَخَفْ من عصاك ستعود على سيرتها الاصلية إِنِّي من كمال مرحمتى واشفاقى على خلص عبادي لا يَخافُ لَدَيَّ احد من أوليائي سيما الْمُرْسَلُونَ منهم المختارون للرسالة والتشريع العام ألا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ من المرسلين بارتكاب ذنب صدر منه لا عن عمد ثُمَّ بَدَّلَ وتدارك ذنبه حُسْناً بالتوبة والندامة بَعْدَ سُوءٍ صدر عنه وهو يخاف عنى بسبب ذنبه فَإِنِّي ايضا غَفُورٌ له ولأمثاله اغفر لهم واعف عن زلاتهم رَحِيمٌ ارحمهم واقبل توبتهم بعد ما صدرت عن خلوص الطوية ومحض الندم
وَبعد ما قد رأى موسى من عجائب العصا ما رأى قال له سبحانه ثانيا آمرا أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ يا موسى تَخْرُجْ على الفور منه اى أدخلها فأخرجها ترها بَيْضاءَ محيرة للعقول والأبصار مع ان بياضها مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مرض عرض عليها برص وغيره ثم قيل له من قبل الحق هي اى اليد البيضاء آية ومعجزة جديدة دالة على نبوتك ورسالتك موهوبة لك من لدنا معدودة محسوبة فِي تِسْعِ آياتٍ عظام قد وهب لك وهي العصاء واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب ثم بعد ما شهدت من يدك وعصاك ما شهدت يكفيك شهادتهما على صدقك في دعواك الرسالة مع ان لك معجزات كثيرة سواهما اذهب أنت مرسلا من عندي إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وبلغهم إنذاري وتخويفى ونزول عذابي إليهم من سوء صنيعهم إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضى الحدود الموضوعة فيهم من عندنا وبوضعنا فذهب موسى باذن الله ووحيه الى فرعون واظهر الدعوة عنده واقام البينة عليها
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ اى ظهرت على فرعون وقومه آياتُنا الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا وصدق من قد أرسلنا إليهم لإرشادهم وتكميلهم مع كونها آية مُبْصِرَةً موضحة مثبتة مبينة لهم صدق موسى في دعوى الرسالة ظاهرة لائحة في نفسها انها معجزة ما هي من جنس السحر والشعبذة قالُوا من فرط عتوهم وعنادهم ومن شدة بطرهم وسكرتهم هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر انه مجعول بمكر وحيل كثيرة
وَمن كمال استنكافهم واستكبارهم قد جَحَدُوا بِها وأنكروا لها ولم يلتفتوا إليها ظاهرا وَالحال(2/58)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
انها قد اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ انها معجزة خارقة للعادة قد صدرت عن امر الهى لا عن مكر وخديعة فظلموا أنفسهم بتكذيب ما استقر في أنفسهم صدقه وكونه معجزة ظُلْماً صريحا وَعُلُوًّا على الحق وميلا منهم نحو الباطل حسدا وعنادا واستكبروا على موسى وأنكروا جميع ما جاء به من عند ربه علوا وعتوا فَانْظُرْ ايها المعتبر الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ المستكبرين الذين يكذبون ما يعلمون يقينا حقيته في نفوسهم وينسبونه بأفواههم الى السحر والشعبذة عنادا ومكابرة فانظر مآل أمرهم وعاقبته كيف اغرقوا واستوصلوا في بحر الغفلة والغرور بحيث لم يبق منهم احد يخلفهم ويحيى اسمهم ورسمهم
وَمن سعة جودنا وعموم فيضنا وفضلنا لَقَدْ آتَيْنا وأعطينا داوُدَ وَابنه سُلَيْمانَ عِلْماً متعلقا بالحكم والاحكام وعموم تدبيرات الأنام وضبط أحوالهم وأوضاعهم المتداولة بينهم من الإنصاف والانتصاف واقامة الحدود وسد الثغور وغيرها من الأمور المتعلقة بضبط المملكة وَقالا بعد ما رأيا ترادف نعم الله عليهما وتواليها لهما حين أرادا ان يشكر الله ويؤديا حقوق نعمه الجليلة ومنحه الفاضلة الجزيلة الْحَمْدُ والمنة والثناء التام الناشئ عن عموم الألسنة وعن جميع الجوارح والآلات الممنونة من نعمه المغمورة بموائد لطفه وكرمه ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستحق لعموم المحامد والاثنية الصادرة من ذرائر الأكوان طوعا المفضل المكرم الَّذِي قد فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ له الموحدين بذاته المصدقين لأنبيائه ورسله وكتبه وبالحكمة المتقنة المتعلقة بمرتبتى الناسوت واللاهوت الفائضة علينا الموهوبة إيانا من حضرة الرحموت ومن الحي الذي لا يموت
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ يعنى بعد ما انقرض داود استخلف عنه ابنه سليمان وورث منه نبوته وحكمته وحكومته وقد سخر له عموم ما سخر لداود مع زيادات قد خلا عنها أبوه وهو تسخير الجن والريح ومنطق الطير فإنها ما تيسر لأبيه وَبعد ما تمكن سليمان على مقر الحكومة والنبوة قالَ يوما للملأ الجالسين حوله تنويها وتشهيرا لنعم الله على نفسه يا أَيُّهَا النَّاسُ قد عُلِّمْنا بلسان الوحى وترجمانه مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا من فضل الله علينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ اى كثير من الأشياء لم يؤت مثله أحدا من العالمين إِنَّ هذا الإعطاء والتخصيص والتفضل من الله العزيز العليم لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ الظاهر اللائح فضله على كل احد والملك العظيم الذي لم يؤت أحدا من الأنبياء الماضين
وَاذكر يا أكمل الرسل يوم حُشِرَ وجمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ وقد كان معسكره مسيرة مائة فرسخ خمسة وعشرون للانس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش تمشى كل طائفة منهم من بنى نوعهم صافين مستوين وان تسابق بعضهم على بعض فَهُمْ حينئذ يُوزَعُونَ ويحبسون حتى يتلاحقوا ويتساوى صفوفهم وكان سليمان صلى الله عليه وسلم يأمر الريح فترفعه فوق رؤسهم مشرفا عليهم فتسير معه رخاء من كمال فضل الله عليه انه ما تكلم احد منهم بكلام الا وقد حملته الريح والقته في سمعه فبينما هو يسير مع عسكره هكذا قد رآه وجنده حراث فقال مستغربا متعجبا والله لقد اوتى آل داود ملكا عظيما فسمع سليمان عليه السلام قوله ومشى نحوه فقال له انما مشيت إليك لأوصيك ان لا تتمنى ما لا تقدر عليه وليس في وسعك تدبيره ثم قال والله لتسبيحة واحدة يتقبلها الله خير مما اوتى آل داود وقد كان سليمان صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام مع جنوده على الوجه المذكور
حَتَّى إِذا أَتَوْا ودخلوا عَلى وادِ النَّمْلِ هو واد في الشام كثير النمل ولذلك سمى به قالَتْ نَمْلَةٌ(2/59)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
بعد ما رأت سواد العسكر وأشعرت بعبورهم على الوادي منادية لاخوانها صائحة عليهم وصارخة يا أَيُّهَا النَّمْلُ الضعيف النحيف ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ مسرعين محترزين ولا تقفوا في الصحراء والبراء حتى لا يَحْطِمَنَّكُمْ ولا يطأنكم سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ بحوافر خيولهم وَهُمْ وان كانوا من ارباب البر والتقوى محترزين عن أمثالكم هذا الظلم الصريح الا انهم لا يَشْعُرُونَ بكم لصغركم وحقارتكم فيطئونكم بلا شعور وادراك وبعد ما سمع سليمان من النملة ما سمع
فَتَبَسَّمَ تبسما ظاهرا الى ان قد صار ضاحِكاً متعجبا مِنْ قَوْلِها المشتمل على انواع التدبيرات والخبرات من حسن المعاشرة مع الجيران وآداب المصاحبة مع الاخوان والتحذير عن مظان المهالك والمتالف قبل الوقوع فيها وغير ذلك وَبعد ما اطلع سليمان على قولها وغرضها وتوجه نحو الحق عادا على نفسه جلائل نعمه تعالى وآلائه قالَ حينئذ مناجيا اليه سبحانه رَبِّ يا من رباني بأنواع الخيرات والكرامات التي ما أعطيتها أحدا من خلقك أَوْزِعْنِي والهمنى ويسر على أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ووفقني على ان أؤدي حقوقها على الوجه الذي ينبغي ويليق بشأنك وشأنها ولا يتأتى منى هذا الا بتوفيقك وتيسيرك يا رب وفقني على إتمامها وتكميلها حسب فضلك وجودك وَيسر على ايضا أَنْ أَعْمَلَ في مدة حياتي عملا صالِحاً مقبولا عندك مرضيا لك تَرْضاهُ وَبعد ما توفيتني أَدْخِلْنِي في جنتك بِرَحْمَتِكَ وسعة فضلك وجودك فِي زمرة عِبادِكَ الصَّالِحِينَ المرضيين عندك المقبولين دونك وعدني من عدادهم واحشرني في حوزتهم ومن زمرتهم انك على ما تشاء قدير وبرجاء المؤملين جدير. ولما صار سليمان صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وقد كان الهدهد دائما رائده وبريد عسكره ودليلهم يدلهم على الماء عند الاحتياج إذ هو عالم بالمياه الى حيث يعرفه تحت الأرض ويعين موضعه وكان يأمر سليمان عفاريت الجن ليحفروها ويخرجوا منها الماء لدى الحاجة فاحتاج سليمان صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام الى الماء ولم يكن الهدهد حاضرا عنده فغضب عليه
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ وتعرفها مفصلا حتى يجده بينهم فلم يجد فغضب فَقالَ مغاضبا ما لِيَ اى اى شيء عرض على ولحق بي حتى صرت كذلك لا أَرَى الْهُدْهُدَ بين الطيور اهو حاضر عندي قد ستر على فلم أره أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ المتخلفين عن خدمتي ورفاقتي فو الله لو وجدته
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً بحيث آمر بنتف ريشه وحبسه في حر الشمس في محبس مضيق مع ضده أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ جدا ليعتبر منه سائر الخدمة أَوْ لَيَأْتِيَنِّي وليقيمن على لإثبات عذره بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة واضحة ظاهرة الدلالة مقبولة من ذوى الاعذار الصادقة عند اولى البصائر والأبصار وذوى القدر والاعتبار
فَمَكَثَ الهدهد بعد تفقد سليمان وتهديده زمانا غَيْرَ بَعِيدٍ مديد متطاول ثم حضر عنده بلا تراخ طويل فَقالَ معتذرا لغيبته ومكثه انما غبت عن خدمة السلطان لأني قد أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أنت يا سيدي يعنى قد تعلق ادراكى بمعلوم لم يتعلق به قبل لا علمي ولا علمك ولا علم احد من جنودك وَبعد وقوفي واطلاعى عليه قد جِئْتُكَ تلك الساعة بالعجلة مِنْ بلاد قبيلة سَبَإٍ من نواحي المغرب وبمن ملك عليها بِنَبَإٍ وخبر يَقِينٍ مطابق للواقع قد حققته وتحققت به وجئتك لشرحه قال سليمان عليه السلام مبتهجا مزيلا لغيظه وغضبه عنه مستكشفا عن خبره وما الخبر والنبأ ايها الصديق قال الهدهد
إِنِّي بعد ما قد وصلت الى ديارهم بأقصر مدة قد وَجَدْتُ وصادفت امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ اسمها بلقيس بنت شراحيل(2/60)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
من نسل يعرب بن قحطان وأمها كانت جنية لأنه ما كان يرى التزوج من الانس ولم يكن له ولد غيرها لذلك قد ورثت منه الملك فملكت وَمن كمال عظمتها وشوكتها ورتبتها ووفور زينتها قد أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ نفائسه وعجائبه ما لا يعد ولا يحصى وَلَها من جملة البدائع عَرْشٌ عَظِيمٌ من جميع عروش ارباب الولاية والملك قيل كان ثمانين ذراعا في ثمانين وارتفاعه ثلاثين او ثمانين ايضا وهو متخذ من الذهب والفضة مكلل بالدر والزمرد والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقد كانت قوائمه من ياقوت احمر واخضر وزمرد وعليه سبعة بيوتات على كل بيت باب مغلق وبالجملة
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ ويعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ المستحق للتذلل والعبادة وَمن غاية جهلهم بالله وغفلتهم عن كمال أوصافه العظمى وأسمائه الحسنى قد زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ هذه وعبادتهم هكذا فَصَدَّهُمْ الشيطان وصرفهم بتزيينه وتغريره عَنِ السَّبِيلِ السوى الموصل الى توحيد الحق الحقيق بالعبودية والتذلل فَهُمْ بسبب تضليل الشيطان وتغريره إياهم ورسوخهم على ما قد زينه لهم لا يَهْتَدُونَ الى التوحيد حسب فطرتهم الاصلية وجبلتهم الحقيقة فلا بد لهم من مرشد كامل وهاد مشفق يهديهم الى سواء السبيل مع انهم من زمرة العقلاء المميزين بين الهداية والضلال لأنهم لانهماكهم في الغفلة والغرور قد زين لهم الشيطان عبادة الشمس التي من جملة مظاهر الحق مقتصرين العبادة عليها لقصور نظرهم ولو نبههم منبه نبيه على توحيد الله واستقلاله سبحانه في عموم مظاهره لعل الله يوقظهم من منام الغفلة بان قال لهم مناديا إياهم
أَلَّا يَسْجُدُوا يعنى تنبهوا ايها الفاقدون قبلة سجودكم ووجهة معبودكم وانصرفوا عنها ايها القوم الضالون المنصرفون عن المسجود الحقيقي والمعبود المعنوي بل اسجدوا وتذللوا لِلَّهِ المتجلى في الأكوان المنزه عن الحلول في الجهات والمكان المقدس عن تتابع الساعات عليه وتعاقب الآنات والأزمان إياه بل له شأن لا يشغله شأن ولا يجرى عليه زمان ومكان العليم القدير الَّذِي يُخْرِجُ ويظهر بمقتضى علمه المحيط وقدرته الكاملة الشاملة الْخَبْءَ اى الشيء الخفى المطوى المكنون الكائن فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى سموات الأسماء الإلهية وأوصافه الذاتية وَايضا يَعْلَمُ سبحانه بعلمه الحضوري عموم ما تُخْفُونَ تكتمون وتسترون أنتم في سرائركم وضمائركم بل بالخفيات التي لا اطلاع لكم عليها أصلا بمقتضى قابلياتكم واستعداداتكم وَكذا عموم ما تُعْلِنُونَ أنتم ايضا من أفعالكم وأحوالكم وكيف لا يظهر المكنون من الأمور ولا يعلم خفيات الصدور
اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ المحيط بجميع ما قد لمع عليه بروق تجلياته المتشعشعة المتجددة المترتبة على أسمائه الذاتية الكاملة المستدعية للظهور والبروز عن أوصافه الفعلية والمقتضية لإظهار ما قد كمن من الكمالات المندمجة في الذات الاحدية الى فضاء الوجود والشهود وبعد ما سمع سليمان منه ما سمع
قالَ ممهلا عليه مستأخرا سَنَنْظُرُ ونصبر الى ان يظهر لدينا أَصَدَقْتَ فيما أخبرت به أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ المزورين قد زورت هذا للتخلص من العذاب الأليم. ولما صح الخبر ووضح صدقه عند سليمان صلوات الرحمن عليه وسلامه أراد ان يرسل الهدهد رسولا الى بلقيس فأمر الكتاب ان يكتبوا كتابا هكذا بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى اما بعد فلا تعلوا على وأتونى مسلمين ثم طبعه بالمسك وختمه بخاتمه ثم قال للهدهد
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ بحيث لم يتفطنوا بك وبأمرك ثُمَّ تَوَلَّ وانصرف(2/61)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
عَنْهُمْ وكن متواريا في قربهم فَانْظُرْ وتأمل ماذا يَرْجِعُونَ وما يرجعون وما يراجعون ويتراجعون بعضهم بعضا في المشاورات والمحاورات فأخذ الهدهد الكتاب وأتى بلقيس وهي نائمة في قصرها فألقاه على نحرها فلما استيقظت رأت الكتاب في نحرها فارتعدت وخضعت خوفا ثم جلست مع اشراف قومها وتشاورت معهم في شأن الكتاب حيث
قالَتْ منادية لهم مستفتية منهم يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي قد أُلْقِيَ اليوم إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ وصفته بالكرامة إذ هي نائمة في قصرها والأبواب مغلقة عليها فرأت في صدرها هذا بلا إحضار محضر وبعد ما سمعوا منها ما سمعوا كأنهم قالوا ممن وما مضمونه قالت
إِنَّهُ اى الكتاب مرسل مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ اى مضمونه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَّا تَعْلُوا اى عليكم ان لا تترفعوا ولا تتكبروا عَلَيَّ ولا تبالوا ببسطتكم وبشوكتكم وبالجملة لا يليق بكم وبشأنكم الا الإتيان على وجه الخضوع بلا كبر وخيلاء وَبعد ما انحصر أمركم على الإتيان أْتُونِي مُسْلِمِينَ منقادين لأمر الله مطيعين لحكمه وحكم رسوله بلا ممانعة وإباء واظهار مقاتلة ومقابلة ثم قرأت مضمون الكتاب عليهم وشرحت لهم فحواه
قالَتْ خائفة مضطربة منادية لهم ثانيا تأكيدا للتأمل والتدبر في هذا الأمر الهائل والشأن المهول يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي وأجيبوا على وأشيروا الى فِي أَمْرِي هذا واختاروا ما هو الأحوط واستصوبوا طريقا ورأيا اختر ذلك قطعا وآمر بها حكما وامض بها جزما إذ ما كُنْتُ قاطِعَةً جازمة أَمْراً امضى عليه واجزم به حَتَّى تَشْهَدُونِ له وتستصوبوه بل الأمر مفوض إليكم فاستصوبوا ما قد تقرر رأيكم عليه حتى امض على مقتضاه وبعد ما فوضت أمرها إليهم استعطافا واستظهارا
قالُوا اى الأشراف مستعلين مستكبرين حسب خيلاء اصحاب القدرة والقوة وارباب الجاه والثروة نَحْنُ قوم أُولُوا قُوَّةٍ وقدرة تامة عددا وعددا وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ قد انتشر صيتنا في الآفاق بالشدة والشجاعة وبأنواع الجرأة والاستيلاء والصولة على الأعداء والغلبة عليهم فنحن هكذا ولا خوف لنا لا منهم ولا من غيرهم وَالْأَمْرُ بعد ذلك مفوض إِلَيْكِ ونحن عبيدك فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ من القتال او الصلح نعمل على وفق ما امرتنا به
قالَتْ في جوابهم بعد ما تأملت وتعمقت في أمرها ورأيها نعم ان لنا كثرة وقوة وشوكة وشجاعة وصولة منتشرا في اقطار الأرض بأسها وصيتها الا ان الحرب خداع والقتال سجال لا تدرى عاقبتها ومآلها ولا اعتماد على الكثرة والجرأة بعد ما قد مضى القضاء ونفذ على الهزيمة ومن المقدمات المسلمة إِنَّ الْمُلُوكَ وارباب القدرة والاستيلاء إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً عنوة وقهرا أَفْسَدُوها وغيروا أوضاعها وبدلوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالغلبة والاستيلاء وَبالجملة كَذلِكَ يَفْعَلُونَ هؤلاء لو دخلوا على بلادنا هذه
وَبالجملة ما ينبغي ولا يليق بنا اليوم ولا يصلح بحالنا لا مقارعة باب المقاتلة بإمضاء السيوف ولا المصالحة ايضا بإعطاء الألوف بل إِنِّي مُرْسِلَةٌ رسلا إِلَيْهِمْ أولا مصحوبة بِهَدِيَّةٍ كثيرة لائقة بعظم شأننا وشأنهم لاختبرهم فَناظِرَةٌ انا منتظرة بعد ذلك بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ اى بأى شيء يعودون من عندهم بعد تجسسهم عن أحوالهم وأطوارهم ومعاشرتهم مع رسلنا حتى اعمل على مقتضى ما يرجعون هذا ما هو الا من كمال عقلها ورزانة رأيها وتدبيرها المملكة وصيانتها آداب السلطنة والامارة وضبط المملكة. روى انها قد أرسلت منذر بن عمرو في وفد وأرسلت معه غلمانا على زي الجواري وجواري على زي الغلمان وحقة فيها(2/62)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
درة عذراء لا ثقب لها وجزعة معوجة الثقب وقالت ان كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الجزعة خيطا وأرسلت ايضا أموالا عظاما من لبنات الذهب والفضة والعود والعنبر والكافور والمسك ومن أجناس الجواهر والنفائس من كل شيء فلما وصلوا معسكره قد رأوا عظمه ما شهدوا مثلها قط ولا سمعوا ايضا من احد
فَلَمَّا جاءَ الرسل سُلَيْمانَ وحضروا عنده على الوجه المعروف نظر نحوهم بوجه حسن طلق وتكلم معهم لينا حزنا مستخبرا عن احوال ملكتهم ومملكتهم ثم قالَ ما أمركم وشأنكم فأعطوا كتاب بلقيس فنظر فيه فإذا هي قد فصلت فيه جميع ممتحناتها قال سليمان عليه السلام اين الحقة فجئ بها فقال ان فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة معوجة الثقب فأمر سليما الارضة فأخذت شعرة فدخلت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر وامر دودة اخرى حتى دخلت في الجزعة المعوجة الثقب بخيط وخرجت من الجانب الآخر وميز ايضا بين الجواري والغلمان حيث أمرهم بغسل الوجه واليد فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها وتصبه في الاخرى ثم تضربه وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به الوجه ثم أتوا ببقاء الهدايا المرسلة فأبى سليمان عليه السلام وامتنع من قبولها ورد كله إليهم مهددا عليهم حيث قال أَتُمِدُّونَنِ وتزيدونني بِمالٍ يميل إليها أبناء الدنيا الدنية المحرومون عن اللذات الاخروية فَما آتانِيَ اللَّهُ المنعم المفضل على من الأمور الاخروية واللذات اللدنية من النبوة والرسالة وتسخير الثقلين والرياح والطيور والوحوش وجميع من في الجو وعلى وجه الأرض خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية فما لنا ميل والتفات إليها بَلْ أَنْتُمْ وأمثالكم من أبناء الدنيا بِهَدِيَّتِكُمْ هذه تَفْرَحُونَ تميلون وتسرون بها لفخركم بأمثال هذه الزخارف لقصور نظركم عليها وغفلتكم عن الأمور الاخروية
ارْجِعْ ايها الرسول إِلَيْهِمْ اى الى ملكتكم ومن معها من الجنود وقل لهم ما مطلوبي منهم ومن أمثالهم الا الايمان بالله المتوحد بالالوهية والربوبية والانقياد له والإطاعة لأحكامه وبالجملة قد لزم عليهم الإتيان إلينا مؤمنين مسلمين موحدين منقادين والا فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ من الانس والجن واصناف الوحوش والطيور وانواع السباع والبهائم والهوام والحشرات بالغة من الكثرة الى حد لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ولا يسع لهم مقابلتها من بعيد فكيف ممانعتها ومقاتلتها وَبعد ما لم يسع لهم المقابلة والمقاتلة لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها اى من بلادهم المألوفة أَذِلَّةً ضعفاء ذليلين وَهُمْ حينئذ صاغِرُونَ مهانون أسراء بأيدي هؤلاء العفاريت. ثم لما رجع الرسل مع ما اهدت من الهدايا على وجهها وقد حل جميع ممتحناتها ومشاكلاتها قالت بلقيس قد علم انه ليس بملك بل هو نبي من الأنبياء مؤيد بأمر سماوي وما لنا طاقة مقاومتها ومقابلتها معه وما لنا سوى المصالحة والإطاعة بامره والحضور عنده ثم أرسلت بلقيس اليه صلوات الرحمن عليه رسولا ثانيا قائلا منها حاكيا عنها انى قادمة الى شرف خدمتكم وحضوركم عن قريب وأخذت بتهيئة الأسباب حتى تخرج وجعلت سريرها داخل سبعة أبواب في قصرها وقد كان قصرها داخل سبعة قصور وأغلقت كل الأبواب ووكلت عليها حراسا متعددة وارتحلت نحو سليمان عليه السلام فلما دنت اليه رأى سليمان حين كان على سريره جما غفيرا من السواد مسيرة فرسخ فسأل عنهم فقالوا هي بلقيس قد أتت بجنودها مطيعين مسلمين
قالَ سليمان عليه السلام لمن حوله من الجن والانس يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي ويحضروا عندي مُسْلِمِينَ مؤمنين إذ بعد ما قد أتوا لا يجوز إتيان عرشها الا باذنها إذ لا يصح(2/63)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
نقل مال المسلم الا باذنه
قالَ عِفْرِيتٌ خبيث مارد مِنَ الْجِنِّ اسمه ذكوان او صخر أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ اى مجلسك الذي تجلس عليه أنت للحكومة وكان من دأبه الجلوس الى وقت الزوال وَبالجملة أتيك به قبل إتيانها وإِنِّي عَلَيْهِ اى على حمل العرش وإتيانه لَقَوِيٌّ احمله بلا تزلزل أركانه وقوائمه أَمِينٌ لا أتصرف شيأ من زينته وجواهره فاستبطأ عليه السلام إتيانه وطلب السرع من ذلك
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ فائض عليه مِنَ الْكِتابِ اى من حضرة العلم المحيط الإلهي المعبر عنه بالقضاء واللوح المحفوظ وعالم الأسماء والأعيان الثابتة يقدر بذلك العلم على إحضار شيء واعدامه دفعة وهو كان وزيره آصف بن برخيا قد انكشف عليه خواص الأسماء الإلهية ففعل بها ما فعل أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ اى قبل ان تعيد وتطبق اجفانك حين نظرك والتفاتك وهذا كناية عن كمال السرعة والعجلة فاتى به طرفة عين فَلَمَّا رَآهُ اى سليمان العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ في طرفة عين قبل إتيان بلقيس ساعة قالَ سليمان عليه السلام متوجها الى ربه مذكرا نعمه الفائضة على نفسه مجددا الشكر إياها هذا اى حضور هذا العرش العظيم الثقيل في غاية الثقل والعظمة في آن واحد مع انه قد كان في مسافة بعيدة مِنْ فَضْلِ رَبِّي على ومن عداد جلائل العامة وافضاله الى انما تفضل سبحانه على بهذا لِيَبْلُوَنِي ويختبرني أَأَشْكُرُ وأخذ بمواظبة شكر نعمه المتواترة على بحيث أعجز عن أداء شكره واعترف بالعجز والقصور عن احاطة نعمه فكيف عن أداء حقوقها أَمْ أَكْفُرُ لنعمه ولا أقيم بمقام الشكر عليها وان كانت الاقامة والتوفيق عليها ايضا من جملة انعامه وافضاله وإكرامه وَلا عائدة من شكرنا اليه سبحانه إذ هو منزه عنها بل مَنْ شَكَرَ على نعم الحق وصرفها على مقتضى ما جبلها الحق لأجله فَإِنَّما يَشْكُرُ الشاكر لِنَفْسِهِ ولازدياد نعمه بمزيد الشكر وَايضا مَنْ كَفَرَ فإنما يكفر لنفسه ولانتقاص نعمه لانتقاص شكره فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ في ذاته من عموم الفوائد والعوائد كَرِيمٌ جواد لا يعلل فعله بالأغراض وانعامه بالاعواض ثم لما دنت بلقيس مع من معها من اشراف قومها بالدخول على سليمان عليه السلام والعرش عنده
قالَ سليمان لمن حوله نَكِّرُوا لَها عَرْشَها حين جلست وغيروا بعض أوضاعه وزينته نَنْظُرْ حينئذ أَتَهْتَدِي وتتعقل انه هو أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ لاستحالة ان يكون هذا هو عادة وانما قصد به عليه السلام اختبار عقلها ورشدها للايمان بالمغيبات والمستبعدات الخارقة للعادات فغير عرشها على الفور وقد بنى سليمان عليه السلام صرحا ممردا من قوارير ووضع سريره فيها وهي على الماء ومن غاية صفائها لا يتميز عن الماء وفي الماء حيوانات مائية المولد من الحوت والضفدع وغيرها
فَلَمَّا جاءَتْ بلقيس وهو عليه السلام في ذلك الصرح على السرير قِيلَ لها أولا أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ بعد ما أمعنت نظرها نحو العرش كَأَنَّهُ هُوَ أتت حينئذ بكلمة التشبيه وقد تحقق عندها انه هو صيانة لنفسها عن الكذب وَبعد ما تفرست بلقيس منه عليه السلام القبول والتحسين إياها في قولها بادرت الى تصديق نبوته عليه السلام وقالت لا حاجة لنا الى اختبارك بأمثال هذه المعجزات والخوارق حتى نؤمن لك يا نبي الله إذ قد أُوتِينَا الْعِلْمَ المتعلق منا بصدقك وتصديق نبوتك مِنْ قَبْلِها اى قبل ظهور هذه المعجزة الخارقة للعادة بأمور قد اختبرناك بها وَبالجملة قد كُنَّا مُسْلِمِينَ منقادين لك مسلمين نبوتك وتأييدك من قبل الحق
وَمن فضل الله إياها انه قد صَدَّها وصرفها بعد ما قد ظهر عندها نبوة سليمان عليه السلام عن ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى قد(2/64)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
صرفها الحق عن عبادة الشمس إذ قد عبدتها تقليدا لاسلافها فلما وصلت الى التحقيق صرفها الحق عنها وعن عبادتها إِنَّها كانَتْ منتشئة مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ جاحدين بالله عابدين للشمس ثم
لَ
يعنى قال سليمان عليه السلام آمراهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
فبادرت الى الاجابةلَمَّا رَأَتْهُ
اى القصرسِبَتْهُ لُجَّةً
فيها انواع الحيوانات المائية كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
اى رجليها لتدخل فيها فلما رأى سليمان عليه السلام ساقيها وقد اخبر ان ساقيها لا كساق الإنسان لذلك قد احتال ببناء قصر القوارير حتى يظهر عنده هل هو مطابق للواقع أم لا فلما رآها احسن ساقا وقدما لكن على ساقيها شعر صرف عليه السلام وجهه عنها مستغفرا ثم الَ
لهانَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
اى بنيان مملس مصنوع نْ قَوارِيرَ
زجاجات فأرخت زيلها فدخلت وبعد ما قد رأت اللجة أولا ظنت انه يستغرقها بها عمدا ثم لما ظهر خلافه الَتْ
مستغفرة عن سوء ظنها إياه بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بهذا الظن الفاسد على نبي الله أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ
الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبيةبِّ الْعالَمِينَ
لا رب له سواه ولا اله الا هو. وقد اختلف في تزوجها والأصح انه قد تزوجها ثم انقرضت هي وسليمان ومن عليها جميعا إذ كل يوم هو في شأن وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
وَمن وفور جودنا وإحساننا لخلص عبادنا لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ حين لاح عليهم امارات العدوان وعلامات الفسوق والعصيان أَخاهُمْ صالِحاً قائلا لهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ حق عبادته وتذللوا نحوه بأنواع الخشوع والخضوع ولا تتكبروا عليه بالخروج عن مقتضى أوامره وحدوده فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ اى بعد ما اظهر عليهم الدعوة فاجؤا على الافتراق حيث آمن له البعض وصدقه واعرض عنه البعض الآخر فكذبه فاختصما
قالَ صالح للمعرضين المكذبين يا قَوْمِ شأنكم الحذر والاحتراز عن عذاب الله ونكاله وعن موجبات قهره واسباب غضبه وجلاله لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ الموجبة لانواع العذاب والقهر الإلهي قَبْلَ الْحَسَنَةِ المستجلبة لعموم الخيرات لَوْلا هلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ العفو الغفور لكفركم وذنبكم الذي قد صدر عنكم لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قبل حلول عذابه عليكم إذ حين حلول العذاب لا ينفع توبتكم واستغفاركم وبعد ما ظهر عليهم امارات قهر الله وغضبه إياهم حيث وقع الجدب بينهم
قالُوا مغاضبين على صالح اطَّيَّرْنا اى قد تطيرنا وتشأمنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ من المصدقين لك المتدينين بدينك إذ قد تواترت علينا المصائب مذ ظهرتم أنتم بدينكم هذا بيننا وقد وقع الوقائع الهائلة بشؤمكم وشؤم دينكم وبعد ما قد سمع صالح منهم ما سمع ايس عن ايمانهم وصلاحهم حيث قالَ في جوابهم طائِرُكُمْ اى اسباب خيراتكم وشروركم عِنْدَ اللَّهِ وفي لوح قضائه وحضرة علمه إذ قد كتب عليكم الخير والشر حسب ما صدر عنكم من الأعمال الصالحة والطالحة ولا معنى لتطيركم وتشاؤمكم بنا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ تختبرون بتفاقم انواع المحن وبتلاطم امواج الفتن كي تستغفروا وتندموا عما أنتم عليه من الكفر والعصيان حتى لا تستأصلوا بنزول عذاب الله الموعود لاستئصالكم حتما وبعد ما سمعوا منه كلامه هذا قصدوا مقته وإهلاكه
وَقد كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يعنى تسعة رجال اتفقوا بحيث صاروا رهطا واحدا وطائفة متفقة على قتله والرهط جمع لا واحد له يطلق على مادون العشرة وكان شأنهم مقصورا على الفساد والإفساد يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات وَلا يُصْلِحُونَ أصلا في حال من الأحوال وبعد ما ظهر عليهم امارات العذاب الإلهي وتحقق عندهم(2/65)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
نزوله قصدوا إهلاك صالح ومن معه قبل هلاكهم حيث
قالُوا فيما بينهم تَقاسَمُوا بِاللَّهِ بان حلف كل منهم عند صاحبه لَنُبَيِّتَنَّهُ ولنهلكنه قبل إتمام العذاب علينا وَأَهْلَهُ ايضا ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ عند طلب ثأره مبالغين في الإنكار ما شَهِدْنا في مدة عمرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ يعنى المكان الذي أهلك فيه صالح فكيف قتلنا إياه ونؤكد قولنا هذا بالقسم ايضا عند وليه ونقسم وَالله إِنَّا لَصادِقُونَ في قولنا هذا
وَبالجملة ما لنا علم بإهلاكه ومهلكه ومهلكه وبالجملة قد مَكَرُوا واحتالوا لمقت نبينا مَكْراً بليغا وَقد مَكَرْنا ايضا لهلاكهم واستئصالهم مَكْراً ابلغ من مكرهم إذ قد أمرنا للملائكة حين يمّم أولئك الماكرون المفسدون لقتل نبينا صالح وأخذوا يطلبونه ليرجموه بالحجارة ان يصيحوا عليهم حين قصدهم واشتغالهم لرجمه فصاحوا حينئذ عليهم بالصيحة الهائلة وَهُمْ حالتئذ من شدة هولهم وفزعهم لا يَشْعُرُونَ لا الصائح ولا الصالح ولا الرماة ولا العداة الطغاة فهلكوا بالمرة بلا وصول الى مرامهم
فَانْظُرْ ايها الناظر المعتبر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ راجعة واصلة إليهم لاحقة بهم وبالجملة أَنَّا من مقام قهرنا وجلالنا قد دَمَّرْناهُمْ وأهلكناهم اى التسعة المتقاسمين وَقَوْمَهُمْ ومن معهم أَجْمَعِينَ بحيث لم يبق منهم احد يخلفهم
فَتِلْكَ الاطلال الخربة والرسوم المندرسة والدور المنكوسة بُيُوتُهُمْ ومساكنهم التي شيدوها وحصنوها مدة حياتهم بأنواع التشييدات والترصينات والتجصيصات انظر كيف صارت خاوِيَةً ساقطة جدرانها على سقوفها منعكسة منكوسة كل ذلك بِما ظَلَمُوا وبشؤم ما خرجوا عن مقتضى الحدود الإلهية عتوا واستكبارا إِنَّ فِي ذلِكَ المكر والإهلاك لَآيَةً دالة على كمال قدرتنا على انتقام من خرج عن ربقة الانقياد واطاعتنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَبعد ما أهلكناهم صاغرين قد أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيدنا وصدقوا رسلنا سالمين غانمين من أمتعتهم وأموالهم وَهم من كمال إخلاصهم في الايمان وخشيتهم عن ما له الظلم والعدوان قد كانُوا يَتَّقُونَ ويحذرون من قهرنا وغضبنا ولا يسيئون الأدب معنا ومع رسلنا
وَمن مقتضيات حكمتنا المتقنة ايضا قد أرسلنا لُوطاً الى قوم قد خرجوا عن مقتضى حدودنا تاركين طريق حكمة التناسل والتوالد وإبقاء النوع مبدلين لها الى ما هو مذموم عقلا وشرعا وعرفا وعادة ومروءة وطبعا وفطنة وفهما اذكر يا أكمل الرسل إِذْ قالَ لوط عليه السلام لِقَوْمِهِ مستفهما منهم على سبيل الإنكار والتوبيخ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ والفعلة القبيحة الشنيعة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وتشاهدون قبحها وشنعتها وقت ما فعلتم وأتيتم
أَإِنَّكُمْ ايها المسرفون المستعبدون العابدون للشهوة مثل الحمار لَتَأْتُونَ الرِّجالَ الذين هم أمثالكم في الرجولية شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ مع ان الحكمة الإلهية تقتضي إتيانهن للتناسل وبقاء النوع كسائر انواع الحيوانات وهؤلاء الحيوانات مع جهلهم لا يخرجون عن مقتضى الحكمة وأنتم ايها الحمقى مع انكم مجبولون على العقل الفطري المميز بين الذمائم من الأخلاق والأطوار وحميدتها تخرجون عن مقتضاها بَلْ أَنْتُمْ بفعلتكم هذه قَوْمٌ تَجْهَلُونَ منسلخون عن مقتضى الإدراك المميز للإنسان عن سائر الحيوانات العجم إذ لا يتأتى منها أمثال هذه الا من الحمار الأرذل الأنزل انظروا ماذا شريككم في فعلتكم هذه ايها الحمقى المسرفون المفرطون
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بعد ما سمعوا منه انواع التشنيعات والتقريعات إِلَّا أَنْ قالُوا من فرط انهماكهم في الغي والضلال ونهاية عمههم وسكرتهم في رق شهواتهم ولذاتهم البهيمية(2/66)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
متشاورين بينهم أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ عن أفعالنا ويستنزهون منها ولا مناسبة بيننا وبينهم فلهم ان يخرجوا من بيننا حتى يتلوثوا بافعالنا انما قالوا هذا تهكما واستهزاء ثم لما استحقوا لحلول العذاب والإهلاك وحان نزول البوار عليهم
فَأَنْجَيْناهُ اى أخرجنا لوطا من بينهم وَأمرنا له ان يخرج أَهْلَهُ ايضا عناية منا إياهم إِلَّا امْرَأَتَهُ المائلة عليهم الراضية بفعلتهم إذ هي منهم لذلك قَدَّرْناها في سابق قضائنا مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين المصابين
وَبعد ما أخرجنا لوطا واهله من بينهم قد أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً اى مطر هو مطر الحجارة المهلكة فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مطرهم الذي قد امطروا به بحيث لم يبق منهم ومن مساكنهم ومواشيهم شيء أصلا. وبعد ما قص سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم قصص بعض ارباب الطبقات من الأنبياء والرسل المختص بأنواع الفضائل والكرامات الموهوبة من عنده سبحانه إياهم تفضلا عليهم وامتنانا امره سبحانه بان بادر الى تجديد الشكر والثناء عليه سبحانه بما أولاهم من النعم العظام واعطاهم من الفواضل الجسام إبقاء لحقوق المواخاة والاتحاد الحقيقي الواقع بين الأنبياء العظام والرسل الكرام بعد رفع الإضافات ونزع البسة التعينات الناسوتية والتشرف بلبس الخلعة اللاهوتية فقال سبحانه
قُلِ يا أكمل الرسل بعد ما تلونا عليك بعض فضائل اخوانك تحميدا علينا من قبلهم وتسليما منا إياهم الْحَمْدُ والثناء الكامل اللائق الصادر من ألسنة عموم اهل النعم والانعام من الثقلين وغيرهم ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الحقيق بجميع المحامد والاثنية الصادرة عن ألسنة عموم من رش سبحانه عليهم رشحات بحر وجوده وامتد عليهم اظلال أسمائه وصفاته بمقتضى جوده وَسَلامٌ منه سبحانه ورحمة نازلة من لدنه على التواتر والتوالي عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى سبحانه واختارهم من بين البرايا لإرشاد التائهين في بيداء الغفلة والضلال وتكميل الناقصين المنحطين عن رتبة الخلافة والنيابة بميلهم الى فضلات الدنيا العائقة عن الوصول الى دار الخلافة التي هي التوحيد المسقط لتوهم الإضافات مطلقا قل يا أكمل الرسل بعد ما قد ظهر الحق عندك مستفهما مقرعا للمشركين المتخذين غير الله الها جهلا وعنادا آللَّهُ الواحد الأحد القادر المقتدر المدبر لمصالح عباده الموصل لهم بعد تصفية ظواهرهم وبواطنهم الى ما قد جبلوا لأجله من معرفة مبدئهم ومعادهم خَيْرٌ واحسن وانفع واولى وأليق لهم أَمَّا يُشْرِكُونَ له عنادا ومكابرة من الاظلال الهالكة في أنفسها المجبورة المستهلكة تحت قهر الله وقدرته الكاملة ثم قرع عليه سبحانه من انواع التقريعات والتوبيخات ما قرع تتميما لردعهم وتكميلا لزجرهم فقال
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ اى عالم الأسباب العادية العلوية وَالْأَرْضَ اى عالم الطبيعة السفلية القابلة لقبول فيضان آثار الفواعل العلوية وَمن أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً محييا لأموات الأراضي القابلة اليابسة بالطبع فَأَنْبَتْنا بِهِ اى بالماء بعد ما أنزلناه من جانب السماء حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ وبهاء ونضارة وصفاء ما كانَ اى ما صح وما أمكن لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها بل شجرة واحدة من جملة أشجارها لولا امداد الله وانباته إياها أَإِلهٌ اى أتدعون وتعبدون وتدعون الها آخر مَعَ اللَّهِ المدبر لمصالحكم بالاستقلال وبكمال الارادة والاختيار بَلْ هُمْ اى المتخذون غير الله الها قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ويصرفون عن الحق الصريح الذي هو التوحيد الى الباطل الزاهق الزائل الذي هو الشرك في ألوهيته واثبات الغير معه في الوجود وادعاء استحقاق العبادة إياه عنادا ومكابرة
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً اى مقرا تستقرون عليها وتعيشون فيها(2/67)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
مع ان طبع الماء يقتضى الاحاطة بجميع جوانبها بحيث لا يبدو من كرة الأرض شيء خارجا عنه وَبعد ما ابدأ بعضها من الماء عناية منه سبحانه إياكم قد جَعَلَ خِلالَها اى اوساط الأرض البادية أَنْهاراً جارية تتميما لأمور معاشكم عليها وَايضا جَعَلَ لَها اى للأرض رَواسِيَ وجبالا شامخات وأودع فيها معادن الفلزات ومنابع المياه ومراتع الحيوانات تتميما وتكميلا لمصالحكم ومعايشكم وَايضا جَعَلَ سبحانه من كمال مرحمته ولطفه بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذب والمالح حاجِزاً مانعا حصينا لئلا يختلطا ولا يختل نظام معاشكم عليها أَإِلهٌ تدعون ايها الجاهلون مَعَ اللَّهِ المتوحد المتفرد في ذاته المستقل في تصرفاته الواقعة في مملكته بَلْ أَكْثَرُهُمْ لانهماكهم في الغفلة والجهل عن الله وعن حق قدره وقدر ألوهيته لا يَعْلَمُونَ شيأ من آداب عبوديته لذلك ينسبون اليه سبحانه ما لا يليق بشأنه جهلا ومكابرة
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ القلق الحائر في أموره بلا رشد منه الى مخرجه ومخلصه إِذا دَعاهُ وتضرع نحوه دعوة مؤمل صريع ومتمن فجيع سواه سبحانه وَمن يَكْشِفُ السُّوءَ المتفاقم على ذوى الأحزان واولى المصائب والملمات غيره سبحانه وَبالجملة من يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ من الاسلاف الذين مضوا عليها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد تدعون ايها الجاهلون المسرفون المكابرون وأنتم ايها المبطلون المفرطون من نهاية جهلكم المركوز في جبلتكم وغفلتكم من الوهية الحق ومن غاية غيكم وضلالكم عن توحيده قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ اى قليلا منكم تتذكرون آلاء الله ونعماءه المتوالية المترادفة عليكم آنا فآنا طرفة فطرفة ايها الكافرون المعاندون المكابرون
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ ويرشدكم ايها الحمقى فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بالنجوم الزاهرات وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ المبشرات لتكون لكم بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى بشارة بالمطر المحيي لأموات الأراضي بأنواع النباتات والحبوبات المبقية لأصناف الحيوانات أَإِلهٌ قادر على أمثال هذه الأفعال المتقنة والآثار المحكمة مَعَ اللَّهِ المستقل بالقدرة الكاملة والحكمة الباهرة والرحمة العامة الشاملة تدعون وتعبدون ايها الحمقى الجاهلون مع انه قد تَعالَى اللَّهُ وتنزه ذاته وتعاظمت أسماؤه وصفاته عن مشابهة الأمثال وعن مطلق المشاركة معها في عموم الآثار والأفعال سيما عَمَّا يُشْرِكُونَ له أولئك المشركون المسرفون من الأوثان والأصنام
أَمَّنْ يَبْدَؤُا ويظهر الْخَلْقَ اى عموم المخلوقات والمكونات من كتم العدم إبداء إبداعيا وإيجادا اختراعيا بعد ما لم يكن شيأ مذكورا برش نوره عليها ومد ظله إليها بمقتضى لطفه وجماله ثُمَّ بعد إظهاره وإيجاده على الوجه الأغرب الابدع من يُعِيدُهُ ويبعثه بعد اعدامه وإماتته بمقتضى قهره وجلاله على النمط البديع العجيب الغريب ايضا وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ ويقوّم امزجتكم بأنواع الاغذية الحاصلة مَنْ امتزاج آثار فواعل السَّماءِ وَقوابل الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ القادر المقتدر على إنشاء انواع البدائع وإبداء اصناف الغرائب والعجائب المكونة في التراب اليابس الجامد لتكون غذاء لمن عليها من الحيوانات تثبتون وتشركون ايها الحمقى المشركون المسرفون المكابرون وان أصروا على شركهم وكفرهم سيما بعد ما سمعوا قوارع الدلائل القاطعة وشواهد الحجج والبراهين الساطعة المذكورة في كتابك هذا المثبتة لتوحيد الحق المبينة له على الوجه الأبلغ الأكمل قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم وتبكيتا هاتُوا ايها الحمقى بُرْهانَكُمْ على دعواكم الوهية معبوداتكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في هذه الدعوى وبعد ما قدمت(2/68)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
إلزامك عليهم وتبكيتك إياهم
قُلْ يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض التوحيد خاليا عن وصمة الكثرة مطلقا لا يَعْلَمُ مَنْ ظهر فِي السَّماواتِ اى العلويات وَمن ظهر في الْأَرْضِ اى السفليات من المظاهر المجبولة فيهما على فطرة الشعور والإدراك الْغَيْبَ الذي قد غاب وخرج عن مداركهم وعقولهم وكذا عن حيطة حواسهم وآلاتهم ولا يسع لهم ان يحيطوا بها ويتصفوا بشعورها وادراكها إِلَّا اللَّهُ المنزه عن مطلق الأماكن والأزمان بل الكل في حيطة أسمائه وأوصافه المبرى عن الاشتراك في جنس وعن الامتياز بفصل فانه واحد احد من كل الجهات ليس معه شيء ولا دونه حي فلا يشارك شيء في شيء حتى يميز عنه بشيء بل وحدته لا كسائر الوحدات وعلمه لا كسائر العلوم والإدراك وكذا جميع صفاته وأسمائه فانه سبحانه يعلم بعلمه الحضوري جميع ما ظهر وبطن وغاب وشهد بلا تفاوت من تقدم وتأخر وزمان ومكان واسباب وآلات وعلل وموجبات وشرائط ومقتضيات بل الكل في ساحة عز حضوره على السواء بلا اختلاف الخفاء والجلاء وَان اجتهد أولئك العالمون من اهل السموات والأرضين ما يَشْعُرُونَ ويدركون أَيَّانَ يُبْعَثُونَ اى متى يبعثون وفي أى آن يحشرون من قبور تعيناتهم وينشرون من أجداث هوياتهم للوقوف بين يدي الله وان وصلوا بعد ما اجتهدوا بتوفيق الله وتيسيره الى مقام قد عرفوا ان وقوفهم بين يديه سبحانه للعرض والجزاء كائن ثابت لا محالة لكنهم ما وصلوا الى مرتبة يسع وينكشف لهم تعيين وقت الحشر والنشر إذ تعيين وقت البعث من حملة الغيوب التي قد استأثر الله بها في علم غيبه ولم يطلع أحدا من أنبيائه وأوليائه عليها
بَلِ ما ادَّارَكَ وما تدارك وبلغ وما وصل وتعلق عِلْمُهُمْ اى علم عموم العلماء ومشاعر جميع ارباب الشعور والإدراك بعد ما كوشفوا بالهام الله وجذب من جانبه الا فِي تحقق النشأة الْآخِرَةِ وانية ما فيها من المعتقدات الاخروية المحققة من الحشر والنشر والصراط والسؤال والجنة والنار والثواب والعقاب وجميع الأمور التي قد نطقت بها ألسنة الرسل والكتب وبالجملة ما بلغت بتعيين وقت البعث وتشخيص حينه وآن وقوعه الافهام واحلام الخواص والعوام بَلْ هُمْ اى اكثر الناس فِي شَكٍّ وتردد مِنْها اى من النشأة الآخرة ومن تحقق الأمور الكائنة فيها بَلْ هُمْ اى بل أكثرهم مِنْها اى من قيام الساعة ومن الأمور الموعودة فيها عَمُونَ غافلون منكرون لا يعتقدون وقوعها ولا يقبلون قيامها بل ينكرونها أشد انكار ويكذبونها ابلغ تكذيب
وَمن شدة انكارهم وتكذيبهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبعموم ما قد وعد سبحانه لهم في يوم العرض والجزاء على سبيل الاستبعاد والاستنكار مستفهمين مستهزئين أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا ايضا كذلك أَإِنَّا وانهم لَمُخْرَجُونَ من قبورنا احياء على الوجه الذي قد كنا عليه في مدة حياتنا قبل طريان الموت الطبيعي علينا كلا وحاشا إذ هي من جملة الأمور المستحيلة الممتنعة التي تأبى العقول السليمة عن قبولها ولا منشأ لها سوى انا
لَقَدْ وُعِدْنا هذا اى البعث والحشر نَحْنُ اليوم على لسان هذا المدعى للنبوة والرسالة وَكذا قد وعد آباؤُنا ايضا مِنْ قَبْلُ على ألسنة المدعين الآخرين الذين مضوا وقد كان أسلافهم ايضا كذلك على ألسنة إسلاف أخر من المدعين وهكذا وهكذا وبالجملة إِنْ هذا اى ما هذا الوعد بالبعث والجزاء إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الموروثة لأخلافهم اللاحقين المستخلفين المتأخرين عنهم وبالجملة ما هذا الا ديدنة قديمة وعادة مستمرة قد بقيت بين الأنام من قديم الأيام لتخويف العوام بلا وقوع ولا إمكان وقوع ايضا ثم(2/69)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
لما بالغ أولئك الهالكون في تيه الضلال في تكذيب يوم الجزاء وأصروا على ما هم عليه من الكفر والإنكار ومتابعة الأهواء والآراء
قُلْ يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة المجادلة والمراء صادرا عن محض الحكمة والعبرة والاستبصار آمرا لهم على سبيل الاعتبار سِيرُوا ايها المنكرون المكابرون ليوم العرض والجزاء فِي الْأَرْضِ التي هي محل العبرة ومنزل الاستبصار فَانْظُرُوا معتبرين متأملين كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ المكذبين كمال قدرة الله القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء بلا فتور وقصور ولا ينتهى قدرته دون مقدوره بل له اعادة كما له ابداؤه مع جميع اجزائه ولوازمه وعوارضه من الزمان والمكان والحركات والسكنات ومع جميع الأطوار والأحوال الطارية عليه من مبدأ حدوثه الى منتهى حياته إذ جميع ما جرى عليه وصدر عنه حاضر عنده سبحانه مشهود له غير مغيب عنه بلا انقضاء من حضرة علمه وإمضاء من لوح قضائه إذ عنده سبحانه لا زمان ولا مكان حتى يتصور الانقراض والانقضاء واستبعاد أمثال هذه المسألة انما يجئ عن العقول السخيفة والأحلام الضعيفة المحبوسة في مضيق الزمان والمكان المتحصنة بحصون الجهات والابعاد المقيدة بسلاسل الأيام وأغلال الليالى ومن انكشف له بصر بصيرته وارتفع عنه سبل السدل وحول التحويل ورمد التغير والتبدل واكتحل عين عبرته وبصر بصيرته بكحل الكشف والشهود قد اضمحل دونه الزمان والمكان والجهات والأقطار وجميع ما يوهم الانقضاء والانصرام والتجدد والاستمرار ولم يبق في عين عبرته ونظر شهوده وخبرته سوى الله الواحد القهار لعموم الأغيار فسمع منه به وابصر به اليه وظهر منه عليه بحوله وقوته وفنى فيه وبقي لديه ولاح منه ورجع اليه وبدا عنه وعاد عليه قائلا دائما بلسان الحال والمقال انا لله وانا اليه راجعون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين برحمتك وجودك يا ارحم الراحمين
وَبعد ما قد هدد سبحانه مكذبي وعده ووعيده بما هدد وقرعهم بما قرع أراد سبحانه ان يسلى حبيبه صلى الله عليه وسلم بما لحق له من أذى المنكرين المكذبين بقوله لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ان كذبوك واعرضوا عنك يا أكمل الرسل وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ وسآمة مِمَّا يَمْكُرُونَ اى من مكرهم وحيلتهم فان الله يكفيك ويكف عنك مؤنة شرورهم وكن في نفسك يا أكمل الرسل وسيع الصدر طلق الوجه فرحان القلب يقظان السر فان الله ناصرك ومعينك في كل الأحوال يحفظك عن شرورهم ومكرهم وسيغلبك عليهم عن قريب ويظهر دينك على عموم الأديان كلها وينشر آثار هدايتك وارشادك في اقطار الأرض وانحائها وكفى بالله حسيبا
وَمن شدة شكيمتهم وغاية انكارهم وضغينتهم معك يا أكمل الرسل يَقُولُونَ متهكمين مَتى هذَا الْوَعْدُ المعهود والعذاب الموعود وفي اىّ آن يظهر واىّ زمان يقوم عيّنوا لنا وقته ايها المدعون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الوقوع والنزول
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد اقترحوا عنك والحوا عَسى اى قد دنا وقرب أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ اى تبعكم ولحقكم واللام زائدة بَعْضُ العذاب الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ نزوله وحلوله فقد لحقهم عذاب يوم البدر
وَسيلحقهم عن قريب كله ايضا لكن من سنته سبحانه امهال عباده زمانا رجاء ان يتنبهوا او يتوبوا عما أصروا عليه من الكفر والكفران والشرك والطغيان إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَذُو فَضْلٍ عظيم ورحمة واسعة شاملة عَلَى عموم النَّاسِ سيما الناسين سوابق عهودهم مع الله المدبر لأحوالهم يمهلهم وينبه عليهم رجاء ان يتنبهوا ويتفطنوا بمقتضى فطرتهم الاصلية وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ نعمة الامهال حتى يخلصوا من نقمته وعذابه لذلك لحقهم ما لحقهم من العذاب ومن جملة كفرانهم بنعم الحق(2/70)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
وطغيانهم عليه انهم أرادوا وقصدوا على وجه الاهتمام ان يخدعوا مع الله ورسله ولا يشكرون نعمة الإرسال والإرشاد بل ينكرون عليها في نفوسهم ويظهرون على الناس انهم مؤمنون مع انهم ليسوا كذلك بل ما قصدوا بذلك الا التلبيس والخداع على وجه النفاق
وَبالجملة لا ينفع لهم مكرهم هذا وحيلتهم هذه إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَيَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما تُكِنُّ وتخفى صُدُورُهُمْ من الغل والنفاق وَما يُعْلِنُونَ ويظهرونه بألسنتهم من ايمان وكفر وفساد وصلاح وعهد ونقض إذ لا يخفى عليه سبحانه شيء من احوال عباده وما جرى عليهم في ظواهرهم وبواطنهم
وَكيف يخفى عليه شيء من أحوالهم إذ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي طي السَّماءِ وَالْأَرْضِ حتى النقير والقطمير وكذا ما يعقل ويحس ويعبر عنه ويومى اليه ويرمز نحوه ويعرب عنه الى ما شاء الله إِلَّا هو مثبت محفوظ فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي الذي قد فصل فيه عموم ما كان وما يكون ازلا وابدا بحيث لا يشذ عن حيطته ما من شأنه ان يعلم ويحس به وايضا من جملة ما يدل على شمول قضائه وعلى حيطة حضرة علمه الكتب الإلهية النازلة المنزلة من عنده سبحانه المنتخبة من حضرة علمه ولوح قضائه سيما القرآن إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ من كمال جمعيته واحاطته يَقُصُّ يظهر ويبين عَلى علماء بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الأمر والشأن الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الأمور المتعلقة بدينهم وملتهم
وَإِنَّهُ في نفسه لَهُدىً هاد موصل الى طريق التوحيد الذاتي وَرَحْمَةٌ نازلة لِلْمُؤْمِنِينَ الموحدين المحمديين من قبل الحق ليهديهم الى وحدة ذاته ويوصلهم الى غاية ما جبلوا لأجله من المعرفة والتوحيد واليقين
إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل يَقْضِي بَيْنَهُمْ اى بين المختلفين في بنى إسرائيل ويحكم عليهم بِحُكْمِهِ المستنبط من حكمته البالغة المتقنة وَكيف لا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في احكام أحكامه المحكمة المبرمة الْعَلِيمُ في حكمته البالغة المتقنة المفرعة على عدالته الحقيقية وان كذبوك يا أكمل الرسل وأنكروا كتابك وجادلوا معك مراء ومجادلة عنادا ومكابرة
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ المتكفل لحفظك وحضانتك إِنَّكَ في امر دينك وكتابك ورسالتك وهدايتك وفي عموم ما جئت به من قبل ربك عَلَى الْحَقِّ والصدق الذي لا يأتيه الباطل والكذب لا من بين يديه ولا من خلفه الْمُبِينِ الظاهر حقيته عند ذوى البصائر واولى الألباب المستكشفين عن لب الأمور المعرضين عن قشرها فان اعرضوا عنك ولم يقبلوا منك ارشادك وهدايتك لا تبال بهم وباعراضهم وانصرافهم إذ هم عند التحقيق أموات لا حياة لهم حقيقة بل هم موتى
إِنَّكَ وان بالغت واجتهدت في ارشادك وهدايتك إياهم لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ما جئت به من الأوامر والنواهي المأمورة بها الأحياء المقربة الى الله المبينة لطريق توحيده وكيف لا وهم عن السمع معزولون وَايضا أنت لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ اى ليس في وسعك إسماع الدعاء للاصمين الفاقدين آلة السماع والاستماع سيما إِذا وَلَّوْا وانصرفوا عنك مُدْبِرِينَ بلا التفات وتوجه منهم الى الاستماع والسماع والإصغاء
وَبالجملة ما أَنْتَ ايها المرسل للهداية والمبعوث للإرشاد والتكميل بِهادِي الْعُمْيِ الفاقدين آلات الهداية واسبابها عَنْ ضَلالَتِهِمْ المركوزة في جبلتهم الراسخة في طبيعتهم بل إِنْ تُسْمِعُ اى ما تسمع أنت بهدايتك وارشادك ايها الهادي بوحينا وتوفيقنا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وبالجملة ما تهدى أنت الا من يصدق بعموم ما جئت به من عندنا ووفق من لدنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لأوامرنا وأحكامنا(2/71)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
مجتنبون عن نواهينا ومحظوراتنا قابلون للإرشاد والتكميل فهم من شدة شقاوتهم وغلظ غشاوتهم لا يؤمنون بك ولا يسلمون في أنفسهم لكنهم مجبولون على الشقاوة الاصلية والضلالة الجبلية فكيف يتأتى لك اسماعهم وإرشادهم
وَاصبر يا أكمل الرسل وقت إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ الموعود عَلَيْهِمْ ولاح امارات الساعة وظهر علامات القيامة ودنا وقت قيامها أَخْرَجْنا لَهُمْ قبيل قيام الساعة دَابَّةً عظيمة مِنَ الْأَرْضِ لتكون امارة على قيامها دالة على كمال قدرتنا على احياء الأموات من العظام الرفات طولها سبعون ذراعا ولها قوائم وزغب اى شعرات صفر كريش الفرخ وريش وجناحان يقال لها الجساسة لا يفوتها هارب ولا يدركها طالب سئل عليه السلام عن مخرجها فقال من أعظم المساجد حرمة على الله يعنى المسجد الحرام فإذا خرجت عليهم تُكَلِّمُهُمْ وتخاطب معهم بسوء فعالهم وحسن خصالهم فتفرق المؤمن من الكافر وتميزهم وحينئذ قد ظهر أَنَّ النَّاسَ المنهمكين في بحر الغفلة والنسيان لأي شيء كانُوا بِآياتِنا الواصلة إليهم من ألسنة رسلنا لا يُوقِنُونَ ولا يذعنون بل ينكرون ويكذبون عنادا ومكابرة
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ نَحْشُرُ ونسوق عند قيام الساعة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً فرقة وجماعة هي صناديدهم ورؤساؤهم مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا التي قد جاء بها الرسل لهدايتهم وإرشادهم فَهُمْ في حين حشرهم وسوقهم يُوزَعُونَ اى يحبس اولهم لآخرهم حتى يتلاحقوا ويزدحموا وبالجملة يساقون أولئك المجرمون هكذا
حَتَّى إِذا جاؤُ المحشر وحضروا الموعد وعرضوا على الله صافين صاغرين جاثمين جالسين على ركبهم باركين قالَ قائل من قبل سرادقات العظمة والجلال معيّرا عليهم وموبخا أَكَذَّبْتُمْ أنتم ايها المسرفون المكذبون بِآياتِي في بادئ الرأى بلا تأمل وتدبر فيها وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ولم تطرحوا نظركم وعقولكم عن فحص معانيها وضبط فحاويها حتى ظهر عندكم ولاح عليكم هل هي جدير بالرد والإنكار أم هي حقيق بالقبول والاعتبار فبادرتم الى تكذيبها دفعة بلا إمعان فيها أَمَّا ذا اى أم اى شيء شنيع وامر فظيع قد كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أنتم ايها الجاهلون المسرفون هذا. وبعد ما قد جرى من قبل الحق من انواع التوبيخ والتقريع ما جرى سكتوا حائرين خائبين منكوسين
وَحينئذ قد وَقَعَ الْقَوْلُ المعهود منا وتحقق الوعد المحقق وحل العذاب الموعود عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا اى بسبب ظلمهم السابق الواقع منهم في النشأة الاولى فَهُمْ حينئذ لا يَنْطِقُونَ ولا يعتذرون ولا يتضرعون لانكبابهم على النار منكوسين بحيث لا يسع لهم التنطق والتضرع أصلا
أَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا أولئك الحمقى العميان بنظر العبرة والاستبصار الى مصنوعاتنا المتبدلة المتغيرة المجبورة المقهورة تحت قدرتنا واختيارنا ليتحقق عندهم امر الساعة ولم يبادروا الى إنكارها حتى لا يلحقهم ما لحقهم أَنَّا من كمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا كيف جَعَلْنَا اللَّيْلَ مظلما لِيَسْكُنُوا فِيهِ بلا دغدغة منهم الى الحركة والاشتغال وَكيف جعلنا النَّهارَ مُبْصِراً مضيئا يتحركون ويترددون لشغل معاشهم إِنَّ فِي ذلِكَ الاضائة والاظلام على التعاقب والتوالي لَآياتٍ دلائل قاطعات وشواهد ساطعات دالة على قدرة القدير القادر المقتدر على أمثال هذه المقدورات المتقنة والمصنوعات المحكمة الصادرة عن محض الحكمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويذعنون بوحدة ذات الله وكمالات أسمائه وأوصافه
وَاذكر يا أكمل الرسل تنبيها على التائهين في بيداء الغفلة يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ألا وهو البوق الموضوع المنفوخ فيه لحشر الأموات من اجداثها فَفَزِعَ(2/72)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
ارتعد من هول تلك الصدا جميع مَنْ فِي السَّماواتِ من سكانها وَكذا جميع مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ تمكنه وقرار قلبه مطمئنا بلا قلق واضطراب ألا وهم الأولياء المتمكنون في مقر الفناء في الله المتحققون بمقام البقاء ببقائه الواصلون الى شرف لقائه بلا تذبذب وتلوين منسلخين عن جلباب ناسوتهم رأسا وصاروا بحيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَبعد ما أفاقوا من دهشتهم وهيبتهم العارضة إياهم من هول ما سمعوا كُلٌّ ممن يتأتى منهم الإتيان أَتَوْهُ على كلتا القرائتين فعلا او اسم فاعل اى حضروا عند الداعي النافخ او هم حاضروه داخِرِينَ صاغرين ذليلين منتظرين الى ما جرى عليهم من حكم الله أيساقون الى النار حسب قهره وعدله أم الى الجنة حسب فضله وطوله
وَتَرَى ايها الرائي يومئذ الْجِبالَ الرواسي التي تَحْسَبُها وتظنها أنت جامِدَةً ثابتة مستقرة في مكانها بلا حركة وذهاب وَهِيَ في أنفسها يومئذ تَمُرُّ اى تتحرك وتذهب مَرَّ السَّحابِ كمروره وسرعة سيره إذ الأشياء العظيمة التي لا تحيط الأبصار بجميع جوانبها قلما يحس بحركتها وان اسرع فيها بل يظن انها ثابتة في مقره وهكذا حال الجبال وجميع الاظلال والاطلال المشهودة في عالم الحس والخيال كل طرفة وآن على التقضي والارتحال قبل قيام الساعة ولو تفطنت بمرورها ايها الفطن اللبيب لوجدتها في كل آن على التقضي والانصرام إذ الاعراض لا قرار لها ولا قيام والعكوس والأشباح لا مرار لها ولا نظام بل كل يوم وآن في شأن لا كشأن الذي سيمضى وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ومرور الجبال على هذا المنوال انما يكون صُنْعَ اللَّهِ اى من صنع الله القادر القوى الَّذِي أَتْقَنَ واحكم كُلَّ شَيْءٍ اتقانا بديعا ودبره تدبيرا انيقا عجيبا وأودع فيه من الحكم والمصالح ما لم يطلع عليها احد من عباده إذ لا يسع لهم الاطلاع على أفعاله سبحانه بل إِنَّهُ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ اى بعموم أفعالهم وأحوالهم وأقوالهم الظاهرة والباطنة يجازيهم عليها بمقتضى خبرته ان خيرا فخير وان شرا فشر لذلك
مَنْ جاءَ من المكلفين في دار الابتلاء بِالْحَسَنَةِ اى الخصلة الواحدة المقبولة عند الله وعند الناس فَلَهُ في دار الجزاء خَيْرٌ مِنْها إذ يعطى له بدلها سبعمائة من الحسنة وقد أبدل الخسيس بالشريف سيما بأضعافه والفاني بالباقي وَهُمْ ايضا مع وفور هذه المثوبات مِنْ فَزَعٍ هائل مهول للناس يَوْمَئِذٍ اى يوم ينفخ في الصور آمِنُونَ مطمئنون متمكنون لا يضطربون من هولها ولا يفزعون
وَمَنْ جاءَ في دار الاختبار بِالسَّيِّئَةِ المردودة عند الله وعند الناس من الأمور التي قد حرمها الشرع والعقل والمروءة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ اى كبوا على وجوههم في النار صاغرين ذليلين قيل لهم حينئذ زجرا عليهم وطرد الهم هَلْ تُجْزَوْنَ وما تجازون بهذا الهوان والصغار إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بسبب عملكم من السيئات الجالبة له في النشأة الاولى. ثم لما امر سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما اوحى اليه من الوعد والوعيد والأوامر والنواهي المصلحة لأحوال الأنام في النشأتين وبيان مبدأهم ومعادهم وما يئول اليه أمرهم بعد ما انقرضوا من هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار اما الى دركات النيران واما الى درجات الجنان. ثم بين لهم سبحانه طريق الوصول الى مقر التوحيد والتمكين في مقام التجريد والتفريد حيث امر له صلى الله عليه وسلم ايضا بان قال لهم امحاضا للنصح كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة الميل الى الهوى
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ عبادة خاصة خالصة عن جميع الرياء والرعونات رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أراد بها مكة(2/73)
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
شرفها الله خصها بالإضافة للتعظيم والا فهو رب عموم البلاد والأماكن الَّذِي حَرَّمَها اى حرم في هذه البلدة من الأمور التي قد أباحها في غيرها من البلاد وَلَهُ سبحانه كُلُّ شَيْءٍ خلقه وملكه والتصرف فيه كيف يشاء ويريد بلا منازع ومخاصم وَبالجملة أُمِرْتُ من عنده سبحانه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لأحكامه سبحانه الممتثلين بأوامره ونواهيه بلا التفات الى ايمان احد وكفره وهدايته وضلاله
وَايضا قد أمرت أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ المنزل على من عند ربي وداوم على تلاوته بين اظهر الأنام لأنه اوحى للهدى والرشد بالنسبة الى عموم العباد فَمَنِ اهْتَدى به بعد ما سمعه وتأمل معناه وامتثل بمقتضاه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ونفع هدايته عائد إليها مفيد لها وَمَنْ ضَلَّ واعرض عنه بعد ما سمع واستكبر وكذب فَقُلْ بمقتضى أمرنا ووحينا إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ اى امرى منحصر بالإنذار والتخويف كسائر الرسل المنذرين فالهداية والضلال انما هو مفوض الى الكبير المتعال وبعد ما قد أمرني ربي بهذه المأمورات المذكورة قد أمرني ايضا بتجديد التحميد على تبليغ ما اوحى الى به بقوله
وَقُلِ يا أكمل الرسل بعد ما قد تلوت عليهم ما تلونا عليك الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما علمني ربي من الحقائق والمعارف وشرفني بأنواع المكاشفات والمشاهدات ويسر على تبليغ ما اوحى الى وأمرني بتبليغه الى قاطبة الأنام وان اعرضوا عن قبول ما قد بلغت لهم من مصالح دينهم في النشأة الاولى والاخرى قل لهم على سبيل التهديد سَيُرِيكُمْ سبحانه في النشأة الاخرى عند قيام الساعة الموعودة صدق آياتِهِ الدالة على عظمة ذاته المثبتة لعموم مواعيده ووعيداته فَتَعْرِفُونَها حينئذ وتسمعونها سمع قبول ورضا ولا يجديكم قبولها حينئذ نفعا وفائدة إذ قد مضى وقت الإرشاد والامتثال بها والعمل بمقتضاها وَبعد ما قد بلغت لهم يا أكمل الرسل ما بلغت لا تبال باعراضهم وانكارهم إذ ما رَبُّكَ المطلع على عموم السرائر والخفايا بِغافِلٍ غائب ذاهل عَمَّا تَعْمَلُونَ من الرد والقبول سيما بعد ما سمعوا منك وفهموا معناه يجازيهم بمقتضى اطلاعه وعلمه وخبرته. ربنا اشرح لنا صدورنا بتأمل آياتك المنزلة من عندك ويسر لنا أمورنا بان نمتثل بمقتضاها بفضلك وجودك.
خاتمة سورة النمل
عليك ايها المحمدي المواظب على تلاوة كتاب الله الملازم للاسترشاد والاستهداء منه ان تلاحظ أولا منطوقات الألفاظ المفردة ثم مفهومات الكلام المركب منها ثم التأمل والتدبر في رعاية المطابقة بمقتضيات الأحوال المورد لأجلها ثم التعمق في الاساليب والأغراض المصوغ المسوق لها الكلام ثم سرائر الأوامر والنواهي الموردة فيه ورموز العبر والأمثال المشتمل عليها الكلام ثم الحكم والمصالح الباعثة لا يراد الكلام على وجهها ثم التفطن والتنبه من النظم المتلو المقرو على المعارف والحقائق والتجليات والمكاشفات والمشاهدات التي هي العلل الغائية لإنشائه والأسرار الباعثة لنظم كلماته وتأليف حروفه وعليك ايها الفطن اللبيب الخبير ان تدرك ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا الى سبعة ابطن على ما نطق به الحديث الصحيح صلوات الله على قائله وسلامه وإياك إياك ان تقنع منه بألفاظه ومنطوقاته التي تعرفها عوام العرب او تقنع عنه بمجرد الخواص والمزايا التي تعرفها ارباب اللسن منهم بل لك ان تلاحظ على الوجه المذكور الى ان يصير علمك المتعلق به لدنيا ذوقيا حاليا شهوديا وجدانيا شوقيا حضوريا بحيث تسمعه أنت من قلبك وتفهمه أنت منك بقلبك بلا وسائل الألفاظ والحروف الجارية على لسانك إذ الألفاظ والحروف انما هي من جملة القشور الكثيفة والحجب الغليظة(2/74)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
ايضا عند ذوى المعارف واولى الألباب الناظرين في لب القرآن فحينئذ قد فزت بحظك منه ونلت نصيبك من هدايته وإرشاده على قدر استعدادك واستجماع وسعك رب هب لي من فضلك من خزائن جودك التي او دعتها في كتابك الكريم انك أنت الوهاب والملهم بالخير والصواب
[سورة القصص]
فاتحة سورة القصص
لا يخفى على من تحقق بوحدة الحق وانكشف باستقلاله وتوحده في التحقق والوجود وشهد حضوره في الأكوان كلها. بلا مزاحمة ضد وشريك ومظاهرة مثل وظهير ان وحدة الحق تستدعى نفى الكثرة والتعدد مطلقا ولهذا ما ظهر في فضاء الوجود الا ما لمع عليه بروق تجلياته الحبية حسب أوصافه وأسمائه الذاتية ومن انكشف له هذا المشهد العظيم لم يسمع من احد ان يدعى الوجود لنفسه فكيف ان يدعى الألوهية والربوبية والاستقلال بالآثار والتصرفات الواردة في عالم الغيب والشهادة ومن ظهر على الله الواحد الأحد الفرد الصمد بأمثال هذه الدعوى الكاذبة وترقى فيها جهلا وعتوا الى ان قال أنار بكم الأعلى فمن كمال غيرة الله وحميته على نفسه ان يطرد من يدعى أمثال هذه الدعوى عن ساحة عز حضوره ويهلكه باشد العذاب وأسوأ العقاب في النشأة الاولى والاخرى لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بما خاطب وأخبره في هذه السورة من نبأ أخيه موسى عليه السلام مع من تكبر واستعلى على الأرض الى حيث قد استعبد من عليها مدعيا الألوهية والربوبية لنفسه لذلك قد اخذه الله نكال الآخرة والاولى ان في ذلك لعبرة لمن يخشى من قهر الله وغضبه فقال سبحانه متيمنا باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بجمعيته في الأكوان على مقتضى الأوصاف والأسماء الحسان الرَّحْمنِ بعموم المكونات بافاضة الوجود على سبيل السواء بلا تفاوت في خلقه وإظهاره لعموم الوراء الرَّحِيمِ لخواص عباده يوصلهم الى توحيد ذاته بافاضة انواع الرشد واصناف الهدى
[الآيات]
طسم يا طالب السعادة المؤبدة المخلدة ويا طيب الطينة ويا سالم السر والسريرة المنزه المقدس عن المكدرات الطبيعية المورثة لانواع الجهالات والضلالات المنافية لصفاء مشرب التوحيد
تِلْكَ الآيات المتلوة عليك يا أكمل الرسل في هذه السورة الحاكية عن قصص اخوانك من الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ اى نبذ مما ثبت في لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي الظاهر احاطته وشموله لجميع ما لاح عليه شروق شمس الوجود
نَتْلُوا عَلَيْكَ ونحكى لك يا أكمل الرسل مِنْ نَبَإِ مُوسى أخيك الكليم وَفِرْعَوْنَ المستكبر المستعلى المفرط في العتو والعناد انما أنزلناه إليك هذا ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع مع كونك خالي الذهن عنه وعن أمثاله لكونك اميا لا تقدر على مطالعة كتب التواريخ وانما أنزلناه إليك لتكون آية ودليلا لك على صدقك في دعواك الرسالة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بك ويصدقون رسالتك ونبوتك وذلك
إِنَّ فِرْعَوْنَ المفسد المسرف قد عَلا وأفرط فِي الْأَرْضِ اى ارض مصر وترقى امره الى حيث تفوه بانا ربكم الأعلى وَمن كمال عتوه واستكباره قد جَعَلَ أَهْلَها اى اهل مصر ومن يسكنون حولها شِيَعاً اى فرقا وأحزابا يشايعون له لدى الحاجة ويزدحمون عليه عند الارادة طوعا وكرها وبعد ما قد رأى فرعون في منامه ليلا ان نارا تخرج من دور بنى إسرائيل وتقع على داره وتحرقه وما حولها من دور القبط ولم تضر بدور بنى إسرائيل أصلا فأصبح وامر بإحضار الكاهن العليم فاستعبر عنه الرؤيا فقال له الكاهن(2/75)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
سيخرج من بنى إسرائيل رجل يستولى عليك ويستأصلك ومن معك وبعد ما سمع من الكاهن ما سمع صار يَسْتَضْعِفُ اى يضعف طائِفَةً مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل وقد بالغ في أضعافهم الى حيث يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ يعنى امر بشرطته ووكلائه ان يقتلوا من ولد منهم ذكرا لئلا يتقووا على قتاله ولم يحدث بينهم من أخبر به الكاهن وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ليتزوجهن القبط ظلما ويزداد ويلحق العار والصغار على بنى إسرائيل وبالجملة إِنَّهُ كانَ مِنَ أعظم الْمُفْسِدِينَ في الأرض يريد ان يظهر على الله بقتل ما أوجده سبحانه عتوا واستكبارا
وَبعد ما بالغ في الإفساد والفساد وتمادى في الجور والعناد زمانا نُرِيدُ بمقتضى جودنا وسعة رحمتنا أَنْ نَمُنَّ منة عظيمة عَلَى عبادنا الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ اى ارض العمالقة وهم بنوا إسرائيل الإسراء المظلومون في أيدي القبط وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وقدوة كراما كبراء عظماء اعزة متبوعين بعد ما كانوا اتباعا أذلاء صاغرين وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ من ظالميهم يرثون منهم ارضهم وديارهم وأموالهم
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ اى نقررهم ونوطنهم فِي الْأَرْضِ اى ارض مصر والشأم بعد ما كانوا مضطربين متزلزلين في أيدي العدو وَنُرِيَ بمقتضى قهرنا وجلالنا فِرْعَوْنَ المفرط في العتو والعناد وَظهيره هامانَ المفتخر على اهل الزمان بنيابته ووزارته وَجُنُودَهُما من القبط مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل ما كانُوا يَحْذَرُونَ منه وهو ظهور مولود منهم يذهب به دولة القبط وصار سببا لهلاكهم بالمرة
وَبعد ما ولد موسى وظهر من أراد به سبحانه زوال ملك فرعون واستوحشت امه من وقوف الشرطة عليه وقتله قد أَوْحَيْنا عناية منا إياه وإظهارا لحكمتنا المتقنة المثبتة في حضرة علمنا ولوح قضائنا وألهمنا حينئذ إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ مهما أمكنك ارضاعه واخفاؤه فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من وقوفهم إياه ضعيه في التابوت فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ اى النيل وَلا تَخافِي من هلاكه وغرقه وَلا تَحْزَنِي من فراقه إِنَّا من وفور لطفنا وعطفنا إياه وإياك قد رَادُّوهُ إِلَيْكِ لتحصنه وتحفظه أنت الى وقت فطامه وكبره البتة وَبعد ما استوى وبلغ أشده ورشده جاعِلُوهُ مِنَ جملة الْمُرْسَلِينَ المؤيدين من لدنا بالوحي والإلهام وظهور انواع المعجزات والخوارق من يده وبعد ما قد تفرست امه بوقوف الشرطة وتجسسهم بعد ما أرضعته ثلاثة ايام وضعته في التابوت على الوجه المأمور والقته في اليم مفوضة امره الى الله المتكفل بحفظه فذهب البحر بتابوته الى حذاء دار فرعون فرآه من فيها
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ فأخذوه وأخرجوه من اليم واحضروه وبعد ما كشفوا عنه ستره رأوا فيه وليدا في غاية الحسن والجمال بحيث تبهر عيون الناظرين اليه يمضغ إبهامه فلما رآه فرعون وامرأته وجميع من في بيته من الخدمة احبوه واعجبوا حسنه وصفاءه وبهاءه وقد ألقينا محبته في قلوبهم جميعا الى ان اتفقوا لحفظه غافلين عن مكرنا معهم لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً اى موجب حزن طويل وعداوة شديدة مستمرة وبالجملة إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ مجبولين موافقين على الخطأ في عموم أفعالهم وأعمالهم كأنهم مجسمون متخذون من الخطأ ومن جملته محافظة العدو الموجب لانواع العذاب والنكال الواقع عليهم في النشأة الاولى والاخرى
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ آسية رضى الله عنها من كمال محبتها له وتحننها نحوه لفرعون مشيرة الى الوليد هذا قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ مثل أبناء بنى إسرائيل على ظن انه منهم بل نحفظه عَسى أَنْ يَنْفَعَنا اى رجاء ان ينفع بنا نفعا كليا(2/76)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً خلفا لنا ويصير ولى عهدنا ان ظهر على رشد تام وعقل كامل كافل وَبالجملة هُمْ لا يَشْعُرُونَ انه عدوهم الذي يذهب به دولتهم وملكهم وبيده زوالهم وهلكهم
وَبعد القائه في البحر قد أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً صفرا من العقل ومن مقتضياته بل قد صارت قلقة هائمة حائرة حاسرة خاسرة بحيث قد اضمحلت عنها امارات الحياة تحننا الى ولدها وشوقا اليه وخوفا من قتله سيما قد سمعت بالتقاط آل فرعون إياه ووقوعه بأيديهم إِنْ كادَتْ اى انها قد صارت من غاية الحزن والأسف الى ان قربت لَتُبْدِي بِهِ اى لتظهر وتبوح بامره صائحة عليه فجيعة في شأنه من التقاط عدوه لَوْلا أَنْ رَبَطْنا وألقينا عَلى قَلْبِها السكينة والطمأنينة لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين لما وعدنا إياها برد ولدها إليها بلا ضرر من العدو
وَبعد ما سكنت من البوح والنوح وقصد الإظهار قالَتْ لِأُخْتِهِ اى مريم اخت موسى قُصِّيهِ اى اتبعى اثره وتتبعى امره كي تدركى وتدرى ما فعلوا معه فذهبت هي بأمرها فَبَصُرَتْ بِهِ اى بموسى عَنْ جُنُبٍ بعد واخفت حالها عنهم وَهُمْ بحيث لا يَشْعُرُونَ بقرابتها إياه وهم بعد ما اتفقوا على حفظه وتركوا قتله أرادوا ان يرضعوه فطلبوا المرضعة لحضانته ورضاعته
وَقد كنا من متانة حكمتنا وحكمنا قد حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ اى قبل القائه في البحر وحين عهدنا مع امه برده إياها بقولنا انا رادوه إليك فاحضروا مراضع كثيرة فأبى موسى عن مص الكل فتحيروا في امره فَقالَتْ مريم بعد ما انتهزت الفرصة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ان أردتم له مرضعة وَهُمْ اى اهل ذلك البيت لَهُ ناصِحُونَ حافظون الى ان كبر بحيث لا يغفلون عن تربيته وحفظه فلما سمع هامان منها ما سمع قال انها قد تعرفه واهله ومنشأه خذوها حتى تخبر ما حاله ومن أى قوم منشأه قالت انما أردت وهم للملك قوم ناصحون فأمرها فرعون باحضارها فأتت مريم بأمه وموسى على يد فرعون يبكى ويصيح فلما شم ريح أمه استأنس والتقم ثديها ومص بلا إباء فقال له فرعون من أنت منه فقد أبى من كل ثدي الا ثديك قالت انى امرأة طيبة الريح واللبن لم أوت بصبى إلا قبلني فدفعه إليها وعين اجرة حضانتها ورضاعتها فذهبت به الى بيتها من يومه كما قال سبحانه
فَرَدَدْناهُ يوم القائه في البحر إِلى أُمِّهِ إيفاء لوعدنا إياها كَيْ تَقَرَّ وتنور عَيْنُها بولدها وَبعد ما قد رددناه إليها ألهمنا لها ان لا تَحْزَنَ بعد اليوم وتثق بوعدنا إياها وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ القادر المقتدر على إيفاء مطلق العهود حَقٌّ ثابت محقق مطابق للواقع فكما اوفى سبحانه وعد رده إليك يوفى ايضا وعد رسالته ونبوته ايضا بلا خلف منه فعليك ان تثقى بالله وتفوضى امره اليه سبحانه فانه سبحانه يكفى ويكف عنه مؤنة شرور أعدائه ويوصله الى منتهى ما جبله لأجله إذ هو سبحانه قادر مقتدر غالب على عموم ما أراد وشاء وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس لا يَعْلَمُونَ كمال قدرته وحكمته سبحانه
وَلَمَّا ربته امه وأحسنت تربيته بمعاونة عدوه الى ان بَلَغَ أَشُدَّهُ وكمال قوته في نشوه ونمائه وَاسْتَوى اى كمل وتم عقله ورشده الى ان صلح لحمل أعباء الرسالة قد آتَيْناهُ من كمال جودنا إياه إيفاء لما وعدنا له في سابق علمنا المحيط وكتبنا لأجله في لوح قضائنا المحفوظ حُكْماً نبوة ورسالة ليضبط به ظواهر الاحكام من الأنام وَعِلْماً لدنيا متعلقا بمعرفة نفسه وبمعرفة ذات الحق المتصف بجلائل الأوصاف والأسماء وكذا بمعرفة توحده وتنزهه في ذاته عن سمة الكثرة(2/77)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
والتعدد مطلقا وَكَذلِكَ اى مثل ما جزينا موسى بأحسن الجزاء نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ من خلص عبادنا البالغين رتبة الإحسان معنا وهم الذين يعبدون الله كأنهم يرونه. وانما اتى بلفظ الماضي مع انه انما أرسل بعد ما هاجر من بينهم الى مدين وتلمذ شعيبا عليه السلام تنبيها على تحقق وقوعه
وَبعد ما قد بلغ موسى أشده قد دَخَلَ الْمَدِينَةَ اى مصر يوما من الأيام عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها لأنهم لا يترقبونه في تلك الوقت قيل هو وقت القيلولة وقيل وقت العشاء فَوَجَدَ موسى حين دخل فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ قتالا شديدا هذا اى احد المقاتلين مِنْ شِيعَتِهِ اى بنى إسرائيل وَهذا الآخر مِنْ عَدُوِّهِ يعنى القبط وبعد ما وصل موسى إليهما فَاسْتَغاثَهُ اى طلب منه الغوث والإعانة الرجل الَّذِي هو مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الرجل الَّذِي هو مِنْ عَدُوِّهِ إذ القبطي غالب على السبطى وبعد ما وجد موسى صديقه مظلوما مغلوبا فَوَكَزَهُ اى العدو مُوسى يعنى ضم أصابعه مجتمعة مقبوضة فضرب بها العدو مرة فَقَضى عَلَيْهِ وهلك وانفصل روحه عنه بوكزة واحدة دفعة فخجل موسى من فعله هذا واسترجع الى الله مستحييا منه سبحانه حيث قالَ هذا اى ما جئت به من الفعلة الشنيعة مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إذ هو يغرينى ويغويني باغرائه واغوائه إِنَّهُ اى الشيطان المغرى المغوى عَدُوٌّ لأهل الحق وارباب اليقين مُضِلٌّ لهم يضلهم عن الطريق المستبين مُبِينٌ ظاهر العداوة والإضلال سيما بالنسبة الى ارباب الرشد والكمال
قالَ موسى حينئذ متضرعا نحو الحق آئبا اليه تائبا عما صدر عنه مناجيا له عن محض الندم والحياء رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم بين يدي عدوى وخلصني من البلية العامة بمقتضى جودك إِنِّي بالاقدام على هذا الأمر الشنيع قد ظَلَمْتُ نَفْسِي وعرضتها على عذابك بالخروج عن مقتضى حدودك بقتل هذا الشخص بلا رخصة شرعية فَاغْفِرْ لِي يا ربي زلتى بعد ما تبت إليك وأنبت نحوك ورجعت عن ذنبي نادما والتجأت الى بابك راجيا فَغَفَرَ لَهُ ربه زلته بعد ما رجع اليه مخلصا إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْغَفُورُ
لذنوب عباده بعد ما رجعوا نحوه متذللين خائبين خاسرين الرَّحِيمُ يقبل توبتهم بعد ما أخلصوا فيها وبعد ما تاب ورجع عما قد عمله خطأ
قالَ مقسما رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرامات أقسمت بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ اى بعموم نعمك العظيمة الواصلة الى فَلَنْ أَكُونَ بعد اليوم وبحال من الأحوال ظَهِيراً مغيثا ومعينا لِلْمُجْرِمِينَ الذين قد أدت اغاثتهم الى جرم كبير وذنب عظيم وبعد ما صدر من موسى ما صدر
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً من اولياء المقتول يَتَرَقَّبُ منهم الاستقادة والقصاص فَإِذَا اى فاجأ موسى بغتة بالرجل الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ واستغاث منه بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ويستغيث منه ايضا مرة بعد اخرى لقبطى آخر يخاصم معه ويتغلب عليه قالَ لَهُ اى للمستغيث مُوسى على وجه الردع إِنَّكَ مع غاية ضعفك وقلة قوتك لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ظاهر الغواية والضلال
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى بعد ما رأى غاية ضعف صديقه ومغلوبيته من العدو وان نسب الصديق الى الغواية أَنْ يَبْطِشَ غيرة وحمية عليه بِالَّذِي اى بالقبطي الذي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما اى لموسى والإسرائيلي المغلوب إذ كل قبطى عدو لكل سبطي لاستمرار العداوة فيما بينهم قالَ القبطي يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي ظلما وعدوانا كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ جبرا بلا رخصة شرعية إِنْ تُرِيدُ وما تقصد بفعلك هذا وظهورك هكذا(2/78)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً قتالا فِي الْأَرْضِ ظلما وعدوانا بطرا مباهيا بقدرتك وقوتك وَبالجملة ما تُرِيدُ وما تقصد أنت بهذه الجرأة والجريمة أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين المتخاصمين بل ما أنت الا من المفسدين أشد إفساد
وَبعد ما انتشر الخبر بين العوام وشاع بين الأنام الى ان وصل الى فرعون وملائه فحضر اولياء المقتول على باب السلطان طالبين القود من القاتل فهم فرعون وملاؤه بقتل موسى بعد ما قد شاوروا في شأنه مشاورة عظيمة قد جاءَ رَجُلٌ مؤمن بموسى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ نحوه وهو ابن عمه حال كونه يَسْعى يسرع ويتبختر قالَ باكيا يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ اى فرعون واشراف قومه يَأْتَمِرُونَ بِكَ ويتشاورون في شأنك واستقر رأيهم لِيَقْتُلُوكَ قصاصا فَاخْرُجْ من المدينة في هذه الساعة وبالجملة إِنِّي من كمال عطفي ومرحمتى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ أنصحك بالخروج من بينهم لئلا يلحقك شرهم وضرهم وبعد ما سمع موسى من المؤمن الناصح ما سمع
فَخَرَجَ مِنْها اى من المدينة على الفور خائِفاً يَتَرَقَّبُ ادراكهم من الخلف قالَ حين خروجه منها ملتجأ الى الله مناجيا معه مستعينا مغيثا اليه رَبِّ يا من رباني بكنف حفظك وجوارك ونجاني من انواع الفتن والمحن نَجِّنِي بلطفك اليوم ايضا مِنَ ادراك الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ القاصدين لمقتي وقتلى
وَلَمَّا تَوَجَّهَ موسى تِلْقاءَ مَدْيَنَ اى جهة قرية شعيب النبي صلوات الله عليه وسلامه قالَ راجيا الى الله ذاكرا سوابق نعمه عليه من كمال فضله وكرمه عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي حسب جوده العميم سَواءَ السَّبِيلِ اى الطريق المستقيم المنجى عن العدو الموصل الى الصديق المشفق المرشد ليهدينى الى صراط الله الأقوم الأعدل الذي هو التوحيد المخلص عن وساوس التقليد فعن له يومئذ ثلاث طرق فاختار أوسطها بالهام الله إياه وجاء الطلاب عقيبه فاختاروا الآخرين فنجى من شرورهم
وَلَمَّا وَرَدَ ووصل بعد ما سار ثمانية ايام بلا زاد يأكل الكلأ ماءَ مَدْيَنَ اى بئرا قرب مدين قد كان أهلها يسقون منها مواشيهم وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً اى فرقة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم وأنعامهم بالدلو وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اى في مكان ابعد منهم وأسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ معهما أغنام كثيرة وهما تَذُودانِ تطردان وتصرفان غنمهما عن اختلاط غنمهم وتبعدان عن الماء قالَ موسى سائلا عنهما بعد ما شاهد حالهما وذودهما ما خَطْبُكُما واى شيء شأنكما وأمركما واى شيء مقصودكما من الذود مع ان اغنامكما في غاية العطش قالَتا مع كمال الاستحياء والتحفظ من مكالمته في جوابه لا نَسْقِي أغنامنا مع هؤلاء الرجال إذ نحن من اهل بيت النبوة لا نجتمع معهم في السقي بل نصبر حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ويخلو الدلو ويخرجوا مواشيهم الى المرعى عن رأس الماء. الرعاء جمع راع كتجار جمع تاجر هذا على قراءة يصدر بضم الياء وكسر الدال واما على قراءة يصدر بفتح الياء وضم الدال اى يذهب الرعاة والحفظة بمواشيهم مرتوية وينصرفوا عن شفير البئر إذ نحن لا نختلط باجانب الرجال وَبالجملة نحن من غاية اضطرارنا وضرورتنا قد جئنا للسقي إذ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ فاقد البصر وما لنا أخ وعم وليس لأبينا ظهير وهو شيخ ضرير وبعد ما سمع موسى منهما ما سمع ورأى ما رأى من كمال العفة والعصمة قام مع انه في غاية الضعف من شدة الجوع والعطش وفي رأس البئر حجر عظيم يقلبه عند الاستقاء جمع كثير فقلبه وحده
فَسَقى لَهُما جميع اغنامهما فانصرفتا وذهبتا باغنامهما الى بيتهما ثُمَّ تَوَلَّى وانصرف موسى إِلَى الظِّلِّ وازداد جوعه وعناه من فرط(2/79)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
الحركة فَقالَ ملتجأ الى ربه رَبِّ إِنِّي من شدة جوعى وضعفى لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ ورزقتني من موائد افضالك وإنعامك مِنْ خَيْرٍ طعام وصل الى فَقِيرٌ مريد محتاج وأنت اعلم لحالي منى وبعد ما تم مناجاته مع ربه ورفع حاجاته اليه سبحانه
فَجاءَتْهُ فجاءة إِحْداهُما اى احدى المرأتين تَمْشِي نحوه عَلَى اسْتِحْياءٍ تام منه وكمال تحفظ وتحصن فلما وصلت حوله سلمت عليه خافضة صوتها ناكسة رأسها ثم قالَتْ له مستحية إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ ويكافئ معك أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا تبرعا فأجابها موسى تبركا برؤية شعيب عليه السلام لا طمعا لاجرته. روى انه لما دخل عليه قد أتى أولا بالطعام فامتنع موسى ولم يأكل وقال نحن من اهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا قال شعيب عليه السلام هذا من عادتنا مع كل من ينزل علينا وان من أوتى بمعروف واهدى له لم يحرم أكله في عموم الأديان فقبل قوله موسى واشتغل بأكل الطعام فَلَمَّا جاءَهُ اى لما وصل موسى شعيبا عليهما السلام وتبرك بشرف صحبته وقد لاح على شعيب عليه السلام حاله وشأنه بنور النبوة وَبعد ما ظهر على موسى ايضا انه قد لاح عليه قَصَّ موسى عَلَيْهِ الْقَصَصَ عن آخرها اى عموم ما جرى عليه من اوله الى آخره وسمع منه الشيخ على التفصيل وبعد ما سمع شعيب عليه السلام قالَ لا تَخَفْ بعد اليوم فقد نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى فرعون وملئه وبعد ما قد جلس موسى عند شعيب عليه السلام وقص عليه ما جرى عليه من الخوف والحزن والكآبة وانواع الملال والضلال وتشتت الحال وتفرق البال
قالَتْ إِحْداهُما اى احدى ابنتين وهي التي استدعته للضيافة يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ لرعى الغنم وأنت تريد الأجير إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ من الرجال هو لأنه الْقَوِيُّ القادر شديد القوة الْأَمِينُ ذو الامانة والديانة قال لها أبوها حمية وغيرة من اين عرفت قوته وأمانته فذكرت لأبيها ما رأت من إقلال الحجر العظيم وحده من رأس البئر مع ان الناس قد يقلون بجمع كثير فهذا دليل قوته واما دليل أمانته فانى بعد ما دعوته بإذنك قام ومشى قدامي وأمرني بالمشي خلفه صيانة على عن النظر الى فقال لي دلينى على الطريق ان ضللت ولما سمع شعيب عليه السلام من ابنته ما سمع من امارات أمانته ومروءته مع انه قد شاهد منه ولاح عليه بنور النبوة نجابة طينته وفطرته رغب الى ألفته ومؤانسته حيث
قالَ شعيب عليه السلام بموسى إِنِّي بعد ما وجدتك شابا صالحا سويا نسيبا حسيبا ذا رشد وامانة أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ بصداق معين وهو عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً كاملا فَمِنْ عِنْدِكَ تبرعا وإحسانا وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بان أحملك أزيد من ذلك سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ للخدمة والمصاحبة والمواخاة في أداء الحقوق والعهود
قالَ موسى مجيبا له راغبا لقبول ما ألقاه من الكلام ذلِكَ الوقت الذي عينته ملزما على أولا بَيْنِي وَبَيْنَكَ معهود ثابت مقرر معقود عليه كما أمرتم وحكمتم والذي قلتم ثانيا تبرع منى ان قدرت على إتيانه بتوفيق الله وتيسيره كما قررتم أنتم ايضا وبالجملة أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ يعنى أجل الالتزام او أجل التبرع قَضَيْتُ يقع المعهود بلا تردد فَلا عُدْوانَ ولا تعدى عَلَيَّ بعد انقضاء كل واحد من الأجلين وَاللَّهُ الشهيد المطلع على عموم احوال عباده عَلى ما نَقُولُ من المشارطة والمعاهدة وَكِيلٌ حفيظ يحفظها على وجهها
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ اى أقصى الأجلين ومكث عنده عشرا أخر بعد ما تزوج ابنته للاسترشاد والاستكمال وكسب(2/80)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
الأخلاق والأطوار بعد ما قد كمل بصحبة المرشد الكامل المكمل وشرف بشرف تربيته أراد ان يرجع الى قومه بل أراد الحق ان يظهر منه ما جبله لأجله وهو زوال ملك فرعون وسلطنته بسببه فخرج من عنده باذنه عليه السلام وَسارَ بِأَهْلِهِ نحو مصر وهي حاملة فجاءها الطلق في ليلة شاتية مظلمة وهم على جناح السفر ضالين عن الطريق آنَسَ وأبصر موسى مِنْ جانِبِ الطُّورِ اى من الجهة التي تجاه الطور ناراً ففرح من رؤيتها حيث قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ساعة إِنِّي قد آنَسْتُ وأبصرت ناراً ومن هذا يعلم ان اهله لم يروها اذهب نحوها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ من الطريق استخبر من عندها أَوْ جَذْوَةٍ اى عود غليظ مع شيء مِنَ النَّارِ ان لم أجد عندها أحدا لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ بها وتستدفئون من البرد فمكثوا فبادر موسى نحوها سريعا مسرعا
فَلَمَّا أَتاها وقرب منها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ اى شفيره وجانبه الْأَيْمَنِ ذي اليمن والكرامة الواقعة فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ التي قد كثر الخير والبركة فيها مِنَ الشَّجَرَةِ التي توقد عليها النار نداء عجيبا معربا عن اسمه مصرحا به أَنْ يا مُوسى المتحير في بيداء الطلب القلق الحائر في فيافى التعب إِنِّي مع كمال اطلاقى وان ظهرت على صورة النار وتقيدت بها متنزلا عن كمال تنزهى وعلو شأنى عن عموم الصور والتعينات أَنَا اللَّهُ الجامع لعموم الأسماء والصفات المتجلى بجميع الصور والشئون وبعموم الهياكل والتماثيل الظاهرة من آثار أوصافي وأسمائي المحسوسة من عكوس شئوني وتجلياتى حسب تطوراتى بمقتضى كمالاتى المتعالي عن الحلول في الشيء منها والاتحاد معه فاطلبنى تجد عموم حوائجك عندي لأنى رَبُّ الْعالَمِينَ اى مربى الكل ومدبره بعد ما قد أظهرت الأشياء واوجدتها من كتم العدم حسب رش نوري ومد ظلي عليها وبعد ما سمع موسى ما سمع قد استوحش بل قد هام ووله من هذا النداء الهائل وارتعد من هيبة هذا الصداء المهول إذ هو في أول انكشافه وابتداء شهوده وبعد ما ظهر منه ما ظهر من الرعب المفرط آنس معه ربه ازالة لرعبه ووحشته فقال مخاطبا له آمرا
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ التي في يدك حتى ترى عجائب صنعتنا وبدائع حكمتنا ويزول استبعادك عن ظهورنا على صورة النار فألقاها على الفور فإذا هي حية تسعى فَلَمَّا رَآها موسى عليه السلام تَهْتَزُّ وتتحرك على وجه السرعة كَأَنَّها جَانٌّ حية صغيرة سريعة السير قد وَلَّى موسى وانصرف عنها مُدْبِراً خائفا مرعوبا متنفرا إذ لم يرها قبل ذلك كذلك وَبعد ما أدبر هائلا هاربا لَمْ يُعَقِّبْ اى لم يرجع ولم يقبل نحوه ولم يلتفت الى اخذه خائفا منها هائبا قلنا له حينئذ مناديا ازالة لرعبه يا مُوسى أَقْبِلْ نحو عصاك وخذها بيدك وَلا تَخَفْ من صورتها المحدثة إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من ضرر ما ظهر عليك من الصور الحادثة المهيبة فانا سنعيدها سيرتها الاولى وصورتها الاصلية ثم امر سبحانه ثانيا تأكيدا لتأنيسه بقوله
اسْلُكْ وادخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مضيئة منيرة محيرة المعقول مفرقة الأبصار من كمال إشراقها وإضاءتها مع انها مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ومرض من برص وبهق وغيرها فادخل واخرج على الفور فرأى ما رأى وَبعد ما قد رأى موسى يده في غاية البياض والصفاء واستوحش ايضا منها واسترهب عن عروض المرض إليها بمقتضى بشريته امره سبحانه ثالثا ازالة لحزنه وتمرينا له بقوله اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ واطو كشحك واجمع شملك ويديك ولا تنشره مِنَ الرَّهْبِ والخوف والرعب المفرط وهذا كناية عن الطمأنينة والوقار وعدم اخطار الخوف مطلقا بالبال فَذانِكَ اى فاعلم(2/81)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
ان العصا واليد البيضاء بُرْهانانِ واضحان وشاهدان صادقان على دعواك النبوة والرسالة ومعجزتان باهرتان لك لمن يعارض معك وأنكر عليك وعلى رسالتك وذانك البرهانان منتشآن مِنْ رَبِّكَ موهوبان لك من عنده تأييدا لك ولأمرك وشأنك حين رسالتك وإتيانك إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ لتدعوهم الى توحيد الحق وصراطه المستقيم وتنذرهم عماهم عليه من الإفراط والتفريط إِنَّهُمْ من غاية انهماكهم في الغفلة والغرور كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة في شرائع الأنبياء الماضين والرسل المنقرضين ثم لما سمع موسى من ربه ما سمع
قالَ معتذرا مستظهرا رَبِّ يا من رباني بسوابق النعم الجليلة أنت اعلم منى بحالي إِنِّي قد قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً خطأ بإغراء الشيطان على واغوائه فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ويبادرون الى قتلى قبل دعوتهم الى دينك وتوحيدك لو اذهب نحوهم وحيدا فريدا بلا ظهير ومعين
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً وأوضح بيانا وأتم تقريرا وتبيانا فَأَرْسِلْهُ مَعِي واشركه في امرى ليكون رِدْءاً الى معاونا على يعينني في امرى يُصَدِّقُنِي قولي لدى الحاجة إِنِّي من كمال عداوتهم معى وشدة شكيمتهم وضغينتهم على أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ دفعة ولا ينطلق لساني بمجادلتهم ودفعهم بسبب لكنتى فافوت بلكنتى حكمة رسالتي واحكام دعوتي ونبوتي
قالَ له سبحانه على سبيل التأييد والتعضيد سَنَشُدُّ عَضُدَكَ ونقوى ظهرك وأمرك بِأَخِيكَ وَمع ذلك لا تيأس من توفيقنا لك وتأييدنا إليك واعلما انا بعد ارسالكما الى فرعون وملائه نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً برهانا واضحا وحجة قاطعة بها تغلبان أنتما إليهم فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بسوء قطعا بل لا يمكن لهم ان ينظروا نحوكما بقهر واستيلاء سيما بعد اتيانكما مؤيدا مصحوبا بِآياتِنا التي قد آتيناكما وبالجملة لا تخافا من غلبتهم عليكما حسب شوكتهم وكثرتهم عددا بل أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا وآمن لكما الْغالِبُونَ المقصورون على الغلبة والاستيلاء وهم المغلوبون المنحصرون على المغلوبية والمهزومية لا يتجاوزون عنها أصلا حسب ما أثبتنا في لوح قضائنا وحضرة علمنا المحيط
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى مؤيدا بِآياتِنا الدالة على صدقه في دعواه مع كون تلك الآيات بَيِّناتٍ ظاهرات واضحات في انها من لدنا بلا ريب وتردد ومع ذلك قالُوا من شدة قسوتهم وانهماكهم في الضلال ما هذا الذي قد اتى على صورة المعجزة والبرهان إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً قد اختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى ربه تغريرا وترويجا لباطله في صورة الحق وَمن شدة حرصه على ترويج ما قد زخرفه من عند نفسه سماه دينا وهداية ورشدا ودراية ونسبه الى الوحى والإنزال من الإله الواحد الأحد الموهوم مع انا ما سَمِعْنا بِهذا اى بوحدة الإله الواحد الأحد المرسل الرسل المنزل الكتب بالوحي والإلهام الواضع الأديان والشرائع بين الأنام وما كان هذا ايضا كائنا ثابتا معروفا مشهورا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ بل ما هو الا افك وافتراء ولبس على الأنام امره تغريرا عليهم وتضليلا لهم
وَبعد ما قد أبصروا بالآيات القاطعة والبراهين الساطعة ونسبوها من غاية غيهم وضلالهم الى السحر والشعبذة مع انها بعيد بمراحل عنها قالَ مُوسى بعد ما قنط عن ايمانهم وصلاحهم رَبِّي الذي رباني بأنواع الكرامات أَعْلَمُ منى بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى ومن اتصف بالرشد والهداية المنزلة مِنْ عِنْدِهِ حسب وحيه والهامه ومن اهتدى واسترشد به من عباده وَمَنْ تَكُونُ وتحصل لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعنى العاقبة الحميدة المترتبة على هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار في النشأة الآخرة التي هي نشأة الجزاء(2/82)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
والعطاء وبالجملة إِنَّهُ اى الشأن والأمر حسب ارادة الله سبحانه وبمقتضى عدله وحكمته لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية ولا يفوزون بما فاز به المتقون من المثوبة العظمى والدرجة العليا
وَبعد ما قد أتم موسى كلامه الصادر من محض الحكمة قالَ له فِرْعَوْنُ مستكبرا عليه مستحيا عمن حوله من الأنام لئلا ينسبوه الى العجز والافحام مناديا لهم على سبيل العظمة والكبرياء يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويستحق للعبادة غَيْرِي ومن اين يدعى هذا الكذاب ان في السماء الها سواي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ يعنى مر يا هامان للعملة على الفور ان يتخذوا من الطين لبنا ويوقدوها بالنار حتى صارت متحجرة آجرا فَاجْعَلْ لِي وابن لي منها صَرْحاً رفيعا وقصرا مشيدا منيعا سمكه متصل الى السماء فاستعلى انا عليها لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى فان اقبل بالقتال اغلب عليه واحطه على الأرض صاغرا مهانا وَبالجملة إِنِّي لَأَظُنُّهُ في هذه الدعوى مِنَ الْكاذِبِينَ القائلين بقول لا منشأ له في الواقع ولا اصل ولا مستند له لا في العقل ولا في العادة قيل قد بنى رصدا ليطلع على نظرات الكواكب هل يجد فيها نظرا يدل على زوال دولته باستيلاء موسى عليه
وَمن غاية غفلته وسكرته ونهاية عمهه وقسوته قذ اسْتَكْبَرَ هُوَ اى فرعون اصالة وَجُنُودُهُ ايضا تبعا له إذ هم على دين ملكهم وطوره فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ والاستحقاق وترقوا في عتوهم وعنادهم الى ان قد ظهروا على الله بأمثال هذه الهذيانات الباطلة وَظَنُّوا بل تيقنوا وجزموا بالاقدام والجرأة على أمثال هذه الخرافات أَنَّهُمْ بعد انخلاعهم عن لوازم عالم الناسوت إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ رجوع الاظلال الى الأضواء المنعكسة من شمس الذات وصور الأمواج الحادثة على سطح الماء الى الماء وبعد ما بالغوا في العتو والعناد وظهروا على وجه الأرض بأنواع الجور والفساد
فَأَخَذْناهُ اى فرعون حسب قهرنا وجلالنا إياه وَجُنُودَهُ ايضا بأنواع العذاب فَنَبَذْناهُمْ اى قد طرحنا الكل فِي الْيَمِّ وغطيناهم بالماء واغشيناهم مثل غشى وجوداتهم الباطلة بالوجود المطلق البحث الإلهي فَانْظُرْ يا أكمل الرسل وتأمل كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ومآل أمرهم وما يئول اليه حالهم وشأنهم
وَمن كمال ابتلائنا إياهم ومكرنا معهم قد جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً وقدوة للضلال المستوجبين بأنواع الخسار والبوار بحيث يَدْعُونَ من تبعهم ويقتفى أثرهم إِلَى النَّارِ اى اسبابها وموجباتها إذ مآل الكل إليها تابعا ومتبوعا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ اى لا يدفع عنهم العذاب ولا يخفف بشفاعة احد
وَكيف ينصرون أولئك الضلال الهالكون في تيه الضلال مع انا قد أَتْبَعْناهُمْ والزمنا عليهم فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً مستمرة جارية على ألسنة من على الأرض وَيَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للجزاء هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ المطرودين عن ساحة عز القبول والحضور المسوقين بسياط العنف والجبر نحو جهنم البعد والخذلان صاغرين مهانين
وَبعد ما قد نبذنا فرعون وجنوده في اليم لَقَدْ آتَيْنا وأعطينا مُوسَى الكليم الْكِتابَ العظيم اى التوراة المحتوية الجامعة على ظواهر الاحكام مِنْ بَعْدِ ما قد أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى واستأصلنا آثارهم وأحكامهم بحيث لم يبق حينئذ من شرائع المتقدمين وضوابطهم وقواعدهم وحدودهم وأحكامهم شيء بين الأنام كنوح وهود وصالح وابراهيم وغيرهم صلوات الرحمن عليهم دائما وانما آتيناه ليكون بَصائِرَ لِلنَّاسِ يعنى ينور باحكامه وأوامره عيون بصائرهم ويستيقظون به عن منام الجهل والغفلة ويشتغلون بسببه لطلب الحق وَهُدىً يهديهم الى(2/83)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
سلوك مسالك التوحيد وَرَحْمَةً تبشرهم الى البقاء الأبدي السرمدي بعد انخلاعهم عن خلعة تعيناتهم العدمية وافنائهم عن هوياتهم الباطلة الناسوتية لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ رجاء ان يتذكروا ويتنبهوا من المواعظ والاحكام التي ذكرت فيه الى ما جبلوا لأجله من المعارف والحقائق والرموز والإشارات والمكاشفات والمشاهدات ومع ذلك لم يتنبهوا ولم يتفطنوا ولم يتعظوا بها الا قليلا. ثم لما قص سبحانه حبيبه ما قص من قصة موسى الكليم وكيفية انكشافه من النار الموقدة على الشجرة المذكورة وكيفية عروجه منها مترقيا من العلم الى العين ثم الى الحق أراد ان يمن عليه سبحانه بما اصطفاه وفضله من بين البرايا للرسالة العامة وأخبره من المغيبات بطريق الوحى والإلهام ما ليس في وسعه لولا وحيه والهامه سبحانه إياه فقال
وَما كُنْتَ يا أكمل الرسل حين انكشف أخوك موسى بالواد المقدس وقد شهد من فضل الله عليه ما شهد بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ اى وادي الذي على شفيره الشجرة المعهودة بالطرف الغربي من مكان موسى وبالجملة ما كنت حينئذ حاضرا عنده وقت إِذْ قَضَيْنا وأوحينا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ الذي هو انكشاف مطلوبه الحقيقي من مطلوبه الصوري وَما كُنْتَ أنت حينئذ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين المطلعين على شهوده وشأنه
وَلكِنَّا من كمال لطفنا وجودنا قد اخبرناك بما قد جرى بينه وبيننا في تلك الليلة كما قد أخبرنا لك عن احوال امم كثيرة قد أَنْشَأْنا من بعد موسى ومن قبلك قُرُوناً وامما كثيرة في ازمنة متطاولة وأمد بعيد فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ومكثوا في الدنيا كثيرا ودار عليهم الدول وطال الحول وحدثت الفتن والمحن ووقع ما وقع من التغييرات والتحريفات الكلية في الشرائع والأديان الماضية واندرست معالم الهدى وفشا انواع الجدال والطغيان بين اشخاص الإنسان وبالجملة قد استولت الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة على اهل الأعصار والأزمان السالفة والقرون الماضية ولقد أخبرنا لك يا أكمل الرسل ما في كتابك هذا من وقائعهم وأحوالهم وأطوارهم ومعاملاتهم ومقالاتهم مع رسل الله وخواص عباده ليكون تذكرة لك وعبرة للمؤمنين بك وَايضا ما كُنْتَ يا أكمل الرسل ثاوِياً مقيما متوطنا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على كمال القسط والعدالة بلسان نبينا شعيب عليه السلام وذلك عند انحرافهم عن جادة الاعتدال في المكيلات والموزونات واشتغلوا بالبخس والتطفيف وانواع التنقيص والتخسير وَلكِنَّا قد كُنَّا مُرْسِلِينَ مخبرين لك موحين إليك ما جرى عليهم من الأحوال
وَما كُنْتَ ايضا حاضرا بِجانِبِ الطُّورِ الذي هو موعد موسى معنا وقت إِذْ نادَيْنا موسى لاخذ التوراة ووقت وحينا اليه وَلكِنْ قد علمناك به ليكون رَحْمَةً لك نازلة إليك مِنْ رَبِّكَ تأييدا لك وتقوية لشأنك بل انما اوحيناك عموم ما اوحيناك لِتُنْذِرَ أنت به قَوْماً ضلالا ظالمين قد بقوا على فترة من الرسل إذ ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ من لدن عيسى عليه السلام وهي خمسمائة وخمسون سنة او من لدن جدك إسماعيل عليه السلام وهي بأضعاف هذه المدة المذكورة بناء على ان دعوة بنى إسرائيل مختصة بهم لا يتعدى الى غيرهم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ويتعظمون بما في كتابك ويتنبهون من حكمه وأحكامه الى مبدئهم ومعادهم ويفوزون منها الى المعارف والحقائق التي جبلوا لأجلها. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع
وَلَوْلا كراهة أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ عظيمة جالبة موجبة لنزول انواع العذاب والنكال بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ اى بشؤم ما اقترفوا من المعاصي فَيَقُولُوا حينئذ محتجين علينا مجادلين بنا بعد ما(2/84)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
قد أخذناهم عليها رَبَّنا لَوْلا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا من عندك مؤيدا من لدنك بالآيات البينات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ حينئذ البالغة إلينا برسالته ونصدقها ونعمل بمقتضاها وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدانيتك المخلصين في إيمانك وتوحيدك المخلصين من عذابك ما أرسلناك ولكن قد أرسلنا الرسل وأنزلنا الكتب لذلك
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ اى الرسول المرسل مِنْ عِنْدِنا ملتبسا بالحق مؤيدا بالآيات الساطعة والبراهين القاطعة قالُوا من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم لَوْلا هلا أُوتِيَ بهذا الرسول المرسل إلينا من الدلائل والمعجزات مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى حتى نصدقه ونؤمن به وبالجملة ما هذا الا من غاية غيهم وضلالهم وغلظ حجبهم وكثافة غشاوتهم ولذا لو اوتى لك مثل ما اوتى موسى لكفروا لك البتة أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ حيث قالُوا بعد ما شاهدوا دلائل معجزاته مبالغين في رده وإنكاره سِحْرانِ او ساحران على القرائتين تَظاهَرا يعنون هارون وموسى مع ان ما أتيا به بعيد بمراحل عن السحر وأنتم ايضا ايها الضالون من بقية من كفروا بدلائل موسى ونسبوها الى السحر ولو آتينا محمدا صلى الله عليه وسلم مثل ما أتينا موسى لكفرتم به البتة كما كفر اسلافكم بآيات موسى ومعجزاته مع ان دلائل محمد صلى الله عليه وسلم أقوى من دلائل موسى عليه السلام وكتابه اجمع من كتابه أتم نظما وأكمل معرفة وأعم حكما واشمل فائدة وَبعد ما سمعوا ما دل على خباثة فطرتهم قالُوا
مظهرين ما في نفوسهم من الشرك والنفاق إِنَّا بِكُلٍّ ممن يدعى الرسالة والنبوة والإرشاد والهداية كافِرُونَ منكرون وبالجملة نحن لا نقبل مطلقا من أبناء جنسنا أمثال هذه المفتريات التي قد اختلقوا عن تلقاء أنفسهم ونسبوها ترويجا الى ما لا وجود له في الواقع وسموه الها واحدا أحدا صمدا فردا وترا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا
قُلْ يا أكمل الرسل على سبيل التعجيز والتوبيخ بعد ما قد عاينت منهم الكفر على ابلغ وجه وآكده فَأْتُوا ايها المفسدون المسرفون بِكِتابٍ نازل مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المنزل الكتب لإرشاد عباده هُوَ أَهْدى مِنْهُما اى من التوراة والقرآن أَتَّبِعْهُ اى ذلك الكتاب وما فيه من الاحكام وامتثل لأوامره واجتنب عما نهى فيه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في نسبتنا الى السحر
فَإِنْ عجزوا عن الإتيان ولَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ما طلبت منهم فَاعْلَمْ يا أكمل الرسل يقينا أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ اى انهم ما يتبعون الا أهواءهم الفاسدة وآراءهم الباطلة بلا متابعة منهم الى ملة من الملل السالفة ودين من الأديان السابقة وَمَنْ أَضَلُّ طريقا وأشد غيا وأسوأ حالا ومآلا مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ حال كونه بِغَيْرِ هُدىً ولا توفيق وارشاد ناش مِنَ اللَّهِ الميسر لأمور عباده وكيف يوفقهم الحق ويهديهم إِنَّ اللَّهَ الحكيم المتقن في أفعاله لا يَهْدِي الى الطريق المستبين الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات أوامره ونواهيه إذ هم منهمكون في بحر الغفلة والضلال بحيث لا يرجى نجاتهم منها أصلا
وَلَقَدْ وَصَّلْنا وفصلنا لَهُمُ الْقَوْلَ بان قد اتبعنا الاحكام بالحكم والأوامر بالمواعظ والتذكيرات والنواهي بالعبر والأمثال وقد أوضحنا الكل بالقصص والوعيدات الهائلة الواردة على اصحاب الغفلة والنسيان وبتنزيل انواع العذاب والنكال على اهل الكفر والإنكار كل ذلك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيتعظون منها ويؤمنون بها ويقبلون ما فيها ومع ذلك لم يتعظوا ولم يتأثروا ولم يقبلوا ولم يؤمنوا. ثم قال سبحانه
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اى التوراة ووفقناهم على امتثال ما فيها من الأوامر والنواهي وعموم الأمور المتعلقة بالمعتقدات الدينية مِنْ قَبْلِهِ اى قبل نزول القرآن هُمْ بِهِ اى بالقرآن او بمحمد عليه السلام يُؤْمِنُونَ(2/85)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
إذ هم مصدقون بعموم ما في كتابهم ومن جملة الأمور المثبتة فيه إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن اليه وهم يؤمنون به قبل بعثته صلّى الله عليه وسلّم ونزول القرآن بمدة متطاولة
وَبعد نزول القرآن إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا مسلمين مصدقين آمَنَّا بِهِ واعتقدنا إِنَّهُ الْحَقُّ المطابق للواقع النازل المنزل مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ اى قبل نزوله مُسْلِمِينَ منقادين لجميع ما فيه مصدقين له مؤمنين بمن انزل اليه إذ الايمان به من جملة المعتقدات المثبتة في كتابنا فالآن لم لم نؤمن مع انا قد وجدناه مطابقا لما علمناه وحفظناه في كتابنا وعلى الوجه الذي تلوناه فيه وبالجملة
أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله يُؤْتَوْنَ ويعطون أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ وضعفين مرة على الايمان السابق بالقرآن وبمحمد حسب ما ثبت في كتابهم ومرة على الايمان اللاحق بعد ما عاينوا ما وصف لهم في كتابهم وانما ضعّفوا في جزائهم بِما صَبَرُوا وثبتوا على ما نزل عليهم من قبل الحق ولم يتركوا امتثاله لا سابقا ولا لاحقا وَهم بسبب دوامهم وثباتهم على ما أمروا في كتابهم يَدْرَؤُنَ يسقطون ويدفعون بِالْحَسَنَةِ اى الخصلة الحميدة الجميلة الموجبة لانواع الإفضال والانعام السَّيِّئَةَ الجالبة لانواع العذاب والخذلان وَهم ايضا من كمال اتصافهم بالإيمان والإحسان مِمَّا رَزَقْناهُمْ واقدرناهم على اقترافه وكسبه يُنْفِقُونَ في سبيلنا طلبا لمرضاتنا
وَايضا هم من كمال تحفظهم وصيانتهم عن نواهينا إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ اى الكلام الخالي عن المصلحة الدينية أَعْرَضُوا عَنْهُ اتقاء وتحرزا عن وصمة المداهنة والمراضاة بما لا يرضى به سبحانه وَقالُوا من سلامة نفوسهم وكمال علمهم للمرتكبين به بعد ما لم يقدروا على نهيهم لَنا أَعْمالُنا التي قد اقترفناها بسعينا واجتهادنا اى جزاؤها وما يترتب عليها وَلَكُمْ ايضا أَعْمالُكُمْ التي أنتم عليها مصرون وبجزائها متربصون وقالوا لهم حين توديعهم والذب عنهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعنى سلمكم الله العفو الرحيم عن عوائد ما كنتم عليه ووفقكم على التوبة والانابة عنه ومالنا معكم مطالبة ومجادلة سوى انا لا نَبْتَغِي ولا نطلب مصاحبة الْجاهِلِينَ بسوء عواقب الخصائل الذميمة الغير المرضية عند الله وعند خلص عباده. ثم لما احتضر ابو طالب ودنا ان يخرج من الدنيا جاءه رسول الله صلّى الله عليه مهتما بإيمانه وتوحيده فقال له قل يا عمى مرة لا اله الا الله انا أحاج بها لك عند ربي فأخرجك بها عن زمرة المشركين قال يا ابن أخى والله لقد علمت يقينا انك لصادق صدق صدوق في جميع ما جئت به لكن اكره ان يقال قد جزع ابو طالب عند الموت اى ضعف وجبن لذلك آمن بابن أخيه انزل سبحانه هذه الآية تأديبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وردعا عن طلب شيء لا يرجى حصوله فقال
إِنَّكَ يا أكمل الرسل من شدة حرصك واهتمامك لا تَهْدِي ولا ترشد الى طريق الحق وسبيل توحيده عموم مَنْ أَحْبَبْتَ وأردت إيمانه وَلكِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده يَهْدِي ويوفق على الايمان والإطاعة بدين الإسلام مَنْ يَشاءُ هدايته واثبت سعادته وتوحيده في لوح قضائه وَهُوَ سبحانه أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِالْمُهْتَدِينَ من عباده بعد ما بلغت لهم ما قد أمرك الحق بتبليغه وبالجملة ما عليك الا البلاغ والهداية والرشد والإرشاد الى سبيل السداد انما هو بإرادته سبحانه وبمقتضى اختياره ومشيئته ومن الاعراب قوم جاءوا الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وَقالُوا انا قد علمنا يقينا انك على الحق والهداية والرشد لكنا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ ونؤمن بك ونعمل بدينك ونمتثل بجميع ما قد جئت به من عند ربك على الوجه الذي اعتقدناك نُتَخَطَّفْ ونخرج مِنْ أَرْضِنا التي كنا مستقرين عليها بمخالفتنا(2/86)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
العرب إذ نحن معاشر العرب أكلة رأس متفقين في عموم الخطوب ومتى خالفناهم في امر لم يرضوا عليه قد أخرجونا من بينهم البتة صاغرين مهانين فرد الله سبحانه عليهم عذرهم هذا بقوله أَيخافون أولئك الخائفون وَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ فيما مضى ولم نجعل مكانهم الذي يستقرون فيه حَرَماً ذا حرمة عظيمة آمِناً ذا أمن وأمان من عموم المكاره جالبا لانواع الخيرات والبركات إذ يُجْبى إِلَيْهِ ويجمع فيه ويحمل نحوه ويجر اليه ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ ونفائسه من كل أمد بعيد وفج عميق لتكون رِزْقاً لهم مِنْ لَدُنَّا نحوهم وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس المجبولين على الجهل والنسيان لا يَعْلَمُونَ كمال لطفنا معهم ووفور رحمتنا إياهم
وَقل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا لا تغرنكم الحياة الدنيا وامهالنا إياكم فيها مترفهين متنعمين إذ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ اى كثيرا من اهل قرية أهلكناهم مع انهم قد بَطِرَتْ مَعِيشَتَها وكان أهلها بطرين فيها من سعة عيشها ووفور نعمها ومعيشتها أمثالكم فدار عليهم الدول فأخذناهم بأنواع النقم بدل نعمنا وانعامنا إياهم بشؤم كفرهم وكفرانهم فأهلكناهم واستأصلناهم صاغرين فانظر كيف كان عاقبة البطرين المفسدين فَتِلْكَ الاطلال الخربة والآثار الكربة الكئبة التي تجاه وجوهكم مَساكِنُهُمْ وأوطانهم التي كانوا يتمكنون فيها مترفهين بطرين انظروا كيف اندرست وخربت وتفتتت بحيث لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ في بلادهم وأماكنهم إِلَّا قَلِيلًا من اهل السفر والعبور ينزلون فيها ساعة ويرحلون بلا اقامة فيها ووراثة لها هكذا حال الدنيا وحياتها والاستقرار عليها والتمتع بمتاعها دائما عند العارف المحقق المتحقق ببطلان حقيقتها وماهيتها وَبعد ما أهلكناهم وخربنا بلادهم ودورهم قد كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم لا نمكن فيها خلفاء من أبناء نوعهم من شؤم آثامهم وجرائمهم التي قد كانوا عليها مصرين غير ممتنعين وان أرسلنا عليهم الرسل وأنزلنا عليهم الكتب
وَبالجملة ما كانَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل مُهْلِكَ الْقُرى وما ينبغي وما يليق بشأن الحكيم العليم ان يأخذهم بغتة بلا منبه منذر بل ما أخذناهم على ظلمهم وعدوانهم حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها اى البلدة التي هي أم القرى الهالكة ومعظمها إذ أهلها اقبل للرشد والهداية من اصحاب حواليها ونواحيها وهم يتبعون لهم في معظمات أمورهم أولا رَسُولًا مؤيدا من لدنا مرسلا إليهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمال قدرتنا على وجوه الانعام والانتقام ويدعوهم الى توحيدنا والتدين بالدين الموضوع من عندنا فتلا عليهم آياتنا فدعاهم الى توحيدنا وديننا فلم يقبلوا قوله ولم يستجيبوا له بل قد كذبوه وجميع ما جاء من الرشد والهداية مصرين على ما هم عليه من الغواية فاستحقوا العذاب والهلاك فلذلك أهلكناهم وَبالجملة ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ يعنى ما كنا مبادرين على إهلاك القرى الهالكة بلا سبق اسباب قد صدرت عنهم واستوجبت إهلاكهم بل انما أخذناهم بعد ما ظلموا أنفسهم بالخروج عن مقتضى حدودنا الموضوعة فيهم ظلما وعدوانا وصاروا مصرين مفتخرين بطرين بما آتيناهم من زخرفة الدنيا المستعارة الفانية التي قد الهاهم عن اللذات الاخروية الباقية
وَالحال انه ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ في هذه النشأة فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الدنية التي هي على طرف التمام مشرفة على التقضي والانصرام مبنية على السقوط والانهدام وَزِينَتُها الزائلة الذاهبة بلا قرار ولا دوام وَما عِنْدَ اللَّهِ من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المعدة الموعدة(2/87)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
لأرباب المراتب العلية والمناصب السنية من المنقطعين نحو الحق بعد انخلاعهم عن لوازم هوياتهم الباطلة البشرية العائقة عن التلذذ باللذات الاخروية الروحانية خَيْرٌ محض لا يتخلل بينه شر ونفع صرف ولا يطرؤ عليه ضرر وَأَبْقى وأدوم إذ لا يلحقه انصرام ولا انقضاء ولا زوال ولا فناء أَتستبدلون أنتم ايها الحمقى الأدنى الفاني بالأعلى الباقي بل تختارون اللذة الجسمانية على اللذات الروحانية فَلا تَعْقِلُونَ ولا تستعملون عقولكم الموهوبة لكم بمقتضاها ليتميز عندكم ما هو الأليق بحالكم والاولى بمآلكم
أَتستوون وتعدلون الآجل الباقي بالعاجل الزائل الفاني مع ان الكل من عندنا وتحت قدرتنا فَمَنْ وَعَدْناهُ من لدنا وعهدنا معه وَعْداً حَسَناً اى موعدا ذا حسن وكرامة وبهجة وبهاء فَهُوَ لاقِيهِ ومدركه وموصل اليه البتة إذ لا خلف لوعدنا الموعود من عندنا ولا نقض لعهدنا المعهود من لدنا أصلا أتظنون وتعتقدون ايها الجاهلون ان منزلة هذا السعيد الموفق على السعادة من عندنا كَمَنْ مَتَّعْناهُ كالشقى الذي متعناه في هذه النشأة مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الدنية الامكانية الظلمانية التي هي مكدرة بأنواع الكدورات مشوبة بأصناف الآلام والحسرات منغمسة بالخبائث والقاذورات ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بعد انقراض النشأة الاولى مِنَ الْمُحْضَرِينَ عند الله يوم العرض الأكبر للحساب والجزاء على ما قد تمتعوا به في النشأة الاولى. ثم قال سبحانه
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله واثبت شريكا في الوجود سواء يَوْمَ يُنادِيهِمْ الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء حين ظهر على مظاهره باسم القهار المفنى لأظلال السوى والأغيار مطلقا فَيَقُولُ بمقتضى غيرته وجلاله مخاطبا لمن قد أشرك له شيأ من عكوسه واظلاله مع ان الكل مطموس مقهور تحت حوله وقوته أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ايها الزاعمون المشركون المثبتون لي شركاء وتعبدونهم مثل عبادتي عدوانا وظلما. ثم أظهرهم الحق وأوجدهم جميعا تابعا ومتبوعا عابدا ومعبودا بعد ما قد قهرهم واعدمهم جميعا إظهارا للقدرة الكاملة وإلزاما للحجة البالغة وبعد ما أظهرهم وسألهم
قالَ الَّذِينَ حَقَّ اى ثبت وتوجه عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ والسؤال من الله أولا وهم المعبودون مناجين نحو الحق متضرعين قائلين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة التوحيد كيف تصدر منا أمثال هذه الجرأة بل هؤُلاءِ الغواة الهالكون في تيه الغي والضلال هم الَّذِينَ قد أَغْوَيْنا عن منهج الاستقامة والسداد بأنواع التذلل والانقياد والإطاعة والعبادة إيانا بمقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة مع انا لا نستحق بها بل فعلوا ذلك على توهم منهم انا قادرون على إنجاح ما في نفوسهم وطباعهم من الأماني والشهوات ونحن ايضا قد أَغْوَيْناهُمْ بأنواع التغريرات والتضليل كَما غَوَيْنا 7 هؤلاء إيانا بعباداتهم وطاعاتهم إلينا فتعارض اغواؤنا باغوائهم وحين ظهر الحق قد تساقطا فالآن قد تَبَرَّأْنا عنهم وعن عبادتهم والتجأنا إِلَيْكَ تائبين آئبين مع انهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ حين ادعوا عبادتنا بل انما عبدوا اهوية نفوسهم وأماني قلوبهم وتوسلوا بنا فيها وكذا العابدون الضالون يتبرءون عن معبوداتهم باشد من ذلك متلائمين متعارضين
وَقِيلَ حينئذ من قبل الحق للمشركين على سبيل التهكم والاستهزاء ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الذين كنتم تطمعون وتدعون شفاعتهم إياكم فَدَعَوْهُمْ صائحين متضرعين فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ من كمال عجزهم وحيرتهم في أنفسهم وَبعد ما قد رَأَوُا الْعَذابَ النازل على أربابهم قالوا متمنين على سبيل التلهف والتحسر لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ في النشأة الاولى لينقذوا أنفسهم عن العذاب اليوم فكيف إنقاذهم بنا(2/88)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
وَبعد ما قد سأل سبحانه عن جريمة شركهم وسألهم ايضا عن تكذيب رسلهم اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يُنادِيهِمْ الحق فَيَقُولُ سبحانه معاتبا عليهم ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ حين دعوتكم الى الايمان والتوحيد والعمل الصالح والاجتناب عن المحضورات وترك المنكرات
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ يعنى قد ضلوا وتحيروا عن جميع طرق الكلام وسدت عليهم عموم سبل الاجوبة والتنطق والاخبار مطلقا وما ذلك الا من نهاية دهشتهم وحيرتهم وشدة ولههم وسكرتهم وبالجملة فَهُمْ حينئذ من غاية الهيبة والوحشة والهيمان لا يَتَساءَلُونَ ولا يتقاولون ولا يسأل بعضهم بعضا شيأ مجهولا حتى يعلمه بل كلهم حينئذ حيارى سكارى تائهون هائمون لا يسع لهم ولا يتأتى منهم الالتفات والتلقي أصلا
فَأَمَّا مَنْ تابَ من عموم ما جرى من المعاصي وَآمَنَ بالله بمقتضى ما امره الحق بلسان رسله وأنبيائه وَعَمِلَ عملا صالِحاً امتثالا بما نطق به الكتب والرسل فَعَسى أَنْ يَكُونَ هذا التائب السعيد مِنَ الْمُفْلِحِينَ الفائزين بالتوبة العظمى والدرجة العليا عند الله ومن المبشرين من لدنه سبحانه بشرف اللقاء والوصول الى دار البقاء وسدرة المنتهى
وَرَبُّكَ يا أكمل الرسل يَخْلُقُ ويظهر حسب تجلياته الحبية الجمالية جميع ما يَشاءُ من المظاهر وَيَخْتارُ منها ما يختار فالكل مجبور محكوم تحت قدرته ومشيته ما كانَ وما صح وما جاز وما ثبت لَهُمُ الْخِيَرَةُ والتخير والاختيار مطلقا حتى يريدوا لأنفسهم ما هو الأصلح لهم بل عموم أمورهم وشئونهم وأطوارهم مفوضة الى الله أولا وبالذات مستندة اليه سبحانه اصالة وهم مقهورون مجبورون تحت حكمه وقضائه حسب الارادة والاختيار وكيف لا يكونون مجبورين إذ هم في أنفسهم من عكوس أسمائه وظلال أوصافه ما لهم وجود في أنفسهم وتحقق في ذاتهم سُبْحانَ اللَّهِ المنزه عن المثل والشبه في الوجود وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من الشريك والنظير من الوجود
وَرَبُّكَ يا أكمل الرسل يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما تُكِنُّ وتخفى صُدُورُهُمْ اى ضمائرهم وقلوبهم وَما يُعْلِنُونَ اى يظهرون بجوارحهم وآلاتهم
وَكيف يخفى عليه شيء إذ هُوَ اللَّهُ الواجب لذاته المستقل في وجوده وظهوره المستوي على عروش عموم مظاهره ومصنوعاته بالاستقلال التام والاستيلاء الكامل لا إِلهَ في الوجود سواه ولا موجود غيره يعبد ولا عالم لعموم ما ظهر وما بطن إِلَّا هُوَ لذلك قد ثبت لَهُ الْحَمْدُ والثناء على الإطلاق الصادر من ألسنة ذرائر الأكوان والمظاهر وعموم من رش عليه من رشحات جوده ولمعات وجوده فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ من نشأتى الظهور والخفأ والبروز والكمون والقبض والبسط وَلَهُ الْحُكْمُ والأمر في الصعود والهبوط والنزول والعروج وكذا في عموم الشئون والتطورات وَبالجملة إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود ولا شيء سواه في عين الشهود تُرْجَعُونَ وتحشرون كما انه منه تبدؤن وتنشئون. ثم أشار سبحانه الى معظم ما أنعم على عباده من تجدد الملوين وتعاقب الجديدين امتنانا لهم وحثا على مواظبة شكره ومداومة ذكره والتذكر بانعامه وإحسانه وتعريضا للمشركين على كفرهم وكفرانهم فقال آمرا لحبيبه صلّى الله عليه وسلم
قُلْ يا أكمل الرسل للناس الناسين توالى نعمنا المتوالية المترادفة عليهم مستفهما إياهم مستخبرا عنهم على سبيل التنبيه والتذكير أَرَأَيْتُمْ اى أخبروني ايها المغموزون بموائد نعمى إِنْ جَعَلَ اللَّهُ المحول للأحوال المدبر لعموم التدابير والأطوار عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ المظلم والعدم الصرف سَرْمَداً ممتدا مستمرا بلا تخلل ضوء الوجود بينه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ(2/89)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
مَنْ إِلهٌ
قادر على إيجاد الضوء في خلال الظلمة واظهار الوجود على العدم غَيْرُ اللَّهِ على زعمكم الفاسد يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ تفوزون أنتم الى امور معاشكم بسببه أَفَلا تَسْمَعُونَ أمثال هذه التذكيرات ولا تفهمون معناها ولا تنكشفون عن الحكم والمصالح المدرجة فيها ايها المجبولون على الفهم والاستكشاف. ثم قال سبحانه
قُلْ لهم يا أكمل الرسل أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ المصلح لعموم أحوالكم وحالاتكم عَلَيْكُمُ النَّهارَ المضيء وشمس الوجود على صرافتها وإشراقها سَرْمَداً مستمرا دائما بلا طريان الضد عليها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبية يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ وتستريحون من تعبكم اللاحق من اشغالكم ومن لذات تجدداتكم وتطوراتكم أَفَلا تُبْصِرُونَ آلاء الله الفائضة عليكم على التعاقب والتوالي لإصلاح أحوالكم ليلا ونهارا حتى تواظبوا على شكرها وتداوموا لأداء حقها سرا وجهارا
وَمِنْ كمال رَحْمَتِهِ ووفور مرحمته قد جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ متجددين متعاقبين لِتَسْكُنُوا فِيهِ اى في الليل وتستريحوا عما عرض عليكم في النهار من المتاعب والمشاق وَلِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ وسعة جوده في النهار وَبالجملة انما أفاض عليكم سبحانه كل ذلك لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه سبحانه كي تفوزوا الى ما أعدلكم من موائد كرمه ولا تشركوا معه شيأ من مظاهره ومصنوعاته ولا تنظروا نحو الوسائل والأسباب العادية ولا تنسبوا الأفعال الحادثة في الآفاق على غيره سبحانه بل نزهوه عن مطلق المشاركة والمماثلة وقدسوه عن جميع ما لا يليق بشأنه
وَاذكر للمشركين ايضا يا أكمل الرسل يَوْمَ يُنادِيهِمْ الحق فَيَقُولُ مغاضبا عليهم مستفهما على سبيل التوبيخ والتقريع أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ايها الحمقى شركاء معى احضروهم حتى يظهر الحق ويقمع الباطل الزاهق الزائل
وَبعد ما سكتوا وبهتوا من الجواب قد نَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد عليهم جميع ما صدر عنهم وجرى عليهم في دار الاختبار. والشهيد الشاهد العادل العدل السوى هو النبي المبعوث إليهم حين انحرافهم عن طريق السلامة وسبل الاستقامة فَقُلْنا للأمم بعد ما نزعنا شهداءهم منهم هاتُوا ايها الضالون المسرفون المفرطون بُرْهانَكُمْ مستندكم ودليلكم الذي أنتم تضلون لأجله وتشركون بسببه وتنحرفون عن جادة العدالة بواسطته وتنصرفون عن سبل السلامة بمتابعته فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ واللياقة المطلقة والاستحقاق التام على العبادة ثابتة لِلَّهِ الحقيق بالحقية الجدير بالالوهية اللائق بالربوبية ليس كمثله شيء يعبد له ويرجع اليه وَبعد ما جاء الحق وزهق الباطل قد ضَلَّ غاب وخفى حينئذ عَنْهُمْ عموم ما كانُوا يَفْتَرُونَ المعبودية اليه وينسبون الألوهية والربوبية نحوه جهلا وعنادا ويدعون اشتراكه مع الله في استحقاق العبادة والرجوع اليه لدى الحاجة. ثم قال سبحانه تذكيرا للمؤمنين وعبرة لهم عن تفظيع حال من تكبر على الله وعلى كليمه وخرج عن ربقة الايمان وقلادة الإخلاص وعروة العبودية بسبب ما قد بسط الله عليه من حطام الدنيا ومزخرفاتها ابتلاء وفتنة
إِنَّ قارُونَ المتجبر المتكبر الذي قد ظهر على الله وعلى رسوله مفتخرا بماله وجاهه كانَ أولا مِنْ قَوْمِ مُوسى ومن جملة من آمن له وصدقه قيل هو ابن عمته وقيل ابن خالته وكان أميرا بين بنى إسرائيل قد امره عليهم فرعون وبعد ما قد ظهر موسى وهارون آمن له وحفظ التوراة واحسن حفظه بحيث يقرأه عن ظهر القلب ثم لما استولى موسى واخوه على مملكة العمالقة وانقرض الفراعنة رأسا؟؟؟(2/90)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
حسد لهما قارون وأنكر جاههما اتكاء بما عنده من الدفائن والكنوز فقال يوما لموسى لك الرسالة والنبوة ولأخيك الحبورة وانا في غير شيء الى متى اصبر فَبَغى عَلَيْهِمْ وقصد مغالبتهم وَما ذلك الا ان قد آتَيْناهُ وأعطينا له مكرا عليه وافتنانا له مِنَ الْكُنُوزِ اى الأموال والامتعة التي قد عهد ادخارها من الذهب والفضة وغيرهما وقد بلغت أمواله وخزائنه من الكثرة الى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ اى الى حد ومرتبة قد كان مفاتح أقفال أبواب مخازنه وأقفال الصناديق الموضوعة فيها المختومة المقفولة لَتَنُوأُ وتثقل من الكثرة بِالْعُصْبَةِ بالجماعة الكثيرة من الحفظة أُولِي الْقُوَّةِ والقدرة أقوياء على حمل الأثقال جدا وقد كان مفتخرا بها بطرا فرحانا يمشى على وجه الأرض خيلاء اذكر وقت إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ اى بعض من أقربائه وقرنائه بعد ما قد أبصروا بطره المفرط ردعا له وتشنيعا عليه وحثا له على الانفاق والصرف في سبيل الخيرات وبناء المبرات لا تَفْرَحْ بما عندك من الزخارف الفانية يا قارون فإنها عن قريب سيفوت وأخرج حبها من قلبك إِنَّ اللَّهَ المطلع الغيور لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ من عباده سيما بحطام الدنيا ومزخرفاتها الملهية عن اللذات الروحانية
وَابْتَغِ واطلب وترقب واكسب فِيما آتاكَ اللَّهُ المنعم المفضل من الرزق الصوري الزائل الغير القار الدَّارَ الْآخِرَةَ وما فيها من الرزق المعنوي القار المستمر في دار القرار وذلك لا يحصل لك الا بإنفاق ما في يدك من الرزق الصوري في سبيل الله لفقراء الله طلبا لمرضاته بلا شوب المن والأذى وبصرفها الى سد الثغور وبناء المساجد والقناطير والخانات وغير ذلك من بقاع الخيرات والمبرات من الأمور المتعلقة بمصالح عموم العباد من التسهيل عليهم ورفع العسرة عنهم وَان أردت ان تكون من اهل الثروة والجاه المخلد في النشأتين لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ألا وهو اجتهادك ان تتمكن في مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية بمقتضى كريمة وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه الآية إذ العبد وما في يده انما هو لمولاه واعلم يقينا ان التصرفات الحادثة في عالم الكون والفساد انما هي مستندة الى الله أولا وبالذات وَبعد ما قد علمت ان حظك ونصيبك ما هو من الدنيا وما معك وليس قرينك منها في أخراك الا الإحسان والانفاق أَحْسِنْ مما قد جعلك الحق خليفة عليه ونائبا كَما أَحْسَنَ اللَّهُ المنعم المحسن إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ ولا تطلب بحال من الأحوال الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ اتكالا على ما في يدك من أسبابه التي هي الأموال المؤدية الى اصناف الفسادات وارتكاب انواع المحظورات والمنكرات إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم احوال عباده لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ منهم سيما بمظاهرة حطام الدنيا الدنية وبعد ما قد سمع قارون منهم المواعظ والتذكيرات المتعلقة بإصلاح حاله النافعة له في النشأة الاولى والاخرى اعرض عنهم وانصرف عن مقالتهم عتوا واستكبارا حيث
قالَ متعظما بشأنه مستبدا برأيه إِنَّما أُوتِيتُهُ يعنى ما أوتيت عموم ما أوتيت من الرزق الصوري الا عَلى عِلْمٍ حاصل عِنْدِي يعنى منشأ اجتماع الأموال على وحصولها عندي اتصافى بعلم كامل كافل موجب لحصولها وتحصيلها وبالجملة ما هي وجمعها الا بحولي وقوتي وعلمي بطرق تحصيلها وانما قال ما قال بطرا واستغناء وكبرا وخيلاء قيل انه عالم بعلم الكيمياء قال سبحانه ردا عليه على سبيل التعيير والتقريع أَيتفوه ويقول هذا الطاغي الباغي الهالك في تيه الغي والضلال أمثال هذه الخرافات وَلَمْ يَعْلَمْ بالتواتر وبمطالعة كتب التواريخ ومن القصص المثبتة في التوراة أَنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء قَدْ أَهْلَكَ واستأصل كثيرا مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اهل الْقُرُونِ الماضية مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً(2/91)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
بحسب الأولاد والاتباع وَأَكْثَرُ جَمْعاً لحطام الدنيا اما يستحى هذا الطاغي المسرف حتى ظهر على الله ولم يخف من بطشه وانتقامه بغتة وَمن سرعة نفوذ قضاء الله وقت ارادة إنفاذه عند الغضب على أعدائه لا يُسْئَلُ حينئذ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ إذ اطلاعه سبحانه على حالهم وضلالهم يكفى في انتقامهم فلا يحتاج الى سؤالهم وبعد ما ذكروا عنده من الزواجر والعبر فلم ينزجر ولم يعتبر بل ما زاد الا بطرا وخيلاء
فَخَرَجَ يوما من الأيام من بيته بطرا مباهيا عَلى قَوْمِهِ مستكبرا عليهم مغرورا مستغرقا فِي زِينَتِهِ الكاملة إذ هو على بغلة شهباء وهي الأبلق الذي كثر بياضه على سواده وعليه ثياب فاخرة حمر كلها تسر الناظر إليها من صفاء لونها وبهائها وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه اربعة آلاف على زيه وقيل تسعون الفا كلهم على زيه وعلى خيولهم ومراكبهم ايضا اكسية حمراء وخرج الناس معه صافين حوله ناظرين نحوه متعجبين من حاله متمنين من الله رتبته وزينته حيث قالَ المفسدون المسرفون الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وزينتها وهمهم مقصورة إليها وغاية متمناهم حصول مثلها لهم متمنين متحسرين يا لَيْتَ لَنا من حظوظ الدنيا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ونصيب كامل من الدنيا وهو في دهره وحيد عصره فريد زمانه وشأنه
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني والمعرفة الكاملة المتعلقة منهم بالله وبالنشأة الاخرى ردا عليهم وازالة لتحسرهم وردعا لهم عن متمناهم على ابلغ وجه وآكده وَيْلَكُمْ اى يلزمكم ويلكم ويحل عليكم هلاككم ايها القاصرون عن معرفة الحق وما يترتب عليها من المكاشفات والمشاهدات التي هي مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الحاصلة لأرباب المحبة والولاء الوالهين في بيداء الألوهية طالبين الفناء فيها ليصلوا الى شرف البقاء واللقاء بل ثَوابُ اللَّهِ المحسن المفضل ورضاه من عبيده الحاصل لأرباب المعاملات من الأبرار والأخيار المحسنين الأدب مع الله في عموم أحوالهم خَيْرٌ من الدنيا وما فيها بل من اضعافها وآلافها لِمَنْ آمَنَ له احتسابا على نفسه وَعَمِلَ عملا صالِحاً يعنى قرن إيمانه بالعمل الصالح إحسانا منه بالنسبة اليه سبحانه وطلبا لمرضاته وَبالجملة لا يُلَقَّاها ولا يصل الى تلك المثوبة العظمى والدرجة العليا التي قد أعدها الله لعباده إِلَّا الصَّابِرُونَ على عموم ما جرى عليهم من البليات وعلى مشاق الطاعات ومتاعب العبادات والرضوان بما اعطاهم الحق ورزقهم من الحظوظ بلا تمن منهم ولا تحسر على مرتبة احد من اصحاب الجاه والثروة بل هم بما عندهم راضون وبما اعطاهم الحق بمقتضى قسمته الازلية متمكنون مطمئنون ألا انهم هم المؤمنون حقا وأولئك هم الفائزون المفلحون. ربنا اجعلنا من زمرتهم بمنك العظيم وجودك الكريم وبعد ما قد أمهلنا قارون زمانا ورفهناه نشطا فرحانا قد أخذناه غضبانا
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ صاغرا مهانا يعنى قد طبقنا الأرض عليه وعلى أمواله وخزائنه بعد ما أخذتها وابتلعتها الأرض امتثالا بأمر نبينا موسى الكليم صلوات الله عليه وسلامه وذلك انه قد كان يؤذى موسى عليه السلام دائما حسدا عليه وكان موسى يداريه صيانة لقرابته ثم لما نزلت الزكاة صالح معه من كل ألف بواحد من اى جنس كان فحاسبه فبلغ مبلغا عظيما فاستكثره فمنعه فعمد الى ان يفضح موسى بين بنى إسرائيل بغيا عليه وعدوانا فبرطل بغيّة واعطى لها رشوة لترمى موسى بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيبا فقال في خطبته من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه فقال قارون لو أنت يا موسى قال ولو كنت انا قال ان بنى إسرائيل يزعمون انك قد فجرت مع فلانة قال موسى(2/92)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
فاحضروها فاحضروها فناشدها موسى بالله الذي قد فلق البحر وانزل التوراة ان تصدقي أيتها المرأة فقالت بإلقاء الله في قلبها كرامة لموسى وتنزيها له عما لا يليق بشأنه وتفضيحا لقارون يا نبي الله ان قارون جعل لي جعلا كذا على ان أرميك بنفسي فخر موسى ساجدا وقال في سجدته الهى ان كنت نبيك ورسولك فانصرني واخذل عدوى فأوحى الله عليه في سجدته ان مر الأرض ان شئت فتجيبك يا موسى فرفع رأسه من سجدته مرتعدا غيورا غضبانا فقال يا ارض خذيه فابتلعته على الفور الى ركبته فأخذ يتضرع يا موسى ارحمني فانا حميمك وقرابتك ثم قال موسى مغاضبا على الأرض خذيه فأخذته الى وسطه فزاد في تضرعه وتفزعه ثم قال خذيه فأخذته الى عنقه فتضرع وصرخ نحو موسى من أول اخذه الى خسفه سبعين مرة لم يرحم عليه ثم قال خذيه فخسفت به وطبقت عليه فلم يرحمه موسى حتى عاتبه سبحانه بقوله ما افظك وما أبغضك يا موسى حتى استرحم منك فلم ترحمه ولم ترعه فو عزتي وجلالي لو دعاني مرة لأجبته وبعد ما خسف قارون قال بنو إسرائيل انما قتله ليرث أمواله فاشعر به فأمر الأرض بخسف داره وأمواله وخزينته بحيث لم يبق من منسوباته شيء على وجه الأرض فَما كانَ لَهُ حينئذ مِنْ فِئَةٍ وأعوان وأنصار يَنْصُرُونَهُ ويدفعون عذاب الله عنه مِنْ دُونِ اللَّهِ القادر المقتدر على دفع أمثاله والحال انه هو برىء من الله لذلك لم يلتجئ اليه ولم يتضرع نحوه حين أخذت الأرض إياه وَلذلك ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ الممتنعين من العذاب لا بنفسه ولا بمعاونيه وانصاره
وَبعد ما قد خسف قارون بشؤم أمواله التي قد جعلها وسيلة الى انواع الفسادات من جملتها رمى كليم الله وأخلص رسله بالزنا التي هي بعيدة بمراحل عن طهارة زيله ونجابة طينته إذ معاشر الأنبياء كلهم معصومون عن الكبائر مطلقا قد أَصْبَحَ وصار الفقراء الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ ومنزلته بِالْأَمْسِ اى في الزمان الذي هو اقرب زمان بخسفه متحسدين بما عنده من التوراة والجاه أخذوا يَقُولُونَ متمنين على عكس ما قد تمنوا في الزمان السابق متعجبين من كمال علم الله ومتانة حكمته قائلين كل منهم لصاحبه وَيْكَأَنَّ المعنى على الانفصال بين ويك وان والاتصال بينهما انما هو بمتابعة المصحف يعنى ويل لك وهلاكك لازم عليك بمتمناك الذي قد تمنيته بالأمس واعلم ان اللَّهَ الحكيم المتقن في عموم أفعاله يَبْسُطُ الرِّزْقَ بمقتضى حكمته لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بمقتضى استعداداتهم وَيَقْدِرُ ويقبض عمن يشاء ايضا على وفق قابليته وما لنا اطلاع على احاطة علمه ومتانة حكمته لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ المصلح لمفاسدنا عَلَيْنا بمنعنا عن متمنانا لَخَسَفَ بِنا ايضا من شؤم مبتغانا ومتمنانا مثل ما قد خسف بذلك الطاعى المغرور وانما من سبحانه علينا بما من سبحانه لايماننا به سبحانه واخلاصنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ولا يصلح أحوالهم وأعمالهم وهم لا يفوزون بالنجاة من عذابه سبحانه بل يوقعهم سبحانه على ما يوقعهم في عذابه افتنانا فيه إياهم وانتقاما لهم. ثم قال سبحانه تبشيرا للمؤمنين المتواضعين وتنشيطا للمتقين الموقنين
تِلْكَ الجنة التي قد سمعتم ايها المؤمنون الموقنون وصفها وبلغكم نعتها وخبرها في كتب الله والسنة رسله وأنبيائه وأوليائه المنكشفين بها الفائزين بمقاماتها بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر التي هي مقر ارباب المحبة والولاء الباذلين مهجم في سبيل الفناء ليصلوا الى دار البقاء هي هذه الدَّارُ الْآخِرَةُ المعهودة الموصوفة بهذه الصفات المعروفة المشهورة بها إذ لا مقر لأهل الحق سواها لذلك سمينا بها نَجْعَلُها بمقتضى فضلنا وجودنا مقرا لِلَّذِينَ اى للمؤمنين الموحدين الذين لا يُرِيدُونَ من كمال حلمهم وعلمهم(2/93)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ جاها وثروة تفوقا وتكبرا على من عليها من عباد الله ولا يمشون عليها خيلاء غافلين عن تزود الآخرة وَلا يقصدون فيها فَساداً مؤديا الى هتك محارم الله والخروج عن مقتضى حدوده وَبالجملة الْعاقِبَةُ الحميدة التي قد عبر عنها بلفظ الجنة ودار الآخرة ودار السلام ودار الخلود وغير ذلك من الألفاظ والعبارات المتداولة في ألسنة الكتب والرسل انما هي معدة مهيأة لِلْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن ارتكاب المنهيات والمحظورات مطلقا ويجتنبون عن عموم ما يؤدى الى إسقاط المروات رأسا ويتصفون بجميع ما جاء به الرسل ونطق به الكتب من الأمور المشعرات للهداية والصلاح والفوز بالفلاح والنجاة جملة فأولئك السعداء المقبولون هم الواصلون الى درجة القرب والشهود الوالهون بشرف مطالعة لقاء الخلاق الودود ثم أشار سبحانه اشارة جملية محتوية على اصول عموم المواعظ والتذكيرات المتعلقة بجميع عباده فقال
مَنْ جاءَ في النشأة الاولى بِالْحَسَنَةِ والخصلة المقبولة عند الله المستحسنة عند عموم عباده ابتغاء لمرضاته سبحانه وأداء لحقوق عباده فَلَهُ عند الله في النشأة الاخرى جزاء عليها حسنة مستحسنة هي خَيْرٌ مِنْها بل بأضعافها وآلافها تفضلا وإحسانا وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ والخصلة الذمية ايضا فيها المستقبحة عقلا وشرعا المستهجنة عند الله وعند عموم عباده عرفا وعادة فَلا يُجْزَى من قبل الحق في يوم الجزاء المسيئون الَّذِينَ قد عَمِلُوا السَّيِّئاتِ التي لا يرضى بها الله ولا خلص عباده إِلَّا مثل ما كانُوا يَعْمَلُونَ عدلا منه سبحانه. ثم لما اغتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين هاجر من مكة بسبب مكر المشركين ووصل الى جحفة واشتد اشتياقه الى مولده وموطن آبائه فتحزن حزنا شديدا بحيث أراد ان يعود منها إليها فنزلت تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وازالة لحزنه
إِنَّ الله القادر المقتدر الَّذِي قد فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ وقدر لك انزاله وأقدرك على الامتثال بعموم ما فيه من الأوامر والنواهي وكشف عليك جميع ما فيه من الحقائق والمعارف والرموز والإشارات المتعلقة بصفاء مشرب التوحيد وذكر لك فيه من القصص والعبر والأمثال إرشادا لك الى مقامك الذي قد وعد لك الحق تفضلا وامتنانا وسماه من عنده مقاما محمودا لَرادُّكَ ومعاودك البتة إِلى مَعادٍ معهود فهو مولدك ومحتدك الأصلي وكذا موطن آبائك واسلافك على احسن وجه وأكمله وبعد ما عدت ورجعت إليهم بعد هجرتك من بينهم ان اضلوك وخيلوك على ما هو عادتهم وأساؤا الأدب معك ونسبوك الى ما لا يليق بشأنك قُلْ لهم على سبيل المجاراة رَبِّي الذي قد وسع كل شيء علما أَعْلَمُ منى بعلمه الحضوري مَنْ جاءَ بِالْهُدى منا انا او أنتم وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ منا ومنكم
وَعليك يا أكمل الرسل ان تفوض بعموم أمورك إلينا اتكالا علينا واعتصاما بحولنا وقوتنا ولا تلتفت الى المشركين وايمانهم ولا تداريهم ايضا خوفا او مداهنة ولا تك في رعب منهم انا قد كفيناك ونكف عنك مؤنة شرورهم إذ ما كُنْتَ أنت في حال من احوالك تَرْجُوا وتأمل أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ الجامع لفوائد جميع الكتب المنزلة من عندنا لكن ما انزل إليك هذا إِلَّا رَحْمَةً ناشئة نازلة مِنْ رَبِّكَ تفضلا عليك وتلطفا معك بلا تطلب منك وترقب من قبلك فكذلك يكفيك ربك عموم مهامك على الوجه الأصلح الأحسن فاتكل عليه واتخذه وكيلا وفوض أمورك كلها اليه واجعله حسيبا وكفيلا ومتى سمعت نبذا من شأنك الذي أنت عليه في ابتداء حالك فَلا تَكُونَنَّ أنت بعد اليوم ظَهِيراً معاونا ومعينا لِلْكافِرِينَ ولا مستظهرا ولا(2/94)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
مستعينا منهم بل لك ان تبلغ وتمضى على الوجه الذي أمرت بلا مبالاة لهم ومداراة معهم
وَلا يَصُدُّنَّكَ ولا تصرفنك مواساتهم ومداراتهم على المسامحة معهم عَنْ تبليغ آياتِ اللَّهِ المشتملة على انواع الإنذارات والوعيدات الهائلة إليهم سيما بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وأمرت أنت بتبليغها وَادْعُ إِلى توحيد رَبِّكَ بعد ما بعثك الى كافة البرايا وعامة الأمم بشيرا ونذيرا لكل من جبله الحق على صورة الإنسان وفطرة العرفان وكلفه بالمعرفة والايمان وَلا تَكُونَنَّ أنت بحال من الأحوال لا بالمداهنة ولا بالمسامحة معهم مِنَ الْمُشْرِكِينَ المشاركين إياهم في شركهم وكفرهم لا صورة ولا معنى ولا حقيقة ولا مجازا
وَبعد ما قد ظهرت أنت يا أكمل الرسل على فطرة التوحيد الذاتي وأكملت بتوفيق منا مراسم الدين المستبين وأقمت مكارم الأخلاق واليقين لا تَدْعُ في حال من الأحوال وفي شأن من الشئون مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له كفوا احد إِلهاً آخَرَ شريكا له لا في الوجود ولا في الألوهية والربوبية ولا مطلق التصرفات الواقعة في مملكته ومظاهره إذ لا إِلهَ في الوجود ولا موجود في الشهود إِلَّا هُوَ هذا هو نهاية ما قد نطق العارف عند التحقق به سبحانه وبعد ذلك يقلق ويدهش ويهيم ويفنى ويتلاشى إذ كُلُّ شَيْءٍ من جماد وحى يتراءى لك ويلوح في عالم العيان وعرصة الأكوان من اظلال أسمائه الحسنى وعكوس أوصافه الأسنى هالِكٌ في حد ذاته باق على عدمه الأصلي مستمر على استحالته الذاتية وامتناعه الحقيقي إِلَّا وَجْهَهُ الذي قد اقتبس به النور من تجليات الحق وشئونه حسب تطورات أسمائه وصفاته واستمد به العكس من شوارق بوارق لمعاته المتشعشعة وتجلياته المتجددة وكذا من رقائق لوائح لوامع بروق تطوراته التي بها تخطف ابصار ارباب الكشف والشهود من المنجذبين نحو الحق المتأملين في شأنه الوالهين بمطالعة جماله وجلاله وبالجملة بعد ما قد ثبت وتحقق هلاك الكل واستحالتها في حد ذاتها وظهورها وانعكاسها ابتداء انما هو من اظلال أوصافه وأسمائه الذاتية قد ثبت لَهُ الْحُكْمُ المطلق والتصرف التام المستقل والأمر الكامل المقارن بالإرادة والاختيار وبكمال الاقتدار والاستقلال في عموم ما كان وما يكون ازلا وابدا وَإِلَيْهِ انتهاء لا الى غيره إذ لا غير في الوجود معه تُرْجَعُونَ رجوع الأمواج الى الماء والاظلال الى الأضواء فسبحان من ظهر من الكل فأهلكها وبطن في الكل فاوجدها وسبق على الكل فابدأها ولحق بالكل فافناها وبقي مع الكل فابقاها وهو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ألا الى الله تصير الأمور ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
خاتمة سورة القصص
عليك ايها السالك المتوجه نحو الحق بوجه الحق الذي قد ظهر فيك وتقتبس أنت بوجهه من اشعة أنوار تجلياته الذاتية المتشعشعة حسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا ان تتأمل في كيفية نشآت الكثرات الغير المحصورة ونشرها من الواحد الأحد الفرد الصمد من كل الوجوه وتتعمق أنت بمقتضى العقل المفاض لك من حضرة علمه سبحانه على سبيل التوديع لتتدبر وتدرك به معرفة مبدئك ومعادك حسب استعدادك الفطري وقابليتك الجبلية التي بها امتيازك عن سائر المظاهر والمصنوعات وبها تستحق الخلافة والنيابة عن الله وبواسطة تلك الوديعة البديعة المودعة فيك قد كلفك الحق الى ما كلفك(2/95)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
وأعدلك من المراتب العلية والمقامات السنية عنده سبحانه ما أعدلك حسب صعودك وترقيك في معارفك وحقائقك بمقتضى التكاليف التي توصلك إليها ان أخلصت فيها فلك ان تتحمل على مشاق التكليفات ومتاعب الرياضات ما دمت أنت مقيدا في محال التكاليف ومنازل العروج الى ان جذبك الحق منك نحوه وافناك عن بشريتك وحصة ناسوتك التي بها بعدك عن الحق وابقاك ببقائه حسب حصة لاهوتك ومكنك بموعدك المعهود وبمقامك المحمود الموعود الذي هو مرتبة الكشف والشهود وحينئذ قد اتحد دونك قوسا الوجوب والإمكان وارتفعت الزبد والأمواج الحادثة من فضلات التعينات عن بحر العيان وقد فزت بما فزت من موائد اللطف والإحسان فظهر لك ولاح عندك حينئذ معنى قوله لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون
[سورة العنكبوت]
فاتحة سورة العنكبوت
لا يخفى على من تدرج في درجات الكمال وترقى من حضيض الجهل ومضيق الوهم والخيال الى سعة ذروة المعرفة والتوحيد وفضاء الوصال وتمكن بمقر الوحدة بلا تلوين وانتقال وانكشف له ما في استعداده من ودائع البدائع الإلهية المقتضية للظهور الباعثة للبروز من موطن الكمون والخفاء الى فضاء الجلاء والانجلاء ان الاختبارات والابتلاءات الإلهية الواقعة بين مظاهره ومصنوعاته انما هي لحصول الاعتدال الحقيقي والقسط المعنوي المنبئ عن مرتبة الخلافة والنيابة عن الله المستلزم للتخلق بأخلاقه العظيمة والتثبت على الصراط المستقيم لذلك قد جرت سنته السنية وعادته العلية على نقد اعمال جميع المكلفين بالإيمان والعرفان بالعرض على محك الإخلاص ليتميز المغشوش المكدر بأنواع الكدورات من الرياء والسمعة والعجب وانواع الاهوية الفاسدة والرعونات الكاسدة الناشئة من النفوس الخبيثة عن الصافي الخالص الخالي عن شوب اللوث بالأمور الطبيعية الطاهر المطهر عن الأدناس البشرية الحاصلة من تسويلات النفوس الامارة بالسوء وتلبيسات الشياطين المنبعثة عن القوى البهيمية المورثة لانواع الجهالات والضلالات لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطبه وبين في خطابه على ابلغ وجه وآكده ما عاتب به عباده من ترك الإخلاص والاغترار على مجرد الأقوال بلا مطابقة الاعتقاد متيمنا باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي كلف عباده بما كلف ليتأدبوا بآداب عبوديته حتى يستعدوا لفيضان آثار ربوبيته الرَّحْمنِ عليهم بافاضة ما يصلحهم عما هم عليه من المفاسد البشرية الرَّحِيمِ لهم يوصلهم بعد ما امتثلوا بما أمروا الى أقصى ما أعدلهم من الدرجات العلية والمقامات السنية
[الآيات]
الم ايها الإنسان الكامل الأكمل الأعلم اللائق لفيضان لوامع أنوار الوجود ولوائح آثار الفضل والجود المؤيد الملازم لاستكشاف مكنونات ما في مظاهر المكونات من معظمات آثار الألوهية ومكرمات أنوار الربوبية اللامعة اللائحة على نواصي عموم ما ظهر وبطن غيبا وشهادة على التعاقب والتوالي بلا انقطاع ولا انصرام ازلا وابدا وبلا ذهول وغفلة وفتور وفترة بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط ذرة من ذرائر ما ظهر ولاح دون اشراق شمس وجهه الكريم
أَحَسِبَ زعم وظن وتخيل النَّاسُ المنهمكون في الغفلة والنسيان أَنْ يُتْرَكُوا ويهملوا على ما هم عليه من عدم مطابقة قلوبهم بأفواههم وأعمالهم بنياتهم وأفعالهم بحالاتهم بمجرد أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا بلا موافقة من قلوبهم مع ان الايمان في الأصل ما هو الا الإذعان والقبول والإخلاص بالقلب والانقياد والتسليم بالجوارح والآلات من لوازمه ومتمماته وَهُمْ بمجرد ما يلقلق به(2/96)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
لسانهم ويظهره بيانهم قد ظنوا انهم لا يُفْتَنُونَ ولا يمتحنون ولا يجربون بل والله لنبلونهم ولنختبرنهم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى ظهر إخلاصهم ولاح اعتقادهم في جميع ما آمنوا فيترتب خلاصهم حينئذ على إخلاصهم
وَليس افتتاننا واختبارنا إياهم ببدع منا بل لَقَدْ فَتَنَّا وامتحنا القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السالفة مع انهم قد يدعون الايمان ويتفوهون به أمثالهم ومع ذلك لم نتركهم عبثا سدى بلا ابتلاء منا إياهم واختبار لهم وليس اختبارهم وامتحانهم الا لإظهار محبتنا البالغة عليهم والا فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ المطلع على ضمائر عباده وسرائرهم وليميزن حسب علمه الحضوري المؤمنين الموقنين الَّذِينَ صَدَقُوا منهم وأخلصوا في ايمانهم وَايضا لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ منهم وهم الذين لا يخلصون مع الله في حال من الأحوال وعمل من الأعمال ولا يسمعون أوامر الله ونواهيه من السنة رسله سمع قبول ورضا وانما أرادوا بايمانهم الظاهر الذي قد أتوا به على سبيل الكراهة والمراء إسقاط لوازم الكفر من حقن الدماء وسبى الذراري ونهب الأموال والافهم ليسوا ممن يذعنون بدلائل التوحيد وبراهين الايمان عن صميم قلوبهم ظنا منهم انا غافلون عن بواطنهم ونياتهم
أَمْ حَسِبَ بل ظن المسرفون المفرطون الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ مصرين عليها مبالغين في إتيانها أَنْ يَسْبِقُونا ويفوتوا عنا جزاء ما عملوا ويسقطوا عن حسابنا ما أتوا به من المعاصي والآثام عنهم بالفعل وبالجملة قد ساءَ ما يَحْكُمُونَ علينا وينسبون إلينا حكمهم هذا ونسبتهم هذه أعاذنا الله وعموم عباده عن أمثال هذه الظنون الفاسدة بالنسبة اليه سبحانه وما كل ذلك الا عن جهلهم بالله وبمقتضى علو شأنه وعزة سلطانه وانكارهم بلقائه والوقوف عند يديه والا
مَنْ كانَ يَرْجُوا ويأمل لِقاءَ اللَّهِ المتجلى على الأكوان حسب أسمائه العلية وصفاته السنية ويترصد مترقبا ان ينكشف له ما هو الموعود من لدنه سبحانه من الدرجات العلية والمقامات السنية حال كونه متأدبا بالآداب المنزلة من عنده بوساطة أنبيائه ورسله متحملا على متاعب التكاليف ومشاق الطاعات المفروضة المشروعة له مترقبا للانكشاف والشهود راجيا لقياه سبحانه بلا يأس وقنوط فاز بمبتغاه على الوجه الذي وعد بعد ما وفقه الحق وجذبه الى نفسه فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ الذي قد وعده لعباده الخلص من ان يشرفهم بشرف لقائه لَآتٍ جاء حالّ نازل بلا شك وارتياب وَكيف لا يشرفهم سبحانه بمطالعة وجهه الكريم سيما بعد ما وعدهم إذ هُوَ السَّمِيعُ بمناجاتهم الْعَلِيمُ بحاجاتهم التي هي الفوز بشرف اللقاء والوقوف عند سدرة المنتهى والتدلي الى مقام دنى فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى
وَمَنْ جاهَدَ واجتهد في الوصول الى ما ذكر من المقام المحمود وسعى في حصول الموعود المعهود الذي هو مرتبة الكشف والشهود فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إذ نفع جهاده وجهده انما يعود اليه وهو واصل الى منتهى مطلوبه بعد ما كان مستكملا طالبا إِنَّ اللَّهَ المنزه عن مطلق الطلب والاستكمال المبرأ عن عموم الترقب والانتظار لَغَنِيٌّ في ذاته عَنِ الْعالَمِينَ وعن مطلق طاعاتهم وعباداتهم ورجوعهم اليه وتوجههم نحوه. ثم قال سبحانه حثا لعموم عباده على التوجه نحو بابه ليفوزوا بما وعدوا وينالوا بما قد أعد لهم من الحسنات والدرجات
وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله وأخلصوا في ايمانهم وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المشعرة المؤيدة لإخلاصهم بلا شوب الهوى والرياء وعموم الرعونات أصلا لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ ولنمحون عن صحف أعمالهم عموم سَيِّئاتِهِمْ التي قد جاءوا وقت جهلهم وضلالهم وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ولنعاملن معهم(2/97)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى احسن واولى وأوفر من الجزاء الذي يستحقون بأعمالهم بعد ايمانهم وأزيد منه بل بأضعافه وآلافه تفضلا منا إياهم وإحسانا عليهم وبعد ما قد حثهم سبحانه على الايمان والعمل الصالح اوصى لهم وأمرهم ببر الوالدين وبحسن المعاشرة معهما والتحنن نحوهما إذ هما من اقرب اسباب ظهورهم في نشأة الشهادة والبروز بمقتضى سنة الله سبحانه فقال
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بعد ما كلفناهم بالإيمان والعمل الصالح من ان يأتى كل منهم ويعمل بِوالِدَيْهِ حُسْناً اى معاملة ذات حسن يستحسنها العقل والشرع ويرتضيها الحق وتقتضيها الفتوة بحيث لا يحوم حولها شائبة من ولا أذى ولا استخفاف ولا استحقار بل يتذللون لهما ويتواضعون معهما على وجه الانكسار التام والتذلل المفرط وعليكم ايها المكلفون امتثال عموم أوامرهما ونواهيهما سوى الشرك بالله والطغيان على الله والعدوان معه سبحانه ومع أنبيائه ورسله وخلص عباده وَإِنْ جاهَداكَ ايها المؤمن المأمور على بر الوالدين ابواك وبالغا في حقك مقدمين أشد اقدام والحا عليك ابلغ إلحاح وأتم إبرام لِتُشْرِكَ بِي شيأ من مظاهري ومصنوعاتى سيما ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يعنى ليس علمك ويقينك متعلقا بألوهيته وربوبيته واستحقاقه للعبادة ولياقته للرجوع اليه في الخطوب والمهمات فَلا تُطِعْهُما ولا تقبل منهما أمرهما المتعلق بالإضلال والإشراك ولا تمتثل بقولهما هذا بل اعرض عنهما وعن قولهما وأمرهما هذا ولا تمض على دينهما وملتهما إذ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ورجوعكم جميعا أصلا وفرعا مؤمنا وكافرا موحدا ومشركا وبعد رجوعكم الىّ فَأُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الاختبار أحاسب عليكم أعمالكم واجازيكم على مقتضاها ان خيرا فخير وان شرا فشر
وَالَّذِينَ آمَنُوا منكم في دار الاختبار مخلصين وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تكميلا لإيمانهم وتتميما له بما هو من لوازمه ومتمماته لَنُدْخِلَنَّهُمْ حين رجوعهم إلينا فِي السعداء الصَّالِحِينَ المقبولين الآمنين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا منكم في النشأة الاولى وأصروا على الكفر والشرك والجحود والإنكار العياذ بالله ولم يرجعوا عنه سيما مع بعثة الرسل ونزول الكتب وورود الزواجر والروادع الكثيرة فيها لنعذبنهم البتة عذابا شديدا ولندخلنهم يوم يعرضون عليها في زمرة الأشقياء المردودين المغضوبين الذين لا نجاة لهم من النار ولا يرجى خلاصهم منها ابدا
وَمِنَ النَّاسِ المجبولين على التزلزل والتذبذب مَنْ يَقُولُ خوفا من عذاب الله آمَنَّا بِاللَّهِ بلا تمكن له واطمئنان في قلبه فَإِذا أُوذِيَ فِي سبيل اللَّهِ من اعداء قد انقلب على كفره وحيث جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ وإذا هم في شدة كَعَذابِ اللَّهِ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة والقوة الشاملة على انواع المحن والابتلاءات وبالجملة هم يسوون بين خوف الله وخوف الناس فكما يؤمنون بالله من خوف عذابه يكفرون به من خوف عذاب الناس وتقريعهم وتشنيعهم بلا تفاوت بين الخوفين والعذابين بل يرجحون خوف الناس على خوف الله لذلك يختارون الكفر على الايمان من ضعف يقينهم وعدم رسوخهم وتمكنهم على الايمان وذلك من عدم ترقيهم من حضيض الجهل والتقليد الى ذروة المعرفة والتوحيد وَمن غاية تزلزلهم وتلونهم لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ وعون للمؤمنين الباذلين مهجهم في سبيل الله مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وصاروا غالبين على اعداء الله بنصر الله إياهم وفازوا بالفتح والغنائم وانواع الكرامات لَيَقُولُنَّ أولئك المذبذبون المتزلزلون مبالغين في دعوى الموافقة والمواخاة إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ومن عدادكم موافقين ظاهرا وباطنا وفي دين الإسلام متمكنين مطمئنين سرا وجهرا(2/98)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
فاشركونا فيما نلتم من الغنيمة وأعطونا قسمنا وسهمنا منها وهم ما يقصدون بقولهم هذا الا التغرير والتلبيس على المؤمنين بل على الله ايضا بزعمهم لذلك قال سبحانه مستفهما مستنكرا أَتعتقدون التلبيس والتشبيه علينا ايها الجاهلون بعلو شاننا وَلَيْسَ اللَّهُ المتجلى على عموم ما ظهر وما بطن في الأكوان غيبا وشهاة بِأَعْلَمَ بعلمه الحضوري بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ بل بما في استعداداتهم وقابلياتهم الفطرية التي قد كانوا عليها في حضرة علمنا ولوح قضائنا حيث لم يكونوا شيأ مذكورا وان كان شأنهم ايضا كذلك الآن عند من له ادنى حظ من المعرفة واليقين
وَالله لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ المطلع لضمائر عباده وليميزن الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبذلوا جهدهم في سبيله وليظهرن إخلاصهم ورسوخهم على الدين وتمكنهم واطمئنانهم في مرتبة اليقين بعد ما أمرهم بالجهاد والقتال الصوري والمعنوي وَلَيَعْلَمَنَّ وليظهرن ايضا كيد الْمُنافِقِينَ ومكرهم وتقاعدهم عن القتال واحتيالهم في التخلف عن المؤمنين
وَمن جملة مكرهم واحتيالهم مع المؤمنين وخداعهم إياهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا قاصدين اضلالهم عن الطريق الحق وانصرافهم عن الدين المستبين اتَّبِعُوا ايها الحمقى المتذللون في أيدينا سَبِيلَنا واختاروا طريقنا الذي كنا عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي هي دين آبائنا وديدنة أسلافنا وَان خفتم بمقتضى زعمكم من أثقال ذنوبكم يوم العرض والجزاء لْنَحْمِلْ نحن أثقال خَطاياكُمْ عنكم حينئذ فتصيروا يومئذ مخففين بلا وزر وذنب وَبالجملة انما قالوا لهم هكذا تغريرا عليهم وتضليلا لهم واستهزاء والافهم هم المنكرون بالآخرة وبجميع ما فيها من الوعيدات الهائلة والإنذارات البليغة وهم وان فرض انهم قد اعتقدوا النشأة الاخرى وما فيها ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ اى شيأ قليلا من خطاياهم لدى الحاجة فكيف بجميعها وبالجملة إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في عموم مواعدهم وعهودهم إذ الكل لا يطابق اعتقادهم ولا الواقع إذ لا تحمل يومئذ نفس وازرة وزر نفس اخرى كذلك كل نفس لاقية ما كسبت حاملة ما اقترفت عدلا منه سبحانه ولهذا قال سبحانه مقسما
وَالله لَيَحْمِلُنَّ حينئذ أَثْقالَهُمْ وخطاياهم التي قد اقترفوها بأنفسهم بل وَنزيد عليها أَثْقالًا أخر حاصلة من اضلالهم وتضليلهم عباد الله منضمة مَعَ أَثْقالِهِمْ الاصلية وَالله مع تلك الأثقال على الأثقال لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ على الله من اثبات الشريك له في الوجود والتحقق وفي استحقاق العبادة وعن نسبتهم اليه سبحانه ما لا يليق بشأنه افتراء ومراء ثم ذكر سبحانه نبذا من احوال اهل الضلال والإضلال من المفترين الذين مضوا في سالف الزمان تسلية لرسول الله وازالة للحزن الذي قد لحقه صلّى الله عليه وسلم من تمادى المشركين في الغفلة والفساد ومن تطاولهم في الغي والعناد فقال
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وقت إذ ظهر فيهم انواع الفسوق والجدال واصناف الغي والضلال فَلَبِثَ فِيهِمْ وتحمل على مشاق دعوتهم وانواع أذاهم أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فهم كانوا يضربونه ويشتمونه وينسبونه الى الجهل والجنون والخرق والخرف وانواع الاستخفاف والاستحقار ومع ذلك لم يتقاعد عن دعوتهم ولم ينزجر عن زواجرهم بل كان يبلغهم ما امره الحق بتبليغه من الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة وهم من شدة شكيمتهم وخباثة طينتهم لم يزيدوا من سماعها الا تعنتا واستكبارا وعتوا واغترارا وإصرارا على ما هم عليه من الكفر والجحود وبعد ما قد استحقوا أشد العذاب وأسوأ النكال فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ حين خرج الماء من التنور المعهود وطاف عليهم فأغرقهم واستأصلهم(2/99)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
وَهُمْ في أنفسهم ظالِمُونَ خارجون عن مقتضيات الحدود الإلهية منهمكون في بحر الغفلة والغرور ضالون في تيه الجهل والطغيان لذلك قد أخذهم الله بالطوفان واستأصلهم بالمرة بحيث لم يبق منهم احد على وجه الأرض وبعد ما أغرقناهم وأهلكناهم
فَأَنْجَيْناهُ يعنى نبينا نوحا عليه السلام وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وهم المؤمنون الذين قد ركبوا معه عليها حين نبع الماء من التنور قيل كانوا ثمانين او سبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث وَبالجملة قد جَعَلْناها اى قصة إهلاكهم وهلاكهم بالطوفان آيَةً عظيمة لِلْعالَمِينَ تستدلون بها على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا في انتقام من خرج من مقتضيات حدودنا وأحكامنا وأوامرنا ونواهينا
وَلقد أرسلنا ايضا يا أكمل الرسل جدك الأعلى إِبْراهِيمَ الخليل صلوات الرحمن عليه وسلامه الى قومه الذين تمادوا زمانا في الغفلة والغرور ليصلح مفاسدهم ويرشدهم الى توحيدنا اذكر وقت إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ بعد ما قد بعثناه إليهم ليهديهم الى طريق الحق اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد المستحق للعبادة والإطاعة استحقاقا ذاتيا ووصفيا وَاتَّقُوهُ حق تقاته عن ارتكاب محارمه ومنهياته واجتنبوا عن عموم ما لا يرضى به سبحانه حتى لا تستجلبوا سخطه وغضبه عليكم ذلِكُمْ الذي اوصيكم به من العبادة والعرفان والاجتناب عن المحارم والطغيان والاتصاف بالتوحيد والتقوى وجميع لوازم الايمان خَيْرٌ لَكُمْ واولى بحالكم وانفع لنفوسكم في اولاكم وأخراكم مما أنتم عليه من عبادة التماثيل التي تنحتونها أنتم بأيديكم وتسمونها من تلقاء انفسكم آلهة دون الله ظلما وزورا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى ان كنتم من ذوى العقول المستكملين بالقوة النظرية المفاضة لكم من حضرة العلم الإلهي ليميزكم بها عن سائر الحيوانات ويعدكم بسببها للخلافة والنيابة عن الله. ثم نبه سبحانه على خطأهم في عبادة غير الله فقال
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المستحق للعبادة بالاستقلال بلا شريك ومثال أَوْثاناً وتسمونهم آلهة ظلما وعدوانا وتعبدونهم مثل عبادة الله عنادا وطغيانا وَتَخْلُقُونَ اى تفترون وتنسبون الى الله بإثبات الشريك له سيما هذه التماثيل الباطلة العاطلة إِفْكاً كذبا وافتراء مجادلة ومراء مع ان هؤلاء التماثيل الهلكى لا تنفعكم ولا تضركم ولا ترزقكم ولا تمنع رزقكم بل إِنَّ مطلق الالهة الباطلة الَّذِينَ تَعْبُدُونَ أنتم وأمثالكم مِنْ دُونِ اللَّهِ الحقيق بالاطاعة والعبادة مطلقا سواء كانوا هؤلاء الجمادات او ذوى الحس والحركات من الحيوانات لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً يعنى امر الرزق مقصور على الله المتكفل لأرزاق عباده وليس في وسع غيره ان يرزق أحدا من عباده رزقا صوريا او معنويا وانما خص سبحانه الرزق بالذكر مع انهم لا يملكون سواه ايضا إذ هو اظهر للوازمهم وأتم لشدة احتياجهم اليه وان أردتم رزقا جسمانيا او روحانيا فَابْتَغُوا واطلبوا عِنْدَ اللَّهِ القادر المقتدر الرِّزْقَ الصوري المقوم لمزاجكم وكذا المعنوي الموصل الى مبدأكم ومعادكم لتتزودوا برزقه في اولاكم وأخراكم وَإذا سمعتم وعلمتم ان لا رازق لكم سوى الله اعْبُدُوهُ حق عبادته واعرفوه حق معرفته وَاشْكُرُوا لَهُ أداء لحق شيء من حقوق نعمه ونبذ من موائد فضله وكرمه واعلموا انكم إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رجوع الظل الى ذي الظل والأمواج الى الماء
وَإِنْ تُكَذِّبُوا اى ان تكذبوني في قولي ولم تقبلوا منى رسالتي ولم تتعظوا بنصحي وإرشادي فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ أمثالكم رسلهم مثلي مِنْ قَبْلِكُمْ ومن قبلي فصار تكذيبهم وبالا عليهم وسبب هلاكهم وحلول العذاب عليهم وهم ما بالوا على تكذيبهم وَانا ايضا لا أبالي بتكذيبكم(2/100)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
كما لم يبالوا بتكذيب أممهم إذ ما عَلَى الرَّسُولِ المبلغ المرسل من عند الله الى قوم إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اى تبليغ ما أرسل به مكشوفا ظاهرا بلا سترة وحجاب وبلا زيادة ولا نقصان واما امر القبول والامتثال بالمأمور فوض الى مشية الله وارادته وقدرته له ان يتصرف في عباده بان يجعل الكافر الجاحد مؤمنا مطيعا والمطيع المؤمن كافرا نافيا للصانع العياذ بالله من سخطه وغضبه فالكل مقدور له مثبت في لوح قضائه حاضر في حضرة علمه المحيط لا يسأل عن فعله وحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
أَوَلَمْ يَرَوْا اى كمال قدرته ومتانة حكمه وحكمته كَيْفَ يُبْدِئُ اى يبدع ويظهر اللَّهُ القادر المقتدر الْخَلْقَ اى عموم المخلوقات والموجودات من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة ثُمَّ يُعِيدُهُ ويعدمه كما ابدأه وأظهره بمقتضى النشأتين نزولا وعروجا هبوطا وصعودا ظهورا وبطونا مدا وقبضا نشرا وطيا لطفا وقهرا جلالا وجمالا إِنَّ ذلِكَ التبديل والتحويل عَلَى اللَّهِ المتجلى في الأكوان في كل آن وبكل شأن يَسِيرٌ إذ لا يعرضه العسر والفتور ولا يعتريه العجز والقصور ولا يبرمه مر الدهور وكر الشهور وان أنكروا لك ولم يقبلوا منك تنويرك الذي جئت به
قُلْ لهم يا أكمل ذوى الحكم والخلة سِيرُوا فِي الْأَرْضِ سير معتبر خبير فَانْظُرُوا بنظر الاعتبار والاستبصار كَيْفَ بَدَأَ واظهر الله العليم الحكيم الْخَلْقَ في اقطار الآفاق وكيف نشرهم فيها وبسطهم عليها بامتداد اظلال أسمائه وعكوس صفاته ثُمَّ اللَّهُ القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء بالاختيار والاستقلال يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ المقابلة لنشأة الظهور والإبداء الا وهي نشأة الكمون والإخفاء والفناء والافناء بان قبض سبحانه حسب قهره وجلاله جميع ما مد من الاظلال وطوى نحوه عموم ما نشر من الآثار المترتبة على الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيرٌ لا ينتهى قدرته عند مقدور بل له ان يتصرف فيه كيف شاء ومتى أراد ازلا وابدا ومن كمال قدرته ومقتضى حكمته ومشيته
يُعَذِّبُ من عباده مَنْ يَشاءُ تعذيبه بلا سبق اسباب عادية حسب قهره وجلاله وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ برحمته الواسعة ايضا كذلك بمقتضى لطفه وجماله وَكيف لا يرحمهم سبحانه مع انه لا ملجأ لهم دونه ولا مرجع لهم سواه إذ إِلَيْهِ لا الى غيره ولا غير في الوجود معه تُقْلَبُونَ انقلاب الزبد هواء والأمواج ماء
وَبعد ما ثبت ان منقلبكم اليه ومرجعكم نحوه فعليكم الإطاعة والايمان بالله وبوحدانيته طوعا بلا تذبذب وتلعثم إذ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ معاجزين الله المنتقم الغيور عن اخذكم ودرككم ما دمتم فِي الْأَرْضِ ولو تحصنتم فيها بقلاع حصينة وبروج مشيدة متينة وَلا فِي السَّماءِ ايضا لو تصعدتم إليها وترقيتم نحوها إذ الكل في قبضته وتحت قدرته بحيث لا يخفى عليه شيء لا في الأرض ولا في السماء وَبالجملة ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ المبدئ المعيد المحيي المميت مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم بالاستقلال ويتصرف فيكم بالإرادة والاختيار وَلا نَصِيرٍ ينصركم على أعدائكم ويدفع ضررهم عنكم.
ثم قال سبحانه حثا لهم الى الايمان وترغيبا لهم الى التوحيد والعرفان
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على عظمة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته وَلِقائِهِ اى أنكروا بلقاء الله الموعود المعهود لأرباب الكشف والشهود أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز القبول هم الذين قد يَئِسُوا وقنطوا مِنْ رَحْمَتِي مع وسعتها ووفورها وَأُولئِكَ الأشقياء(2/101)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
المردودون المترددون في تيه الغفلة والغرور لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في النشأة الاولى والاخرى بحيث لا يرجى نجاتهم وخلاصهم منه أصلا وبعد ما قد بالغ الخليل الجليل صلوات الرحمن عليه وسلامه في الدعوة والإرشاد وأيد دعوته بأنواع المواعظ والتذكيرات واصناف الرموز والإشارات ونبذ من الوعيدات الهائلة والإنذارات المهولة رجاء ان يتنبهوا منها ويتفطنوا بها على ما هو الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بعد استماعهم بمقالاته تفصيلا إِلَّا أَنْ قالُوا متفقين مجتمعين اقْتُلُوهُ حدا فانه قد اعرض عن دينكم وانصرف عن آلهتكم وشفعائكم أَوْ حَرِّقُوهُ فانه حرى بالإحراق لعظم جرمه وكبر ذنبه وبعد ما اتفقوا على إحراقه أوقدوا نارا عظيمة بحيث لا يمكن التقرب نحوها الا من مسافة بعيدة فوضعوه في المنجنيق فرموه بها إليها فَأَنْجاهُ اللَّهُ المراقب عليه المطلع على إخلاصه فأخلصه مِنَ النَّارِ سالما بل قد جعلها له بردا وسلاما وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء والانقاذ مع ان طبع النار انما هي على الإحراق والافناء لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما دالة على كمال قدرة الله ومتانة حوله وقوته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته إذ هم المنتفعون بأمثال هذه الشواهد الساطعة والبراهين القاطعة
وَبعد ما أنجاه الله منها وأيس من ايمان قومه قالَ لهم موبخا عليهم موعدا لهم بوحي الله والهامه إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ وأخذتم مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بالالوهية والربوبية أَوْثاناً وسميتموهم أنتم من تلقاء انفسكم آلهة لتكون أسبابا لكم توجب مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ وتوقع المحبة والمواخاة بين أظهركم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بان تجتمعوا عندها وتعكفوا حولها وتتقربوا عندها بالهدايا والقرابين ثُمَّ اعلموا ايها الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال والتائهون في تيه الجهل بالله وقدر حوله وقوته وقدرته انكم وان اتفقتم في شأنكم هذا على الايمان بهؤلاء الهلكى المنحطين عن درجة الاعتبار وتتألفون بسببها في الحيوة الدنيا الا انكم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة للعرض والجزاء وحساب عموم ما صدر عنكم في نشأة الابتلاء يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يعنى يقع التناكر والتخاصم بينكم فيكفر بعضكم بعضا وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إذ كل منكم ومن معبوداتكم تتلاعنون وتتخاصمون حال كونكم متبرئين إذ كل منكم متبرئ عن صاحبه تابعا ومتبوعا عابدا ومعبودا وَبالجملة مَأْواكُمُ النَّارُ ومرجعكم إليها بل أنتم وآلهتكم جميعا خالدون فيها لا نجاة لكم منها لا بأعمالكم وأفعالكم ولا بنياتكم وإخلاصكم فيها وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ليشفعوا لكم وينقذوكم منها بشفاعتهم وبعد ما قد أنجى سبحانه خليله صلوات الرحمن عليه وسلامه من النار وخرج منها سالما سويا بلا طوق ضرر وطريان الم
فَآمَنَ لَهُ ابن أخته لُوطٌ عليه السلام وهو أول من آمن له وأنكره غيره ونسبوه الى السحر والشعبذة وانواع الخرافات وَبعد ما ايس عن ايمان قومه وصلاحهم قالَ ابراهيم للوط ولزوجته سارة ابنة عمه إِنِّي بعد ما قد أيست عن ايمان هؤلاء الجهلة الضالين ونجوت عن مكرهم ومكائدهم بعون الله ولطفه وجوده مُهاجِرٌ متبعد عنهم إِلى ارض قد أمرني رَبِّي بالهجرة إليها واوحانى ان اذهب نحوها فعلىّ ان امتثل بامره سبحانه وامضى على موجب حكمه ووحيه إِنَّهُ سبحانه في ذاته وأسمائه وأوصافه وأفعاله هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم ما قد جرى عليه مشيته وقضاؤه الْحَكِيمُ المتقن في جميع ما صدر عنه ارادة واختيارا
وَبعد ما قد خرج عليه السلام من سواد الكوفة مع لوط وزوجته وصل(2/102)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)
الى حران ثم منها الى الشأم فنزل هو بفلسطين ونزل لوط بسدوم ثم لما استقر وتمكن متوطنا على فلسطين قد وَهَبْنا لَهُ من كمال لطفنا معه وفضلنا إياه ابنه إِسْحاقَ وَنافلته يَعْقُوبَ ليزيل بهما كربة الغربة ووحشة الجلاء مع ان هبة الولد إياه انما هي من محض الجود والعطاء على سبيل خرق العادة إذ هو في سن الكبر والكهولة وامرأته عاقر عقيم وَمن كمال لطفنا معه ايضا قد جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ مستمرة الى يوم الجزاء وَالْكِتابَ ايضا اى قد آتينا الكتاب لبعض منهم يعنى رسلهم وانما فعلنا معه كذلك لئلا ينقطع سلسلة كرامتنا عنه وتعظيمنا إياه بل يستمر الى انقراض النشأة الاولى وَبالجملة بعد ما هاجر إلينا خليلنا بالكلية وانخلع عن خلعة الإمكان بالمرة وتجرد عن كسوة الناسوت رأسا فقد آتَيْناهُ أَجْرَهُ اى اجر هجرته فِي الدُّنْيا على وجه لا ينقطع صيته عن الآفاق ابدا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ بقبولنا المقبولين في ساحة عز حضورنا
وَمن كمال فضلنا وجودنا أرسلنا ايضا لُوطاً الى قوم قد انحرفوا عن جادة العدالة وطريق الاستقامة وضلوا عن سواء السبيل اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ لوط عليه السلام لِقَوْمِهِ بوحي الله إياه والهامه إِنَّكُمْ ايها المفسدون المسرفون لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ اى الفعلة الذميمة التي ما سَبَقَكُمْ بِها وعليها لغاية هجنتها وقبحها ونهاية شنعتها وخباثتها مِنْ أَحَدٍ اى احد مِنَ الْعالَمِينَ اى من بنى نوعكم بل أنتم قد ابتدعتموها واخترعتموها من خباثة نفوسكم وشؤم شهوتكم ثم وبخهم وقرعهم سبحانه بهجنة أفعالهم وأعمالهم فقال
أَإِنَّكُمْ ايها المسرفون المفرطون في اطاعة القوة الشهوية لَتَأْتُونَ وتطئون الرِّجالَ من ادبارهم وهم أمثالكم واشباهكم في الرجولية وَمع ذلك تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ المعهود يعنى سبيل التناسل والتوالد وتبطلون الحكمة المتقنة البالغة الإلهية المتعلقة بابقاء النوع وَمع ذلك تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ اى في مجالسكم ومحافلكم الْمُنْكَرَ اى هذه الفعلة الذميمة القبيحة المتناهية في الهجنة والفضاحة يعنى تأتون بها على رؤس الملأ والاشهاد بلا مبالات واستحياء وإخفاء بل تباهون وتفتخرون بإظهارها مع ان إعلان عموم المنكرات من أعظم الجرائم وأقبح الفواحش عند الله وعند عموم المؤمنين سيما هذا المنكر المستبدع المستقذر فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بعد ما سمعوا منه التشنيع الشنيع والتقبيح الفضيح على ابلغ وجه وآكده إِلَّا أَنْ قالُوا متهكمين له مصرين على ما هم عليه من الفعلة المستهجنة والديدنة المستقبحة ائْتِنا يا لوط المتطهر المتنزه بِعَذابِ اللَّهِ الذي قد ادعيت نزوله علينا بسبب فعلتنا هذه إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك فنحن لم نمتنع عن فعلتنا بهذياناتك قط ولم نقبل منك وعظك ونصيحتك أصلا وبعد ما ايس لوط عن صلاحهم وإصلاحهم
قالَ مشتكيا الى الله ملتجأ نحوه مستنصرا منه رَبِّ يا من رباني على الطهارة والنظافة انْصُرْنِي بحولك وقوتك بانزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ المسرفين المفرطين في الإفساد الخارجين عن مقتضيات حدودك وأحكامك
وَبعد ما استحقوا الإهلاك والاستئصال بإصرارهم عليها وعدم امتناعهم عنها مع كونهم مجاهرين بها مفاخرين بإظهارها أخذناهم بغتة واستأصلناهم مرة وذلك لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ليبشروه بهبة الولد والنافلة قالُوا مخبرين له على طريق الوحى من الله إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعنى سدوم وجاعلوها منقلبة على أهلها إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ خارجين عن مقتضى الحدود الإلهية قلابين الحكمة المتقنة البديعة الإلهية بالبدعة الشنيعة(2/103)
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
وبعد ما سمع ابراهيم عليه السلام منهم ما سمع
قالَ مضطربا قلقا إِنَّ فِيها لُوطاً من خلص عباد الله قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها بتعليم الله إيانا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ مما سيصيب قومه بأمر الله علينا بانجائه وإنجاء من معه من اهل بيته والمؤمنين له إِلَّا امْرَأَتَهُ قد كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين لنفاذ قضاء الله على هلاكها بينهم وفيهم إذ هي منهم ومن جملتهم وفي عدادهم وزمرتهم
وَبعد ما قد بشروا ابراهيم بما بشروا وأخبروا له ما أخبروا توجهوا نحو قرى قوم لوط عليه السلام اذكر يا أكمل الرسل لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ يعنى قد فاجأته المساءة والسآمة والكرب المفرط والكآبة بقدومهم وَضاقَ لوط بِهِمْ وبقدومهم ذَرْعاً يعنى قد ضاق طاقته بقدومهم ونزولهم إذ قد اشتد وصعب عليه حفظهم عن اهل القرية وضاقت طاقته عن تدبير خلاصهم منهم إذ هم قد جاءوا على صورة صبيان صباح وملاح أمارد في غاية الحسن وكمال اللطافة والجمال فهم مشغوفون بطلب أمثالهم بل هم ما رأوا أمثالهم قط وَلما تفرس الرسل من لوط الخوف والحزن والضجرة المفرطة وانواع الغموم والهموم العارضة له من إلمامهم إياه هكذا قالُوا له تفريجا لهمه لا تَخَفْ يا لوط من إضرار هؤلاء الضلال الهلكى بنا وَلا تَحْزَنْ من لحوق العار عليك بسببنا فانا رسل الله قد أرسلنا الله لنصرك وتأييدك وإنزال العذاب على قومك ولا تحزن ايضا من تعذيبنا لك ولمن اتبعك إِنَّا باذن ربنا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ مما يصيبهم من العذاب والهلاك إِلَّا امْرَأَتَكَ قد كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين البتة هكذا ثبت في لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي ثم فصلوا له العذاب وقالوا
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ اى عذابا ذا رجز اى قلق واضطراب يقلقل المعذب به ويضطرب به اضطرابا شديدا حين نزوله وحلوله وما ذلك الا بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بفسقهم الذي قد باهوا به وافتخروا بسببه وقد تمادوا فيه مصرين مجاهرين
وَبعد ما انتقمنا منهم وأخذناهم بفسقهم لَقَدْ تَرَكْنا وأبقينا مِنْها اى من حكاياتهم وقصصهم آيَةً بَيِّنَةً وعبرة ظاهرة لائحة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعنى يستعملون عقولهم في مواضع العبر ويتأملون فيها معتبرين مستبصرين بها فاعتبروا يا اولى الأبصار واعلموا ان الأبرار والأخيار انما يتميزون عن الأشرار بالاعتبار والاستبصار. بصرنا الله بعيوب أنفسنا وجعلنا من زمرة المعتبرين بعيوب الغير بمنه وجوده
وَمن مقتضيات حكمتنا ايضا قد أرسلنا إِلى مَدْيَنَ حين ظهر فيهم الخبط والخيانة في المكيلات والموزونات أَخاهُمْ شُعَيْباً ليصلح ما فيهم من المفاسد فَقالَ بعد ما بعثنا إليهم مناديا لهم ليقبلوه ويطيعوا امره يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه لكمال العطف والشفقة وإمحاض النصح اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الحقيق بالعبادة والإطاعة وَارْجُوا من الله الْيَوْمَ الْآخِرَ اى ائتوا بالإيمان والإخلاص والأعمال الصالحة راجين من الله الثواب في يوم الجزاء وَعليكم ان لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ ولا تتحركوا عليها حال كونكم مُفْسِدِينَ لمصالح عباد الله وامور معاشهم ومعادهم وبعد ما قد سمعوا مقالته
فَكَذَّبُوهُ فاجئوا لتكذيبه بلا مبالاة بشأنه وبكلامه فاستحقوا المقت العظيم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ والزلزلة الشديدة مع الصيحة الهائلة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ التي بنوها للمعاش والحياة وصاروا فيها جميعا جاثِمِينَ مائتين هالكين باركين على ركبهم ساقطين على وجوههم
وَاذكر يا أكمل الرسل عاداً المبالغين في الظلم والعدوان وَثَمُودَ المتجاوزين عن مقتضيات الحدود الإلهية بالبغي والطغيان وَقَدْ(2/104)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
تَبَيَّنَ لَكُمْ
وظهر عندكم ولاح لديكم ايها الناظرون المعتبرون عتوهم واستكبارهم مِنْ مَساكِنِهِمْ الرفيعة وحصونهم الحصينة المنيعة وَذلك بأنهم قوم ضالون منحرفون عن جادة العدالة قد زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وحسنها في نفوسهم فاستبدوا بها فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعنى قد اعرضهم الشيطان بتزيين أعمالهم الفاسدة عليهم عن الصراط المستقيم والطريق المستبين وَهم كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ مجبولين على العبرة والبصارة متمكنين قادرين على الاستبصار والاعتبار فلم يعتبروا مع انه لم يسلب عنهم لوازم عقولهم بل قد لبس عليهم الشيطان أفعالهم وحسن عندهم أعمالهم فظنوا انهم مهتدون وهم ما كانوا مهتدين
وَاذكر يا أكمل الرسل قارُونَ المباهي بالمال والنسب على اهل عصره وزمانه وَفِرْعَوْنَ المستعلى بالسلطنة والملك الى ان تفوه من غاية عتوه واستكباره بدعوى الألوهية لنفسه وَهامانَ وزيره وقد تفوق على اقرانه واهل زمانه بالثروة والجاه والنيابة الكاملة وعلو المكانة والمنزلة بين الأنام وَمن كمال تعنت هؤلاء المفسدين المسرفين المفرطين وغاية استعلائهم ونهاية كبرهم وخيلائهم لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى مصحوبا بوحينا رسولا منا إياهم ليهديهم الى طريق الحق والصراط المستقيم فكذبوه ولم ينالوا به وبكلامه مع كونه مؤيدا من لدنا بِالْبَيِّناتِ القاطعة والمعجزات الساطعة فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ على الله وعلى رسله وعموم عباده وانصرفوا عن مطلق أوامره سبحانه ونواهيه منكرين وجوده وإرساله ووحيه عنادا ومكابرة وَمع ذلك ما كانُوا سابِقِينَ بنا حافظين نفوسهم عن عذابنا إياهم وانتقامنا عنهم
فَكُلًّا منهم قد أَخَذْنا بِذَنْبِهِ الذي قد صار علة موجبة لبطشنا وانتقامنا بمقتضى عذلنا. ثم فصل سبحانه كيفية اخذه إياهم بعد ما أجمل فقال فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً اى ريحا عاصفة فيها حصباء رميناهم بها ورجمناهم كقوم لوط وعاد وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ الهائلة المهولة كثمود واصحاب مدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون وبما معه من زخارفه التي هي سبب بغيه وطغيانه وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح وفرعون وهامان وجميع جنودهما واتباعهما وبالجملة ما أخذنا كلا منهم الا بذنوب عظيمة قد صدرت عنهم على سبيل الإصرار والاغترار وَما كانَ اللَّهُ المستوي على العدل القويم والطريق المستقيم وما صح عليه وما حق له سبحانه لِيَظْلِمَهُمْ ويأخذهم عدوانا بلا ذنب صدر عنهم موجب لاخذهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى وهم قد كانوا يظلمون أنفسهم باستجلاب عذاب الله عليها بارتكاب أسبابه وموجباته وعرضها على غضب الله بالخروج عن مقتضى أوامره ونواهيه وما ذلك الا من رسوخ التقليدات والتخمينات في نفوسهم واستقرار الرسوم والعادات المألوفة المأنوسة الموروثة لهم من أسلافهم في جبلتهم لذلك قد أصروا على ما هم عليه وانصرفوا عن سواء السبيل فكذبوا الرسل الهادين اليه وأنكروا عليهم عتوا واستكبارا فهلكوا خسارا وبوارا. ثم أشار سبحانه الى توهين عموم التقليدات والتخمينات الحاصلة من اهوية النفوس الخبيثة المعتادة بالماديات والعقول السخيفة المكدرة بكدورات الأوهام والخيالات فقال على سبيل التمثيل والتشبيه بمقتضى ادراك العوام توضيحا لهم ليتنبهوا على طريق الحق ويتفطنوا بالتوحيد القويم
مَثَلُ القوم الَّذِينَ اتَّخَذُوا وأخذوا مِنْ دُونِ اللَّهِ المنزه عن الأشباه والأنداد مطلقا أَوْلِياءَ يوالونهم كولاية الله ويعبدونهم مثل عبادته متوهمين انهم شركاء معه سبحانه أم شفعاء لهم عنده سبحانه مع انهم في أنفسهم لا يتأتى منهم لا الشركة ولا الشفاعة قطعا انما مثلهم في هذا الاتخاذ والاعتقاد(2/105)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ التي قد اتَّخَذَتْ بَيْتاً من لعابها ثم تركته واتخذت آخر مثلها ثم تركته وهكذا حالها دائما مع ان هذه الابنية والبيوتات المتخذة لا تدفع حرا ولا بردا ولا تصير مانعا له من العدو ولا حجابا حاجزا من المكاره إياه كهؤلاء المقلدين الضالين الذين اتخذوا بتقليد بعض الضلال المتقدمين منهم دينا ومذهبا ثم تركوه بتقليد آخر منهم بلا تمكن ولا تمرن وهكذا حالهم دائما مع ان الأديان المتخذة لا تكشف لهم طريق الحق ولا توصلهم الى معرفته وتوحيده ولا تنقذهم من ظلمات الأوهام والخيالات الباطلة العائقة عن مشرب التوحيد ولا تخلصهم من سجن الطبيعة وقيود الإمكان وأغلال الأنانيات وسلاسل الهويات والتعينات مطلقا قال سبحانه على سبيل التأكيد والمبالغة على وجه التنصيص والتصريح بالضعف والتوهين بعد ما قد كنى ورمز لينزجروا ويرتدوا عن ما هم عليه من الأديان الباطلة وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ وأضعف الابنية لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ إذ لا بيت أضعف منه واشرف الى التخريب والانهدام واقل وقاية من الحر والبرد ودفع الضر والشر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وهنه وضعفه وعدم نفعه لما اتخذوها لكنهم لم يعلموا فاتخذوا جهلا وعنادا فسيعلمون عاقبة ما اتخذوا ووبال ما عبدوا. ثم قال سبحانه على وجه الوعيد إياهم آمرا لحبيبه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا أكمل الرسل
إِنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر عباده وسرائرهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما يَدْعُونَ وما تعبدون مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من الأوثان والأصنام على التفصيل إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط شيء مما ظهر وبطن وخفى وعلن ولكن يمهلكم ويؤخر اخذكم بها زمانا لحكم ومصالح قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها وَكيف لا يأخذكم سبحانه بما صدر عنكم مع انه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على الانتقام بالقوة الكاملة والبطش الشديد الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله بما لا مزيد عليه
وَان استهزؤا معك يا أكمل الرسل متهكمين بما في كتابك من التمثيلات بأحقر الأشياء وأضعفها مثل الذباب والعنكبوت والنمل وغيرها لا تبال بهم وبتهكمهم واستهزائهم إذ تِلْكَ الْأَمْثالُ التي نَضْرِبُها لِلنَّاسِ المتمكنين في الغفلة والنسيان لنوضح لهم طريق التوحيد والعرفان وسبيل السلامة والايمان انما هي للموفقين منهم المجبولين على استعداد القبول وفطرة الإسلام لا لكل احد من اهل الغفلة والضلال التائهين المترددين في اودية الجهل واغوار الخيال لطلب المحال وفي هاوية الوهم بأنواع المراء والجدال وَلذلك ما يَعْقِلُها وما يفهم معناها وما يصل الى قعرها ومرماها إِلَّا الْعالِمُونَ العارفون الواصلون بما أفاض الله عليهم سبحانه من رشحات حضرة العلم المحيط الإلهي الى ينبوع بحر الوحدة الذاتية التي هي منبع عموم الكمالات اللائحة على صحائف الأنفس والآفاق وصفحات الأعيان والأكوان بكمال الاستقلال والاستحقاق وكيف لا قد
خَلَقَ اللَّهُ المتجلى بجميع صور الكمالات واظهر بمقتضى الأسماء والصفات السَّماواتِ اى العلويات المتفاوتة المتخالفة باختلافات الأسماء والصفات المنتشئة المنعكسة من الذات الاحدية حسب الشئون والتطورات المترتبة على الكمالات المندمجة فيها وَالْأَرْضَ اى طبيعة العدم القابلة لجميع الانعكاسات المنعكسة من اشعة التجليات الذاتية غيبا وشهادة ظهورا وبطونا بروزا وكمونا جمالا وجلالا وبالجملة ما خلق واظهر سبحانه عموم ما ظهر وبطن الا ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع بلا شائبة شك فيه وارتياب إِنَّ فِي ذلِكَ الإيجاد والإظهار على الوجه الابدع الأبلغ والنظام الأتم الأكمل لَآيَةً عظيمة وحجة قاطعة لِلْمُؤْمِنِينَ الموحدين الموقنين بوحدة ذاته وكثرة أسمائه وصفاته حسب شئونه(2/106)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
وتطوراته على مقتضى تجلياته المتجددة الغير المتكررة ازلا وابدا
اتْلُ يا أكمل الرسل ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ الجامع لما في النشأتين الحاوي لعموم الأمور الجارية في المنزلتين وتأمل في رموزه وإشاراته حق التأمل والتدبر واتصف بأوامره واجتنب عن نواهيه واعتبر من عبره وأمثاله وذق حلاوة معارفه وحقائقه بتوفيق الله وتيسيره وَأَقِمِ الصَّلاةَ وداوم على الميل المقرب نحو الحق بعموم جوارحك وأركانك بعد ان تنوي وتقصد في صلاتك هذه الانخلاع عن لوازم ناسوتك مطلقا محرما على نفسك عموم حظوظك من دنياك مقبلا على شأنك في أخراك متوجها الى قبلة الوحدة وكعبة الذات الاحدية وعرفات الأسماء والصفات وبالجملة مستأنسا بالله متشوقا الى لقاء الله مستوحشا عن غير الله مطلقا إِنَّ الصَّلاةَ على الوجه المذكور تَنْهى وتكف صاحبها عَنِ الْفَحْشاءِ المترتبة على القوى البهيمية من الشهوية والغضبية وَالْمُنْكَرِ المترتب على مطلق القوى البشرية المنغمسة بالعلائق المادية والشواغل الجسمية والجسمانية وَبالجملة لَذِكْرُ اللَّهِ المنزه في ذاته عن عموم الأكوان المبرى أوصافه وأسماؤه عن وصمة النقصان وسمة الحدوث والإمكان والاشتغال بذكره سبحانه حسب إطلاقه أَكْبَرُ شمولا وأتم توجها وقبولا وأكمل حصولا ووصولا سيما لو جذبتك العناية من لدن جنابه ووافقك التوفيق من عنده نحو بابه وَكن يا أكمل الرسل في نفسك متوجها الى ربك متقربا اليه على الوجه الذي أمرت به ولا تلتفت الى هذيانات اهل البدع والأهواء الفاسدة إذ اللَّهِ المطلع بجميع حالاتهم يَعْلَمُ منهم بعلمه المحيط الحضوري عموم ما تَصْنَعُونَ من الاستخفاف والاستهزاء وعدم المبالات بمعالم الدين والاستحقار بمراسم التوحيد واليقين فسيجازيهم سبحانه حسب علمه بهم
وَبعد ما سمعتم ايها المؤمنون خطاب ربكم مع نبيكم لا تُجادِلُوا ولا تخاصموا أَهْلَ الْكِتابِ اى مع الأحبار الذين واظبوا على محافظة كتاب الله المنزل إليهم واستنبطوا منه الاحكام وامتثلوا بأوامره واجتنبوا عن نواهيه إِلَّا بِالَّتِي اى بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق وابعد عن المكابرة واقرب الى الصواب هينين لينين معهم بلا قلق واضطراب وفضول من الكلام ما داموا منصفين معتدلين بلا ميل منهم وانحراف الى المكابرة والاغتساف إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ جهلا وعنادا وخرجوا عن منهج الصدق والصواب بغيا وعدوانا وَقُولُوا لهم بمقتضى ما أمرتم به في كتابكم آمَنَّا وصدقنا بِالَّذِي اى بالكتاب الذي أُنْزِلَ إِلَيْنا من عند ربنا بطريق الوحى لنبينا وَآمنا ايضا بالكتاب الذي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ منه سبحانه ايضا وحيا على نبيكم وَكيف لا نؤمن بكتابكم ونبيكم إذ إِلهُنا الذي قد انزل علينا كتابا وَإِلهُكُمْ الذي انزل عليكم كتابا ايضا واحِدٌ لا تعدد فيه ولا شريك له يشاركه ولا مثل له يماثله ولا كفؤ له يشابهه وَبالجملة نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مؤمنون منقادون مطيعون وبجميع ما حكم به سبحانه في كتبه وعلى ألسنة رسله مصدقون ممتثلون سوى ما قد نسخ في كتابنا حكمه
وَكيف لا يقول لهم المؤمنون هكذا ولا يؤمنون بالكتب المنزلة من عندنا إذ كَذلِكَ وعلى وفق ذلك وطبقه قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الجامع لما في الكتب السالفة لتكون أنت ومن تبعك من المؤمنين مصدقين بعموم الكتب والرسل بلا تفاوت وتفرقة بينهم فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قبل كتابك يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بكتابك ويصدقون بك ايضا كذلك على الوجه الذي وعدناهم في كتبهم من انا سنرسل رسولا من لدنا ومعه كتاب جامع مصدق(2/107)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
لجميع الكتب السالفة والرسل السابقة وان كان مشتملا على النسخ والتبديل لبعض احكام الكتب السابقة المنزلة على الأمم السالفة وَمِنْ هؤُلاءِ الاعراب مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ اى بهذا الكتاب وان لم يسبق لهم وعد لأنهم ليسوا من اهل الكتاب في وقت من الأوقات بل انما آمنوا به لكونهم من ارباب اللسن والفصاحة قد تأملوا في نظم ألفاظه العجيبة واتساق معانيه البديعة الغريبة قد انكشف لهم انه ما هو من جنس كلام البشر فجزموا بإعجازه وآمنوا له وصدقوه انه نازل من عند الله على سبيل الوحى بلا تردد وَبالجملة ما يَجْحَدُ وينكر بِآياتِنا الظاهرة الاعجاز العجيبة الشأن الباهرة البيان والتبيان إِلَّا الْكافِرُونَ الساترون نور الهداية والايمان بظلمة الكفر والطغيان عنادا ومكابرة
وَكيف لا يكون القرآن وحيا معجزا نازلا من عند الله حسب ارادته واختياره إذ ما كُنْتَ أنت يا أكمل الرسل تَتْلُوا وتتعلم مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل القرآن ونزوله مِنْ كِتابٍ من الكتب المنزلة وَلا تَخُطُّهُ ولا تنسخه أنت نفسك بِيَمِينِكَ على سبيل النقل يعنى ما كنت أنت بحال من الأحوال من اهل النسخ والإملاء والكتابة والإنشاء إذ هي مسبوقة بالتعلم وأنت أمي عار عن الدراسة والكتابة والتعلم مطلقا ولم يعهد منك أمثال هذه الأمور الدالة على الأخذ والاستبصار ولو كنت أنت متصفا بها وأهلا لها إِذاً لَارْتابَ شك وتردد الْمُبْطِلُونَ المجاهرون بالقول الزور الباطل في شأنك وشأن كتابك وكونه معجزا مع انه ما هو اى القرآن حينئذ ايضا محل ارتياب لأنه في نفسه وفي حد ذاته وباعتبار نظمه البديع ومعناه الغريب العجيب وأسلوبه المحكم معجز خارق للعادة عند من له ادنى دريبة بأساليب الكلام وبالجملة لا ينبغي ولا يليق لاحد من ذوى العقول السليمة والطباع المستقيمة سيما من ذوى الأذواق الصحيحة وارباب الوجدان ان يشك في اعجازه الا من هو متناه في البلادة وسخافة العقل وركاكة الفهم
بَلْ هُوَ اى القرآن في نفسه وعند اولى العزائم الخالصة الصحيحة عن مطلق المكدرات المنافية لصفاء مشرب التوحيد آياتٌ شواهد ودلائل دالة على الحق بَيِّناتٌ واضحة الدلالات في أنفسها ثابتة فِي صُدُورِ العارفين المحققين الموحدين الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني المترشح من حضرة العلم المحيط الإلهي المفاض لهم منها حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية تفضلا عليهم وامتنانا لهم وَبالجملة ما يَجْحَدُ وينكر بِآياتِنا سيما قواطع برهانها وسواطع تبيانها إِلَّا القوم الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العلم والعين والكشف والشهود
وَمن غاية بغضهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشدة شكيمتهم وضغينتهم معه قالُوا مقترحين منه على سبيل التعجيز والإنكار لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ عجيبة غريبة مِنْ رَبِّهِ ان كان صادقا في دعوى الرسالة كالآيات التي أنزلت على الأنبياء الماضين مثل عصا موسى وناقة صالح ومائدة عيسى وسائر معجزاته وغير ذلك قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة الشبهة إِنَّمَا الْآياتُ كلها عِنْدَ اللَّهِ وفي قبضة قدرته وعلى مقتضى ارادته ومشيته متى تعلق ارادته بانزال آية منها أنزلها على من أرسله ارادة واختيارا وليس في وسعى وطاقتي ولا في وسع كل من مضى قبلي من الأنبياء والرسل إنزال ما طولبوا وإتيان جميع ما اقترحوا من الآيات وَهكذا حالي بكم ومقترحاتكم بل إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ من قبل ربي إياكم مُبِينٌ ظاهر الإنذار والتخويف وكل من الأنبياء والرسل الماضين قد كانوا ايضا كذلك بالنسبة الى أممهم إذ نحن معاشر الأنبياء والرسل(2/108)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
مالنا الا التبليغ والإنذار بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي بلا تحريف منا وتبديل. واما امر التنزيل والإنزال من قبل الحق وكذا امر القبول منكم فمفوض الى القادر الحكيم موكول اليه سبحانه مترتب على توفيقه واقداره ثم قال سبحانه توبيخا على المقترحين وتقريعا لهم
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ولم يغنهم من جميع الآيات التي اقترحوا عنك يا أكمل الرسل أَنَّا قد أَنْزَلْنا عَلَيْكَ من مقام لطفنا وجودنا الْكِتابَ الجامع لما في الكتب السالفة المحتوى على احوال النشأتين على الوجه الأبلغ الأتم مع انه لا يغيب عنهم بل يُتْلى عَلَيْهِمْ ويقرأ عندهم دائما ويدوم بينهم ابدا بخلاف سائر الآيات فإنها كما ظهرت غابت هي وأثرها ايضا وهو واثره حاضر عندهم غير مغيب عنهم وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الذي هو في نفسه مشتمل على آيات عظام كثيرة الفوائد دائمة العوائد غير منقطعة آثارها عن من تمسك بها واستهدى بها لَرَحْمَةً اى نعمة عامة نازلة من قبل الحق وَذِكْرى اى عظة وتذكيرا شاملا لعموم عباده ملقاة من عنده سبحانه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بتوحيده سبحانه وبكمالات أسمائه وصفاته ويصدقون المبدأ والمعاد والعرض والجزاء والفوز بشرف اللقاء وجميع ما وعد لهم الحق في النشأة الاخرى. ثم لما اتى قوم من ضعفاء المسلمين الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتف قد رقم فيها بعض اراجيف اليهود وأقاويلهم الكاذبة متبركين بها متيمنين لما فيها فقال صلّى الله عليه وسلّم مبغضا عليهم كفى بضلال قوم ان يرغبوا عما جاء به نبيهم من قبل ربهم الى ما جاء به غير نبيهم وصدقوا ما جاء به غير نبيهم مع انه كذب مفترى وكذبوا ما جاء به النبي مع انه صدق كلمه مطابق للواقع فنزلت حينئذ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم
قُلْ يا أكمل الرسل للمكذبين لك وبما جئت به مصدقين لأعدائك وبما جاءوا به كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ايها المكابرون شَهِيداً حاضرا معى ومعكم مطلعا على حالي وحالكم وما جرى في ضميري وضمائركم إذ هو سبحانه يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما ظهر فِي السَّماواتِ وَكذا ما ظهر الْأَرْضِ وكذا ما ظهر بينهما وبطن فيهما فيجازى كلامنا ومنكم بمقتضى علمه بنا وبكم وَكيف لا يجازى القادر المقتدر على انتقام عصاة عباده سيما الَّذِينَ آمَنُوا واطاعوا بِالْباطِلِ الذي هو بمراحل عن الحق والصدق وَكَفَرُوا بِاللَّهِ الحق الحقيق بالحقية المستوي على منهج الصدق والصواب بالعدالة دائما واعرضوا عن أطاعته وانقياده عنادا ومكابرة وبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز الحضور والأشقياء المحرومون عن سعة رحمة الملك الرحيم الغفور هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران والخذلان لا يرجى ربحهم وتفريجهم منه أصلا
وَمن غاية غيهم وضلالهم وانهماكهم في بحر الغفلة والغرور يَسْتَعْجِلُونَكَ تهكما واستهزاء بك بِالْعَذابِ الذي قد أنذرتهم به بوحي منا إليك بنزوله إياهم وحلوله عليهم وما ذلك الا من كمال انكارهم وتكذيبهم إياه وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى ووقت معين موعود مثبت في لوح قضائنا لَجاءَهُمُ الْعَذابُ اليوم فجاءة عاجلا لاستحقاقهم بنزوله وحلوله الا انه موقت موعود بمقتضى سنتنا القديمة المستمرة من ترهين الأمور على الأوقات المعينة المثبتة في لوح القضاء وحضرة العلم حسب الحكمة المتقنة قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا لا تغتروا بامهالنا إياكم زمانا وَالله لَيَأْتِيَنَّهُمْ ولينزلن عليهم العذاب الموعود بَغْتَةً اى دفعة وفجاءة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ولا يطلعون بنزوله وامارات إتيانه وحلوله ومن غاية عمههم وسكرتهم ونهاية انهماكهم في اسباب العذاب(2/109)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
ولوازمه وموجباته
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ظنا منهم ان ما هم عليه انما هو من موجبات الثواب واسباب النجاة والجنة بل هو عينهما إذ لا ايمان لهم بالنشأة الاخرى وما فيها وَكيف لا يعذبون في النشأة الاخرى ولا يدخلون النار إِنَّ جَهَنَّمَ المعدة الموعودة لهم فيها لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ محتوية عليهم الآن في النشأة الاولى ايضا باعتبار احاطة اسبابها وموجباتها التي هي سلاسل الأماني والآمال الامكانية المحيطة لهم دائما في عموم أوقاتهم وحالاتهم في النشأة الاولى المستجلبة لهم دركات النيران واودية الحرمان والخذلان في النشأة الاخرى اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ في الآخرة كغشى الأسباب التي هي عبارة من لوازم الإمكان إياهم اليوم الى حيث صاروا محفوفا بها مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ اى من أعلاهم واسفلهم محيطا بجميع جوانبهم وَيَقُولُ لهم حينئذ قائل من قبل الحق زجرا لهم وتوبيخا ذُوقُوا ايها المستكبرون المصرون على الكفر والعناد جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ايها المعاندون المكابرون. ثم قال سبحانه على سبيل التعليم والتنبيه مناديا لخلص عباده الذين جل هممهم الإخلاص في عموم ما جاءوا به من الأعمال
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
أضافهم سبحانه الى نفسه تفضيلا وتكريما مقتضى ايمانكم الإخلاص والحضور معى والتوجه الى مع فراغ البال في كل الأحوال فان لم تجدوا الفرصة والفراغة المذكورة في ارض لا تستقروا فيها ولا تتمكنوا عليها بل عليكم ان تفروا وتخرجوا منها طالبين الجمعية والحضور إِنَّ أَرْضِي
مقر عبادي وعبادتي واسِعَةٌ
فان لم تجدوا لذة التوجه وحلاوة الرجوع الى في ارض ولم يتيسر لكم الجمعية الحاصلة المنعكسة من صفاء مشرب التوحيد ومن عالم العماء المفضى الى التجريد والتفريد فعليكم الخروج والجلاء منها وبالجملة فَإِيَّايَ
في عموم الأماكن والأحوال فَاعْبُدُونِ
عبادة مقارنة بالإخلاص والخضوع والخشوع والتبتل والتوكل والتفويض والرضاء والتسليم ولا تغتموا ولا تتحزنوا بالخروج عن الأوطان المألوفة والبلدان المأنوسة والبيوت الموروثة وبالجلاء منها خوفا من الموت الطبيعي ان كنتم مائلين إلينا راغبين نحونا مؤملين الفناء فينا والبقاء ببقائنا والفوز بشرف لقائنا إذ
كُلُّ نَفْسٍ من النفوس المستحدثة بحدوث البدن ذائِقَةُ كأس الْمَوْتِ الطبيعي في اى مكان كان ثُمَّ بعد ما قد ذقتم حلاوة كأس الموت الإرادي ولذة الفناء الاختياري فقد خلصتم عن قيود الهويات العدمية المانعة عن الإطلاق الحقيقي فحينئذ إِلَيْنا لا الى غيرنا إذ لا موجود في فضاء الوجود سوانا تُرْجَعُونَ رجوع الأضواء الى الذكاء والأمواج الى الماء
وَبعد ما رجع الموحدون الَّذِينَ آمَنُوا بالله موقنين وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مقارنين ايمانهم بها مخلصين فيها إلينا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ وننزلنهم تفضلا منا إياهم وتكريما مِنَ الْجَنَّةِ وفضاء الوحدة المعدة لأرباب المعرفة والتوحيد غُرَفاً اى لكل منهم غرفة معينة تصير له مقرا ومنزلا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق مملوة بمياه المكاشفات والمشاهدات على تفاوت طبقاتهم وقدر قابلياتهم خالِدِينَ فِيها دائمين غير متحولين عنها أصلا وبالجملة نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة وما فيها مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ألا وهم أولو العزائم الصحيحة
الَّذِينَ صَبَرُوا على عموم مشاق التكاليف الإلهية ومتاعب الطاعات واذيات الأعادي والجلاء عن الأوطان ومفارقة الأقران والخلان وغير ذلك مما جرى عليهم من طوارق الحدثان ومن تجدد الملوان وَمع ذلك هم في جميع حالاتهم وفي عموم ما جرى عليهم من المحن والمنح والترح(2/110)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
والفرح عَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُونَ وينسبون اليه عموم ما ينسبون لا الى الوسائط والوسائل إذ الكل منه بدأ واليه يعود بل الوسائل كلها مطوية عندهم منسية لديهم ودونهم بل نظرهم مقصور على المسبب الواحد الأحد الفرد الصمد القيوم المطلق الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد وبعد ما امر سبحانه المؤمنين بالجلاء ومفارقة الأوطان لكسب الجمعية وحضور القلب قالوا متحوفين عن العيلة والاضطرار في امر المعاش كيف نعمل ونعيش في بلاد الغربة ولا معيشة لنا فيها قال سبحانه تسلية لهم وازالة لخوفهم
وَكَأَيِّنْ اى كثيرا مِنْ دَابَّةٍ تحرك على الأرض محتاجة الى الغذا المقوم لمراحها مع انها لضعفها وعدم مكنتها لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اى لا تطيق لحمل الرزق وادخاره وكسبه اللَّهُ المتكفل لأرزاق عموم عباده يَرْزُقُها من حيث لا يحتسب وَإِيَّاكُمْ ايضا كذلك وأنتم حسب حصة ناسوتكم من حملة الدواب التي قد تكفل الله برزقها بل من حلتها فلا تغتموا لأجل الرزق الصوري ولا تقولوا قولا به نزل بعلكم عن خالقكم ورازقكم وَلا تخطروا ايضا ببالكم أمثال هذا إذ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بأحوالكم ونياتكم فعليكم ان تثقوا في كل الأحوال بالله المتولى لأموركم مفوضين كلها اليه متوكلين عليه متمكنين في توكلكم وتفويضكم راسخين فيه بلا تلعثم وتزلزل. ثم قال سبحانه قولا على سبيل الإلزام والتبكيت
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا أكمل الرسل اى اهل مكة مع كفرهم وشركهم مَنْ خَلَقَ واظهر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة وَمن سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وصيرهما دائبين دائرين لَيَقُولُنَّ اللَّهُ المظهر للكائنات المستقل في إيجادها والمتصرف فيها بالاستقلال والاختيار حسب ارادته ومشيته وبعد ما أقروا بوحدة الحق وانتهاء مراتب عموم الكثرات والممكنات اليه سبحانه قل فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ والى اين ينصرفون عن توحيده والايمان به والامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه الجارية على ألسنة رسله وكتبه وان صرفهم عن الايمان فقر اهله وفاقتهم قل لهم نيابة عنا
اللَّهُ المطلع لاستعدادات عباده وقابلياتهم يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ حسب استعداده وقابليته وَيَقْدِرُ لَهُ ويقبض عنه ايضا بحسنه ارادة واختيارا إِنَّ اللَّهَ المتقن في عموم أفعاله بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنه ارادة واختيارا عَلِيمٌ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء من لوازمه ومتمماته وجميع مقتضياته
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ايضا يا أكمل الرسل مَنْ نَزَّلَ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اى بواسطة الماء بمقتضى عادته المستمرة من تعقيب الأسباب بالمسببات الْأَرْضَ الجامدة اليابسة مِنْ بَعْدِ مَوْتِها وجمودها ويبسها طبعا لَيَقُولُنَّ طوعا اللَّهُ القادر المقتدر على مطلق الأحياء والاماتة ومع اعترافهم بوحدة الله وانتساب معظم الأشياء اليه سبحانه يشركون له غيره عنادا ومكابرة قُلِ يا أكمل الرسل بلسان الجمع بعد ما قد عصمك الحق عن الشرك وانواع الجهالات بافاضة العقل المفاض وهداك نحو توحيده بالرشد الكامل المكمل المميز لك أكمل التمييز حامدا به شاكرا لنعمه سيما نعمة العصمة عن الشرك والضلال الْحَمْدُ المطلق والثناء العام الصادر عن ألسنة ذرائر الكائنات المتذكرة لمبدئها ومنشئها طوعا وطبعا ثابت حاصل لِلَّهِ راجع اليه سبحانه اصالة إذ لا مظهر لهم سواه ولا موجد بل لا موجود في الوجود الا هو بَلْ أَكْثَرُهُمْ من نهاية غفلتهم وضلالهم عن الله لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون وحدة الحق واستقلاله في الآثار والتصرفات الواقعة في الأنفس والآفاق ولا يستعملون عقولهم المفاضة لهم للتدبر والتأمل(2/111)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
في هذا المطلب العزيز الشأن حتى يستعدوا لفيضان زلال الوحدة بطريق الكشف والشهود فخلصوا عن التردد في هاوية الجهالات واودية الأوهام والخيالات وما يعوقهم ويمنعهم عن الوصول الى هذا المطلب العلى والمقصد السنى الا المزخرفات الدنية الدنياوية الملهية للنفوس البشرية عن اللذات الروحانية مع انها ما هي في أنفسها الا اوهام وخيالات باطلة عاطلة فكيف ما يترب عليها من اللذات الوهمية والشهوات البهيمية كما قال سبحانه مشيرا الى فناء زخرفة الدنيا وعدم قرارها وثباتها وبقاء النشأة الاخرى وما يترتب عليها من اللذات الروحانية والدرجات العلية النورانية المتفاوتة علما وعينا وحقا على تفاوت طبقات ارباب الكشف والشهود ومقتضيات استعداداتهم الثابتة في لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا التي لا قرار لها ولا مدار حقيقة بل لا اصل لها أصلا سوى سراب قد انعكس من شمس الذات وامواج قد حدثت في بحر الجود إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ يعنى كما ان السراب يلهى ويخدع العطشان بالتردد والتبختر نحوه على اعتقاده انه ماء فيتعب نفسه ويزيد عطشه بل يهلكه كذلك الحياة الدنياوية ومزخرفاتها الفانية ولذاتها الزائلة الذاهبة الامكانية تتعب صاحبها طول عمره ولا ترويه ثم تميته بأنواع حسرة وضجرة وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ وما يترتب عليها من المكاشفات والمشاهدات اللدنية وانواع الفتوحات والكرامات الفائضة لأرباب التوحيد لَهِيَ الْحَيَوانُ اى هي مقصورة على الحياة الازلية الابدية التي لا يطرأ عليها زوال ولا يعقبها فناء ولا يعرض للذاتها القارة انصرام وانقضاء لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويوقنون بها وبما فيها من الكرامات لم يؤثروا الدنيا الدنية وحياتها الفانية المستعارة عليها ولم يختاروا اللذات الوهمية البهيمية على لذاتها الازلية الابدية وبجهلهم وضلالهم قد اختاروا الفاني على الباقي والزائل على القار والشراب المهلك على الفرات المحيي. والعجب منهم ومن أحوالهم كل العجب انهم مع شركهم وإصرارهم على الكفر وعدم تأثرهم بالزواجر والدواعي الواردة من قبل الحق وظهور المعجزات المزعجة الى الايمان
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ متضرعين نحوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حينئذ كائنين كالمؤمنين المطيعين الخالصين في اطاعتهم وانقيادهم لله بلا شوب الشرك وشين الكفر فَلَمَّا نَجَّاهُمْ من كمال فضلنا وجودنا إياهم إِلَى الْبَرِّ وأخلصناهم من المهلكة آمنين إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ يعنى هم قد فاجؤا على الفور بعيد ما خلصوا عن التهلكة الى الشرك والطغيان وانواع العصيان والكفران قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا آمرا لهم على سبيل التهديد
لِيَكْفُرُوا أولئك الكافرون بِما آتَيْناهُمْ من النعم العظام سيما نعمة الإنجاء عن مضيق البحر وَلِيَتَمَتَّعُوا أولئك المتمتعون بما عندهم من الحطام الدنياوية وبما هم عليه من الإصرار على الكفر والضلال فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ما يترتب على كفرانهم وتمتعهم وشركهم وضلالهم
أَينكرون نعمنا وانعامنا إياهم أولئك الكافرون المبطلون وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا سيما اهل مكة أَنَّا من مقام فضلنا وجودنا إياهم قد جَعَلْنا بلدهم يعنى مكة حَرَماً ذا حرمة عظيمة يأوى إليها الناس من جميع اقطار الأرض من كل مرمى سحيق وفج عميق آمِناً ذا أمن اهله من النهب والسبي وانواع الأذى وَيُتَخَطَّفُ اى يختلس ويؤخذ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ نهبا وسبيا وهم آمنون فيها مصونون عن المؤذيات كلها ومع ذلك يكفرون نعمنا ويشركون بنا غيرنا أَما يستحيون من الله أولئك المبطلون اما يخافون من بطشه أولئك المفسدون المسرفون فَبِالْباطِلِ العاطل الزاهق الزائل يعنى الأصنام والأوثان يُؤْمِنُونَ يطيعون ويعبدون مع انهم لا يقدرون(2/112)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
على جلب نفع ودفع ضر وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ القادر المقتدر القوى على البطش والانتقام يَكْفُرُونَ فسيعلمون أولئك الجاهلون الظالمون أى منقلب ينقلبون. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والوعيد الشديد
وَمَنْ أَظْلَمُ وأشد ظلما وعدوانا على الله وخروجا عن مقتضيات حدوده وعلى نفسه ايضا بالعرض على بطشه وعذابه سبحانه مِمَّنِ افْتَرى ونسب عَلَى اللَّهِ مراء وافتراء كَذِباً عظيما بان يشرك معه غيره مع انه ليس في الوجود الا هو ولا اله سواه أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ المطابق للواقع الثابت المرسل من عنده سبحانه يعنى الرسول عليه السلام لَمَّا جاءَهُ كذبه فجاءة بلا تأمل وتدبر عنادا ومكابرة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ يعنى أيزعمون أولئك المسارعون المبادرون في التكذيب المجترئون على الإنكار انهم لا يدخلون في جهنم الطرد وجحيم الخذلان خالدين مخلدين بسبب هذا الجرم العظيم والافتراء البالغ نهاية البغي والعناد على الله وعلى كتابه ورسوله بل هم المستوجبون المقصورون على الخلود فيها ابدا مهانين صاغرين. ثم قال سبحانه بمقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا يعنى المؤمنين الموقنين الذين قد حازوا كلتا مرتبتي العلم والعين بمقتضى استعداداتهم الفطرية ثم اجتهدوا ببذل وسعهم حتى أفنوا أنفسهم فينا وبقوا ببقائنا باذلين مهجهم في سبيلنا تاركين مقتضى هوياتهم وأعيانهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة في هويتنا وعيننا الحقة الحقيقية لَنَهْدِيَنَّهُمْ ولنوفقن عليهم سُبُلَنا ولنزيدن هديهم ورشدهم إلينا جذبا منا إياهم وعناية لهم وإحسانا معهم وَكيف لا يجذبهم الحق ولا يعتنى بشأنهم ويزيد برشدهم وتوفيقهم إِنَّ اللَّهَ المتجلى لخلص عباده بمقتضى أسمائه وصفاته لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ منهم ألا وهم الذين يحسنون الأدب مع الله ويجتهدون في افناء ذواتهم الباطلة في الحق سبحانه بعد ما قد تحققوا بمقام الكشف والشهود وتيقنوا ان لا موجود سواه ولا اله في الوجود الا هو بل اجتهدوا حينئذ ان يحكوا اظلال هوياتهم الباطلة وعكوس تعيناتهم الهالكة العاطلة عن دفتر الوجود مطلقا لئلا يبقى لهم لا اسم ولا رسم ولا عين ولا اثر بعد ما قد طرحوا بتوفيق الله وجذب من جانبه ما طرحوا من أباطيل التعينات ولوازم الهويات والأنانيات وعموم الاعتباريات عن دفتر الوجود وفضاء الشهود بحيث لم يبق لهم شائبة الهوية والأنانية والاثنينية مطلقا وحينئذ لم يبق للمعية والمصاحبة والمقارنة معنى أصلا بل لم يبق في الوجود وعين الشهود الا هو فثبت انه ما هو في الحقيقة الا هو ولا اله في الوجود سواه بل كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون وبالجملة لا يشوشك منطوقات الألفاظ والعبارات ان كنت من ارباب الرموز والإشارات هو يقول الحق وهو يهدى السبيل حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير
خاتمة سورة العنكبوت
عليك ايها المجتهد المتوجه نحو الحق المتعطش بزلال توحيده المعرض عن الباطل وعما يترتب عليه من غوائل الشيطان ووساوسه ان تجتهد أولا في استخلاص نفسك البشرية عن أمانيها مطلقا سيما انية امارتك المائلة الى انواع الفجور البغية على الله بأصناف الكفر والفسوق الغبية التي لا تفهم مقتضيات الوحدة وإشارات ارباب التوحيد أصلا العرية عن مبدأ المعارف والحقائق والأسرار والمكاشفات الواقعة في طريقه رأسا فلك ان تروضها بمتاعب الرياضات ومشاق التكليفات(2/113)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
الى ان تجعلها مطمئنة راضية بما جرى عليها من القضاء ثم بعد ما قد صارت امارتك مطمئنة راضية انبعث شوقك وافضى ذوقك مع جذب من جانب الحق الى ان تجعلها فانية في هوية الله مضمحلة في ذاته متلاشية في أوصافه وأسمائه بحيث لا يبقى لها عين ولا اثر فحينئذ قد صرت من زمرة المحسنين المهديين المرضيين الذين هم مع الله في عموم أحوالهم لا بطريق المصاحبة والمقارنة ولا بطريق الحلول والاتحاد على ما يخيلك الألفاظ والعبارات بل بطريق الصيرورة والرجوع اليه والفناء فيه والبقاء ببقائه جعلنا الله ممن اجتهد في طريق التوحيد وجاهد في نفسه في مسلك الفناء حتى بذلها في سبيل الله وأفناها في هويته سبحانه بمنه وجوده
[سورة الروم]
فاتحة سورة الروم
لا يخفى على من تحقق بتجددات التجليات الإلهية وتبدلات شئونه وتطوراته لطفا وقهرا قبضا وبسطا جمالا وجلالا ان دوام العسر واليسر والنعمة والنقمة والجدب والرخاء والفرح والترح والغالبية والمغلوبية وكذا عموم الأوصاف المتضادة المتناقضة والأطوار المتخالفة الحاصلة من الإضافات والارتباطات الواقعة بين الشئون والتطورات الحادثة في الأكوان والأزمان بين اهل الزمان المحبوسين في مضيق الإمكان والحدثان انما هي بحسب التجليات الإلهية المقتضية لحدوثها كل ذلك وأمثاله مما لا يتصور امتداده ودوامه ابدا مستمرا بلا تبدل وتحول بل ما هي الا أعراض متبدلة متجددة على تعاقب الأمثال وتوارد الاضداد لا تبقى زمانين متطاولة بالنسبة الى قوم دون قوم بل يتداول ويتداور بينهم بمقتضى سنة الله وجرى عادته المستمرة كما هو المتعارف المشهور المشهود من جريان الزمان وتوارد الحدثان حسب تجدد الملوان لذلك رد الله سبحانه على مشركي مكة خذلهم الله فرحهم وسرورهم حين أخبروا بغلبة فارس الذين هم ليسوا من اهل الكتاب على الروم الذين هم نصارى من اهل الكتاب ومن غاية فرحهم وجهلهم قالوا للمؤمنين تفألا على سبيل التبجح نحن نظهر ونغلب عليكم كما قد ظهر إخواننا على إخوانكم فاغتم المؤمنون من هذه الواقعة الهائلة انزل الله سبحانه هذه السورة تسلية لهم وازالة لغمهم مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلم مخبرا إياه متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بمقتضى جماله وجلاله حسب ارادته واختياره الرَّحْمنِ لعموم عباده بسعة رحمته وسبقتها على غضبه الرَّحِيمِ لخواصهم بدوام الرحمة عليهم والرضاء عنهم والبسط معهم بلا تخلل الغضب والقبض
[الآيات]
الم ايها الإنسان الأفضل الأكمل اللبيب اللائق الملازم المداوم لاستكشاف غوامض اسرار الوجود ورقائق دقائق آثار الكرم والجود الفائض من الخلاق الودود على خواص مظاهر الأكوان وزبدة الأعيان المحبوسين في مضيق الإمكان ليوصلهم الى فضاء الوجوب وصفاء الكشف والشهود مخلصين عن عموم الأوهام والخيالات المستتبعة لانواع القيود قد
غُلِبَتِ الرُّومُ وصاروا مغلوبين من عسكر الفرس
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وأقربها من ارض العرب وارض الروم وهي أذرعات الشام والأردن او فلسطين على اختلاف الروايات من اصحاب التواريخ وَلا تغتموا ايها المؤمنون من مغلوبية اهل الكتاب وضعفهم إذ هُمْ اى الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ومغلوبيتهم من الفرس سَيَغْلِبُونَ ويصيرون غالبين عليهم آخذين انتقامهم عنهم على ابلغ وجه وأشده لا بعد زمان بعيد ومدة متطاولة بل
فِي بِضْعِ سِنِينَ والبضع عند العرب من الثلاث الى التسع. روى ان فارس قد عزوا الروم فتلاحقا باذرعات الشأم(2/114)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
وهي اقرب ارض الروم من الفرس والعرب ايضا فلما اقتحما قد غلب الفرس على الروم فوصل الخبر الى مكة فأخذ المشركون في فرح عظيم وسرور مفرط شامتين بالمسلمين متطيرين بهم قائلين إياهم أنتم والنصارى اهل الكتاب ونحن وفارس أميون لا كتاب لنا وقد ظهر إخواننا على إخوانكم فنحن لنظهرن ايضا عليكم مثلهم عن قريب فنزلت الآية فقرأها صلّى الله عليه وسلّم على ابى بكر رضى الله تعالى عنه فخرج عليهم فقال لهم لا يقرن الله أعينكم ايها المشركون المسرفون فو الله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له ابى ابن خلف كذبت اجعل بيننا أجلا اناحبك وأراهن معك فناحبه ابو بكر رضى الله عنه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين فأخبر ابو بكر رضى الله عنه ما جرى بينهما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم والبضع ما بين الثلاث الى التسع فرجع رضى الله عنه الى ابى فزايده الجعل والمدة ايضا فجعلاها مائة قلوص الى تسع سنين ومات ابى من طعن قد طعنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم احد وظهر الروم على فارس يوم الحديبية او بدر فأخذ ابو بكر الخطر والرهن من ورثة ابى وجاء به الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال تصدق به فتصدق فهذا قبل تحريم القماز فلا يصح الاستدلال به على جواز العقود الفاسدة فهذه الآية من جملة دلائل النبوة والرسالة لكونها اخبارا عن الغيب بوحي الله والهامه إذ لِلَّهِ وفي قبضة قدرته واختياره الْأَمْرُ كله غيبا وشهادة دنيا وعقبا مِنْ قَبْلُ ازلا وَمِنْ بَعْدُ ابدا سرمدا لا راد لأمره ولا معقب لحكمه بل يفعل الله بمقتضى ارادته واختياره ما يشاء حسب حكمته ويحكم ما يريد بحوله وقوته وَيَوْمَئِذٍ اى حين غلب الروم على الفرس في رأس السنة التاسعة انجازا لما وعد به سبحانه المؤمنين يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ مثل ما فرح المشركون في الواقعة السابقة الا ان فرح المؤمنين انما هو
بِنَصْرِ اللَّهِ وتأييده باهل الكتاب والملة وبتقوية دينه وكتابه النازل من عنده إليهم وبتغليبهم على اهل الهواء والآراء الباطلة وبالجملة فرحهم انما هو لتقوية الدين واهله لا لمجرد الغيرة والحمية الجاهلية والعصبية المفرطة كما هو ديدنة اهل الزيغ والضلال والا فالله سبحانه يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ من عباده بمقتضى مراده سواء كان من اهل الهداية او الضلالة او السعادة او الشقاوة لا يسأل عما يفعل وَكيف يسئل عن فعله سبحانه مع انه هُوَ الْعَزِيزُ المنيع ساحة عز حضوره عن ان يسأل عن كيفية أفعاله الغالب المقتدر بالقدرة الكاملة على عموم مراداته الرَّحِيمُ لعباده يتفضل عليهم حسب سعة رحمته إحسانا لهم وامتنانا عليهم وما ذلك النصر والتأييد الا
وَعْدَ اللَّهِ وعهده الذي قد وعده وعهده مع المؤمنين حين اشتد عليهم الحزن وهجم الهموم وقت مغلوبية الروم غيرة منهم على دين الله واهله ومن سنته سبحانه انه لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ الذي وعده سيما مع خلص عباده وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الغفلة والنسيان لا يَعْلَمُونَ وعده ولا يؤمنون ولا يصدقون بانجازه الوعد وعدم خلفه في الموعود بل ما
يَعْلَمُونَ وما يأملون الا ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعنى لا يترقى علمهم من المحسوسات الظاهرة مثل الحيوانات العجم بل هم أسوء حالا منها إذ هم مجبولون على التأمل والتدبر والتفطن بما هو المقصود منها ومن ظهورها والتفكر في حكمة إظهارها على هذا النمط البديع والنظم العجيب وفي كيفية ارتباطها بالأسماء الإلهية والأوصاف الذاتية وانعكاسها منها وهم مكلفون عليها قابلون لها بخلاف سائر الحيوانات وَبالجملة هُمْ عَنِ النشأة الْآخِرَةِ المعدة لكشف السدل والستائر ولرفع الحجب وعموم الاغطية والأستار المانعة عن ظهور الحق وانكشاف لقائه على جميع عباده بلا سترة وحجاب هُمْ غافِلُونَ غفلة مؤبدة تامة(2/115)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
بحيث لا يرجى منهم الاطلاع والوقوف أصلا لكثافة حجبهم وغلظ اغطيتهم واغشيتهم لذلك لم يتدرجوا من عالم الكون والفساد ومضيق الإمكان وما يترتب عليه من اللذات الوهمية البهيمية الى عالم الغيب وفضاء وجوب الوجود وما يترتب عليه من الكشف والشهود وانواع المعارف والحقائق الفائضة منه سبحانه بمقتضى الجود
أَيقنعون بهذه المزخرفات الفانية أولئك الضالون الغافلون ويرضون أنفسهم بلذاتها الوهمية وشهواتها البهيمية وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ولم يتدبروا في آلائه ونعمائه الفائضة على الترادف والتوالي في الآفاق على الصور العجيبة والهيآت الغريبة سيما فِي أَنْفُسِهِمْ التي هي اقرب الأشياء إليهم وابدعها نظما وتركيبا وأعجبها ظهورا وبروزا وأشملها تصرفا وأكملها علما ومعرفة وأعلاها شأنا وأوضحها برهانا لذلك ما وسع الحق الا فيها وما انعكس أوصافه وأسماؤه الا منها وقد استحقت اى بخصوصها من بين سائر مظاهره سبحانه بخلعة خلافته ونيابته أيطمئنون بهذه المزخرفات الزائلة الخسيسة ولم يعبروا منها الى مباديها التي هي الأوصاف الذاتية والأسماء الإلهية مع انهم هم مجبولون على الجواز والعبرة بحسب اصل الفطرة ولم يعلموا ولم يتفطنوا انه ما خَلَقَ واظهر اللَّهُ الحكيم المتقن في عموم أفعاله السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى عموم العلويات والسفليات وَما بَيْنَهُما من البرازخ المتكونة من امتزاجاتهما واختلاطاتهما أثرا وأجزاء إِلَّا خلقا وإظهارا ملتبسا بِالْحَقِّ منتهيا اليه اعادة وإبداء لكنه قد قدر بقاءه وظهوره بوقت معين وَأَجَلٍ مُسَمًّى عنده وحين انقضائه قد انتهى اليه ورجع نحوه عموم ما ظهر من الموجود وانتفى وفنى جميع ما قد لمع عليه برق الوجود وحينئذ لم يبق في فضاء الوجود سوى الله الواحد القهار لعموم الاظلال والأغيار وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ المجبولين على النسيان والكفران بِلِقاءِ رَبِّهِمْ في النشأة الاخرى لَكافِرُونَ منكرون جاحدون عتوا واستكبارا مغرورين بما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية
أَوَلَمْ يَسِيرُوا أولئك المسرفون المفرطون فِي اقطار الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا بنظر العبرة والاستبصار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المسرفين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود مع انهما قد كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً لدلالة آثارهم واطلالهم على غاية تمكنهم واقتدارهم وَمن دلائل قوتهم وتمكنهم انهم قد أَثارُوا الْأَرْضَ وقلبوها للمعادن وإخراج العيون والقنوات واجراء الأنهار واحداث الحرث والزراعات وغير ذلك وَبالجملة قد عَمَرُوها أولئك فيما مضى أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها هؤلاء اليوم فدل زيادة عمارتهم على ازدياد قوتهم وتمكنهم وبعد ما أفسدوا على أنفسهم بأنواع الفسادات مباهين بمالهم وجاههم قد قلبنا عليهم أمرهم وشأنهم حيث أرسلنا إليهم رسلا مؤيدين من لدنا بأنواع المعجزات والبينات وَلما جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ القاطعة والبراهين الساطعة فاجؤا أولئك الضالون المسرفون على تكذيبهم وانكارهم بلا تأمل وتدبر فيما جاءوا به فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر فاستأصلناهم وقلبنا عليهم أماكنهم وخربنا بلادهم ومزارعهم فَما كانَ اللَّهُ العزيز المقتدر الحكيم المتقن لِيَظْلِمَهُمْ ويفعل بهم فعل الظلمة بان يأخذهم بلا جرم صدر عنهم موجب لانتقامهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى يظلمون أنفسهم بعتوهم واستكبارهم على ضعفاء عباد الله وتكذيب خلص أنبيائه ورسله وأوليائه وخروجهم عن مقتضى حدوده الموضوعة على محض العدالة
ثُمَّ بعد ما قد تمادوا في الغفلة والعصيان وتكذيب الرسل والطغيان على خلص العباد وانواع الإساءة والأذى عليهم قد كانَ عاقِبَةَ القوم الَّذِينَ(2/116)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
أَساؤُا
مع الله ورسله والمؤمنين السُّواى والعذاب المخلد والنكال المؤبد المترتب على إساءتهم في النشأة الاخرى جزاء ما كانوا عليه في الاولى كل ذلك بسبب أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وأنكروا عليها واستخفوا بها وبمن أنزلت اليه وَكانُوا من غاية عتوهم واستكبارهم بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ويستسخرون وينسبون إليها ما لا يليق بشأنها افتراء ومراء وكيف يستهزؤن أولئك المسرفون المفرطون مع الله ورسلهم وآياته النازلة من عنده إذ
اللَّهُ المستقل بالتصرف في ملكه وملكوته يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ويبدع المخلوقات أولا من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة ويظهرها في فضاء الوجود على الوجه المشهود ثم يميته ويعدمه ثُمَّ يُعِيدُهُ حيا كذلك في النشأة الآخرة بعد انقراض النشأة الاولى للعرض والجزاء ثُمَّ بعد العرض وتنقيد الأعمال إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رجوع الأمواج الى البحر والاظلال الى الأضواء
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ المعدة للعرض والجزاء يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ويسكتون حيارى سكارى تائهين هائمين مأيوسين عن الخلاص
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حينئذ مِنْ شُرَكائِهِمْ ومعبوداتهم شُفَعاءُ يجتهدون لخلاصهم وإنقاذهم من عذاب الله بمقتضى ما هو زعمهم إياهم بل وَهم حينئذ قد كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ ينكرونهم ويكفرون بهم حيث يئسوا عنهم وقنطوا عن شفاعتهم
وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ التي يحشر فيها الأموات ويعرضون على الله بما اقترفوا في دار الابتلاء من الحسنات والسيئات يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ويتحزبون حزبا حزبا فرقا فرقا فوجا فوجا كل مع شاكلته في الايمان والكفر والضلال والفساد
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتبه ورسله في دار الاختبار وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المؤيدة المؤكدة لإيمانهم فيها فَهُمْ حينئذ من كمال فرحهم وسرورهم متمكنون فِي رَوْضَةٍ ذات ازهار وأنوار وانهار يُحْبَرُونَ يتنزهون ويسرون مسرورين متنعمين
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وأنكروا بتوحيدنا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة من لدنا على رسلنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ اى أنكروا بلقائنا في النشأة الاخرى مع انا قد وعدناهم على ألسنة رسلنا إياهم فَأُولئِكَ الأشقياء المردودون عن ساحة عز الحضور فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد مُحْضَرُونَ لا نجاة لهم منه أعاذنا الله من ذلك. ثم أشار سبحانه الى اسباب النجاة والخلاص عن الوعيدات الاخروية والى نيل لذاتها ومتنزهاتها الروحانية فقال
فَسُبْحانَ اللَّهِ اى سبحوا الله الواحد الأحد الصمد المنزه المقدس عن شوائب النقص وسمات الكثرة والحدوث مطلقا ايها الأحرار المتوجهون نحوه في السرائر والإعلان سيما حِينَ تُمْسُونَ وتدخلون في المساء الذي هو أول وقت الفراغ عن الشواغل الجسمانية وفتح باب الخلوة مع الله والعزلة عن اسباب الكثرة مطلقا وَكذا حِينَ تُصْبِحُونَ وتدخلون في الصباح الذي هو نهاية مرتبة خلوتكم مع ربكم فاغتنموا الفرصة فيه وتعرضوا للنسمات المهبة بأنواع النفحات من قبل الرحمن ويمن عالم اللاهوت وبعد ما تزودتم بأنواع الفتوحات الروحانية في تلك الساعة الشريفة التي هي البرزخ بين اللذائذ الروحانية والجسمانية فاشتغلوا بالاشغال الجسمانية المتعلقة لتدبير المعاش النفساني
وَلكم ايها المتوجهون نحو الحق ان تحمدوه وتشكروا نعمه وتداوموا على أداء حقوق كرمه في خلال أيامكم ولياليكم مطلقا سيما طرفي النهار إذ لَهُ الْحَمْدُ والثناء الصادر عن ألسنة عموم ما فِي السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ من المظاهر التي قد لمع عليها برق الوجود وانبسطت على صفحاتها اظلال شمس الذات واضواؤها وَلا سيما عَشِيًّا إذ هو وقت مصون عن الكثرة غالبا وَكذا حِينَ تُظْهِرُونَ وتدخلون وقت(2/117)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
الظهر ايضا إذ فيها يحصل الفراغ من امور المعاش غالبا وكيف لا تتوجهون نحو الحق ولا تديمون الميل اليه في اوقات حياتكم إذ هو سبحانه بمقتضى لطفه وجماله
يُخْرِجُ ويظهر لكمال قدرته الْحَيَّ اى ذا الحس والحركة الارادية الذي هو انواع الحيوانات مِنَ الْمَيِّتِ الذي هو النطفة الجامدة وَكذا يُخْرِجُ ويظهر بمقتضى قهره وجلاله الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ يعنى يعقب الموت بالحياة والحياة بالموت وَمن كمال قدرته يُحْيِ الْأَرْضَ بأنواع النضارة والبهاء بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها وجمودها وَكَذلِكَ اى مثل اعادة الحياة والنضارة للأرض وقت الربيع تُخْرَجُونَ أنتم من قبوركم ايها المنكرون للبعث والحشر واعادة المعدوم
وَمِنْ آياتِهِ الدالة على كمال قدرته على الإعادة والإبداء على السواء أَنْ اى انه قد خَلَقَكُمْ وقدر جسمكم وصوركم أولا مِنْ تُرابٍ يابس ثم بدلكم أطوارا وادوارا لتكميلكم وتشريفكم امدادا وادوارا الى ان صوركم في احسن صورة وعدلكم في أقوم تعديل ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ اى بعد ما قد كمل صورتكم وتم تمثالكم وشكلكم واستوى بشريتكم ففاجأتم تَنْتَشِرُونَ في الأرض على سبيل التناسل والتوالد وبالجملة من قدر على ابدائكم على الوجه المذكور وابداعكم قدر على حشركم واعادتكم بل هي أسهل من الإبداء
وَايضا مِنْ آياتِهِ الدالة على كمال قدرته أَنْ خَلَقَ وقدر لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى من جنسكم وبنى نوعكم أَزْواجاً نساء حتى توانسوا بهن وتستأنسوا معهن بل انما قدر لكم أزواجا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وتتوطنوا معها وتتألفوا بها توطنا خاصا وتألفا تاما بحيث يفضى الى التوالد والتناسل وَلهذه الحكمة البديعة قد جَعَلَ بَيْنَكُمْ وبينهن مَوَدَّةً ومحبة خاصة خالصة منبعثة عن محض الحكمة الإلهية بحيث لا تكتنه لميتها وكيفيتها أصلا وَمن كمال قدرته ومتانة حكمته جعل من امتزاج النطف النازلة منكم ومنهن الناشئة من المودة المذكورة والمحبة المقررة بينكم رَحْمَةً ولدا مثلكم محييا لكم اسمكم ورسمكم إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق والإيجاد والتكميل والتمكين والتقدير والانبعاث والانزعاج وانواع التدبيرات الواقعة فيها والحكم العجيبة المحيرة لعقول ارباب الفطنة والذكاء لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتأملون في آثار صنائع الحكيم القدير العليم الخبير
وَايضا مِنْ آياتِهِ العجيبة الشأن والبديعة البرهان خَلْقُ السَّماواتِ وإيجاد العلويات متطابقة متوافقة مع ما فيها من الكواكب المتفاوتة في الإضاءة والإشراق على أبدع نظام وابلغ التيام وانتظام بحيث لا يكتنه عند ذوى العقول واولى الافهام المجبولين على الاستعلام والاستفهام بل لا حظ لهم منها سوى الحيرة والعبرة وانواع الوله والهيمان وَخلق الْأَرْضِ ممهدة منبسطة مشتملة على جبال راسيات وبحار واسعات وانهار جاريات وأشجار مثمرات ومعادن وحيوانات واصناف من نوع الإنسان المجبول على صورة الرحمن الجامع لانواع التبيان والبيان واصناف الدلائل والبرهان ليصير مرأة مجلوة يتراءى فيها صور الأسماء والصفات الإلهية وتنعكس عنها شئونه وتطوراته وَايضا من آياته العظيمة اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وتكلمكم ولغاتكم ايها المجبولون على فطرة النيابة والخلافة الإلهية وَكذا اختلاف أَلْوانِكُمْ من السواد والبياض وانواع التخليطات والتشكيلات والهيآت الصورية والمعنوية التي قد اشتملت عليها هياكلكم وهوياتكم كل ذلك انما هو من آثار الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية التي قد امتدت وانبسطت على ماهيتكم وتعيناتكم اظلالها وآثارها وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الانطباق والالتصاق وانواع الائتلاف والانتظام الواقعة في الأنفس على اغرب الوجوه(2/118)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
وأبدع الطرق لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على كمال قدرة العليم الحكيم لِلْعالِمِينَ لكل من يتأتى منه التفطن والتدبر للمبدأ والمعاد من ارباب الهداية والرشد والتأمل والتفكر على سبيل النظر والاستدلال من الصنائع والآثار الى الصانع المؤثر المختار
وَمِنْ آياتِهِ العظام ايضا مَنامُكُمْ واستراحتكم تقويما لا مزجتكم وتقوية لقواكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وقت عروض الفتور والعناء وَابْتِغاؤُكُمْ وطلبكم المعاش فيهما مِنْ فَضْلِهِ وسعة رحمته وجوده او على طريق اللف والنشر بان قدر لمنامكم زمان الليل وابتغائكم النهار إِنَّ فِي ذلِكَ التقدير والتدبير المبنى على كمال العطف واللطف لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ دلائل توحيده سبحانه سمع قبول ورضاء ويتأملون في حكمة الحكيم المدبر لمصالح عباده وما هو الأصلح لهم
وَمِنْ جملة آياتِهِ ايضا انه سبحانه يُرِيكُمُ الْبَرْقَ المنبئ عن هجوم البلاء ونزول المطر ايضا انما أراكم سبحانه هكذا خَوْفاً من خشية الله وحلول غضبه وعذابه وَطَمَعاً لنزول فضله ورحمته وانما فعل سبحانه معكم كذلك لتكونوا دائما وفي كل حين من الأحيان وحال من الأحوال خائفين من سخطه وبطشه راجين من فضله وجوده وَيُنَزِّلُ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً بعد ما أراكم البرق المخيف المطمع فَيُحْيِي بِهِ اى بالماء النازل الْأَرْضَ اليابسة بَعْدَ مَوْتِها جمودها ويبسها إِنَّ فِي ذلِكَ الاراءة والإخافة والأطماع والإنزال والأحياء لَآياتٍ ودلائل قاطعة دالة على حكمة القادر المختار المستقل بالتصرف والآثار لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستعملون عقولهم في التفكر والتدبر في المصنوعات العجيبة والمخترعات البديعة الصادرة من الفاعل المطلق بالإرادة والاختيار
وَمِنْ آياتِهِ المحكمة ايضا أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ يعنى من جملة آياته الظاهرة الباهرة قيام السماء والأرض بلا عمد وأوتاد وأسانيد وقرارهما ومدارهما في مكان معين بلا تبدل وتحول وانما هو بِأَمْرِهِ وحكمه وعلى مقتضى ارادته ومشيته بحيث لا يسع لهما الخروج عن امره وحكمه أصلا ثُمَّ بعد ما تأملتم نفاذ حكمه سبحانه ومضى قضائه في معظم المخلوقات فلكم ان تتيقنوا إِذا دَعاكُمْ وقت ارادة اعادتكم واحيائكم دَعْوَةً متضمنة لاخراجكم مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ يعنى بعد ما أسمعكم سبحانه بكمال قدرته مضمون دعوته إليكم قد فاجأتم أنتم الى الخروج منها احياء بلا تراخ ومهلة تتميما لسرعة نفوذ قضائه
وَكيف لا تسمعون ولا تخرجون منها احياء بعد ما تعلق ارادته سبحانه باخراجكم واعادتكم إذ لَهُ سبحانه ملكا وتصرفا ابداعا وإنشاء عموم مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة المغمورين في آلاء الله ونعمائه المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم وَكذا عموم من في الْأَرْضِ من ارباب المحبة والولاء الوالهين التائهين في بيداء الألوهية الفانين الحائرين في فضاء الربوبية الهائمين في صحراء الوجود لذلك كُلٌّ ممن أشرقت عليه شمس الذات ولاح عنده نور الوجود ولمع دونه بروق التجليات الحبية اللطفية لَهُ قانِتُونَ منقادون مطيعون طوعا وطبعا
وَكيف لا ينقادون ولا يطيعون لحكمه أولئك المسخرون المقهورون تحت صولجان قضائه وقدره مثل الكرات مع انه هُوَ القادر المقتدر الَّذِي يَبْدَؤُا ويظهر الْخَلْقَ من كتم العدم في فضاء الوجود بمقتضى اللطف والجود ثم يعدمه ويميته بمقتضى قهره وجلاله ايضا فيه في النشأة الاولى ثُمَّ يُعِيدُهُ ايضا على ما ينشئه في النشأة الاخرى إظهارا لكمال قدرته ومقتضى حكمته كي يظهر مصالح الإبداء والإبراز في النشأة الاولى ويلوح فوائد ما يترتب عليها في النشأة الاخرى يوم العرض والجزاء وَاهل(2/119)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
الأهواء والآراء الباطلة ينكرون الإعادة مع انه هُوَ اى الإظهار بعد الاعدام أَهْوَنُ وأسهل عَلَيْهِ سبحانه بالنسبة الى عقولهم السخيفة وأحلامهم الضعيفة من الإبداء والإبداع عن لا شيء وبلا سبق مادة وان كان نسبة قدرته وارادته سبحانه الى كل ما دخل تحت حيطة حضرة علمه وخبرته على السواء إذ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر وكرر النظر تكرارا هل ترى من فطور وفتور وقصور في مبدعات الحق ومخترعاته ما ترى البتة وَكيف تتفاوت دون قدرته الأشياء إذ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى واليد الطولى والتصرف التام والاقتدار العام الشامل لكل ما لاح عليه برق الوجود سواء كان فِي السَّماواتِ اى العلويات التي هي عالم الأسماء والصفات باعتبار التنزلات من مرتبة الاحدية والعماء الذاتي التي لا يسعها ادراك مدرك وخبرة خبير وَالْأَرْضِ اى السفليات التي هي عبارة عن عالم الهيولى والطبيعة القابلة لان تنعكس منها اشعة أنوار العلويات المتفاوتة حسب تفاوت الشئون والتطورات المترتبة على الأسماء والصفات المتخالفة المتكثرة بحسب التجليات الحبية الإلهية حسب الكمالات الذاتية المشتمل عليها الوجود المطلق وَكيف لا يكون له سبحانه المثل الأعلى إذ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في ذاته قد تفرد بوجوب الوجود ودوام البقاء المنيع فناء عز سرادقات سطوته وسلطنته عن وصمة الكثرة وسمة التعدد والحدوث وكذا عن شوب النقص والقصور مطلقا الْحَكِيمُ المتقن في عموم أفعاله وآثاره بالاستقلال حسب حيطة حضرة علمه المحيط بجميع وجوه الكمالات اللائقة لكل ذرة من ذرائر الكائنات لذلك قد
ضَرَبَ لَكُمْ سبحانه تبيينا وتنبيها مَثَلًا متخذا منتزعا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ايها المشركون المتخذون لله شركاء من مصنوعاته وعبيده إذ هي اقرب الأشياء إليكم وأوضحها عندكم هَلْ لَكُمْ ايها الأحرار المتصرفون بالاستقلال في منسوباتكم متصرف آخر سواكم سيما مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وحصلت من اكسابكم من العبيد والإماء الذين من جملة منسوباتكم وهل يصح ويجوز لمملوكاتكم ان يكونوا ويعدوا مِنْ شُرَكاءَ معكم يتصرفون أمثالكم فِي ما رَزَقْناكُمْ اى في أموالكم المنسوبة إليكم مثل تصرفكم بلا اذن منكم وبالجملة فَأَنْتُمْ ايها المالكون وكذا ما ملكت ايمانكم فِيهِ اى في التصرف والاحتياج الى الأموال سَواءٌ إذ هم أمثالكم فباىّ شيء تحتاجون اليه أنتم هم ايضا محتاجون اليه بلا تفاوت لكن أنتم تَخافُونَهُمْ وتحذرون منهم ان يتصرفوا في أموالكم واكسابكم بلا اذن منكم كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ اى كخوفكم من سائر الأحرار من بنى نوعكم يعنى تخافون أنتم على تضييع أموالكم منهم مثل خوفكم من احرار بنى نوعكم بل أشد من ذلك وبالجملة أنتم تخافون منهم ان تساووا معكم في التصرف في أموالكم فلذلك منعتموهم ولم ترضوا بتصرفهم وشركتهم معكم في حطام الدنيا فكيف ترضون أنتم لنا شركة عبيدنا ومخلوقاتنا بل أدونهم وأرذلهم سيما في أخص اوصافنا الذي هو الوهيتنا وربوبيتنا والتصرف في ملكنا وملكوتنا ايها الغافلون المسرفون المفرطون في علو شأننا والجاهلون بقدرتنا وقدر مكانتنا وبالجملة كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ اى دلائل توحيدنا وبراهين وحدتنا وتفردنا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستعملون عقولهم في تأمل الآيات والتدبر فيها على وجه العبرة والاستبصار فاعتبروا يا اولى الأبصار
بَلِ اتَّبَعَ الجاهلون الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالخروج عن مقتضيات الآيات الواضحة والبراهين اللائحة أَهْواءَهُمْ الباطلة وآراءهم الزائغة الزائلة مع ان اتباعهم بها بِغَيْرِ عِلْمٍ فائض عليهم من المبدأ الفياض بل عن جهل مركوز(2/120)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
في جبلتهم مركب مع طبيعتهم في اصل فطرتهم بمقتضى الشقاوة الازلية والغباوة الفطرية الجبلية وإذا كان الأمر على ذلك فَمَنْ يَهْدِي ويرشد مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وأراد ضلالهم وقد أثبته في لوح قضائه وحضرة علمه المحيط من جملة الضالين وزمرة الجاهلين وَما لَهُمْ بعد ما نفذ القضاء على شقاوتهم وضلالهم مِنْ ناصِرِينَ ينصرون ويرشدونهم الى سبيل الهداية وطريق السعادة والرشد وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل ان الهداية والضلال انما هو مفوض الى الكبير المتعال
فَأَقِمْ وَجْهَكَ فاستقم واعتدل بوجه قلبك الذي فاض عليك من ربك تتميما لتكميلك وتخليصك عن قيود بشريتك وأغلال طبيعتك لتصل به الى مقرك من التوحيد الذاتي الذي قد جبات لأجله لِلدِّينِ النازل لك من عند ربك تأديبا لك يا أكمل الرسل وتديينا لمن تبعك وإصلاحا لشأنك وشأن متابعيك حَنِيفاً اى حال كونك منصرفا مائلا من عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مطلقا واعلم يا أكمل الرسل ان فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وصبغتهم التي قد صبغهم بها اصلية جبلية لا تزول عنهم أصلا إذ لا تَبْدِيلَ ولا تغيير ولا تحويل لِخَلْقِ اللَّهِ الحكيم العليم وتقديره الذي قد قدره بمقتضى علمه وحكمته كما قال عز شأنه ما يبدل القول اى الحكم لدىّ ذلِكَ الدِّينُ المنزل عليك من ربك يا أكمل الرسل لوقاية الفطرية الاصلية المذكورة ورعاية لوازمها المساوية لها من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المرضية هو الدين الْقَيِّمُ والطريق الأعدل الأقوم الموصل الى توحيده سبحانه على الاستقامة بلا عوج وانحراف وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الغفلة والنسيان لا يَعْلَمُونَ حقيته ولا يفهمون استقامته فكيف إيصاله الى التوحيد فعليكم ايها المحمديون ان تتدينوا بدين الإسلام وتطيعوا بجميع ما فيه من أوامر الله ونواهيه
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين نحوه بالإخلاص التام وَاتَّقُوهُ واحذروا عن محارمه خائفين من انتقامه بالخروج عن مقتضيات حدوده ومع ذلك لا تقنطوا من وسعة رحمته وجوده وَبالجملة أَقِيمُوا الصَّلاةَ واديموا الميل نحوه في عموم أوقاتكم وحالاتكم سيما في الأوقات المكتوبة والساعات المحفوظة وَلا تَكُونُوا ايها المنيبون المتوجهون نحو الحق المتدينون بدين الإسلام مِنَ الْمُشْرِكِينَ المشركين له سبحانه غيره في حال من الأحوال ولا تنسبوا الحوادث الكائنة في ملكه وملكوته الى غيره من الاظلال والأسباب الهالكة المستهلكة في شمس ذاته مع كمال توحده واستقلاله في الوجود والتصرفات الواقعة في مظاهره مطلقا وبالجملة لا تكونوا ايها المحمديون المتدينون بالدين النازل من عند الله لحفظ فطرتكم الاصلية التي هي التوحيد الذاتي
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ الوحدانى الذي هو وقاية توحيدهم فرقا مختلفة وابتدعوا فيه مذاهب متفاوتة متخالفة فتشعبوا شعبا كثيرة وَكانُوا شِيَعاً يعنى هم بسبب هذا الاختلاف والافتراق قد صاروا شيعا وأحزابا كثيرة يشايع ويروج كُلُّ حِزْبٍ وشيعة منهم بِما لَدَيْهِمْ وبما هو عندهم من المذهب المستبدع المستحدث من تلقاء نفوسهم فَرِحُونَ مسرورون مدعون كل منهم حقية ما هم عليه من الباطل الزائع الزائل حمية وغيرة عليه بلا سند عقلي وشرعي. ثم أشار سبحانه الى ما حداهم وأغراهم على هذا الزيغ والضلال من الخصلة الذميمة المركوزة في جبلتهم فقال
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ المجبولين على الكفران والنسيان ضُرٌّ اى شدة وبلاء ومصيبة وعناء يزعجهم الى الدعوة والتوجه نحو الحق لكشفه وتفريجه دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ مائلين عن الأسباب العادية مطلقا مسترجعين نحوه عن محض الندم والإخلاص ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ اى(2/121)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
من الحق يعنى بعد ما أنجاهم وأخلصهم من الضر المزعج ومن آثاره ولوازمه المستتبعة رَحْمَةً خلاصا لهم وعطفا إياهم ناشئا من لدنه سبحانه بمقتضى اللطف والجمال إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ اى فاجأ فريق منهم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ اى يشركون بربهم وينسبون الكشف والتفريج الى الأسباب والوسائل العادية بل الى ما اتخذوها وأخذوها من دون الله من الآلهة الباطلة التي اعتقدوها شفعاء ينقذونهم عن أمثاله عدوانا وظلما وانما فعلوا ذلك ونسبوا ما نسبوا الى الاظلال الباطلة
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وأعطيناهم من النعم العظام والفواضل الجسام ولم يشكروا لها وما ذلك الا من خبث طينتهم وتركب جهلهم المركوز في جبلتهم قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا فَتَمَتَّعُوا ايها الكافرون لنعمنا وفواضل لطفنا وكرمنا وتعيشوا بها بطرين مسرورين هكذا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتعكم وكفرانكم وما يترتب عليهما من انواع العذاب والنكال إذ سيأتى عليهم زمان يعترف كل منهم جميع ما جرى عليه من الكفران والعصيان وقت رؤيتهم احوال الكافرين واهوالهم في النار
أَمْ أَنْزَلْنا يعنى بل قد أنزلنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً ملكا ذا سلطنة وسطوة فَهُوَ يَتَكَلَّمُ معهم ويذكرهم بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ اى بجميع ما صدر عنهم من الشرك والكفران وانواع الفسوق والعصيان بلا فوت شيء منها فنجازيهم حينئذ بمقتضى ما اعترفوا
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً وأعطيناهم نعمة وسعة في الرزق وصحة في الجسم على الترادف والتوالي فَرِحُوا بِها وافرطوا في السرور الى ان بطروا وباهوا مفتخرين بما عندهم من الأسباب وَإِنْ تُصِبْهُمْ أحيانا سَيِّئَةٌ مثل جدب وعناء ومصيبة وبلاء تسؤهم مع انه انما أصابهم ما أصابهم بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وبشؤم ما اقترفوا من المفاسد والمعاصي الموجبة للبطش والانتقام فانتقمناهم لذلك إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ يعنى فاجؤا حين البأس على اليأس والقنوط منا بحيث لا يتوجهون إلينا لكشفها وتفريجها بل لا يعتقدون قدرتنا على كشفها ورفعها مع انهم قد جربوا كشفنا عنهم مرارا وتفريجنا إياهم تكرارا
أَينكرون قدرتنا أولئك المنكرون المفرطون وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على انواع اللطف والكرم كيف يَبْسُطُ ويفيض الرِّزْقَ الصوري والمعنوي لِمَنْ يَشاءُ بسطه إياه وَكيف يَقْدِرُ ويقبض عمن يشاء قبضه عنه حسب حكمته المتقنة إِنَّ فِي ذلِكَ القبض والبسط لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بتوحيد الحق وبكمالات أسمائه وأوصافه الذاتية الكاملة الجارية آثارها على مقتضى الحكمة والعدالة الإلهية المعبر عنها بالصراط القويم والقسطاس المستقيم وبعد ما قد أشار سبحانه الى بسط الرزق على من يشاء وقبضه عمن يشاء ارادة واختيارا أراد ان يشير الى مصارفه فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو جدير بأمثال هذه الخطابات العلية الإلهية
فَآتِ وأعط يا أكمل الرسل من فواضل ما رزق لك من النعم ذَا الْقُرْبى المنتمين إليك من قبل أبويك حَقَّهُ اى ما يليق به وبحفظه ورعاية غبطته فهم اولى وأحق بالرعاية من غيرهم وَبعد أولئك فالاولى بالرعاية الْمِسْكِينَ وهو الذي قد اسكنه الفقر في هاوية الهوان وزاوية الحرمان وَبعده ابْنَ السَّبِيلِ وهم الذين فارقوا عن الأموال والأوطان والأقران والخلان والاخوان بأسباب قد أباحها الشرع لهم ذلِكَ الصرف المذكور والانفاق المأمور خَيْرٌ في الدنيا والآخرة لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ بأموالهم وصرفها وَجْهَ اللَّهِ وابتغاء مرضاته وخوضا في مواظبة(2/122)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
شكره أداء لحق شيء من جلائل نعمه وفواضل كرمه وَبالجملة أُولئِكَ الباذلون أموالهم في سبيل الله على الوجه الذي أمرهم الحق به هُمُ الْمُفْلِحُونَ المقصورون على الفوز والفلاح من عنده سبحانه. ثم أشار سبحانه الى احوال الجهلة الذين قد بذلوا أموالهم لطلب الجاه والثروة والرياء والسمعة وازدياد مال صديقه بلا ارادة وجه الله وابتغاء رضوانه وطلب الثواب منه بل لمجرد الكبر والخيلاء فقال
وَما آتَيْتُمْ وأعطيتم مما عندكم مِنْ رِباً اى زيادة حاصلة من أموالكم بطريق الربا انما أعطيتم وآتيتم ايضا لِيَرْبُوَا ويزيد فِي أَمْوالِ النَّاسِ مكافاة لهم أو نية فاسدة اخرى بلا امتثال امر الله وطلب مرضاته فَلا يَرْبُوا يعنى فاعلموا انه لا يزيد لكم صرفكم هذا عِنْدَ اللَّهِ شيأ من الثواب بل لا يقبل صرفكم هذا عنده سبحانه أصلا لفساد اغراضكم ونياتكم فيها وَاما ما آتَيْتُمْ وأعطيتم للفقراء الفاقدين وجه المعاش مِنْ زَكاةٍ قد فرضها سبحانه عليكم امتثالا لأمره واطاعة لدينه على الوجه الذي أمرتم به مع انكم تُرِيدُونَ وتقصدون بإخراجها وصرفها وَجْهَ اللَّهِ ومحض رضاه بلا خلط شيء من أماني اهويتكم وتسويلات امارتكم معها فَأُولئِكَ الفاعلون للزكاة على الوجه المذكور المأمور هُمُ الْمُضْعِفُونَ عند الله ثوابها الى سبعين بل الى سبع مائة بل الى ما شاء الله عناية من الله وإفضالا لهم وكيف لا تطلبون ولا تقصدون بخيراتكم وصدقاتكم خالص وجه الله وتشركون معه غيره من التماثل والاظلال الهالكة الباطلة العاطلة إذ
اللَّهُ المتوحد المتفرد في ذاته القادر المقتدر الحكيم العليم الَّذِي خَلَقَكُمْ وأظهركم أولا من كتم العدم ولم تكونوا شيأ مذكور الا بالقوة ولا بالفعل ثُمَّ بعد ما أظهركم في بيداء الوجود رَزَقَكُمْ وأنعم عليكم من انواع النعم ليربيكم بها على مقتضى اللطف والكرم ثُمَّ بعد ما انقضى الأجل المسمى عنده لبقائكم في النشأة الاولى يُمِيتُكُمْ بمقتضى قهره وجلاله تتميما لقدرته الكاملة الغالبة ثُمَّ بعد ما انقرض النشأة الاولى المعدة لانواع الابتلاءات والاختبارات الإلهية المتعلقة لحكمة اظهاركم وايجادكم في عالم الكون والفساد لتتزودوا فيها من المعارف والحقائق والاتصاف بالأخلاق الإلهية لنشأتكم الاخرى يُحْيِيكُمْ فيها للعرض والجزاء وتنقيد ما اقترفتم من الأعمال والأحوال في النشأة الاولى لتجازوا بها على مقتضاها فيها وبعد ما سمعتم ما سمعتم تأملوا وتدبروا منصفين ايها المشركون بالله المتوحد المتفرد المستقل في التصرفات الواقعة في ملكه غيرة منه وحمية لحمى قدس ذاته من ان يحوم حول سرادقات عزه وجلاله شائبة فتور وقصور وإذا سمعتم نبذا من خواص أوصافه سبحانه تأملوا هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الذين قد ادعيتم أنتم شركتهم مع الله القادر على أمثاله بالاستقلال والاختيار مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ الذي قد سمعتم صدوره منه سبحانه بل قد رأيتم وابصرتم طول عمركم في الآفاق وفي انفسكم مِنْ شَيْءٍ حقير قليل كلا وحاشا ان يصدر شيء من الأشياء من غيره سُبْحانَهُ بل هو في ذاته منزه عن شوب الشركة والمظاهرة مطلقا وَتَعالى شأنه عَمَّا يُشْرِكُونَ أولئك المشركون المسرفون علوا كبيرا ومن غاية جهلهم بالله وغفلتهم من علو قدره وسمو مكانته قد
ظَهَرَ الْفَسادُ وانواع البليات والمصيبات الواقعة فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من الجدب والعناء والزلزلة والوباء والحرق والغرق وانواع الضلالات الواقعة في السفن الجارية مع ان اصل الظهور والبروز باعتبار الفطرة الاصلية على العدالة والاستقامة وما ظهر عموم ما ظهر من الانحرافات والانصرافات المنافية لصرافة الاعتدال الحقيقي الإلهي الا بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ وبشؤم ما اقترفوا من الكفر والكفران والفسوق والعصيان والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة(2/123)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
على الاعتدال والقسط القويم والحكمة في صدور هذه الانحرافات والفسادات عنهم مع انها انما صدرت عنهم باقدار الله إياهم وتمكينه لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا اى يذيق لهم العليم الحكيم في الدنيا وبال بعض أعمالهم الفاسدة ويبقى بعضها في الآخرة ليستوفيها فيها وانما يذيقهم سبحانه نبذا منها عاجلا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ رجاء ان يرجعوا اليه بعد ما ذاقوا ما ذاقوا من انواع المحن والشدائد وان أنكر هؤلاء المشركون أذاقتنا العذاب لأمثالهم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا سِيرُوا فِي الْأَرْضِ المعدة لانواع الكون والفساد فَانْظُرُوا نظر معتبر منصف ومتأمل مستبصر ليظهر عندكم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلُ مع انهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ أمثالكم مشاركين معكم في الشرك والكفر وانواع الفسوق والعصيان وبعد ما قد أشار سبحانه الى وخامة عاقبة اصحاب الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة من المنحرفين عن جادة الاستقامة المنصرفين عن سبيل السلامة امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالإقامة والاستقامة في منهج العدالة التي هي دين الإسلام الناسخ لعموم الأديان الباطلة والآراء الزاهقة الزائلة فقال
فَأَقِمْ وَجْهَكَ فاستقم وتوجه واعتدل يا أكمل الرسل بوجه قلبك الذي هو يلي الحق لِلدِّينِ الْقَيِّمِ المنزل من عنده سبحانه على الاستقامة والعدالة تفضلا عليك وامتنانا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ ويحل عليك يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ اى لا يرد فيه ما نفذ من القضاء المبرم إذ إتيانه انما هو مِنَ اللَّهِ العليم الحكيم على هذا الوجه إذ لا استكمال ولا رجوع حينئذ ايضا ولا ينفع الطاعة والعبادة حين حلوله بل يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ اى يتفرق الناس فرقا ويتحزبون أحزابا بمقتضى ما كانوا عليه في نشأة الاختبار والابتلاء
مَنْ كَفَرَ فيما مضى فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ اى وبال كفره وفسقه ملازم معه يدخله في النار ويخلده مهانا وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فيما مضى فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ يعنى فهم بايمانهم وعملهم الصالح يمهدون ويبسطون لأنفسهم منزلا ومهادا في الجنة هم فيها خالدون والسر في قيام الساعة وتعاقب النشأة الاخرى
لِيَجْزِيَ سبحانه المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا به سبحانه وأيقنوا بوحدة ذاته وبجميع ما جاء من عنده سبحانه على رسله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عنده امتثالا لما أمروا به على ألسنة رسله مِنْ فَضْلِهِ اى يجزيهم من محض فضله ولطفه معهم ومحبته إياهم بأضعاف ما استحقوا بأعمالهم وايمانهم ويجزى الكافرين ايضا بمقتضى عدله بمثل ما اقترفوا من الكفر والشرك والظلم والضلال إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والضلال سيما بعد إرساله سبحانه إليهم من يصلحهم ويهديهم الى صراط مستقيم فكذبوه وأنكروا له عنادا واستكبارا
وَمِنْ جملة آياتِهِ سبحانه الدالة على كمال رأفته ورحمته للمؤمنين المتحققين بمرتبة التوحيد المتمكنين بمقر الوحدة الذاتية أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ المشتملة لانواع الروح والراحة المهبة من نفحات النفسات الرحمانية لتعرضوا لها وتستنشقوا منها فيضان آثار اللطف والجمال مع كونها مُبَشِّراتٍ لمزيد فضله وطوله ونزول انواع رحمته وجوده وَلِيُذِيقَكُمْ ويفيض عليكم مِنْ سعة رَحْمَتِهِ ما ينجيكم ويخلصكم من لواز بشريتكم وناسوتكم وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ اى سفن تعيناتكم الجارية في بحر الوجود بِأَمْرِهِ وعلى مقتضى ارادته ومشيته وَلِتَبْتَغُوا وتطلبوا بعد ما فوضتم أموركم كلها اليه واتخذتموه وكيلا مِنْ موائد فَضْلِهِ وإحسانه وعوائد كرمه وجوده ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَانما فعل معكم سبحانه هذه الكرامات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تشكروا نعمه وتفوزوا بمزيد كرمه(2/124)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
وتحققوا بمقام معرفته وتوحيده الذي قد جبلتم لأجله. ثم قال سبحانه مقسما تسلية لرسوله وازالة لهمه وحزنه العارض له من تكذيب الجهلة المسرفين المشركين بالله إياه المستهزئين معه جهلا وعنادا
الله قَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
يا أكمل الرسل سُلًا
مبشرين ومنذرين لى قَوْمِهِمْ
الذين قد ظهرت عليهم امارات الكفر والطغيان وعلامات الظلم والعدوان جاؤُهُمْ
مؤيدين من عندناالْبَيِّناتِ
الواضحة والمعجزات اللائحة ففاجأوا على تكذيبهم عنادا واستكبارا بلا تأمل وتدبر منهم في آياتهم وبيناتهم انْتَقَمْنا
بمقتضى قهرنا وجلالنانَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
بالجرائم العظام سيما تكذيب الرسل الكرام عليهم التحية والسلام
كيف لا ننتقم عنهم بتكذيبهم رسلنا مع انه قدانَ حَقًّا عَلَيْنا
حسب لطفنا حتما لازما ثبت في لوح قضائنا وحضرة علمناصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
اى نصر الرسل والمؤمنين بهم وتغليبهم على الكافرين بعد ما امتثلوا باوامرنا واجتنبوا عن نواهينا وبلغوا جميع ما امرناهم واوحيناهم الى من أرسلناهم فكذبوهم ولم يقبلوا منهم أولئك البعداء المنكرون المسرفون وحى الحق إياهم والهامه عليهم مع انه
اللَّهُ الجامع لجميع مراتب الأسماء والصفات الكاملة الظاهرة المتجلى على مقتضاها بالاستقلال ارادة واختيارا هو القادر المقدر الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ المنتشئة من محض فضله وجوده بلا سبق سبب يوجبها وعلة تقتضيها على ما جرى عليه عادته سبحانه في سائر الموجودات فَتُثِيرُ وتحرك أجزاء البخار والدخان وتمزج بعضها مع بعض فتركمها وتكشفها حتى صارت سَحاباً هامرا فَيَبْسُطُهُ سبحانه فِي جو السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ عرضا وطولا سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق الى غير ذلك من الأوضاع الممكنة الورود عليه وَبعد ما مهده سبحانه وبسطه يَجْعَلُهُ كِسَفاً وقطعا مختلفة فَتَرَى ايها المعتبر الرائي الْوَدْقَ والمطر يَخْرُجُ ويفيض مِنْ خِلالِهِ فتوقه ومنافذه بعد ما قد تكون فيه بقدرة الله من اجتماع أجزاء الابخرة والادخنة المتصاعدة الممتزجة المتراكمة المتكاثفة المتفاعلة بعضها مع بعض الى ان صارت ماء فتقطر وتسيل فَإِذا أَصابَ بِهِ اى بالماء مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ اى أراضيهم ومزارعهم منا منه سبحانه إياهم وتفضلا عليهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يعنى هم قد فاجؤا بنزوله الى انواع البشارة والابتهاج واظهار الفرح والسرور متفألين بنزوله الى الخصب والرخاء وانواع البهجة والصفاء
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل ثوران الابخرة والادخنة وانعقاد السحب وتراكمها منها لَمُبْلِسِينَ آيسين قانطين لطول عهد عدم نزوله إياهم وامتداد مدة حبسه عنهم
فَانْظُرْ ايها المؤمن المعتبر الناظر بنور الله إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ والى كمال فضله وجوده كَيْفَ يُحْيِ ويخضر الْأَرْضَ سيما بَعْدَ مَوْتِها اى جمودها ويبسها وعدم نضارتها ونزاهتها ويظهر عليها انواع الازهار والأثمار عناية منه سبحانه لعباده وفضلا لهم ليتزودوا بها ويسلكوا سبيل هدايته وتوحيده إِنَّ ذلِكَ القادر المقتدر بالإرادة التامة والاختيار الكامل لَمُحْيِ الْمَوْتى في الحشر والجزاء ومخرجها البتة من قبورهم وقت تعلق ارادته باحيائهم وَكيف لا هُوَ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة حضرة علمه وارادته قَدِيرٌ على الوجه الأتم الأكمل بلا فتور ولا قصور
وَمن عدم رسوخهم في الدين القويم وقلة تثبتهم على الصراط المستقيم لَئِنْ أَرْسَلْنا عليهم رِيحاً فَرَأَوْهُ اى ما هبت عليه من الزروع مُصْفَرًّا من أثرها بعد ما كان مخضرا يعنى لا تربى زروعهم ولا تنميها بل تضعفها وترديها(2/125)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
مع ان اضرارها واصفرارها ايضا انما هو بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ وصاروا بعد ما أبصروا اضرارها واصفرارها ايضا يَكْفُرُونَ بالله وبنعمه وينكرون بعموم فضله وكرمه مع ان أخذهم بالبأساء والضراء انما هو لأجل ان يتضرعوا نحوه ويلتجئوا اليه منيبين خاشعين خاضعين ليكشف عنهم ما يضرهم إذ لا كاشف الا هو ولا منجى لهم سواه وبالجملة هم في أنفسهم من خبث طينتهم وجمود قريحتهم أموات حقيقة ومعنى وان كانوا من الأحياء صورة فعليك ان لا تبالي يا أكمل الرسل بهم وبشأنهم ولا تجتهد الى هدايتهم وتكميلهم
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى اى ليس في وسعك وطاعتك إسماع الموتى بل ما عليك الا الدعوة والتبليغ وَلا تُسْمِعُ ايضا الصُّمَّ الجبلي الدُّعاءَ والدعوة سيما إِذا وَلَّوْا وانصرفوا عنه مُدْبِرِينَ معرضين منكرين لك مكذبين رسالتك ودعوتك
وَكيف تجتهد أنت وتسعى يا أكمل الرسل في تحصيل ما هو خارج عن وسعك وطاقتك مع انك لا تؤمر به من لدنا إذ ما أَنْتَ باستبدادك واستقلالك بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إذ هم مجبولون على الغواية الجبلية في اصل فطرتهم فاقدون بصائر قلوبهم المدركة بها دلائل التوحيد وشواهد الوحدة الذاتية ولا يتأتى لك ان تهديهم الى طريق التوحيد وترشدهم اليه إِنْ تُسْمِعُ بتبليغك وارشادك وما تهدى أنت بسعيك واجتهادك إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا ونحن نوفقهم على الايمان من لدنا بمقتضى ما ثبت وجرى في لوح قضائنا وحضرة علمنا فَهُمْ بعد ما سبقت العناية منا إياهم مُسْلِمُونَ منقادون لك مسلمون منك جميع ما بلغت لهم من شعائر الدين ودلائل التوحيد واليقين. ثم قال سبحانه على سبيل الامتنان إظهارا لكمال قدرته على إبداء الشئون والتطورات الواردة على عباده حسب تعاقب الازمنة والأوقات في النشأة الاولى فكيف ينكرون إعادتها في النشأة الاخرى مع ان الإعادة أهون من الإبداء وان كان الكل في جنب قدرته على السواء
اللَّهُ القادر المقتدر الحكيم المتقن في عموم أفعاله وأحكامه العليم بمقتضاها هو القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَكُمْ وقدر وجودكم بعد ما أراد ابداعكم من كتم العدم وايجادكم في عالم الطبيعة والهيولى مِنْ ضَعْفٍ هو ماء النطفة الضعيفة المهينة ثُمَّ جَعَلَ صير وخلق وقدر مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ كائن في نشأة النطفة قُوَّةً جسمانية متزايدة مستكملة فيها يوما فيوما الى ان قد بلغت كمال القوة والشباب ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ كائنة في عالم الشباب ضَعْفاً وانحطاطا وَشَيْبَةً مضعفة طارية لعموم القوى والآلات منتهية الى الهرم الذي قد عبر عنه سبحانه بارذل العمر كيلا يعلم صاحبه من بعد علمه شيأ وبالجملة يَخْلُقُ ويظهر سبحانه عموم ما يَشاءُ ويقضى ويحكم جميع ما يريد ارادة واختيارا وَكيف لا هُوَ الْعَلِيمُ بجميع ما أحاطت عليه ارادته ومشيته الْقَدِيرُ المقتدر لإيجاده وإظهاره في فضاء العيان بلا فتور وقصور ونقصان وفطور
وَكيف ينكر من ينكر الحشر والنشر واعادة الموتى احياء سيما بعد مشاهدة هذه التطورات المترادفة والنشآت المتخالفة المتعاقبة اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ الموعودة المعدة لحشر الأموات من الأجداث يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ويحلف حينئذ كل منهم عند صاحبه بمدة لبثهم في الدنيا مترفهين متنعمين واتفقوا بعد ما اختلفوا وترددوا كثيرا في مكثهم فيها على انهم ما لَبِثُوا فيها غَيْرَ ساعَةٍ واحدة بالنسبة الى طول يوم القيامة وبالجملة من شدة عذاب يوم القيامة وصعوبة أهوالها وكثرة الهموم والأحزان فيها صار لبثهم في الدنيا ومدة اعمارهم فيها ساعة واحدة(2/126)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
عندهم بل بعضهم قد تخيلوا اقصر منها كَذلِكَ اى مثل ترددهم وانصرافهم عن طول مدة مكثهم في الدنيا في يوم القيامة قد كانُوا يُؤْفَكُونَ يترددون وينصرفون في النشأة الاولى عن طريق التوحيد وسبيل الهداية والرشد من كمال غفلتهم وقسوتهم وَبعد ما سمع منهم المؤمنون الموحدون استقصارهم مدة لبثهم فيها وانصرافهم عن الحق
قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني من قبل الحق وَالْإِيمانَ بالمغيبات التي قد أمروا بتصديقها على ألسنة الرسل والكتب سيما يوم البعث والنشور ردا عليهم وتخطئة لهم لَقَدْ لَبِثْتُمْ في الدنيا بمقتضى ما ثبت فِي كِتابِ اللَّهِ ولوح قضائه وحضرة علمه المحيط إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ وحشر الموتى وقيام الساعة فَهذا اليوم الذي أنتم فيه معذبون الآن يَوْمِ الْبَعْثِ الموعود لكم في الدنيا على ألسنة الرسل والكتب وَلكِنَّكُمْ من خبث طينتكم وجهلكم قد كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ولا تؤمنون به ولا تصدقون قيامه بل تنكرونها وتكذبون من اخبر بها من الرسل العظام مع انهم مؤيدون من قبل الحق بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة والمعجزات الباهرة الظاهرة وبالجملة هم بعد ما قد فوّتوا الفرص في دار الاختبار وضيعوا عين العبرة فيها
فَيَوْمَئِذٍ اى حين قيام الساعة وانقضاء ايام التفقد والتدارك لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالخروج عن حدود الله والعرض على عذابه مَعْذِرَتُهُمْ وعذرهم ليعتذروا من قصورهم ويتوبوا عن فتورهم متداركين لما فوتوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ولا يطلب منهم العتبى ولا يسمع منهم المعذرة حتى يزول عتابهم بالتوبة والانابة والندم والرجوع إذ قد انقضى نشأة الابتلاء والاختبار فحينئذ لا يقبل منهم التوبة والعبادة أصلا. ثم قال سبحانه على سبيل التأكيد والمبالغة مشيرا الى كمال قسوة اهل الزيغ والضلال
وَلَقَدْ ضَرَبْنا وبيّنا لِلنَّاسِ الناسين طريق الوصول الى توحيدنا ووحدة ذاتنا فِي هذَا الْقُرْآنِ المنزل من عندنا لنبين طريق توحيدنا وسلوك سبيل الاستقامة والرشد مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ينبئ لهم عنه وينبههم عليه ويبين لهم كيفية التنبه والتفطن منه ومع ذلك لم يتنبهوا ولم يتفطنوا الا قليلا منهم وَمن غلظة غشاوتهم ونهاية غفلتهم وضلالهم لَئِنْ جِئْتَهُمْ يا أكمل الرسل بِآيَةٍ من آيات القرآن ملجئة لهم الى الايمان لو تأملوا معناها وتدبروا فحواها لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن الحق وانصرفوا عن توحيده والايمان به على سبيل الحصر والمبالغة بلا مبالاة لهم بك وبآياتك إِنْ أَنْتُمْ وما كنتم في دعواكم هذه ايها المدعون الكاذبون يعنون الرسول والمؤمنين إِلَّا مُبْطِلُونَ مفترون مزورون تفترون على الله ما تختلقونه من تلقاء انفسكم تغريرا وترويجا
كَذلِكَ اى مثل طبعهم وختمهم الذي قد شهدت يا أكمل الرسل من هؤلاء الجهلة يَطْبَعُ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله ويختمه عَلى قُلُوبِ عموم الكفرة والجهلة الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الحق ولا يذعنون به لتركب جهلهم في جبلتهم والجهل المركب لا يزول بالقواطع والشواهد قطعا ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور ومتى سمعت يا أكمل الرسل من أحوالهم وأوضاعهم ما سمعت من عدم قابليتهم واستعدادهم الى الهداية والرشد
فَاصْبِرْ على أذاهم وثق بالله وبوعده الذي قد وعدك بان يظهر دينك على الأديان كلها إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ وإنجازه لما وعد به حَقٌّ بلا خلف وتردد وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ ولا يحملنك ولا يبعثنك يا أكمل الرسل على الخفة والاضطراب وقلة التصبر وعدم الثقة بالله القوم الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ولا يتصفون باليقين في امر من الأمور أصلا فكيف بالمعارف والحقائق الإلهية إذ هم مجبولون على فطرة الضلال مترددون في بيداء الوهم والخيال لا نجاة(2/127)
لهم منها في حال من الأحوال. هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن مضيق الجهل والضلال وتوصلنا الى سعة العلم وفضاء الوصال نحمدك على كل حال ونستعيذ بك منك ومن جميع الأهوال
خاتمة سورة الروم
عليك ايها المحمدي المتحقق بمراتب اليقين العلمي والعيني والحقي مكنك الحق في مقر لاهوتك وجنبك عن لوازم ناسوتك مطلقا ان تتصبر على اذيات اصحاب التقليدات والتخمينات وتتحمل على تشنيعات ارباب الظنون والجهالات المترددين في تيه الجهل والضلال بمتابعة الوهم والخيال وتصفى خاطرك وضميرك عن معارضتهم ومقابلتهم والبغض معهم والالتفات إليهم مطلقا إذ هم قوم قد خذلهم الله واحطهم عن الرتبة الانسانية التي هي التحقق بمقام اليقين والعرفان والتمكن على مرتبة الخلافة والنيابة من الرحمن المستعان والتخلق بخلق الحنان المنان وأسكنهم في مضيق الإمكان مقيدين بسلاسل التقليد وأغلال الحسبان لا نجاة لهم منها ابدا وعليك ان تتوجه بوجه قلبك الى ربك وتفوض أمورك كلها اليه وتتخذه وكيلا وتجعله حسيبا وكفيلا فانه سبحانه يكفيك ويكف عنك مؤنة شرور أعدائك وحاسديك ولك التبتل والانقطاع الى الله في كل الحالات والرجوع نحوه في عموم المهمات والملمات إذ ما من خير يسرك ويفرحك وشر يؤلمك ويضرك إلا منه بدأ وبقدرته ظهر وعلى مقتضى علمه صدر وبموجب حكمته جرى وقدر فلك ان تسترجع اليه وتتضرع نحوه وتستعيذ به منه إذ الكل من عنده لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم
[سورة لقمان]
فاتحة سورة لقمان
لا يخفى على من تحقق بالمرتبة الحكمية العلية من مقامات مسالك التوحيد وتمكن عليها مطمئنا راضيا مداوما على الميل المعنوي والتوجه التام بعموم الجوارح والأركان نحو الحق مسقطا عن نفسه جميع ما يشغله عن التوجه والالتفات الى المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي على الوجه الأتم الأكمل ان الوصول والتحقق بمرتبة التوحيد والهداية الحقيقية الحقية والتمكن في مقر الاطمئنان واليقين والنيل الى شرف الفناء في الله والبقاء ببقائه انما يحصل برفع الموانع ورفض الرسوم والعادات العائقة عن ادراك السعادات ونيل المرادات وذلك لا يتم الا بعد نزع خلعة الناسوت مطلقا وترك مقتضيات الأوصاف البشرية والقوى الجسمانية رأسا وذلك لا يتيسر الا بارتكاب متاعب الطاعات ومشاق التكليفات القاطعة القالعة عرق التعلقات المرتكزة في القوى البشرية واصول اللذات الوهمية اللازمة للنفوس البهيمية والهياكل الهيولانية المستحدثة من خبث الطبيعة المكدرة بادناس الإمكان المفضى بالطبع الى الدناءة والنقصان وانواع الخساسات والخسران والخلاص عن أمثال هذه الموانع والشواغل العائقة لا يتيسر ولا يحصل الا بتوفيق الله وجذب من جانبه وارشاد مرشد نبيه مؤيد من عنده سبحانه بالدلائل والتنبيهات وانواع المعجزات والتبيينات الخارقة للعادات ولهذه المصلحة العلية والحكمة السنية خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب بعد ما تيمن بذكره الأجل الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي انشأ ينابيع الحكمة في قلوب أنبيائه وأوليائه واجرى على ألسنتهم انهار المعارف والحقائق المنتشئة منها إرشادا لعموم عباده الرَّحْمنِ عليهم بإرسال الرسل المؤيدين من عنده بنزول(2/128)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
الكتب والصحف تتميما لمكارم أخلاقهم ومحاسن أطوارهم وشيمهم ليستعدوا لقبول دلائل التوحيد ونزول سلطان الوحدة على قلوبهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى مبدئهم الأصلي ومنشئهم الحقيقي بعد رفع تعيناتهم ونفى هوياتهم الباطلة
[الآيات]
الم ايها الإنسان الأكمل الأليق لفيضان لوامع لطائف أنوار الوجود الإلهي ولوائح آثار جوده المكرم المؤيد من عنده بمزيد اللطف والكرم الممتاز المتخلص من بين عموم مظاهره بالمرتبة الجامعة المستجمعة لجميع المراتب العلية
تِلْكَ الآيات المتلوة عليك يا أكمل الرسل امتنانا لك واختصاصا بشأنك آياتُ الْكِتابِ اى نبذ من آيات الكتاب الْحَكِيمِ المشتمل على الحكمة المتقنة المنبعثة عن اجتماع القدرة الكاملة والارادة الخالصة المترتبتين على العلم الكامل الإلهي الذي لا يغيب عن حضرة حضوره ذرة من ذرائر ما لاحت عليه شمس الوجود ولجمعيته وشموله وصدق نزوله من عند الله قد اتصف بوصفه سبحانه تأكيدا ومبالغة ولكونه نازلا من عنده سبحانه بمقتضى الحكمة البالغة لتأييد أكمل الرسل المبعوث الى كافة الأمم قد صار
هُدىً عاما ورشدا تاما كله للممتثلين بما فيه من الأوامر والنواهي والاحكام والقصص والتذكيرات والعبر والرموز والإشارات وَرَحْمَةً خاصة نازلة من عنده سبحانه لِلْمُحْسِنِينَ الذين لا يرون غير الله في الوجود ولا يعبدون سواه من الوسائل ولا ينسبون الحوادث الكائنة في الآفاق الى الأسباب العادية والمحسنون المرضيون عند الله الراضون بما جرى عليهم من نفوذ القضاء هم
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويواظبون عليها في جميع أوقاتهم وحالاتهم سيما الأوقات المحفوظة المكتوبة وَيُؤْتُونَ وينفقون جميع ما في أيديهم من الرزق الذي يسوق الحق إليهم في سبيله طلبا لمرضاته سيما الزَّكاةَ المفروضة عليهم من عنده سبحانه تزكية لظواهرهم عن التفات الى ما يشغلهم عن الحق وَمع ذلك لا يقتصرون أولئك السعداء المقبولون بتهذيب الظاهر والباطن بل هُمْ بِالْآخِرَةِ المعدة لتنقيد الأعمال وجزاء الأفعال هُمْ يُوقِنُونَ علما وعينا وحقا وبالجملة
أُولئِكَ السعداء المتصفون بالخصائل السنية والأخلاق المرضية عَلى هُدىً صريح صحيح فائض نازل إياهم مِنْ رَبِّهِمْ تفضلا عليهم وامتنانا لهم وَأُولئِكَ الأمناء المقبولون المرضيون عند الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ المقصورون على الفوز والفلاح لا خوف عليهم ولا هم يحزنون جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم
وَمِنَ النَّاسِ المجبولين على كفران نعم الله ونسيان حقوق كرمه وجوده مَنْ يَشْتَرِي ويستبدل آيات الكتاب المشتمل على انواع الفضائل والكمالات واصناف الهدى والكرامات لَهْوَ الْحَدِيثِ اى يستبدل الآيات الإلهية ويختار بدلها من الأراجيف الكاذبة ما يلهى النفوس ويشغلها عما يعنيها ويقربها الى ما لا يعنيها بل يضرها ويرديها وما ارتكب ذلك الضال المضل بما ارتكب من الاشتراء والاستبدال الفاسد الا لِيُضِلَّ ويصرف عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ من يميل اليه ويتوجه نحوه ليتدين بدين الله وينقاد لنبيه على مقتضى الفطرة الاصلية مع انه قد صدر عنه هذا الصرف والمنع رغبة ورضاء من تلقاء نفسه بِغَيْرِ عِلْمٍ يتعلق به نقلا او عقلا بل عن جهل مرتكز في جبلته وحميته مركوزة في خبث طينته وخسة طبيعته وَبسبب ذلك الجهل الجبلي يَتَّخِذَها اى الآيات الموصلة الى طريق الحق وتوحيده هُزُواً اى محل استهزاء وسخرية لجهله وغفلته عن السرائر المودعة فيها والحكم المكتومة في مطاويها والأسرار المكنونة في فحاويها أُولئِكَ البعداء المجبولون على الغواية والضلالة أصلا وفرعا تابعا ومتبوعا لَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ مُهِينٌ(2/129)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
يهينهم فيها بدل ما استهانوا بكتاب الله واستهزؤا برسله ظلما وزورا بلا تدرب وتدبر
وَمن شدة شكيمته وبغضه بالله ورسوله وكتابه ونهاية عتوه وعناده إِذا تُتْلى عَلَيْهِ وقرئ عنده آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وَلَّى عنها واعرض عن استماعها وانصرف عن قبولها حال كونه مُسْتَكْبِراً عليها متجافيا كشحه عنها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها مع انها تتلى عليه مرارا قصدا لاستماعه ولم يلتفت إليها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً صمما يعوقه عن السماع والاستماع فَبَشِّرْهُ يا أكمل الرسل بعد ما اعرض عن كتاب الله واستنكف عن استماعه واصغائه مستحقا عليه مستحقرا إياه بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم في غاية الشدة والألم ثم عقب سبحانه وعيد الكفرة الهالكين في تيه الغي والضلال بوعد المؤمنين بمقتضى سنته المستمرة فقال
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله وصدقوا رسله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المرضية له سبحانه المقبولة عنده بمقتضى ما نزل عليهم من الآيات الواردة من لدنه سبحانه إياهم المصفية لظواهرهم وبواطنهم لَهُمْ في النشأة الاخرى جزاء ما أتوا به من الايمان والعمل الصالح في النشأة الاولى جَنَّاتُ النَّعِيمِ متنزهات مملوة بأنواع النعم واصناف الجود والكرم لا يتحولون منها أصلا بل يصيرون
خالِدِينَ فِيها مترفهين بنعيمها لا يمسهم فيها نصب ولا وصب وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعد لخلص عباده من عنده بمقتضى علمه وارادته لا بد له ان ينجزه حَقًّا صدقا بلا خلف وتردد وَكيف يخلف سبحانه في وعده مع انه سبحانه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على جميع ما دخل في حيطة حضرة علمه المحيط وارادته التامة الْحَكِيمُ المتقن في إيجاده وإظهاره على الوجه الذي أراد وشاء ومن جملة حكمته المتقنة المتفرعة على حضرة علمه المحيط وقدرته الشاملة وارادته الكاملة انه قد
خَلَقَ واظهر السَّماواتِ وعالم الأسباب بِغَيْرِ عَمَدٍ وأسانيد وأسطوانات على الوجه الذي تَرَوْنَها معلقة على الأرض بلا استناد واتكاء وَكذا قد أَلْقى فِي الْأَرْضِ التي هي عالم المسببات رَواسِيَ شامخات وجبالا راسيات كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وتميل عليكم وقت ترددكم وتحرككم عليها وَبَثَّ فِيها وبسط عليها ونشر مِنْ كُلِّ دابَّةٍ تتحرك عليها متبادلة متقابلة كيف اتفق لتستقر وتمكن لان طبيعتها في حد ذاتها كانت على الحركة والاضطراب إذ هي محفوفة بالماء السائل المجبول على الحركة والسيلان وهو بالهواء المتموج بالطبع وهي بالنار المضطربة وهي بالأفلاك المتحركة بطبقاتها وَبعد ما مهدناها وألقينا عليها من الرواسي العظام تتميما لتقريرها أَنْزَلْنا مِنَ جانب السَّماءِ ماءً مستحدثا من الابخرة والادخنة المتصاعدة المتراكمة المستحيلة بالماء بمجاورة الكرة الزمهريرية فَأَنْبَتْنا فأخرجنا بانزال الماء عليها فِيها اى في الأرض المنبسطة اليابسة بالطبع مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من النباتات مزدوج مع شاكلته كَرِيمٍ كثير المنافع والفوائد مصلح للامزجة مقوم لها لتعيشوا عليها مترفهين متنعمين شاكرين لنعمنا غير كافرين بمقتضيات جودنا وكرمنا. ثم قال سبحانه من مقام العظمة والكبرياء وكمال المجد والبهاء على سبيل الإسكات والتبكيت لمن أشرك معه غيره عنادا ومكابرة
هذا الذي سمعتم ايها المجبولون على السمع والإصغاء خَلْقُ اللَّهِ القادر القوى المقتدر ذي الحول والقوة الغالبة والطول العظيم فَأَرُونِي ايها المشركون المسرفون المفرطون في دعوى الشرك معه سبحانه ماذا خَلَقَ وأى شيء اظهر وأوجد شركاؤكم الَّذِينَ تعبدونهم وتدعون نحوهم في الخطوب والمهام وتذعنون انهم آلهة مِنْ دُونِهِ سبحانه مستحقة للعبادة(2/130)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
والرجوع قادرة على لوازم الألوهية والربوبية فسكتوا بعد ما سمعوا ما سمعوا تائهين وانقلبوا حينئذ صاغرين بَلِ الظَّالِمُونَ المجبولون على الظلم والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية سيما بدعوى الشركة واتخاذ اله سواه العياذ بالله منه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية ظاهرة وطغيان عظيم. أعاذنا الله وعموم عباده من أمثاله. ثم قال سبحانه على سبيل اظهار الفضل والامتنان والتفرد بمقتضى الألوهية والربوبية
وَلَقَدْ آتَيْنا من مقام عظيم لطفنا وجودنا لُقْمانَ ابن باعورا ابن ناخور بن آزر وكان ابن اخت أيوب عليه السلام او خالته وعاش الى ادراك داود عليه السلام فأخذ منه العلم والْحِكْمَةَ وهي عبارة عن اعتدال الأوصاف الجبلية الموعودة في النفوس البشرية بمقتضى الفطرة الاصلية والتخلق بالأخلاق المرضية المنتشئة من الأوصاف الذاتية الإلهية وقلنا له بعد ما قد أنعمنا عليه نعمة الحكمة واعددناه لقبول فيضان انواع اللطف والكرامات أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ واصرف بمقتضى الحكمة الموهوبة لك من عندنا عموم ما أعطيناك من النعم العظام على ما جبلناها لأجله لتكون أنت من زمرة الشاكرين المواظبين على أداء حقوق جودنا وكرمنا ومن جملة المطيعين بمقتضيات حكمتنا وأحكامنا وَاعلم ايها المجبول على الحكمة الفطرية انه مَنْ يَشْكُرْ نعمنا عادا على نفسه عوائد كرمنا فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ إذ فائدة شكره انما هي عائدة اليه مزيدة لنعمنا إياه مستجلبة لانواع لطفنا وإحساننا معه وَمَنْ كَفَرَ لنعمنا من خبث طينته واعرض عن أداء حقوق كرمنا إياه فوبال كفرانه وطغيانه ايضا عائد اليه إذ عندنا الشكر والكفران سيان ونحن منزهون عن الربح والخسران فَإِنَّ اللَّهَ المتجلى على عموم الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق غَنِيٌّ مطلقا بذاته عن جميع صور احسان عباده معه حَمِيدٌ حسب أوصافه وأسمائه الذاتية الظاهرة آثارها على صفائح الأكوان والمكونات المتوجهة نحو مبدعها المثنية له سبحانه حالا ومقالا سرا وجهارا
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين تذكيرا لهم وعظة عليهم وقت إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ المسمى بأنعم او اشكم او ماثان قولا ناشئا عن محض الحكمة المتقنة الموهوبة له من عنده سبحانه وَهُوَ يَعِظُهُ ويقصد تهذيب ظاهره وباطنه عن الأخلاق الردية والملكات الدنية الغير المرضية مناديا إياه مصغرا على سبيل التحنن والتعطف وكمال الترحم والتلطف مضيفا الى نفسه ليقبل منه ما أوصاه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ المنزه عن الشريك والشبيه والكفو والنظير واعلم ان أجل اخلاقك وأعز اوصافك التوحيد وتنزيه الحق عن التشبيه والتعديد وأخس اوصافك وأرذل اخلاقك وأردأ ما جرى في خلدك وضميرك الشرك بالله إِنَّ الشِّرْكَ واعتقاد التعدد والاثنينية في حق الحق الحقيق بالحقية الوحيد بالقيومية الفريد بالديمومية المستحق بالالوهية والربوبية استحقاقا ذاتيا لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لا ظلم أعظم منه وافحش أعاذنا الله وعموم عباده منه. ثم قال سبحانه على سبيل التوصية والمبالغة تأكيدا وتحقيقا على ما قد وصى به لقمان ابنه من النهى عن الشرك والزجر عنه
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ والزمنا عليه أولا بعد ما قد أظهرناه قابلا لحمل التكاليف المكملة لذاته لائقا للكمالات المعدة له في خزانة كرمنا وجودنا بِوالِدَيْهِ اى باطاعتهما وبحفظ آداب المعاشرة والمصاحبة معهما ورعاية حقوقهما على ما ينبغي ويليق بلا فوت شيء من حقوقهما سيما والدته المتحملة لأجله انواع المحن والمشاق إذ قد حَمَلَتْهُ أُمُّهُ بواسطة حمله في بدء وجوده وَهْناً عَلى وَهْنٍ وضعفا على ضعف إذ كلما ازداد نشوه ونماؤه في بطنها قد ازداد ضعفها الى ان انفصل عنها وبعد انفصاله تداوم لحفظه وحضانته الى فطامه(2/131)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
وَفِصالُهُ فطامه انما هو فِي عامَيْنِ وبعد ما انفطم تلازم ايضا على حفظه الى وقت بلوغه وبعد ما قد بلغ سن التكليف قلنا له أَنِ اشْكُرْ لِي ايها المكلف المتنعم بأنواع النعم منى اصالة وتسببا لأني قد خلقتك واظهر تك من كتم العدم ولم تك شيأ وَاشكر ايضا لِوالِدَيْكَ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة لإقامتهما على حفظك وحضانتك الى ان كبرت وبلغت مرتبة اشدك وكمال عقلك ورشدك واعلم ان شكرك إليهما راجع إِلَيَّ ايضا إذ انا قد اقدرتهما ومكنتهما على حفظك وألقيت انا المحبة بالنسبة إليك في قلبهما وبالجملة الى الْمَصِيرُ والمرجع في عموم الأفعال الصادرة من العباد ظاهرا إذ هم وما صدر عنهم من الأفعال والأعمال مستندون إلينا أولا وبالذات كيف لا تستند أفعالهم إلينا إذ جميع ما صدر من العباد ظاهرا تابع لوجوداتهم مترتب عليها والحال انه ليس لهم وجود في أنفسهم بل وجوداتهم انما هي رشحة من رشحات وجودنا الحق وفيء من اظلال اوصافنا وأسمائنا الذاتية
وَبعد ما قد أكدنا عليكم ايها المكلفون حفظ حقوق والديكم وبالغنا فيه إِنْ جاهَداكَ يعنى والديك ايها المكلف واجتهدا في شانك وبالغا في الجهد والسعى الى ان قاتلا معك وأرادا مقتك وهلاكك عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي وتعتقد ربا سواي وتعبده مثل عبادتك إياي مع انك أنت في نفسك خالي الذهن ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يتعلق بنفي الشريك ولا بإثباته ايضا فَلا تُطِعْهُما بحال من الأحوال في أمرهما هذا وسعيهما فيه إذ اصل فطرتك مجبولة على التوحيد من لدنا سواء تعلق علمك به او لم يتعلق فلك ان لا تطيعهما بل تنصرف عن أمرهما هذا وَمع انصرافك عن أمرهما هذا صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا وان كانا مشركين مَعْرُوفاً مستحسنا عقلا وشرعا ومروة حفظا لحقوقهما وَبالجملة لا تتبع بشركهما وكفرهما مطلقا بل اتَّبِعْ في الدين والملة سَبِيلَ مَنْ أَنابَ ورجع إِلَيَّ ودين من توجه نحوي موحدا إياي بريئا من الشرك مطلقا وبالجملة امض على التوحيد واسلك طريقه ما دمت في دار الابتلاء ثُمَّ اعلم انكم بعد ما انقرضت النشأة الاولى إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ تابعا ومتبوعا موحدا ومشركا أصلا وفرعا فَأُنَبِّئُكُمْ حينئذ وأخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بتفاصيل أعمالكم التي قد صدرت عنكم في دار الاختبار واجازيكم على مقتضاها ان خيرا فخير وان شرا فشر وبعد ما قد سجل لقمان على ابنه توحيد الحق بنفي ضده على وجه المبالغة والتأكيد أراد ان ينبه عليه بانه لا بد له ان يحفظ على نفسه الأدب مع الله في كل الأحوال بحيث لا يصدر عنه شيء يخالف توحيده ولا يلائمه ولو كان مقدار ذرة حقيرة إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط من أفعاله شيء فقال ايضا مناديا
يا بُنَيَّ إِنَّها اى الخصلة الذميمة التي قد أتيت أنت بها المنافية للتوحيد او الخصلة الحميدة الملائمة له لا يعزب كلاهما عن علم الله المحيط مطلقا بعموم الكوائن والفواسد الكائنة في الأنفس والآفاق وبالجملة إِنْ تَكُ أنت فرضا وكذا ما جئت به من الخصلة الذميمة او الحميدة في صغر الجثة او الوزن والمقدار مِثْقالَ حَبَّةٍ واحدة مقدرة كائنة مِنْ خَرْدَلٍ إذ هي مثل في الحقارة والصغر فَتَكُنْ تقع وتحصل أنت بعد ما جئت بها فِي صَخْرَةٍ اى في جوفها وهي أخفى الموضع واستر الأمكنة أَوْ فِي أعلى السَّماواتِ وفوقها وهو ما وراء الفلك الأطلس أَوْ فِي أسفل الْأَرْضِ وقعرها وبالجملة ان كنت في أخفى الأماكن واحفظها يَأْتِ بِهَا اى بك وبخصلتك التي قد صدرت عنك اللَّهُ الرقيب عليك في جميع حالاتك ويجازيك بمقتضاها ان(2/132)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
تعلق ارادته ومشيته سبحانه باتيانك وإحضار ما صدر عنك من الأفعال والآثار وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع على مطلق السرائر والخفايا لَطِيفٌ لا يحجبه حجب ولا يمنعه سدل خَبِيرٌ ذو خبرة تامة يعلم كنه الأشياء وان دقت ورقت ولا يكتنه ذاته مع انه اظهر وأبين في ذاته من عموم مظاهره ومصنوعاته بل ظهور عموم المظاهر فرع ظهوره وعكس نوره وبعد ما سمعت
يا بُنَيَّ وصف ربك وحيطة علمه وشمول قدرته ولطافة اطلاعه وخبرته أَقِمِ الصَّلاةَ وأدم ميلك نحوه بجميع أركانك وجوارحك مخلصا في ميلك ورجوعك اليه سبحانه محرما على نفسك جميع ما يشغلك عن ربك مجردا مصفيا عاريا قلبك عن عموم منسوباتك ومقتضيات بشريتك ولوازم هويتك وَأْمُرْ يا بنى على بنى نوعك أولا ان قصدت تكميلهم وإرشادهم الى مقصد التوحيد بِالْمَعْرُوفِ المستحسن عقلا وشرعا وكلم معهم على قدر عقولهم بلا إغراء ولا إغواء ولا تفش عليهم سر التوحيد ما لم يستحقوا لفهمه وحفظه ولم يستعدوا لقبوله وَانْهَ ايضا عَنِ الْمُنْكَرِ المستهجن عقلا وشرعا عادة ومروءة ونبههم على وجوه القبيح والهجنة والطف معهم في تبيينه لعلهم يتفطنون بقبحه بمقتضى فطرتهم وفطنتهم التي قد فطروا عليها في بدء الأمر وَبالجملة اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ في تمشية سلوك التوحيد وتقوية طريقه وكن متحملا على مشاق الطاعات ومتاعب العبادات وارض من ربك بجميع ما جرى عليك وثبت لأجلك في لوح قضائه وحضرة علمه إِنَّ ذلِكَ المذكور اى كل واحد من الأمور المذكورة والخصائل المأمورة لك انما هو مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ اى من الأمور التي قد عزم الحق عليها وأوجبها على ذوى العزائم الصحيحة من خلص عباده إرشادا لهم الى وحدة ذاته وزلال هدايته الصافية عن كدر مطلق الضلالات والجهالات
وَكن يا بنى في تمدنك ومعاشرتك مع بنى نوعك لينا ملينا بشاشا بساما ولا تُصَعِّرْ اى لا تمل ولا تعرض ولا تصرف بحال من الأحوال ووقت من الأوقات خَدَّكَ وصفحة وجهك التي بها مواجهتك لِلنَّاسِ ولا تلو عنقك عنهم كبرا وخيلاء كما يفعله ارباب النخوة من الجهلة المستكبرين المتفوقين على الأقران المفتخرين بما عندهم من المال والجاه والثروة والسيادة النسبية ولا سيما اصحاب العلوم الرسمية والفضائل الكسبية من الاعتبارات الحكمية والعويصات الفلسفية والحيل الفقهية على الفقراء والضعفاء الفاقدين لها العارين عن تلك المكدرات الظلمانية مع ان صفاء قلوب هؤلاء الفقراء اكثر وأوفر من قلوب أولئك المتكبرين المفتخرين بما معهم من موجبات النخوة وَبالجملة لا تَمْشِ يا بنى فِي الْأَرْضِ التي قد بسطت للتذلل والانكسار مَرَحاً ذا فرح وسرور مفتخرا بما عندك من الحطام الفانية او العلوم الرسمية الدينية او الرياسة النسبية إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ يمشى على وجه الأرض خيلاء بحيث يتبادر منه الكبر والنخوة في بادى النظر فَخُورٍ بما عنده من الحسب والنسب والجاه والمال بطر بها مباه بسببها
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وتوسط يا بنى واعتدل في مشيك بين الاسراع المذهب بهاء المؤمن ووقاره وبين الدبيب الموجب للعجب والخيلاء وَاغْضُضْ ايضا مِنْ صَوْتِكَ وانقص منه ولا ترفع وان كان حسنا يستحسنه السامعون فإنك بقصدك رفعة صوتك مبالغا فيها تشبه الحمار إذ هو مخصوص من بين سائر الحيوانات بترفيع الصوت والمبالغة فيه ومن بالغ في رفع صوته وان كان حسنا مرغوبا مقبولا فقد أشبه نفسه به ولا شك ان صوت الحمار(2/133)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
منكر عند جمهور العقلاء بل عند عموم الحيوانات ايضا حتى ان الكلب يتأذى من صوته ويفزع منه عند سماعه من غاية تأثر وتألم به وبالجملة إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ وأوحشها واقرعها الآذان لَصَوْتُ الْحَمِيرِ وكيف تشبهون انفسكم ايها المجبولون على الشرف والكمال الى أدون الحيوانات وأرذل المخلوقات وأنزلها رتبة. ثم أشار سبحانه الى شرف الإنسان وعلو رتبته وسمو مكانته فقال
أَلَمْ تَرَوْا ولم تعلموا ايها المجبولون على الدرية والدراية أَنَّ اللَّهَ الحكيم المتقن في عموم أفعاله قد سَخَّرَ لَكُمْ وسهل عليكم تتميما لفضلكم وكرامتكم جميع ما فِي السَّماواتِ اى العلويات التي هي علل واسباب وفواعل وان كانت معلولات في أنفسها ومسببات في حدود ذواتها وَكذا عموم ما فِي الْأَرْضِ اى السفليات التي هي مسببات عن العلويات وقوابل لما يفيض عنها بطريق جرى العادات الإلهية ليحصل من امتزاجها ما يعيشون به مترفهين متنعمين من انواع الفواضل والنعم وَبالجملة قد أَسْبَغَ اكثر وأوفر سبحانه عَلَيْكُمْ ايها المجبولون على الكرامة الفطرية والكمال الجبلي نِعَمَهُ ظاهِرَةً تدركون بها ظواهر الآيات من المبصرات والمسموعات والملموسات والمشمومات والمذوقات وَباطِنَةً تدركون بها سرائر المعلومات واسرار المعقولات وتنكشفون بها الى المعارف والحقائق الفائضة على قلوبكم التي قد اودعها الله العليم الحكيم في بواطنكم كل ذلك ليسع فيها وينزل عليها سلطان وحدته الذاتية السارية في ظواهر الأكوان وبواطنها الكائنة ازلا وابدا مع انه سبحانه لا يسع في سعة السموات والأرض وان فرض لها أضعاف أضعاف وآلاف آلاف من السعة بل يسع في قلب عبده العارف المؤمن الموقن المنكشف بوحدته الذاتية الظاهرة المتجلية على صفائح عموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد وَمع ظهور وحدته سبحانه في ذاته واستقلاله في اظهار المظاهر الكامنة ازلا وابدا مِنَ النَّاسِ المجبولين على الجدال والنسيان المنهمكين في بحر العناد والطغيان مَنْ يُجادِلُ فِي توحيد اللَّهَ المتوحد المتفرد بالالوهية والربوبية المستقل بالتصرف في ملكه وملكوته ارادة واختيارا ويثبت له شريكا سواه ويعبده كعبادته مع ان جداله هذا ما يستند الى سند يصلح للاستناد بل بِغَيْرِ عِلْمٍ ودليل عقلي فاض عليه يمكن التوصل به الى اثبات ادعائه بطريق النظر والاستدلال وَلا هُدىً وكشف صريح لدنى قد نبع من قلبه بلا افتقار الى مقدمات الوسائل العادية التي يستنتج منها المطالب وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ودليل نقلي ينور خلده ويعده لفيضان المعارف والحقائق من المبدأ الفياض بل ما نشأ عموم ما نشأ منه من الدعاوى والمجادلات الا من محض التقليد والتخمين الحاصل من متابعة القوى الوهمية والخيالية الغالبة المستولية على القوى العقلية الفطرية التي هي من بدائع الودائع الإلهية المودعة في قالب الإنسان المصور على صورة الرحمن
وَلذلك إِذا قِيلَ لَهُمُ على سبيل العظة والتذكير امحاضا للنصح اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ المصلح لأحوالكم من الدين والكتاب المشتمل على انواع الرشد والهداية والنبي المؤيد من عنده المبعوث إليكم لهدايتكم وإصلاحكم قالُوا في الجواب ما نتبع بمفترياتكم المستحدثة التي قد ابتدعتموها أنتم من تلقاء انفسكم ونسبتموها الى الله تغريرا وترويجا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا إذ هو مستمر قديم فنحن بأثرهم متبعون وبدينهم راضون متخذون قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا أَيتبعون آباءهم أولئك الضالون المسرفون وَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ المغوى المضل إياهم يَدْعُوهُمْ وآباءهم ايضا الى الباطل ليصرفهم عن(2/134)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
الحق ويوصلهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ قد أعد سبحانه له ولمتابعيه ولمن يقتفى اثره ويقبل منه دعوته ووسوسته. ثم قال سبحانه
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ الذي يلي الحق إِلَى اللَّهِ ويخلص في توجهه نحوه سبحانه وَالحال انه هُوَ مُحْسِنٌ مع الله نفسه بتوفيق الله وتيسيره ناظر الى الله سبحانه مطالع بوجهه الكريم فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بل تمسك وتشبث بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي لا انفصام لها ألا وهي حبل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات ومن تمسك بها فقد فاز بكنف حفظه وجواره وأمن من شر الشيطان وغوائله وتضليلاته عن طريق الحق وصراطه المستقيم وَكيف لا إِلَى اللَّهِ المستجمع لجميع الأسماء والصفات المظهرة المرتبة لما في الكائنات لا الى غيره من الوسائل والاظلال العادية عاقِبَةُ الْأُمُورِ ومصيرها ومن تشبث بحبل الله مخلصا فقد لحق بخلص أوليائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وَمَنْ كَفَرَ واعرض عن التشبث بحبل توفيقه سبحانه وانصرف عن الاستمساك بدلائل وحدته وشواهد استقلاله في آثاره فَلا يَحْزُنْكَ يا أكمل الرسل كُفْرُهُ واعراضه عنا وعن مقتضى الوهيتنا وربوبيتنا إذ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ومصيرهم كما ان منا مبدأهم ومنشأهم فَنُنَبِّئُهُمْ ونخبرهم ونفصل عليهم بِما عَمِلُوا بعد ما رجعوا إلينا ونجازيهم على مقتضاه بلا فوت شيء مما صدر عنهم وكيف لا يجازون بأعمالهم ولا يحاسبون عليها إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما ظهر وبطن من ذرائر الأكوان عَلِيمٌ يحيط حضرة علمه المحيط بِذاتِ الصُّدُورِ وخفيات الأمور وان دقت ولطفت بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا لا يغتروا بامهالنا وتمتيعنا إياهم وعدم التفاتنا نحوهم وعدم انتقامنا منهم ولا يحملوا امهالنا على الإهمال إذ
نُمَتِّعُهُمْ زمانا قَلِيلًا ومدة يسيرة تسجيلا للعذاب عليهم وتغريرا لهم ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ بعد بطشنا إياهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ لا عذاب أشد منه لغلظ غشاوتهم وقساوتهم
وَكيف لا نأخذ أولئك المكابرين المعاندين مع انهم لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ سؤال اختبار والزام مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وأوجد العلويات وما فيها من الكواكب والبروج وانواع الفجاج وَالْأَرْضَ ومن عليها وما عليها مما لا يعد ولا يحصى لَيَقُولُنَّ في الجواب مضطرين حاصرين مخصصين اللَّهُ إذ لا يسع لهم اسناد خلقها وإيجادها الى غير سبحانه لظهور الدلائل والشواهد المانعة من الاسناد الى غيره سبحانه قُلِ يا أكمل الرسل بعد ما اعترفوا بان الموجد للعلويات والسفليات ليس الا الله سبحانه بالأصالة والاستقلال الْحَمْدُ لِلَّهِ قد اعترفتم بتوحيد الله مع انكم اعتقدتم خلافه وبالجملة قد لزمكم بقولكم هذا توحيد الحق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ لزومه ولا يفهمون استلزامه لذلك ينكرون له ويشركون معه غيره عنادا واستكبارا تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وكيف لا يعلمون ويفهمون مع انه
لِلَّهِ الواحد الأحد المستحق للالوهية والربوبية وفي حيطة حضرة علمه وقبضة قدرته وتحت تصرفه عموم ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى العلويات والسفليات والممتزجات سواء علموا وحدته واستقلاله في ملكه او لم يعلموا واعتقدوا توحيده او لم يعتقدوا إذ لا يرجع له سبحانه نفع من اعتقادهم وضر من عدمه بل نفع اعتقادهم وايمانهم انما يرجع إليهم وضر كفرهم وشركهم ايضا كذلك إذ هو سبحانه منزه في ذاته عن ايمان المؤمن وكفر الكافر وكذا عن فسق العاصي وزهد المطيع إِنَّ اللَّهَ المستغنى عن عموم ما ظهر وما بطن هُوَ الْغَنِيُّ المقصور على الغنى الذاتي بالاستحقاق الذاتي الْحَمِيدُ بمقتضى أوصافه الذاتية وأسمائه الحسنى التي بها ظهر ما ظهر(2/135)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
وبطن ما بطن سواء نطقت بجملته ألسنة مظاهره واظلاله أو لم تنطق إذ هو في ذاته متعال عن النقص والاستكمال واستجلاب النفع وإجلال الغير مطلقا ثم لما أمرت اليهود وفد قريش بان يسئلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى وما أوتيتم من العلم الا قليلا كيف قال سبحانه هذا مع انا قد انزل إلينا التوراة وفيها علم كل شيء ظاهرا وباطنا رد الله عليهم حصرهم علم الحق بالتوراة بل بعموم الكتب والصحف المنزلة من عنده على عامة الرسل وكافة الأنبياء إذ كل ما دخل في حيطة الإنزال والإتيان متناه وحضرة علمه سبحانه في نفسه غير متناه ولا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي بل علمه سبحانه بالنسبة الى معلوم ومقدور واحد مشخص معين باعتبار شئونه وتطوراته غير متناه فكيف بعموم المعلومات والمقدورات فقال سبحانه بمقتضى استعداد من على الأرض وحسب قابليتهم وبقدر عقولهم مبينا لهم عدم نهاية حضرة علمه منبها عليهم
وَلَوْ أَنَّ جميع ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ وهي كل ماله ساق من هذا الجنس أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ المحيط الذي هو عبارة عن كرة الماء الكائن الطائف حول الأرض يَمُدُّهُ ويصير مدادا لها وحبرا لثبتها ومدها بل فرض ايضا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد نفاد البحر المحيط سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مثلا محيطات كذلك تشيعه وتمد مده فكتبت بهذه الأقلام والمداد المذكورة على الدوام كلمات الله العليم العلام القدوس السلام ما نَفِدَتْ وما تناهت وما تمت مطلقا كَلِماتُ اللَّهِ وتنفد المداد والأقلام المذكورة بل وان فرض أمثالها واضعافها وآلافها ابدا مدادا وأقلاما كذلك إذ الأمور الغير المتناهية لا تقدر بمقدار متناه ولا تكال بمكيال مقدر وكيف يكال ويقدر علمه سبحانه إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء عَزِيزٌ غالب قادر على ما جرى في حضرة علمه المحيط مع انه لا نهاية لمعلوماته حَكِيمٌ لا ينتهى حكمته وقدرته بالنسبة الى مقدور دون مقدور بل له التصرف في كل واحدة من مقدوراته ومراداته الى ما لا يتناهى ازلا وابدا إذ لا يكتنه طور علمه وخبرته وحكمته وقدرته مطلقا ومن جملة مقدوراته الصادرة منه سبحانه بمقتضى حكمته ارادة واختيارا خلقكم وايجادكم أولا على سبيل الإبداع بمقتضى اللطف والجمال واعدامكم ثانيا على مقتضى القهر والجلال واعادتكم وبعثكم ثالثا إظهارا للحكم الموعود في هوياتكم وأشباحكم والمصلحة المندرجة في ايجادكم واظهاركم والمحجوبون المقيدون بسلاسل الازمنة والساعات والآنات يتوهمون بين الأطوار الثلاثة والنشآت المتعاقبة أمدا بعيدا وازمنة متطاولة وعند الله بعد ما تعلق ارادته ونفذ قضاؤه وصدر عنه الأمر بقوله كن يكون الكل مقضيا بلا تراخ ومهلة في اقصر مدة من آن وطرفة ولمحة إذ لا يشغله سبحانه شأن عن شأن ولا يقدر أفعاله زمان ومكان لذلك قال سبحانه
ما خَلْقُكُمْ واظهاركم في فضاء الوجود في النشأة الاولى وَلا بَعْثُكُمْ وحشركم في المحشر في النشأة الاخرى بعد ما انقرضتم عن الاولى إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ يعنى ايجادكم جملة أولا وبعثكم ثانيا كذلك في جنب قدرتنا وارادتنا كايجاد نفس واحدة بلا تفاوت إذ متى صدر عنا قولنا كن اشارة منا الى خلقكم وبعثكم جملة فيكون الكل مقضيا في الحال ككون نفس واحدة إِنَّ اللَّهَ المطلع لسرائر ما ظهر وبطن سَمِيعٌ لعموم ما صدر عن ألسنة استعدادتهم وقابلياتهم بَصِيرٌ بعموم ما قد لاح عليهم من اشراق نور الوجود وكيف لا يطلع سبحانه بجميع الكوائن والفواسد
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي المتأمل المتدبر أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ ويدخل اللَّيْلَ اى أجزاء منه فِي النَّهارِ ويطيله بها في الربيع تتميما لتربية أرزاقكم واقواتكم(2/136)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
وَيُولِجُ ايضا في الخريف النَّهارِ اى اجزاءه فِي اللَّيْلِ ويطيله بها تقوية وتعميرا واعدادا للأرض لتربية ما حدث منها ونبت عليها وَبالجملة قد سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لمصلحة معاشكم وتربية نفوسكم الى حيث كُلٌّ يَجْرِي ويدور بامره وتتم دورته بحكمه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد عينه الله سبحانه وسماه من عنده بمقتضى حكمته تربية لعباده وتقويما لأمزجتهم ليشتغلوا على ما جبلوا لأجله وَاعلموا ايها المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد أَنَّ اللَّهَ المراقب عليكم في عموم حالاتكم بِما تَعْمَلُونَ اى بجميع ما صدر عنكم من الأعمال والأفعال خَبِيرٌ لا يعزب عن خبرته ذرة من ذرائر ما لمع عليه نور الوجود وانما ظهر منه سبحانه كل
ذلِكَ الذي قد سمعت ايها المجبول على فطرة الدراية والعرفان والمترصد لانكشاف سرائر التوحيد والإيقان من بدائع القدرة الإلهية ومن عجائب العلم والارادة وغرائب الشئون والأطوار اللامعة من لوايح لوامع شروق شمس الذات الاحدية ليدل بِأَنَّ اللَّهَ المتجلى على عروش الأنفس والآفاق بالأصالة والاستحقاق هُوَ الوجود المطلق الْحَقُّ الثابت المثبت ازلا وابدا القيوم المطلق الدائم الباقي بلا انقضاء ولا انصرام وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ويدعون الوجود له من العكوس والاظلال الهالكة في شروق شمس الذات هو الْباطِلُ المقصور المنحصر على العدم الصرف والبطلان المستهلك في مضيق الإمكان بأنواع الخذلان والحرمان وَبالجملة اعلموا ايها المتأملون في آثار الوجود الإلهي المتحققون بوحدة ذاته وكثرة شئونه وتطوراته حسب أسمائه وصفاته أَنَّ اللَّهَ المستقل بالالوهية والربوبية المستحق لانواع التذلل والعبودية إياه هُوَ الْعَلِيُّ بذاته لا بالإضافة الى غيره إذ لا غير معه الْكَبِيرُ في شئونه وتطوراته حسب تجلياته الجمالية والجلالية واللطفية والقهرية وكيف لا يستقل سبحانه بتصرفات ملكه وملكوته
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي المعتبر المستبصر أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ حاملة بِنِعْمَتِ اللَّهِ المنعم المفضل عليكم بمقتضى لطفه وسعة جوده لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ الدالة على توحيده لتتفطنوا منها الى وحدة ذاته إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء والإمداد بالرياح المعينة لجريها والحفظ من الغرق والهلاك لَآياتٍ دلائل قاطعات وشواهد ساطعات لِكُلِّ صَبَّارٍ قد صبر على متاعب ما جرى عليه من القضاء شَكُورٍ لما وصل اليه من الآلاء والنعماء
وَمن كمال صبرهم وشكرهم إِذا غَشِيَهُمْ وغطاهم أحيانا مَوْجٌ عظيم هائل واستعلى مغلقا عليهم كَالظُّلَلِ المغطية إياهم من الجبال والسحب دَعَوُا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد المنجى لهم عن أمثاله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حاصرين التوجه والانقياد نحوه بلا ميل منهم الى الأسباب والوسائل العادية متضرعين نحوه داعين اليه بلا رؤية الوسائل في البين على ما هو مقتضى فطرة التوحيد فَلَمَّا نَجَّاهُمْ سبحانه بفضله عن احوال البحر ومضيقة وأوصلهم إِلَى الْبَرِّ وسعة فضائه سالمين غانمين فَمِنْهُمْ حينئذ مُقْتَصِدٌ معتدل في قصده نحو الحق غير مائل الى طرفي الإفراط والتفريط ومنهم مائل عن الاعتدال منحرف عنه ساع الى تحصيل ما يضاده ويخالفه وَبالجملة ما يَجْحَدُ وينكر منهم بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدار ناقض للعهد الفطري والميثاق الجبلي كَفُورٍ للآلاء والنعماء المترادفة المتدالية صروف لها الى ما لا يعنى الله ولا يأمره
يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الكفران والنسيان المشغوفون على البغي والعدوان اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذي قد أظهركم من(2/137)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
كتم العدم ولم تكونوا شيأ مذكورا واحذروا عن بطشه وانتقامه فان بطشه شديد وعذابه لعصاة عباده اليم مزيد وَاخْشَوْا يَوْماً اىّ يوم هو يوم لا يَجْزِي لا يسقط ولا يحمل والِدٌ مع كمال عطفته ورأفته عَنْ وزر وَلَدِهِ شيأ حقيرا قليلا وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ متحمل قاض عَنْ وزر والِدِهِ شَيْئاً بل كل نفس يومئذ رهينة بما كسبت ضمينة بما اكتسبت بمقتضى ما وعد الله لها وكتب وبالجملة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعده لعباده حَقٌّ لا ريب في إنجازه ولا خلف في وقوعه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ ايها المجبولون على الغفلة والغرور الْحَياةُ الدُّنْيا بتغريراتها وتلبيساتها من مالها وجاهها ولذاتها الفانية الغير القارة وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ وعفوه وغفرانه وسعة رحمته وجوده الْغَرُورُ اى الشيطان المبالغ في الغرور والتغرير بان يجبركم على المعاصي اتكالا على عفو الله وغفرانه. ثم لما اتى الحرث بن عمرو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال متى تقوم الساعة وانى قد ألقيت بذرا على الأرض فمتى تمطر السماء وامرأتى ذات حمل وحملها ذكر أم أنثى وما اعمل انا غدا وفي اين أموت وادفن فنزلت
إِنَّ اللَّهَ المستقل باطلاع الغيوب عِنْدَهُ وفي حيطة حضرة علمه ولوح قضائه عِلْمُ السَّاعَةِ وتعيين وقت قيامها ولم يطلع أحدا عليها سوى انه سبحانه قد اخبر بوقوعها وقيامها في جميع الكتب المنزلة من عنده سبحانه على رسله وَايضا هو سبحانه يُنَزِّلُ الْغَيْثَ حسب اطلاعه ولم يطلع أحدا بوقت نزوله وَيَعْلَمُ ايضا هو سبحانه حسب علمه الحضوري ما فِي الْأَرْحامِ ولم يطلع أحدا عليه وَايضا ما تَدْرِي وما تعلم نَفْسٌ من النفوس الخيرة والشريرة مطلقا ماذا تَكْسِبُ وأى شيء تعمل غَداً وان تدبرت وتدربت وبذلت جهدها وسعيها لا تفوز الى دراية احوال غدها بل يومها بل ساعتها ولحظها وطرفتها بل ما هي ايضا في نفسها الا من جملة المغيبات التي قد أحاط بها علمه سبحانه خاصة بلا اطلاع احد عليها وَما تَدْرِي وما تعلم نَفْسٌ ايضا وان بالغت في السعى وبذل الجهد والطاقة بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ بل هو ايضا من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المستقل بالالوهية والربوبية المستجمع لجميع أوصاف الكمال عَلِيمٌ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط ذرة خَبِيرٌ لا يخرج عن حيطة خبرته طرفة وان كان لا يكتنه لمية علمه وخبرته والله اعلم بحقائق أسمائه وصفاته وبدقائق معلوماته ورقائق آثاره ومصنوعاته المترتبة عليها. ربنا زدنا بفضلك وجودك علما منك ينجينا عن الجهل بك وباسمائك واوصافك انك على ما تشاء قدير وبانجاحه حقيق جدير
خاتمة سورة لقمان
عليك ايها الموحد المتحقق بمقام التوحيد المتمكن في مقعد الصدق خاليا عن امارات التخمين والتقليد ان لا تتأمل ولا تتمنى بل لا تتخمن في نفسك حصول ما لا يسع في وسعك وطاقتك من الأمور التي ليس في استعدادك وقابليتك حصولها وانكشافها دونها إذ الإنسان وان سعى وبذل جهده في طريق العرفان بعد ما وفقه الحق وجذبه نحوه لا يبلغ الا الى التخلق بأخلاق الله تعالى والفناء في ذاته منخلعا عن لوازم ناسوته بقدر ما يمكن له ويسع في قابليته واستعداده واما الاطلاع على جميع معلوماته سبحانه والانكشاف بالمغيبات التي قد استأثر الله في غيب ذاته فأمر لا يحوم حوله ادراك احد من الأنبياء والرسل والكمل من ارباب الولاء والمحبة الخالصة بل لا ينبغي ولا يليق ان يتفوه(2/138)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
به احد من خلص عباده أصلا إذ هو خارج عن استعداداتهم مطلقا واما امر المعجزات والكرامات الخارقة للعادات الصادرة عن خواص عباد الله من الأنبياء والأولياء فما صدرت ايضا منهم هذه الأمور الا باطلاع الله إياهم وتوفيقهم عليها وهم مجبورون مضطرون في ظهور أمثال تلك الكرامات عنهم مع ان بعض ارباب المحبة والولاء الوالهين بمطالعة جمال الله وجلاله قد تحزنوا وتغمموا عند ظهور أمثاله كثيرا كما يشاهد من بعض بدلاء الزمان ادام الله بركته على معارف اهل الايمان والعرفان وبالجملة لا بد ان يكون الموحد في عموم أحواله وأوقاته متمسكا بحبل الرضاء والتسليم راضيا بما جرى عليه من صولجان القضاء بلا تطلب منه وترقب لشيء. جعلنا الله ممن تمكن بمقام الرضاء ورضى بجميع ما ثبت له بلا ترقب نحو شيء لا يرد عليه بل له ان يترصد في جادة الرضاء منتظرا بعموم ما يرد عليه من القضاء الحق في لوح القضاء
[سورة السجدة]
فاتحة سورة السجدة
لا يخفى على اهل العناية الموفقين من عند الله باستكشاف ما في طي كتابه من المعارف والحقائق المتعلقة بسرائر التوحيد والمسترشدين منه بقدر ما يسر الله لهم من الأخلاق الإلهية المودعة فيهم ان أمثال هذه الأسرار والرموز والإشارات المندرجة في هذا الكتاب لا يليق الا بجناب الحكيم الوهاب المطلع على سرائر ما ظهر وما بطن من آثار الوجود غيبا وشهادة دنيا وعقبا إذ لا يسع لبشر ان يتفوه بهذه الحكم والاحكام على هذا النهج والنظام الأبلغ الأكمل وليس في طاقتهم واستعدادهم الوقوف على المغيبات التي قد تخصص بها سبحانه وبالاحاطة بالأمور التي تعلقت بالنشأتين وترتبت على المنزلتين ومن له ادنى درية بأساليب الكلام ودراية في اتساقه وانتظامه وترتيب ألفاظه وكلماته وتطبيق معانيه وترصيف محاويه ومبانيه جزم انه خارج عن طور البشر ومعلوماته إذ لا مناسبة لعقولهم به وبما فيه من الرموز والإشارات الخارجة عن طور البشر وطوقه. ثم لما بلغ المرتابون في قدحه وطعنه ونسبته الى الاختلاق والافتراء مجادلة ومراء رد الله سبحانه عليهم على ابلغ وجه وآكده مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ الذي قد انزل على عباده الكتاب ليبين لهم طريق الصدق والصواب في سلوك سبيل التوحيد والعرفان الرَّحْمنِ لهم بإرسال الرسول الهادي الى دار السلام وروضة الجنان الرَّحِيمِ لهم يشرفهم فيها بلقاء الرحمن
[الآيات]
الم ايها الإنسان الكامل الأعلم للوازم لوامع أنوار الوجود اللائح على صفائح الأكوان بمقتضى الجود الملاحظ المطالع لها بتوفيق الله الملك الودود
تَنْزِيلُ الْكِتابِ الجامع لما في الكتب السالفة المبين لأحكام دين الإسلام المنزل عليك يا أكمل الرسل لتأييدك وترويج دينك لا رَيْبَ فِيهِ انه نازل من الله الجامع لجميع الأسماء والصفات كما ان مرتبتك جامعة لجميع مراتب اهل العلم وأنت مبعوث الى كافة الأمم هكذا قد صار كتابك نازلا مِنْ الله رَبِّ الْعالَمِينَ أيشكون ويترددون في نزوله من عنده سبحانه وتعالى أولئك الطاعنون الضالون
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ واختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى الله افتراء ومراء تغريرا وتلبيسا لا تحزن يا أكمل الرسل عليهم ولا تلتفت الى قولهم هذا بَلْ هُوَ الْحَقُّ الثابت المحقق المثبت نزوله مِنْ رَبِّكَ الذي رباك بأنواع الكرم واصطفاك من بين البرايا بالرسالة العامة قد أنزله إليك مشتملا على الإنذارات الشديدة والتخويفات البليغة لِتُنْذِرَ أنت بوعيداته قَوْماً قد انقطع عنهم آثار النبوة والرسالة لبعد العهد إذ ما أَتاهُمْ بعد عيسى صلوات الله عليه وسلامه مِنْ نَذِيرٍ انذرهم(2/139)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
عن الباطل وأرشدهم الى طريق الحق مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل بل هم كانوا على فترة من الرسل فارسلك الحق إليهم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بهدايتك وارشادك الى توحيد الحق واتصافه بأوصاف الكمال وكيف لا يوحدونه سبحانه ولا يؤمنون بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته مع انه
اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي خَلَقَ وأوجد بقدرته الكاملة السَّماواتِ اى العلويات وَالْأَرْضَ اى السفليات وَما بَيْنَهُما اى الممتزجات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وساعات وآنات منبسطة في عموم الأقطار والجهات الست ثُمَّ بعد ما قدتم التمهيد والبسط اسْتَوى واستولى وتمكن سبحانه عَلَى الْعَرْشِ اى قد انبسط وامتد اظلاله على عروش عموم ما ظهر وبطن من الأنفس والآفاق بالاستقلال التام والتصرف العام مع صرافة وحدته الذاتية بلا شوب شركة وطرق كثرة لذلك ما لَكُمْ ايها الاظلال المنعكسة من شمس ذاته مِنْ دُونِهِ سبحانه مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم ويتصرف فيكم وَلا شَفِيعٍ ينصركم ويعاون عليكم سواه سبحانه أَتشكون وتترددون في وحدته وولايته سبحانه ايها المنهمكون في بحر الغفلة والضلال فَلا تَتَذَكَّرُونَ ولا تتعظون بمواعظه وتذكيراته مع انه قد كررها مرارا وكيف لا هو الذي
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى عالم الأمر المنبئ عن الإيجاد والإظهار بانزال الملائكة الذين هم مظاهر أوصافه وأسمائه مِنَ السَّماءِ اى سماء الأسماء المتعالية عن الأقطار والجهات مطلقا إِلَى الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة والهيولى القابلة لقبول آثارها وانما أنزلهم واهبطهم سبحانه ليعد ويستعد حسب حكمته خلاصة المظاهر والمصنوعات لقبول فيضان سلطان توحيده ثُمَّ بعد ما تم على الوجه الابدع والنظام الأتم الأبلغ يَعْرُجُ ويصعد إِلَيْهِ سبحانه عموم ما يترتب على عالم الأمر من المعارف والحقائق والأسرار الكلية في سريان الوحدة الذاتية بعد انقراض النشأة الاولى فِي يَوْمٍ معد لعروجه وصعوده كانَ مِقْدارُهُ اى مقدار ذلك اليوم في الطول والامتداد أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في هذه النشأة من الأيام والأعوام وانما دبر سبحانه ما دبر من المعارف والحقائق المترتبة على الإيجاد والإظهار وقدر للعروج والصعود ما قدر لحكم ومصالح قد استأثر بها سبحانه في غيبه ولم يطلع أحدا عليها إذ
ذلِكَ الذات البعيد ساحة عز حضوره عن ان يحوم حوله ادراك احد من مظاهره ومصنوعاته عالِمُ الْغَيْبِ الذي لم يتعلق به علم احد سواه وَالشَّهادَةِ المنعكسة منه حسب تجلياته الجمالية والجلالية الْعَزِيزُ الغالب القادر على جميع ما دخل في حيطة حضرة علمه المحيط بان يتصرف فيه كيف يشاء ارادة واختيارا الرَّحِيمُ
الَّذِي وسعت رحمته كل ما لاحت عليه بروق تجلياته لذلك قد أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وقدر وجوده بعد ما دخل في حيطة حضرة علمه وقدرته وارادته وَبَدَأَ من بينه خَلْقَ الْإِنْسانِ يعنى آدم وقدر وجوده أولا مِنْ طِينٍ إذ هو اصل في عالم الطبيعة قابل لفيضان آثار الفاعل المختار مستعد لها استعدادا اصليا وقابلية ذاتية
ثُمَّ بعد ما تعلق ارادته سبحانه بابقاء نوعه جَعَلَ نَسْلَهُ اى قدر بصنعه وجود ذرياته المتناسلة المتكثرة المتخلفة المستخلفة منه على سبيل التعاقب والترادف والتوالي مِنْ سُلالَةٍ وفضلة منفصلة منه كائنة حاصلة مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن مسترذل مستقذر لخروجه عن مجرى الفضلة
ثُمَّ بعد ما قدر خلقه أولا من الطين وثانيا من الماء المهين قد سَوَّاهُ سبحانه إظهارا لقدرته وعدّ له وقوّم أركانه على احسن التقويم وَبعد تسويته وتعديله قد نَفَخَ فِيهِ سبحانه مِنْ رُوحِهِ ووجوده وحياته المضافة الى ذاته المستجمع(2/140)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
لجميع أوصافه وأسمائه تتميما لرتبة خلافته ونيابته واستحقاقه لمرآتية الحق وقابلية انعكاس شئونه وتطوراته ولياقته للتخلق بأخلاقه وَبالجملة قد جَعَلَ وهيأ لَكُمُ ايها المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد السَّمْعَ لتسمعوا بها آيات التوحيد ودلائل اليقين والعرفان وَالْأَبْصارَ لتشاهدوا بها آثار القدرة والارادة الكاملة المحيطة بذرائر الأكوان وَالْأَفْئِدَةَ المودعة فيكم لتتأملوا بها سريان الوحدة الذاتية على هياكل الأشباح الكائنة والفاسدة وتتفكروا بها في آلاء الله ونعمائه المتوالية المتوافرة ومع وفور تلك النعم العظام والفواضل الجسام قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وتؤدون حقها وتصرفونها الى مقتضياتها التي قد جبلها الحق لأجلها
وَمن غاية كفرانهم بنعم الله ونهاية عمههم وسكرتهم فيه قالُوا اى ابىّ ومن معه من المنافقين بعد ما سمعوا امر البعث والحشر ويوم العرض والجزاء مستبعدين مستفهمين مكررين على سبيل المبالغة في الإنكار أَإِذا ضَلَلْنا وقد اضمحللنا وغبنا فِي الْأَرْضِ وصرنا من جملة الهباآت المنبثة المتلاشية المتناثرة التي لا تمايز فيها أصلا أَإِنَّا بعد ما قد كنا كذلك ايها العقلاء المجبولون على فطرة الدراية والشعور لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ووجود مجدد معاد مثل ما كنا عليه قبل موتنا كلا وحاشا مالنا عود الى الدنيا سيما بعد ما متنا وصرنا ترابا وعظاما وايضا ما يقتصرون بمجرد قولهم هذا بَلْ هُمْ من غلظ غشاوتهم وغطائهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع النعم وأفاض عليهم سجال اللطف والكرم في النشأة الاخرى وبقبض ملك الموت أرواحهم بأمر الله إياه في النشأة الاولى كافِرُونَ منكرون جاحدون
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا بعد ما سمعت قولهم وانكارهم هذا يَتَوَفَّاكُمْ ويستوفى اجلكم أولا ايها المنهمكون في الغفلة والضلال مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ باذن الله لقبض أرواحكم ثُمَّ بعد ما قبضتم في النشأة الاولى وبعثتم من قبوركم احياء في النشأة الاخرى إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ للعرض والجزاء
وَلَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي يومئذ بعد ما قد بعث الخلائق وعرضوا على ربهم حيارى سكارى تائهين هائمين إِذِ الْمُجْرِمُونَ المنكرون بالبعث والنشور والعرض وبشرف اللقاء حينئذ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ من غاية الخجالة والحياء قائلين من نهاية اضطرارهم واضطرابهم مناجين معه سبحانه رَبَّنا يا من ربانا بأنواع الكرامة فكفرناك وأرسلت إلينا رسلا فكذبناهم عنادا وأنكرنا عليهم وعلى دعوتهم مكابرة فاليوم قد أَبْصَرْنا ما هو الحق المطابق للواقع وَسَمِعْنا منك حقا صدق رسلك وجميع ما جاءوا به من عندك فَارْجِعْنا بفضلك ولطفك الى الدنيا مرة بعد اخرى وكرة بعد اولى نَعْمَلْ فيها عملا صالِحاً مرضيا عندك مقبولا لديك بمقتضى ما ابصرتنا واسمعتنا الآن وبالجملة إِنَّا مُوقِنُونَ اليوم بعموم ما قد جاء به رسلك ونطق به كتبك فيما مضى لو رأيت ايها المعتبر الرائي حالهم هذا وسمعت مناجاتهم هذه حينئذ لرأيت امرا فظيعا فجيعا ثم نودوا من وراء سرادقات العز والجلال الآن قد مضى وقت الاختبار والابتلاء وانقرض زمان التدارك والتلافي
وَلَوْ شِئْنا وتعلق ارادتنا ومشيتنا بهدايتكم أولا لَآتَيْنا في دار الابتلاء كُلَّ نَفْسٍ منكم هُداها ووفقكم عليها كما قد آتينا لخلص عبادنا ويسرنا لهم الهداية والرشد ووفقناهم عليها وَلكِنْ قد حَقَّ صح وثبت الْقَوْلُ والحكم مِنِّي حسب حكمتى ومصلحتي لَأَمْلَأَنَّ انا بمقتضى عزى وجلالي جَهَنَّمَ المعدة لأصحاب الشقاوة الازلية مِنَ الْجِنَّةِ التي هي جنود إبليس وَمن النَّاسِ الناسين بمقتضى العهود الفطرية والمواثيق الجبلية بتغريرات شياطين(2/141)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
نفوسهم الامارة بالسوء أَجْمَعِينَ وبالجملة ما يبدل القول الذي لدىّ ولا معقب لحكمي
فَذُوقُوا اى قلنا لهم بعد ما لم نستجب دعوتهم ذوقوا اليوم ايها الضالون المسرفون بِما نَسِيتُمْ اى بشؤم نسيانكم وطغيانكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا مع ان الرسل قد بالغوا باخباره إياكم والكتب قد نطقت بتبيينه عليكم على ابلغ وجه وآكده وأنتم قد أصررتم على الإنكار غافلين ناسين مكابرين وبالجملة إِنَّا قد نَسِيناكُمْ اليوم في انواع العذاب والنكال كما نسيتم أنتم إيانا فيما مضى وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ اى المخلد المؤبد بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفران الدائم والنسيان المستمر في النشأة الاولى أعاذنا الله وعموم عباده من ذلك. ثم قال سبحانه بمقتضى سنته المستمرة
إِنَّما يُؤْمِنُ ويذعن بِآياتِنَا الدالة على وحدة ذاتنا وبكمالات أسمائنا وصفاتنا الموحدون المخبتون الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها اى بالآيات تبشيرا وانذارا خَرُّوا وسقطوا سُجَّداً متذللين مستقبلين مبادرين لقبولها وامتثال ما فيها من الأوامر والنواهي والعبر والتذكيرات الواردة في محاويها وَمع ذلك قد سَبَّحُوا ونزهوا ربهم عما لا يليق بجناب قدسه قائلين بِحَمْدِ رَبِّهِمْ عادّين نعمه على أنفسهم مواظبين على شكرها خاضعين خاشعين أذلاء واضعين جباههم على تراب المذلة تواضعا واسقاطا للكبر والخيلاء المذمومين عقلا وشرعا وَهُمْ حينئذ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادة الله وعن الانقياد بأوامره وأحكامه الواردة الموردة في كتابه ومن كمال اطاعتهم وانقيادهم
تَتَجافى اى تتخى وترتفع جُنُوبُهُمْ وضلوعهم عَنِ الْمَضاجِعِ والبسط والوسائد التي هم رقدوا عليها في الليل يعنى قد بعدوا في خلال الليالى عن مواضع رقودهم واستراحتهم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ حينئذ خَوْفاً من بطشه واخذه حسب قهره وجلاله وَطَمَعاً لمرضاته وسعة رحمته وجوده ومغفرته حسب لطفه وجماله وَهم لا يقتصرون بمجرد قيام الليل وصلاة التهجد فيه بل مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقناهم نحوهم من الرزق الصوري والمعنوي يُنْفِقُونَ في سبيلنا على الطالبين المتوجهين إلينا منقطعين عن لذائذ الدنيا ومزخرفاتها سوى سد جوعة وستر عورة وهم بارتكاب هذه المتاعب والمشاق ما يريدون الا وجه الله وما يطلبون الا رضاه سبحانه موثرين رضاء الله على أنفسهم مخلصين فيه وبالجملة
فَلا تَعْلَمُ ولا تعرف ولا تأمل نَفْسٌ منهم كيفية ما أُخْفِيَ وأعد لَهُمْ من قبل الحق قُرَّةِ أَعْيُنٍ ألا وهي فوزهم بشرف لقائه ورؤية وجهه الكريم بلا كيف واين ووضع وجهة واضافة. اللهم ارزقنا لقاءك وجنبنا عما سواك وانما أعد لهم سبحانه ما أعد لهم جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ على وجه الإخلاص من إيثارهم جانب الحق على أنفسهم
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً يعنى أتظنون ايها الظانون المسرفون الجاحدون المنكرون ان من كان مؤمنا موقنا بوحدانية الله متصفا بالأعمال الصالحة المؤيدة لإيمانه كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجا عن ربقة الايمان والإخلاص وعن عموم حدود الشرائع والأديان الواردة لحفظ الايمان كلا وحاشا انهم لا يَسْتَوُونَ في الشرف والكمال والفوز والنوال بل
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية الحق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم على وجهها مع كونهم مخلصين فيها خاشعين خاضعين فَلَهُمْ في النشأة الاخرى بعد ما انقرضوا عن دار الدنيا جَنَّاتُ الْمَأْوى اى المتنزهات المعدة لأرباب المحبة والولاء تأوى إليها نفوسهم على الرغبة الكاملة والطوع التام لتكون نُزُلًا لهم ومنزلا يسكنون فيه ويستريحون بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى بمقابلة ما يتحملون من المتاعب والمشاق في طريق التوحيد والعرفان(2/142)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وتركوا الايمان بالله وخرجوا عن مقتضيات الأوامر والنواهي الموردة في كتبه سبحانه وعلى ألسنة رسله فَمَأْواهُمُ مرجعهم ومثواهم في النشأة الاخرى النَّارُ المعدة لأهل الشقاوة الازلية هم فيها خالدون مخلدون مؤبدون لا نجاة لهم منها أصلا بل كُلَّما أَرادُوا وأملوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها حيث امهلهم الخزنة الموكلون عليهم الى ان يصلوا الى شفيرها ثم بعد ذلك أُعِيدُوا فِيها زجرا وقهرا تاما مهانين صاغرين وَقِيلَ لَهُمْ اى قال لهم الزبانية الموكلون بالهام الله إياهم ذُوقُوا ايها المنكرون المصرون عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ حين أخبركم به الرسل والكتب وأنذركم به النبيون المنذرون. ثم أشار سبحانه الى رداءة فطنة اصحاب الضلال وخباثة طينتهم فقال على سبيل المبالغة والتأكيد مقسما
وَالله لَنُذِيقَنَّهُمْ ولنصبن عليهم في دار الابتلاء مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى الأنزل الأسهل مثل القحط والطاعون والوباء والقتل والسبي والزلزلة وانواع المحن والبليات التي هي أسهل وأيسر بمراحل دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ عند عذاب الآخرة الذي هو في غاية الشدة ونهاية الألم والفظاعة وانما أخذناهم بما أخذناهم في النشأة الاولى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مما هم عليه من الكفر والشقاق ويتفطنون عنها الى كمال قدرتنا واقتدارنا على اضعافها وآلافها ومع ذلك لم يتفطنوا ولم يرجعوا عن غيهم وضلالهم بل قد أصروا واستكبروا عدوانا وظلما
وَمَنْ أَظْلَمُ على الله وأسوأ أدبا معه سبحانه مِمَّنْ قد ذُكِّرَ ووعظ بِآياتِ رَبِّهِ ليهتدى بها الى الايمان والتوحيد ويمتثل بمقتضاها ليتخلص عن الكفر والشرك ثُمَّ بعد ما قد سمعها أَعْرَضَ عَنْها فجاءة بلا تفكر وتأمل في معناها وأنكر على مقتضاها واستكبر على ما انزل الله اليه فكذبه ونسبه بما لا يليق بشأنه وأصر على ما هو عليه عنادا ومكابرة وبالجملة إِنَّا من مقام قهرنا وجلالنا مِنَ الْمُجْرِمِينَ المصرين على جرائمهم وآثامهم مُنْتَقِمُونَ يعنى قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا بعد ما قد بالغوا في الإنكار والإصرار نحن منتقمون منهم على ابلغ وجه وأشده من عموم المجرمين الظالمين فكيف هو أجرم واظلم منهم وأصر على البغي والعناد فانا ننتقم عنهم ونخلدهم في عذاب النار مهانين إذ لا عذاب أسوأ منه وأشد أعاذنا الله وعموم عباده منها
وَلا تظنن أنت يا أكمل الرسل انا لا ننجز وعدنا الذي قد وعدنا معك في كتابك من انا ننتقم من اهل الشرك والكفر واصحاب الإنكار والإصرار على ابلغ وجه وآكده بل لك ان تتيقن وتذعن انجاز وعدنا إياك مثل ما قد أنجزنا مواعيدنا مع أخيك موسى الكليم إذ لَقَدْ آتَيْنا من مقام جودنا أخاك مُوسَى الكليم الْكِتابَ اى التوراة مثل ما قد آتيناك الفرقان وواعدنا فيه معه مثل ما قد وعدنا معك في كتابك هذا من انتقام اهل الفساد والعناد بل قد وعدنا هذا الوعد مع كل نبي ورسول آتيناه الكتاب والصحف وبالجملة ما ارتاب وتردد موسى عليه السلام ولا احد من الرسل في انجاز وعدنا فَلا تَكُنْ أنت ايضا يا أكمل الرسل بل أنت أحق منهم بعدم الارتياب فِي مِرْيَةٍ اى شك وارتياب مِنْ لِقائِهِ اى من انجاز هذا الموعود وإتيانه على الوجه الذي قد وعدناك به ومن ملاقاتك إياه وَكيف يرتاب كليمنا وحبيبنا أنت يا أكمل الرسل في وعدنا هذا مع انا قد جَعَلْناهُ اى التوراة هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ هاديا لهم في المعالم الدينية والمعارف اليقينية والحقائق العلية والمكاشفات السنية كما قد جعلنا كتابك هذا لأمتك هكذا بل هذا أكمل من ذاك
وَكيف لا وهم اى بنو إسرائيل من خواص عبادنا وخلصهم إذ قد جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً أمناء هادون مهديون مهتدون مقتدون(2/143)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
يَهْدُونَ الناس بِأَمْرِنا ووحينا إياهم والهامنا إليهم الى ديننا وتوحيدنا وانما أعطيناهم ما أعطيناهم من الكرامات لَمَّا صَبَرُوا وحين وطّنوا أنفسهم على تحمل ما لحقهم في إعلاء كلمة الحق وافشاء اعلام الدين ومعالم التوحيد واليقين وانتشارها في الأقطار من المتاعب والمكروهات المؤدية الى إتلاف النفس وبذل المهج وانواع المصيبة وَهم قد كانُوا في أنفسهم بِآياتِنا النازلة إياهم الدالة على كمال قدرتنا الواردة في إيجاد اىّ شيء أردناه يُوقِنُونَ يذعنون لا يترددون فيها ولا يتذبذبون وأنت يا أكمل الرسل اولى وأحق منهم بإيقان آياتنا واذعانها
إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع الكرامات وايدك بأصناف الخوارق والمعجزات هُوَ بذاته وحسب حكمته المتقنة وأحكامه المبرمة يَفْصِلُ ويقضى بَيْنَهُمْ اى بين المحقين والمبطلين ويميز كلا منهم عن صاحبه يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للقطع والفصل وتنفيذ الاحكام واجراء الحكومات فيومئذ يظهر لهم الحق فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الأمور الدينية والمعارف اليقينية
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ اى اهل مكة الى سبيل الرشد ولم يوقظهم عن هجعة الغفلة ورقاد العناد كَمْ أَهْلَكْنا اى كثر إهلاكنا واستيصالنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اهل الْقُرُونِ الماضية الهالكة المغرورين أمثالهم بالكبر والخيلاء بما عندهم من المال والجاه والثروة مع ان هؤلاء المعاندين يَمْشُونَ ويمرون فِي مَساكِنِهِمْ الخربة ودورهم المندرسة الكربة وقت ترحالهم نحو متاجرهم وما يعتبرون منها إِنَّ فِي ذلِكَ المرور والعبور وفي رؤية تلك المنازل والاطلال المغمورة والبلاد المقهورة لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على كمال قدرتنا واختيارنا وشدة انتقامنا وقهرنا أَفَلا يَسْمَعُونَ مقتضيات الآيات ولا يتدبرون حق التدبر والتفكر حتى يتخلصوا عن اودية الضلالات واغوار الجهالات ويتصفوا بأنواع الهدايات والكرامات
أَوَلَمْ يَرَوْا ولم يبصروا أولئك المعاندون المنكرون على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا واختيارنا أَنَّا من مقام لطفنا وجودنا كيف نَسُوقُ الْماءَ بالتدابير العجيبة والحكم البديعة في تصعيد الابخرة والادخنة وتراكم السحب منها وتقاطر المطر من فتوقها وخلالها إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ التي قد انقطع نباتها من غاية يبسها وجمودها فَنُخْرِجُ بِهِ اى بالماء الذي سقنا إليها منها زَرْعاً وأنواعا من الأوراق والحبوب تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ أوراقه وتبنه وَأَنْفُسُهُمْ حبوبه وثمرته أَفَلا يُبْصِرُونَ أولئك المصرون المنكرون هذه القدرة العجيبة فيستدلوا بها على قدرتنا الكاملة وحكمتنا البديعة البليغة البالغة
وَبعد ما سمعوا منك يا أكمل الرسل ان ربك يفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون يَقُولُونَ مستهزئين معك متهكمين مَتى هذَا الْفَتْحُ والفصل الذي قد وعدتم به أخبرونا وقته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم نتهيأ له ونتزود لأجله ونؤمن به كما آمنتم
قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم يَوْمَ الْفَتْحِ هو يوم القيامة المعدة لتنقيد الأعمال والحساب فيومئذ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا في النشأة الاولى مدة اعمارهم إِيمانُهُمْ فيها وَلا هُمْ يومئذ يُنْظَرُونَ ولا يمهلون حتى يتداركوا ما فوّتوا على أنفسهم طول عمرهم من الايمان بالله والامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه وتصديق الرسل والكتب وجميع معالم الدين وشعائر الإسلام وبعد ما قد تمادوا في الغفلة والضلال وبالغوا في العتو والعناد
فَأَعْرِضْ يا أكمل الرسل عَنْهُمْ ولا تلتفت الى هذياناتهم واصرف عنان عزمك عن هدايتهم وإرشادهم بعد ما تاهوا في تيه الغي والضلال وأصروا عليه وَانْتَظِرْ النصر والظفر والغلبة عليهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ايضا ليغلبوا عليك ويظفروا. وقل ربنا افرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين(2/144)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
خاتمة سورة السجدة
عليك ايها السالك القاصد سلوك سبيل التوحيد والناسك المجاهد مع أعدى عدوك الذي بين جنبيك اعانك الله ونصرك على عدوك ان تتصبر على متاعب العبودية ومشاق التكاليف الواقعة في إتيان المأمورات الشرعية وترك المألوفات الطبيعية سيما ما أشكل امره عليك ودفعه عندك من انقهار امارتك وانزجارها وانتقامك عنها مفوضا أمورك كلها الى ربك منتظرا الى ان يغلبك الحق عليها بعد ما قد وعدك به بان يجعل سلطانه امارتك مأمورة لك مطمئنة بحكمك راضية بجميع ما جرى عليها من سلطان القضاء بلا امتناع وإباء فلك ان تتمكن في مقام الرضا والتسليم حتى تصير مطمئنتك فانية مضمحلة متلاشية بحيث لا يبقى فيها من هوية ناسوتها شيء بل قد فنيت هويتها في هوية الحق واضمحلت في عالم اللاهوت مطلقا فحينئذ قد فزت بدوام أبدى وبقاء سرمدي بلا عروض انقضاء وانصرام ولحوق انتهاء وانخرام. هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من هوية ناسوتنا وتفنينا في هوية لاهوتك يا ارحم الراحمين
[سورة الأحزاب]
فاتحة سورة الأحزاب
لا يخفى على من تحقق بمقام التقوى وخلص عن مهلكات الهوى ورجع نحو المولى متزهدا عن الدنيا وغرورها وامانيّها مطلقا ان الموحد المتحقق بمقام التمكن والرضا لا بد وان تكون همته منحصرة على التوجه نحو الحق مطمئنا به راضيا بما جرى عليه من سلطان القضاء متوكلا على الله في السراء والضراء والمنح والعطاء والمحن والبلاء مترصدا للوحى الإلهي مترقبا لالهاماتها الغيبية إذ كل من تجرد عن جلباب الناسوت مخلصا فقد تستر بخلعة اللاهوت ووقع اجره على حضرة الرحموت ورجع امره اليه وعاد شأنه على ما كان عليه في بدء الأمر فصار محفوظا في كنف حفظ الحق وجواره فله ان يتخذه سبحانه وكيلا ويجعله حسيبا وكفيلا ويفوض أموره كلها اليه فيصير منتظرا لوحيه والهامه مترصدا لموائد افضاله وانعامه إذ هو سبحانه بذاته عليم بحاله وحاجاته حكيم في تربيته وإرشاده وماله الا الإطاعة والتسليم والمتابعة لما يوحى اليه من عند الله العليم الحكيم ماحيا عن لوح قلبه الالتفات الى غيره كما امر سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم تربية له وتأديبا اليه وليتأدب به من تابعه وتخلق به من آمن له مخلصا فقال مناديا إياه متلطفا معه متيمنا باسمه بِسْمِ اللَّهِ الذي اصطفى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم من بين البرايا بالخلق العظيم الرَّحْمنِ عليه في النشأة الاولى بإضافة انواع الكمالات اللائقة على سبيل التبجيل والتكريم الرَّحِيمِ له في النشأة الاخرى بتمكينه في مقعد الصدق والمقام المحمود الذي هو مقام الرضا والتسليم
[الآيات]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد من عند العليم الحكيم مقتضى نبوتك التي قد صرت بها خاتما لدائرة النبوة والرسالة متمما لمكارم الأخلاق مكملا لأمر التشريع والتديين التقوى والتحفظ عن مقتضيات الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة والتحصن بالله والثقة اليه وجعله وقايتك عند نزول البلاء وهجوم الأعداء اتَّقِ اللَّهَ حق تقاته واجتنب عما لا يرضى به ربك مطلقا وَلا تُطِعِ بحال من الأحوال الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ الذين قد خاصموا معك في أسرارهم واعلانهم ولا تتبع أهواءهم الفاسدة وآراءهم الكاسدة الباطلة وابتغ فيما آتيك الله من مقتضيات استعدادك فيما تفضل عليك امتنانا(2/145)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
لك رضاء الله والفوز بشرف لقائه إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده قد كانَ عَلِيماً حسب حضرة علمه الحضوري بقابليتك وبمقتضياتها حَكِيماً في افاضة ما يعنيك وينبغي لك ويليق بشأنك وأمرك
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ تأييدا لك وتدبير أمورك واحوالك ولا تلتفت الى هذيانات من عاداك ولا تبال بمكرهم وحيلهم إِنَّ اللَّهَ الرقيب المراقب عليك وعليهم قد كانَ بِما تَعْمَلُونَ من المخائل الفاسدة والتلبيسات الباطلة المتعلقة لمقتك وهلاكك خَبِيراً يكفيك ويكف عنك مؤنة شرورهم ومكرهم ويغلبك عليهم ويظهر دينك على الأديان كلها
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ايها المتحصن بكنف حفظه وجواره وثق بكرمه ولطفه وَكَفى بِاللَّهِ اى كفى الله المراقب على عموم احوالك وحالاتك وَكِيلًا لك يراقبك ويحفظك من شرور من قصد مقتك وهجومهم عليك ومكرهم معك وكن في نفسك متوجها الى ربك مخلصا فيه مائلا بوجه قلبك الى قبلة وجهه الكريم ولا تلتفت الى من سواه ولا تخطر ببالك غيره إذ لا يسع في القلب الواحد الا هم واحد ولهذه الحكمة العلية
ما جَعَلَ وخلق اللَّهُ العليم الحكيم المتقن في أفعاله لِرَجُلٍ واحد مِنْ قَلْبَيْنِ مشعرين مدركين فِي جَوْفِهِ حتى لا يتفتت ميله ولا يتعدد قبلة مقصده ومرماه وان خلق له عينين وأذنين ويدين وغيرها وَكذا ما جَعَلَ الله العليم الحكيم أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ وتقولون لهن اى كل منكم لزوجته ايها المؤمنون المكلفون أنت على كظهر أمي أُمَّهاتِكُمْ حقيقة لتترتب عليها احكام الأمهات من تحريم القربان والفراش معها وغيرهما وَما جَعَلَ ايضا سبحانه أَدْعِياءَكُمْ اى الأجانب الذين تدعونهم أنتم أبناء من افراط المودة أَبْناءَكُمْ حقيقة او حكما حتى تترتب عليهم احكام الأبناء من أخذ الميراث والمحرمية وحرمة زوجتهم وابنتهم وغير ذلك من الاحكام ذلِكُمْ اى الأمور الثلاثة المذكورة قَوْلُكُمْ اى مجرد قول قد صدر عن ألسنتكم وتلفظتم أنتم بِأَفْواهِكُمْ لا حقيقة لها سوى الاشتهار في المحبة والمودة وَاللَّهُ المدبر لأموركم المصلح لأحوالكم يَقُولُ الْحَقَّ اى الحكم المطلق الثابت المتحقق عنده سبحانه المترتب عليه أحكامه إرشادا لكم وإصلاحا لحالكم وَكيف لا هُوَ بمقتضى ألوهيته وربوبيته يَهْدِي السَّبِيلَ السوى والصراط القويم المستقيم عباده الذين انحرفوا عن سبل السلامة وطرق الاستقامة في الوقائع والاحكام وبعد ما قد سمعتم حقيقة القول والحكم في ادعيائكم وحقيته
ادْعُوهُمْ وسموهم أدعياءكم بأسمائهم وانسبوهم حين دعائكم وندائكم إياهم لِآبائِهِمْ المولدين لهم حقيقة لا الى الداعي ان علمتم آباءهم الاصلية النسلية هُوَ اى انتسابهم الى آبائهم الاصلية أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ واقرب بين المؤمنين الى الصدق وابعد عن الكذب والفرية إذ كثيرا ما قد اشتهر دعىّ باسم من تبناه فأراد ان يأخذ منه الميراث فعليكم ايها المؤمنون ان لا تنسبوهم الا الى آبائهم الحقيقية فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ لتنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ يعنى فهم إخوانكم في الدين واولياؤكم فيه كسائر المؤمنين فخاطبوهم مثل خطاب بعضكم بعضا فقولوا له يا أخي او يا صاحبي او يا وليي في الدين وغير ذلك وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون جُناحٌ اثم ومؤاخذة فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ اى بقولكم هذا ونسبتكم هذه إذا صدرت عنكم هفوة على سبيل الخطأ والنسيان سواء كان قبل ورود النهى او بعده وَلكِنْ تؤاخذون أنتم في ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وقد صدرت عنكم هذه قصدا إذ قصدكم به يؤدى الى الافتراء وتضييع حقوق المؤمنين وَكانَ اللَّهُ(2/146)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
غَفُوراً
في حق من اخطأ ونسى ثم ذكر وتاب رَحِيماً عليه يقبل توبته ويغفر زلته. ثم أشار سبحانه الى تأديب كل من الأمم مع نبيه المؤيد من عنده سبحانه بأنواع التأييدات والمعجزات الخارقة للعادات المبعوث إليهم لإرشادهم وتكميلهم وأمرهم بحسن الأدب معهم والمحافظة على خدمتهم وحرمتهم وكيف لا يحسنون الأدب مع الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم إذ كل نبي بالنسبة الى أمته كالأب المشفق العطوف بالنسبة الى ابنه بل هو خير آبائهم يرشدهم الى ما هو أصلح لدينهم الذي هو عبارة عن الحقيقة لهم فلهم ان يكونوا معه في مقام التذلل والانكسار التام والانخفاض المفرط بأضعاف ما وجب عليهم من حقوق الوالد النسبي إذ آثاره تربية الأنبياء مؤبدة مخلدة وآثار تربية هؤلاء متناهية منقطعة وان ترتب على تأديبهم وانخفاضهم معهم من المثوبة الاخروية فإنما هي راجعة ايضا الى تربية نبيهم ولا شك ان نبينا صلّى الله عليهم أفضل الأنبياء واكملهم في التربية والإرشاد فيكون أبوته ايضا أكمل واشفاقه ومرحمته لامته التي هي أفضل الأمم أتم وأوفر لذلك قال سبحانه
النَّبِيُّ يعنى هذا النبي المبعوث الى كافة الأمم المتمم لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم المكمل لمعالم الدين ومراسم المعرفة واليقين أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ وأحق لهم ان يرجحوا جانبه على أنفسهم ويختاروا غبطته مِنْ غبطة أَنْفُسِهِمْ إذ نسبة تربيته الى أشباحهم وأرواحهم كنسبة تربية الأب المشفق المحافظ ابنه عن جميع ما لا يعنيه المراقب له في عموم أحواله ليوصله الى الحياة الابدية والبقاء الأزلي السرمدي ونسبة تربية نفوسهم المدبرة لأبدانهم وان كانت هي ايضا بتوفيق الله واقداره انما هي مقصورة الى حفظ أجسامهم لئلا تنهدم وتنخرم ولا تزول عنها الحياة المستعارة وشتان ما بين النسبتين والتربيتين وَأَزْواجُهُ ايضا أُمَّهاتُهُمْ يعنى بعد ما قد ثبت ان تربيته صلّى الله عليه وسلّم شاملة وأبوته كاملة صارت أزواجه اللاتي في حجوره صلّى الله عليه وسلّم وتحت حضانته أمهات المؤمنين في الدين وجرمتهن أعظم واولى من حرمات أمهاتهم النسبية إذ هن اتباع له صلّى الله عليه وسلّم واهل بيته فيسرى الأدب معه إليهن وهن ايضا في انفسهن من الكاملات اللائقة لانواع الحرمات والمكرمات ومن جملتها لياقتهن بشرف صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم فعليكم ايها المؤمنون ان لا تنكحوا أزواجه ابدا إذ هن أمهاتكم وَبعد ما سمعتم ايها السامعون المؤمنون ان النبي خير آبائكم في الدين وأزواجه فضليات أمهاتكم ايضا فيه وسائر المؤمنات والمؤمنين إخوانكم وأخواتكم في الدين لا تظنوا ان حكم أبوته صلّى الله عليه وسلّم وامومتهن رضى الله عنهن واخوة المؤمنين تسرى في احكام الميراث والعصوبة ايضا بل أُولُوا الْأَرْحامِ وذوو القرابة المنتمون إليكم بالقرابة النسبية على تفاوت طبقاتهم ذكورا كانوا او إناثا بَعْضُهُمْ أَوْلى وأحق شرعا بِبَعْضٍ اى بأخذ الميراث من بعض يعنى هم اصحاب الفروض والعصبات يأخذون متروكات المتوفى عنهم ويحرزونها لقرابتهم النسبية بمقتضى سهامهم المقدرة فِي كِتابِ اللَّهِ المنزل عليكم المطابق لما في حضرة علمه المحيط ولوح قضائه الشامل الجامع مِنْ النبي وأزواجه وأجانب الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ وهم وان كانوا إخوانا وآباء وأمهات في الدين لا يأخذون شيأ من أموالهم ومواريثهم بلا قرابة سببية إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا ايها المؤمنون وتخرجوا أموالكم وصية على الوجه المشروع المستحسن إِلى أَوْلِيائِكُمْ في الدين مع كونهم أجانب لكم مَعْرُوفاً وصية مشروعة مستحسنة عقلا وشرعا غير مؤدية الى احراز التركة وحرمان الورثة وهي التي لا تكون أزيد من ثلث المال قد كانَ ذلِكَ اى إخراج الوصية على الوجه المعروف(2/147)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
فِي الْكِتابِ الذي يتلى عليكم وفيما قبله ايضا من الكتب المنزلة على الأمم الماضية مَسْطُوراً مثبتا فللموصى له ان يأخذها على مقتضى ما ثبت في حكم الله وكتابه
وَكيف لم يحسنوا الأدب أولئك المؤمنون الماضون السابقون مع أنبيائهم وهؤلاء اللاحقون معك مع انا ما بعثنا الأنبياء والرسل الى أممهم الا لإرشادهم وهدايتهم الى توحيدنا وإيصالهم الى زلال تفريدنا على ذلك قد أخذنا العهود والمواثيق المؤكدة من عموم الأنبياء والرسل تأكيدا وإلزاما اذكر يا أكرم الرسل لمن تبعك من المؤمنين ليحافظوا على ما أمروا وقت إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ المبعوثين الى الأمم الماضية مِيثاقَهُمْ وعهودهم الوثيقة المؤكدة وَلا سيما مِنْكَ يا أكمل الرسل وَمِنْ نُوحٍ المنجى وَإِبْراهِيمَ الخليل وَمُوسى الكليم وَعِيسَى الصفي الخالص عن كدر الناسوت من قبل الأب لأنه ابْنِ مَرْيَمَ لم يمسها ذكر من بنى نوعها بل انما ولدته بلا أب إرهاصا لها ومعجزة لابنها خص سبحانه هؤلاء الكرام بالذكر اهتماما بشأنهم صلوات الله عليهم وسلامه وَأَخَذْنا مِنْهُمْ كرره تأكيدا ومبالغة اى من كل واحد منهم وممن لم نذكر أساميهم من ذوى العزائم الخالصة مِيثاقاً غَلِيظاً وعهدا وثيقا محكما مؤكدا على ان لا تتهاونوا ولا تتكاسلوا في ارشاد العباد وابعادهم عن الجور والفساد وإيصالهم الى ما أعددنا لهم من المراتب العلية والدرجات السنية وقد أنزلنا عليهم الكتب والصحف المشتملة على الأوامر والاحكام المقربة لتوحيدنا والعبر والنواهي المبعدة عن الكفر والضلال وامرناهم ايضا بتبيين الأوامر والنواهي الى أممهم وتنبيها عليهم ليتفطنوا على فطرتهم التي هم جبلوا عليها في عالم الغيب وليتميز عندهم الحق الحقيق بالاتباع عن الباطل الزاهق الزائل كل ذلك
لِيَسْئَلَ سبحانه في النشأة الاخرى عن الأنبياء ورسله صلوات الله عليهم من احوال العباد الصَّادِقِينَ الممتثلين بأوامر الله المجتنبين عن نواهيه عَنْ صِدْقِهِمْ وإخلاصهم في أعمالهم ونياتهم فيها وعن أحوالهم ومواجيدهم واعتقاداتهم وتلقيهم لقبول الحق والمحافظة عليه ليشهد الأنبياء لهم فيفوزوا الى ما قد أعد لهم وهيّئ لأجلهم من المراتب والمقامات وانواع السعادات والكرامات مع ان علمه سبحانه بحالهم يغنى عن شهاداتهم وليسأل ايضا سبحانه عن عناد العباد المصرين على الجور والفساد المجترئين على الله بالخروج عن حدوده ومقتضيات أحكامه ليشهدوا صلوات الله عليهم فيساقوا صاغرين مهانين الى ما قد أعد الله لهم من الدركات الهوية الجهنمية وَاعلموا ان الله سبحانه قد أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ الجاحدين لأوامر الله ونواهيه المنزلة في كتبه على رسله عَذاباً أَلِيماً لا عذاب أشد ايلاما منه. ثم نادى سبحانه المؤمنين الموحدين المواظبين على الطاعات بامتثال الأوامر واجتناب المنهيات كي تصلوا الى ما قد أعد لهم ربهم من المثوبات والمكرمات فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم تعداد نعم الله عليكم وإحصاء فواضله المتوالية المتتالية المتسعة اذْكُرُوا في عموم أوقاتكم وأحوالكم نِعْمَةَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ على تعاقب الأزمان وتلاحق الآنات والأحيان سيما نعمة انجائكم من أعدائكم ونصركم عليهم مع كونكم آيسين مأيوسين منه اذكروا يا اهل يثرب وقت إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ متعددة واحزاب متعاقبة متلاصقة قاصدين لمقتكم واستئصالكم وهم قريش وغطفان ويهود بنى قريظة وبنى النضير وكانوا زهاء اثنى عشر الفا وأنتم قليلون فخفرتم الخندق على المدينة ثم خرجتم تجاه الأعداء وأنتم ثلاثة آلاف والخندق بينكم وبينهم فقعدتم متقابلين وقد مضى عليها قريب شهر لا حرب بينكم الا(2/148)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
بالترامي بالنبل والحجارة فاضطررتم بل اضطربتم وقد اوجستم في انفسكم خيفة خفية منهم وصرتم مذبذبين متزلزلين لا الى الفرار ولا الى القرار وبعد ما قد ابصرناكم كذلك واطلعنا على قلوبكم أمددناكم بإرسال الريح وإنزال الملائكة اعانة لكم وتأييدا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً يعنى الصبا وهبت عليهم عاصفة بحيث تقلع أوتادهم وتسقط الخيام عليهم وتطفئ نيراتهم وتكفئ قدورهم وتجيل خيولهم وكانت هذه في ليلة شاتية باردة في غاية البرودة وَأرسلنا عليهم ايضا جُنُوداً من الملائكة قد ظهروا جوانب معسكرهم بحيث لَمْ تَرَوْها جنودا مثلها أصلا فقال حينئذ صناديدهم وكبراؤهم النجا النجا فان محمدا قد بدا بالسحر فانهزموا من غير قتال فنجوتم سالمين عناية من الله وانجازا لوعده ومعجزة لرسوله صلّى الله عليه وسلم وَكانَ اللَّهُ المطلع لأحوال عباده بِما تَعْمَلُونَ أنتم من حفر الخندق والتزلزل والتذبذب والرعب الخفى وبما يعملون ايضا أولئك المسرفون من التحزب والتوافق على استئصالكم بَصِيراً رائيا عليما منكم امارات التذبذب والتزلزل وكيف لا تزلزلون أنتم وقت
إِذْ جاؤُكُمْ وهم غطفان مِنْ فَوْقِكُمْ اى من أعلى الوادي من قبل المشرق وَقد جاؤكم القريش مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ اى من أسفل الوادي من قبل المغرب واضطررتم وليس معكم من يقابل احد الجانبين حينئذ فكيف بكليهما وَاذكر وقت إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ حينئذ منكم ومالت عن مستوى نظرها وتقلقلت واضطربت حيرة وشخوصا وَقد اضطربتم في تلك الحالة بحيث قد بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ يعنى قد بلغت من غاية الرعب والخوف قلوبكم حناجركم لان ريتكم قد انتفخت من الرعب المفرط فارتفع القلب بارتفاعها الى رأس الخنجرة وهي عبارة عن منتهى الحلقوم الذي هو مدخل الطعام والشراب وَحينئذ كنتم تَظُنُّونَ ايها الظانون المرعوبون بِاللَّهِ الذي قد وعدكم بالنصر والغلبة على الأعداء وبإظهار دينكم واعلائه على الأديان كلها الظُّنُونَا اى أنواعا من الظنون بعضها صحيح وبعضها فاسد على تفاوت طبقاتكم في الإخلاص وعدمه فمنكم من يظن ان الله منجز وعده الذي قد وعده لرسوله من إعلاء دينه ونصره على أعدائه إذ لا خلف لوعده سبحانه ومنكم من يتردد ويتحير بين الأمرين الى حيث لا يرجح أحدهما لذلك يخاف من ضعف وثوقه بالله وعدم رسوخه في الايمان وبالجملة
هُنالِكَ في تلك الحالة قد ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وجربوا واختبروا كي يتميز المخلص منهم من المنافق والثابت الراسخ من المتردد المتزلزل وَلذلك قد زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً من شدة الفزع والهول المفرط بحيث كاد ان يخرج أرواحهم من اجسادهم
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ حينئذ وَالمؤمنون الَّذِينَ قد بقي فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من امارات الشقاق ولم يصفوا بعد لحداثة عهدهم حتى يتمكنوا على الوفاق ويتمرنوا بالاتفاق ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الظفر على الأعداء وانتشار هذا الدين في الأقطار والأنحاء إِلَّا غُرُوراً باطلا زورا زاهقا زائلا وبالجملة قد بالغوا في ذلك حيث قال معقب بن قشير يعدنا محمد بفتح فارس والروم واحدنا لا يقدر ان يتبرز للقتال مع هؤلاء الفرق فظهر ان وعده ما هو الا غرور باطل
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ اى من منافقي المدينة والذين في قلوبهم مرض وضعف اعتقاد ويقين وهم يعدون أنفسهم من المؤمنين يا أَهْلَ يَثْرِبَ واصحاب المدينة لا مُقامَ لَكُمْ ولا يحسن اقامتكم الآن ومقاومتكم في مقابلة هذه الأحزاب ذوو عدد وعدد كثيرة وأنتم شرذمة قليلون بالنسبة إليهم فَارْجِعُوا عن دين محمد وانتشروا عن(2/149)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
حوله حتى تسلموا من يد الأعادي وَبعد ما سمع المؤمنون قول أولئك المنافقين الآمرين بالارتداد والرجوع صاروا مترددين متزلزلين في دينهم وأدّى أمرهم في التزلزل والتذبذب الى حيث يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ حيث يَقُولُونَ معتذرين معللين للرجوع والذب عن حول النبي صلّى الله عليه وسلم إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ غير حصينة خالية من المحافظ المراقب فأذن لنا حتى نرجع الى بيوتنا ونستحفظها وَالحال ان بيوتهم ما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي حصينة محفوظة لا خلل فيها بل إِنْ يُرِيدُونَ وما يقصدون من هذا القول المزور إِلَّا فِراراً عن الزحف واعراضا عن الدين القويم
وَمن غاية ضعفهم في الدين وعدم تثبتهم ورسوخهم في الاعتقاد واليقين لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ المدينة وحبست مِنْ أَقْطارِها وحصنت من جميع جوانبها بحيث لم يمكن الظفر عليها لا لهؤلاء الأحزاب ولا لغيرهم ايضا من عساكر الأعادي بل من أضعافهم وآلافهم ثُمَّ بعد ما تحصنت عليهم بيوتهم كذلك وصاروا آمنين من ظفر العدو مطلقا سُئِلُوا الْفِتْنَةَ اى ان طلب احد منهم إيقاع الفتنة بين المؤمنين والهزيمة والفرار من الزحف والارتداد عن الايمان والإسلام وعن النصر للمؤمنين لَآتَوْها البتة هؤلاء الجهلة الضعفة المتمائلون الى الكفر ومواخاة الكفرة عن صميم فؤادهم وجاءوا بالفتنة والفرار وبالردة عن الدين وبالقتال مع المسلمين على الفور وَما تَلَبَّثُوا وتوقفوا بها اى بإتيان الفتنة والردة بعد ما سئلوا عنها وطولبوا بِها إِلَّا يَسِيراً اى آنا واحدا لا زمانا بل مقدار ما يفهمون سؤال السائل ومقصوده منه وكيف لا يؤتونها
وَهم في أنفسهم لَقَدْ كانُوا يعنى بنى حارثة وبنى سلمة منهم قد عاهَدُوا اللَّهَ عهدا وثيقا مؤكدا مِنْ قَبْلُ اى قبل حفر الخندق وذلك في يوم احد حين أرادوا ان يفشلوا عن رسول الله وقد تخلفوا عنه يوم بدر فلما رأوا ما اعطى الاحديون والبدريون من الكرامة العظيمة عاجلا وآجلا قالوا معاهدين لئن اشهدنا الله قتالا فلنقاتلن وحلفوا غليظا شديدا لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أصلا فالآن قد تذبذبوا وتضعضعوا وكادوا ان يولوا وَلم يعلموا انه قد كانَ عَهْدُ اللَّهِ الذي قد عهدوا معه سبحانه من قبل مَسْؤُلًا عنه وعن نقضه ووفائه وهم مجزيون بمقتضى ما ظهر منهم من النقض والوفاء
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد تحقق عندك قصد فرارهم وانهزامهم وذبهم عنك لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ ابدا بل إِنْ فَرَرْتُمْ من ضعف يقينكم ووهن اعتقادكم مِنَ الْمَوْتِ حتف الأنف كما يفر عوام الناس من الطاعون والوباء والزلزلة وغير ذلك من الابتلاءات الإلهية أَوِ الْقَتْلِ في يوم الوغاء وَإِذاً يعنى بعد ما تفرون حينئذ لا تُمَتَّعُونَ تمتيعا كثيرا مؤبدا بل ما تمتعون إِلَّا قَلِيلًا في زمان قليل إذ لكل منكم أجل مقدر عنده سبحانه ولكل أجل قضاء وانقضاء ومضاء ولا دوام الا لمن هو متعال عن مطلق الأجل والقضاء والانقضاء منزه عن توهم الابتداء والانتهاء وعن الإعادة والإبداء مقدس عن تعديد الازمنة وتحديد الأمكنة مطلقا وان جادلوا معك يا أكمل الرسل وعاندوا بالفرار والتحصن للنجاة من العدو وإهلاكه بحيث لا تبقى لهم يد علينا
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ اى يحفظكم ويحرزكم مَنْ قهر اللَّهِ المنتقم الغيور وعذابه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً واصابة بلاء وشدة ومحنة أَوْ من ذا الذي يمنع عنكم لطفه سبحانه ان أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً عطفا ومحبة وَبالجملة لا يَجِدُونَ أولئك المتذبذبون المتضعضعون لَهُمْ اى لأنفسهم(2/150)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
مِنْ دُونِ اللَّهِ المراقب عليهم في عموم أحوالهم وَلِيًّا يتولى امور تحصنهم وتحفظهم وَلا نَصِيراً ينصرهم على أعدائهم وبالجملة جميع اعمال العباد وأفعالهم مفوضة الى الله أولا وبالذات مقهورة تحت قدرته الكاملة فلهم ان يفوضوا اليه ليسلموا عن غوائل العناد والإصرار وان اعتذروا بك وتبرؤا عما كانوا وصاروا عليه قل لهم يا أكمل الرسل
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ بحضرة علمه المحيط الحضوري الْمُعَوِّقِينَ المثبطين مِنْكُمْ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتخلفين عنه في الحروب والمعارك ألا وهم المنافقون وَيعلم ايضا الْقائِلِينَ منكم ايها المنافقون من اهل المدينة لِإِخْوانِهِمْ ممن في قلوبهم مرض من المؤمنين هَلُمَّ إِلَيْنا من المخاوف والمهالك وَبعد ما سمعوا منكم إخوانكم قولكم هذا لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ الحرب والقتال إِلَّا قَلِيلًا اى اتيانا قليلا بل يثبطون ويسوفون ويعتذرون بالأعذار الكاذبة وبالجملة هم اى المنافقون المثبطون ما أتوا ما أتوا الا
أَشِحَّةً بخلاء عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون المخلصون بما معكم من المعاونة والنفقة في سبيل الله او خوف الظفر وفوت الغنيمة عنهم او من خوف العاقبة وانما فعلوا ذلك قبل القتال فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ وظهر امارات الوغاء وهاج امواج الفتن والحرب ولمع بروق الفناء وتشعشع صوارم القضاء رَأَيْتَهُمْ ايها الرائي حين يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ من شدة خوفهم وخشيتهم تَدُورُ تتحرك وتضطرب أَعْيُنُهُمْ احداقهم في آماقهم كَالَّذِي يُغْشى يحل ويدور عَلَيْهِ مِنَ امارات الْمَوْتِ وظهر عليه علامات السكرات فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وزال الرعب والخشية وانهزم العدو واجتمعت الغنائم سَلَقُوكُمْ وجاؤكم متسلقين متسلطين عليكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ذرابة قاطعة باسطين أيديهم الى الغنائم وقت قسمتكم صائحين عليكم قائلين لكم لستم أنتم اولى منا وأحق بهذه الغنائم مع انا قد شهدنا القتال معكم بل نحن لا نقصر وأنتم قاصرون مقصرون فبم ترجحون أنتم علينا وانما سلقوكم بها لكونهم أَشِحَّةً بخلاء عَلَى الْخَيْرِ الذي وصل إليكم من الغنائم العظام وبالجملة أُولئِكَ البعداء الهالكون في تيه النفاق والشقاق لَمْ يُؤْمِنُوا بتوحيد الله ولم يخلصوا الايمان به وبرسوله وكتابه قصدا وعزما بل انما آمنوا واعترفوا باللسان لحقن الدماء والأموال خداعا ومكرا ولذلك قد مكر الله المطلع على نياتهم بهم فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ الصالحة وأبطلها عليهم بلا ترتيب الجزاء والمثوبات الاخروية كما لاعمال المخلصين من المؤمنين وَكانَ ذلِكَ الإحباط والابطال عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر بعموم ما ثبت في لوح قضائه يَسِيراً سهلا غير عسير عنده وان استعسرتم ايها المحجوبون بالحجب الظلمانية الكثيفة ومن كمال غيهم وضلالهم ونهاية جبنهم ورعبهم من الأحزاب
يَحْسَبُونَ ان الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا فكيف ان ينهزموا مع انهم قد ذهبوا منهزمين بحيث لم يبق منهم احد وَهم مع كمال محبتهم ومودتهم مع الأحزاب إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ ويكروا بعد الفرار يَوَدُّوا يعنى هؤلاء المنافقون يودون إتيانهم بحيث تمنوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ ظاهرون فِي البدو خلال الْأَعْرابِ الأحزاب اى بينهم خارجون من بين اظهر المسلمين لاحقون بالكفرة معدودون منهم يَسْئَلُونَ كل قادم من قبلكم عَنْ أَنْبائِكُمْ وأخباركم وما جرى عليكم ايها المؤمنون من الوقائع الهائلة والمصيبات المهولة وَمن كمال ودادتهم مع الكفرة لَوْ فرض انهم كانُوا فِيكُمْ وقت كر الكفرة عليكم ما قاتَلُوا اى المنافقون من قبلكم مع أعداءكم إِلَّا قَلِيلًا منهم وهو ايضا على سبيل الرياء والسمعة وبمقتضى ما زعموا من جلب النفع(2/151)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
او دفع الضر لا لرضاء الله وإعلاء دينه ونصرة نبيه. ثم قال سبحانه تحريكا لحمية المؤمنين
لَقَدْ كانَ لَكُمْ ايها المؤمنون المخلصون الطالبون المتخلقون بأخلاق الله تعالى الهاربون عن اخلاق عدوه فِي رَسُولِ اللَّهِ المبعوث لإرشادكم وهدايتكم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وخصلة حميدة بديعة يجب لكم التأسى والاتصاف بها لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ اى لقاءه ومطالعة وجهه الكريم وَيرجو ايضا الْيَوْمَ الْآخِرَ الموعود فيه هذه الكرامة العظيمة وَبواسطة هذا الرجاء وغلبة هذه الامنية العظيمة في خاطره قد ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً في عموم الأحيان والاحياز لتلذذه بذكره سبحانه حتى ينال ما وعد من الفوز بشرف اللقاء والبقاء ومن كان شأنه كذلك وهمه هكذا فهو مؤتس الى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم في تلك الخصلة المحمودة والديدنة المسعودة المقبولة عند الله التي هي الرضا بجميع ما جرى عليه من القضاء ومن علاماتها الثبات على العزيمة وتحمل الشدائد ومقاساة الأحزان وارتكاب المتاعب والمشاق في إعلاء دين الله وافشاء كلمة توحيده والتوكل نحوه في السراء والضراء وكظم الغيظ عند هجوم الغضب والعناء والعفو عند القدرة عن الأعداء وغير ذلك من الخصلة الحميدة والأخلاق الجميلة المرضية
وَمن شدة تأثير هذه الخصائل الجميلة في قلوب المؤمنين لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ المخلصون الْأَحْزابَ حواليهم قالُوا متذكرين لوعد الله متثبتين على دينه متشمرين لإعلاء كلمة توحيده هذا الوقت وقت انجاز ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من النصر والغلبة على الأعداء والفوز بأنواع الغنائم والعطاء آجلا وعاجلا بقوله سبحانه أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية. وقوله عليه السلام سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم وقوله صلّى الله عليه وسلّم انهم سائرون إليكم بعد تسع او عشر وَقد صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في جميع ما جاءنا من قبل الله وقبل رسوله من الوعد والوعيد وانواع النعم والعطاء والمحن والبلاء وَمن كمال تثبتهم وتفويضهم على الله وتوكلهم نحوه ما زادَهُمْ إلمام الخطوب وحدوث الوقائع وحلول المحن والبليات إِلَّا إِيماناً بالله وبكمال قدرته وعلمه وارادته وسائر صفاته الذاتية والفعلية وَتَسْلِيماً لعموم ما جرى عليهم من صولجان قضائه بلا تلعثم وتذبذب في ايمانهم واعتقادهم ومن غاية خلوصهم في ايمانهم وتسليمهم
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المشمرين لإعلاء دين الله ونصرة رسوله على العزيمة الكاملة الصادقة رِجالٌ ابطال كاملون في الإخلاص والشجاعة والوفاء قد صَدَقُوا في جميع ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وانجزوا جميع مواثيقهم ووفوا عموم عهودهم التي قد عهدوا مع الله ورسوله من الثبات على العزيمة والتصبر في المعركة وعدم التزلزل من المحل الذي قد عين لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في صف القتال وبالجملة لم يجبنوا ولم يضعفوا أصلا فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ووفى نذره بان قاتل مع اعداء الله بمقتضى ما قد عهد ونذر حتى استشهد ووصل الى مرامه ومبتغاه كحمزة ومصعب بن عمير وانس بن النضر رضوان الله عليهم أجمعين وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة كعثمان وطلحة فقاتلوا مع الأعداء وقتلوهم ونجوا منهم سالمين منتظرين الى قتال آخر ليستشهدوا فيه وَمن كمال تمكنهم وتثبتهم في يقينهم وإخلاصهم في ايمانهم ما بَدَّلُوا وما غيروا من النذور والعهود المنذورة المعهودة التي قد أتوا بها عازمين عليها جازمين ولا اضمروا ايضا في أنفسهم كالمنافقين تَبْدِيلًا وتغييرا قليلا نذرا يسيرا من التبديل والنقض فكيف بالعظيم الكثير بل قد زادوا عليها وأكدوها كل ذلك(2/152)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ المجازى لاعمال عباده الصَّادِقِينَ المخلصين منهم بِصِدْقِهِمْ وبمقتضى وفائهم وايفائهم جزاء حسنا يناسب صدقهم وإخلاصهم او بواسطة صدقهم وإخلاصهم وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ منهم ويجازيهم حسب كفرهم ونفاقهم تعذيبا مخلدا مؤبدا إِنْ شاءَ سبحانه وتعلق ارادته ومشيته بتخليدهم في العذاب أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويوفقهم على الايمان والإخلاص ان تعلق ارادته بانقاذهم من العذاب الأبدي إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم ما أحاط به تحت علمه وقدرته كانَ غَفُوراً ساتر الذنوب ممن وفقهم على التوبة من عصاة عباده رَحِيماً يقبل توبتهم ويرحم عليهم بعد ما أخلصوا فيها
وَمن غاية لطف الله على المؤمنين ووفور رحمته وإحسانه عليهم رَدَّ اللَّهُ عنهم كيد أعدائهم الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى الأحزاب المزدحمين حواليهم المتفقين على مقتهم بِغَيْظِهِمْ يعنى مع شدة غيظهم وشكيمتهم في مقت المؤمنين ووفور تهورهم وجرأتهم عليه لذلك طردهم سبحانه خائبين خاسرين بحيث لَمْ يَنالُوا خَيْراً مما أملوا في نفوسهم من الظفر على المؤمنين واستئصالهم وَمن كمال رأفته سبحانه على المؤمنين قد كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ اى أسقط وكف مؤنة قتالهم مع الأحزاب بريح الصبا وجنود الملائكة بحيث لم يقدم احد من المؤمنين لقتالهم فانهزموا الى حيث لم يلتفت احد منهم خلفه ولم يعاون أخاه وَليس ببدع من الله أمثال هذه الكرامات سيما لأنبيائه وأوليائه إذ قد كانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده قَوِيًّا قديرا في نفسه يقوى أولياءه عَزِيزاً غالبا ينصرهم ويغلبهم على أعدائهم فضلا لهم وكرامة عليهم
وَبعد ما قد كفى الله المؤمنين مؤنة الأحزاب أراد ان يكفيهم مؤنة معاونيهم ايضا لذلك قد أَنْزَلَ سبحانه الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ وعاونوهم اى الأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى يهود قريظة والنضير مِنْ صَياصِيهِمْ اى حصونهم وقلاعهم جمع صئصئة وهي ما يتحصن به من الجبل وغيره وذلك بعد ما انهزم الأحزاب ورجعوا خائبين خاسرين الى بلادهم ورجع صلّى الله عليه وسلّم الى المدينة مع أصحابه وشرع يغسل رأسه والأصحاب قد انتزعوا عن أسلحتهم فجاءه جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم معتجرا بعمامة من إستبرق والنقع على ثناياه وعلى فرسه الذي اسمه حيزوم وقال قد وضعتم أنتم السلاح ان الملائكة لم تضع أسلحتها منذ أربعين ليلة ان الله يأمرك بالمسير الى قريظة وانى نزلزل حصونهم وكان صلّى الله عليه وسلّم قد غسل نصف رأسه فعصبه واذن بالرحيل فقال من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر الا في بنى قريظة واعطى رايته عليا كرم الله وجهه فسار بالناس حتى دنى من الحصن فحاصرهم عليه السلام احدى وعشرين او خمسا وعشرين ليلة وأجهدهم الحصار وضعفوا وَقد قَذَفَ الله والقى فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ والخوف مع كونهم متحصنين فأرسل عليه السلام عليهم فقال لهم أتنزلون بحكمي فأبوا فقال على حكم سعد بن معاذ فرضوا بحكمه فنزلوا فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبى ذراريهم ونسائهم فكبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لقد حكمت بحكم الله يا سعد من فوق سبعة ارقعة فقتل منهم ستمائة او اكثر وأسر منهم سبعمائة كما قال سبحانه فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَبعد ما استأصلوا بالأسر والقتل قد أَوْرَثَكُمْ الله سبحانه إليكم ايها المؤمنون أَرْضَهُمْ مزارعهم وَدِيارَهُمْ التي يسكنون فيها مع ما فيها من الامتعة والرخوة وَأَمْوالَهُمْ مواشيهم ونقودهم وتجاراتهم تفضلا عليكم وامتنانا وَكذا قد يتفضل عليكم سبحانه ويورثكم أَرْضاً كثيرة لَمْ تَطَؤُها قط ولم تتحركوا عليها بل لم تبصروها ولم(2/153)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
تسيروا إليها وهي خيبر او مكة او فارس او الروم او كل ارض يفتح الله الى يوم القيامة وَلا تتعجبوا من كمال فضل الله وسعة جوده من أمثال هذه الكرامات إذ كانَ اللَّهُ المتعزز بالقدرة الكاملة والقوة التامة الشاملة عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيراً لا يعسر عنده مقدور دون مقدور بل الكل في جنب قدرته على السواء فارجع البصر هل ترى من فطور في مقدور حكيم قدير ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير. ثم لما اشتكت ازواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من العسرة في المأكل والملبس وسألن منه ثياب الزينة والزيادة في النفقة والسعة في المعيشة وليس معه صلّى الله عليه وسلّم من حطام الدنيا ما يكفى مؤنتهن على هذا الوجه اغتم صلّى الله عليه وسلّم وتحزن حزنا شديدا فقال تعالى مناديا له
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المفتخر المباهي بالفقر والفاقة قُلْ لِأَزْواجِكَ حين سألن عنك اسباب التنعم والترفه وسعة العيش على وجه التخيير إِنْ كُنْتُنَّ أيتها الحرائر العفائف تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها مطاعمها الشهية وملابسها البهية فَتَعالَيْنَ وتراضين أنتن أُمَتِّعْكُنَّ انا واعطكن المتعة حسب ما ترضين وَأُسَرِّحْكُنَّ وأطلقكن بعد اعطائها سَراحاً جَمِيلًا طلاقا رجعيا سنيا لا بدعيا بلا ضرر وإضرار
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اى رضاء الله ورسوله وَتطلبن الدَّارَ الْآخِرَةَ والمثوبات المعدة فيها والجنات المعهودة دونها فعليكن ان تصبرن عن لذائذ الدنيا ومشتهياتها وسعة مطعوماتها ولين ملبوساتها حتى تكن من زمرة المحسنات اللاتي تحسن في توجههن نحو الحق واللذة الاخروية مائلات عن امتعة الدنيا وعن عموم لذاتها وشهواتها معرضات عنها وعن أطعمتها وألبستها بالمرة سوى سد جوعة وستر عورة فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده قد أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ المرجحات جانب الله وجانب رسوله على مقتضيات اهوية نفوسهم واللذات الاخروية على لذات الدنيا وما فيها من اللذائذ والزخارف مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يستحقر دونها الدنيا وما فيها من اللذات الفانية والشهوات الغير الباقية. ثم لما نبه سبحانه عليهن طريق الإحسان وعلمهن سبيل الفوز الى درجات الجنان أراد ان يجنبهن ويبعدهن عن دركات النيران فقال مناديا عليهن ليقبلن الى قبول ما يتلى عليهن
يا نِساءَ النَّبِيِّ قد اضافهن سبحانه إياه صلّى الله عليه وسلّم للتعظيم والتوقير من شأنكن التحصن والتحفظ عن مطلق الفحشاء والتحرز عن عموم المحارم والمكاره مطلقا واعلمن مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ وفعلة قبيحة وخصلة ذميمة عقلا وشرعا سيما مُبَيِّنَةٍ بينة ظاهر فحشها بنفسها او ظاهر واضح قبحها شرعا وعرفا على كلتا القرائتين يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ يعنى عذابكن ضعف عذاب سائر الحرائر لا أزيد فيها حتى لا يؤدى الظلم المنافى للعدالة الإلهية كما يضاعف عذاب سائر الحرائر بالنسبة الى الإماء وَكانَ ذلِكَ التضعيف والتشديد عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ليعذبكن البتة ان تأت إحداكن بها
وَمَنْ يَقْنُتْ ويطع على وجه الخضوع والخشوع مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ويداوم على إطاعتهما وانقيادهما بإتيان الواجبات وبترك المحظورات وعموم المنكرات والمكروهات وَتَعْمَلْ عملا صالِحاً من النوافل والمندوبات نُؤْتِها أَجْرَها وجزاء أعمالها وطاعاتها في يوم الجزاء مَرَّتَيْنِ مرة على مقابلة الأعمال المأتى بها وبمقتضى الطاعات المرضى عنها ومرة على ترجيحها رضى الله ورضى رسوله على مشتهيات نفسها وأمانيها وَمع ذلك التضعيف قد أَعْتَدْنا لَها وهيأنا لأجلها تفضلا منا إياها وامتنانا عليها وراء ما استحقت بالأعمال والطاعات رِزْقاً كَرِيماً صوريا في الجنة مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ومعنويا(2/154)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
من الحالات الطارئة عليها عند استغراقها بمطالعة جمال الله وجلاله ثم ناداهن سبحانه تعظيما لهن وتنبيها عليهن فقال
يا نِساءَ النَّبِيِّ الأفضل الأكمل من عموم الأنبياء والرسل كما انه صلّى الله عليه وسلّم ليس في الكرامة والنجابة كآحاد الناس بل ليس كآحاد الأنبياء والرسل كذلك لَسْتُنَّ أنتن ايضا لنسبتكن اليه صلّى الله عليه وسلم كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ وواحدة منهن إذ فضيلته صلّى الله عليه وسلّم قد سرت إليكن فعليكن ان لا تغفلن عنها ولا تذهلن عن مقتضاها ورعاية حقوقها بل من شأنكن التحصن والتقوى والتحرز مطلقا عن ملهيات الهوى فلكن إِنِ اتَّقَيْتُنَّ يعنى ان تردن ان تتصفن بالتقوى عن محارم الله وعن مقتضيات الهوى فَلا تَخْضَعْنَ ولا تلن ولا تلطفن بِالْقَوْلِ والتكلم وقت احتياجكن الى المكالمة مع آحاد الرجال من الأجانب ولا تجبن عن سؤالهم هينات لينات مريبات مثل تكلم النساء المريدات لانواع الفتن والفسادات مع المفسدين من الرجال فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وميل الى الفجور إليكن بعد ما سمع منكن تلينكن في قولكن وَبالجملة قُلْنَ بعد ما تحتجن الى التكلم معهم عن ضرورة قَوْلًا مَعْرُوفاً مستحسنا عقلا وشرعا بعيدا عن الريبة المثيرة للطمع خاليا عن وصمة الملاينة المحركة للشهوات
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يعنى يا نساء النبي من شأنكن التقرر والتخلي في البيوت بلا تبرز الى الملأ بلا ضرورة رعاية لمرتبتكن التي هي أعلى من مراتب سائر النساء وَان تحتجن الى التبرز والخروج أحيانا عليكن انه لا تَبَرَّجْنَ ولا تبخترن في مشيكن مظهرات زينتكن مهيجات لشهوات المناظرين تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى مثل تبختر النساء المثيرات لشهوات الرجال في الجاهلية القديمة التي هي جاهلية الكفر والجاهلية الاخرى جاهلية الفسوق والعصيان في الإسلام خض سبحانه الاولى بالذكر وان كانت كلتاهما مذمومتين محظورتين شرعا لأنها افحش وأقبح واظهر فسادا لان النساء فيها يتزين بأنواع الزينة ويظهرن على الرجال بلا تستر واستحياء بل بملاينة تامة وملاطفة كاملة على سبيل الغنج والدلال وانواع الحركات المطمعة للرجال وَبالجملة من حقكن واللائق بشأنكن يا نساء النبي الاجتناب عن مطلق المنكرات والاشتغال بالطاعات والأعمال الصالحات سيما المواظبة على الصلوات النوافل والمفروضات أَقِمْنَ الصَّلاةَ المفروضة المقربة لكن الى الله على الوجه الذي علمتن من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وَآتِينَ الزَّكاةَ المطهرة لانفسكن عن الشح المطاع وانواع الأمراض العضال المتولدة من حب الدنيا وأمانيها ان بلغ اموالكن النصاب المقدر في الشرع وَبالجملة أَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اطاعة مقارنة بكمال الخشوع والخضوع والتذلل التام بالعزيمة الصيحة الخالية عن شوب الرياء والرعونات مطلقا في جميع ما امرتن بها ونهيتن عنها وبالجملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المراقب المصلح لأحوال عباده الخلص بإتيان أمثال هذه المواعظ والتذكيرات البليغة والتنبيهات العجيبة البديعة لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ويزيل عنكم القذر المستقبح المستهجن عقلا وشرعا بالمرة يا أَهْلَ الْبَيْتِ المجبولين على كمال الكرامة والنجابة والعصمة والعفاف وَيُطَهِّرَكُمْ عن ادناس الطبيعة وإكدار الهيولى المانعة عن الصفاء والنقاء الجبلي الذاتي تَطْهِيراً بليغا وتنظيفا لطيفا متناهيا بحيث لا يبقى فيكم شائبة شين ووصمة عيب ونقصان أصلا. ذكر الضمير لان النبي وعليا وابنيه صلّى الله عليه وعليهم فيهم فغلب هؤلاء الذكور الأشراف السادة على فاطمة وازواج النبي رضوان الله عليهن
وَبعد ما قد سمعتن يا نساء النبي ما يليق وينبغي بشأنكن اذْكُرْنَ في عموم الأوقات والحالات ما يُتْلى عليكن لإصلاح احوالكن وتكميلكن في الدين(2/155)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
فِي بُيُوتِكُنَّ غير مخرجات لطلبه إذ بيوتكن مهبط الوحى ومحل نزول الآيات المنزلة فلكن ان تلازمن خدمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وتشاهدن عليه صلّى الله عليه وسلّم من برحاء الوحى الموجب لقوة الايمان وكمال اليقين والعرفان فليس لكن ان تخرجن من بيوتكن وتتعبن انفسكن في طلب ما يتلى مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على وحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته وَالْحِكْمَةِ المتقنة الدالة على متانة فعله ووثاقة تدبيره إِنَّ اللَّهَ المطلع لعموم السرائر والخفايا كانَ لَطِيفاً يعلم دقائق ما في ضمائر عباده ورقائقه خَبِيراً ذو خبرة تامة كاملة على سوانح صدورهم وخواطر قلوبهم فعليهم ان يخلصوا الله جميع ما أتوا به ويجتنبوا عن مطلق التهاون والتواني في امتثال الأوامر والنواهي الإلهية وينقادوا له ويسلموا اليه مفوضين أمورهم كلها
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ المسلمين المخلصين المفوضين وَالْمُسْلِماتِ المفوضات المخلصات وَالْمُؤْمِنِينَ الموقنين الموحدين وَالْمُؤْمِناتِ الموقنات الموحدات وَالْقانِتِينَ الخاضعين المتذللين مع الله في عموم الطاعات والعبادات بل في جميع الحالات وَالْقانِتاتِ الخاضعات الخاشعات وَالصَّادِقِينَ في جميع الأقوال المخلصين في عموم الأعمال وَالصَّادِقاتِ كذلك وَالصَّابِرِينَ في البأساء والضراء بجميع ما جرى عليهم من سلطان القضاء وَالصَّابِراتِ ايضا كذلك وَالْخاشِعِينَ المتواضعين المتضرعين نحو الحق بجوانحهم وجوارحهم وَالْخاشِعاتِ ايضا كذلك وَالْمُتَصَدِّقِينَ بما عندهم من فواضل الصدقات طلبا لمرضاة الله وهربا عن مساخطه وَالْمُتَصَدِّقاتِ ايضا كذلك وَالصَّائِمِينَ الممسكين الحافظين نفوسهم مطلقا عما لا يرضى عنه سبحانه وَالصَّائِماتِ الممسكات انفسهن كذلك وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ عن امارات الزنا ومقدمات السفاح مطلقا وَالْحافِظاتِ ايضا كذلك وَالذَّاكِرِينَ المشتغلين بذكر الله باللسان والجنان وعموم الجوارح والأركان المتذكرين اللَّهَ باسمه الجامع الشامل لجميع الأسماء والصفات لا على سبيل التعديد والإحصاء ولا في حين دون حين بل كَثِيراً مستوعبا لعموم الأحيان والأزمان والأمكنة والاحياز وفي جميع الأوقات وعموم الحالات والآنات وَالذَّاكِراتِ ايضا كذلك قد أَعَدَّ اللَّهُ المصلح لأحوالهم المطلع على عموم ما قد جرى في ظواهرهم وبواطنهم من الإخلاص على وجه التذلل والانكسار وهيأ لَهُمْ اى لهؤلاء المتصفين بالصفات المرضية المذكورة والأخلاق المحمودة المقبولة عند الله مَغْفِرَةً سترا وعفوا لما صدر عنهم من الصغائر هفوة ومن الكبائر ايضا بعد ما تابوا وأنابوا عنها وأخلصوا فيها على وجه الندم وَأَجْراً جزيلا جميلا لصالحات أعمالهم عَظِيماً بأضعاف ما استحقوا بحسناتهم تفضلا عليهم وامتنانا. ثم لما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ان يزوج بنت عمته التي هي اميمة بنت عبد المطلب المسماة بزينب بنت جحش لزيد بن الحارث الذي هو مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعيّه وعتيقه فأبت هي وأمها اميمة وأخوها عبد الله بن جحش فاعرضوا عن تزويجها اليه لئلا يلحق العار عليهم من تزويج الشريفة بالمولى فنزلت
وَما كانَ يعنى ما صح وما جاز لِمُؤْمِنٍ اى لواحد من المؤمنين وَلا مُؤْمِنَةٍ واحدة من المؤمنات بعد ما أخلصوا الايمان بالله ورسوله ان يتخلفوا عن حكمهما أصلا سيما إِذا قَضَى اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله وَقد نفذ ايضا رَسُولُهُ أَمْراً من الأمور المقضية وحكما من الاحكام المحكومة المبرمة أَنْ يَكُونَ اى يثبت ويبقى لَهُمُ الْخِيَرَةُ والاختيار والترجيح بان يختاروا مِنْ أَمْرِهِمْ المحكوم به والمقضى عليه شيأ يخالف الحكم(2/156)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
الواقع منهما او يوافقه بل لهم ان يطيعوا وينقادوا لحكم رسول الله الذي هو حكم الله حقيقة وَبالجملة مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سيما بتغيير ما قد حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم وادعاء الخيرة والاختيار في المأمور به من قبله صلّى الله عليه وسلم فَقَدْ ضَلَّ به عن طريق الهداية ضَلالًا مُبِيناً وانحرف عن منهج الصواب والرشد انحرافا عظيما وبعد ما قد نزلت الآية رضيت زينب وأمها وأخوها فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على زيد ومضى عليها زمان الى ان جاء صلّى الله عليه وسلّم يوما من الأيام الى بيت زيد وليس هو في بيته فرأى زينب فأعجبته فقال صلّى الله تعالى عليه وسلّم متعجبا سبحان الله مقلب القلوب فسمعتها زينب وانصرف صلّى الله عليه وسلّم فلم جاء زيد أخبرته زينب بمجيئه صلّى الله عليه وسلّم وتسبيحه هكذا فالفى زيد في نفسه كراهتها فاتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أريد ان اطلق صاحبتي فقال صلّى الله عليه وسلّم أرى بك منها شيء قال والله ما رأيت منها الا خيرا ولكنها قد تترفع على بمقتضى شرافتها ونسبها
وَبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل من زيد ما سمعت اذكر وقت إِذْ تَقُولُ أنت لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذ قد وفقه للايمان وقبول الإسلام وشرفه بشرف صحبتك يعنى زيدا وَقد أَنْعَمْتَ ايضا عَلَيْهِ حيث أعتقته ودعوته وزوجته أَمْسِكْ يا زيد عَلَيْكَ زَوْجَكَ بعد ما لم ير بك منها شيء وَاتَّقِ اللَّهَ المنتقم الغيور واحذر عن بطشه بطلاق العفيفة والمفارقة منها بلا وصمة عيب ظهرت عنها وسمة نقص لاحت منها وَالحال انه أنت يا أكمل الرسل حينئذ تُخْفِي وتضمر فِي نَفْسِكَ حين قولك لزيد هكذا مَا اللَّهُ المطلع لما في القلوب العليم بما في الصدور مُبْدِيهِ يعنى شيأ وامرا هو سبحانه مظهره ومعلنه وهو ميلك الى زينب ونكاحها وارادتك بطلاق زيد وافتراقه عنها وَما سبب اخفائك هذا وإظهارك ضد مطلوبك الا انك تَخْشَى النَّاسَ من ان يعيروك بمناكحة زوجة عتيقك ودعيّك ويرموك بما لا يليق بشأنك مع انك برئ عنه وَاللَّهُ المطلع على عموم ما ظهر وبطن أَحَقُّ واولى من أَنْ تَخْشاهُ أنت وتستحي منه وتخاف إذ سبحانه غيور ينتقم عمن يشاء ويأخذه على ما يشاء بالإرادة والاختيار وما هذه الآية الا عتاب شديد وتأديب بليغ قالت عائشة لو كتم النبي شيأ مما انزل اليه لكتم هذه الآية البتة وبالجملة قد طلقها زيد ومضت عليها العدة قال صلّى الله عليه وسلم لزيد اذهب فاذكرها على فذهب زيد فقال يا زينب ان نبي الله أرسلني إليك بذكرك قالت ما انا بصانعة شيأ حتى اومر من ربي وقامت الى الصلاة فنزلت فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها اى من زينب وَطَراً ومصاحبته وطلقها باينا ومضت عدتها قد زَوَّجْناكَها يعنى زوجناك يا أكمل الرسل زينب بلا نصب ولى من الجانبين على الرسم المعهود في الشرع بل قد أبحنا لك الدخول عليها بلا عقد معروف وصيرناها زوجتك بلا مهر وعقر لذلك قد كانت تباهي على سائر النساء قائلة ان الله قد تولى نكاحي وأنتن زوجكن اولياؤكن فدخل صلّى الله عليه وسلّم عليها بلا اذن ولا عقد نكاح ولا صداق ولا شهود واطعم الناس خبزا ولحما. ثم قال سبحانه لِكَيْ لا يَكُونَ يعنى قد فعلنا ذلك كذلك لكيلا يكون عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ وضيق واثم فِي تزوج أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ الذين تبنوهم وسموهم أبناء محبة وولاء إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً يعنى بعد ما طلقوهن وسرحوهن سراحا جميلا وَبالجملة قد كانَ أَمْرُ اللَّهِ وحكمه المبرم المثبت في لوح قضائه مَفْعُولًا مقضيا نافذا كائنا على تعاقب الأحيان والأزمان. ثم قال سبحانه تسلية لنبيه وحطا(2/157)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
عنه صلّى الله عليه وسلّم العار سيما في أمثال هذه الأفعال الكائنة في قضاء الله المقضية في حضرة علمه المحيط
ما كانَ اى ما لحق وما عرض عَلَى النَّبِيِّ المؤيد من عند الله بأنواع التأييدات المنتظر على الوحى والإلهام في ما عنده سبحانه في عموم أحواله واعماله مِنْ حَرَجٍ ضيق واثم وسآمة ووخامة عاقبة فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ صلّى الله عليه وسلّم وما قدر لأجله وما كتب واثبت في لوح قضائه وحضرة علمه المحيط من مطلق الحوادث الكائنة الجارية عليه على تعاقب الأزمان والأوقات أصلا ومن جملتها هذا النكاح وبالجملة ليس أمثال هذا ببدع من الله مخصوص بهذا النبي بل سُنَّةَ اللَّهِ الحكيم العليم المتقن في أفعاله المستمرة القديمة التي قد سنها سبحانه فِي الَّذِينَ خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلُ من الأنبياء والرسل بان لا حرج ولا جريمة لهم أصلا فيما صدر عنهم من أمثاله وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ المثبت في لوح قضائه وحكمه المبرم المحكوم به في حضرة علمه المحيط قَدَراً مَقْدُوراً حتما مقضيا مبرما محكوما به البتة وكيف لا يقضى ولا يحكم بالسنن المقدرة للأنبياء والرسل وهم
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ المحمولة عليهم من قبل الله بوحي الله والهامه الى من أرسلوا إليهم من الأمم بلا تبديل ولا تغيير وَيَخْشَوْنَهُ وهم يخافون عنه سبحانه في عموم أحوالهم وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ يعنى من ديدنة الأنبياء العظام والرسل الكرام ومن خصلتهم الحميدة ان لا يخافوا من الناس ولا يستحيوا منهم لا من لوم لائم ولا من تعييره وتهديده بالقتل والضرب وغير ذلك بل ما يخافون ولا يخشون الا الله المنتقم الغيور المقتدر على انواع العذاب والعقاب وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً ظهيرا ومعينا لهم يكفى مؤنة أعدائهم ويدفع عنهم شرورهم ويكف عنهم جميع ما قصدوا عليهم من المقت والمكر وانواع الأذى والضرر. ثم لما عير الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بانه قد تزوج زوجة ابنه ودعيّه وهو زيد رد الله عليهم تعييرهم هذا وتشنيعهم هكذا فقال
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ايها الأجانب من المؤمنين على الحقيقة سواء كان زيدا او غيره حتى تسرى حكم الحرمة في تزوج زوجته بعد ما قضى الوطر عنها وَلكِنْ كان صلّى الله عليه وسلم رَسُولَ اللَّهِ الهادي لعباده قد أرسله سبحانه إليكم ليهديكم الى طريق الرشد بمقتضى سنته المستمرة في الأمم السالفة وَلكن من شأنه انه قد صار صلّى الله عليه وسلم خاتَمَ النَّبِيِّينَ وختم المرسلين إذ ببعثته صلّى الله عليه وسلّم قد كملت دائرة النبوة وتمت جريدة الرسالة والفتوة كما قال صلّى الله عليه وسلّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وقال تعالى في شأنه صلّى الله عليه وسلّم اليوم أكملت لكم دينكم يعنى ببعثته صلّى الله عليه وسلّم والسرفيه والله اعلم انه صلّى الله عليه وسلّم قد بعث على محض التوحيد الذاتي وسائر الأنبياء انما بعثوا على التوحيد الوصفي او الفعلى وبعد ما بعث صلّى الله عليه وسلّم على توحيد الذات فقد ختم به امر البعثة والرسالة وكمل قصر الدين القويم إذ ليس وراء توحيد الذات مرمى ومنتهى لذلك قد صار صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين وختم المرسلين وَكانَ اللَّهُ المطلع على جميع ما ظهر وما بطن بِكُلِّ شَيْءٍ وامر قد جرى في ملكه وملكوته وسيجرى عَلِيماً يعلم بعلمه المحيط الحضوري عموم ما قد لمع عليه نور وجوده حسب لطفه وجوده حكيما في بعثة الرسل لتنبيه من وفقه وجبله في سابق قضائه على فطرة التوحيد والايمان مختارا في ختم البعثة وتكميل الدين بعد ما قد وصل غاية كماله وظهوره
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وعرفوه حق معرفته وتوحيده وعرفوا ايضا كمالات أسمائه وصفاته مقتضى ايمانكم وعرفانكم المداومة على ذكره سبحانه اذْكُرُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد(2/158)
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
الصمد المتصف بجميع أوصاف الكمال المستجمع لعموم الأسماء الحسنى التي لا تعد ولا تحصى ذِكْراً كَثِيراً مستوعبا بجميع أوقاتكم وحالاتكم وازمانكم وآناتكم وبالغوا في ذكره كي تصلوا من اليقين العلمي الى العيني
وَسَبِّحُوهُ ونزهوه عن جميع ما لا يليق بشأنه من لوازم الحدوث وأوصاف الإمكان بُكْرَةً وَأَصِيلًا اى في جميع آنات أيامكم ولياليكم طالبين الترقي من اليقين العيني الى الحقي وكيف لا تذكرون الله ولا تسبحون له ايها المؤمنون مع ان شكر المنعم المفضل واجب عقلا وشرعا
هُوَ الَّذِي سبحانه يُصَلِّي ويرحم عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون بذاته وبمقتضيات أسمائه وصفاته وَمَلائِكَتُهُ يستغفرون لكم باذنه وانما يفعل بكم سبحانه هذه الكرامة العظيمة لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمة العدم الأصلي وظلمة الطبيعة والهيولى وظلمة الحجب التعينية إِلَى النُّورِ اى نور الوجود البحت الخالص عن ظلمات التعينات والكثرات مطلقا وَكانَ سبحانه بِالْمُؤْمِنِينَ الموفقين على التوحيد الذاتي رَحِيماً يوفقهم على الايمان حسب رحمته الواسعة ثم يوصلهم الى رتبة التوحيد والعرفان مرقيا من مضيق الإمكان الى سعة فضاء الوجوب عناية لهم وتفضلا عليهم ثم يشرفهم بشرف لقائه بلا كيف ولا اين ولا وضع ولا اضافة محاذات ومقابلة بعد ما انخلعوا عن جلباب الناسوت وتشرفوا بخلعة اللاهوت
تَحِيَّتُهُمْ وترحيبهم من قبل الحق يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سبحانه سَلامٌ تسليم وتطهير عن رذائل التعينات ونقائص الأنانيات والهويات المستتبعة لانواع الضلالات والجهالات وَأَعَدَّ لَهُمْ سبحانه نزلا عليهم أَجْراً كَرِيماً وجزاء عظيما مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم قال سبحانه
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد المختص بأنواع الفضائل والكمالات واصناف الكرامات والمعجزات إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْناكَ الى كافة البرايا وعامة العباد شاهِداً تشهد لهم الحقائق وتحضرهم المعارف وتوصلهم بالتنبيهات الواضحة الى مرتبة الكشف والشهود لكون اصل جبلتهم وفطرتهم مجبولا من لدنا عليها وَمُبَشِّراً تبشرهم بالتوحيد المسقط لعموم الإضافات المستتبعة لانواع الكثرات المشوشة لنفوسهم وقلوبهم وَنَذِيراً تنذرهم عن مقتضيات القوى البهيمية من الشهوية والغضبية الموروثة لهم من عالم الناسوت الجالبة لانواع الخذلان والحرمان
وَداعِياً تدعوهم إِلَى توحيد اللَّهِ المنزه عن مطلق التحديد والتعديد دعوة مسبوقة بِإِذْنِهِ سبحانه وبمقتضى توفيقه ووحيه والهامه وَبالجملة قد أرسلناك يا أكمل الرسل الى عموم العباد سِراجاً مُنِيراً تضيء لهم أنت بدعوتك وارشادك وهم يستضيئون منك بتوفيقنا إياهم في ظلمات الضلالات ومهاوي الجهالات المتراكمة من الحجب الظلمانية والكثافات الهيولانية المتولدة من ظلمات الأوهام والخيالات الباطلة الطبيعية الباقية فيهم من ظلمة العدم
وَبعد ما سمعت يا أكمل الرسل سبب بعثتك وسره بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيد الله المترقين من اليقين العلمي الى العيني الطالبين الوصول الى اليقين الحقي بِأَنَّ لَهُمْ اى قد حق وثبت لهم مِنَ عناية اللَّهِ إياهم فَضْلًا كَبِيراً لا فضل اكبر منه واشرف ألا وهو الفوز بشرف اللقاء والرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء
وَبعد ما سمعت وظيفتك مع المؤمنين المسترشدين منك يا أكمل الرسل الطالبين هدايتك وارشادك إياهم وشرف صحبتك معهم لا تُطِعِ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد المجاهرين به وَالْمُنافِقِينَ الذين يخفون كفرهم وضلالهم عنك لمصلحة دنيوية ويظهرون عندك خلاف ما في نفوسهم ولا تجلس معهم ولا تصاحبهم أصلا وَان آذوك في مرورك عنهم وملاقاتك معهم بغتة دَعْ(2/159)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
أَذاهُمْ
واتركهم ومنازعتهم ولا تلتفت ايضا الى الانتقام عنهم واصبر على بغضهم فان صبرك يقتلهم عن الغيظ ويطفئ لهب غضبهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ المراقب لك في عموم احوالك لدفع شرورهم وثق اليه سبحانه وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حسيبا كافيا يكفى عنك مؤنة أعدائك ويكف أذاهم عناية لك واهتماما بشأنك. ثم لما أشار سبحانه الى ما قد أباح على نبيه صلّى الله عليه وسلّم بلا حرج أراد ان يشير الى ما أباح سبحانه على عموم المؤمنين بلا حرج لهم فيه وضيق فقال سبحانه مناديا لهم على وجه العموم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وصدقوا بعموم أوامره ونواهيه المنزلة من عنده مقتضى ايمانكم إِذا نَكَحْتُمُ وعقدتم الْمُؤْمِناتِ اللاتي هن أكفاء أحقاء بنكاحكم من المسلمات والكتابيات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وتجامعوا معهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ يعنى وما لزمكم وما وجب عليكم فيما يتلى عليكم من شعائر الشرع وأحكامه مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها وتحصونها كما للمدخول بهن والمتوفى عنهن من المدة المقدرة في الشرع لاستبراء الرحم محافظة على امتزاج المائين واختلاط النسبين وبعد ما لم تلزم عليهن العدة ايها المطلقون لهن فَمَتِّعُوهُنَّ وأعطوهن المتعة المستحسنة عقلا وشرعا ان لم تكن صدقاتهن مقدرة معينة وان كانت مقدرة فاعطوهن نصف ما قدر من المهر بلا تنقيص ومماطلة وَبعد ما أعطيتموهن المتعة او النصف من المهر المقدر سَرِّحُوهُنَّ واخرجوهن من منازلكم سَراحاً جَمِيلًا إخراجا هينا لينا بلا ضرر واضطرار وتنقيص مما استحققن عليه. ثم أشار سبحانه الى تعداد ما قد أحل وأباح لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم من الأزواج فقال مناديا له تبجيلا وتعظيما
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المفضل المكرم من لدنا على سائر الأنبياء والرسل بالعنايات العلية والكرامات السنية إِنَّا من مقام عظيم جودنا معك قد أَحْلَلْنا وأبحنا لَكَ في شرعك ودينك أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ وأعطيت أُجُورَهُنَّ مهورهن معجلا وَقد أبحنا لك ايضا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء المردودة إليك مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ المنعم المفضل عَلَيْكَ ورده سبحانه من خيار المسبيات وصيفات المغنم إليك وصيفة رضى الله عنها منهن وَقد أحللنا لك في دينك وشرعك بَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ من مكة حبالك وطلبا لمرضاتك ومرضاة ربك وما أبحنا لك من لم تهاجر معك منهن من المشركات الباقيات على الكفر والشرك وَقد أبحنا لك ايضا خاصة من دون المؤمنين امْرَأَةً مُؤْمِنَةً قيدها لان الكافرة لا تليق بفراشه صلّى الله عليه وسلم إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ تبرعا بلا جعل ومهر فعليه صلّى الله عليه وسلّم بعد الهبة الخيار إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها اى يطلب ان يدخل عليها ويقبلها للفراش احللناها خالِصَةً خاصة لَكَ يا أكمل الرسل تكريما لك وتعظيما لشأنك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعنى لم نجها لغيرك من أمتك بل هي من جملة الأمور التي قد اختصصت أنت بها كالتزوج فوق الاربعة وغيرها وانما نخص أمثال هذا لك يا أكمل الرسل ولم نعممها لأمتك لأنا من وفور حكمتنا قَدْ عَلِمْنا بحضرة علمنا المحيط الحضوري من ظواهر احوال المؤمنين وبواطنهم استعدادهم وقابليتهم على ما فَرَضْنا وقدرنا عَلَيْهِمْ حتما فِي حقوق أَزْواجِهِمْ من المهر والولي والشهود وعموم متممات النكاح ومكملاته وَعلمنا ايضا منهم سبب ما قدرنا عليهم في حق ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من المسبيات الزائدة ان لا يدخلوا عليهن الا ان يتملكوا بالقسمة او بوجه آخر لكن قد أنزلنا عليك يا أكمل الرسل بعض ما أبحنا عليهم وما خصصناك به دونهم(2/160)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وضيق في تحميلها عليك مع انا نعلم من ظواهرك وبواطنك انك لا تهمل شيأ من حقوق الله ولا من حقوق عباده ولا يقع منك ظلم وجور على احد من خلق الله لذلك لم نضيق عليك امر النكاح تضييقنا على آحاد المؤمنين وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده المصلح لمفاسدهم غَفُوراً يستر ويعفو عنهم بعض ما يعسر عليهم التحرز في رعاية حقوق المؤمنين والمؤمنات رَحِيماً يرحم ويعين عليهم في حفظها ورعايتها حسب طاقتهم ثم لما وسّعنا عليك يا أكمل الرسل امر نكاحك وأبحنا لك ما لم نبح لغيرك فلك الخيار في أزواجك
تُرْجِي اى تؤخر وتترك مضاجعة مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي تلصق وتضم إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ منهن بلا حرج وضيق بل وَمَنِ ابْتَغَيْتَ وطلبت نكاحها مِمَّنْ عَزَلْتَ وطلقت تطليقا ثلاثا او أقل فَلا جُناحَ ولا اثم عَلَيْكَ ان تعيدها الى نكاحك بلا تحليل وتزويج للغير إذ من جملة خواصك تحريم مدخول بها لك على الغير مطلقا ذلِكَ اى تفويض امورهن إليك أَدْنى واقرب أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ إذ نسبتك إليهن حينئذ على السواء بلا ميل منك وترجيح وَالمناسب لهن ان لا يَحْزَنَّ بعد التفويض بل وَلهن ان يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ إذ لا تتفاوت نسبتك إليهن أصلا لأنك قد جبلت على الخلق العظيم والعدل القويم والصراط المستقيم سيما في حقوق أزواجك المنتسبات إليك كلهن نسبة واحدة وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده يَعْلَمُ ما يجرى فِي قُلُوبِكُمْ وضمائركم ايها المؤمنون من الميل الى بعض النساء دون بعض والنبي صلّى الله عليه وسلّم منزه عن هذا الميل والانحراف وأمثاله وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لعموم أحوالكم عَلِيماً بما جرى في صدوركم من الميل الى الهوى حَلِيماً ينتقم عنه ولكن لا يعجل. ثم لما خير سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم في امر نسائه وفوض امورهن كلها اليه صلّى الله عليه وسلّم وقد رضين ايضا كلهن بحكمه بلا إباء ومنع أراد سبحانه ان يمنع وينهى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن تطليقهن وتبديلهن والزيادة عليهن بعد ما بلغن التسعة فقال
لا يَحِلُّ لَكَ يا أكمل الرسل النِّساءُ اى تزوجهن مِنْ بَعْدُ اى بعد ان يتفقن أولئك التسعة على حكمك وأمرك وفوضن امورهن إليك وَلا يحل لك ايضا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ يعنى ان تطلق بعضهن وتبدلهن مِنْ أَزْواجٍ أخر من الاجنبيات وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ يعنى حسن الاجنبيات وبالجملة لا يحل لك التزوج الزائد بعد اليوم كما قد حل لك فيما مضى إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء فلا حرج عليك بدخولها وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المطلع على مقادر افعال عباده عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما جرى في ملكه وملكوته رَقِيباً يراقبه ويحافظه الى ان يكمل ثم يمنع بمقتضى حكمه المتقنة البالغة. ثم أشار سبحانه الى آداب المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في استيذانهم منه ودخولهم عليه صلّى الله عليه وسلّم وتناولهم الطعام عنده وبين يديه وتكلمهم مع أزواجه صلّى الله عليه وسلّم الى غير ذلك من الآداب فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله مقتضى ايمانكم رعاية الأدب مع رسولكم صلّى الله عليه وسلّم من قبل بيوته ومحل محارمه ومساكنه عليكم انه لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ بغتة بلا سبق استيذان منكم بل بيوت سائر المسلمين ايضا إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ دعوة إِلى طَعامٍ حاضر عنده صلّى الله عليه وسلّم حال كونكم غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ولا منتظرين الى وقته وَعليكم ان لا تدخلوا بلا دعوة لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا وأطعموا فَإِذا طَعِمْتُمْ(2/161)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
فَانْتَشِرُوا
واخرجوا على الفور وتفرّقوا وَلا تتمكنوا بعد الطعام عنده صلّى الله عليه وسلم مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ يتحدث بعضكم مع بعض او تسمعونه منه صلّى الله عليه وسلّم او من اهل بيته او بمهم آخر من مهماتكم إِنَّ ذلِكُمْ اى لبثكم عنده صلّى الله عليه وسلّم على وجه من الوجوه المذكورة قد كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي صلّى الله عليه وسلم مِنْكُمْ ان يخرجكم حسب حميته البشرية لأنه صلّى الله عليه وسلّم احيى الناس حليم صبور على اذاكم ولا يخرجكم عنوة وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده المنبه عليهم عموم مصالحهم لا يَسْتَحْيِي مِنَ اظهار كلمة الْحَقِّ التي يجب إيصالها الى المؤمنين المسترشدين لتترسخ في قلوبهم ويتمرنوا عليها ويتصفوا بها وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ يعنى من أزواجه صلّى الله عليه وسلم مَتاعاً وحوائج فَسْئَلُوهُنَّ متسترين مِنْ وَراءِ حِجابٍ بحيث لا يقع نظركم إليهن أصلا ذلِكُمْ اى التستر والتحجب من ازواج النبي أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ من امارات الإثم ومخايل المعصية وسوء الأدب وَقُلُوبِهِنَّ ايضا ترغيما للشياطين وتطهيرا لنفوسكم من غوائلها وتلبيساتها وَبالجملة اعلموا ايها المؤمنون ما كانَ وما صح وما جاز لَكُمْ في حال من الأحوال أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ بشيء يكرهه صلّى الله عليه وسلم ويستنزه عنه مطلقا وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ المدخول عليها مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً سواء كن حرائر أم إماء إِنَّ ذلِكُمْ اى ايذاءه صلّى الله عليه وسلّم ونكاح نسائه بعده قد كانَ عِنْدَ اللَّهِ المنتقم الغيور المقتدر على انواع الانتقام ذنبا عَظِيماً مستجلبا لأليم العذاب وعظيم العقاب واعلموا ايها المؤمنون
إِنْ تُبْدُوا وتظهروا شَيْئاً حقيرا مما يتعلق بايذائه صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه في حياته او بعد وفاته أَوْ تُخْفُوهُ في انفسكم غير مجاهرين به فَإِنَّ اللَّهَ المطلع في مكنونات صدوركم قد كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ ظهر على ألسنتكم او خطر ببالكم عَلِيماً لا يعزب عن علمه المحيط شيء من الدقائق والرقائق ثم لما نزلت آية التستر والحجاب قيل يا رسول الله الآباء والأبناء والأقارب والعشائر ايضا تكلموا معهن من وراء حجاب نزلت
لا جُناحَ ولا اثم ولا ضيق عَلَيْهِنَّ اى على أزواجه صلّى الله عليه وسلم فِي اختلاط آبائِهِنَّ والتكلم معهم بلا سترة وحجاب وَلا أَبْنائِهِنَّ ايضا وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ إذ الكل بعيد عن وصمة التهمة مصون من مطلق الريبة وَلا نِسائِهِنَّ يعنى النساء المؤمنات لا الكتابيات وَلا جناح ايضا في ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء وقيل من الإماء خاصة دون العبيد كما مرّ في سورة النور وَبالجملة يا نساء النبي المحفوظ المصون في ذاته عن ادناس الطبيعة وإكدار الهيولى مطلقا اتَّقِينَ اللَّهَ المنتقم الغيور واحذرن أنتن ايضا عن عموم محارمه ومنهياته مطلقا وامتثلن بأوامره ومندوباته حتى تشابهن وتشاركن معه صلّى الله عليه وسلّم في أخص أوصافه إِنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر كن قد كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ خلج في خواطركن من الإثم واللمم شَهِيداً حاضرا عنده سبحانه غير مغيب عنه بحيث لا يخفى عليه سبحانه خافية وان رقت ودقت. ثم أشار سبحانه الى تعظيم النبي عليه السلام وتوقيره والاعتناء بشأنه وعلو منزلته ومكانه فقال
إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء وَمَلائِكَتَهُ المهيمين عنده الوالهين بمطالعة جماله المستغرقين بشرف لقائه يُصَلُّونَ يعتنون ويهتمون بأنواع الرحمة والكرامة واصناف الاستغفار إظهارا لفضله صلّى الله عليه وسلّم وتبجيلا وتعظيما عَلَى النَّبِيِّ الحقيق لانواع التوقير والتمجيد المستحق لأصناف الكرامة والتحميد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(2/162)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
بالله بوسيلة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وتحققوا بتوحيده سبحانه بإرشاده صلّى الله عليه وسلم أنتم اولى وأحق بتعظيمه وتوقيره وتصليته وتسليمه صَلُّوا عَلَيْهِ مهما سمعتم اسمه صلّى الله عليه وسلم او ذكرتم أنتم في انفسكم وقولوا اللهم صل على محمد وَسَلِّمُوا له تَسْلِيماً قائلين السلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته. والآية تدل على وجوب الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم لعموم المؤمنين كلما جرى ذكره في أى حال من الأحوال وأى حين من الأحيان اللائقة للدعاء. ثم لما أشار سبحانه الى علو شأن نبيه صلّى الله عليه وسلّم وسمو برهانه وأوجب على المؤمنين تعظيمه وتوقيره والانقياد له في عموم أوامره ونواهيه أراد ان يشير سبحانه الى ان من قصد أذاه صلّى الله عليه وسلّم وأساء الأدب معه فقد استحق اللعن والطرد فقال
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حيث يأتون بالافعال الذميمة القبيحة المستكرهة عقلا وشرعا عنده صلّى الله عليه وسلّم فيؤذونه صلّى الله عليه وسلّم بهذه ذكر سبحانه نفسه هاهنا تعظيما لشأن حبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ ايذاؤه صلّى الله عليه وسلّم مستلزم لإيذائه سبحانه والا فهو في ذاته منزه عن التأذى والتأثر مطلقا قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ المنتقم عنهم وطردهم عن سعة رحمته وجنته وَأَعَدَّ لَهُمْ في النار عَذاباً مُهِيناً مؤلما مزعجا لا عذاب أسوأ منه وأشد ثم اردف سبحانه ايذاءه صلّى الله عليه وسلّم بإيذاء المؤمنين فقال
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بذمائم الأفعال والأقوال وقبائح الأطوار والحركات سيما بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا يعنى بغير جريمة صدرت عنهم واستحقوا الجناية عليها بل افتراء ومراء فَقَدِ احْتَمَلُوا وتحتملوا هؤلاء المؤذين المفترين بُهْتاناً جالبا لانواع العقوبات وَإِثْماً مُبِيناً ظاهرا عظيما مستعقبا مستتبعا لأسوء الجزاء وأشد العقاب والنكال إذ رمى المحصنات من افحش الجنايات وأقبح القبائح والخيانات. ثم أشار سبحانه الى آداب النساء وصيانتهن عن الرجال واستحيائهن منهم ليسلمن من افتراء المفترين ورمى الرامين فقال مناديا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ليبلغ الى أمته وأزواجه صلّى الله عليه وسلّم وأزواجهم ايضا
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد من لدنا المبعوث الى ارشاد البرايا ذكورهم وإناثهم قُلْ لِأَزْواجِكَ أولا على سبيل الشفقة والنصيحة وَبَناتِكَ ايضا وَسائر نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ إذا ظهرن وبرزن لحوائجهن أحيانا يُدْنِينَ ويغطين عَلَيْهِنَّ اى على أيديهن وأرجلهن وعلى جميع معاطفهن مِنْ فواضل جَلَابِيبِهِنَّ وملاحفهن بحيث لا يبدو من مفاصلهن واعضائهن شيء سوى العينين بل عين واحدة ليتميزن بها عن الإماء والفتيات المريبات المطمعات لأهل الفجور والفسوق وبالجملة ذلِكَ التستر والتغطى على الوجه الأتم الأبلغ أَدْنى واقرب أَنْ يُعْرَفْنَ ويميزن أولئك الحرائر العفائف من الإماء وعن مطلق المريبات المطمعات وبعد ما عرفن فَلا يُؤْذَيْنَ ولا يفترين ببهتان وَكانَ اللَّهُ المطلع لعموم ما اختلج في جوانحهن وخواطرهن غَفُوراً لهن بعد ما تبن الى الله وانبن رَحِيماً يقبل توبتهن ويرحم عليهن ان اخلصن فيها. ثم قال سبحانه مقسما مبالغا والله
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ولم ينزجر الْمُنافِقُونَ المفترون الرامون الباهتون عن إيذاء المؤمنات الحرائر المصونات المحفوظات والسرايا العفائف سيما بعد ما تحفظن وتسترن على الوجه المذكور وَلم يكف عنهن المتعرضون الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وضعف ايمان واعتقاد وميل الى الفسوق والفجور وَلا سيما الْمُرْجِفُونَ المجاهرون المترددون فِي الْمَدِينَةِ بأنواع النميمة والأراجيف والاخبار الكاذبة والمفتريات الباطلة الغليظة ويذيعونها(2/163)
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
فيها عنادا وإفسادا لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ولنأمرنك يا أكمل الرسل بقتالهم واجلائهم ولنسلطنك عليهم بإقامة الحدود الشديدة والتعزيرات البليغة بحيث لا يمكنهم التمكن والاقامة فيها ويضطرون الى الجلاء ثُمَّ بعد ما قد وضعنا الحدود وامرناك بإقامتها وإجرائها لا يُجاوِرُونَكَ فِيها اى لا يستطيعون ولا يقدرون بمجاورتك في المدينة إِلَّا قَلِيلًا زمانا يسيرا يستعدون فيه للبعد والجلاء ويهيئون فيه اسباب الهرب والهزيمة من بين المسلمين والفرار عنهم والى اين يفرون ويهربون أولئك المطرودون المردودون حتى لا يؤاخذون ولا يؤسرون وهم قد كانوا بين المؤمنين
مَلْعُونِينَ مطرودين مبعدين عن روح الله وعن كنف جوار رسول الله وجوار المؤمنين لكونهم مؤذين متعرضين لعوارت المسلمين الباهتين المفترين اياهن ببهتان عظيم والمتصفون بهذه الأوصاف المذمومة والديدنة المستهجنة أَيْنَما ثُقِفُوا ووجدوا أُخِذُوا وأسروا وَان لم يمكن اسرهم قُتِّلُوا تَقْتِيلًا شديدا بحيث استوصلوا بالمرة واستئصال أمثال هذه الغواة المطرودين المردودين ليس ببدع من الله بل قد كان هذا
سُنَّةَ اللَّهِ القدير الحكيم المستمرة القديمة التي قد سنها سبحانه فِي انتقام مطلق المؤذين المفترين الَّذِينَ خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ أنت يا أكمل الرسل لِسُنَّةِ اللَّهِ المستمرة الجارية حسب حكمته المتقنة البالغة تَبْدِيلًا اى لا يبدل حكمه ولا يغير حكمته بل له ان يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ثم نبه سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما سيسأل عنه الكافرون تهكما واستهزاء وأشار سبحانه الى جواب سؤالهم تعليما له صلّى الله عليه وسلّم وإرشادا فقال
يَسْئَلُكَ يا أكمل الرسل النَّاسُ الناسون عهودهم التي عهدوا مع الله في مبدأ فطرتهم عَنِ السَّاعَةِ التي قد أخبرت أنت بها وبقيامها بمقتضى الوحى الإلهي والهامه كما اخبر بها سائر الرسل الكرام والأنبياء الأمناء العظام صلوات الله عليك وعليهم الى يوم القيام مستهزئين معك سائلين عن تعيين وقتها وقيامها أقريب هي أم بعيد قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اقترحوا عليك عنها إِنَّما عِلْمُها وعلم قيامها وتعيين وقتها وزمان إلمامها عِنْدَ اللَّهِ المطلع العليم الحكيم لا يطلع أحدا عليها من خلقه بل هي من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها في علم غيبه بل قد اخبر واوحى سبحانه بعموم أنبيائه ورسله بوقوعها حتما وأبهم تعيين وقتها عليهم فمجرد تحقق وقوعها يكفى في الخوف من أهوالها وافزاعها وشدائدها وعذابها وَبعد ما قد اخبر سبحانه بوقوعها وأبهم وقتها ما يُدْرِيكَ وما يطلعك ايها المخاطب تعيينها ومن انى لك ان تبعدها او تنكر وقوعها لَعَلَّ السَّاعَةَ المعهودة الموعودة تَكُونُ قَرِيباً تقع عن قريب فلم لم تتزود لها ولم تتهيأ اسبابها ايها المغرور بالدنيا الدنية وأمتعتها الفانية ولذاتها المتناهية وبالجملة
إِنَّ اللَّهَ المنتقم عن عصاة عباده قد لَعَنَ رد وطرد عن ساحة عز حضوره وقبوله الْكافِرِينَ المصرين على انكار يوم الجزاء وعلى تكذيب الأمور الواقعة فيه وَأَعَدَّ لَهُمْ قهرا عليهم وزجرا سَعِيراً مسعرا مملوا من النار المسعرة
خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون عنها أصلا لا بأنفسهم ولا بواسطة شفعائهم إذ يومئذ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يتولى أمرهم وينقذهم منها وَلا نَصِيراً ينصرهم ويعين عليهم لإخراجهم عنها اذكر يا أكمل الرسل
يَوْمَ تُقَلَّبُ وتصرف وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يعنى من جهة الى جهة اخرى تشديدا لعذابهم يَقُولُونَ حينئذ متمنين متحسرين يا لَيْتَنا قد أَطَعْنَا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد بمقتضى ما قد اخبر علينا الأنبياء والرسل وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا المبعوث إلينا المنذر بنا عن أمثال هذه العقوبات(2/164)
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
التي قد طرأ علينا اليوم حتى لا نبتلى بهذا العذاب المؤبد المخلد
وَقالُوا ايضا متضرعين الى الله على سبيل التمني والتناجي رَبَّنا يا من ربانا بأنواع الكرامات واحسن تربيتنا بإرسال الرسل وإنزال الكتب فكذبنا الكتب والرسل وقد أنكرنا عليهما عنادا ومكابرة وبالجملة إِنَّا يا ربنا قد أَطَعْنا في انكار كتبك ورسلك سادَتَنا وَكُبَراءَنا الذين هم اصحاب الثروة والرياسة بيننا فحل عموم أمورنا وعقدها بأيدي أولئك الرؤساء البعداء الضالين المضلين فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا السوى المستقيم الموصل الى توحيدك وتصديق رسلك وكتبك وأنت اعلم منا يا ربنا بانا ما ضللنا الا بإضلال أولئك الطغاة البغاة الضالين المضلين
رَبَّنا آتِهِمْ جزاء اضلالهم وضلالهم ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ يعنى آتهم ضعف عذابنا ضعفا لضلالهم وضعفا لإضلالهم وَالْعَنْهُمْ واطرحهم يا ربنا وبعدّهم عن سعة رحمتك لَعْناً كَبِيراً طردا عظيما وتبعيدا بعيدا بحيث لا يرجى نجاتهم ابدا او طردا كثيرا متواليا متتاليا مستمرا على التعاقب والترادف. ثم وصى سبحانه عموم المؤمنين بان لا يكونوا مع نبيهم صلّى الله عليه وسلّم مثل بنى إسرائيل مع موسى الكليم صلوات الرحمن عليه وسلامه ولا يقصدوا أذاه صلّى الله عليه وسلّم كما قصدوا ولا يرموه صلّى الله عليه وسلّم بشيء لا يليق بشأنه كما قد رموا به موسى عليه السلام لان معاشر الأنبياء كلهم معصومون عن الكبائر مطلقا بل عن الصغائر ايضا على رأى صائب فلا بد لمن آمن بهم ان لا يرموهم بمكروه لا يليق بشأنهم مع انه سبحانه قد اظهر براءتهم وطهارة ذيلهم وعصمتهم عن مطلق المعاصي فما بقي الا اثم الافتراء والمراء على المفترين فينتقم سبحانه عنهم منه ويأخذ هم فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقتضى ايمانكم انه لا تَكُونُوا قاصدين أذاه صلّى الله عليه وسلّم بنسبة المكروه والمنكر اليه صلّى الله عليه وسلّم او بتعييره وتشنيعه بأمر صدر عنه ولم تفهموا سره وبالجملة لا تكونوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى صلوات الله عليه وسلامه فاغتم منه وتحزن حزنا شديدا فَبَرَّأَهُ اللَّهُ المطلع على نزاهته ونجابة طينته وطهارة ذيله واظهر سبحانه طهارته وبراءته مِمَّا قالُوا يعنى مما هو مضمون قولهم ومؤداه وذلك ان قارون قد استأجر بغية بجعل كثير من ان ترمى موسى عليه السلام بنفسها فرموه بها ثم أحضروها في المجلس ليفضحوه على رؤس الملأ وأقرت بالهام الله إياها بعصمته عليه السلام وأظهرت ما أعطوها من الجعل فدعا موسى عليه السلام ففعل سبحانه بهم وبما معهم ما فعل من الخسف على الوجه الذي سمعت في سورة القصص او قذفوه بعيب بدنه عليه السلام من برص او ادرة فبرأه الله سبحانه حيث ذهب الحجر بثيابه بين الملأ وهو يمشى على عقب ثيابه عريانا حتى يظهر براءته لهم من العيب وَكيف لا يبرئه سبحانه ولا يظهر طهارته إذ قد كانَ موسى الكليم عليه السلام عِنْدَ اللَّهِ الذي اصطفاه واختاره للنبوة والرسالة والتكلم معه وَجِيهاً في كمال الوجاهة والقربة لذلك اختاره ليسمع كلامه سبحانه بلا واسطة صوت متقاطع وحرف متكيف وكلمة موضوعة وكلام مركب وبعد ما قد سمعتم حكاية ما جرى على أولئك البغاة الغواة المؤذين المفترين
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ولا تؤذوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقول وفعل وَقُولُوا له بعد ما تكلمتم معه وفي شأنه قَوْلًا سَدِيداً صحيحا سالما بعيدا عن وصمة الأذى والتهمة والافتراء والجدال والمراء حتى لا يلحقكم ما لحق على قوم موسى ولكم الإخلاص بالله وبرسوله أخلصوا واستقيموا في الأفعال والأقوال معه وأطيعوا في عموم الأحوال
يُصْلِحْ لَكُمْ سبحانه(2/165)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
أَعْمالَكُمْ لتثمر لكم الثمرات العجيبة البديعة والدرجات العلية الرفيعة عنده سبحانه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ التي صدرت عنكم لو تبتم واخلصتم فيها وَبالجملة مَنْ يُطِعِ اللَّهَ حق أطاعته ويخلص في اعماله وَيطع رَسُولَهُ اطاعة خالية عن وصمة الأذى وعموم الرعونات المؤدية الى انواع المكروهات والمنكرات فَقَدْ فازَ ونال ذلك المطيع فَوْزاً عَظِيماً ألا وهو الدخول بدار الخلود والفوز بلقاء الخلاق الودود. ثم لما أراد سبحانه بمقتضى تجلياته الحبية اللطفية ان يطالع ذاته الكاملة المتصفة بصفات الكمال في مرآة مجلوّة تصير نائبة عنه خليفة له يتراءى فيها عموم أوصافه وأسمائه الذاتية على ما قد أشار اليه الحديث القدسي صلوات الله على قائله عرض سبحانه امانة الخلافة والنيابة على استعدادات المظاهر وقابليات المصنوعات كلها فامتنع الكل وابى عن قبولها وحملها كما قال سبحانه مخبرا
إِنَّا بمقتضى تجلياتنا الجمالية المنبعثة عن الشئون الحبية والتطورات اللطفية قد عَرَضْنَا الْأَمانَةَ يعنى امانة الخلافة والنيابة وأردنا ان نحمل أعباء المعرفة والعبودية المشتملة على التخلق بالأخلاق الفاضلة الإلهية المستتبعة للتكليفات الشاقة الطبيعية لتحصل التصفية والتزكية من إكدار الهيولى المانعة عن الوصول الى الملأ الأعلى وعالم اللاهوت عَلَى استعدادات السَّماواتِ العلى وَعلى قابليات الْأَرْضِ السفلى وَكذا على قلل الْجِبالِ السنى وكذا على قوابل الممتزجات من المركبات العظمى والمولدات الكبرى فَأَبَيْنَ وامتنعن بأجمعهن أَنْ يَحْمِلْنَها إذ نحن في سابق حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ ما اودعنا في استعداداتهم وقابلياتهم ما يسع لحمل هذه الامانة العظيمة والكرامة الكريمة وَلذلك قد أَشْفَقْنَ جميعا وخفن وخشين مِنْها ومن حملها مخافة ان لا يقين حقها وَبعد ما قد امتنعن وخفن جميعا عن حملها وقبولها قد حَمَلَهَا وقبلها الْإِنْسانُ المصور على صورة الرحمن المنتخب عن عموم الأكوان بالقوة القدسية المودعة فيه المقتضية لحملها وقبولها وبالجملة إِنَّهُ اى الإنسان حينئذ من كمال شوقه ووفور تحننه وذوقه المنبعث من افراط محبته وعشقه الى مبدئه ومن نهاية تلذذه بجمال معشوقه المعنوي ومحبوبه الحقيقي وغاية ولهه وحيرته بمطالعة وجهه الكريم قد كانَ في حملها ظَلُوماً على نفسه بارتكاب التحميلات البليغة والتكليفات الشديدة العسيرة من قطع المألوفات الطبيعية والمشتهيات الشهية البهيمية وعموم اللذات الحسية الناسوتية ومن غاية تحننه الى مبدئه كان جَهُولًا ذهولا غافلا ايضا عن مقتضيات ناسوته وملائماتها حسب القوى البشرية بالقوة الغالبة الروحانية اللاهوتية الجالبة الجاذبة للسعادات الازلية الابدية على القوى الجسمانية والآلات الطبيعية المستتبعة للشقاوة السرمدية فأين هذا من ذلك. رزقنا الله المنعم المفضل ان لا نظلم نحن على أنفسنا ونمنعها عن مقتضياتها وأمانيها الناسوتية بمنه وجوده. ومن جملة الأمانات المحمولة على الإنسان حفظ السرائر ورعاية الآداب والحقوق الجارية بين ذوى الألباب من الرجال والنساء وانما حمل عليهم سبحانه ما حمل ابتلاء لهم واختبارا
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله الْمُنافِقِينَ المخفين الساترين كفرهم وشركهم وعموم الخيانات الصادرة عنهم لمصلحة دنيوية وَالْمُنافِقاتِ منهم كذلك وَالْمُشْرِكِينَ المصرين المجاهرين بكفرهم وشركهم وعموم خياناتهم وَالْمُشْرِكاتِ ايضا كذلك تعذيبا شديدا وعقابا أليما مزيدا لعدم وفائهم على حفظ الأمانات المحمولة عليهم وَايضا يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ اى يوفقهم على التوبة والانابة بعد ما صدر عنهم شيء من الخيانات وشائبة(2/166)
عدم الوفاء بالأمانة التي قد ائتمنوا بها من حقوق الله وحقوق عباده وبعد ما قد تابوا وأنابوا على وجه الندم والإخلاص فقد أدوا حق الامانة ووفوا بها على وجهها وَكانَ اللَّهُ المطلع باخلاصهم وندامتهم غَفُوراً لما صدر عنهم من الخيانة قبل التوبة رَحِيماً يقبل توبتهم ويعفو زلتهم ويرحم عليهم بعد ما تابوا وأخلصوا رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين
خاتمة سورة الأحزاب
عليك ايها الطالب لرتبة الخلافة والنيابة الفطرية القاصد لحمل الامانة الإلهية المتحمل لأعباء العبودية بالقوة القدسية والقابلية الفطرية القدوسية يسر الله عليك الأداء والوفاء بجميع حقوق الله وعموم عهوده وأماناته ومواثيقه وايضا حقوق جميع عباده ورعاية لوازم الإخاء والمصاحبة معهم واطاقك الحق وأقدرك على حمل عموم التكاليف المنزلة من عند الله في كتب الله من المفروضات وكذا من جميع المسنونات والمندوبات واعانك على التخلق بعموم أخلاقه الفاضلة المرضية ان تتوجه بوجه قلبك الى ربك وتتخذه وكيلا في أمرك وشأنك الذي هو تخلقك بأخلاقه سبحانه ليتيسر لك التحقق والتمكن بمرتبة الخلافة والنيابة فلك ان تعرف أولا شياطينك التي قد عاقك عنها ألا وهي آمالك وأمانيك النفسانية المتولدة من القوى البهيمية المانعة عن الوصول الى الدرجات العلية وتفصيلها وتحصيلها على وجه لا يشذ شيء منها عنك وتلازم على زجرها ومنعها الى ان تصير منزجرة مقهورة للقوى الروحانية بحيث لا تبقى لها قوة مقاومة ومجال مقابلة مع الروحانيات أصلا ثم لك ان تنفى وتفنى جميع اوصافك واخلاقك في أوصاف الحق وأخلاقه الى ان تضمحل أنت نفسك وذاتك وتتلاشى عموم اوصافك واخلاقك في ذاته وصفاته وأخلاقه سبحانه الى حيث يرتفع اسمك ورسمك عن البين ويتصفى عينك عن الغين وشأنك عن الشين فحينئذ لم يبق لك البون والبين بل قد اتصل العين بالعين وحينئذ صرت ما صرت وفزت بما فزت وقد تمكنت في مقعد صدق في الخلافة والنيابة عند مليك مقتدر بلا توهم تغيير وتحويل. رزقنا الله التقدر والتمكن في مقعد الصدق بلا تلوين وتبديل
[سورة السبأ]
فاتحة سورة السبأ
لا يخفى على من انكشف بسعة حضرة العلم المحيط الإلهي اجمالا واعتقد احاطتها وشمولها واستيعابها بعموم ما ظهر وبطن في الاولى والاخرى غيبا وشهادة وكذا بما لا سبيل للعباد إليها لا تعقلا ولا تخيلا ولا توهما تفصيلا ان معلوماته سبحانه أجل من يحيط بها عقول مصنوعاته وخيالاتهم واوهامهم وأحلامهم وعموم مداركهم ومشاعرهم ومن تحقق من السالكين المجاهدين في سبيل الله المشمرين أذيال هممهم نحو الحق بكمال وسعهم وطاقتهم بسعة قلب الإنسان وكمال فسجته فقد انكشف هو في الجملة بسعة حضرة علمه سبحانه وبكثرة معلوماته حسب وجده ووجدانه بسعة قلبه الذي قد وسع الحق فيه لعموم أسمائه وصفاته فلهذا قد وجب الحمد والثناء عليه سبحانه على الوجه الذي انكشف له واستتر عنه ايضا لذلك حمد سبحانه نفسه بنفسه واثنى على ذاته تعليما لعباده وإرشادا لهم الى طريق شكر نعمه وأداء حقوق كرمه بعد ما تيمن باسمه الأعظم الجامع لجميع الأسماء والصفات فقال سبحانه بِسْمِ اللَّهِ المتجلى على عموم ما ظهر وبطن من مظاهره الرَّحْمنِ على عموم مصنوعاته بافاضة رشحات وجوب وجوده عليهم فيوجدهم بها الرَّحِيمِ على خواص عباده بافاضة(2/167)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
العقل المنشعب من حضرة علمه المحيط إليهم ليدركوا به احوال مبدئهم ومعادهم
[الآيات]
الْحَمْدُ المحيط المستوعب لجميع المحامد والاثنية الناشئة من ألسنة عموم ما لمع عليه برق الوجود ثابت حاصل لِلَّهِ المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء المربية المظهرة لعموم الأشياء الكائنة غيبا وشهادة المالك الَّذِي قد ثبت لَهُ ملكا وتصرفا إظهارا واعداما إبداء واعادة جميع ما فِي السَّماواتِ اى علويات عالم الأسماء والصفات والأعيان الثابتة في الأزل وَكذا جميع ما فِي الْأَرْضِ اى سفليات عالم الطبعة المنعكسة من العلويات وَكذا ما بينهما من الكوائن والفواسد الممتزجة التي قد برزت بنور الوجود على مقتضى الجود الإلهي من مكمن العدم الى فضاء الظهور بعد ما قد ثبت ان الكل منه بدأ في الابتداء وماليه يعود في الانتهاء ثبت لَهُ الْحَمْدُ والثناء الصادر من ألسنة عموم المظاهر المتوجهة نحو المظهر الموجد طوعا لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية إذ منتهى الكل اليه فِي الْآخِرَةِ كما ان مبدأه منه في الاولى فله الحمد في الاولى والاخرى وَكيف لا هُوَ الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله بالاستقلال بلا شريك وظهير الْخَبِيرُ عن كيفية إيجاد المظاهر وإعدامها أولا وآخرا ازلا وابدا إذ هو سبحانه بمقتضى حضرة علمه المحيط الحضوري
يَعْلَمُ ما يَلِجُ ويدخل فِي الْأَرْضِ اى ظلمة الطبيعة القابلة لفيضان مطلق الاستعدادات الفائضة من المبدأ الفياض وَما يَخْرُجُ مِنْها من المعارف والحقائق الكاملة المختفية فيها بمقتضى تربية مربيها ومظهرها وَكذا يعلم بعلمه الحضوري ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ اى عالم الأسماء الى ارض المظاهر والمسميات من الفيوضات والفتوحات الشاملة المشتملة على انواع الكمالات وَكذا يعلم ما يَعْرُجُ فِيها ويرتقى متصاعدا من المكاشفات والمشاهدات الحاصلة من تلك الفتوحات الهابطة منها على قلوب كمل المظاهر وخلص العباد وَبالجملة هُوَ الرَّحِيمُ لعباده بافاضة انواع الكرامات حسب رحمته الواسعة الْغَفُورُ الستار لذنوب انانياتهم وتعيناتهم الباطلة العاطلة بعد ما رجعوا اليه وتوجهوا نحوه سبحانه تائبين آئبين مخلصين. رزقنا الله الوصول الى محل القبول
وَبعد ما قد اخبر سبحانه بقيام الساعة في كتبه وبألسنه رسله سيما في كتابك يا أكمل الرسل وعلى لسانك قالَ الجاحدون المنكرون الَّذِينَ كَفَرُوا بالحق وستروه بالباطل الزاهق الزائل وكذبوا الرسل وعاندوا معهم سيما معك يا أكمل الرسل مستهزئين متهكمين لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ الموعودة على لسانك ايها المدعى مع انك قد ادعيت الصدق في جميع اخبارك وأقوالك فكيف لا تأتى الساعة التي ادعيت إتيانها واختبرت بها وبوقوعها لعلك قد كذبت وافتريت الى ربك قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما استهزؤا معك ونسبوك الى الكذب والافتراء وأنكروا بإتيان الساعة وقيامها بَلى تأتى الساعة الموعودة علىّ وعلى عموم الرسل والأنبياء بلا شك وريب في إتيانها وقيامها وَبحق رَبِّي القادر المقتدر على انجاز جميع ما وعد به بلا خلف لَتَأْتِيَنَّكُمْ الساعة الموعودة من عنده إذ وعده سبحانه مقضي حتما جزما بلا شائبة شك وطريان غفلة وذهول عليه وسهو إياه وكيف يطرأ عليه سبحانه سهو وذهول مع انه هو بذاته عالِمِ الْغَيْبِ بالعلم المحيط الحضوري بعموم المغيبات حاضرة عنده غير مغيبة عنه إذ لا يَعْزُبُ ولا يغيب عَنْهُ سبحانه وعن حيطة حضرة علمه المحيط مِثْقالُ ذَرَّةٍ ومقدار خردلة لا من الكوائن فِي السَّماواتِ اى العلويات وَلا من الكوائن فِي الْأَرْضِ اى السفليات ولا من المكونات الحادثة بينهما وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ المقدار(2/168)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
وَلا أَكْبَرُ منه إِلَّا وهو مثبت مسطور فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو حضرة علمه المحيط ولوح قضائه المحفوظ انما اثبت واحضر الكل في لوح قضائه
لِيَجْزِيَ سبحانه المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيده واعترفوا بتصديق رسوله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة اليه سبحانه المقبولة عنده خير الجزاء ويعطيهم احسن المواهب والعطاء وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون عنده سبحانه المستحقون لانواع الكرامات من لدنه لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما تقدم من ذنوبهم تفضلا عليهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ صورى في الجنة ومعنوي عند وصولهم الى شرف لقائه بلا كيف واين وبون وبين وجهة ووجهة ومكان وزمان وشأن
وَليجزي سبحانه ايضا أسوأ الجزاء وأشد العذاب والنكال الكافرين الَّذِينَ سَعَوْا واجتهدوا فِي ابطال آياتِنا الدالة على توحيد ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا حال كونهم مُعاجِزِينَ قاصدين عجزنا عن إتيان الآيات البينات منكرين لايجادنا وانزالنا إياها بل لوجودنا في ذاتنا مكذبين لرسلنا الحاملين لوحينا صارفين الناس عن تصديقهم وعن الايمان بنا وبهم وملتهم وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون المبعدون عن روح الله وسعة رحمته المنهمكون في الغىّ والضلال لَهُمْ عَذابٌ عظيم أشد وأسوأ مِنْ كل رِجْزٍ أَلِيمٌ وعقوبة مؤلمة لعظم جرمهم وسعيهم في ابطال آياتنا الناشئة عن كمال قدرتنا ووفور حكمتنا وانما سعوا واجتهدوا في ابطال آياتنا لجهلهم بنا وبها وبما فيها من الهداية العظمى والسعادة الكبرى وعدم تأملهم وتدبرهم في رموزاتها ومكنوناتها لذلك أنكروا بها واجتهدوا في ابطالها وتكذيبها جهلا وعنادا
وَيَرَى يا أكمل الرسل العلماء العرفاء الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من قبلنا تفضلا منا إياهم المتعلق بان الكتاب الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ تأييدا لشأنك وترويجا لأمرك هُوَ الْحَقَّ المطابق للواقع الحقيق بالمتابعة والإطاعة الثابت نزوله من عندنا بلا ريب وتردد وَكيف لا يكون حقا مع انه هو يَهْدِي بأوامره ونواهيه وتذكيراته المندرجة فيه عموم الضالين المنصرفين عن جادة العدالة إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الغالب القادر المقتدر على انتقام عموم المنحرفين عن منهج الرشد الْحَمِيدِ المستحق في ذاته لجميع المحامد والكرامات لولا تحميد الناس له وتمجيدهم والأفعال المنبئة عن إسقاط عموم الإضافات ورفع مطلق التعينات
وَبعد ما قد سمع المشركون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احوال الحشر والنشر والمعاد الجسماني واهوال الفزع الأكبر قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى بعضهم لبعض على سبيل الاستهزاء والتهكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستفهمين مستنكرين متعجبين هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون الرسول صلّى الله عليه وسلّم وانما نكروه لاستبعادهم قوله وانكارهم على مقوله وانما يتحدثون بينهم به لغرابته يُنَبِّئُكُمْ بالمحال العجيب ويخبركم بالممتنع الغريب معتقدا إمكانه بل جازما بوقوعه ووجوده وهو انكم إِذا مُزِّقْتُمْ وفرقتم كُلَّ مُمَزَّقٍ يعنى تمزيقا وتفريقا بليغا وتشتيتا شديدا بحيث قد صرتم هباء فذهب بكم الرياح إِنَّكُمْ بعد ما صرتم كذلك لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ على النحو الذي كنتم عليه في حياتكم قبل موتكم بلا تفاوت كتجدد الاعراض بأمثالها وبعد ما قد سمعتم قوله كيف تتفكرون في شأنه وهو يدّعى النبوة والرسالة والوحى اليه من عند الله العليم الحكيم مع انه قد صدر عنه أمثال هذه المستحيلات واىّ شيء تظنون في امره وشأنه هذا
أَفْتَرى وكذب عن عمد ونسبه عَلَى اللَّهِ كَذِباً تغريرا وتلبيسا على ضعفاء الأنام ليقبلوا منه أمثال هذه الخرافات الباطلة ويعتقدوه رسولا مخبرا عن المغيبات وعجائب الأمور(2/169)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
وغرائبه أَمْ بِهِ جِنَّةٌ خبط واختلال قد عرض دماغه فأفسده فيتكلم بأمثال هذه الهذيانات هفوة بلا قصد وشعور بها كما يتكلم بأمثالها سائر المجانين وسماها وحيا وإلهاما تغريرا وإلزاما. ثم لما بالغ المشركون المفرطون في قدحه وطعنه صلّى الله عليه وسلّم وتجهيله وتخبيطه رد الله عليهم بانه لا افتراء ولا مراء في كلامه صلّى الله عليه وسلّم وفي مطلق اخباره ولا خبط ولا اختلال في عقله ولا جنون له بل هو صلّى الله عليه وسلّم من اعقل الناس وارشدهم وابعدهم عن الافتراء والمراء وأسلمهم عن الكذب وسائر الآراء والأهواء ومن عموم الكدورات الطبيعية مطلقا بَلِ الكافرون الضالون المفرطون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولا يعتقدون بالأمور التي قد اخبر الله بها وبوقوعها فيها ولا يصدقون بها ولا يمتثلون بما نطق به الكتب والرسل مطلقا هم يخلدون في النشأة الاخرى فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد وَهم متوغلون في الضَّلالِ الْبَعِيدِ عن الهداية بمراحل ابد الآبدين ولا نجاة لهم منها وبالجملة من شدة غيهم وضلالهم تكلموا بأمثال هذه الهذيانات الباطلة سيما بالنسبة الى من هو منزه عن أمثالها مطلقا عنادا ومكابرة. ثم أشار سبحانه الى كمال قدرته سبحانه واقتداره على انتقام عموم المكذبين ليوم الحشر والجزاء والمفترين على رسوله على سبيل المراء من الخبط والجنون وغير ذلك من الأمور التي لا يليق بشأنه صلّى الله عليه وسلّم فقال مستفهما على سبيل التقريع والتوبيخ
أَهم قد عموا وفقدوا لوازم أبصارهم وبصائرهم اى أولئك المعاندون المفرطون فَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا ولم يبصروا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ المحيطة بهم خلفا ووراء وَالْأَرْضِ الممهدة لهم بين أيديهم يتمكنون عليها ويتنعمون بمستخرجاتها ومما نزل عليها من السماء وعالم الأسباب ولم يتفكروا ولم يتأملوا ان احياء الموتى أهون من خلق الأرض والسموات العلى والقدرة على ايجادهما أكمل من القدرة على اعادة المعدوم فينكرون قدرتنا عليها مع انهم قد رأوا وشاهدوا منا أمثال هذه المقدورات العظام ولم يخافوا عن بطشنا وانتقامنا ولم يعلموا انا من مقام قهرنا وجلالنا إِنْ نَشَأْ إهلاكهم واستئصالهم نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كما قد خسفنا على قارون وأمثاله أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً بالتحريك والتسكين على القرائتين اى قطعا مِنَ السَّماءِ فنهلكهم بها إِنَّ فِي ذلِكَ البيان على وجه التقريع والتعيير لَآيَةً دالة على قدرتنا وقهرنا على انتقام من خرج عن ربقة عبوديتنا لِكُلِّ عَبْدٍ تحقق بمقام العبودية وفوض أموره كلها إلينا مُنِيبٍ رجع نحونا هاربا من مقتضيات قهرنا وجلالنا وبعد ما قد عرفت ان الكل منا بدأ وبحولنا وقوتنا ظهر ولاح وقد عاد ايضا كما بدأ إذ منا المبدأ وإلينا المنتهى وليس سوانا مقصد ومرمى
وَمن كمال قدرتنا وفور حولنا وحكمتنا لَقَدْ آتَيْنا عبدنا داوُدَ المتحقق بمقام الخلافة والنيابة والحكومة التامة مِنَّا فَضْلًا له وامتنانا عليه مما لم نتفضل بأمثاله الى سائر الأنبياء وهو انا قد أمرنا عموم الجمادات والحيوانات بإطاعته وانقياده الى ان قلنا مناديا لها يا جِبالُ أَوِّبِي ورجعي مَعَهُ التسبيح وسيرى معه حيث سار ولا تخرجي عن حكمه وامره فانقادت له الجبال بحيث متى سبح سمع منها التسبيح والتذكير والى حيث سار قد سارت معه وَكذا قد سخرنا له الطَّيْرَ وصارت تنقاد لحكمه وامره كسائر العقلاء فيحكم عليها ويأمر لها ما شاء وأراد فامتثلت هي بامره واطاعت بحكمه بلا منع وإباء وَمن جملة ما قد فضلنا عليه انا قد أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ بلا نار ومطرقة حيث جعلناه لينا في يده كالشمعة كان يبدله كيف يشاء(2/170)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
بلا تعب ومشقة وبعد ما قد ألنا له الحديد أمرنا له
أَنِ اعْمَلْ يا داود بارشادنا وتعليمنا سابِغاتٍ دروعات واسعات وَقَدِّرْ ضيق وكثف فِي السَّرْدِ والنسج بقدر الحاجة بحيث لا يمكن مرور السهام والنصال عنها أصلا وَبعد ما قد آتيناه واتباعه الملك والولاية التامة والنبوة العامة فضلا منا إياه وامتنانا له اصالة ولاتباعه تبعا قلنا لهم تعليما وإرشادا اعْمَلُوا يا آل داود عملا صالِحاً من الأعمال والأخلاق مقبولا عندي مرضيا لدىّ إِنِّي بمقتضى حضرة علمي واطلاعى بِما تَعْمَلُونَ من عموم الأعمال ناقد بَصِيرٌ انقد كلا منها اقبل صالحها وارد فاسدها
وَمن مقام فضلنا وجودنا قد سخرنا لِسُلَيْمانَ بن داود عليهما السلام الرِّيحَ العاصفة وجعلناها مسخرة تحت حكمه وتصرفه بحيث تحمل كرسىّ سليمان وهو عليه عليه السلام وجنوده عليها وتسير حيث أشار وشاء غُدُوُّها شَهْرٌ يعنى جريها في الغداة مسيرة شهر وَرَواحُها ورجوعها ايضا شَهْرٌ كذلك وَمع ذلك قد أَسَلْنا وأذبنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ اى النحاس فذاب في معدنه ونبع منها نبوع العيون الجارية في كل شهر ثلاثة ايام قيل اكثر ما في الناس من النحاس من ذلك وَسخرنا له ايضا عناية منا إياه مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ مقهورا تحت حكمه وتصرفه بِإِذْنِ رَبِّهِ قد أمرهم سبحانه بإطاعتهم وانقيادهم إياه بحيث لم ينصرفوا ولم يستنكفوا عن حكمه أصلا وَقد شرط معهم سبحانه تأكيدا لاطاعتهم إياه انه مَنْ يَزِغْ اى يعدل ويمل مِنْهُمْ اى من الجن عَنْ أَمْرِنا وحكمنا المبرم المحكم عليهم وهو اطاعتهم نبينا سليمان عليه السلام نُذِقْهُ في هذه النشأة مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ إذ قد وكل سبحانه على الجن ملكا بيده سوط من نار فمن مال منهم عن حكم سليمان ضربه بها فأحرقه ولا يراه الجنى لذلك قد صاروا مقهورين تحت حكمه وأمرهم عليه السلام ما شاء بحيث
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ مساجد لطيفة وحصون حصينة واماكن منيعة انما سمى بها لأنها قد يحارب عليها ويلتجأ إليها من الشدة ولدى الحاجة. ومن جملة ما قد عملوا له من المساجد الحصينة العجيبة بيت المقدس في غاية الحسن والبهاء ونهاية المنعة والدفاع ولم يزل على عمارته عليه السلام الى ان قد خربه بختنصر وَتَماثِيلَ هي الصور من زجاج ورخام ونحاس وصفر وشبهه فكانوا يعملون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في البقاع الشريفة والمساجد والمعابد ترغيبا للناس في دخولها والعبادة فيها وتنشيطا لهم وقد عملوا له عليه السلام في أسفل كرسيه أسدين وفي فوقه نسرين فإذا أراد الصعود عليه بسط له الأسدان ذراعيهما فارتقى وإذا تمكن عليه اظله النسران بجناحيهما وحرمة التصاوير شرع مجدد وَجِفانٍ اى يعملون له من صحاف عظيمة وقصاع كبيرة وسيعة كَالْجَوابِ والحياض الكبار ومن غاية كبرها يقعد على كل جفنة عند الاكل ألف رجل وَقُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات على اثافيهن بحيث لا تنزل عنها لغاية ثقلها وكبرها قيل اثافيها متصلة بها وكان يرتقى إليها ويؤخذ منها ما فيها بالسلاليم وبعد ما قد اعطى آل داود من الجاه والثروة العظيمة ما لم يعط أحدا من العالمين قيل لهم من قبل الحق تنبيها عليهم وحثا لهم على مواظبة الشكر ومداومة الرجوع نحو المفضل الكريم اعْمَلُوا يا آلَ داوُدَ عملا صالحا مرضيا عند الله ولا سيما الشكر اشكروا له شُكْراً مستوعبا لعموم جوارحكم وجوانحكم وفي جميع أوقاتكم وحالاتكم بحيث لا يشذ عنكم نفس ووقت لم يصدر عنكم فيها شكر وَاعلموا انكم وان بالغتم في أداء شكر نعم الله وحقوق كرمه(2/171)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
وبلغتم المرتبة القصوى منه ما أديتم حق شكره إذ قَلِيلٌ نزير يسير في غاية القلة مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ لأنه وان استوفى واستوفر في ادائه بحيث يستوعب عموم أركانه وجوارحه وجوانحه وجميع خواطره وهواجس نفسه وسره ونجواه في عموم أوقاته وساعاته ومع ذلك لا يوفى حقه إذ توفيقه واقداره سبحانه عليه ايضا نعمة اخرى مستحقة للشكر مستدعية إياه وهلم جرا لا الى نهاية ولذا قيل الشكور من يرى نفسه عاجزا عن الشكر إذ لا يمكن الإتيان به على وجه لا يترتب عليه نعمة اخرى مستلزمة لشكر آخر. ثم لما كان داود عليه السلام قد أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل إتمامه فوصى بإتمامه الى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم ايضا إذ قد اخبر عليه السلام من قبل الحق باجله فتغمم غما شديدا لعدم إتمامه البيت فأراد ان يعمى ويستر على الجن موته ليتموه فأمرهم ان يعملوا له صرحا من قوارير له باب فعملوا صرحا كذلك فدخل عليه على مقتضى عادته المستمرة من التحنث والتخلي للعبادة شهرا وشهرين وسنة وسنتين فاشتغل بالصلاة متكئا على عصاه فقبض وهو متكئ عليها فبقى كذلك حتى ان أكلت الارضة عصاه فخر ثم فتحوا عنه وأرادوا ان يعرفوا وقت موته فوضعوا الارضة على العصا فأكلت يوما وليلة مقدارا منها فقاسوا على ذلك فعلموا انه قد مات منذ سنة وكان عمره حينئذ ثلاثا وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ لعمارة البيت لأربع مضين من ملكه وقد اخبر سبحانه في كتابه على هذا الوجه الذي مضى وأوجزه فقال
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ على سليمان عليه السلام الْمَوْتَ فأخبرناه بموته فدعا نحونا بان نعمى على الجن امر موته حتى يتموا عمارة البيت فأعميناهم موته الى ان قد تمت ثم ما دَلَّهُمْ وما هداهم واشعرهم عَلى مَوْتِهِ وما أخبرهم عنه إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ اى الارضة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ اى عصاه التي هو متكئ عليها فَلَمَّا اكلتها وانكسرت عصاه خَرَّ وسقط عليه السلام على الأرض فحينئذ قد تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ وظهر دونهم وانكشف امر موته عليهم وعلموا بعد ما التبس الأمر عليهم في موته بخروره وسقوطه فظهر حينئذ للانس ان الجن لم يكونوا من المطلعين على عموم الغيوب على ما زعموا في حقهم لأنهم لو كانوا مطلعين الغيب لعلموا موته أول مرة ولم يعلموا مع أَنْ اى ان الجن لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مطلقا لعلموا امر موته حين وقوعه ولو علموا ما لَبِثُوا وما استقروا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ الذي هو العمل المتضمن لانواع المتاعب والمشاق مع انهم لم يرضوا به لكنهم لبثوا وعملوا سنة بعد موته فظهر انهم ما كانوا عالمين بالغيوب كلها وبعد ما قد ذكر سبحانه قصة آل داود وسليمان ومواظبتهم على شكر نعم الله وأداء حقوق كرمه اردفه سبحانه بكفران اهل سبأ على نعمه سبحانه وانكارهم على حقوق كرمه فقال
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ اى لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فِي مَسْكَنِهِمْ ومواضع سكناهم وهي باليمن يقال لها مأرب بقرب صنعاء مسيرة ثلاثة مراحل آيَةٌ عظيمة ونعمة جسيمة دالة على كمال معطيها وموجدها وعلى اتصافه بالأوصاف الكاملة والأسماء الحسنى الشاملة وهي جَنَّتانِ حافتان محيطتان عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ اى جنة عجيبة عن يمين بلدهم واخرى عن يسارهم وبعد ما قد أعطيناهم هاتين الجنتين العظيمتين المشتملتين على غرائب صنايعنا وبدائع مخترعاتنا قلنا لهم على طريق الإلهام كُلُوا ايها المتنعمون المتفضلون من عندنا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ الذي رباكم بأنواع الكرامات وَاشْكُرُوا لَهُ نعمه وواظبوا على أداء حقوق كرمه مع ان بلدتكم التي أنتم تسكنون فيها بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ماء وهواء بريئة عن مطلق(2/172)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
المؤذيات وَايضا ربكم الذي رباكم فيها بأنواع النعم رَبٌّ غَفُورٌ ستار عليكم عموم فرطاتكم بعد ما اخلصتم في شكر نعمه وأداء حقوق كرمه وبعد ما قد نبهنا عليهم بشكر النعم وبالمداومة عليه لم يتنبهوا ولم يتفطنوا بل قد استكبروا
فَأَعْرَضُوا عن الشكر واشتغلوا بأنواع الكفران والإنكار على المفضل المنان والمكرم الديان وبعد ما انصرفوا عنادا عن شكر نعمنا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وهي الحجارة المركومة بالجص والنورة وانواع التدبيرات والترصيعات المحكمة للابنية والأساس وذلك انه قد كان لهم سد قد بنته بلقيس بين الجبلين وقد جعلت لها ثلاث كوات بعضها فوق بعض وقد بنت ايضا دونها بركة عظيمة فإذا جاء المطر اجتمع إليها مياه او ديتهم فاحتبس السيل من وراء السد فيفتح الكوة العليا عند الاحتياج ثم الثانية الوسطى ثم الثالثة السفلى فلا ينفد ماؤها الى السنة القابلة فلما طغوا وكفروا لنعم الله بعد ما أمروا بالشكر على ألسنة الرسل قيل قد أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوا الكل وأنكروا لهم ولهذا قد سلط الله على سدهم الجرد قيل نوع من الفأرة فنقبت في أسفل السد بالهام الله إياها فسال الماء فغرقت جنتهم ودفنت بيوتهم في الرمل وقد كان ذلك من غضب الله عليهم على كفرانهم نعمه وَبعد ما قد اعرضوا عن شكرنا وأرسلنا عليهم من السيل ما أرسلنا بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ المذكورتين المشابهتين للجنة الموعودة الاخروية جَنَّتَيْنِ أخريين سماهما سبحانه جنتين على سبيل التهكم والاستهزاء ذَواتَيْ أُكُلٍ وثمر خَمْطٍ بشيع سمج كزقوم اهل النار وَذواتي أَثْلٍ طرفاء لا ثمر لها ولا ظل وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ نبق قَلِيلٍ النفع والفائدة إذ لا يسمن ولا يغنى من جوع وبالجملة
ذلِكَ الجزاء الذي قد جَزَيْناهُمْ من تبديل النعمة عليهم نقمة والجنة جحيما واللذة ألما والفرح ترحا والمنح محنة بِما كَفَرُوا اى كل ذلك بشؤم كفرهم وكفرانهم على نعمنا وغيهم وطغيانهم على رسلنا وكما بدلوا الشكر بالكفران قد بدلنا عليهم الجنان بالنيران والحرمان وانواع الخيبة والخسران وَبالجملة هَلْ نُجازِي بضم النون وكسر الزاى وما ننتقم بأمثال هذا الجزاء إِلَّا الْكَفُورَ المعرض المتناهي في الاعراض عن شكر نعمنا الجاحد على حقوق لطفنا وكرمنا المبالغ في ستر الحق المصر على اظهار الباطل الزاهق الزائل
وَمن كمال لطفنا وجودنا إياهم قد جَعَلْنا بَيْنَهُمْ اى بين بلاد اهل سبأ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي قد بارَكْنا فِيها وكثرنا الخير على ساكنيها بتوسعة الأرزاق والفواكه والمتاجر ألا وهي ارض الشأم قُرىً ظاهِرَةً متواصلة متظاهرة يرى كل منها عن الاخرى مترادفة متتالية على متن الطريق تسهيلا لهم ليتجروا نحوها بلا كلفة وتعب وَقد قَدَّرْنا لهم فِيهَا السَّيْرَ اى في تلك القرى المترادفة على قدر مقيلهم ومبيتهم غاديا ورايحا بحيث لا يحتاجون الى حمل زاد وماء لقرب المنازل والخصب والسعة. وبعد ما قد أعطيناهم هذه الكرامات قلنا لهم على ألسنة الرسل المبعوثين إليهم او إلهاما لهم على قلوبهم بلسان الحال سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً على التعاقب والتوالي حيث شئتم لحوائجكم ومتاجركم آمِنِينَ من عموم المؤذيات مصونين من مكر الأعداء شاكرين على عموم الآلاء والنعماء غير كافرين عليها وبعد ما توجه الفقراء الى ديارهم وازدحموا حولها لغاية الخصب والرفاهية والمعيشة الوسيعة وسهولة الطريق
فَقالُوا باثين شكواهم عند الله من مزاحمة الفقراء وكثرة إلمامهم عليهم كافرين على نعمة التوسعة والسهولة رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ منازل أَسْفارِنا حتى نحتاج الى حمل الزاد وشد الرواحل والعقل ليشق الأمر(2/173)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
على الفقراء فيتنحوا عنا ولا يزدحموا علينا وَبالجملة قد ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بطلب هذا التعب فأجاب الله دعاءهم وخرب القرى التي بينهم وبين الشأم وانصرف الفقراء عنهم وانقطع دعاؤهم لهم فاشتد الأمر عليهم وتشتتوا في البلاد ولم يبق عليهم شيء من الخصب والتوسعة بل قد صاروا متشتتين متفرقين فَجَعَلْناهُمْ اى قصة امنهم ورفاهيتهم وجمعيتهم بعد ما قد عكسنا الأمر عليهم أَحادِيثَ لمن بعدهم يتحدثون بينهم متعجبين قائلين على سبيل التحسر في أمثالهم قد تفرق أيدي سبأ وَبالجملة قد مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ يعنى فرقناهم في البلاد تفريقا كليا الى حيث قد لحق غسان منهم بالشأم وانمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان إِنَّ فِي ذلِكَ التبديل والتشديد والتشتيت وانواع المحن والنقم بعد النعم لَآياتٍ دلائل واضحات على قدرة العليم الحكيم القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام لِكُلِّ صَبَّارٍ على المتاعب والمشاق الواردة عليه حسب ما ثبت له في لوح القضاء الإلهي ومضى على الرضا بمقتضيات تقدير العليم الحكيم شَكُورٍ لنعم الله الفائضة عليه مواظبا على أداء حقوقها. ثم قال سبحانه مقسما
وَالله لَقَدْ صَدَّقَ بالتشديد والتخفيف عَلَيْهِمْ اى على هؤلاء الهالكين في تيه الخسران والكفران إِبْلِيسُ العدوّ لهم المصرّ المستمر على عداوتهم من بدء فطرتهم ظَنَّهُ الذي قد ظن بهم حين قال لأبيهم آدم لأحتنكن ذريته الا قليلا وقال ولا تجد أكثرهم شاكرين وقال ايضا ولأضلنهم ولأمنينهم الى غير ذلك وبعد ما أضلهم عن طريق الشكر والايمان فَاتَّبَعُوهُ وكفروا النعم والمنعم جميعا إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيد الله المصدقين لرسله المتذكرين لعداوة إبليس وخصومته المستمرة فانصرفوا عنه وعن إضلاله فبقوا سالمين عن غوائله
وَالعجب كل العجب انهم قد اتبعوا له وقبلوا اغراءه واغراءه وتغريره مع انه ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ حجة قاطعة قاهرة ملجئة لهم الى متابعته وقبول وسوسته من قبله بل من قبلنا ايضا وبالجملة ما ابتلينا وأغرينا هؤلاء الغواة البغاة الطغاة بمتابعته لعنه الله إِلَّا لِنَعْلَمَ نميز ونظهر تفرقة مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وبجميع المعتقدات الاخروية التي قد اخبر الله بها وفصلها مِمَّنْ هُوَ مِنْها اى من النشأة الآخرة والأمور الكائنة فيها فِي شَكٍّ تردد وارتياب ولهذه التفرقة والتميز اتبعناهم اليه لعنه الله وَلا تستبعد يا أكمل الرسل أمثال هذه الابتلاءات والاختبارات من الله إذ رَبُّكَ الذي قد رباك على الهداية العامة والرشد التام عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته الكائنة والتي ستكون والجارية على سرائر عباده وضمائرهم والتي ستجرى حَفِيظٌ شهيد لا يغيب عنه ايمان مؤمن وكفر كافر وشك شاك واخلاص مخلص. وبعد ما قد اثبت المشركون المصرون على كفران نعم الله أمثال هؤلاء الغواة المذكورين آلهة سوى الله سبحانه وسموهم شفعاء وعبدوا لهم مثل عبادته سبحانه
قُلِ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا ادْعُوا ايها الضالون المشركون آلهتكم الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنتم وأثبتم مِنْ دُونِ اللَّهِ ليستجيبوا لكم في مهماتكم ويستجلبوا لكم المنافع ويدفعوا عنكم المضار كما هو شأن الألوهية والربوبية وكيف تدعونهم لأمثال هذه المهام مع انهم في أنفسهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من الخير والشر والنفع والضر لا فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ لا استقلالا إذ هم ليسوا في أنفسهم قابلين للالوهية وَلا مشاركة إذ ما لَهُمْ فِيهِما وفي خلقهما وايجادهما مِنْ شِرْكٍ ومشاركة مع الله الواحد الأحد الفرد الصمد في ألوهيته وربوبيته بل هم من جملة مخلوقاته سبحانه(2/174)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
بل من أدونها وَلا شك انه لا شركة للمخلوق المرذول مع خالقه ولا مظاهرة ايضا إذ ما لَهُ سبحانه مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ يعنى لا منهم ولا من غيرهم ايضا معاون له في ألوهيته وربوبيته إذ هو سبحانه مستقل في عموم تصرفاته منزه عن المعاونة والمظاهرة مطلقا
وَكذلك ليس لهم عنده سبحانه شفاعة مقبولة حتى يشفعوا لهم ويخلصوهم عن عذاب الله بعد ما قد حل ونزل عليهم إذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ سبحانه من احد من عباده إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ
سبحانه بالشفاعة لغيره عنده عز وجل لاتصافه بالشرف والكمال كنبينا عليه السلام واذن لبعض العصاة بشفاعة الغير له من الشرفاء المأذونين لاستحقاقه بالكرامة والمرحمة في علم الله وان كان منغمسا بالرذالة والمعصية طول عمره وبعد ما وقعت الشفاعة واذن بها من عنده سبحانه لا بد وان ينتظر الشافعون والمشفعون بعد وقوعها وجلين خائفين مهابة وخوفا من سطوة سلطنة صفات جلاله سبحانه حَتَّى إِذا فُزِّعَ وكشف الفزع وأزيل الخوف والوجل عَنْ قُلُوبِهِمْ اى قلوب الشافعين والمشفعين والمشفوعين قالُوا اى بعضهم لبعض او المشفعون للشافعين ماذا قالَ رَبُّكُمْ في جواب شفاعتكم لنا أيقبلها أم يردّها قالُوا اى الشفعاء القول الْحَقَّ الثابت عنده المرضى دونه وهو سبحانه قد قبل شفاعتنا في حقكم وقد أزال عنكم عذابه بفضله ولطفه وَكيف لا يخافون من الله ولا يهابون من ساحة عز حضوره إذ هُوَ سبحانه الْعَلِيُّ ذاته وشأنه المقصور المنحصر على العلو الأعلى ولا أعلى الا هو الْكَبِيرُ حسب أوصافه وأسمائه إذ الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره لا يسع لأحد ان يتردى بردائه ويتأزر بإزاره سواه سبحانه
قُلْ لهم ايضا على سبيل التبكيت والإلزام مقرعا إياهم مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ اى عالم الأسباب وَالْأَرْضِ اى عالم المسببات فيبهتون البتة عن سؤالك هذا قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا اللَّهُ إذ هو متعين للجواب وان سكتوا عنه عنادا او تلعثموا مخافة الإلزام والافحام الا انهم قد اضمروا في قلوبهم هذا إذ لا جواب لهم سواه ولا رازق في الوجود الا هو ولا معطى غيره وَبعد ما قد بهتوا وانخسروا واستولى الحيرة والقلق عليهم قل لهم على سبيل المجاراة والمداراة إِنَّا يعنى نحن فرق الموحدين أَوْ إِيَّاكُمْ يعنى أنتم فرق المشركين اى كل منا ومنكم لَعَلى هُدىً اى على منهج الصدق والصواب الموصل الى الحق المطابق للواقع أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر انحرافه موصل الى الباطل الزاهق الزائل المضاد للحق الحقيق بالمتابعة والانقياد فتربصوا وانتظروا أنتم بنا كما نتربص نحن بكم ثم
قُلْ لهم ايضا على سبيل المجاراة والمبالغة في المداراة معهم بحيث تسند الجريمة والمعصية الى انفسكم والعمل إليهم مبالغة في الإسكات والتبكيت لا تُسْئَلُونَ أنتم عَمَّا أَجْرَمْنا وجئنا به من الآثام والمعاصي وَكذا لا نُسْئَلُ نحن ايضا عَمَّا تَعْمَلُونَ من الأعمال بل كل منا ومنكم رهين بما اكتسبنا من العمل فعليكم ما حملتم وعلينا ما حملنا ثم
قُلْ يا أكمل الرسل إياهم ايضا على طريق الملاينة والملاطفة في الإلزام والتبكيت يَجْمَعُ بَيْنَنا وبينكم رَبُّنا وربكم يوم نحشر اليه ونعرض عليه جميعا ثُمَّ يَفْتَحُ يحكم ويفصل بَيْنَنا ويرفع عنا نزاعنا بِالْحَقِّ والعدل السوى بلا حيف وميل إذ لا يتصور هذا في شأنه سبحانه فحينئذ يساق المحقون الى الجنة والمبطلون الى النار وَكيف لا يحكم ولا يفصل ولا يفتح سبحانه مع انه هُوَ الْفَتَّاحُ الكشاف لمعضلات الأمور ولمغلقات مطلق القضايا والاحكام الْعَلِيمُ الذي(2/175)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
يكتنه عنده كل معلوم ولا يشتبه عليه شيء من المحسوس والمفهوم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد أشبعت الكلام الدال على اسكاتهم وإلزامهم أَرُونِيَ وأخبروني ايها المشركون المفرطون الآلهة الباطلة الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ سبحانه وادعيتموهم أنتم من تلقاء انفسكم شُرَكاءَ معه سبحانه مستحقين للعبادة مثله ظلما وعدوانا وأخبروني عن أخص اوصافهم التي بها يستحقون الألوهية والعبودية لا تأمل ايضا في شأنهم وأتدبر في حقهم حتى ظهر عندي ولاح لدى ايضا استحقاقهم للشركة في الألوهية والربوبية. ثم رد عليهم سبحانه ردعا لهم وزجرا عليهم عماهم عليه وإرشادا لهم الى ما هو الحق الحقيق بالاتباع فقال كَلَّا اى ارتدعوا ارتداعا بليغا ايها المشركون المسرفون المفرطون عن دعوى الشركة مع الله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي ليس له شريك ولا نظير ولا وزير ولا ظهير مطلقا بَلْ هُوَ اللَّهُ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبية بل في الوجود والتحقق الْعَزِيزُ الغالب القادر القاهر على من دونه من الاظلال والأشباح الهالكة المستهلكة في شمس ذاته المتشعشعة المتجلية حسب شئون أسمائه وصفاته الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله المترتبة على علمه المحيط وارادته الكاملة وقدرته الشاملة يفعل ما يشاء ارادة واختيارا ويحكم ما يريد استقلالا وانفرادا ليس لاحد ان يتصرف في ملكه وملكوته او يدعى الشركة معه او المظاهرة والمعاونة. تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وَبعد ما قد ثبت ان لا معبود في الوجود سوانا ولا مستحق للعبادة غيرنا فاعلم يا أكمل الرسل انا ما أَرْسَلْناكَ بعد ما قد انتخبناك من بين البرايا واصطفيناك لأمر الرسالة إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ يعنى الا رسالة عامة تامة شاملة لقاطبة الأنام لتكفهم أنت عن جميع الآثام وتمنعهم عن مقتضيات نفوسهم ومشتهيات قلوبهم مما يعوقهم عن سبيل السلامة وطرق الاستقامة وبعد ما قد أرسلناك إليهم هكذا قد صيرناك عليهم بَشِيراً تبشرهم بدرجات الجنان والفوز بلقاء الرحمن وَنَذِيراً تنذرهم وتبعدهم عن دركات النيران ولحوق انواع العذاب والخذلان فيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الكفران والنسيان لا يَعْلَمُونَ حكمة الإرسال والإرشاد والهداية الى سبيل الصواب والسداد ولذلك عاندوا معك يا أكمل الرسل وكذبوك وأنكروا بكتابك وبجميع ما جئت به من عندنا عنادا ومكابرة
وَمن شدة انكارهم وعنادهم يَقُولُونَ لك يا أكمل الرسل منكرين ومتهكمين بعد ما قد وعدتهم بقيام الساعة وبعث الموتى من قبورهم وحشر الأموات من الأجداث مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي قد وعدتنا به عينوا لنا وقت وقوع الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم ودعواكم هذه يعنون بالخطاب رسول الله صلّى الله عليه والمؤمنين جميعا
قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم بعد ما اقترحوا على سبيل الإنكار قد يأتى ويبادر لَكُمْ ايها المنكرون للبعث بغتة مِيعادُ يَوْمٍ اى وعده وزمانه بحيث لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ يعنى لا يسع لكم متى فاجأتكم الساعة الموعودة ان تطلبوا التأخر عنه آنا ولحظة او التقدم عليه طرفة ولمحة وبالجملة قيام الساعة مثل حلول الأجل فكما إذا حل عليكم اجلكم لا يمكنكم طلب التقديم والتأخير فكذلك قيام الساعة إذا حل عليكم لا يمكنكم هذا ولذا قيل الموت هو القيامة الصغرى وقال صلّى الله عليه وسلّم من مات فقد قامت قيامته
وَمن كمال غيظ المشركين معك يا أكمل الرسل وشدة انكارهم على كتابك بسبب اشتماله على الأوامر والنواهي الشاقة والتكليفات الشديدة وكذا بواسطة ما اخبر فيه من قيام الساعة واهوال الفزع الأكبر والطامة الكبرى(2/176)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق واعرضوا عن مقتضاه لَنْ نُؤْمِنَ ولن نصدق ابدا نحن بِهذَا الْقُرْآنِ المفترى وبما فيه من الإنذارات والتخويفات سيما حشر الأجساد واعادة المعدوم بعينه وَلا نصدق ايضا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السالفة المشتملة على ذكر القيامة وغيرها وذلك انهم قد فتشوا من احبار اليهود والنصارى ومن جميع من انزل إليهم الكتب والصحف فسمعوا منهم جملة انه قد ذكر في كتابهم نعت محمد صلّى الله عليه وسلم وحليته ووصف كتابه ايضا وذكر الحشر والنشر وعموم المعتقدات الاخروية لذلك قد بالغوا في تكذيب الكتب الإلهية رأسا وصرفوا الناس ايضا عن تصديقها والايمان بها وبمن انزل إليهم سيما بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وَلَوْ تَرى ايها الرائي لرأيت امرا فظيعا فجيعا وقت إِذِ الظَّالِمُونَ الخارجون عن ربقة العبودية بتكذيب الرسل وانكار الكتب وما فيها من احوال النشأة الاخرى سيما القرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلم مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ محبوسون للعرض والحساب قد يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يعنى يتحاورون فيما بينهم ويتراجعون في الأقوال ويتلاومون ويتلاعنون فيها حيث يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من الاتباع والخدمة المتسمين بذل التبعية والفرعية لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا من المتبوعين المتعززين بعزّ الثروة والرياسة لَوْلا أَنْتُمْ موجودون مقتدون بيننا لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ مهتدين موقنين بتوحيد الله مصدقين لكتبه ورسله وبجميع ما جرى على ألسنة الرسل والكتب ثم
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا اى المتبوعون المتعظمون بعز الثروة والرياسة وبشرف الجاه والسيادة لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا اى للاتباع والسفلة أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى يعنى لم نكن نحن صادين صارفين لكم عن الايمان بالرسل والكتب بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الرسل بالكتب المشتملة على الهدى والبينات ودعوكم الى الايمان بل نحن حينئذ ما صددنا وصرفنا الا أنفسنا بلا تغرير وتضليل منا إياكم بَلْ كُنْتُمْ حينئذ مُجْرِمِينَ تاركين الايمان والهداية تقليدا علينا بلا صد منا وذب من قبلنا
وَقالَ الاتباع الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لم يكن اضلالكم وتغريركم علينا منحصرا في الصد والذب باللسان والأركان بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يعنى مكركم وخداعكم في تضليلنا قد كان دائما مستوعبا للأيام والليالى وليس مخصوصا بوقت دون وقت لأنكم رؤساء بيننا اصحاب الثروة والجاه فينا فتخدعون بنا قولا وفعلا وقد مالت قلوبنا الى ما أنتم عليه إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وبتوحيده وننكر رسله وكتبه وَنَجْعَلَ لَهُ اى نثبت ونعتقد لله الواحد الأحد الصمد المنزه عن الشريك مطلقا أَنْداداً شركاء معه سبحانه في استحقاق العبادة والإطاعة والتوجه والرجوع في مطلق الخطوب والمهام وَبالجملة هم قد أَسَرُّوا اى أظهروا او اخفوا النَّدامَةَ على ما قد فات عنهم يعنى لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ النازل عليهم بشؤم ما صدر عنهم في النشأة الاولى أظهروا الندامة تحسرا وتحزنا او اخفوها مخافة التعيير والتقريع وَبعد ما أردنا تعذيبهم قد جَعَلْنَا الْأَغْلالَ الممثلة لهم من تعديهم وظلمهم بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة الحق واثبتوا له أندادا وأنكروا لعموم رسله وكتبه تابعين ومتبوعين ضالين ومضلين وقلنا لهم حينئذ توبيخا وتقريعا هَلْ يُجْزَوْنَ ما يعذبون هؤلاء البعداء من ساحة عز القبول إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى بمقتضى أعمالهم وأفعالهم وبحسبها وطبقها بمقتضى العدل الإلهي
وَكيف لا نأخذهم بشؤم أعمالهم وأفعالهم إذ ما أَرْسَلْنا وما بعثنا فِي قَرْيَةٍ من القرى الهالكة مِنْ نَذِيرٍ من النذر المبعوثين لإصلاح مفاسدهم(2/177)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها ورؤساؤها ومتنعموها للرسل من فرط عتوهم وعنادهم اتكاء على ما عندهم من الجاه والثروة على سبيل التأكيد والمبالغة إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وبعموم ما قد جئتم لأجله ايها المدعون للرسالة والهداية والدعوة العامة واقامة الحدود بين الأنام كافِرُونَ جاحدون منكرون لا نقبل منكم أمثال هذه الخرافات
وَقالُوا مفتخرين بما عندهم من الجاه والثروة نَحْنُ اولى وأحرى بما ادعيتم من الرسالة والنبوة منكم إذ نحن أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وبالأموال نقتنص عموم المطالب والآمال وبمظاهرة الأولاد ندفع كل ملمة ومكروه وَبالجملة ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لا في الدنيا لما سمعت من كرامة الأموال والأولاد ولا في الآخرة ايضا ان فرض وقوعها لأنا قوم أكرمنا الله في الدنيا فكذا يكرمنا فيها
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في الافتخار والمباهات بما عندهم من حطام الدنيا ومتاعها إِنَّ رَبِّي القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام يَبْسُطُ ويكثر الرِّزْقَ الصوري الدنيوي لِمَنْ يَشاءُ من عباده اختبارا لهم وابتلاء وَيَقْدِرُ اى يقل ويقبض عمن يشاء تيسيرا له وتسهيلا عليه حسابه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على السهو والنسيان لا يَعْلَمُونَ حكمة قبضه وبسطه سبحانه كذلك يفرحون بوجوده ويحزنون بعدمه ولم يتفطنوا ان وجوده يورث حزنا طويلا وعذابا أليما وعدمه يورث انواع الكرامات ونيل المثوبات ورفع الدرجات. ثم قال سبحانه تقريعا على المفتخرين بالأموال والأولاد
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ ايها المغرورون بهما المحرومون عن اللذات الاخروية بسببهما ان تكونا وسيلتين وواسطتين بِالَّتِي اى بالخصلة الحسنى التي تُقَرِّبُكُمْ ايها المأمورون بالتقرب إلينا بالأعمال المقبولة عِنْدَنا زُلْفى يعنى تقريبا مطلوبا لكم مصلحا لأعمالكم وأحوالكم ومواجيدكم إِلَّا مَنْ آمَنَ منكم ايها المتمولون المتكثرون للأولاد وأيقن بتوحيده سبحانه وصدق رسله وكتبه وَمع ذلك قد عَمِلَ عملا صالِحاً مقبولا مرضيا عند الله متقربا به اليه سبحانه بان أنفق ماله في سبيل الله بلا من ولا أذى طلبا لمرضاته او علم أولاده علم التوحيد والاحكام وكذا علم العقائد المتعلقة بدين الإسلام فَأُولئِكَ السعداء المتمولون المقبولون عند الله المبسوطون من عنده بالرزق الصوري في هذه النشأة لَهُمْ في النشأة الاخرى جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا يعنى جزاؤهم من الرزق المعنوي في النشأة الاخرى بأضعاف ما استحقوا بأعمالهم الدنيوية الى العشرة بل الى ما شاء الله من الكثرة وَبالجملة هُمْ فِي الْغُرُفاتِ المعدة لأهل الجنة آمِنُونَ مصونون محفوظون عن جميع المؤذيات والمكروهات. ثم قال سبحانه
وَالكافرون المنكرون المكذبون لرسلنا وكتبنا الَّذِينَ يَسْعَوْنَ ويجتهدون فِي قدح آياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وعلى مطلق الاحكام الشرعية الجارية بين عبادنا المتعلقة لأحوالهم في النشأتين حال كونهم مُعاجِزِينَ ساعين قاصدين عجزنا عن اقامة حدودنا بين عبادنا واتخاذنا العهود والمواثيق منهم وعن وضع التكاليف والاحكام والآداب بينهم وبالجملة أُولئِكَ البعداء الطاعنون لآياتنا الكبرى الغافلون عن فوائدها العظمى فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد مُحْضَرُونَ لا يتحولون منه ولا يغيبون عنه أصلا
قُلْ يا أكمل الرسل للمسرفين المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية متكئين بما عندهم من الأموال والأولاد الفانية الزائلة مفتخرين بها تفوقا وتبجحا إِنَّ رَبِّي العليم المطلع على عموم استعدادات عباده الحكيم المتقن في افاضة ما يليق بهم يَبْسُطُ الرِّزْقَ يزيد ويفيض الصوري لِمَنْ يَشاءُ(2/178)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
مِنْ عِبادِهِ
تارة بمقتضى مشيته ومراده وَيَقْدِرُ لَهُ اى ينقص ويقبض الرزق عنه تارة اخرى ارادة واختيارا على حسب حكمته ومصلحته التي قد استأثر بها في غيبه وحضرة علمه المحيط وَبعد ما قد سمعتم هذا اعلموا ايها المبسوطون المنعمون ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ مما قد استخلفكم الله سبحانه عليه من الرزق وأمركم بإنفاقه على فقرائه فَهُوَ سبحانه يُخْلِفُهُ ويعوض عنه بأضعافه وآلافه على وفق الحكمة ان صدر عنكم الانفاق في النشأة الاولى بالاعتدال بلا تبذير وتقتير وَكيف لا يخلف الرزق الصوري سبحانه لخلص عباده مع انه هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ بالرزق الصوري والمعنوي لعباده الخلص وهذا للمخلصين له عن مقتضيات بشريتهم ومشتهيات أهويتهم البهيمية
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن عبد الملائكة واتخذوهم أربابا من دون الله مستحقين للعبادة والرجوع في الملمات مثله سبحانه وسموهم شفعاء يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ في المحشر جَمِيعاً العابدين والمعبودين ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ على رؤس الاشهاد تفضيحا للعابدين وتقريعا لهم أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ يعنى أهؤلاء المشركون المسرفون يعبدون إياكم ايها الملائكة كعبادتى بل يخصونكم بالعبادة ويهتمون بشأنكم مزيد اهتمام هل تستعبدونهم أنتم وتسترضون بعبادتهم وتوالون معهم أم هم يعبدونكم من تلقاء أنفسهم
قالُوا اى الملائكة خائفين من بطشه سبحانه مستحيين منه متضرعين نحو جنابه سُبْحانَكَ ننزهك يا مولانا عما لا يليق بشأنك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ وأنت المراقب علينا المطلع على سرائرنا وضمائرنا المتولى لعموم ما قد صدر عنا وبالجملة أنت تعلم واعلم منا يا مولانا ان لا موالاة بيننا وبينهم إذ لا يخفى عليك خافية ومن اين يسع لنا ويتأتى منا الرضا بأمثال هذه الجرأة والجريمة العظيمة وأنت اعلم ايضا بمعبوداتهم التي قد اتخذوها وأخذوها هؤلاء الغواة الطغاة الهالكون في تيه الجهل والغفلة بعلو شأنك وبشأن الوهيتك وربوبيتك بَلْ هم قد كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ اى الشياطين الداعين لهم الى عبادتهم الراضين منهم بعد ما قيدوا لهم إذ هم قد يتمثلون بصور الملائكة ويدعون الألوهية والربوبية لأنفسهم ويأمرونهم بالعبادة بل أَكْثَرُهُمْ اى كل المشركين وعموم المتخذين لله أندادا بِهِمْ مُؤْمِنُونَ اى بالشياطين وباغوائهم واغرائهم وتغريرهم عابدون لهم متوجهون نحوهم في عموم مهامهم
فَالْيَوْمَ تبلى السرائر وظهر ما في الضمائر وقد لاح سلطان الوحدة الذاتية وانقهر الاظلال والأغيار وظهر ان الأمور كلها مفوضة اليه سبحانه وان كان قبل ذلك ايضا كذلك وقد علمتم الآن انه لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ ايها الاظلال المستهلكة في شمس الذات لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا لا جلبا ولا دفعا ولا لطفا ولا قهرا وَبعد ما قد انقطع عنهم التصرف مطلقا ولم يبق لهم الاختيار لا صورة ولا معنى ولا حقيقة ولا مجازا نَقُولُ بمقتضى قهرنا وجلالنا لِلَّذِينَ ظَلَمُوا وخرجوا عن ربقة عبوديتنا ومقتضيات حدودنا الموضوعة لا صلاح احوال عبادنا ذُوقُوا ايها الضالون المنهمكون في بحر العدوان والطغيان عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ في النشأة الاولى سيما قد أخبرتم على ألسنة الرسل والكتب
وَكيف لا نقول لهم ما نقول إذ هم قد كانوا من عدوانهم وظلمهم على الله ورسله وكتبه إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على إصلاح أحوالهم المتعلقة بالنشأتين مع كونها بَيِّناتٍ في الدلالة على أهم مقاصدهم ومطالبهم لو كانوا من ذوى الرشد والهداية قالُوا من شدة شكيمتهم وغيظهم على رسول الله ما هذا المدعى للرسالة والنبوة يعنون الرسول صلّى الله عليه وسلم(2/179)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
إِلَّا رَجُلٌ حقير مستبد برأيه مستبدع امرا من تلقاء نفسه يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ ويصرفكم عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ ويستتبعكم بل يستعبدكم بأمثال هذا التلبيس والتغرير وَقالُوا ايضا في حق القرآن ما هذا الذي جاء به إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وكذب مختلق غير مطابق للواقع قد افتراه على الله تلبيسا وتغريرا على ضعفاء الأنام وَبالجملة قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ الصريح وستروه بالباطل عدوانا وعنادا لَمَّا جاءَهُمْ وحين عاينوا به وعلموا انه من الخوارق العجيبة وقد اضطروا عن معاوضته خائبين حائرين عن جميع طرق الرد والمنع غير انهم نسبوه الى السحر وقالوا إِنْ هذا ما هذا الذي سماه قرآنا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته عظيم اعجازه. ثم أشار سبحانه الى غاية تجهيل المشركين ونهاية تسفيههم فقال
وَما آتَيْناهُمْ وما أنزلنا عليهم مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وفيها دليل الإشراك واثبات الآلهة بل كل الكتب والصحف انما هي منزلة على طريق التوحيد وبيان سلوكه وَكذلك ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ يا أكمل الرسل مِنْ نَذِيرٍ ينذرهم عن التوحيد ويدعوهم الى الشرك المنافى له ثم أشار سبحانه الى تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتهديدهم بالبطش والأخذ فقال
وَكما كذب هؤلاء المكذبون بك يا أكمل الرسل وبكتابك كذلك قد كَذَّبَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم رسلهم وقد أنكروا الكتب المنزلة إليهم أمثالهم بل وَهم اى هؤلاء الغواة المكذبون لك يا أكمل الرسل ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ وعشر ما قد أعطينا لأولئك المكذبين الماضين من الجاه والثروة والامتعة الدنياوية وطول العمر فَكَذَّبُوا رُسُلِي فأخذناهم مع كمال قوتهم وشوكتهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري وانتقامي إياهم بالتدمير والهلاك بسبب انكارهم وظهورهم على رسلي وكتبي بالتكذيب والاستخفاف نستأخذ هؤلاء المكذبين ايضا ونستأصلهم بأشد من ذلك
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد بلغ إلزامهم وتهديدهم غايته إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ يعنى ما اذكر لكم وما أنبه عليكم الا بخصلة واحدة كريمة وهي أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ وحده وتوحدوه عن وصمة الكثرة مطلقا وتواظبوا على أداء الأعمال الصالحة المقربة اليه المقبولة عنده سبحانه وتخلصوها لوجهه الكريم بلا شوب شركة ولوث كثرة وخباثة رعونة ورياء وسمعة وعجب وخديعة وتسترشدوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم مَثْنى اثنين اثنين وَفُرادى واحدا واحدا يعنى متفرقين بلا زحام مشوش للخاطر مخلط للأقوال والأصوات عنده صلّى الله عليه وسلّم حتى يظهر لكم شأنه صلّى الله عليه وسلّم ويتبين دونكم برهانه ثُمَّ بعد ما ترددتم عليه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التعاقب والتفريق تَتَفَكَّرُوا وتتأملوا فيما لاح عليكم منه صلّى الله عليه وسلّم وتتدبروا حق التأمل والتدبر على وجه الإنصاف معرضين عن الجدل والاعتساف لينكشف لكم ويظهر دونكم انه ما بِصاحِبِكُمْ يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم مِنْ جِنَّةٍ جنون وخبط يعرضه ويطرأ عليه هو يحمله على ادعاء الرسالة بلا برهان واضح يتضح له وينكشف دونه كما زعم في حقه صلّى الله عليه وسلّم مشركوا اهل مكة خذلهم الله كي يفتضح على رؤس الاشهاد كما نشاهد من متشيخة زماننا احسن الله أحوالهم أمثال هذه الخرافات والمزخرفات بلا سند ومستند واضح صريح سوى التلبيس والتدليس الذي هو من شيم إبليس وبعد ما لم يساعدهم البرهان والكرامة افتضحوا بأصناف اللوم والملامة وهو صلّى الله عليه وسلّم مع كمال عقله ورزانة رأيه ومتانة حكمته كيف يختار ما هو سبب الشنعة والافتضاح تعالى شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما(2/180)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
يقول في حقه الظالمون علوا كبيرا او المعنى ثم بعد ما جلستم عنده صلّى الله عليه وسلّم على الوجه وتكلمتم معه على طريق الإنصاف تتفكروا وتتأملوا هل تجدونه صلّى الله عليه وسلّم معروضا للخبط والجنون أم للأمر السماوي الباعث له صلّى الله على اظهار أمثال هذه الحكم والاحكام والعبر والأمثال التي قد عجزت دونها فحول العقلاء وجماهير الفصحاء والبلغاء البالغين أقصى نهاية الإدراك مع وفور دواعيهم بمعارضتها والتحدي معها بل إِنْ هُوَ وما هذا الرسول المرسل إليكم المؤيد بالبراهين الواضحة والمعجزات اللائحة المثبتة لرسالته إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ من قبل الحق بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ يعنى قبيل وقدام يوم القيامة المعدة لانواع العذاب والنكال على عصاة العباد وان اتهموك يا أكمل الرسل بأخذ الأجر والجعل على أداء الرسالة وتبليغ الاحكام بل قد حصروا ادعاك الرسالة ودعوتك على هذا فقط
قُلْ لهم على سبيل الإسكات والإلزام ما سَأَلْتُكُمْ عنكم شيأ من الجعل أصلا وان فرض انى سألت منكم شيأ فاعلموا ان ما سألتكم مِنْ أَجْرٍ على إرشادكم وتكميلكم فَهُوَ لَكُمْ اى هو هبة موهوبة لكم من قبلي مردودة عليكم منى وبالجملة إِنْ أَجْرِيَ وما جعلى على تحمل هذه المشاق والمتاعب الواردة على في تبليغ الرسالة واظهار الدعوة إِلَّا عَلَى اللَّهِ الذي قد أرسلني بالحق وبعثني بالصدق على الصدق وهو المراقب المطلع على عموم أحوالي الحكيم المتقن بافاضة ما ينبغي ويليق بشأنى وحالي وَكيف لا يطلع سبحانه على احوال عباده إذ هُوَ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ ظهر من الموجودات ولاح عليه لمعة الوجود وبروق التجليات شَهِيدٌ حاضر دونه غير بعيد عنه ومغيب عليه
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد تمادى مراء اهل الضلال وتطاول جدالهم لا أبالي باستهدائكم واسترشادكم ولا أبالغ في تكميلكم ورشادكم بل إِنَّ رَبِّي العليم باستعدادات عباده الحكيم بافاضة الايمان والعرفان على من أراد هدايته وإرشاده يَقْذِفُ بِالْحَقِّ اى يلقيه وينزل على قلوب عباده الذين قد جبلهم على فطرة الإسلام واستعدادات التوحيد والعرفان إذ هو سبحانه عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم استعدادات عموم عباده وقابلياتهم على قبول الحق ويميزهم عن اهل الزيغ والضلال المجبولين على الغواية الفطرية والجهل
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد بينت لهم طريق الحق كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة الكذب مطلقا قد جاءَ الْحَقُّ الحقيق بالاتباع وظهر الإسلام الجدير للاطاعة والتسليم فلكم ان تغتنموا الفرصة وتنقادوا له مخلصين وَنبههم يا أكمل الرسل ايضا انه بعد ما قد ظهر نور الإسلام وعلا قدره وارتفع شأنه ما يُبْدِئُ الْباطِلُ الذي قد زهق واضمحل ظلمته بنور الإسلام وغار مناره في مهاوي الجهل واغوار النسيان أصلا وَقد صار بحيث ما يُعِيدُ ابدا في حين من الأحيان فسبحان من اظهر نور الإسلام ورفع اعلامه وقمع الكفر واخفض اصنامه. ثم لما طعن المشركون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعيروه بانك قد تركت دين آبائك واخترعت دينا من تلقاء نفسك فقد ضللت باختيارك هذا وبتركك ذاك عن منهج الرشد وسبيل السداد رد الله سبحانه عليهم قولهم هذا وتعييرهم آمرا للنبي على وجه الامتنان
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد عيروك وطعنوا في شأنك ودينك إِنْ ضَلَلْتُ انا وانحرفت عن سبيل السلامة وجادة الاستقامة فَإِنَّما أَضِلُّ وانحرف عَلى نَفْسِي بمقتضى اهويتها ومشتهياتها وبشؤم لذاتها وشهواتها وَإِنِ اهْتَدَيْتُ الى التوحيد والعرفان ونلت الى اسباب درجات الجنان فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي بسبب وحيه والهامه على(2/181)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
وامتنانه بأنواع الهداية والكرامات وبأصناف اللذات الروحانية والمكاشفات والمشاهدات وبالجملة إِنَّهُ سبحانه سَمِيعٌ قَرِيبٌ يسمع عموم مناجاتي ويقضى جميع حاجاتي على وجهها ان تعلق ارادته ومشيته بها بعد ما قد جرى وثبت في حضرة علمه ومضى عليها قضاؤه في لوح المحفوظ بحيث لا يفوته شيء
وَمن غاية قرب الله سبحانه لعباده لَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي وقت إِذْ فَزِعُوا يعنى الكفرة والمشركين وقت حلول الأجل ونزول العذاب عليهم في يوم الساعة لرأيت امرا فظيعا فَلا فَوْتَ يعنى حين لا فوت لهم عن الله ولا غيبة عنده سبحانه لا منهم ولا من أعمالهم وأحوالهم شيء وَان تحصنوا بالحصون الحصينة والقلاع المنيعة المتينة والبروج المشيدة بل أُخِذُوا حيثما كانوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من الله ولو كانوا في قعر الأرض او قلل الجبال او في قلب الصخرة الصماء او فوق السموات العلى وفي أى مكان من الأمكنة المخفية وبالجملة قد أخذوا من مكان قريب بالنسبة اليه سبحانه إذ هو سبحانه منزه عن مطلق الأماكن شهيد حاضر في جميعها غير مغيب عنها
وَبعد ما قد اضطروا الى الموت والهلاك او العذاب في يوم الجزاء قالُوا حين انقرض وقت الايمان وقد مضى أوانه آمَنَّا بِهِ اى بمحمد صلّى الله عليه وسلم وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ يعنى من أين يتأتى ويحصل لهم تناول الايمان وتلافيه وتداركه يومئذ سيما قد صاروا مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الايمان إذ قد انقرض مدة التكليف والاختبار وزمان التلافي والتدارك
وَحين كانوا قريبا له قادرا على تناوله وتعاطيه لم يختاروه ولم يتصفوا به بل قَدْ كَفَرُوا بِهِ صلّى الله عليه وسلّم وأنكروا على دينه وكتابه مِنْ قَبْلُ في النشأة الاولى او في الصحة وحين الدعوة يعنى قبل ما عاينوا بالعذاب والهلاك وَهم قد كانوا في زمان الايمان به صلّى الله عليه وسلّم وبكتابه يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ يعنى يرمونه صلّى الله عليه وسلّم ويرجمونه رجما بالغيب ويقولون في شأنه على سبيل التخمين والحسبان عدوانا وظلما انه شاعر كاهن مجنون ويقولون في شأن كتابه انه كلام المجانين وأساطير الأولين مع ان أمثال هذه الخرافات بالنسبة اليه صلّى الله عليه وسلّم والى كتابه مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بمراحل عن شأنه العظيم وعن شأن كتابه الكريم وبالجملة ايمانهم في حالة اضطرارهم ابعد عن محل القبول بمراحل ايضا
وَبعد ما قد ايسوا عن قبول الايمان وقت الاضطرار قد حِيلَ وحجب بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من الايمان والنجاة المترتبة عليه ففعل بهم حينئذ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أحزابهم وأشباههم مِنْ قَبْلُ من الكفرة الماضين الهالكين الملتجئين الى الايمان وقت اضطرارهم وهجوم العذاب عليهم كفرعون وقارون وهامان وغيرهم إِنَّهُمْ قد كانُوا أمثال هؤلاء الغواة المنهمكين فِي شَكٍّ تردد وغفلة مُرِيبٍ موقع أصحابه في ريب عظيم وكفر شديد وانكار غليظ. أعاذنا الله وعموم عباده عن أمثاله بمنه وكرمه
خاتمة سورة السبأ
عليك ايها السالك المتدرج في درجات اليقين من العلم الى العين ثم الى الحق وفقك الله أعلى مطالبك واعانك على إنجاحها ان تتمكن في مقعد الصدق الذي هو مرتبة الرضاء معرضا عن الشك والتردد في مقتضيات القضاء ومبرمات الاحكام المثبتة في حضرة العلم المحيط الإلهي وان تتوجه نحوه سبحانه في حالاتك متشبثا بذيل كرم نبيه المؤيد من عنده سبحانه الذي أرشدك الى توحيده الذاتي مسترشدا(2/182)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
من آيات الكتاب المنزل على رسوله المبين لسلوك طريق التوحيد واليقين وكذا من أحاديث النبي الموضحة لمغلقات الكتاب المشيرة الى رموزه وإشاراته فلك في كل الأحوال التبتل الى الله والتوكل نحوه والتفويض اليه فاتخذه سبحانه وكيلك في جميع حوائجك وحسيبك في عموم مهامك يكفيك كافيا ومعينا ويكف عنك شرور عموم اعاديك مطلقا وإياك إياك ان تخلط مع اصحاب الغفلة وارباب الثروة والسيادة المفتخرين بما عندهم من المال والجاه والنسب العلى والحسب السنى على زعمهم الذي يباهي به صاحبه ويتفوق على اقرانه ويطلب الرياسة والسيادة بسببه وان أردت ان تجلس مع بنى نوعك وتصاحب معهم فاختر منهم من قطع علاقة الالفة عن الدنيا وأمانيها وتزهد عنها وعن عموم ما فيها سوى سد جوعة وستر عورة وكن يحفظه عن الحر والبرد وصاحب معه مصاحبة الحائر التائه في بيداء لا يدرى اين أطرافها وارجاءها متفكرين متدبرين للخروج منها والخلاص عن أهوالها واغوالها وبالجملة لك ان تتذكر في عموم أوقاتك وحالاتك قول نبيك المختار سيد الأبرار وسند الأحرار والأخيار الناجين المخلصين عن غوائل الدنيا الغرار الغدار وعن سرابها اللماع الخداع المكار وتجعله نصب عينيك في جميع احوالك ألا وهو هذا «كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل وعد نفسك من اصحاب القبور» جعلنا الله ممن امتثل به واتعظ بفحواه وعمل بمقتضاه ووجد في نفسه حلاوة معناه بفضله ولطفه
[سورة فاطر]
فاتحة سورة الفاطر
لا يخفى على من تحقق بسعة قدرة الله واحاطة حضرة علمه وارادته وشمول عموم أوصافه وأسمائه الذاتية والفعلية ان مظاهر الحق ومجاليه حسب شئونه وتطوراته لا تكاد تنحصر وتحصى إذ لا يكتنه ذاته ووصفه واسمه فكيف تجلياته وتطوراته إذ لا يشغله شأن عن شأن بل كل آن في شأن لا كشأن وبعد ما كان شأنه سبحانه كذلك كيف يعد ويحصى مظاهره المترتبة على شئونه وتجلياته الغير المحصورة الا انه سبحانه قد حمد لنفسه باعتبار معظم مظاهره ومصنوعاته بالنسبة الى هؤلاء الارضيين تعليما لهم وإرشادا ليواظبوا على أداء حقوق كرمه بقدر وسعهم وطاقتهم فقال سبحانه حامدا لنفسه بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي قد تجلى حسب أوصافه الكاملة وأسمائه العامة الشاملة الرَّحْمنِ لعموم مظاهره ومصنوعاته بافاضة رشحات نور الوجود عليهم بمقتضى الفضل والجود الرَّحِيمِ لخواص عباده باطلاعهم على منشأ الوجود ومنبع خزائن الفيض والجود
[الآيات]
الْحَمْدُ المحيط المشتمل على جميع الاثنية والمحامد الصادرة عن ألسنة عموم المظاهر والمجالى حالا ومقالا ثابت لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ اى الذي قد فطر وأبدع واظهر الاجرام العلوية من كتم العدم بعد ما شق وفلق ظلمته باشعة نور الوجود المنعكسة من الصفات السنى والأسماء الحسنى الإلهية وَالْأَرْضِ اى الأجسام السفلية ايضا كذلك ليتحقق مرتبتا الفاعل والقابل ويتكون منهما من الكوائن والفواسد ما شاء الله بحوله وقوته لا حول ولا قوة الا بالله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ اى الذي قد جعل وصير الملائكة الذين هم سدنة سدته العلية وخدمة عتبته السنية رُسُلًا وسائل ووسائط بينه سبحانه وبين خواص عباده من الأنبياء والرسل والأولياء المؤيدين من عند الله سبحانه بالرتب العلية والدرجات الرفيعة يبلغون إليهم من قبل الحق جميع ما تفضل بهم سبحانه من الوحى المتعلق بخير الدارين ونفع(2/183)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
النشأتين ولهذا قد صيرهم سبحانه أُولِي أَجْنِحَةٍ متعددة متفاوتة تسرعون بها نحو مصلحة قد بعثهم الله إليها وأمرهم بتبليغها مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يعنى لبعضهم اجنحة اثنين اثنين ولبعضهم ثلاثة ثلاثة ولبعضهم اربعة اربعة الى ما شاء الله بلا انحصار في عدد دون عدد بل يَزِيدُ سبحانه فِي الْخَلْقِ يعنى في جميع مخلوقاته الداخلة تحت قدرته واختياره ما يَشاءُ بلا عد وحد وحصر وإحصاء إذ لا ينتهى قدرته دون مقدور له بل له ان يتصرف فيه الى ما لا يتناهى. كما روى انه صلّى الله عليه وسلّم قد رأى جبرائيل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح وهذا دليل على ان ذكر العدد هاهنا ليس للحصر فالآية تدل ايضا على ان له سبحانه ان يتصرف في ملكه وملكوته كم شاء وكيف شاء ومتى شاء فيجوز ان يخلق أنواعا لم يخلقها قبل من أى جنس كان ويخلق ايضا في فرد من نوع أمورا عجيبة من الملاحة والصباحة والرشاقة وحسن الصوت والصورة وكمال العقل ورزانة الرأى وفطانة الذهن وخواص غريبة لم يخلقها قبل لافراد أخر من هذا النوع ولهذا يتفاوت اشخاص الإنسان في المعارف والحقائق وجميع الأمور المتعلقة بالعقل المتفرع على الإدراك بحسب الأدوار والأعصار بل في زمان واحد ايضا إذ بعضهم في نهاية البلادة وبعضهم في كمال الجلادة وبعضهم في كمال الحسن واللطافة وبعضهم في نهاية القباحة والكثافة وبالجملة له سبحانه التصرف المطلق في ملكه وملكوته بالاستقلال والاختيار بلا فترة وفتور في علمه وقدرته وارادته إذ هو سبحانه منزه عن المسامحة والملال وأوصافه بريئة عن وصمة الغرة والكلال وبالجملة إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة التامة عَلى كُلِّ شَيْءٍ تعلق به ارادته ومشيته قَدِيرٌ لا بد ان يتكون باختياره بلا خلف عموم ما قد لمع عليه برق ارادته ومن كمال قدرته سبحانه انه
ما يَفْتَحِ اللَّهُ المدبر لأحوال عباده لِلنَّاسِ الناسين حقوق تربيته وتدبيره سبحانه مِنْ رَحْمَةٍ فائضة لهم بمقتضى جوده تفضلا عليهم من النبوة والرسالة والولاية والكرامة والعلم والمعرفة والرشد والهداية وغير ذلك من الكمالات الفائضة من عنده سبحانه فَلا مُمْسِكَ لَها ولا مانع يمنعهم عنها وَما يُمْسِكْ ويمنع سبحانه من امر بمقتضى قهره وجلاله فَلا مُرْسِلَ لَهُ يرسل إليهم مِنْ بَعْدِهِ يعنى بعد منعه سبحانه وإمساكه وَكيف يسع لاحد ان يرسل ما يمنعه إذ هُوَ الْعَزِيزُ المقصور المنحصر في ذاته على العزة والغلبة الذاتية إذ لا عزيز دونه الْحَكِيمُ المستقل في المنع والإرسال ارادة واختيارا لا يسأل عن فعله ولا مبدل لقوله ولا معقب لحكمه ثم نادى سبحانه اهل النعمة وخاطبهم ليقبلوا عليه ويواظبوا على شكر نعمه فقال
يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ واشكروا له سبحانه أداء لحقوق كرمه وتفكروا في عموم آلائه ونعمائه وتذكروا هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ المتوحد بوجوب الوجود ودوام البقاء يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعنى من امتزاج العلويات بالسفليات واختلاط الفواعل والأسباب مع القوابل والمسببات المسخرة تحت قدرة الحكيم العليم لينكشف لكم ويتبين دونكم انه لا إِلهَ يعبد بالحق ويتوجه نحوه في الخطوب والملمات ويسند الحوادث الكائنة الى حكمه والنعم الفائضة الى فضله وجوده إِلَّا هُوَ الله الحق الحقيق بالاطاعة والرجوع إذ لا مرجع سواه ولا مقصد غيره فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ والى اين تنصرفون عن توحيده وكيف تردون عن بابه ايها الآفكون المجرمون وبعد ما قد بعثت يا أكمل الرسل لإرشاد اهل الحيرة والضلال وتبليغ الرسالة إليهم فلك ان تصبر على عموم المتاعب والمشاق الواردة في حملها
وَ(2/184)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
بالجملة إِنْ يُكَذِّبُوكَ هؤلاء الضلال بعد ما دعوتهم الى الحق فتأس بإخوانك الرسل واصبر على أذى تكذيبهم فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ عظام كثيرة مِنْ قَبْلِكَ امثالك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا وَهم قد علموا انه إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد القادر المقتدر على الانعام والانتقام لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ الكائنة من التكذيب والتصديق والصبر والأذى وغير ذلك من الحوادث إذ كلها مستند الى الله أولا وبالذات حاضر في حضرة علمه المحيط ثابت في لوح قضائه المحفوظ يجازى كلا من المحقين والمبطلين والمصدقين والمكذبين بمقتضى علمه وخبرته
يا أَيُّهَا النَّاسُ المنهمكون في بحر الغفلة والنسيان التائهون في تيه الغرور والطغيان إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعده في النشأة الاخرى لعموم عباده شقيهم وسعيدهم مطيعهم وكافرهم حَقٌّ ثابت لازم محقق إنجازه على الله بلا خلف فلكم ان تتزودوا لأخراكم وتهيئوا لأمر عقباكم كي تصلوا الى ما اعدّ لكم موليكم فَلا تَغُرَّنَّكُمُ ولا تعوقنكم الْحَياةُ الدُّنْيا ولذاتها الفانية وشهواتها الزائلة الغير الباقية عن الحيوة الابدية الازلية والبقاء السرمدي واللذات الروحانية وَبالجملة لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعنى لا يلبسن عليكم الشيطان المكار الغرّار الغدار بان يوقع في قلوبكم ان رحمة الله واسعة وفضله كثير ولطفه كبير وان الله سبحانه مستغن عن طاعتكم وعبادتكم وان فعل الإيلام لا يتصور من الحكيم العلام الى غير ذلك من الحيل العائقة لكم عن التقوى وعن التزود للنشأة الاخرى وبالجملة
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ يا بنى آدم عَدُوٌّ قديم مستمر عداوته من زمان أبيكم فَاتَّخِذُوهُ اى الشيطان أنتم ايضا عَدُوًّا لأنفسكم عداوة مستمرة بحيث لا تصغوا اليه ولا تقبلوا منه قوله ولا تلتفتوا الى تغريره وتلبيسه أصلا فانه يواسيكم ويغريكم الى مشتهيات نفوسكم ويوقعكم في فتنة عظيمة كما أوقع أباكم في ما مضى فعليكم ان تجتنبوا عن غوائله حتى لا تكونوا من حزبه إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ على الغواية والضلال البتة ويغريهم الى انواع البغي والعناد لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ المسعرة المعدة لأصحاب الشقاوة الازلية مثل الشيطان وسائر أحزابه واتباعه. نجنا بفضلك من سخطك واعذنا بلطفك من تغرير عدونا وعدوك. ثم قال سبحانه كلاما جمليا شاملا لعموم العباد تذكيرا وعظة مشتملا على الوعد والوعيد لكلا الفريقين
الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق واعرضوا عنه في النشأة الاولى عنادا ومكابرة لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ اى إحراقهم بنار القطيعة في النشأة الاخرى جزاء بما اقترفوا في النشأة الاولى إذ لا عذاب أشد من الإحراق وَالَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله وصدقوا رسله المؤيدين من عنده بالصحف والكتب المنزلة إليهم المبينة لسلوك طريق التوحيد والعرفان وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم في تلك الكتب والصحف لَهُمْ في النشأة الاخرى مَغْفِرَةٌ ستر وعفو لما صدر عنهم من الذنوب قبل الايمان والتصديق وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وجزاء عظيم على ما قد عملوا بعده بمقتضى الأمر الإلهي المبين في الكتب المنزلة من عنده سبحانه
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً يعنى أيزعم الزاعم ان من زين وحسن الشيطان عمله السوء القبيح في الواقع فخيله حسنا بحسب زعمه الفاسد واعتقاده الباطل كمن كان عمله حسنا في الواقع حقا في نفس الأمر واعتقده ايضا كذلك حتى يكونا متساويين في استحقاق الأجر الجزيل والجزاء الجميل كلا وحاشا ان يكونا سيان بل شتان ما بينهما فَإِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء المقتدر على ما يشاء يُضِلُّ عن صراط توحيده حسب قهره وجلاله مَنْ يَشاءُ من عصاة عباده وَيَهْدِي اليه مَنْ يَشاءُ منهم بمقتضى لطفه(2/185)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
وجماله الى مقر وحدته وفضاء وجوبه وبقائه ومتى سمعت يا أكمل الرسل ان الإضلال والضلال والإرشاد والهداية انما هي مستندة أولا وبالذات الى مشية الله وارادته لا مدخل لاحد من خلقه فيها أصلا فَلا تَذْهَبْ أنت نَفْسُكَ اى تتعب ولا تهلك نفسك يا أكمل لرسل عَلَيْهِمْ يعنى على غواية من أردت وأحببت أنت هدايته ورشده حَسَراتٍ حال كونك متحسرا متأسفا تحسرا فوق تحسر وتحزنا غب تحزن على ضلالهم وعدم قبولهم الهداية والمعنى أفمن زين له سوء عمله فحسنة على نفسه واعتقده حقا جهلا وعنادا مع انه باطل في نفسه وبذلك ضل عن طريق الحق وانحرف عن سواء السبيل وبعد بمراحل عن الهداية بسبب هذا الاعتقاد الفاسد وأنت يا أكمل الرسل قد أذهبت وأهلكت نفسك عليهم حسرة وضجرة لم لم تهتدوا ولم تؤمنوا فان الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المراقب على جميع حالاتهم عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ يجازيهم حسب علمه بسوء صنيعهم فلا تتعب نفسك بما يفوتون على أنفسهم من الرشد والهداية
وَكيف لا يعلم سبحانه ضمائر عباده واستعداداتهم مع انه اللَّهُ المدبر لأمور عباده المصلح لعموم أفعالهم وأحوالهم وحوائجهم هو الَّذِي أَرْسَلَ بلطفه وبمقتضى جوده الرِّياحَ العاصفة فَتُثِيرُ وتهيج تلك الرياح سَحاباً هامرا مركبا من الابخرة والادخنة المتصاعدة القابلة لان تتكون منها مياه بمجاورة الهوى البارد الرطب فَسُقْناهُ بعد ما قد تم تركيبه وتقاطر منه المطر عناية منا إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ يابس في غاية اليبس بحيث لا خضرة له أصلا فَأَحْيَيْنا بِهِ واخضررنا اى بالمطر الحاصل من السحاب الْأَرْضَ الجامدة اليابسة بَعْدَ مَوْتِها جفافها ويبسها كَذلِكَ اى مثل احيائنا الأرض اليابسة بعد يبسها وجمودها النُّشُورُ يعنى احياؤنا الأموات الجامدة ونشرهم من قبورهم بإعادة الروح المنفصل منهم الى أبدانهم التي قد تفتتت اجزاؤها بإرسال نفحات نسمات لطفنا ورحمتنا لتثير سحاب العناية الماطرة الفائضة قطرات ماء الحياة ورشحات الوجود المسوقة الى أراضي الأبدان اليابسة الجامدة بالموت الطبيعي انما احييناهم من الأجداث إظهارا لقدرتنا وتتميما لحكمتنا واستقلالنا في آثار تصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا ولإظهار كمال تعززنا وكبريائنا في ذاتنا وبالجملة
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ التامة الكاملة التي لا يعقبها ذل أصلا فله ان يسترجع الى الله ويتوجه نحو توحيده فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ الذاتية والغلبة الوصفية والسلطنة الاصلية الكاملة والبسطة الشاملة جَمِيعاً ومن أراد ان يتعزز بعزة الله فله في أوائل سلوكه الى الله ان يتذكره سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا الى ان ينتهى تذكره الى التفكر الذي هو آخر العمل وصار حينئذ متفكرا في ذاته مستكشفا عن أستار جبروته سبحانه الى ان صار مستحضرا له مكاشفا إياه مشاهدا آثار أوصافه وأسمائه على صحائف الأكوان بلا مزاحمة الأعيان والأغيار وبالجملة فله ان يشتغل بالتذكر في أوائل الحال إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود يَصْعَدُ ويرقى الْكَلِمُ الطَّيِّبُ من الأسماء الحسنى والأوصاف العظمى الناشئ من ألسنة المخلصين المتفكرين في آلاء الله ونعمائه وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ المقرون بالتبتل والإخلاص يَرْفَعُهُ يعنى يحمل ويرفع العمل المنبئ عن الإخلاص والكلم الطيب ويوصله الى درجات القرب من الله فمن كان إخلاصه في عمله أكمل كان درجات كلماته المرفوعة نحوه سبحانه ارفع وأعلى عند الله وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ مع الله المكرات السَّيِّئاتِ يعنى به سبحانه المكر السيئ الذي قد مكر به المشركون خذلهم الله مع حبيبه صلّى الله عليه وسلم لَهُمْ(2/186)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
في النشأة الاخرى عَذابٌ شَدِيدٌ جزاء بما مكروا به وَان كان مَكْرُ أُولئِكَ الماكرون هُوَ اى مكرهم في نفسه يَبُورُ يفسد ويبطل ويعود وباله ونكاله عليهم بلا اثر لمكرهم بالممكور عليه صلّى الله عليه وسلم
وَكيف لا يعود ضرر مكركم إليكم ايها الماكرون المشركون إذ اللَّهُ القادر المقتدر الذي قد قصدتم المكر معه ومع من اختاره واصطفاه قد خَلَقَكُمْ وقدر وجودكم أولا مِنْ تُرابٍ جامد لا حس لها ولا شعور ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مستحدثة من أجزاء النبات المتكون من الأرض ثُمَّ جَعَلَكُمْ وصيركم حيوانا ذا حس وحركة ارادية أَزْواجاً ذكورا وإناثا لتتوالدوا وتتكثروا وَبالجملة قد رباكم سبحانه على الوجه الأحسن الأصلح إذ هو سبحانه عليم بعموم حوائجكم وما يعنيكم وما لا يعنيكم وكذا بكل ما جرى ويجرى عليكم في اطواركم ونشآتكم السابقة واللاحقة بحيث ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ حمله إِلَّا بِعِلْمِهِ واذنه سبحانه وبمقتضى مشيته ومراده وهو معلوم له لا يغيب عن حظوره وَبعد ما وضع الحمل ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ قد بلغ عمره نهايته وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ حيث لم يبلغ ولم يصل إليها إِلَّا فِي كِتابٍ يعنى مثبت مسطور في حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح القضاء المحفوظ إِنَّ ذلِكَ يعنى حفظه وثبته عَلَى اللَّهِ العليم الحكيم يَسِيرٌ وان كان عندكم عسيرا بل متعذرا ممتنعا إذ لا يسع لكم استحضار احوال آنكم ولحظتكم فكيف احوال يومكم وشهركم وحولكم فكيف احوال طفوليتكم وكونكم اجنة في بطون أمهاتكم ونطفة في أصلاب آبائكم ثم مثل سبحانه كلا الفريقين اى المؤمنين والكافرين بالبحرين العذب والمالح فقال
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ في النفع والفائدة الحاصلة منهما إذ هذا اى المؤمن المصدق كبحر الايمان والعرفان المترشح من بحر الوحدة الذاتية عَذْبٌ حلو في غاية الحلاوة فُراتٌ يكسر غليل أكباد المتعطشين في سراب الدنيا ببرد اليقين سائِغٌ شَرابُهُ سهل انحداره للمجبولين على فطرة التوحيد وَهذا اى الكافر المتوغل في بحر الغفلة والنسيان مِلْحٌ مالح مرّ لا مصلح يصلح من يذوق منه بل أُجاجٌ مرّ مفسد لمزاج من ذاق عنه فقد هلك هلاكا ابديا بحيث لا نجاة له وَالبحر الأجاج له نفع ولا نفع للكفر والضلال أصلا إذ مِنْ كُلٍّ من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا مثل السمك وغيرها وَكذا تَسْتَخْرِجُونَ منهما حِلْيَةً أنواعا من الزينة التي تَلْبَسُونَها أنتم ايها المتنعمون المترفهون وَايضا تَرَى ايها الرائي الْفُلْكَ والجواري الجارية فِيهِ اى في كل من البحرين مَواخِرَ يفصل ويشق سطح الماء بجريها وما ذلك الشق والفصل الا لِتَبْتَغُوا وتطلبوا أنتم مِنْ مزيد فَضْلِهِ وطوله سبحانه مما تشتهي انفسكم بالبقلة فيها وَانما أباح لكم سبحانه منافع بره وبحره لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تشكروا نعمته وتزيدوا على انفسكم مزيد كرمه. ومن كمال فضل الله عليكم ورحمته انه
يُولِجُ اللَّيْلَ ويدخل ظلمته فِي نور النَّهارِ يطول أجزاء النهار بايلاج أجزاء الليل فيه في فصل الصيف تتميما لمصالح معايش عباده وَكذا في فصل الشتاء يُولِجُ النَّهارَ ويدخل أجزاء منه فِي اللَّيْلِ فيطوله باجزائه تسكينا للقوى النامية وتمكينا لها ليجددها للخدمة المفوضة إليها في وقتها وَبالجملة قد سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تتميما وتكميلا لمصالح عباده بحيث كُلٌّ منهما يَجْرِي ويدور باذن الله والهامه لِأَجَلٍ مُسَمًّى هي من مبدء دوره الى منتهاه او الى(2/187)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
انقراض نشأة الدنيا وبالجملة ذلِكُمُ المصرف المتصرف بالاستقلال والاختيار المدبّر بكمال العلم والخبرة ووفور الحكمة والدرية هو اللَّهُ رَبُّكُمْ الذي أظهركم من كتم العدم ورباكم بأنواع النعم والكرم وكيف لا يربيكم سبحانه بعد ما أبدعكم إذ لا متصرف في الكائنات سواه ولا اله في الوجود والشهود الا هو لَهُ الْمُلْكُ لا مالك سواه ولا مدبر غيره وَالمحجوبون المحرومون الَّذِينَ تَدْعُونَ ويدّعون مِنْ دُونِهِ سبحانه متصرفا آخر من التماثيل الباطلة والاظلال الهالكة العاطلة تعنتا وعنادا مع ان ما يسمونه أولئك الجاهلون آلهة سواه سبحانه ويسندون الأمور إليهم مكابرة ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ يعنى ليس لهم وفي وسعهم ان يتصرفوا في قشرة رقيقة ملتفة على ظهر النواة وهذه مثل في القلة عند العرب فكيف في غيره إذ الألوهية مسبوقة بوجوب الوجود والصفات الكاملة الذاتية والأسماء الحسنى السنى التي لا تعد ولا تحصى وليس لهؤلاء الاظلال الهلكى وجود في أنفسها ومن اين يتأتى منهم الألوهية وتتيسر لهم بل هم من ادنى الممكنات وأدون المكونات لكونها جمادات لا شعور لها أصلا بحيث
إِنْ تَدْعُوهُمْ وتلتجئوا نحوهم لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ إذ ليس لهم قابلية السماع والاستماع وَلَوْ سَمِعُوا يعنى لو فرض انهم سمعوا على سبيل فرض المحال مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ إذ ليس لهم القدرة والارادة والأوصاف الكاملة اللازمة للالوهية والربوبية وَهم مع عدم نفعهم إياكم ايها الجاهلون يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ وينكرون بِشِرْكِكُمْ واشراككم واتخاذكم إياهم شركاء مع الله وهم يتبرّءون عنكم وأنتم عنهم وَبالجملة لا يُنَبِّئُكَ ولا يخبرك ايها المخاطب النبيه الفطن ان كنت من ذوى الهداية والرشد بأحوال النشأة الاخرى وما سيجرى بينهم وبين شركائهم من براءة كلا الجانبين والملاعنة مِثْلُ خَبِيرٍ وهو الله العليم الحكيم الذي لا يعزب عن احاطة حضرة علمه المحيط مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء لا في الاولى ولا في الاخرى وعنده مفاتيح عموم الغيوب ومقاليد جميع الأمور لا يعلمها الا هو. ثم نادى سبحانه عموم عباده على سبيل الاستغناء عنهم وعن أعمالهم وعن محامدهم واثنيتهم الجارية على ألسنتهم فقال
يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون عهود الله ومواثيقه التي واثقتم بها مع ربكم مع انكم تنسون نعمه وتذهلون عن حقوق كرمه اعلموا انكم أَنْتُمُ الْفُقَراءُ المحتاجون بالذات المقصورون على الافتقار إِلَى اللَّهِ الذي أظهركم من كتم العدم ولم تكونوا شيأ مذكورا ورباكم بأنواع النعم سيما العقل المفاض الذي هو مذكركم عن مبدئكم ومنشئكم فلم لم تشكروا نعمة مبدعكم ومربيكم ايها الغافلون الجاهلون مع انكم دائما محتاجون اليه وَاللَّهُ المنزه بذاته عن شكر الشاكرين وطاعة المطيعين وكذا عن كفر الكافرين وعصيان العاصين هُوَ الْغَنِيُّ المنحصر على الغنى الذاتي بحيث لا احتياج له ولا استكمال أصلا إذ كمالاته سبحانه كلها بالفعل بحيث لا ترقب في كمالاته المترتبة على شئونه مطلقا الْحَمِيدُ المحمود في نفسه على الوجه الذي يليق بشأنه إذ لا يأتى عن السنة مصنوعاته الحمد الحقيق بذاته وانما أظهركم ايها الاظلال الهالكة بمقتضى لطفه وجماله لتواظبوا على عبادته وعرفانه كي تصلوا الى زلال توحيده مترقين صاعدين من حضيض الإمكان الى أوج الوجوب الذاتي علما وعينا وحقا فأنتم تتكاسلون وتتمايلون الى اهوية انفسكم البهيمية ومشتهيات قويكم البشرية اما تخافون وما تتأملون ايها المغرورون
إِنْ يَشَأْ سبحانه يُذْهِبْكُمْ عن قضاء البروز بالمرة الى خفاء الكمون وَيَأْتِ بدلكم بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وبمخلوق سواكم تتميما لحكمة العبادة والمعرفة
وَاعلموا ايها الهالكون في تيه الغفلة انه ما ذلِكَ التبديل(2/188)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
والإتيان عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر على اظهار جميع ما لاح عليه برق علمه وارادته بِعَزِيزٍ مشكل متعذر بل عنده وبجنب سرعة نفوذ قضائه سهل يسير
وَبعد ما قد عرفتم قدرة الله وسمعتم كمال استغنائه فلكل منكم الإتيان بمأموراته والاجتناب عن منهياته إذ لا تَزِرُ ولا تحمل نفس وازِرَةٌ آثمة عاصية وِزْرَ نفس عاصية أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ وتطلب نفس مُثْقَلَةٌ بالأوزار والمعاصي إِلى حِمْلِها اى حمل بعض من الأوزار المحمولة عليها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ يعنى لا يحمل احد شيأ من أوزاره وان رضى بحملها لا يحمل عليها بمقتضى العدل الإلهي وَلَوْ كانَ المدعو للحمل ذا قُرْبى اى من قرابة الداعي بل كل واحدة من النفوس يومئذ رهينة بما قد اقترفت من المعاصي ما حملت هي الا عليها وما حوسبت بها الا هي. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم في شأن عباده إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يعنى ما يفيد انذاراتك التي قد تلوت أنت يا أكمل الرسل على هؤلاء الغفلة الغواة الا القوم الذين يخافون من الله ومن عذابه حال كونهم غائبين عنه سامعين له خاشعين من نزوله خائفين من حلوله بغتة وَمع ذلك قد أَقامُوا الصَّلاةَ المأمورة المقربة لهم الى جناب قدسه مخلصين فيها مطهرين نفوسهم عن الميل الى ما سوى الحق وَبالجملة مَنْ تَزَكَّى وطهر نفسه عن الميل الى البدع والأهواء فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذ نفع تزكيته عائد اليه مفيد له في أولاه وأخراه وَبعد تزكيته عن لوازم بشريته ومقتضيات بهيميته العائقة عن الوصول الى مبدأ فطرته إِلَى اللَّهِ المنزه عن مطلق النقائص المبرى عن جملة الرذائل الْمَصِيرُ اى المنقلب والمآب يعنى مرجع الكل اليه ومقصده دونه سبحانه ومثواه عنده
وَلكن ما يَسْتَوِي في القرب والرتبة بالنسبة اليه سبحانه الْأَعْمى الغافل الجناهل عن كيفية الرجوع والتوجه وَالْبَصِيرُ العارف العالم بأمارات الصعود والعروج
وَلَا الظُّلُماتُ المتراكمة المتكاثفة بعضها فوق بعض ألا وهي ظلمة الطبيعة وظلمة الهيولى وظلمة التعينات والهويات الممتزجة المتكاثفة بالامنية الامكانية بحيث تصير حجابا غليظا وغشاء كثيفا يعمى ابصار المجبولين على الأبصار والاستبصار والعبرة والاعتبار على مقتضى الشئون القهرية الجلالية وَلَا النُّورُ المتشعشع المتجلى من وحدة الذات حسب شئونه باللطفية الجمالية
وَلَا الظِّلُّ الإلهي المروح لأرواح ارباب المحبة والولاء بنفحات نسمات انواع الفتوحات والكرامات وَلَا الْحَرُورُ اى السموم المهلكة المنتشئة من فوحان الأماني الامكانية الممتزجة بيحموم الطبيعة المتصاعدة من ابخرة الاهوية الفاسدة ونيران الشهوات الملتهبة الموقدة لحطب اللذات الوهمية المورثة من القوى البهيمية
وَبالجملة ما يَسْتَوِي عند الله العليم الحكيم الْأَحْياءُ بحياة المعرفة والايمان واليقين والعرفان حياة ازلية ابدية سرمدية لا امر لها حتى تنقضي ولا حدوث لها حتى تنعدم وَلَا الْأَمْواتُ بموت الجهل والضلال وانواع الغفلة والنسيان الهالكين في زاوية الإمكان الخالدين في هاوية النيران بأنواع الخمول والخذلان وبالجملة إِنَّ اللَّهَ العليم الحليم المتقن في عموم أفعاله يُسْمِعُ ويهدى مَنْ يَشاءُ من عباده عناية لهم وامتنانا عليهم الى صراط توحيده وَما أَنْتَ يا أكمل الرسل بِمُسْمِعٍ هاد مرشد مَنْ فِي الْقُبُورِ يعنى انك لا تهدى من كان راسخا متمكنا في هاوية الجهل المركب وجحيم الإمكان وأجداث الغفلة والنسيان إذ هم مجبولون على الغواية الفطرية والجهالة الجبلية لا يتأتى لك هدايتهم وإرشادهم أصلا بل
إِنْ أَنْتَ اى ما أنت يا أكمل الرسل إِلَّا نَذِيرٌ لهم من قبلنا فلك ان تبلغ عموم ما(2/189)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
أوحينا إليك من الإنذارات والوعيدات الهائلة الواردة منا إياهم ولا تجتهد في هدايتهم وقبولهم إذ ما عليك الا البلاغ وعلينا الحساب
إِنَّا أَرْسَلْناكَ من كمال لطفنا معك ملتبسا بِالْحَقِّ الصدق المطابق للواقع داعيا لعموم عبادنا الى توحيدنا الذاتي بَشِيراً بما قد أعددنا لهم من المراتب العلية والمقامات السنية وَنَذِيراً عليهم ايضا بما أعددنا لهم من دركات النيران الموجبة لزفرات القلوب وحسرات الجنان وَارسالنا لك يا أكمل الرسل ليس ببدع منا بل إِنْ مِنْ أُمَّةٍ وما من فرقة وطائفة من الأمم السالفة إِلَّا قد خَلا ومضى فِيها نَذِيرٌ ينذرهم عما لا يعنيهم
وَبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت إِنْ يُكَذِّبُوكَ أولئك الكفرة المصرون على الشرك والعناد وأنكروا بك وبكتابك لا تبال بهم وبانكارهم فَقَدْ كَذَّبَ الكفرة الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ اى من قبل هؤلاء المشركين رسلهم مع انه قد جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ المبعوثون إليهم مؤيدين مثلك بِالْبَيِّناتِ اى بالدلائل الواضحة المؤيدة بالمعجزات المثبتة لنبوتهم ورسالتهم كذا وَبِالزُّبُرِ والصحف المنزلة إليهم المشتملة على اصول اديانهم وبيان طريقهم وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ المظهر لسرائر التوحيد بحججه وبراهينه القاطعة وحكمه وأحكامه الساطعة آثارها مثل دلائل كتابك وشواهد معجزاتك
ثُمَّ بعد ما قد كذبوا رسلهم وأنكروا كتبهم التي قد جاءوا بها من لدنا بمقتضى وحينا وأصروا على كفرهم وشركهم قد أَخَذْتُ بحسب عزتي وقدرتي وبمقتضى جلالي وهيبتي الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن الحق مستكبرين مصرين على الباطل مستمرين فيه فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري إليهم بالنسبة الى انكارهم الى وإهلاكي إياهم بحيث لم يبق منهم احد يخلفهم ويحيى اسمهم ورسمهم
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة كيف أَنْزَلَ وأفاض مِنَ جانب السَّماءِ اى سماء الأسماء والصفات الذاتية ماءً محييا لأموات الأراضي المائتة الجامدة الباقية على صرافة العدم فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء المفاض المترشح من بحر الوجود بمقتضى الجود على ارض الطبيعة ثَمَراتٍ فواكه متنوعة من المعارف والحقائق والخواطف القدسية والواردات الغيبية المختطفة على قلوب ارباب المحبة والولاء حسب حالاتهم ومقاماتهم مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وكيفياتها علما وعينا وحقا وَمِنَ الْجِبالِ التي هي عبارة عن الأوتاد والأقطاب والبدلاء الوالهين بمطالعة ذات الله القابلين بفيضان مطلق الكرامات والفتوحات اللدنية الفائضة عليهم من مبدأ الفياض جُدَدٌ ذوو طرق وسبل موصلة الى كعبة الذات وعرفات الأسماء والصفات بِيضٌ مصفى في غاية الصفاء بلا خلط ومزج لها بألوان التعينات وإكدار الهويات أصلا وَبعضها حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها باختلاف مراتب قربهم وبعدهم عن المرتبة الاولى وَبعضها غَرابِيبُ سُودٌ متناه في السواد والظلمة بحيث لا يبقى فيها شائبة شبه بالمرتبة الاولى بل هي مباين لها مناقض إياها بحيث لا يبقى المناسبة بينهما أصلا. قيل يشير سبحانه بالجدد البيض الى طائفة الصوفية الذين هم قد صفوا بواطنهم عما سوى الحق من الأمور المنصبغة بصبغ الأكوان وألوان الإمكان وبالحمر المختلف الألوان الى طائفة المتكلمين الذين قد بحثوا عن ذات الله وصفاته متشبثين بالدلائل العقلية والنقلية الغير المؤيدة بالكشف والشهود المفيدة للظن والتخمين الا نادرا وبالغرابيب السود الى غلاة فرق الفقهاء وهم الذين قد كثفت حجبهم وغلظت اغشيتهم بحيث لم يبق في فضاء قلوبهم موضع يليق لقبول انعكاس اشعة أنوار الحق بل قد سودوها وصبغوها بلون الباطل المظلم(2/190)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
الى حيث أخرجوها عن فطرة الله التي فطر الناس عليها
وَأخرجنا به ايضا اى بآثار تربية الماء واحيائها أموات الأراضي مِنَ النَّاسِ المنهمكين في الغفلة والنسيان وَالدَّوَابِّ المنسلخة من رتبة الإدراك والشعور المتعلق بالمبدأ والمعاد وَالْأَنْعامِ المشغوفة بتوفية اللذات الجسمانية والمشتهيات النفسانية مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ وكذا أجناسه وأنواعه واصنافه واشكاله وهيآته وبالجملة إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ ويخاف من بطشه مِنْ عِبادِهِ الذين قد ابدعهم الحق وأظهرهم من كتم العدم بافاضة رشاشات رشحات بحر وجوده الفائض عليهم بمقتضى جوده الْعُلَماءُ العرفاء بالله وبأوصافه الكاملة وأسمائه الحسنى الشاملة المتحققون بمرتبة التوحيد المنكشفون بسر سريان الوحدة الذاتية على عموم المظاهر إذ أخشى الناس من الله أعرفهم بشأنه ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم انى أخشاكم لله وأتقاكم له وكيف لا يخشى العارفون العالمون منه سبحانه إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء عَزِيزٌ غالب على انتقام من أراد انتقامه من عباده غَفُورٌ ذنوب من تاب الى الله ورجع نحوه عن ظهر القلب.
ثم أشار سبحانه الى خواص عباده ونبههم على ما هو المقبول منهم عنده سبحانه من أعمالهم وأحوالهم وحثهم عليه امتنانا لهم فقال
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ المنزل على رسوله وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة المكتوبة لهم في الأوقات المحفوظة في كتاب الله وَأَنْفَقُوا طلبا لمرضاتنا مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقنا نحوهم من الرزق الصوري والمعنوي سِرًّا خفية من الناس اتقاء عن وصمة الرياء والسمعة ومن الفقراء المستحقين ايضا صونا لهم عن ان يتأذوا حين أخذهم وَعَلانِيَةً ايضا بعد ما اقتضى المحل إعلانه ولم يتأت منه الإخفاء يَرْجُونَ من الله بالافعال المذكورة تِجارَةً رابحة من الأحوال والمقامات لَنْ تَبُورَ اى لن تهلك ابدا ولن تفسد وتفنى أصلا وانما فعلوا ذلك
لِيُوَفِّيَهُمْ ويوفر عليهم سبحانه أُجُورَهُمْ التي يستحقون بأعمالهم بها وَيَزِيدَهُمْ عليها مِنْ فَضْلِهِ ما لا يعد ولا يحصى من الكرامات امتنانا عليهم وتفضلا وكيف لا يوفيهم ويزيدهم سبحانه إِنَّهُ عز شأنه وجل برهانه غَفُورٌ في ذاته لفرطات عباده يغفر لهم عظيم ذنوبهم شَكُورٌ يقبل منهم يسير طاعاتهم التي قد أتوا بها مخلصين فكيف عسيرها
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل مِنَ الْكِتابِ الجامع بما في الكتب السالفة الحاوي بمعظمات اصول الدين هُوَ الْحَقُّ المنزل من عندنا المثبت في حضرة علمنا مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وكذا ما تقدم عليه من الكتب والصحف المنزلة من عندنا المبينة لحكمنا وأحكامنا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ مطلع بجميع أقوالهم وأحوالهم وأفعالهم الظاهرة والباطنة حتى ما جرى في استعداداتهم وقابلياتهم بَصِيرٌ بما جرى وسيجرى عليهم في أولاهم وأخراهم
ثُمَّ بعد ما قد اصطفيناك يا أكمل الرسل للرسالة العامة وأيدناك بانزال القرآن المعجز الموجز المشتمل على عموم فوائد الكتب السالفة مع زيادات خلا عنها الكل قد أَوْرَثْنَا الْكِتابَ المنزل إليك وابقيناه بعدك بين القوم الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا واخترناهم بإرسالك إليهم وبعثتك بينهم فجعلناهم في اقتباس نور الهداية والتوحيد من مشكاة النبوة والرسالة الختمية الخاتمية المحمدية الحاوية لمراتب عموم الرسل الذين مضوا قبله صلّى الله عليه وسلّم أصنافا ثلاثة فَمِنْهُمْ من كمال شوقهم الى مبدئهم الأصلي وغاية تحننهم نحو الفطرة الجبلية التي فطر الناس عليها في بدء الأمر ظالِمٌ لِنَفْسِهِ البشرية بحيث يمنع عنها جميع حظوظها النفسانية ومقتضيات قواها الجسمانية بحيث قد(2/191)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
اتصل بعضهم من كمال احتمائه ومنع نفسه عن مقتضياتها البهيمية بالملإ الأعلى قبل انقراض النشأة الاولى ألا وهم شطار الأولياء وهم الذين قد صرفوا هممهم العالية بالوصول الى مبدئهم الأصلي وموطنهم الحقيقي بلا التفات منهم الى ما سواه مطلقا وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ معتدل مائل عن كلا طرفي الإفراط والتفريط بحيث لا يمنع نفسه عن ضرورياتها المقومة لها ولا يكثرها عليها بل يمنعها عن الزيادة على الضروري في عموم الحوائج وبالجملة يقتصد على وجه الاعتدال في عموم الأعمال والأفعال والأقوال وجميع الأحوال ألا وهم الأبرار الأخيار من الأولياء المستوين على صراط الاستقامة والاعتدال بلا عوج وانحراف وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ مواظب على الطاعات مشمر ذيل جده وجهده دائما بالأعمال الصالحات وفواضل الصدقات والانفاق على طلب المرضات للفقراء المهاجرين عن بقعة الإمكان السائرين نحو سبيل الوجوب المنصرفين عن الدنيا وما فيها من اللذات والشهوات بِإِذْنِ اللَّهِ وعلى مقتضى ما قد ثبت في كتابه ونطق به لسان رسوله ألا وهم الأخيار المحسنون من الأولياء وان كان لهم ميل الى مزخرفات الدنيا الا انهم ما يقصدون بها ومنها الا وجوه الخيرات والمبرات وبالجملة ذلِكَ الإيراث والتوريث والإعطاء والاصطفاء هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ من الله إياهم في أولاهم والفوز العظيم والنوال الكريم لهم في أخراهم. جعلنا الله من خدامهم ومحبّيهم ومقتفى أثرهم ومن جملة فضل الله إياهم في أخراهم
جَنَّاتُ عَدْنٍ معدة لهم نزلا ومنزلا من عند الله يَدْخُلُونَها فرحين مسرورين آمنين فائزين شاهدين فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يُحَلَّوْنَ فِيها تزينا وتفضلا مِنْ أَساوِرَ جزاء ما اقترفوا بأيديهم من الحسنات متخذة مِنْ ذَهَبٍ خالص في مقابلة إخلاصهم في أعمالهم وَيحلون ايضا لُؤْلُؤاً من انواع اللئالئ بدل ما يتقون ويحفظون أنفسهم من الميل إليها في نشأتهم الاولى وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ بدل ما يلبسون من الخشن في سبيل المجاهدة والسلوك نحو الحق في النشأة الاولى
وَبعد ما قد وصلوا الى مقام القرب بل اتصلوا بعد رفع انانياتهم وهوياتهم الباطلة عن البين الى ما اتصلوا ووصلوا قالُوا بألسنة استعدادتهم موافقة لقلوبهم بعد ما عدوا نعم الله الفائضة عليهم وأخذوا بأداء حقوقها الْحَمْدُ اى جنس الحمد والثناء الشامل لمحامد عموم الحامدين قولا وفعلا حالا ومقالا مختص لِلَّهِ المستحق بالاستحقاق الذاتي والوصفي الَّذِي أَذْهَبَ وأزال عَنَّا الْحَزَنَ المورث لنا من لوازم انانياتنا وتعيناتنا المورثة من إمكاننا إِنَّ رَبَّنا الذي ربانا بأنواع الكرامة ونجانا عن مضيق الإمكان المورث لانواع الخذلان والحرمان لَغَفُورٌ لذنوب انانياتنا شَكُورٌ يقبل عنا أعمالنا التي يقربنا الى فضاء وحدته حسب توفيقه وتأييده إذ هو القادر المقتدر
الَّذِي أَحَلَّنا وأقامنا حسب فضله ولطفه دارَ الْمُقامَةِ ومنزل الاقامة والخلود مِنْ فَضْلِهِ بنا ولطفه معنا بلا موجب منا يوجب لنا ولا يجب ايضا عليه سبحانه ايصالنا إليها آمنين مترفهين بحيث لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب وعناء مثل ما قد مسنا في دار الابتلاء وَايضا لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ فترة وكلال تعقب الوصب والنصب قد نفى سبحانه اللازم بعد نفى الملزوم مبالغة وتأكيدا. ثم اردف سبحانه وعد المؤمنين بوعيد الكافرين على مقتضى سنته المستمرة في كتابه فقال
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن كتبه ورسله وأنكروا بالبعث والحشر واعادة المعدوم لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ معدة مسعرة ليعذبوا بها في النشأة الاخرى تعذيبا شديدا بحيث لا يُقْضى ولا يحكم عَلَيْهِمْ بالموت من عنده سبحانه(2/192)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
فَيَمُوتُوا ليستريحوا بل كلما قد أشرفوا على الهلاك يعادوا نحو الحياة ويعذبوا باشد من الذي مضى وَبالجملة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ابدا ولا يمهلون ساعة حتى يتنفسوا بل صاروا معذبين على التعاقب والتوالي ابدا بلا فرجة وخفة كعذاب أبناء الدنيا في دار الحرمان بنيران الإمكان بحيث يستوعب عموم أوقاتهم وأزمانهم ولا يسع لهم النفس والتفرج أصلا كَذلِكَ مثل ما نجازي أولئك المصرين على الكفر والعناد نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ لحقوق نعمنا منكر بمقتضيات جودنا وكرمنا
وَهُمْ من شدة فزعهم وهولهم يَصْطَرِخُونَ فِيها ويستغيثون من الله صارخين متحسرين قائلين من كمال الضجرة والحسرة رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم فكفرنا بك وأعرضنا عنك وعن كتبك ورسلك أَخْرِجْنا واعدنا منها الى الدنيا كرة نَعْمَلْ صالِحاً مقبولا عندك مرضيا لديك غَيْرَ العمل الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فيها عنادا ومكابرة فالآن قد ظهر لنا الحق وبطلان ما قد كنا نعمل من الأعمال الفاسدة الغير المطابقة لكتبك ودين رسلك فلو أخرجتنا منها واعدتنا إليها لآمنا بك وبكتبك ورسلك وصدقنا بعموم ما جاءوا به من عندك وبعد ما قد تمادوا وتطاولوا في بث الشكوى قيل لهم من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع أَتطلبون المهلة منا وتستمهلون عنا وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ونمهلكم ايها المسرفون المفرطون في الدنيا زمانا طويلا بحيث يسع فيه جميع ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قد أعطيناكم وقتا وسيعا وزمانا طويلا يسع فيه انواع التذكر والتيقظ بالنسبة الى من كان بصدد التذكر والتنبه ألا وهو من وقت البلوغ الى ستين سنة غالبا وَأنتم لم تتذكروا في تلك المدة لا من تلقاء انفسكم مع انكم مجبولون على فطرة التذكر ولا من ارشاد مرشد مذكر وتنبيه منيه نبيه إذ قد جاءَكُمُ النَّذِيرُ المنذر لكم عن أمثال ما أنتم عليه الآن فأنكرتم له ولم تتذكروا ايضا بقوله حتى ظهر عليكم امارات الشيب المخبر للرحيل الى السفر الطويل ومع ذلك لم تتزودوا له فالآن قد انقضى وقت التذكر والتدبر ومضى أوان التدارك والتلافي وقد أخذتم بشؤم ما اقترفتم من الكفر والعصيان أتطلبون العود والخروج هيهات هيهات ان وقت التلافي والتفقد قد فات فَذُوقُوا العذاب المخلد بدل تلك اللذات الوهمية الفانية وبالجملة فَما لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات الحدود الإلهية مِنْ نَصِيرٍ ينصرهم في رفع العذاب او يشفع لهم عند الله لتخفيفه عنهم بل هم خالدون مخلدون في النار ابد الآباد لا سبيل لنجاتهم أصلا. ربنا نجنا عن سخطك وغضبك وأحينا وأمتنا حسب ارادتك ورضاك وارزقنا بلطفك لقياك انك على ما قد نشاء قدير وبرجاء المؤمنين جدير وكيف يسع لاحد من المخلوقات ان يشفع عنده سبحانه لعصاة عباده او ينصرهم في الانقاذ عن عذابه بعد ما ثبت جرائمهم في حضرة علمه وتعلق ارادته بأخذهم على ظلمهم
إِنَّ اللَّهَ
المطلع على عموم ما لاح عليه برق الوجود عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ
اى بواطن ما في العلويات وَالْأَرْضِ
اى بواطن ما في السفليات ايضا وكيف يخفى عليه سبحانه ما في سرائر عباده وضمائرهم إِنَّهُ
سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
اى بعموم مكنونات الصدور ومضمراتها بل بجميع ما في استعداداتهم وقابلياتهم مطلقا لأنه المراقب لهم حسب حالاتهم وتطوراتهم فكيف تغفلون عنه سبحانه وتذهلون عن تذكره ايها الغافلون مع انه سبحانه
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ عن ذاته وأظهركم على صورته واعطاكم التصرف فِي الْأَرْضِ وقد سلطكم على عموم ما عليها وسخر لكم جميع ما فيها من المواليد والأركان تكريما لكم وتتميما(2/193)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
لخلافتكم وبعد ما قد فعل بكم سبحانه من انواع الكرم والإفضال وحسن الفعال ما فعل فَمَنْ كَفَرَ واعرض عن الايمان به سبحانه وبكتبه ورسله وبما جرى في لوح قضائه المحفوظ وحضرة علمه المحيط فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ اى يحمل عليه وبال كفره واعراضه وينتقم عنه سبحانه على مقتضاه بلا لحوق شين وعيب عليه سبحانه إذ هو في ذاته منزه عن ايمان عباده وكفرهم بل وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ وإصرارهم على الشرك واستنكافهم عن الايمان بالله وبالكتب والرسل عِنْدَ رَبِّهِمْ المطلع على سرائرهم وضمائرهم إِلَّا مَقْتاً غضبا وسخطا شديدا منه سبحانه إياهم وطرد الهم عن ساحة عز القبول وَبالجملة لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ وشركهم في النشأة الاولى إِلَّا خَساراً نقصانا وحرمانا لهم في النشأة الاخرى عما أعد للمؤمنين من انواع الكرامات السنية والمقامات العلية لا خسران أعظم منه
قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين تقريعا لهم وتبكيتا بعد ما قد سجلنا عليهم المقت والطرد وانواع الخسران والخذلان أَرَأَيْتُمْ وابصرتم ايها المجبولون على الغواية والعناد شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتدّعون آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ مشاركين له سبحانه في الألوهية والربوبية انهم متصفون بالخلق والإيجاد أحيانا أَرُونِي وأخبروني ايها المكابرون المعاندون ماذا خَلَقُوا واوجدوا مِنَ الْأَرْضِ يعنى أى شيء خلق أولئك الهلكى في الأرض بالاستقلال والاختيار حتى يتصفوا بالالوهية أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ يعنى أروني ايضا هل لهم مشاركة مع الله فِي السَّماواتِ اى في خلقها وإبداعها أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً يعنى هل أنزلنا عليهم في حقهم وشأنهم كتابا دالا على مشاركتهم معنا في الألوهية والربوبية فَهُمْ اى أولئك المدعون المكابرون مطلعون فائزون عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ اى حجج ودلائل واضحة من الكتاب دالة على شركة أولئك التماثيل العاطلة مع العليم القدير الحكيم الخبير وظاهر انه ما انزل إليهم كتاب كذلك بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ وليس الباعث لهم في ادعاء الشرك أمثال هذه المذكورات من الدلائل العقلية او النقلية بل لا باعث لهم سوى الوعد الكاذب الذي يعد به بَعْضُهُمْ بَعْضاً وبالجملة ما يعد الظالمون الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية بعضهم بعضا إِلَّا غُرُوراً تلبيسا وتغريرا من الشرفاء بالأراذل منهم والرؤساء بالضعفاء وتزويرا من اصحاب الثروة على ذوى الأحلام السخيفة منهم حفظا لجاههم ورئاستهم وبالجملة الله المطلع لجميع حالات عباده يعلم تغريرهم وتلبيسهم ويمهلهم ولا يعاجل بالانتقام عنهم لكمال حلمه وكيف لا
إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء يُمْسِكُ ويضبط السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ويمنعهما من أَنْ تَزُولا بشرك المشركين وافترائهم على الله بإثبات الشركاء له سبحانه وبشؤم عصيانهم وفسوقهم فيما بينهم وَلَئِنْ زالَتا ولم يمسكهما سبحانه إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ يعنى ما أمسكهما عن الزوال احد من بعد الله سبحانه لكنه سبحانه قد أمسكهما ولم يعاجل بانتقام عصاة عباده إِنَّهُ سبحانه قد كانَ في ذاته حَلِيماً لا يعاجل بالانتقام عند ظهور الجرائم والآثام غَفُوراً لمن تاب عنها وأناب الى الله مخلصا ومن كمال حلم الله امهاله على المستوجبين بأنواع المقت والانتقام سيما بعد ما عهدوا مع الله ونقضوا عهودهم
وَذلك ان كفار قريش خذلهم الله قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعنى اجتهدوا في توكيدها وبالغوافى تغليظها قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمعوا ان من اهل الكتاب قوما قد كذبوا رسلهم وأنكروا عليهم ولم يقبلوا من الرسل قولهم ودعوتهم مقسمين بالله لَئِنْ جاءَهُمْ يعنى قريشا(2/194)
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
نَذِيرٌ مرسل من عند الله ينذرهم عما لا يعنيهم ويرشدهم الى ما يعنيهم لَيَكُونُنَّ في الإطاعة والانقياد للنبي النذير البشير أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ اى كل واحد منا اهدى وارشد من كل واحد واحد من النصارى واليهود وغيرهم من الأمم قد واثقوا عهودهم مع الله على ذلك فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وبشير اى نذير واى بشير هو أكمل من سائر المرسلين المبشرين المنذرين وأفضل منهم يعنى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ما زادَهُمْ مجيئته وبعثته صلّى الله عليه وسلم إِلَّا نُفُوراً نفرة عن الحق واعراضا عن اهله وتباعدا عن قبول قوله ودعوته وانما أنكروا له واعرضوا عنه وعن دينه صلّى الله عليه وسلم
اسْتِكْباراً يعنى قد طلبوا بالإعراض والانصراف ان يظهروا ويحدثوا كبرا وخيلاء فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ يعنى قد طلبوا ان يمكروا به المكر السيئ واصل التركيب هذا فعدل الى صورة المضاف الى السيئ اتساعا تأكيدا ومبالغة والمكر السيئ عبارة عن كل عمل قبيح قد صدر عنهم او الشرك او ارادة قتله صلّى الله عليه وسلّم قال صلّى الله عليه وسلّم لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فان الله يقول وَلا يَحِيقُ اى لا يحل ولا يحيط الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ الا وهو الماكر فلحق وبال الشرك للمشركين وكذا وبال كل قبيح ومكروه عائد الى فاعله فَهَلْ يَنْظُرُونَ ما يمهلون وينتظرون أولئك المشركون يعنى اهل مكة خذلهم الله إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعنى سنة الله فيهم بان عذب سبحانه مكذبيهم ومصريهم على الإنكار والتكذيب وبعد ما قد ثبت في علم الله المحيط وكذا في لوح قضائه المحفوظ تعذيبهم فلا بد ان يقع حتما فَلَنْ تَجِدَ أنت يا أكمل الرسل لِسُنَّتِ اللَّهِ وهي نزول العذاب على المكذبين تَبْدِيلًا ان تعلق مشيته به وثبت في لوح قضائه إذ لا يبدل الحكم دونه سبحانه وَايضا لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا بان ينتقل عذاب المكذبين العاصين الى المصدقين المطيعين المنزهين عن العصيان والطغيان
أَينكرون سنة الله في الأمم الماضية الهالكة بتعذيب الله إياهم بسبب تكذيب الرسل والإنكار عليهم وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا بنظرة العبرة والاستبصار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مكذبين لرسلهم وَالحال انهم قد كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ اى من هؤلاء المكذبين لك يا أكمل الرسل قُوَّةً وقدرة واكثر عددا وعددا وشوكة وأموالا واولادا وَمع ذلك ما كانَ اللَّهُ المتعزز برداء العز والعلاء المطلع على عموم ما جرى في ملكه من الأشياء لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ بان يفوت عنه شيء حقير او يعزب عن حضرة علمه المحيط ذرة يسيرة لا فِي السَّماواتِ اى العلويات وَلا فِي الْأَرْضِ اى السفليات وكيف يفوت عن خبرته سبحانه شيء إِنَّهُ في ذاته قد كانَ عَلِيماً لا يعزب عن حضرة علمه المحيط شيء قَدِيراً على اظهار ما في خزانة علمه بلا فترة وفتور وقصور وفطور
وَمن كمال علم الله على عباده ونهاية رأفته ورحمته معهم هذا لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ المطلع بجميع ما جرى في ملكه من الجرائم الموجبة للاخذ والانتقام النَّاسَ الذين كلفوا من عنده بترك الجرائم والآثام المانعة من الوصول الى المبدأ الحقيقي بِما كَسَبُوا وبشؤم ما اقترفوا لأنفسهم من المعاصي التي قد منعوا عنها ما تَرَكَ سبحانه البتة عَلى ظَهْرِها اى على ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ متحركة من المكلفين عليها غير مأخوذة بجرم بل بجرائم كثيرة عظيمة إذ قلما ما يخلو انسان عن طغيان ونسيان وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ اى يؤخر سبحانه أخذهم ويمهلهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معين مقدر للاخذ والانتقام ألا وهو يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الموعود المعين عند الله المعلوم له سبحانه(2/195)
يس (1)
فقط بلا افشاء واطلاع لاحد من أنبيائه ورسله أخذوا حينئذ بما اقترفوا من الجرائم والمعاصي بلا فوت شيء منها فَإِنَّ اللَّهَ المراقب المحافظ على عموم ما جرى في ملكه وملكوته قد كانَ بِعِبادِهِ في جميع اوقات وجودهم بل باستعداداتهم وقابلياتهم وما جرى عليهم فيها بَصِيراً شهيدا مطلعا يجازيهم بمقتضى بصارته وخبرته بأعمالهم ونياتهم فيها. ربنا أصلح لنا عواقب أمورنا ويسر علينا كل عسير
خاتمة سورة الفاطر
عليك ايها السالك المتشمر لاعداد زاد يوم المعاد وفقك الله على إتمامه ان تلف شملك وتجمع همك المركوز الى الآخرة التي هي دار الخلود والقرار وتجتهد في رفع الموانع ودفع الشواغل العائقة عن هذا الميل فلك ان تنقطع عن مطلق مألوفاتك ومشتهياتك التي هي اسباب الأخذ والبطش وانواع العقاب والعتاب الإلهي وتنخلع من لوازم تعيناتك المشتملة على انواع الفتن واصناف المحن حسب ما يسر الله عليك معرضا عن الدنيا الدنية ومستلذاتها البهيمية ومشتهياتها الشهية إذ لا قرار لها ولا مدار لما يترتب عليها بل كلها فان زائل وباطل بلا طائل مورث لانواع الحسرات في النشأة الاولى ولأشد العذاب والزفرات في النشأة الاخرى والمؤيد من عند الله بالعقل المفاض المميز بين الصلاح والفساد وبين الفاني والباقي المرشد الهادي نحو فضاء التوحيد وبالجملة المتفطن المتذكر اللبيب الأريب كيف يختار الفاني على الباقي واللذات الجسمانية الزائلة سريعا الجالبة للاخزان الطويلة على اللذات الروحانية القارّة المستتبعة للحالات العلية والمقامات السنية التي لا يعرضها انقراض ولا انقضاء ولا نفوذ ولا انتهاء. رب اختم بفضلك عواقب أمورنا بالخير والحسنى انك على ما تشاء قدير وبرجاء الراجين جدير
[سورة يس]
فاتحة سورة يس
لا يخفى على من ترقى عن حضيض الجهل واودية الضلال الى أوج المعرفة وفضاء الوصال ومن مهاوي الإمكان واغوار التعينات المقتضية لانواع الانحرافات والضلالات الى استقامة الحالات وارتفاع المقامات وعلو الدرجات في سبيل السعادات ونيل المرادات ومن دركات التلون وظلمات التقليد الى درجات اليقين ونور التوحيد ومقر التمكين والتقرر فيه بلا تذبذب وتزلزل ان الوصول والنيل الى مقعد الصدق الذي هو مقصد ارباب المحبة الخالصة والمودة الصادقة انما هو بالاستقامة والاعتدال في عموم الأوصاف والأفعال مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المذمومين عقلا وشرعا بحيث لا يبقى له انحراف عن صراط الله الأقوم الأعدل ليتيسر له التحقق في مرتبة التخلق بأخلاقه واللياقة برتبة النيابة واخلافه وأكمل المتخلقين وأليقهم للخلافة نبينا صلّى الله عليه وسلّم لذلك ختم بعثته صلّى الله عليه وسلّم امر الرسالة والنبوة وتم به صلّى الله عليه وسلّم مكارم الأخلاق ولم يبق بعثته صلّى الله عليه وسلّم شائبة شبهة في توحيد الذات وسقوط عموم الإضافات ولهذا قد اضمحل دون ظهور شرعه صلّى الله عليه وسلّم جميع الرسوم والعادات لذلك أشار سبحانه الى كمال مرتبته الجامعة بجميع المراتب وخاطبه خطاب تعظيم وتكريم بعد ما تيمن باسمه الجامع لجميع الأسماء والصفات فقال بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم باسمه الجامع الرَّحْمنِ على عموم عباده بإرساله صلّى الله عليه وسلّم إليهم وبعثه عليهم الرَّحِيمِ عليه صلّى الله عليه وسلّم حيث جعله مستويا على صراط مستقيم هو صراط توحيده الذاتي
[الآيات]
يس يا من تحقق بينبوع بحر(2/196)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
اليقين وسبح فيه سالما عن الانحراف والتلوين
وَحق الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ المحكم نظمه وأسلوبه المتقن معناه وفحواه
إِنَّكَ يا أكمل الرسل وخاتم الأنبياء المبعوث الى كافة البرايا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ المتمكنين
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى التوحيد الذاتي بلا عوج وانحراف وكيف لا يكون القرآن العظيم حكيما مع انه
تَنْزِيلَ اى منزل من عند الْعَزِيزِ الغالب القادر على جميع المقدورات على الوجه الأحكم الأبلغ الرَّحِيمِ في انزاله على الأنام ليوقظهم عن نوم الغفلة ونعاس النسيان انما انزل الحكيم المنان عليك يا أكمل الرسل هذا القرآن
لِتُنْذِرَ أنت قَوْماً لم يبعث فيهم نذير من قبلك بل ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ الأقربون ايضا إذ هم ليسوا من اهل الكتاب وتابعي الملة لتمادى مدة فترة الرسل بعد عيسى صلوات الله عليه وسلامه او المعنى لتنذر قوما بالذي انذر به آباؤهم الأبعدون وبعد ما قد تطاول ايام الفترة انقطع عنهم اثر الإنذار وصار كأن لم يكن شيأ مذكورا وبالجملة فَهُمْ غافِلُونَ
اى القوم الذين قد أرسلت إليهم يا أكمل الرسل ذاهلون عن الإنذار والمنذر بل عن مطلق الرشد والهداية إذ هم متولدون في زمان فترة الرسل وكيف لا ينذرهم سبحانه ولا يرسل إليهم من يصلح أحوالهم
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وسبق الحكم من الله ومضى القضاء منه سبحانه عَلى أَكْثَرِهِمْ اى اكثر اهل مكة بالكفر والعذاب وعدم الوصول الى خير المنقلب والمآب وبعد ما قد ثبت في حضرة علمه سبحانه كفرهم وضلالهم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا يصدقون برسوله وكتابه أصلا وكيف يؤمنون أولئك المصرون على الكفر والعناد المقضيون المحكومون عليهم من لدنا بالشقاوة الازلية
إِنَّا بمقتضى قهرنا وجلالنا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ التي هي سبب التفاتهم وتمايلهم نحو الحق وآلة انعطافهم للاطاعة والانقياد بالدين القويم أَغْلالًا وصيرناهم مغلولين من الأيدي الى الأعناق بحيث لا يمكنهم الطأطأة والانخفاض أصلا ولا بد للتدين والانقياد من التذلل والخشوع وكيف يمكنهم هذا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ اى اغلالهم منتهية الى لحيهم فَهُمْ مُقْمَحُونَ رافعون رؤسهم مضطرون برفعها بسبب تلك الأغلال الضيقة بحيث لا يسع لهم الالتفات يمنة ويسرة وفوقا وتحتا ألا وهي أغلال الأماني والآمال وسلاسل الحرص والطمع لمزخرفات الدنيا الدنية وما يترتب عليها من اللذات الوهمية والشهوات البهيمية بل
وَجَعَلْنا لهم من كمال غضبنا إياهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ اى قدامهم سَدًّا حجابا كثيفا وَمِنْ خَلْفِهِمْ ايضا سَدًّا غطاء غليظا فصاروا محفوفين بين الحجب الكثيرة المانعة عن ابصار نور الهداية والتوحيد وبالجملة فَأَغْشَيْناهُمْ اى قد اعمينا عيون بصائرهم وأبصارهم التي هي سبب رؤية الآيات ودرك الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الشواهد الظاهرة والآيات الباهرة حتى ترشدهم الى الهداية والايمان فحرموا عن قبول الحق وانصرفوا عن صراطه فهلكوا في تيه الغواية والضلال. أعاذنا الله وعموم عباده عن ذلك وَبعد ما قد سجلنا عليهم الكفر وحكمنا بشقاوتهم حكما مبرما لا يفيدهم إنذارك يا أكمل الرسل وارشادك إياهم بل
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بك وبدينك وكتابك أصلا إذ قد ختمنا نحن على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة غليظة مانعة عن قبول الحق والتذكر به وابصار علاماته وبالجملة هم مقضيون في سابق علمنا ولوح قضائنا بالعذاب الأليم والضلال البعيد فلا تتعب نفسك يا أكمل الرسل في هدايتهم وإرشادهم انك لا تهدى من أحببت من قرابتك وارحامك ولكن الله يهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ان الله عليم بما يصنعون من الكفر والإصرار(2/197)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)
إِنَّما تُنْذِرُ أنت ويقبل منك الإنذار المصلح والإرشاد المفيد مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ اى سمع القرآن سمع قبول بتوفيق من لدنا وامتثل بأوامره ونواهيه عن تدرب تام وتأمل صادق واتعظ بتذكيراته عن تيقظ خالص واعتبر عن عبره وأمثاله وَمع ذلك خَشِيَ الرَّحْمنَ اى خاف عن قهره وانتقامه واجتنب عن سخطه وغضبه ملتبسا بِالْغَيْبِ اى قبل نزول العذاب وحلوله معتقدا انه سبحانه قادر على عموم انواع الانتقامات فَبَشِّرْهُ يا أكمل الرسل هذا السامع المتدرب بعد ما قد سمع بالآيات سمع قبول ورضى وامتثل بما فيها مخلصا خالصا خائفا راجيا بِمَغْفِرَةٍ لفرطاته المتقدمة وَأَجْرٍ كَرِيمٍ لأعماله الصالحة الخالصة بلا فوت شيء منها بل بأضعافها وآلافها عناية منا إياه وتفضلا عليه وكيف يفوت عن احاطة علمنا شيء من حقوق عبادنا
إِنَّا من مقام عظيم جودنا وكمال قدرتنا نَحْنُ نُحْيِ ونهدي حسب اقتضاء تجلياتنا اللطفية الجمالية الْمَوْتى الهلكى الهالكين بموت الجهل والضلال التائهين في بيداء الوهم والخيال حيارى وسكارى مدهوشين محبوسين مسجونين في مضيق الإمكان بحياة العلم والايمان والتوحيد والعرفان وَنَكْتُبُ في لوح قضائنا وحضرة علمنا جميع ما قَدَّمُوا واسلفوا لأنفسهم من خير وشر وحسنة وسيئة بحيث لا يشذ منها شيء لنجازيهم بها على مقتضاها وَنكتب ايضا آثارَهُمْ من السنن المستحسنة والأخلاق المحمودة والآداب المرضية المقبولة وكذا ايضا مما سنوا ووضعوا من أسوأ العادات واخس الأخلاق وأقبحها وَبالجملة كُلَّ شَيْءٍ صدر ويصدر عن عبادنا قد أَحْصَيْناهُ وفصلناه بحيث لا يشذ عن حيطة احصائنا وتفصيلنا شيء من نقير وقطمير بل الكل مكتوب مثبت فِي إِمامٍ مُبِينٍ هو لوح قضائنا المحفوظ وحضرة علمنا المحيط
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا اى مثل يا أكمل الرسل للمشركين المصرين على الشرك والطغيان مثلا من الذين خلوا من قبلهم مصرين على الضلال والعناد أمثالهم بحيث لا ينفعهم إنذار منذر وارشاد مرشد يعنى أَصْحابَ الْقَرْيَةِ المصرين على الشرك والعناد المنهمكين في بحر الغفلة والغرور والقرية هي انطاكية والمبشر المنذر هو عيسى صلوات الرحمن عليه وسلامه اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ جاءَهَا اى الى اهل القرية الْمُرْسَلُونَ تترى من قبل عيسى عليه السلام ليرشدوا أهلها الى الايمان والتوحيد
إِذْ أَرْسَلْنا وأمرنا لنبينا عيسى عليه السلام أولا بالإرسال إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ هما يونس ويحيى وقيل غيرهما فلما جاءا إليهم واظهرا دعوتهم الى التوحيد وكانوا من عبدة الأصنام فَكَذَّبُوهُما اى فاجؤا بتكذيبهما بلا تراخ ومهلة وتأمل وتدبر وبعد ما كذبوهما ولم يقبلوا منهما دعوتهما بل ضربوهما وحبسوهما واستهزؤا بقولهما ودعوتهما فَعَزَّزْنا اى قد قوينا وايدناهما بِثالِثٍ اى برسول ثالث وهو شمعون فَقالُوا اى الرسل بعد ما صاروا جماعة إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ من قبل عيسى المرسل من قبل الحق على الحق لترويج كلمة الحق ننذركم بالعذاب الشديد النازل عليكم بشؤم ما أنتم عليه من الباطل الفاسد ألا وهو عبادة الأوثان وندعوكم الى طريق الحق الحقيق بالالوهية والربوبية المستحق للمعبودية والعبودية ونرشدكم ونهديكم الى دينه المنزل عليه من قبل ربه وبعد ما سمع المشركون منهم ما سمعوا
قالُوا في جوابهم مستبعدين منكرين ما أَنْتُمْ ايها المدعون للرسالة من عند الله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد على ظنكم وزعمكم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا مناسبة لكم مع مرسلكم الذي ليس هو من جنس البشر فلا بد من المناسبة بين المرسل والمرسل وَدعواكم الإنزال والإرسال من عند الإله المنزه عن المكان والجهة ما هي(2/198)
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
الا غرور وتلبيس إذ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ المستغنى عن الزمان والمكان المنزه ذاته عن سمة الحدوث والإمكان مِنْ شَيْءٍ إذ أمثال هذه الأفعال انما هي من لوازم الأجسام وأوصاف الإمكان وهو سبحانه على الوجه الذي وصفتم شأنه مقدس عن أمثاله وبالجملة إِنْ أَنْتُمْ اى ما أنتم إِلَّا تَكْذِبُونَ كذبا صريحا يعنى قد ظهر من دعواكم هذه وإسنادكم أمثال تلك الأفعال الى ربكم انه ما أنتم في دعواكم ومدعاكم هذا الا كاذبون مفترون على ربكم ما هو منزه عنه سبحانه وبعد ما قد تفطن منهم الرسل الإنكار والإصرار المؤكد
قالُوا في جوابهم ايضا على سبيل المبالغة والتأكيد تتميما لأمر التبليغ والرسالة رَبُّنا الذي قد أرسلنا إليكم بوحيه والهامه يَعْلَمُ بعلمه الحضوري إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ من عنده على مقتضى ارادته واختياره إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء ولا يقع فيه الا ما يريد
وَمالنا شغل بايمانكم وقبولكم ولا بكفركم وطغيانكم بل ما عَلَيْنا بمقتضى وحى الله إلينا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اى التبليغ الصريح والبيان الواضح الموضح للرسالة بلا فوت شيء منها وتقصير وتهاون منا بأدائها وامر اهتدائكم وايمانكم انما هو مفوض اليه سبحانه وفي مشيته لا علم لنا به وبعد ما سمعوا من الرسل المبالغة والتأكيد انصرفوا عن المقاولة نحو التهديد بالقتل والرجم حيث
قالُوا متطيرين متشأمين من نزولهم ومجيئهم مستبعدين دعوتهم منكرين لها إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ اى قد تشأمنا بقدومكم إذ منذ قدمتم ما نزل القطر علينا فاخرجوا من ارضنا وارجعوا الى أوطانكم سالمين وانتهوا عن دعوتكم هذه ولا تتفوهوا بها بعد والله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن هذياناتكم ومفترياتكم لَنَرْجُمَنَّكُمْ البتة بالحجارة وَبالجملة لو لم تنتهوا ولم تكفوا عما أنتم عليه من دعوى الرسالة لَيَمَسَّنَّكُمْ وليحيطن عليكم مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وبعد ما سمعتم ايها الغرباء كلامنا هذا فعليكم الإصغاء والقبول والعمل بمقتضاه والا فقد لحق بكم ما لحق من المكروهات التي سمعتم
قالُوا اى الرسل بعد ما سمعوا منهم وتفرسوا بغلظتهم وتشددهم في الإنكار والجحود طائِرُكُمْ مَعَكُمْ اى سبب شؤمكم انما هو من انفسكم وبسوء صنيعكم وأعمالكم أَلم تنتهوا ولم تتفطنوا انكم إِنْ ذُكِّرْتُمْ وقبلتم قولنا واتصفتم بما ذكرنا من الايمان والتوحيد لم يلحقكم شيء من المكروه ومتى لم تتعظوا ولم تتصفوا قد لحقكم ما لحقكم من القحط وعدم القطر وسيلحقكم أشد منه بشؤم انفسكم وبالجملة مجاوزون عن الحد في العناد والإلحاد عن سبل الهداية والرشد وايضا من كمال اسرافكم وافراطكم قد تطيرتم بدين الله وبدعوة رسله اليه
وَبعد ما سمعوا من الرسل ما سمعوا صمموا العزم الى قتلهم واجتمعوا لرجمهم وانتشر الخبر بين اهل المدينة وسعى من يسمع نحوهم حتى جاءَ حينئذ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ من السامعين وهو حبيب النجار وكان مؤمنا موحدا يعبد الله وكان قد لقى له الرسولان الأولان حين دخلا المدينة أولا فسلم الحبيب عليهما وتكلم معهما فقال لهما من أنتما قالا نحن رسولا عيسى النبي عليه السلام انما أرسلنا إليكم لندعوكم الى توحيد الحق وننقذكم عن عبادة الأوثان فقال أمعكما آية قال نشفى المريض ونبرئ الأكمه والأبرص فجاء بابنه المريض منذ سنين فمسحاه فقام الابن سالما فآمن لهما وصدقهما وانفصل عنهما مؤمنا واشتغل بعبادة الله فدخلا البلد واظهر الدعوة لأهلها وأنكروا عليهما واجتمعوا بقتلهما فأخبر الحبيب بذلك فجاء على الفور حال كونه يَسْعى ويذهب سريعا فلما وصل المجمع ورآهم مجتمعين عليهما فسألهما على رؤس الملأ من أنتما قالا رسولا عيسى ندعوكم الى توحيد الحق قال هل تسألان الأجر والجعل لرسالتكما قالا(2/199)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)
لا ليس اجرنا الأعلى ربنا ثم التفت الحبيب نحو القوم وقالَ يا قَوْمِ ناداهم وأضافهم على نفسه ليقبلوا منه كلامه وكان مشهورا بينهم بالورع والاعتدال الأخلاق اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ المبعوثين إليكم بالحق ليرشدوكم الى طريق الحق وتوحيده وانما جمع المرسلون مع انهما اثنان لان الحبيب منهم حقيقة وبالجملة
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً اى اتبعوا هاديا بالحق على الحق الى الحق خالصا لوجه الحق بلا غرض نفسانى من جعل وغيره كالمتشيخة المزورين الذين يجمعون بتلبيساتهم وتغريراتهم أموالا كثيرة من الضعفاء الحمقى المتماثلين نحو أباطيلهم وتزويراتهم الزائغة وَكيف لا تتبعون ايها العقلاء الطالبون للهداية والصواب إياهم مع انهم هُمْ مُهْتَدُونَ متصفون بالرشد والهداية قولا وفعلا. ثم لما سمع القوم من الحبيب ما سمعوا عيروه وشنّعوا عليه وقالوا له لست أنت ايضا على ديننا ودين آبائنا بل ما أنت الا على دين هؤلاء المدعين
وَبعد ما تفرس الحبيب منهم الإنكار عليه ايضا قال كلاما ناشئا عن محض الحكمة والفطنة على وجه العظة والتذكير لنفسه ليتعظوا به على سبيل الالتزام إذ هو اسلم الطرق في العظة والتذكير وادخل في النصيحة والتنبيه ما لِيَ اى أىّ شيء عرض على ولحق لي لا أَعْبُدُ ولا أتوجه على وجه التذلل والانكسار المعبود الَّذِي فَطَرَنِي على فطرة العبودية اى ابدعنى وأظهرني من كتم العدم ولم أك شيأ مذكورا ورباني بأنواع اللطف والكرم وأفاض على من موائد لطفه وإحسانه سيما العقل المفاض المرشد الى المبدأ والمعاد وَكيف لا اعبد ولا أتوجه نحوه إذ إِلَيْهِ سبحانه يعنى الحق الموصوف بالأوصاف والأسماء الحسنى ونعوت الجلال والجمال لا الى غيره من اظلال الأوثان والأصنام الحادثة الهالكة في حدود ذواتها العاطلة عن الأوصاف الكاملة المنحطة عن رتبة الألوهية والربوبية تُرْجَعُونَ أنتم ايها الاظلال الهالكون التائهون في بيداء ظهوره حيارى هائمين رجوع الأضواء الى شمس الذات والأمواج الى بحر الوحدة الذاتية
أَأنكر المعبود على الحق المظهر لما في الوجود وأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً باطلة من الأوثان عاطلة عن التصرفات مطلقا منحطة عن رتبة العبودية فكيف عن الربوبية والألوهية واسميهم شفعاء مغيثين لدى الحاجة مع انه إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ القادر المقتدر على اصناف الانعام والانتقام بِضُرٍّ اى مصيبة وسوء يتعلق مشيته سبحانه على انزاله الى لا تُغْنِ ولا تدفع عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً من بأس الله وعذابه بل لا تنفعني شفاعتهم أصلا وَلا يُنْقِذُونِ بالمعاونة والمظاهرة من عذابه سبحانه ايضا وبالجملة
إِنِّي بواسطة اتخاذي إياهم شركاء لله شفعاء عنده إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة ظاهرة إذ اختيار ما لا ينفع ولا يضر على الضار النافع المعطى المانع او ادّعاء مشاركتهم معه او شفاعتهم عنده سبحانه من أشد الضلالات وأردإ الجهالات وبالجملة
إِنِّي بعد ما تفطنت بوحدة الحق وباستقلاله في الوجود والآثار قد آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذي هو ربي ورب جميع ما في حيطة الوجود وتحت ظله من الأكوان غيبا وشهادة واعترفت بتوحيده واستقلاله بالتصرف في ملكه وملكوته بعد ما كوشفت بوحدة ذاته فَاسْمَعُونِ يا ايها العقلاء السامعون المدركون مضمون قولي واتصفوا بما فيه وتذكروا به ان كنتم تعلمون فلما سمعوا منه توصيته وتذكيره أخذوا في قتله وإهلاكه فوطئوه بأرجلهم الى حيث يخرج امعاؤه من دبره وهو في تلك الحالة قد زاد انكشافه بربه واستولى عليه سلطان الوحدة وجذبته العناية الإلهية وأدركته الكرامة القدسية حيث
قِيلَ له من قبل الحق حينئذ اخرج من هويتك وانخلع(2/200)
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
من انانيتك ادْخُلِ الْجَنَّةَ اى فضاء الوحدة التي لا فيها وصب ولا نصب ولا عناء ولا تعب فخرج وانخلع فدخل على الفور واتصل ثم بعد ما وصل الى ما وصل قالَ متمنيا متحسرا لقومه بعد ما قد لحق بفضاء الوصال يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وانكشف علىّ وجذبني نحوه بعد ما ستر عنى انانيتى ومحا منى هويتى وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ المكرمين الآمنين الفائزين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وبعد ما قتلوه ظلما وعدوانا ورفعناه مكانا عليا عناية منا إياه وأدخلناه في جنة وحدتنا مغفورا ومسرورا وكشفنا عنه غطاءه كشفا كليّا شوقيا وذوقيا شهوديا قد أخذنا في انتقام قومه منه فأهلكناهم بصيحة واحدة قد صاح بها جبرائيل عليه السلام بأمرنا إياه
وَبالجملة ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ اى قوم الحبيب وهم اهل انطاكية مِنْ بَعْدِهِ اى بعد قتله لننتقم عنهم لأجله مِنْ جُنْدٍ مِنَ جنود السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ اى وما ثبت منا وما جرى في لوح قضائنا إنزال الملائكة لإهلاكهم كما جرت سنتا لإهلاك سائر الأمم الهالكة بل
إِنْ كانَتْ اى ما كانت علة إهلاكهم وهلاكهم من قبلنا إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً او ما وقعت وصدرت منا لإهلاكهم وهلاكهم الا صيحة واحدة على القراءتين بالرفع والنصب وذلك انا بمقتضى قهرنا وجلالنا قد أمرنا جبرائيل عليه السلام بان يأخذ بعضادتي باب مدنيتهم فأخذ وصاح عليهم مرة واحدة فَإِذا هُمْ خامِدُونَ اى فاجؤا جميعا على الخمود والجمود وبعد ما سمعوا الصيحة الهائلة صاروا كالرماد بعد ما كانوا احياء كالنار المشتعلة الساطعة. ثم قال سبحانه من قبل عصاة عباده المأخوذين بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام
يا حَسْرَةً وندامة وكآبة عظيمة وحزنا شديدا عَلَى الْعِبادِ المصرين على العناد بعد ما عاينوا العذاب الدنيوي والأخروي النازل عليهم حتما بسبب انكارهم على الرسل والمرسل جميعا وتكذيبهم بجميع ما جاءوا به من عند ربهم وليس لهم حينئذ قوة المقاومة والمدافعة لذلك صاروا حيارى سكارى هائمين متحسرين بلا ناصر ومعين وشفيع حميم من رسول ونبي كريم إذ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ في نشأتهم الاولى يصلح أحوالهم وأعمالهم لئلا يترتب عليها الوبال والنكال الموعود في النشأة الاخرى إِلَّا كانُوا من غاية كبرهم وخيلائهم بِهِ اى بالرسول المصلح المرشد لهم يَسْتَهْزِؤُنَ ويستحقرونه ويستنكفون عن قبول دعوته ودينه وينكرون عليه كهؤلاء المسرفين المشركين معك يا أكمل الرسل
أَيستهزؤن معك يعنى اهل مكة وينكرون بدينك وكتابك لَمْ يَرَوْا اى لم يخبروا ولم يعلموا كَمْ أَهْلَكْنا اى كثرة إهلاكنا واستئصالنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الماضية ولم يعتبروا مما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم وانكارهم على رسله مع أَنَّهُمْ اى الأمم الهالكة السالفة إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ اى لا يرجعون الى هؤلاء المفسدين المسرفين في تكذيبك وإنكارك يا أكمل الرسل في نشأتهم هذه بل مضوا وانقرضوا الى حيث لم يعودوا الى ما كانوا وهؤلاء ايضا سينقرضون هم وأثرهم فلم لم يتنبهوا ولم يعتبروا مما جرى عليهم مع انهم ان أخذوا هؤلاء ايضا أمثالهم صاروا كأن لم يكونوا شيأ مذكورا أمثالهم
وَبالجملة إِنْ كُلٌّ اى ما كل من الفرق والأحزاب المنقرضة عن الدنيا على التعاقب والترادف مردودين إلينا مجتمعين في وقت من الأوقات بل لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ يعنى لا يجتمعون جميعا الا لدينا في يوم العرض والجزاء وفي حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ وبالجملة لا اجتماع لهم بعد انقراضهم ما داموا مسجونين في سجن الإمكان مقيدين بسلاسل التعينات وأغلال الهويات(2/201)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
والأنانيات بل متى خلصوا عن مضيق الطبيعة وانخلعوا عن لوازمها حضروا واجتمعوا عندنا ورجعوا إلينا بل وصلوا بنا واتصلوا بحضرة وحدتنا وحينئذ لم يبق الفرق وصاروا ما صاروا لا اله الا هو ولا موجود سواه هذا على قراءة لما بالتشديد واما على قراءة من قرأ بالتخفيف كان ان حينئذ مخففة من الثقيلة وما في لما مزيدة للتأكيد واللام للفرق بين المثقلة والمخففة والمعنى انه اى الشأن كل من الأمم الهالكة السالفة مجموعون البتة لدينا محضرون جميعا عندنا في يوم الجزاء او في حضرة لاهوتنا بعد انخلاعهم عن لوازم ناسوتهم
وَآيَةٌ عظيمة منا دالة على كمال قدرتنا على جمعهم وإحضارهم يوم الجزاء لَهُمُ ان يستدلوا بها على صدقها الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ اى اليابسة الجامدة التي أَحْيَيْناها وخضرناها في وقت الربيع بانزال قطرات الماء المترشحة من بحر الحياة عليها وَأَخْرَجْنا بها مِنْها حَبًّا اى جنسا من الحبوبات التي يقتاتون بها فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وبه يعيشون ويتنعمون كذلك في يوم النشور نحيى حسب قدرتنا الكاملة الأبدان المائتة الجامدة اليابسة المتلاشية في أراضي الأجداث بانزال الرشحات الفائضة من بحر حياة الوجود بمقتضى الجود فاعدناهم احياء كما ابدعناهم أولا من العدم
وَايضا من جملة الآيات التي تدل على قدرتنا انا جَعَلْنا فِيها اى في الأرض جَنَّاتٍ بساتين ومتنزهات مملوة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ومن سائر ما يتفكهون به تتميما لتنعمهم وترفههم وَفَجَّرْنا اى قد أخرجنا وأجرينا فِيها اى في خلال البساتين مِنَ الْعُيُونِ والينابيع الجارية التي لا صنع لهم في إجرائها وإخراجها عناية منا إياهم إبقاء لنضارتها ونزاهتها لهم كل ذلك
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ اى من ثمر ما ذكر وقوته ويقوموا أمزجتهم بأنواع ما وهبنا عليهم من النعم حتى يقوموا ويواظبوا على شكرها أداء لحقوقنا الواجبة عليهم وَكذا علمناهم واقدرناهم على عموم ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ من إنشاء المزارع والبساتين والعقارات واجراء الأنهار والقنوات وحفر الآبار أَينكرون على كمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا فَلا يَشْكُرُونَ نعمنا الفائضة إياهم على التعاقب والتوالي ولا ينسبونها إلينا بل الى الوسائل والأسباب العادية جهلا وعنادا طغيانا وكفرانا
سُبْحانَ القادر المقتدر القيوم المطلق المنزه المقدس عن الشبيه والنظير المتبرى عن الشريك والوزير المستقل في التصرف والتدبير الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وقدر الأصناف المتوالدة المتزايدة برمتها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من الشجر والنبات باجناسهما وأنواعهما واصنافهما وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ اى ذكورهم وإناثهم أنواعا وأصنافا واشخاصا وكذا من جميع ما يعلمون من أجناس الحيوانات وأنواعها وأصنافها وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ايضا من المخلوقات التي لا اطلاع لهم عليها إذ ما من مخلوق الا وقد خلق شفعا إذ الفردية والوترية والصمدية لوجوب الوجود والقيومية المطلقة من أخص أوصاف الربوبية والألوهية لا شركة فيها للمصنوع المربوب أصلا إذ لا يتوهم التعدد والكثرة في الوجود المطلق الذي هو عبارة عن الواجب قطعا
وَايضا آيَةٌ عظيمة منا إياهم حق لَهُمُ ان تتأملوا وتستدلوا بها على كمال قدرتنا وحكمتنا وعلمنا وارادتنا اللَّيْلُ المظلم اى العدم الأصلي حين نَسْلَخُ ننزع ونظهر مِنْهُ اى من الليل المظلم النَّهارَ المضيء اى نور الوجود الفائض منا إياهم حسب امتداد اظلال أسمائنا وصفاتنا عليهم فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ مستقرون في ظلمة العدم لولا افاضة جود الوجود عليهم
وَايضا من جملة آياتنا العظام الشَّمْسُ المضيئة المشرقة على صفائح الكائنات كاشراق نور الوجود الفائض منا على هياكل(2/202)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
الموجودات حسب التجليات الإلهية تَجْرِي وتسرى بلا قرار وثبات بمقتضى أمرنا المحكم وحكمنا المبرم لِمُسْتَقَرٍّ لَها قد قدرناه إياها منتهى ومنزلا حسب حكمتنا المتقنة المترتبة على تجلياتنا الحبية المنتشئة من ذاتنا المتصفة بالأوصاف اللطفية الجمالية ذلِكَ الجري والسراية على هذا النظام الأبلغ الابدع تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ القادر الغالب المقتدر على عموم المقادير الْعَلِيمِ بمطلق الاستعدادات والقابليات
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ وقد عينا ايضا لأجله حسب قدرتنا الغالبة وحكمتنا البالغة مع انه مرآة خالية عن النور الذاتي قابلة لان يكسبه من قرص الشمس حسب المقابلة والمحاذاة بينهما لذلك جعلنا له مَنازِلَ متفاوتة في الوضع مع الشمس فعند تمام المقابلة والمحاذاة يبدو بدرا كاملا بلا نقصان في قرصه أصلا ثم ينقص شيئا فشيئا يوما فيوما حَتَّى عادَ القمر في آخر المنازل الثمانية والعشرين التي وضعت له كما في علم التنجيم والتقويم لاستفادته النور من الشمس كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ اى كعذق النخلة العتيقة التي عليها الشماريخ المعوجة المصغرة من طول المدى وكذا عينا بمقتضى قدرتنا وحكمتنا لسير كل واحد منهما حسب الفصول الاربعة مقدارا من الزمان بحيث لا يتخلف سيرهما عنه لينتظم امر المعاش لذلك
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها اى لا يتيسر ولا يصح لها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ اى تسرع في سيرها الى ان تدرك القمر بل هي بطيئة السير بحيث تقطع البروج الاثنى عشر في سنة والقمر سريع السير يقطعها في شهر وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ اى لا يسع ولا يتيسر له ان يسبق ويدخل في النهار بل لكل منهما مدة مخصوصة مقدرة من عند العليم الحكيم لا يسع له التجاوز عنها وَكذلك كُلٌّ اى كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارات فِي فَلَكٍ مخصوص معين من الأفلاك السبعة يَسْبَحُونَ يسيرون فيه ويدورون على الانبساط والاستقلال بلا توهم السبق والإدراك
وَايضا آيَةٌ عظيمة منا إياهم لَهُمْ ان يستدلوا بها على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا وحولنا وقوتنا ويواظبوا على شكر نعمتنا وتلك الآية أَنَّا من كمال تربيتنا وتدبيرنا إياهم قد حَمَلْنا أولا عند طوفان نوح عليه السلام ذُرِّيَّتَهُمْ اى آباءهم وأسلافهم فان اسم الذرية كما يطلق على الأبناء كذلك يطلق على الآباء ايضا باعتبار انهم كانوا أبناء لآباء أخر فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملو منهم ومن سائر الحيوانات التي لا تعيش في الماء عناية منا إياهم وإبقاء لنسلهم
وَخَلَقْنا لَهُمْ اى قدرنا وجعلنا لهم اليوم بتعليم منا إياهم سفنا مِنْ مِثْلِهِ اى من جنسه وهي ما يَرْكَبُونَ عليها في متاجرهم وأسفارهم في البحار
وَإِنْ نَشَأْ افناءهم واستئصالهم بالمرة نُغْرِقْهُمْ بالطوفان فَلا صَرِيخَ لا معين ولا مغيث لَهُمْ حينئذ ينصرهم وينجيهم من الغرق وَلا هُمْ ايضا يُنْقَذُونَ لا بناصرهم ولا بأنفسهم من تلك المهلكة
إِلَّا رَحْمَةً ناشئة مِنَّا قد أدركتهم وانجتهم من الغرق وَبعد انجائنا إياهم أمهلنا لهم ليكون مَتاعاً وتمتيعا لهم ولا خلافهم إِلى حِينٍ اى الى قيام الساعة كي نختبرهم هل يصلون الى ما جبلوا لأجله من المعرفة والتوحيد والهداية والايمان مع انا قد أرسلنا إليهم الرسل والأنبياء مبشرين ومنذرين والى أسلافهم ايضا
وَ؟؟؟؟؟ هم اى أسلافهم في غاية تعنتهم وعنادهم إِذا قِيلَ لَهُمُ على؟؟؟؟؟ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مما جرى على اسلافكم من الوقائع؟؟؟؟؟ المهائلة والنوائب الشديدة إليهم يشؤم مفاسدهم وطغيانهم على الله وعلى أنبيائه ورسله بالخروج عن إطاعتهما وانقيادهما وَاحذروا عن ما خَلْفَكُمْ من العذاب الموعود(2/203)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
للعصاة المتمردين الخارجين عن ربقة العبودية المنصرفين عن صراط التوحيد وجادة السلامة بترك مقتضيات الحدود الإلهية لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ من عند الله بتقواكم عن محارمه ومحظوراته
وَهم ايضا أمثالكم ايها الأخلاف المفرطون في الاعراض عن الحق وسبيله بل ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مشيرة لهم الى ما يعنيهم ويليق بحالهم رادعة لهم عما لا يعنيهم مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الصادرة عن محض الحكمة والعدالة إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ مكذبين لها مستهزئين ممن جاء به أمثالكم
وَبالجملة هم من كمال قسوتهم وبغيهم أمثالكم إِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح وتنبيها لهم على محض الخير أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من فواضل نعمكم الى الفقراء الفاقدين لها لتتصفوا بالكرم وتفوزوا بمرتبة الإيثار قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا منهم بآيات الله بعد ما سمعوا الأمر الإلهي الوارد على الانفاق من ألسن المرسلين لِلَّذِينَ آمَنُوا اى المصدقين الممتثلين بأوامر الله ونواهيه ايمانا واحتسابا على سبيل الإنكار والاستبعاد أَنُطْعِمُ اى أتأمروننا ايها الجاهلون الضالون ان نعطى ونطعم مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ القادر المقتدر على اطعام عباده جملة أَطْعَمَهُ وبعد ما لم يشأ مع قدرته لم يطعمهم فأنتم من تلقاء انفسكم تأمروننا بالاطعام وبالجملة إِنْ أَنْتُمْ اى ما أنتم بدينكم هذا أوامركم بما لا يشاء ولا يرضى منه سبحانه إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة ظاهرة ادّعيتم الايمان بالله وأمرتم بخلاف مشيته وارادته
وَمهما سمعوا من المؤمنين أمثال هذه الأوامر الجالبة لروح الله ورحمته في اليوم الموعود يَقُولُونَ على سبيل الاستهزاء والتهكم مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي أوعدتمونا به عينوا لنا وقته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم يعنون به صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. ثم قال سبحانه في جواب هؤلاء الضالين المبطلين
ما يَنْظُرُونَ وينتظرون هؤلاء المنكرون المعاندون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هائلة تَأْخُذُهُمْ بغتة وَهُمْ حين وقوعها يَخِصِّمُونَ اى يختصمون ويتخاصمون اى بعضهم مع بعض في العقود والمعاملات ومتى ما جاءتهم الصيحة الفظيعة الفجيعة
فَلا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون تَوْصِيَةً وإيصاء كما هو المعروف من الناس في حال النزع اى لا يمهلهم الفزع المهلك مقدار ان يأتوا بالوصية وَلا يمهلهم ايضا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ اى ينقلبون الى بيوتهم ويتكلمون مع أهليهم
وَبالجملة متى سمعوا الصيحة الاولى ماتوا فجاءة بلا امهال لهم ساعة وطرفة وبعد ما ماتوا بالصيحة الاولى وصاروا كسائر الأموات نُفِخَ فِي الصُّورِ مرة اخرى بعد الصيحة الاولى فَإِذا هُمْ اى جميع الأموات صاروا احياء قائمين هائمين خارجين مِنَ الْأَجْداثِ اى القبور إِلى رَبِّهِمْ الذي يناديهم للعرض والجزاء يَنْسِلُونَ يذهبون ويسرعون طوعا وكرها إذ لا مرجع لهم سواه ولا ملجأ الا هو. ثم لما أفاقوا من ولههم وحيرتهم ورأوا مقدمات العذاب والنكال
قالُوا اى بعضهم لبعض متحيرين متحسرين يا وَيْلَنا وهلكنا تعال تعال فهذا أوانك مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا اى قبورنا التي قد كنا مقبورين مستورين فيها يعنى كل منا مستور عن صاحبه وان كان هناك عذاب ايضا لكن لا تفضيح فيه او المعنى من أيقظنا عن نومنا الذي كنا عليه قبل النفخة الثانية المحيية او بعد النفخة الاولى المميتة وبالجملة انما قالوا ما قالوا تحسرا وتحزنا ثم قيل لهم من قبل الحق هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ اى يومكم هذا هو اليوم الموعود الذي قد وعده الرحمن وأخبره على ألسنة رسله وكتبه لينقذكم من عذابه بمقتضى سعة رحمته وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ في جميع ما جاءوا به من قبل ربهم من الأمور المتعلقة بالنشأة الاخرى وأنتم من(2/204)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
كمال بغيكم وبغضكم على الله ورسله في النشأة الاولى قد انكرتم الرحمن وكذبتم الرسل الكرام فاليوم يلقيكم ما كذبتم به. ثم قال سبحانه تقريعا وتوبيخا على المشركين المنكرين لقدرته وكمال عزته وسطوته واستقلاله في تصرفات ملكه وملكوته وإظهارا لعلو شأنه وسمو برهانه بان أمثال هذه المقدورات في جنب قدرتنا الكاملة في غاية اليسر والسهولة لذلك
إِنْ كانَتْ اى ما كانت الفعلة منا في امر البعث وقيام الساعة وحشر الأموات إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صادرة بأمرنا فجاءة ألا وهي الصيحة الثانية او ما وقعت الفعلة منا وبأمرنا الا صيحة واحدة فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ اى كل الأموات مجموعون لَدَيْنا مُحْضَرُونَ عندنا مع انه ما صدر عنا في إحضارهم وجمعهم الا صيحة واحدة دفعية
فَالْيَوْمَ اى بعد ما حضر الكل لدينا واجتمع عندنا للعرض والحساب وتنقيد الأعمال وجزاء الأفعال الصادرة عنهم في دار الاختبار لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ولا تنقص من أجور أعمالها الصالحة وَلا تزاد ايضا على فاسدها على مقتضى عدلنا بل لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بمقتضى عملهم ان خيرا فخير وان شرا فشر ثم فصل سبحانه احوال الأنام في النشأة الاخرى فقال
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ألا وهم الواصلون الى مقر التوحيد والمعرفة علما وعينا وحقا الْيَوْمَ اى يوم القيامة المعد للجزاء فِي شُغُلٍ عظيم من انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات القالعة لعرق التقليدات والتخمينات التي هي من لوازم الإمكان الذي هو من أسفل دركات النيران فاكِهُونَ فرحون متلذذون ابدا بلا انقراض وانقضاء أصلا بل
هُمْ في شهودهم وَكذا أَزْواجُهُمْ التي هي نتائج أعمالهم الصالحة متمكنون فِي ظِلالٍ هي ظلال الأسماء والصفات الإلهية عَلَى الْأَرائِكِ اى هم على السرر العلية والدرجات السنية مُتَّكِؤُنَ متمكنون راسخون ثابتون لا يتحولون منها ولا ينقلبون
لَهُمْ فِيها عناية منا إياهم فاكِهَةٌ كثيرة من تجددات المعارف والحقائق وتلذذات الكشوفات والشهودات على مقتضى التجليات الإلهية وَبالجملة لَهُمْ فيها ما يَدَّعُونَ ويتمنون من مقتضيات التجليات المتشعشعة حسب الشئون والتطورات الإلهية التي لا نهاية لها بلا تناه وتكرر وقيل لهم من قبل الحق حينئذ
سَلامٌ اى تسليم وترحيب لهم وتكريم قَوْلًا ناشئا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ اى مرب مشفق لهم يربيهم بمقتضى سعة رحمته على فطرة التوحيد ويوصلهم الى مقر الوحدة الذاتية بعد ما رفعوا الشواغل المانعة عن التوجه إليها ورفضوا العلائق العائقة عن التمكن دونها والتحلي بها
وَقيل حينئذ للمشركين المصرين على الشرك والعناد امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ المفرطون المسرفون في الاعراض عن الله بمتابعة الشيطان المضل المغوى عن طريق توحيده وانصرفوا عن اهل التوحيد واليقين. ثم قرعهم سبحانه وعاتبهم زجرا لهم وطردا على وجه العموم لئلا يأمن ايضا المؤمنون المخلصون مع اطمئنانهم على الايمان ورسوخهم في العرفان
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ ولم آخذ منكم موثقا وثيقا في مبدأ فطرتكم بألسنة استعداداتكم واقوال قابلياتكم أَنْ لا تَعْبُدُوا اى بان لا تعبدوا الشَّيْطانَ ولا تطيعوا امره ولا تقبلوا منه وسوسته وقوله المبعد المحرف لكم عن طريق توحيده وبالجملة انما أحذركم يا ابن آدم عن أطاعته وانقياده إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة والنزاع يريد ان يصدكم عما جبلتم عليه باغرائه واغوائه
وَأَنِ اعْبُدُونِي ووحدونى واعتقدوا كمال أسمائي وأوصافي واستقلالى في عموم تدبيراتى وتصرفاتي في ملكي وملكوتي وامتثلوا امرى ولا تشركوا معى في الوجود شيأ من مظاهري ومصنوعاتى هذا الموثوق صِراطٌ(2/205)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
مُسْتَقِيمٌ
موصل الى توحيدي فاتخذوه سبيلا ولا تركنوا الى الذين ضلوا عن طريقي وظلموا أنفسهم بالخروج عن مقتضى حدودي واوامرى واحكامى وحكمى وتذكيراتى
وَكيف تعبدون الشيطان وتتبعون اثره وتنقادون امره ايها العقلاء المجبولون في فطرة الهداية والرشد مع انه لَقَدْ أَضَلَّ واغوى هذا المضل المغوى مِنْكُمْ يا بنى آدم جِبِلًّا كَثِيراً وجماعة متعددة من بنى نوعكم فانحرفوا بإضلاله عن سواء السبيل ونقضوا باغوائه واغرائه المواثيق الوثيقة والعهود المعهودة فحرموا بذلك عن الجنة الموعودة لهم فاستحقوا جهنم البعد ونيران الخذلان أَتعبدون الشيطان وتقتفون اثره فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ اى لم تستعملوا عقولكم في فظاعة امره وشدة عداوته ووخامة عاقبة متابعته وفيما يترتب على إضلاله من العذاب المخلد والنكال المؤبد فتختارون متابعته ويقبلون منه تقريره وتتركون طريق الحق أفلا تعقلون ايها المسرفون المفرطون وقيل لهم حينئذ مشيرا الى منقلبهم ومثواهم
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي قد كُنْتُمْ ايها الضالون المغرورون تُوعَدُونَ في النشأة الاولى بألسنة الرسل والكتب
اصْلَوْهَا وادخلوها الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ اى بشؤم ما تنكرون بذات الله وبكمال أسمائه وصفاته وبما تكذبون كتبه ورسله وتعرضون عنهم وعن دعوتهم ظلما وعدوانا وبعد ما عاينوا العذاب وانواع النكال وعلموا ان اسبابها ما هي الا أفعالهم الصادرة عنهم في دار الاختبار عزموا الى الإنكار وقصدوا ان يقولوا معتذرين والله ما كنا يا ربنا مشركين لك مكذبين كتبك ورسلك فيقول الله
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ونمنعها عن الكلام والتكلم حتى لا يتفوهوا بالأعذار الكاذبة وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ بما صدر عنهن ظلما وعدوانا وَتَشْهَدُ ايضا أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بها من المعاصي والسعى في طلب المنهيات والمحرمات وبالجملة انطق الله العزيز العليم الخبير الحكيم جميع جوارحهم واركانهم فاعترف كل منها بما اقترف به صاحبه وفي الحديث صلوات الله وسلامه على قائله وحينئذ يقال للعبد كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا ثم قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقى فينطق كل بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول للجوارح بعد ما أقرت واعترفت بعد الكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل انتهى الحديث والسر في إنطاق الله سبحانه الأعضاء والجوارح بما صدر عنها هو الإشارة الى ان الالتفات الى السوى والأغيار مطلقا مضر لذوي الألباب والاعتبار وسبب تفضيح وتخذيل لدى الملك الجبار الغيور القهار فلا تذهب الا الى الله ولا تصحب الا مع الله ولا تعتمد الا بالله ولا تتوكل الا على الله وبالجملة فاتخذ الله وكيلا وكفاك سبحانه حسيبا وكفيلا. رزقك الله وإيانا حلاوة صحبته وجنبك وإيانا عن الالتفات الى غيره بمنه وجوده. ثم قال سبحانه اظهار الكمال قدرته واختياره
وَكما ختمنا على أفواههم حينئذ وطبعنا على قلوبهم قبل ذلك حين لم يقبلوا دعوة الرسل لَوْ نَشاءُ ان نعميهم ونذهب بأبصارهم لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ وصيرناهم مطموسة ممسوجة كسائر أعضائهم بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق فَاسْتَبَقُوا وبادروا الصِّراطَ والطريق المعهود لهم وهم قد مروا عليها مرارا كثيرة فَأَنَّى يُبْصِرُونَ فكيف يبصرونه بعد ما صاروا مطموسين بل
وَلَوْ نَشاءُ ان نسقطهم عن رتبة التكليف ودرجة الاعتبار لَمَسَخْناهُمْ واخرجناهم عن الرتبة الانسانية الى الحيوانية بل عن الحيوانية الى الجمادية ايضا الى ان صاروا جامدين خامدين عَلى مَكانَتِهِمْ كالجمادات الاخر بحيث لا يسع لهم ان يتحولوا عنها أصلا فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ يعنى لو نشاء مسخهم(2/206)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
وإخراجهم عن رتبة الخلافة والنيابة وفطرة التكليف والتوحيد لصيرناهم جمادات لا قدرة لها على الذهاب والإياب أصلا وبالجملة هم بسبب أعمالهم الفاسدة وأفعالهم القبيحة واوصافهم الذميمة وأخلاقهم الغير المرضية أحقاء ان يفعل بهم ما ذكرنا لكن لقد سبقت رحمتنا واقتضت حكمتنا ان نمهلهم زمانا الى ان يتنبهوا او يتولد منهم من يتنبه ويتفطن
وَكيف لا نقدر على الطمس والمسخ مع انا بمقتضى قدرتنا وقوتنا مَنْ نُعَمِّرْهُ منهم ونطول عمره في الدنيا نُنَكِّسْهُ ونضعفه فِي الْخَلْقِ بالآخرة الى ان نرده الى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيأ ثم نميت الكل ونصيرهم ترابا وعظاما ولا شك ان من قدر على الأحياء والاماتة والتطويل والتنكيس فهو قادر على المسخ والتطميس فمن اين يتأتى لهم ان ينكروا قدرتنا واختيارنا في أفعالنا واستقلالنا في تصرفات ملكنا وملكوتنا أَفَلا يَعْقِلُونَ ولا يتأملون آثار قدرتنا الغالبة الكاملة الظاهرة على الآفاق والأنفس أولئك العقلاء المتأملون حتى يتفطنوا ويتيقنوا بها. ثم لما قال كفار مكة خذلهم الله ان محمدا شاعر وما جاء به مفترى الى ربه من جملة الاشعار والقياسات المخيلة المشتملة على الترغيبات والتنفيرات والمواعيد والوعيدات وادعاء النبوة والوحى والمعجزة ما هو الا قول باطل وزور ظاهر رد الله عليهم قولهم هذا على وجه المبالغة والتأكيد فقال وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ اى ما جعلنا فطرته الاصلية واستعداده الجبلي قابلة على القياسات الشعرية المبتنية على محض الكذب والخيال المرغب والمنفر بل ما جعلناها الا منزهة عنها بريئة عن أمثالها طاهرة عن ادناس الطبيعة مطلقا خالصة عن شوائب الإمكان ولوث الجهل والتقليد متحلية باليقين والبرهان المنتهى الى الكشف والعيان ثم الى الحق الذي هو منتهى الأمر في باب العرفان وَما يَنْبَغِي لَهُ ويليق بشأنه وبشأن كتابه المنزل عليه ان ينسب هو وهو الى الشعر والشعراء الذين هما ابعد بمراحل عن ساحتي عز جلالهما بل إِنْ هُوَ اى ما الكلام المنزل على خير الأنام إِلَّا ذِكْرٌ عظة وتذكير ناشئ عن العلم والحكمة المتقنة الإلهية مشيرا الى التوحيد الذاتي منبها عليه وَقُرْآنٌ مُبِينٌ مشتمل على احكام ظاهرة وآيات واضحة وبينات لائحة محتو على الأوامر والنواهي الإلهية والحدود والقوانين الموضوعة بالوضع الإلهي بين عباده ليوصلهم الى طريق توحيده منزل على رسوله المستعد لحمله وقبوله
لِيُنْذِرَ أنت يا أكمل الرسل بالتبليغ ان قرئ على صيغة الخطاب او القرآن ان قرئ على الغيبة مَنْ كانَ حَيًّا بحياة الايمان موفقا من عندنا باليقين والعرفان معدودا عن عداد السعداء في حضرة علمنا ولوح قضائنا وَالا يَحِقَّ الْقَوْلُ ويصدر الحكم منا بلحوق العذاب حتما عَلَى الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد المائتين بموت الجهل والإنكار
أَينكرون أولئك المنكرون المشركون توحيدنا ويكفرون نعمنا الفائضة عليهم على التعاقب والتوالي وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا أَنَّا بمقتضى جودنا خَلَقْنا لَهُمْ بمحض قدرتنا وحكمتنا مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا بلا صنع لهم وتسبب ومظاهرة أَنْعاماً أجناسا وأنواعا وأصنافا فَهُمْ لَها مالِكُونَ متصرفون فيها ضابطون لها قاهرون عليها
وَكيف لا يملكون ولا يتصرفون فيها بأنواع التصرفات مع انا قد ذَلَّلْناها وسخرناها اى أجناس الانعام مع كمال قوتها وقدرتها لَهُمْ ولم نجعلها آبية وحشية عنهم بل مقهورة لهم مذللة لحكمهم لذلك فَمِنْها رَكُوبُهُمْ اى مراكبهم التي يركبون عليها كالإبل والخيل وَمِنْها يَأْكُلُونَ من لحومها وشحومها
وَمع ذلك لَهُمْ فِيها اى في الانعام مَنافِعُ كثيرة من أصوافها واوبارها واشعارها ونتائجها وَمَشارِبُ من ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ(2/207)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
النعم الفائضة عليهم المهمة لهم المقوية لأمزجتهم
وَمن علامة كفرانهم بنعم الله ونسيانهم حقوق كرمه انهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية اولياء وسموهم آلِهَةً مستحقة للعبادة والرجوع في المهمات وكشف عموم الملمات لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ بهم وبشفاعتهم عن بأس الله وبطشه مع انهم جمادات
لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون نَصْرَهُمْ اى نصر عابديهم بل وَهُمْ اى العابدون لَهُمْ اى للمعبودين جُنْدٌ مُحْضَرُونَ حولهم حافظون لهم مزينون إياهم بأنواع التزيينات وبالجملة هم اى العابدون منسلخون عن مقتضى العقل بعبادتهم إياهم واتخاذهم اولياء شفعاء وتسميتهم آلهة دون الله وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل حالهم وحال معبوداتهم فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ لك بانك شاعر او مجنون وبان كتابك شعر او من أساطير الأولين وبانك كاذب في دعوى الرسالة والنبوة وبان اخبارك بالبعث زور باطل إِنَّا نَعْلَمُ بحضرة علمنا الحضوري عموم ما يُسِرُّونَ ويضمرون في صدورهم وضمائرهم من الكفر والإنكار بتوحيدنا وباستقلالنا في ملكنا وملكوتنا وَايضا نعلم جميع ما يُعْلِنُونَ من الفسوق والعصيان والخروج عن مقتضى الحدود ظلما وعدوانا فنجازيهم على مقتضى علمنا بهم وبأعمالهم. ثم لما بالغ الكفرة المنكرون المصرون في انكار البعث وتكذيبه وجادلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على وجه العناد والمكابرة حتى اتى ابى بن خلف بعظم بال وفته عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال متعجبا على سبيل الإنكار مستبعدا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما كذلك انا لمخرجون مبعوثون هيهات هيهات لما توعدوننا رد الله عليهم وعلى عموم من أنكر قدرته على البعث فقال
أَينكر المنكر المصر قدرتنا على اعادة الروح الى الأبدان وَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ المجبول على الدراية والشعور ولم يتذكر ولم يعلم أَنَّا خَلَقْناهُ وقدرنا وجوده أولا مِنْ نُطْفَةٍ مهينة وهي أرذل من التراب وانزل رتبة فَإِذا هُوَ اليوم بعد ما قد سويناه رجلا كاملا في العقل والرشد خَصِيمٌ مُبِينٌ مجادل مكابر زعيم ظاهر المراء والمجادلة معنا منكرا لقدرتنا مع انه قد كان جمادا أرذل في نهاية الرذالة والخساسة
وَما يستحيى منا ومن قدرتنا حتى ضَرَبَ لَنا مَثَلًا موضحا لنفى قدرتنا وَقد نَسِيَ خَلْقَهُ اى خلقنا إياه ومن كمال نسيانه وضلاله قالَ متعجبا مستبعدا على سبيل الإنكار مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ البالية وَالحال انه هِيَ رَمِيمٌ بال في غاية البلى بحيث تفتت اجزاؤها وتطيرت بالرياح
قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم بعد ما قد بالغوا في الإنكار والاستبعاد يُحْيِيهَا اى العظام ويعيد الروح إليها القادر المقتدر الَّذِي أَنْشَأَها اى أوجدها وابدعها أَوَّلَ مَرَّةٍ من كتم العدم إنشاء إبداعيا بلا سبق مادة ومدة وَان استبعدوا واستحالوا جمع الاجزاء المنبثة المفتتة الممتزجة بعضها مع بعض الى حيث يستحيل امتيازها وافتراقها أصلا قل هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ ومخلوق من نقير وقطمير عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يغيب عن حيطة حضرة علمه ذرة ولا يشتبه عليه شيء من معلوماته فله سبحانه ان يميز أجزاء كل شخص شخص ويركبها على الوجه
الَّذِي كان عليه في النشأة الاولى ثم يعيد الروح اليه فصار حيا كما كان وما ذلك على الله بعزيز وكيف لا يقدر العليم الحكيم على امتياز أجزاء الأنام والتيامها واعادة الروح إليها إذ هو القادر المقتدر الذي جَعَلَ لَكُمْ ايها المكلفون حسب علمه وقدرته مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ الرطب الذي يتقاطر منه الماء ناراً مع ان بين الماء والنار من التضاد وكيف تنكرون إخراج النار من الشجر الرطب فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ(2/208)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
حينا كثيرا قال ابن عباس رضى الله عنهما شجرتان معروفتان يقال لأحدهما المرخ وللآخر العفار فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنتين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما ماء فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار باذن الله تعالى ولهذا قال الحكماء لكل شجر نار الا العناب. ثم أشار سبحانه ايضا الى كمال قدرته واختياره فقال
أَينكر المنكرون قدرتنا على البعث وحشر الموتى وَلَيْسَ القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ أوجد واظهر السَّماواتِ اى العلويات وما فيها وَالْأَرْضَ اى السفليات وما عليها بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ويعيدهم احياء كما كانوا بَلى من قدر على خلق السموات العلى والأرضين السفلى قادر على بعث الموتى وحشرهم في النشأة الاخرى بالطريق الاولى وَكيف لا هُوَ الْخَلَّاقُ المبالغ في تكثير الخلق والإيجاد ابداعا وإبداء واعادة الْعَلِيمُ بعموم المعلومات والمقدورات ازلا وابدا على التفصيل بحيث لا يخرج عن حيطة حضوره ذرة من ذرائر ما كان ويكون بل الكل عنده ممتاز محفوظ وبالجملة لا تستبعدوا ايها الجاهلون بالله وبعلمه وقدرته وسائر أوصافه الكاملة وأسمائه العامة الشاملة أمثال هذا بل بالنسبة اليه سبحانه سهل يسير وكيف لا يسهل عليه سبحانه أمثال هذا
إِنَّما أَمْرُهُ وشأنه انه إِذا أَرادَ شَيْئاً اى تعلق ارادته بتكوين شيء من معلوماته ومقدوراته أَنْ يَقُولَ لَهُ بعد ما تعلق عليه ارادته كُنْ المؤدى لأمره وحكمه فَيَكُونُ المأمور المحكوم على الفور بلا تراخ ومهلة والتعقيب انما ينشأ من العبارة والا فلا تأخير ولا تعقيب في سرعة نفوذ قضائه سبحانه وبالجملة إياك إياك ومحتملات الألفاظ ومنطوقات العبارات فإنها بمعزل عن ادراك كيفية امر الله وشأن حكمه ومضاء قضائه على وجهه ومتى سمعت ما سمعت من كمال قدرة الله ومتانة حكمه وحيطة علمه وقدرته وشمول ارادته واستقلال اختياره
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وله التصرف بالاستحقاق والاستقلال في ملكه وملكوته يعنى تنزه وتقدس ذات من في يده وقبضة قدرته مقاليد الملك ومفاتيح الملكوت من ان يعجز عن اعادة الأموات احياء سيما بعد ما ابدأهم من العدم كذلك ولم يكونوا حينئذ شيأ مذكورا تعالى شأنه عما يقول الظالمون في حقه علوا كبيرا وَكيف لا يقدر سبحانه على البعث والأحياء إذ إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود ولا اله سواه موجود مشهود تُرْجَعُونَ رجوع الأمواج الى الماء والأضواء الى الذكاء سبحان من لا يجرى في ملكه الا ما يشاء
خاتمة سورة يس
عليك ايها السالك المتدبر المتأمل في كيفية رجوع الكائنات الى الوحدة الذاتية وارتباط عموم المظاهر والمصنوعات الى المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي أزال الله عن بصر بصيرتك سبل الحول واعانك على رفع الحجب وكشف العلل ان تصفى باطنك عن الميل الى الغير والسوى مطلقا بحيث يصير باطنك مملوا بمحبة الله فتترسخ تلك المحبة فيه وتتمرن الى ان قد خفى عليك جميع خواطرك وهواجس نفسك سواها ثم تسرى من باطنك الى ظاهرك فتشغلك عن عموم مشتهياتك ومستلذاتك ومقتضيات جوارحك وقواك وبالجملة يمتلئ بها ظاهرك وباطنك فحينئذ لم يبق لك التفات الى الغير مطلقا فصرت حيرانا مدهوشا مستغرقا بمطالعة وجه الله الكريم وبعد ما صرت كذلك قد جذبك الحق عنك نفسك وستر عليك رمسك الى ان قد غبت فيه وفنيت(2/209)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
فحينئذ حق لك ان تقول بلسان استعدادك بعد ما فنيت رسومك وآثارك في الله انا لله وانا اليه راجعون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون
[سورة الصافات]
فاتحة سورة الصافات
لا يخفى على ارباب الصفوة من المنجذبين نحو الحق المنكشفين بانبساط وحدته الذاتية حسب شئونه وتطوراته المنتشئة من أسمائه وصفاته الذاتية على صفائح المظاهر والمجالى الغير المحصورة والعكوس والاظلال الغير المتناهية ان الوحدة الحقيقية الحقية لما أرادت ان تتجلى بالتجلى الحبى لإظهار الكمالات المندمجة في ذاتها المقتضية للظهور والجلاء والاستجلاء تنزلت أولا من مرتبة الاحدية والعماء الذاتي الذي لا يتصور فيها الشعور والإدراك مطلقا الى الواحدية ثم منها الى ما شاء الله فظهرت المراتب والكثرات فأول كثرة ظهرت منها هي الأسماء الحسنى والصفات العليا الغير المنحصرة الموسومة عند ارباب الأذواق بالملائكة المهيمين الوالهين بمطالعة وجهه الكريم الصافين حول عرشه العظيم ثم ظهرت من تلك الأسماء والصفات كثرة الآثار والاظلال المنعكسة منها ثم ترتبت على تلك العكوس والاظلال اللوازم والعوارض والإضافات والتعلقات الفائتة للحصر والإحصاء وبعد ما قد بلغت الكثرة نهايتها تكونت الطبائع والهيولى والجواهر والاعراض وحدثت الفتن والأمراض واختلفت المذاهب والأغراض وتشعبت الطرق والأحزاب وتكثرت الملل والنحل وتزاحمت الأفكار والآراء وتعارضت الأماني والأهواء فحينئذ اقتضت الحكمة الإلهية وضع الحدود والقوانين وتحميل التكاليف الشافة على العباد وتشريع الطاعات والعبادات عليهم وإرسال الرسل والأنبياء المؤيدين من عند الله بالكتب المنزلة الفارقة بين الحق والباطل من السبل والاحكام المبينة للأمم براهين التوحيد وحجج اليقين ليتميز المحق من المبطل والموحد من الملحد والمؤمن العارف من الكافر الجاهل ولهذا المطلب العلى والمقصد السنى الذي هو التوحيد الذاتي اقسم سبحانه بأعظم مخلوقاته وأقربها الى صرافة الذات ألا وهم الملائكة الصافون حول الذات الاحدية المهيمون عند سرادقات العز والجلال بمطالعة الجمال فقال تبارك وتعالى مفتتحا بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على ملائكته الحافين لذاته الصافين حول عرشه العظيم الرَّحْمنِ عليهم بعموم فيضه وشمول رحمته الرَّحِيمِ لهم يأمرهم بعكوف بابه ويقربهم عند جنابه
[الآيات]
وَالصَّافَّاتِ اى وحق الأسماء والصفات الإلهية الصافين حول الذات الاحدية المنتظرين لشئونه وتجلياته إذ هو سبحانه في كل آن في شأن ولا يشغله شأن عن شأن صَفًّا مستقيما مستويا بحيث لا يتحولون عنه أصلا بل هم هائمون دائمون والهون مستغرقون منتظرون بماذا يأمرهم ربهم من التدبيرات المخزونة في حضرة علمه المحيط والتصويرات المثبتة المكنونة في لوح قضائه المحفوظ ومتى تعلق ارادته بمقدور من مقدوراته ومراداته المأمورة إياهم وهم حينئذ زاجرات
فَالزَّاجِراتِ المدبرات على الفور لما يأمرهم الحق من التدبيرات المتعلقة بنظام الكائنات غيبا وشهادة زَجْراً تاما وتدبيرا كاملا حسب المأمور والمقدور بلا فتور وقصور وبعد ما صدر امره سبحانه وجرى قضاؤه بقوله كن فهم حينئذ التابعات الطالبات لامتثال الأمر المقضى بلا فترة وتسويف
فَالتَّالِياتِ التابعات لإنفاذ قضائه سبحانه القارأت المبلغات ذِكْراً منه ووحيا من لدنه سبحانه لمن أمرهم الحق بتبليغه إياهم ألا وهم الأنبياء والرسل المؤيدون بالوحي والإلهام المصطفون من بين البرايا والعباد(2/210)
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
بالخلافة والنيابة عن الله المتحملون لا عباء النبوة والرسالة يعنى وبحق هؤلاء الملائكة الذين هم من سدنة باب اللاهوت وخدمة عتبة حضرة الرحموت المنتظرون لما صدر عنه سبحانه من الأمور المتعلقة بالملك والملكوت
إِنَّ إِلهَكُمْ الذي أظهركم وأبدعكم من كتم العدم ولم تكونوا ايها العكوس المستهلكة في شمس الذات شيأ مذكورا لا حسا ولا عقلا ولا خيالا ولا وهما لَواحِدٌ احد صمد فرد وتر ليس له شريك في الوجود ولا نظير في الظهور والشهود فهو بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته
رَبُّ السَّماواتِ العلى وَالْأَرْضِ السفلى وَما بَيْنَهُما من الكوائن والفواسد الممتزجة الى ما لا يتناهى لا مربى للمذكورات سواه ولا مظهر للكائنات الا هو وَكيف لا وهو سبحانه رَبُّ الْمَشارِقِ اى الاستعدادات القائلة لشروق شمس ذاته المتأثرة من اشعة أسمائه وصفاته وبعد ما ثبت وحدة ذاتنا واستقلالنا في تصرفات ملكنا وملكوتنا ولاهوتنا وجبروتنا
إِنَّا من مقام عظيم جودنا وكمال قدرتنا قد زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى القربى لكم ايها المكلفون حيث ترون ما فيها بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ اى برينة هي الكواكب او بدل على كلتا القراءتين بتنوين وبلا تنوين تحلية وتزيينا تبتهجون بها حين تنظرون إليها وتتأثرون منها سعدا ونحسا إقبالا وإدبارا
وَجعلناها حِفْظاً اى بعد ما قد زينا السماء بها صيرناها صائنة حفظا لها مِنْ وصول كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ خارج عن اطاعة الله مائل عن توحيده كي
لا يَسَّمَّعُونَ اى مردة الشياطين ولا يصغون إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى اى الى الاذكار والاستغفار وسائر السرائر والأسرار الجارية على ألسنة الملائكة إذ هم اى الشياطين والجن أشبه المخلوقات الى الملائكة وانما منعهم سبحانه عن الإصغاء إليهم لأنهم من غاية عداوتهم مع بنى آدم يعكسون عليهم ما يسمعون فيضلوهم عن الصراط المستقيم إذ يدعون الألوهية والربوبية لأنفسهم ويحتجون بما يستمعون من الملائكة ترويجا وتغريرا ويلبسون الأمر على ضعفة الأنام فيحرفونهم عن جادة التوحيد والإسلام وَلذلك يُقْذَفُونَ ويطرحون أولئك الماردون مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السموات وآفاقها
دُحُوراً طردا بليغا وزجرا شديدا وَمع ذلك الطرد والزجر لَهُمْ اى الشياطين عَذابٌ نازل مستمر في النشأة الاخرى واصِبٌ مؤبد دائم لا ينفك عنهم في حين من الأحيان
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ اى يطردون الماردون حتى لا يستمعوا الا من اختطف منهم فاختلس من الملائكة الخطفة على سبيل الاستراق فَأَتْبَعَهُ اى تبعه ولحقه على الفور حين اختطافه واختلاسه شِهابٌ ثاقِبٌ اى كوكب مضيء كجذوة النار يثقب الجنى فيقتله او يحرقه او يخبله. والقول بان الشهاب من الأشياء الكائنة في الجوّ لا من الكواكب قول تخمينى ابتدعها الفلاسفة من تلقاء نفوسهم لا يعضده عقل ولا يوافقه نقل فاما قولهم في خبط الحركات الفلكية والاجرام العلوية وتقويم الكواكب والبروج وتقدير الأشكال والصور الى غير ذلك من الأمور المنتهية الى الحس ربما يؤدى الى اليقين واما في طبائع المكونات وحقائق الموجودات وكيفية تراكيب الماهيات وغير ذلك من الأمور الحقيقية التي لا مجال للحس فيها ولا للعقل ما هو الا تخمين زائل وزور باطل إذ لا يعرف كنه الأشياء الا خالقها ومظهرها لا يسع لاحد ان يتفوه عنها وعن كيفيتها وكميتها وكيفية التيامها على ما هي عليه وتركيباتها الحقيقية وهم اى مردة الشياطين بمجرد تلك الخطفة المختلسة يضلون كثيرا من الناس الى حيث يستعبدونهم ويأمرونهم بالاطاعة والانقياد الى أنفسهم والعبادة إياهم باتخاذهم اولياء وآلهة من دوننا جهلا
فَاسْتَفْتِهِمْ اى(2/211)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
المشركين المتخذين الشياطين اولياء آلهة من دوننا واستخبرهم يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والتعيير تنصيصا على غيهم وتصريحا بكفرهم واستحقاقهم العذاب المؤبد والنكال المخلد أَهُمْ اى آلهتهم وشياطينهم أَشَدُّ خَلْقاً اى إيجادا وتأثيرا أَمْ مَنْ خَلَقْنا وأظهرنا بمقتضى قدرتنا الكاملة من المخلوقات المذكورة التي هي الملائكة الصافات والسموات المطبقات والكواكب السيارات المتفاوتة في التأثيرات والأرض وما عليها من البسائط والمركبات والمواليد وما بينهما من الممتزجات وغير ذلك من الاستعدادات القابلة لشروق شمس الذات سيما إِنَّا خَلَقْناهُمْ وقدرنا هؤلاء المتخذين لغيرنا أربابا أولا مِنْ طِينٍ لازِبٍ لاصق منتن مهين لازم النتن والهوان ثم ربيناهم بأنواع التربية الى ان سويناهم رجالا عقلاء ليعترفوا بنا وبتوحيدنا والوهيتنا وربوبيتنا ويواظبوا على شكر نعمتنا فعكسوا الأمر واتخذوا اولياء من دوننا واعتقدوهم آلهة سوانا وبالجملة قد انقلبوا خاسرين خائبين او المعنى فاستفتهم اى سلهم اى المشركين أهم في أنفسهم أشد خلقا وأعظم مخلوقا أم من خلقنا من المخلوقات المذكورة سابقا مع انهم لم يتخذوا الها سوانا ولم يعبدوا غيرنا وهؤلاء الحمقى كيف اتخذوا من دوننا أولياء ويسمونهم آلهة شفعاء مع انهم أضعف بالنسبة إليهم مخلوقون من أدون الأشياء وارذلها انا خلقناهم وقدرنا وجودهم أولا من طين لازب مسترذل منتن تستكرهه الطبائع ومتى سمعت يا أكمل الرسل قولهم وانكارهم التوحيد واشراكهم بالله أدون الأشياء مع ضعف خلقهم وتأملت حالهم فقد استبعدت منهم هذا
بَلْ عَجِبْتَ أنت وعجبت انا على القرائتين منهم أمثال هذا مع انهم مجبولون على فطرة الدراية والشعور موهوبا لهم العقل المفاض المشير لهم الى التوحيد وتصديق البعث والحشر وجميع الأمور الاخروية وَهم مع هذا يَسْخَرُونَ بك مهما سمعوا منك الاخبار والآيات الواردة في امر البعث والحشر بل
وَهم من شدة قسوتهم وغاية عمههم وسكرتهم في غيهم وغفلتهم إِذا ذُكِّرُوا ووعظوا بالإنذارات البليغة والتخويفات الشديدة المتعلقة للآخرة لا يَذْكُرُونَ ولا يتأثرون ولا يتعظون ولا يقتصرون على عدم القبول والتذكر بل
وَإِذا رَأَوْا اى علموا وسمعوا آيَةً معجزة نازلة في شأن البعث والنشور يَسْتَسْخِرُونَ بها ويستهزؤن بك يا أكمل الرسل عنادا واستكبارا
وَقالُوا من شدة بغضهم وضغينتهم معك يا أكمل الرسل ومع كتابك إِنْ هذا اى ما هذا الذي قد جاء به هذا المدعى مفتريا على ربه إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ اى سحرية ما جاء به ظاهرة وهو في نفسه ساحر ماهر لكن كلامه زور باطل
أَنبعث ونحيى إِذا مِتْنا وانفصل عنا روحنا سيما وَقد كُنَّا تُراباً وَعِظاماً بالية رميمة أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بعد ما صرنا كذلك
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الأقدمون يبعثون ويحشرون هيهات لما توعدون ان هي الا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في انكار البعث واستحالة نشأة النشور نَعَمْ تبعثون أنتم ايها الضالون المنكرون والى ربكم تحشرون وعن أعمالكم تسئلون وعليها تحاسبون والى جهنم تساقون وَأَنْتُمْ فيها داخِرُونَ داخلون دائمون صاغرون مهانون وكيف تنكرون قدرتنا على البعث وقيام الساعة فَإِنَّما هِيَ اى الساعة والبعث بعد ما تعلقت مشيتنا زَجْرَةٌ واحِدَةٌ اى صيحة واحدة ناشرة منشرة لهم من قبورهم سائقة زاجرة لهم نحو المحشر زجر الراعي الصائح للغنم وبعد ما سمع الأموات الصيحة اى النفخة الثانية في الصور فَإِذا هُمْ قيام يَنْظُرُونَ حيارى وسكارى تائهين والهين
وَقالُوا بعد ما قاموا كذلك(2/212)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
متحسرين متمنين الهلاك والويل يا وَيْلَنا وهلكنا أدركنا هذا اليوم يَوْمُ الدِّينِ والجزاء الذي قد وعدنا الله به على ألسنة رسله وكتبه في النشأة الاولى فنحن قد كنا ننكره ونكذبه ونستهزئ بمن جاء به واخبر عنه عنادا ومكابرة فالآن رأيناه وابتلينا به يا حسرتنا على ما فرطنا في ترك الايمان به وتصديق مخبره وبعد ما قالوا ما قالوا قيل لهم من قبل الحق على سبيل التقريع والتعيير إظهارا لكمال القدرة
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ والقضاء بالعدل الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ايها الضالون المنكرون المصرون على التعنت والعناد. ثم امر سبحانه للملائكة المترصدين لأمره القائمين بحكمه
احْشُرُوا وسوقوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية واجمعوهم للمحشر وَأَزْواجَهُمْ اى أشباههم وأمثالهم وقرناءهم الذين اقتدوا بهم واقتفوا أثرهم معهم وَاحضروا معهم ايضا ما كانُوا يَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ ظلما وعدوانا اى معبوداتهم الباطلة تتميما لإلزامهم فَاهْدُوهُمْ اى قدموهم ودلوهم جميعا إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وبالجملة سوقوهم بأجمعهم عابدا ومعبودا الى نيران الطرد وسعير الخذلان
وَقِفُوهُمْ واحبسوهم في الموقف ساعة إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن أعمالهم التي جاءوا بها في نشأتهم الاولى محاسبون عليها وبعد ما سئلوا وحوسبوا جوزوا عليها بمقتضاها ثم سوقوا الى النار والسر في السؤال والحساب والله اعلم تسجيل العذاب عليهم وتنصيصه إياهم لئلا ينسب سبحانه الى الظلم والعدوان ظاهرا ولئلا يجادلوا معه سبحانه إذ كان الإنسان المجبول على الكفر والنسيان اكثر شيء جدلا ثم قيل لهم من قبل الحق توبيخا وتقريعا
ما لَكُمْ اى ما شأنكم وأى شيء عرض عليكم ايها الضالون المضلون لا تَناصَرُونَ اى لا ينصر بعضكم بعضا اى معبوداتكم لا تنصركم ولا تشفع بتخليصكم مع انكم اتخذتموهم أولياء واعتقدتموهم آلهة شفعاء فلم لا ينصرونكم ولا ينقذونكم من عذابنا ولم لا يمكرون ولا يحيلون بأنواع الحيل والخداع ولم لا يعتذرون بالأعذار الكاذبة لإنقاذكم من عذابنا كما كنتم تزعمون في النشأة الاولى وهم حينئذ من شدة الهول هائمون حائرون
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون خاضعون ومن اشتداد العذاب عليهم خائفون خاشعون وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ حين يساقون نحو النار يَتَساءَلُونَ ويتخاصمون ويتلاومون حيث
قالُوا اى السفلة الضعفاء منهم لرؤسائهم إِنَّكُمْ ايها الضالون المضلون قد كُنْتُمْ من شدة شغفكم وحرصكم على تضليلنا ومنعنا عن تصديق الرسل وقبول دعوتهم تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ اى عن أقوى جوانبنا او عن أقوى الطرق الموصلة الى مطلوبكم منا ألا وهو المال وحطام الدنيا فتعطوننا منه وتحرفوننا عن طرق السلامة وسبل الاستقامة
قالُوا اى الرؤساء في جواب الضعفاء ما قولكم هذا الا افتراء منكم علينا ومراء كيف يتيسر لنا ويتأتى منا ان نؤثر نحن في قلوبكم بحيلنا ومكرنا واعطائنا المال إياكم والإحسان عليكم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مع ان الأيمان انما هو من افعال القلوب بل لم تكونوا في انفسكم مؤمنين مصدقين فتميلون على ما كنا وكنتم عليه طبعا وهواء فتفترون اليوم علينا فرية ومراء
وَان ادعيتم اكراهنا إياكم حينئذ فقد كذبتم إذ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ استيلاء وغلبة سيما على قلوبكم الى حد تخافون أنتم عن قهرنا وإهلاكنا إياكم لو لم تكفروا بَلْ قد كُنْتُمْ في انفسكم كما كنا قَوْماً طاغِينَ قد طغيتم وبغيتم على الله كما طغينا وبغينا وبالجملة انا وإياكم تابعا ومتبوعا لفي ضلال مبين
فَحَقَّ اى لزم وثبت وجرى عَلَيْنا وعليكم قَوْلُ رَبِّنا وحكمه المبرم المثبت في لوح قضائه المحفوظ في(2/213)
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
حضرة علمه المحيط بانا وأنتم من الأشقياء المردودين مستحقون لانواع العذاب والنكال وبالجملة إِنَّا بأجمعنا لَذائِقُونَ اليوم ما كتب الله لنا من العذاب وبالجملة سلمنا انا قد اضللناكم عن الهدى بمكرنا وخداعنا
فَأَغْوَيْناكُمْ عن الايمان والتوحيد إِنَّا كُنَّا ايضا غاوِينَ أمثالكم فلحق بنا ما لحق بكم الى متى تعيروننا وتخاصموننا وبعد ما تمادى وتطاول بينهم جدالهم وتخاصمهم قيل لهم من قبل الحق
فَإِنَّهُمْ بأجمعهم ضالا ومضلا تابعا ومتبوعا يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد مُشْتَرِكُونَ كما قد كانوا مشتركين في أسبابه وموجباته في النشأة الاولى وبالجملة
إِنَّا من غاية قهرنا وجلالنا كَذلِكَ اى مثل الفعل الهائل المهول الذي هو سوقهم جميعا الى النار نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ اى بعموم المتخذين لنا شركاء من دوننا الخارجين عن ربقة عبوديتنا بالالتفات والتوجه الى غيرنا وكيف لا نفعل مع المجرمين المشركين كذلك
إِنَّهُمْ من شدة عتوهم وعنادهم قد كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ تذكيرا وتنبيها لا إِلهَ في الوجود يعبد له ويرجع اليه في الخطوب إِلَّا اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد هم يَسْتَكْبِرُونَ ويعرضون عن كلمة التوحيد ومقتضاها ويمتنعون عنها وعن معناها
وَيَقُولُونَ حينئذ من غاية تعنتهم وإصرارهم على الشرك على سبيل الإنكار والاستبعاد أَإِنَّا مع كمال عقلنا ورشدنا لَتارِكُوا آلِهَتِنا الذين قد كنا نحن وآباؤنا وأسلافنا لها عابدين عاكفين سيما لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يتكلم بكلام المجانين بمجرد ما قد جاءنا بأباطيل من تلقاء نفسه مشتملة على أساطير الأولين يعنون الرسول صلّى الله عليه وسلم. ثم لما تمادوا في طعنه والطغيان وبالغوا في القدح في الرسول والقرآن وإنكاره رد الله عليهم على ابلغ وجه وافصح بيان فقال سبحانه على سبيل الإضراب عن قولهم
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ داعيا على الحق هاديا الى الحق وَعلامة حقيته وصدقه انه قد صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ المنزلين من عندنا على الحق اليقين وبالجملة
إِنَّكُمْ ايها الضالون المكذبون به صلّى الله عليه وسلّم وبكتابنا المنزل اليه من عندنا لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ المعد لكم ولأمثالكم في قعر الجحيم
وَاعلموا انكم ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بمقتضى ما عملتم واقترفتم لأنفسكم بلا زيادة عليه ولا نقصان منه عدلا منا وقهرا على من انحرف عن جادة توحيدنا
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ على الايمان والأعمال الصالحة خالصا لوجه الله الكريم
أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله المرضيون لديه سبحانه لَهُمْ من فضل الله عليهم ولطفه معهم رِزْقٌ مَعْلُومٌ معد معين من عنده سبحانه صوريا ومعنويا علميا وعينيا كشفيا وشهوديا على مقتضى ما عملوا من صالحات الأعمال والأخلاق والحالات بل لهم تفضلا منا عليهم ومزيدا لتكريمهم
فَواكِهُ كثيرة يتلذذون بها حسب ما يشتهون وَبالجملة هُمْ مُكْرَمُونَ عند ربهم متنعمون
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ المشتملة على الرزق الصوري والمعنوي متكئين كل منهم مع قرينه عَلى سُرُرٍ رفيعة حسب رفعة درجاتهم في الايمان والعرفان والكشف والعيان مُتَقابِلِينَ متواجهين كل منهم مع قرينه
يُطافُ عَلَيْهِمْ تشويقا لهم وتجديدا لذوقهم وحضورهم بِكَأْسٍ مملو مِنْ مَعِينٍ هو عبارة عن خمر الجنة سميت به لأنها قد عانت ونبعت من بحر اللاهوت وترشحت من عين الحياة المنتشئة من حضرة الرحموت
بَيْضاءَ يعنى في غاية الصفاء والضياء بحيث لا لون لها حتى يدركها النظر ويخبر عنها الخبر لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ اى لذيذة للعارفين المتعطشين بزلال التوحيد وبرد اليقين لا يدرك(2/214)
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
كيفيها الا من يذوقها لا يظمأ منها ابدا ولا يروى سرمدا ولا نخرج نشوتها عنه ابدا بل يطلب دائما مزيدا إذ
لا فِيها غَوْلٌ اى غائلة خمار وصداع يترتب عليها كما يترتب على خمور الدنيا وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون الى حيث تذهب عقولهم وتفسد أمزجتهم وتختل خواطرهم وينسون مطالبهم ويضلون عن مقاصدهم كما في خمر الدنيا بل يزيد منها شوقهم وذوقهم ويتكامل طلبهم
وَعِنْدَهُمْ من الأزواج المزدوجة معهم المقبولة عندهم قاصِراتُ الطَّرْفِ عليهم مقصورات النظر إليهم لا يلتفتن الى غيرهم عِينٌ حسان الأعين متناسب الحواجب والأجفان والاماق
كَأَنَّهُنَّ في صفاء البدن وبياضه بَيْضٌ مَكْنُونٌ مصون محفوظ عن الغبار مخلوط بادنى صفرة كلون الفضة وهو احسن ألوان جسد الإنسان وبعد ما يشربون من المعين وشملتهم الكيفية أخذوا يتحدثون
فَأَقْبَلَ والتفت بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ويتقاولون عما جرى عليهم في نشأة الدنيا وكذا عما ادخروا فيها للنشأة الاخرى من المعارف والحقائق والأعمال والأحوال والمواجيد والأخلاق والعبر والأمثال
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ على سبيل التذكير والتحاكى عن انكار المنكرين ليوم البعث والنشور إِنِّي قد كانَ لِي قَرِينٌ في دار الدنيا منكر لهذه النشأة وانا معتقد لها منتظر لقيامها
يَقُولُ لي يوما على سبيل النصح مستنكرا مستبعدا أَإِنَّكَ ايها المجبول على فطرة الدراية والشعور لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ المعتقدين الموقنين
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً تعتقد أنت وتصدق أَإِنَّا لَمَدِينُونَ اى مجزيون بأعمالنا التي قد كنا نعمل مسئولون عنها محاسبون عليها كلا وحاشا ما حياتنا الا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين في النشأة الاخرى ثم
قالَ لقرنائه في الجنة مستفهما عن حال قرينه المنكر للبعث هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ يعنى هل أنتم تريدون وتطلبون ايها المسرورون في الجنة ان تطلعوا على حال ذلك القرين في النار قالوا له أنت أحقنا بالاطلاع على حاله منا إذ هو مصاحبك وقرينك
فَاطَّلَعَ هو بعد ما نظر وابصر من الكوى التي فتحت في الجنة نحو النار فَرَآهُ اى قرينه المنكر مطروحا فِي سَواءِ الْجَحِيمِ اى وسطه معذبا بأنواع العذاب والنكال
قالَ له بعد ما رآه في النار مقسما على سبيل التأكيد والمبالغة تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ يعنى والله انك ايها الجاهل المفرط قد قاربت من إهلاكي باغرائك واغوائك ونصحك الى وتذكيرك على بما يدل على انكار البعث وتكذيب يوم الجزاء واستدلالك على استحالته
وَبالجملة لَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي وتوفيقه إياي بالعصمة والثبات على عزيمة الايمان والتوحيد لَكُنْتُ مثلك مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في وسط الجحيم يعنى كنت انا ايضا من جملة اهل النار مثلك ثم أخذ يباهى ويفتخر على قرينه بالنعيم المقيم واللذة المستمرة بلا طريان موت وعروض عذاب فقال مستفهما
أَتعلم ايها المفسد المفرط انا في الجنة مخلدون منعمون فَما نَحْنُ ابدا بِمَيِّتِينَ مائتين متحولين عنها بل لا موت لنا فيها ابد الآبدين
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي قد متنا عن الدنيا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أصلا أمثالكم
إِنَّ هذا الخلود والتنعم والسرور بلا طريان ضد عليه لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والكرم الجسيم من الله العلى الحكيم إيانا ثم قيل من قبل الحق ترغيبا للمؤمنين على الطاعات وحثا لهم على الإتيان بالأعمال الصالحات وتطييبا لقلوبهم بترتب هذه الحسنات على أعمالهم وأخلاقهم ومواجيدهم وحالاتهم وبالجملة
لِمِثْلِ هذا الفوز العظيم والنوال الكريم فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ في النشأة الاولى لا للحظوظ الفانية واللذات الزائلة الدنياوية المستتبعة لانواع الآلام والحسرات. ثم قال(2/215)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
سبحانه
أَذلِكَ المذكور من الرزق المعلوم واللذة المستمرة والنشوة الدائمة بلا صداع ولا خمار والحياة الابدية والمسرة السرمدية خَيْرٌ نُزُلًا لأهل الجنة العلية أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ لأهل النار ألا وهي ثمرة شجرة مرة كريهة الرائحة والطعم يستكرهه طباع اهل النار ألا انهم يتناولون منها للضرورة ثم لما عبر سبحانه عن نزل اهل الجحيم بالزقوم فسمعها كفار مكة قالوا كيف يكون في النار شجرة وثمرة ومن شأنها إحراق ما يجاورها فاستهزءوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش ان محمدا يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان بربر الزبد والتمر فأدخلهم ابو جهل في بيته فقال يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد صلّى الله عليه وسلّم فرد الله سبحانه قولهم واستهزاءهم بقوله
إِنَّا جَعَلْناها اى الشجرة المذكورة فِتْنَةً وابتلاء لِلظَّالِمِينَ وسببا لازدياد العذاب واشتداد النكال عليهم إذ هم يتقاولون فيها ويحملونها الى لغة اخرى ويتخذون لها محملا جيدا ويستهزؤن بها مع النبي صلّى الله عليه وسلم فيستحقون أسوأ العذاب والعقاب ويطعمون منها حين دخولهم في النار وبالجملة
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ وتنبت فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ اى منبتها في قعرها وأغصانها في دركاتها
طَلْعُها اى ثمرتها التي تطلع منها وتحصل كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ في القبح والهجنة هذا من قبيل تشبيه المحسوس بالمتخيل كتشبيه الطيور الحسنة بالملائكة يعنى تستكره من رؤيتها الطباع استكراهها من رؤس المردة من الجن المصورة على أقبح الصور وأهولها
فَإِنَّهُمْ اى أولئك المنكرين المستهزئين وجميع من في النار من الكافرين لَآكِلُونَ مِنْها إذ لا مأكول لهم فيها سواها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ اى يملؤون بطونهم منها لشدة الجوع او يجبرون ويكرهون لأكلها زجرا عليهم وتشديدا لعذابهم إذ هي احر من النار وأبرد من الزمهرير
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ بعد ما ملئوا بطونهم منها إذ لا مأكول مع كمال حرارتها واشتداد العطش عليهم عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ اى خلطا ومزجا من ماء حار في غاية الحرارة بعد ان تخرجهم الخزنة من الجحيم وتوردهم إليها ورود البهائم الى الماء فيشربون منها فيقطع أمعاءهم
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ بعد ما اصدرتهم الخزنة وأخرجتهم من الماء لَإِلَى الْجَحِيمِ البتة إذ لا مرجع لهم سواها وانما ابتلوا بما ابتلوا به من العذاب المؤيد والعقاب المخلد
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا اى قد صادفوا ووجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ منحرفين عن سبل السلامة وجادة الاستقامة التي هي التوحيد والإسلام
فَهُمْ اى هؤلاء الأخلاف الأجلاف بعد ما وجدوا أسلافهم كذلك عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ يسرعون على الفور ويعملون مثل عملهم تقليدا لهم بلا تدبر وتأمل
وَبالجملة لَقَدْ ضَلَّ وانحرف عن جادة العدالة قَبْلَهُمْ اى قبل قومك يا أكمل الرسل أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم السالفة
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ بعد ما ضلوا وأضلوا عن صراط الحق وجادة توحيده مُنْذِرِينَ مثل ما أرسلناك الى هؤلاء الضالين المنصرفين عن الطريق المستبين بالإنذارات البليغة والتخويفات الشديدة فلم يفدهم انذاراتهم كما لم يفد إنذارك الى هؤلاء المسرفين المفرطين فأخذناهم بغتة واستأصلناهم مرة
فَانْظُرْ ايها المعتبر المستبصر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ بعد ما انذروا بالإنذارات البليغة الواصلة إليهم من الرسل ولم يتنبهوا منها الى الطريق المستبين بل التزموا الضلالة جاسرين فانقلبوا صاغرين
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين تنبهوا منها الى الصراط المستقيم بل تفطنوا الى الحق اليقين فصرفوا عن العذاب الأليم الى النقيم المقيم لذلك انقلبوا بنعمة من الله وفضل عظيم. ثم أخذ سبحانه في تعداد اهل(2/216)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
الضلال الجاحدين على الرسل المنذرين بعد ما أجمل فقال
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ حين أردنا إهلاك قومه بالطوفان نداء مؤمل ضريع لاستخلاصه واستخلاص من آمن معه من قومه فأجبنا له فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن لأوليائنا المخلصين
وَلهذا نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ اى من آمن معه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ اى من الغم الذي لحقه دائما من أذى قومه وضربهم ومن انواع زجرهم وشتمهم إياه او من كرب الطوفان
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ اى من تناسل منه ومن ابنائه هُمُ الْباقِينَ الى قيام الساعة. روى انه مات بعد ما نزل في السفينة من كان معه من المؤمنين ولم يبق الا هو وبنوه وأزواجهم فتناسلوا الى انقراض الدنيا كما قال سبحانه
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ اى أبقينا عليه ذكرا جميلا وثناء جزيلا فِي الْآخِرِينَ اى في الأمم المتخلفة عنه فهم يذكرونه بالخير ويقولون تكريما وترحيبا
سَلامٌ اى تسليم وتكريم من الله ومن خواص عباده عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ اى في النشأة الاولى والاخرى
إِنَّا بمقتضى لطفنا وجودنا لخلص عبادنا كَذلِكَ اى مثل ما جزينا نوحا على إحسانه وإخلاصه نَجْزِي جميع الْمُحْسِنِينَ من عبادنا لما أنابوا إلينا وتوجهوا نحونا على وجه الإخلاص وكيف لا نبقى له ذكرا جميلا ولا نجزيه جزاء جزيلا
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيدنا المتوكلين علينا المفوضين أمورهم كلها إلينا المخلصين في عموم ما جاءوا به من الأعمال والأفعال
ثُمَّ انا بمقتضى لطفنا فعلنا معه ما فعلنا من الانعام والإحسان ونجيناه عن كرب الطوفان قد أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ اى كفار قومه واستأصلناهم الى حيث لم نبق منهم أحدا على وجه الأرض سوى اشياعه واصحاب سفينته اى المؤمنين به ومن تشعب وتناسل منهم
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ اى من جملة من شايعه في التوحيد والايمان بل من اجلة من تابعه في اصول الدين ومعالم التوحيد واليقين لَإِبْراهِيمَ المتصف بكمال العلم والحلم والمعرفة وان طال الزمان بينهما قيل كان بين نوح وابراهيم عليهما السلام الفان وستمائة وأربعين سنة اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سالم عن جميع الميول الباطلة والآراء الفاسدة واذكر ايضا وقت
إِذْ قالَ جدك ابراهيم الخليل الجليل صلوات الله عليه وسلامه لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ حين انكشف بالتوحيد الإلهي وتمكن في مرتبة الشهود العيني والحقي مستفهما على سبيل الإنكار والتوبيخ غيرة على الله وإظهارا لمقتضى الخلة ماذا تَعْبُدُونَ اى لأي شيء تعبدون هذه الأصنام الباطلة العاطلة عن لوازم الألوهية والربوبية ايها الجاهلون بتوحيد الله وبكمال أوصافه وأسمائه
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ اى أتريدون ايها المعاندون ان تثبتوا آلهة متعددة سوى الله الواحد الأحد الصمد القيوم المطلق المستحق للالوهية والربوبية استحقاقا ذاتيا ووصفيا على سبيل الإفك والمراء والكذب والافتراء
فَما ظَنُّكُمْ وزعمكم ايها الجاهلون المكابرون بِرَبِّ الْعالَمِينَ أتظنون ان له شريكا في الوجود اوله نظيرا في الشهود او سواه موجودا والله ما ظنكم هذا الا الخيال الباطل والزيغ الزائل وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا انصرفوا عنه وأنكروا عليه وعلى ربه فأراد عليه السلام ان يكايدهم في أصنامهم ويخادع معهم في كسرها وقد قرب حينئذ يوم عيدهم وكان من عادتهم الإتيان بالقرابين والهدايا عند أصنامهم ومعابدهم فيتقربون بها ويتخذون منها أنواعا من الأطعمة فيطبخونها عندها في ليلة العيد ثم يخرجون صبح العيد الى الصحراء فيتعيدون فيها بأجمعهم ثم ينصرفون منها فينزلون الى معابدهم وعند أصنامهم ويمهدون موائد كثيرة من الأطعمة المهيئة فيأكلون منها ويتبركون بها وكان عادتهم كذلك ثم لما اجتمعوا في المعبد عند الأصنام(2/217)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
على عادتهم المستمرة وأرادوا الخروج قالوا له عليه السلام اخرج أنت ايضا معنا غدا يا ابراهيم الى الصحراء نعيد فيها ونرجع
فَنَظَرَ ابراهيم عليه السلام حينئذ نَظْرَةً فِي دفتر النُّجُومِ وهم قد كانوا يعملون بالاحكام النجومية يومئذ ويعتقدون لها وهو عليه السلام مشهور بضبطها
فَقالَ لهم اليوم إِنِّي سَقِيمٌ الآن او سأسقم عن قريب بالطاعون وهم قد يفرون من المطعون فرارهم من الأسد
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ وانصرفوا من بعد ما سمعوا منه القول الموحش مُدْبِرِينَ رهبة ورعبا فخرجوا من الغد الى الصحراء ولم يخرج عليه السلام معهم ثم لما بقي محل الأصنام خاليا عن الخدام وقد طبخ عندها انواع من الطعام
فَراغَ اى مال وانصرف إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أولا على سبيل التهكم والاستهزاء أَلا تَأْكُلُونَ ايها المعبودون عن هذه الأطعمة المطبوخة المرغوبة المهياة عندكم. ثم قال
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ اى ما عرض ولحق لكم ما تتكلمون ايها الآلهة المستحقة للعبادة والرجوع إليكم في المهمات وبعد ما استهزأ عليه السلام مع هؤلاء الأصنام الصم البكم الجامدين بما استهزأ
فَراغَ عَلَيْهِمْ اى مال إليهم وذهب نحوهم فضربهم ضَرْباً بِالْيَمِينِ اى بشدة القوة والغلظة فكسرها تكسيرا وفتت اجزاءها تفتيتا ثم لما أخبروا بانكسار أصنامهم وانفتاتها حين كانوا في الصحراء ظنوا بأجمعهم بل جزموا انه ما فعل بآلهتهم هذه الفعلة الا ابراهيم
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ عازمين جازمين على تمقيته وانتقامه يَزِفُّونَ اى يعدون ويسرعون ويتبخترون ثم لما وصلوا اليه حصروا عن التكلم معه من غاية غيظهم ونهاية زفرتهم فسبقهم عليه السلام بالتكلم حيث
قالَ مقرعا عليهم أَتَعْبُدُونَ ايها الجاهلون الضالون ما تَنْحِتُونَ وتصنعون بأيديكم وتعتقدونه الها خالقا موجدا مظهرا لكم من كتم العدم وتعبدونه ظلما وزورا فمن اين لهؤلاء الجمادات العاطلة الباطلة لوازم الخلق والإيجاد والإظهار أفلا تعقلون بل
وَاللَّهُ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية قد خَلَقَكُمْ بالإرادة والاختيار وَخلق ايضا عموم ما تَعْمَلُونَ اى جميع أعمالكم وأفعالكم التي صدرت عنكم ومن جملتها صنعكم ونحتكم للأصنام والأوثان ومن هنا ظهر ان جميع افعال العباد مثل ذواتهم مستندة الى الله أولا وبالذات ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد ثم لما سمعوا منه عليه السلام ما سمعوا انصرفوا عن مكالمته ومقاولته وهموا العزم الى قتله ومقته
وقالُوا اى بعضهم لبعض حين كانوا مشاورين في كيفية قتله بعد ما قر رأيهم عليه ابْنُوا لَهُ بُنْياناً واملئوه بالنار فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ والسعير المسعر حين تنتقمون عنه فبنوا حائطا من الحجر سمكه ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون وملؤه من الحطب واوقدوا فيه نارا فنفخوا فيه بالمنافخ حتى تسعرت وتلهبت ثم طرحوه بالمنجنيق فيها وبالجملة
فَأَرادُوا بِهِ وقصدوا لمقته كَيْداً لينتقموا عنه مستعلين عليه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ المقهورين الخاسرين الخائبين بما فعلوه به عناية منا وتفضلا وامتنانا عليه حيث جعلنا ما سعروه بردا وسلاما عليه فانقلبوا لما رأوا نجاته صاغرين محزونين وبعد ما خرج الخليل صلوات الله عليه وسلامه منها اختار الجلاء والخروج من بينهم بوحي الله إياه والهامه
وَلهذا قالَ حين خروجه إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي والى كنف حفظه وجواره وسعة رحمته سَيَهْدِينِ بلطفه الى منزل يمكنني التوجه فيه اليه ويطمئن قلبي فيه فذهب الى الشأم بالهام الله إياه وتوطن في الأرض المقدسة وبعد ما توطن ناجى مع الله وطلب منه سبحانه الولد الخلف له المحيي لاسمه فقال
رَبِّ يا من رباني(2/218)
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
بأنواع النعم والكرامات هَبْ لِي ولدا صالحا مرضيا لك مقبولا عندك معدودا مِنَ عبادك الصَّالِحِينَ الموفقين من عندك على الصلاح والفوز بالفلاح وبعد ما تضرع نحونا راجيا من رحمتنا
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ هو إسماعيل عليه السلام حَلِيمٍ ذي حلم كامل وتصبر تام على متاعب العبودية وشدائد الاختبارات الإلهية ثم لما ولد له إسماعيل عليه السلام ورباه الى ان ترقى من مرتبة الطفولية وظهر منه الرشد الفطري والفطنة الجبلية الى ان بلغ سبع سنين او ثلاث عشرة وهي أول الحلم وعنفوان الشباب وبالجملة
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ للحوائج والمهمات المتعلقة لأمور المعاش وصار يذهب ويجئ مع ابنه الى الاحتطاب وسائر الاشغال وكان أبوه ينتصر به في الأمور ويستظهر وكان مشفقا له عطوفا عليه بحيث لا يفارقه أصلا من كمال عطفه ثم لما بالغ ابراهيم في عطف ولده وارتباط قلبه به مع انه متمكن في مقام الخلة مع ربه قد غار عليه سبحانه فاختبر خلته حتى رأى في المنام بإلقاء الله في متخيلته ان الله يأمره بذبح ولده إظهارا لكمال خلته واصطبار ولده على بلاء الله واظهار حلمه عند المصيبة فانتبه عن منامه هولا من رؤية الواقعة الهائلة فخيلها من أضغاث الأحلام فاستغفر ربه وتعوذ نحوه من الشيطان ثم نام فرأى ايضا كذلك ثم استيقظ كذلك خائفا مرعوبا ثم استغفر ونام فرأى ثالثا مثل ما رأى فتفطن بنور النبوة انه من الاختبارات الإلهية فأخذ في امتثال المأمور خائفا من غيرة الله وكمال حميته وجلاله يعنى كيف يطيق احد ان يتخذ محبوبا سواه ويختار خليلا غيره سيما من اختار الله لخلته واصطفاه لمحبته فأمر ابنه بان يأخذ الحبل والسكين ليذهبا الى شعب الجبل للاحتطاب كما هو عادتهما فذهبا وقد اشتعل في صدره نار المحبة والخلة الإلهية فشرع يظهر رؤياه لابنه ليختبره كيف هو قالَ يا بُنَيَّ ناداه وصغره تحننا عليه وتعطفا إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ بأمر الله إياي تقربا منى اليه سبحانه وهديا نحوه فَانْظُرْ أنت يا بنى وتأمل ماذا تَرى اى اىّ امر تفكر وتفتي في هذه الواقعة الهائلة أتصبر أنت على بلاء الله أم لا وبعد ما سمع من الرؤيا ما سمع قالَ معتصما بحبل التوفيق راضيا بما جرى عليه من قضاء الله مستسلما نحوه ومقبلا عليه مناديا لأبيه لينبئ عن كمال أطاعته وانقياده لحكم ربه يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ به من قبل الحق فاذبحنى في سبيل الله تقربا منك نحوه وطلبا لمرضاته ولا تلتفت الى لوازم الأبوة والنبوة وكن صابرا لبلاء الله بذبح ولدك بيدك باذنه سبحانه وفي سبيله سَتَجِدُنِي ايضا إِنْ شاءَ اللَّهُ وتعلق ارادته بان اصبر على بلائه الذي هو ذبح ابى إياي بيده مِنَ الصَّابِرِينَ المتمكنين على تحمل المصيبات الآتية من قبل الحق وبعد ما تشاورا وتقاولا فوضا الأمر اليه سبحانه وانقادا لحكمه ورضيا بقضائه طوعا ورغبة
فَلَمَّا أَسْلَما اى سلما واستسلما اى كل منهما سلم امره الى ربه ووصلا الموقف والمنحر توجه الخليل نحو الحق ناويا التقرب اليه سبحانه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ اى صرع ابنه على شقه الأيمن امتثالا لأمر ربه مثل صرع الضحايا عند الذبح وشد بالحبل يده ورجله فأخذ الشفرة بيده فامرّها على حلق ابنه فلم تمض ولم تعمل فأخذ حجر المحد فأحدها ثم امرّها ولم تمض ايضا وهكذا فعل مرارا فلم تعمل شيئا فتحير عليه السلام في امره قال له ابنه حينئذ يا أبت أكبنى على وجهى فاذبحنى من القفا لئلا يمنعك من ذبحي رؤيتك وجهى ففعل كذلك فلم تمض
وَبعد ما قد جربناهما ووجدناهما على كمال التصبر والرضاء بما جرى عليهما من القضاء نادَيْناهُ من مقام عظيم جودنا إياه ولطفنا معه أَنْ يا إِبْراهِيمُ اى بان قلنا له مناديا يا ابراهيم المختص بخلتنا الراضي لمصيبتنا
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وامتثلت بالمأمور ورضيت بذبح ولدك لرضانا واختبرناك(2/219)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
به فوجدناك متمكنا على مرتبة الخلة والتوحيد فقد أتيت مخلصا بما طلبنا منك لذلك كان لك من الفضل والعطاء منا جزاء لفعلك ما لم يكن لاحد من بنى نوعك لإخلاصك في أمرك وصحة عزيمتك وخلوص طويتك في نيتك. ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير بعموم عباده إِنَّا بمقتضى عظيم جودنا كَذلِكَ اى مثل ما جزينا خليلنا ابراهيم ونجيناه من الكرب العظيم نَجْزِي جميع الْمُحْسِنِينَ المخلصين في حسناتهم ونياتهم وفي جميع أعمالهم وحالاتهم. ثم قال سبحانه
إِنَّ هذا الأمر المأمور به لإبراهيم الاواه الحليم من ذبح ولده في طريق الخلة مع ربه لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الظاهر صعوبته وشدته على عموم المكلفين وبعد ما قد عزم على أمرنا بالعزيمة الصادقة الخالصة واقدم على امتثاله من محض الاعتقاد وصميم الفؤاد بحيث لو لم نمنع مضاء شفرته مع انه قد بالغ في امراره بقوة تامة واحدها مرارا لذبحه البتة
وَبعد ما ظهر إخلاصه لدينا قد منعناها وبعد ما منعنا مضاء شفرته قد فَدَيْناهُ اى الذبيح الذي هو ابنه بِذِبْحٍ اى بما يذبح به ليتم تقربه إلينا وينال من لدنا ما نعدله من التواب والجزاء المترتب على تقربه عَظِيمٍ اى عظيم القدر إذ ما يفديه الحق لنبي من الأنبياء أعظم البتة مما يفديه الناس قيل بعد ما سمع ابراهيم عليه السلام نداء الهاتف التفت فإذا هو جبريل عليه السلام ومعه كبش أملح اقرن فقال له هذا فداء ابنك بعثه الله إليك فاذبحه وتقرب دونه وهذا الكبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا لتلك المصلحة فأخذ ابراهيم الكبش واتى به المنحر من منى فذبحه عنده وفاز بمبتغاه من الله ما فاز عاجلا وآجلا مما لا مجال للعبارة والإشارة اليه
وَمن جملة ما جزينا على ابراهيم عاجلا انا من كمال خلتنا معه قد تَرَكْنا عَلَيْهِ وأبقينا له فِي الْآخِرِينَ اى في الأمم الذين يلون ويأتون بعده الى قيام الساعة ثناء حسنا وذكرا جميلا حيث يقولون دائما
سَلامٌ وترحيب منا وبركات من الله ورحمة نازلة دائما مستمرا عَلى إِبْراهِيمَ ثم قال سبحانه حثا للمؤمنين
كَذلِكَ اى مثل ما جزينا ابراهيم بأحسن الجزاء في الدنيا والآخرة نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ ان أحسنوا وأخلصوا في نياتهم وحسناتهم وكيف لا نجزى خليلنا
إِنَّهُ مِنْ خلص عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الموقنين بوحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وباستقلالنا في ملكنا وملكوتنا
وَبعد ما قد ابتليناه أولا بذبح الولد وفديناه عن ولده عناية منا إياه والى ولده ثانيا قد بَشَّرْناهُ ثالثا بولد أخر مسمى بِإِسْحاقَ وجعلناه نَبِيًّا من الأنبياء معدودا مِنَ زمرة الصَّالِحِينَ لمرتبة الكشف واليقين
وَبالجملة بارَكْنا عَلَيْهِ اى كثرنا الخير والبركة على ابراهيم وَكذا عَلى ابنه إِسْحاقَ وَكثرنا نسلهما الى ان جعلنا مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ في الأعمال والأخلاق والأحوال ذو نفع كثير على عباد الله وفقراء سبيله وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ اى تارك لحظوظ نفسه من الدنيا مطلقا مُبِينٌ ظاهر مبالغ في الترك الى حيث يمنع عنها ضرورياتها ايضا منجذبا الى عالم اللاهوت منخلعا عن لوازم الناسوت مائلا نحو الحق بجميع قواه وجوارحه طالبا الفناء فيه والبقاء ببقائه ومنهم النبي صلّى الله عليه وسلّم والمرتضى كرم الله وجهه وابناه وأولادهما بطنا بعد بطن صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين إذ لم يلتفتوا الى حطام الدنيا ومزخرفاتها الا مقدار سد جوعة ولبس خرقة خشن
وَمن ذريتهما المكرمين المؤيدين من لدنا موسى وهارون لَقَدْ مَنَنَّا ايضا عَلى مُوسى وَهارُونَ أخيه منة عظيمة
وَذلك انا قد نَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما اى من آمن لهما من بنى إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(2/220)
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
الذي هو غلبة فرعون وذلك بان اغرقناه باليم
وَنَصَرْناهُمْ اى هما وقومهما على فرعون وملائه فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ عليهم بعد ما صاروا مغلوبين منهم
وَبعد ما صيرناهم غالبين آتَيْناهُمَا اى موسى وهارون الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وهو التورية الذي هو أبين الكتب وأوضحها في ضبط الاحكام الإلهية المتعلقة بنظام الظاهر
وَهَدَيْناهُمَا ايضا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الموصل الى الحق اليقين في مراتب التوحيد
وَمن كمال تكريمنا إياهما قد تَرَكْنا عَلَيْهِما وأبقينا ذكرهما بالخير فِي الْآخِرِينَ اللاحقين لهما من الأمم حيث يقولون في حقهما عند ذكرهما
سَلامٌ من الله وتحية منا عَلى مُوسى وَهارُونَ وذلك من جملة امتناننا عليهما وتكريمنا إياهما
إِنَّا من كمال جودنا ولطفنا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ المخلصين في حسناتهم وجميع حالاتهم وكيف لا نجزيهما خير الجزاء وأحسنه
إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيدنا المصدقين لاستقلالنا واختيارنا في ملكنا وملكوتنا
وَإِنَّ إِلْياسَ ابن ياسين من أولاد هارون أخ موسى لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ من عندنا المؤيدين بوحينا والهامنا اذكر يا أكمل الرسل
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ حين انحرفوا عن سبل السلامة وطرق الاستقامة بالظلم على عباد الله والخروج عن مقتضيات حدوده أَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن بطش الله ايها المفسدون المفرطون في الإشراك بالله والدعوة الى غير الله
أَتَدْعُونَ ايها الجاهلون بَعْلًا اى صنما مسمى به وترجعون نحوه في المهمات والملمات وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اى تتركون الدعوة والرجوع الى الحق الحقيق بالاطاعة والانقياد المستحق للعبودية والرجوع اليه في الخطوب والملمات
اللَّهَ بالرفع على الاستيناف وبالنصب على البدل وكذلك رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بنصب البائين ورفعهما على الخبر والبدل على القرائتين اى مربيكم ومظهركم من كتم العدم ومربى اسلافكم ايضا أفتعدلون عن عبادته وتعبدون الى ما لا ينفعكم ولا يضركم ظلما وزورا وبعد ما قد سمعوا منه دعوته الى التوحيد ورفض عبادة آلهتهم وقدحه إياها
فَكَذَّبُوهُ تكذيبا بليغا ولم يلتفتوا الى قوله ودعوته بل طروده وعزموا ان يقتلوه فَإِنَّهُمْ بشؤم تكذيبهم رسول الله وإبائهم عن دعوته الى التوحيد واتخاذهم الأصنام والأوثان آلهة دون الله شركاء معه في استحقاق العبادة والرجوع اليه في الوقائع لَمُحْضَرُونَ في العذاب الأليم مؤبدون في نار الجحيم ابد الآبدين
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ منهم المبادرين الى الايمان والتصديق بعد ما سمعوا دعوة الرسول بلا ميل منهم الى الإنكار والتكذيب
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ اى على الياس ايضا ذكرا جميلا فِي الْآخِرِينَ حيث يقولون حين ثنائهم عليه وتكريمهم إياه
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ وهو لغة في الياس كجبرين في جبريل
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ المستحفظين على عموم حدودنا وأحكامنا ومقتضيات أوامرنا ونواهينا وكيف لا نجزيه احسن الجزاء
إِنَّهُ مِنْ جملة عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ المتمكنين في مقر التوحيد واليقين الفائزين بمقام الكشف والشهود
وَإِنَّ لُوطاً ايضا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الفائزين بمرتبة حق اليقين اذكر يا أكمل الرسل المعتبرين من المؤمنين وقت
إِذْ نَجَّيْناهُ اى لوطا وَأَهْلَهُ اى أولاده واهل بيته أَجْمَعِينَ
إِلَّا عَجُوزاً وهي امرأته قد بقيت فِي زمرة الْغابِرِينَ الهالكين بالعذاب المنزل عليهم لشؤم فعلتهم الشنيعة المتناهية في القبح والشناعة
ثُمَ
بعد ما نجيناه واهله دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
من قومه وأهلكناهم أجمعين
وَإِنَّكُمْ
يا اهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
اى على اطلالهم ومنازلهم المنقلبة عليهم بشؤم فعلتهم وقت ترحالكم الى الشأم وهي على متن الدرب مُصْبِحِينَ(2/221)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
ان كنتم سائرين في اسفاركم في الليالى
وَبِاللَّيْلِ
ان كنتم سائرين في أيامكم يعنى ان سرتم ليلا تصبحون عندها وان سرتم نهارا تمسون دونها وبالجملة هي على طريقكم ايها المجبولون على العبرة والعظة أَفَلا تَعْقِلُونَ
تتفكرون وتتأملون فيما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم وانكارهم على رسل الله لتعتبروا منهم ومن اطلالهم ورسومهم المندرسة المنكوسة حتى لا تفعلوا مثل أفعالهم
وَإِنَّ يُونُسَ
ابن متى ايضا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
من عندنا المؤيدين بوحينا والهامنا اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ أَبَقَ
وهرب من نزول العذاب الموعود على قومه حين دعاهم الى الايمان والتوبة فلم يقبلوا منه دعوته ولم يجيبوا له فدعا عليهم وبعد ما قرب حلول العذاب عليهم خرج من بينهم هاربا حتى لا يلحقه ما لحقهم فلما وصل البحر ركب إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
المملوّ من الناس والأحمال والأثقال فاحتبست السفينة على أهلها فاضطروا فقال البحارون ان في السفينة عبدا آبقا فبادروا الى القرعة على ما هو عادتهم في أمثاله وبعد ما خرج القرعة باسم واحد من أهلها طرحوه في الماء فأخذت السفينة في الجري والذهاب
فَساهَمَ
اى قارع حينئذ أهلها فخرج باسم يونس فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
المغلوبين المغرقين بمقتضى القرعة وبعد ما خرجت القرعة باسمه تفطن يونس عليه السلام انه من الاختبارات الإلهية فقال انا العبد الآبق فرمى نفسه في الماء خوفا من غضب الله ومن شدة غيرته وحميته وتوطينا لنفسه على مقتضى قضاء الله مفوضا امره اليه سبحانه وبعد ما وصل الى جوف الماء
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ بالهام الله إياه على الفور وابتلعه وَهُوَ حينئذ مُلِيمٌ نفسه نادم على فعله الذي فعله بلا نزول وحى من ربه لذلك أخذ حينئذ يسبح ربه عما لا يليق بشأنه وبالجملة
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ المنكشفين بوحدة الحق وبكمال تنزهه عن سمة الكثرة مطلقا
لَلَبِثَ واستقر فِي بَطْنِهِ اى بطن الحوت إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وصار بطن الحوت له كالقبر لسائر الأموات وبالجملة لا نجاة له من بطنه ابدا ثم لما كان يونس عليه السلام من اهل التسبيح والتقديس ومن المنكشفين بوحدتنا واستقلالنا في شئوننا وتطوراتنا
فَنَبَذْناهُ وطرحناه من بطنه بِالْعَراءِ اى البادية الخالية عن مطلق الغطاء والغشاء الذي يظله من شجرة وغيرها عناية منا إياه ونجاة له وذلك بان ألهمنا الحوت أولا حين سقوطه في البحر بالتقامه فالتقمه بلا لحوق ضرر من الماء ثم الهمناه ان يخرج رأسه من الماء حتى يتنفس هو في بطنه الى ان يبلغ الساحل قيل لبث في بطنه يوما او بعض يوم وقيل ثلاثة ايام او سبعة وعشرين او أربعين فلما بلغ الساحل أخرجه الحوت من بطنه ولفظه الموج الى الساحل العاري عن الظل والشمس في غاية الحرارة وَهُوَ حينئذ سَقِيمٌ ضعيف قد صار بدنه كبدن الطفل حين يولد
وَبعد ما لم يكن له متعهد وليس هناك مظلة ولا شيء يحفظه من الحر والذباب قد أَنْبَتْنا عَلَيْهِ في الحال من كمال رحمتنا إياه وعطفنا معه شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وهي شجرة تنبسط على وجه الأرض ولها أوراق عظام بلا ساق تقوم عليه قيل هي الدباء فغطيناه بأوراقها وربيناه بظلها إذ ظلها من احسن الاظلال وأكرمها هواء وألهمنا ايضا الى وعلة وهي المعز الوحشي حتى جاءت وحضرت عنده صباحا ومساء وهو يشرب من لبنها الى ان قوى وتقوم مزاجه على الوجه الذي كان عليه
وَبعد ما ربيناه كذلك أَرْسَلْناهُ مرة اخرى إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ اى في بادى الرأى والنظر يعنى قد حكم الناظر عليهم على سبيل الظن والتخمين بأنهم مائة ألف او اكثر وهؤلاء الذين قد أرسل إليهم أولا وهرب منهم وهم اصحاب نينوى هي قرية(2/222)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
من قرى الموصل
فَآمَنُوا له وقبلوا منه دعوته بعد ان أرسل إليهم ثانيا فَمَتَّعْناهُمْ مؤمنين مصدقين موحدين إِلى حِينٍ اى الى انقضاء آجالهم ثم لما اثبت مشركوا مكة خذلهم الله المنزه عن مطلق الأشباه والأنداد ولدا بل أوضع الأولاد وأدناها وهي الأنثى ونسبوا الملائكة الذين هم من اشرف المخلوقات وأكرمها المنزهون عن لوازم الأجسام مطلقا الى الأنوثة التي هي من أخسها وأدونها وهم ابعد بمراحل عنها حيث قالوا ان الملائكة بنات الله ولم يكن له ابن وتمادوا على هذا الى حيث اتخذوا هذه العقيدة مذهبا وبالغوا في ترويجه رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده حيث امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالاستفتاء والاستفسار عن قولهم هذا ونسبتهم هذه فقال
فَاسْتَفْتِهِمْ وسلهم اى كفار مكة يا أكمل الرسل واستخبرهم على سبيل التوبيخ والتقريع أَيثبتون لِرَبِّكَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد الْبَناتُ اى أوضع الأولاد وأردئها وَلَهُمُ الْبَنُونَ اى لأنفسهم أكرمها وأحسنها تعالى سبحانه عما يقولون
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ اى أيظنون ويعتقدون انا قد خلقنا الملائكة الذين هم من سدنة سدتنا السنية وخدمة عتبتنا العلية إِناثاً وَهُمْ حين خلقناهم شاهِدُونَ حاضرون ليشهدوا انوثتهم ويبصروها مع انها لا مجال للعقل الى الاطلاع بانوثتهم ولم ينقل منا احد من الرسل والأنبياء هذا مع ان الحواس الاخر معزولة عن دركها مطلقا سوى البصر ومن اين يتأتى لهم الحضور معهم حتى يبصروا انوثتهم. ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والاستبعاد
أَلا اى تنبهوا ايها المؤمنون الموقنون بوحدة الله وبوجوب وجوده وتقدسه عن لوازم الإمكان مطلقا إِنَّهُمْ اى أولئك الضالين المغمورين في الجهل والطغيان مِنْ غاية إِفْكِهِمْ ونهاية غيهم وطغيانهم وعدوانهم لَيَقُولُونَ
وَلَدَ اللَّهُ الواحد الأحد المستغنى لذاته عن الأهل والولد قولا باطلا ظلما وزورا وَبالجملة إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في عموم ما يقولون وينسبون الى الله المنزه عن أمثاله مطلقا مقصورون على الكذب المحض بلا مستند عقلي او نقلي
أَصْطَفَى الْبَناتِ اى اتعتقدون ايها الجاهلون بقدر الله ووحدة ذاته المستغنية عن مطلق المظاهر والمجالى فكيف عن لوازم الحدوث والإمكان الذي هو من امارات الاستكمال والنقصان انه سبحانه مع كمال تعاليه وتقدسه قد اصطفى واختار لنفسه البنات المسترذلة الدنية عَلَى الْبَنِينَ الذين هم اشرف بالنسبة إليهن وأكمل خلقا وخلقا كمالا وعلما رشدا ويقينا
ما لَكُمْ اى ما شأنكم وما لحق بكم ايها المفسدون المفرطون كَيْفَ تَحْكُمُونَ على الله ما لا يرتضيه العقل ولا يقتضيه النقل
أَفَلا تَذَكَّرُونَ لا تتذكرون فانه سبحانه منزه عن اشرف الأولاد فكيف عن اردئها
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ حجة وبرهان نقلي مُبِينٌ واضح لائح في الدلالة على مدعاكم هذا
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
النازل عليكم من قبل الحق المثبت لدعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
وَمن افراطهم في حق الله وجهلهم بكمال ذاته وصفاته وأسمائه قد جَعَلُوا واثبتوا بَيْنَهُ سبحانه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ الذين هم مخلوقون من النار نَسَباً اى نسبة بالمصاهرة ويزعمون العياذ بالله انه سبحانه قد تزوج منهم امرأة فحصلت منها الملائكة وَالله لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ ايضا إِنَّهُمْ اى أولئك المفترين على الله بأمثال هذه المفتريات البعيدة عن جنابه سبحانه المستحيلة بذاته مراء وافتراء لَمُحْضَرُونَ في العذاب المخلد والنكال المؤبد بقولهم هذا ونسبتهم هذه وبالجملة
سُبْحانَ اللَّهِ وتقدس ذاته عَمَّا يَصِفُونَ به هؤلاء المهاندون الجاهلون
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(2/223)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
منهم وهم الذين ينكشفون بقدر الله ووحدة ذاته واستقلاله بوجوب الوجود ولوازم الألوهية والربوبية بلا شائبة شركة وتوهم مظاهرة وبعد ما قد ثبت تنزهه سبحانه عن مضمون ما تنسبون بذاته ايها المفترون المفرطون
فَإِنَّكُمْ ايها المعزولون عن مقتضى العقل الفطري والرشد الجبلي وَكذا ما تَعْبُدُونَ من دون الله من الأصنام والأوثان وسائر المعبودات الباطلة
ما أَنْتُمْ وآلهتكم عَلَيْهِ سبحانه بِفاتِنِينَ اى مفسدين معرضين صارفين عموم الناس عن عبادته وأطاعته سبحانه باغوائكم واغرائكم ضعفة الأنام وتغريركم إياهم بعبادة الأصنام
إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ اى الا المفسدين الذين قد حق عليهم القول من لدنه وجرى حكمه سبحانه ومضى قضاؤه بأنهم من اصحاب النار واهل الجحيم لا بد لهم بان يصلوها ويدخلوها بلا تردد وتخلف يعنى ما يفيد اضلالكم واغراؤكم الا هؤلاء المحكومين عليهم بالنار في أزل الآزال دون المجبولين على فطرة الإسلام والتوحيد ثم لما اتخذ بعض المشركين الملائكة آلهة واعتقدوهم بنات الله وعبدوا لهم كعبادته سبحانه رد الله عليهم حاكيا عن اعتراف الملائكة
وَكيف يليق بنا ان نرضى بما افترى المشركون علينا من استحقاق العبادة والشركة في الألوهية إذ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ في العبودية والتوجه نحو الحق مَعْلُومٌ معين مقدر من عنده سبحانه لا يسع له ان يتجاوز عنه بلا اذن منه سبحانه بل يلازم كل منا مقامه المقدر له بتقدير ربه متوجها اليه سبحانه منتظرا لأمره وحكمه بلا غفلة وفترة
وَإِنَّا معاشر الملائكة لَنَحْنُ الصَّافُّونَ على الاستقامة حول عرش الرحمن صفوف الناس في المساجد والعساكر عند السلطان لا يسع لاحد منا ان يتعدى مستقبلا او مستدبرا
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزهون المقدسون لله الواحد الأحد الصمد عن توهم الكثرة والشركة مطلقا الراسخون المتمكنون في مرتبة التنزيه والتقديس فكيف يتأتى منا ان نرضى بمفتريات اهل الزيغ والضلال بنا. عصمنا الله وعموم عباده عن زيغ الزائغين وضلالهم واضلالهم
وَإِنْ كانُوا اى قد كان أولئك الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال يعنى كفار قريش خذلهم الله لَيَقُولُونَ على سبيل التمني والتحسر تشنيعا وتعييرا على من مضى من الأمم السالفة
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ونزل علينا ذِكْراً كتابا مِنَ الْأَوَّلِينَ من جنس كتبهم اى كتابا سماويا من عند الله مثل كتبهم
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أخلصنا العبادة له ولا نتجاوز عن مقتضى ما جاءنا من عنده في كتابه ولا نتعدى مطلقا عن حكمه وحدوده وأحكامه ولا نهمل شيأ عن عظته وتذكيراته بل نعتبر من قصصه وأمثاله وبالجملة نعامل معه احسن المعاملة كمعاملة سائر اصحاب الكتب مع كتبهم ثم لما نزل عليهم من عند الله ما هو أكمل الكتب مرتبة ورشدا وهداية وأشملها حكما وأتمها فائدة وأبلغها حكمة وبرهانا وأوضحها بيانا وتبيانا
فَكَفَرُوا بِهِ وأنكروا عليه وعلى نزوله ومنزله وعلى من انزل اليه واعرضوا عنه وعن أحكامه واستهزؤا بمن انزل اليه وكذبوا رسالته وبالجملة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ آجلا وعاجلا جزاء ما يفعلون ويستهزؤن ويذوقون وبال ما ينكرون ويعرضون الا انهم هم المفسدون لأنفسهم ولكن لا يشعرون فسيعلمون اى منقلب ينقلبون
وَكيف لا يعلمون ولا يذوقون العذاب أولئك المسرفون المفرطون لَقَدْ سَبَقَتْ اى قد حقت وثبتت وصدرت على سبيل الوجوب منا كَلِمَتُنا المشتملة على الوعد والنصر لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ وهي قوله سبحانه كتب الله لأغلبن انا ورسلي وقوله ايضا
إِنَّهُمْ اى الرسل والأنبياء لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ المقصورون على النصر والغلبة على الأعداء البتة القاهرون(2/224)
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
القادرون على من غلبهم وظلمهم واستهزؤا معهم عنادا ومكابرة وكيف لا يغلب أولئك الأولياء على تلك الأعداء مع انهم من جندنا وحزبنا
إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
القاهرون على جنود الأعداء وأحزابهم المسلطون عليهم وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل مضمون وعدنا على عموم الأولياء من الرسل والأنبياء
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اى كفار قريش واعرض عن مما رأتهم ومخاصمتهم حَتَّى حِينٍ الى حين حلول العذاب الموعود المعهود من لدنا إياهم وَأَبْصِرْهُمْ العذاب إذا نزل عليهم عاجلا وهو عذاب يوم البدر فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ آجله في يوم الجزاء بأضعاف ما لحقهم عاجلا
أَينكرون قدرتنا على العذاب الآجل مع نزول العذاب العاجل عليهم يوم بدر فَبِعَذابِنا الآجل في يوم الجزاء يَسْتَعْجِلُونَ ويقولون متى هذا بعد ما سمعوا فسوف يبصرون آجله زيادة في يوم الجزاء بأضعاف ما لحقهم مع ان سوف للوعيد لا للبعيد اما يستحيون من الله فيستعجلون عذابه ولم يتفطنوا مما جرى عليهم وعلى أمثالهم عاجلا ولا يخافون من نزوله وحلوله بغتة
فَإِذا نَزَلَ وحل العذاب الآجل الموعود لهم بِساحَتِهِمْ وفناء دارهم وعرضتها وهذا كناية عن قربه وإلمامه بغتة فَساءَ وبئس الصباح حينئذ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ إذ أصبحوا معاجلين على انواع العذاب والنكال فلم يستعجلون بها أولئك الحمقى الجاهلون الهالكون في تيه الضلال والطغيان
وَبعد ما قد تمادوا في الغفلة والعدوان وبالغوا في العتو والعصيان تَوَلَّ عَنْهُمْ وانصرف عن مكالمتهم يا أكمل الرسل حَتَّى حِينٍ اى حين إلمام العذاب الموعود
وَأَبْصِرْ إياهم بعد ما الم ونزل بساحتهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ اى شيء يترتب على انكارهم وتكذيبهم يوم الجزاء أولئك الضالون المسرفون وانما كرره سبحانه تأكيدا ومبالغة في التهديد والتوعيد وتسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ثم أخذ سبحانه في التنزيه على نفسه مضافا الى حبيبه فقال
سُبْحانَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وتنزه ذاته عن مقتضيات التشبيه مطلقا وما نسبوا اليه سبحانه من امارات الإمكان وعلامات النقصان وكيف ينسبون الى رَبِّ الْعِزَّةِ والقدرة والغلبة والكبرياء والاستقلال التام والاستيلاء العام المنزه ذاته عن الاحاطة وصفاته عن العد والإحصاء تعالى عن التحديد والتوصيف سيما عَمَّا يَصِفُونَ به أولئك المسرفون المفرطون من اثبات الولد والإيلاد والاستيلاد
وَسَلامٌ من الله وبركاته عَلَى عباده الْمُرْسَلِينَ من عنده لتبيين توحيده وتقديسه وتعاليه عن احاطة مطلق المدارك والعقول
وَالْحَمْدُ والثناء من ألسنة جميع من يتأتى منه الحمد والثناء حالا ومقالا ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الصمد المنزه عن اتخاذ الأهل والولد رَبِّ الْعالَمِينَ يعنى الذين ظهروا من شئونه وتطوراته حسب أسمائه وصفاته ورباهم ايضا على حسبها اظهار الكمال قدرته وعموم احاطته. وعن المرتضى الأكبر المتحقق بمقام التسليم والرضا كرم الله وجهه انه قال من أحب ان يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه عن مجلسه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
خاتمة سورة الصافات
عليك ايها السالك المتحقق بجلال الحق وبكمال كبريائه واستغنائه عن عموم مظاهره ومصنوعاته واستيلائه على جميع ما ظهر وبطن من الأمور الكائنة المنعكسة ببروق تجلياته حسب أسمائه وصفاته المندرجة في شمس ذاته ان تلاحظ شئون الحق على هياكل الموجودات وتطالع ظهور كمالاته على(2/225)
صحائف الكائنات التي هي بالحقيقة كالمرايا لظهور آثار الأسماء والصفات الإلهية وتتفكر في خلق العلويات والسفليات وتتأمل في كيفية ارتباطاتها ورجوعها الى الوحدة الحقيقية وكيفية سريان الوحدة الذاتية عليها بلا حلول واتحاد واتصال وانفصال وحصول وانتقال وكذا عن كيفية انبساط اظلال الوجود الإلهية على ذرائر الأكوان وامتداداتها على مرايا الاعدام على سبيل التجدد والتقضي بلا طريان ضد وحلول فترة وانقطاع أصلا ومن تأمل ظهور الحق في الآفاق والأنفس على الوجه الذي تلى فقد تحقق بعزته وانكشف له الوحدة المحتوية على عموم الكثرات بلا توهم كثرة في ذاته المستغنى عن التعدد مطلقا فحينئذ قد ارتفع عن بصر شهوده غير الحق وشئونه ولا يرى في فضاء الوجود سوى الله موجودا ومشهودا فتمكن حينئذ في مقام التوحيد وأخذ في التنزيه والتقديس والتسليم والتكبير والتمجيد قائلا بلسان استعداده سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين المنبهين على مرتبة التوحيد والحمد لله رب العالمين
[سورة ص]
فاتحة سورة ص
لا يخفى على من تحقق بوحدة الحق واحاطته وشموله على عموم ما لاح عليه بروق شئونه ولوامع تجلياته الغير المحصورة ان الحقيقة الحقية المنزهة عن لوث التعينات وشوب الإضافات مطلقا وذلك انه لما أراد سبحانه ان يتجلى لذاته بذاته ويطالع أسماءه الحسنى وصفاته العليا التي قد اتصف بها ذاته على التفصيل حتى ينقلب ويصير حضوره شهودا وعلمه عينا تنزلت من مرتبة الاحدية المستهلكة دونها الكثرات مطلقا المتلاشئة عندها الإشارات والإضافات رأسا فالتفتت نحو العدم بعد ما أفاضت عليه خلعة الاستعداد والقبول فانعكس فيه من شئون الحق واشعة أنوار شمس ذاته ما لا يتناهى ابد الآباد من الصور والآثار الغير المتكررة فيتراءى هذا النظام المشاهد المحسوس من تلك الآثار والاظلال المنعكسة من شمس الذات وانبسط عليها بالاستقلال التام بلا مشاركة ولا مظاهرة فيوجد الكل به وله وفيه ويرجع الكل اليه رجوع الأضواء الى الشمس والأمواج الى البحر فمن خرج عن ربقة عبوديته بعد ما سمع كيفية ظهوره فقد لحق بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا وما ذلك الا بسبب جهلهم وضلالهم وما الباعث على خروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة بينهم بالوضع الإلهي المنبه به على السنة الأنبياء العظام والرسل الكرام الا من استكبارهم وتغررهم الحاصل لهم بتغرير سلطان اماراتهم عليهم وتضليلها إياهم وتلبيسها عليهم لذلك اقسم سبحانه بكتابه المجيد المنزل من عنده المشتمل على فوائد الكتب السالفة المنزلة من لدنه بان كفرهم وانكارهم بتوحيد الله وتصديق رسله وكتبه انما نشأ من استكبارهم في أنفسهم واستعلائهم على عباد الله وتفوقهم عليهم عدوانا وظلما ابتلاء من الله إياهم وافتتانا لهم على مقتضى أسمائه المقتضية للاذلال والإضلال إظهارا للقدرة الكاملة والحكمة الباعثة على وضع التكاليف المستلزمة للثواب والعقاب والإحسان والخذلان والانعام والانتقام فقال مخاطبا لحبيبه الذي اختاره لرسالته الى كافة البرايا بالدعوة العامة والتشريع التام الكامل للكمل المتمم لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم المتعلقة لسلوك طريق التوحيد بعد ما تيمن باسمه العظيم الجامع لجميع الأسماء والصفات بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى لحبيبه صلّى الله عليه(2/226)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)
وسلّم بمقتضى عموم أسمائه وصفاته فأرسله الى عموم البرايا وكافة الأمم وختم ببعثته امر التشريع والتكميل الرَّحْمنِ عليهم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم وإرساله إليهم رحمة للعالمين الرَّحِيمِ عليه بإيجاده وخلقه على خلق عظيم
[الآيات]
ص ايها الصفي الصافي مشربه عن الأمور المنافية لتوحيد الحق وصرافة وحدته الذاتية الصدوق الصادق في ادعاء الرسالة والنبوة بمقتضى الوحى الإلهي والهامه الصبور الصابر على متاعب الدعوة والتبليغ وحمل أعباء الرسالة وَحق الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ والبيان وانواع الدلائل والبرهان المنزل من عندنا عليك يا أكمل الرسل لتبيين احكام دين الإسلام وتحقيق شعائر التوحيد والايمان والتنبيه على مراتب الإحسان المنتهى الى الكشف والعيان ما الكفار المنكرون بك وبكتابك ودينك مطلعون عليك بعيب ونقصان وما لهم حجة يتشبثون بها او دليل يستدلون به على ما يشينك فيتبعونها
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عنا وعنك وعن كتابك لا سند لهم أصلا لا عقلا ولا نقلا بل هم في أنفسهم مغمورون مستغرقون فِي عِزَّةٍ كبر وخيلاء عند أنفسهم وَشِقاقٍ خلاف وجدال لنا ولك بعيد بمراحل عن توحيدنا وتصديقك وبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل حالهم لا تبال بهم وبخلافهم ومرائهم وكبرهم وخيلائهم أصلا اذكر
كَمْ اى كثيرا أَهْلَكْنا أمثالهم مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ اهل قَرْنٍ مغمورين في الكبر والخيلاء منهمكين في الخلاف والشقاق أمثالهم فَنادَوْا واستغاثوا متضرعين إلينا راجين منا عفونا إياهم حين أخذناهم بظلمهم بغتة وَلاتَ حِينَ مَناصٍ اى ليس حين الهلاك وقت تأخير ونجاة لهم وخلاص إياهم فلم نجبهم لذلك بمضى وقت الاختبارات والاعتبارات بل قد أهلكناهم واستأصلناهم ان في ذلك لعبرة لأولى الأبصار
وَمن شدة شقاقهم ونفاقهم قد عَجِبُوا بل تعجبوا اى اهل مكة من أَنْ جاءَهُمْ وأرسل إليهم رسول مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ومن جنسهم وبنى نوعهم يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم وَقالَ الْكافِرُونَ من كمال تعجبهم وشدة انكارهم هذا ساحِرٌ اى محمد صلّى الله عليه وسلّم وليس جميع ما اتى به وما أظهره في صورة المعجزة الخارقة للعادة الا سحر يسميه معجزة تغريرا وتلبيسا وفيما قد نسبه الى الوحى والإنزال كَذَّابٌ مبالغ في الكذب مستغرق فيه ثم لما اسلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه فشق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فازدحم صناديدهم عند ابى طالب فقالوا له أنت شيخنا وسيدنا وقد علمت ما فعل هؤلاء فاتيناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك فأرسل ابو طالب الى النبي صلّى الله عليه وسلم فاحضره معهم فقال يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل أنت كل الميل عن قومك فقال صلّى الله عليه وسلّم وماذا يسئلون قالوا له ارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك وعلى هذا نتعاهد معك عند عمك فقال صلّى الله عليه وسلم أتطيعوني في كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال ابو جهل أنطيعكها وعشر أمثالها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قولوا لا اله الا الله الواحد فنفروا من ذلك جميعا وقاموا قائلين على سبيل الإنكار والاستبعاد
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً فمتى يسع الا له الواحد للخلق الكثير إِنَّ هذا الذي يطلب هذا المدعى لَشَيْءٌ عُجابٌ اى عجيب بديع ابتدعه من تلقاء نفسه
وَبعد ما تنفروا من قوله وتعجبوا من طلبه انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ اى اشرافهم قائلين أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا اى اثبتوا وتمكنوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ وتصالحوا معه إِنَّ هذا الذي قد حدث بيننا وابتدع فينا لَشَيْءٌ يُرادُ بنا من شؤم الزمان وريبه ومالنا الا الصبر والثبات الى ان يتجلى(2/227)
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
الغياهب وترتفع النوائب مع انا
ما سَمِعْنا بِهذا اى بالتوحيد الذي يقوله هذا المدعى فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ التي هي النصرانية إذ النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة ولم ينقل منهم توحيد الإله ولا من الذين مضوا من ارباب الملل السالفة وبالجملة إِنْ هذا اى ما هذا التوحيد الذي ظهر به هذا المدعى إِلَّا اخْتِلاقٌ اى كذب قد اخترعه من تلقاء نفسه ونسبه الى الوحى افتراء ومراء قاصدا به التغرير والتلبيس على ضعفة الأنام
أَتعتقدون ايها العقلاء المتدربون بان أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على يتيم ابى طالب الذِّكْرُ اى الوحى والقرآن مِنْ بَيْنِنا مع انه مثلنا ومن بنى نوعنا بل هو أدون منا وأدنانا ونحن اشرف منه واكبر سنا واكثر أموالا واولادا وأكرم جاها وثروة وأعلى رئاسة وسيادة انما يقولون هذا على سبيل الإنكار والاستبعاد لا انهم معتقدون على الوحى والإنزال بل على وجه الفرض والمراء بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ وريب عظيم مِنْ ذِكْرِي ووحيي اليه والهامى إياه بل الى عموم المرسلين وانى هو بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ اى انما قالوا هذا وشكوا في الوحى وارتابوا فيه لأنهم لم يذوقوا عذابي ولو انهم ذا قوة لما قالوا فمن اين يحكمون هذا ويقولون ان الوحى لو نزل لنزل على رؤسائنا وساداتنا أهم يعلمون الغيب
أَمْ عِنْدَهُمْ اى عند أولئك البعداء المنهمكين في بحر الغفلة والضلال خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يا أكمل الرسل ومقاليد نعمه ومفاتيح كرمه ليكون لهم الخيرة في امره سبحانه فيعطونها من يشاء ويمنعونها عن من يشاء فكيف يحكمون على الْعَزِيزِ الغالب على امره في تصرفات ملكه وملكوته بالاستقلال والاختيار الْوَهَّابِ على من شاء وأراد بلا مشاورة ومظاهرة
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما اى أيدعون ان لهم التصرف في العلويات والسفليات والممتزجات وان ادعوا ذلك لأنفسهم فَلْيَرْتَقُوا وليصعدوا فِي عالم الْأَسْبابِ والسموات التي هي معارج الوصول الى منشأ الوحى والإلهام ومنبع النزول والإنزال فليأتوا بالوحي الى من أرادوا واختاروا وبالجملة من اين يتأتى لأولئك الكفرة الفجرة المقهورين الصاغرين الخيرة في امره سبحانه وحكمه بمقتضى قضائه حتى يتفوهوا عنه وعن أفعاله وأحكامه إذ لا يسع لاحد من أقوياء عباده ان يسأل عن فعله سبحانه مع ان أولئك الحمقى
جُنْدٌ ما شرذمة قليلة في غاية القلة هُنالِكَ اى في محل ومقام قد وضعوا ونصبوا أنفسهم بمعاداتك يا أكمل الرسل وصاروا متمكنين في ابعد الأمكنة وأعلى المرتبة على زعمهم مع انه هم في أنفسهم مَهْزُومٌ مغلوب مِنَ جميع الْأَحْزابِ إذ هم بالنسبة الى الكفرة الذين تحزبوا على رسل الله وأنبيائه في غاية القلة والضعف وهم مع كمال شدتهم وقوتهم ووفور شوكتهم وصولتهم قد انهزموا واستؤصلوا الى حيث لم يبق منهم احد على وجه الأرض فكيف هؤلاء اذكر يا أكمل الرسل وقت إذ
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ مع شدة قوتهم وقدرتهم أخاك نوحا عليه السلام فأغرقناهم أجمعين بالطوفان وَكذا كذبت عادٌ مع نهاية عتوهم وعنادهم أخاك هودا عليه السلام فأهلكناهم بالريح العقيم وَكذبت فِرْعَوْنُ اى هو وقومه مع انهم ذُو الْأَوْتادِ اى اصحاب الدولة الثابتة الراسخة التي قد ادعى فرعون بها الألوهية لنفسه أخاك موسى عليه السلام فأغرقناه وجنوده في اليم
وَايضا قد كذبت ثَمُودُ المتناهون في القوة والشدة أخاك صالحا عليه السلام فأهلكناهم بالصيحة الهائلة وَقَوْمُ لُوطٍ المتبالغون في الجحود والإنكار على الله وحدوده قد كذبوا أخاك لوطا عليه السلام فقلبنا عليهم ديارهم وأمطرنا عليهم حجارة فأهلكناهم بها وَكذبت أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أخاك شعيبا(2/228)
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
فاستأصلناهم كذلك وبالجملة أُولئِكَ البعداء المنحرفون عن صوب السداد والصواب هم الْأَحْزابُ الذين قد كذبوا الرسل وتحزبوا عليهم وقاتلوا معهم مع كونهم أشداء أقوياء فانهزموا عنهم بنصرنا إياهم فغلبوا هنا لك وانقلبوا صاغرين وبالجملة
إِنْ كُلٌّ اى ما كل من الأمم السالفة الهالكة المذكورة إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ المذكورين فَحَقَّ اى لزم وثبت لذلك ولحق عليهم عِقابِ اى انواع عذابي ونكالي عاجلا وآجلا
وَبالجملة ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ المعاندون المنكرون لدينك المكذبون لرسالتك وكتابك إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ينفخها اسرافيل في الصور باذن منا فيسمع هؤلاء الضالون فيموتون على الفور بلا توقف إذ ما لَها اى لتلك الصيحة واهلاكها وافنائها السامعين مِنْ فَواقٍ قرار ووقوف مقدار خروج النفس ورجوعه وهذا كناية عن سرعة نفوذ قضاء الله حين حلول عذابه عليهم الى حيث لا يسع فيه تميز التقدم والتأخر أصلا بل ينزل بغتة
وَبعد ما سمع كفار مكة أوصاف اهوال يوم الجزاء وافتراق الناس فيها فرقا وأحزابا بعضهم اصحاب يمين وبعضهم اصحاب شمال فيعطى لكل فرد كتاب قد كتبت فيه أعمالهم الصالحة والفاسدة فيحاسب كل على اعماله فيجازى على وفقها قالُوا مستهزئين متهكمين يعنى اهل مكة بعد ما سمعوا اهوال يوم الجزاء وافزاعها رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا اى قسطنا وحظنا ونصيبنا من العذاب المترتب على أعمالنا المثبتة في صحيفتنا المكتوبة فيها قَبْلَ حلول يَوْمِ الْحِسابِ ونحن نرضى بها وبالعذاب المستتبعة لها بلا حساب وبعد ما قالوا كذلك واستهزؤا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وضحكوا من قوله ونسبوه الى الخبط والجنون امر سبحانه حبيبه بالتصبر على مقاساة ما جاءوا به مما لا يليق بشأنه فقال
اصْبِرْ يا أكمل الرسل عَلى ما يَقُولُونَ لك وفي شأنك أولئك الجاهلون عنادا ومكابرة ولا تلتفت الى هذياناتهم ولا تحزن من أباطيلهم المستهجنة فعليك يا أكمل الرسل ان توطن نفسك على الصبر المأمور ولا تتجاوز عن مقتضاه ولا تتعب نفسك بالقلق والاضطراب والمجادلة معهم والمخاصمة إياهم الى ان نكف عنك شرورهم ولا تلتفت الى هواجس نفسك حتى لا تقع في محل الخطاب والعتاب وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ وما جرى عليه من العتاب الإلهي من عدم حفظ نفسه عن مقتضياتها ومشتهياتها حتى ابتلاه الله سبحانه بما ابتلاه مع انه كان ذَا الْأَيْدِ اى صاحب القدرة والقوة التامة الكاملة في الإطاعة والعبادة وحفظ النفس عن محازم الله ومنهياته وكيف لا يكون كذلك إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع الى الله والى مرضاته سبحانه في جميع حالاته ومن كمال رجوعه إلينا وحفظه لمرضاتنا
إِنَّا من مقام عظيم جودنا إياه قد سَخَّرْنَا الْجِبالَ له وجعلناها تحت حكمه الى حيث سارت مَعَهُ حيث شاء يُسَبِّحْنَ بمتابعته وموافقته حين صبح ونزه بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ اى بالليل والنهار يعنى ما دام يميل ويتوجه الى ربه مالت الجبال معه ازديادا لثوابه وتكثيرا لفوائده
وَكذا سخرنا له الطَّيْرَ اى جنس الطيور يجتمعن حوله مَحْشُورَةً على فنائه مسخرة لحكمه على قراءة النصب والطير محشورة عنده محكومة لأمره يسبحن بمتابعته بالغدو والآصال كتسبيح الجبال على قراءة الرفع وبالجملة كُلٌّ اى كل واحد من داود وكذا من الجبال والطيور بمتابعته لَهُ أَوَّابٌ اى لأجله رجاع الى الله مسبح له سبحانه مقدس عما لا يليق بشأنه على سبيل الاستمرار والدوام
وَمن كمال لطفنا وجودنا معه قد شَدَدْنا له مُلْكَهُ الظاهر اى قوينا استيلاءه وسلطناه على الأنام وألقينا هيبته وابهته على قلوبهم الى حيث لم يقدروا ان يخرجوا(2/229)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
عن مقتضيات الحدود الإلهية الموضوعة في شرعه خوفا من اطلاعه وسبب هيبته انه تحاكم عنده رجلان فادعى أحدهما على الآخر بانه غصب منه بقرة عدوانا وظلما فأنكر الآخر ولم يكن للمدعى بينة فاريناه في منامه غاية مناه إياه وتأييدا ان يقتل المدعى عليه ويحكم بالبقرة للمدعى فلما استيقظ كذب حلمه واستغفر فنام فاريناه مثل ذلك واستيقظ فاستغفر ثانيا فنام فرأى ثالثا مثل ذلك فتيقن انه من الله فهم ان يقتله تنفيذا لما الهم اليه فقال المدعى عليه أتقتلني بلا بينة فقال عليه السلام نعم والله لأنفذن حكم الله فيك فلما تفطن الرجل منه الجزم في عزمه اضطر الى الاعتراف حيث قال لا تعجل يا نبي الله حتى أخبرك والله ما أخذتني بهذا الذنب ظلما وزورا ولكني قد قتلت والد هذا المدعى اغتيالا وخداعا فقتله عليه السلام حدا وعظمت هيبته في قلوب الناس حتى انزجروا عن مطلق المحرمات والمنهيات خوفا من اطلاعه وقالوا لا نعمل شيأ الا وقد علمه فيقضى علينا حسب علمه هذا تقويتنا وتأييدنا إياه بحسب الظاهر وبمقتضى السلطنة الصورية وَاما بحسب الباطن والحقيقة قد آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ البالغة المتقنة التي يتصرف بها في حقائق الأمور ويطلع على سرائرها بنور النبوة والولاية الموروثة له من اسلافه الكرام الموهوبة إياه من الحكيم العلام تأييدا له وتقوية لشأنه وَقد آتيناه ايضا فَصْلَ الْخِطابِ اى قطع الخصومات على التفصيل الذي قد وقع بين المتخاصمين بلا حيف وميل الى جانب احد على ما هو مقتضى العدل الإلهي بالخطاب المفصل الموضح الواضح المقتصد بلا اختصار مخل واطناب ممل وبالجملة بلا إغلاق يشتبه مضمونه على المتخاصمين
وَهَلْ أَتاكَ وقد حصل عندك يا أكمل الرسل نَبَأُ الْخَصْمِ اى حديث الملكين المصورين بصورة الخصمين اللذين جاءا للحكومة عند أخيك داود عليه السلام حين اعتكف في محرابه للعبادة معتزلا عن الناس على ما هو عادته من تقسيم أيامه ثلاثة اقسام يوم لعيش النساء ويوم للحكومة وقطع الخصومة بين الأنام ويوم للتوجه نحو الحق والمناجاة معه سبحانه في محرابه وقد كان يوما في محرابه والباب مغلق عليه والحراس على الباب فجاء الملكان على صورة رجلين متخاصمين على الباب فمنعهما البواب فأخذا مستعليين المحراب اذكر خبر وقت إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ اى صعدوا على حائط المحراب واستعلوا على سوره بقصد الدخول عليه ثم اذكر
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ من غير الباب بان شق لهم الجدار فَفَزِعَ داود مِنْهُمْ واستوحش من دخولهم لا من الطريق المعهود وبعد ما تفرسوا منه الرعب والفزع قالُوا له تسلية وتسكينا لا تَخَفْ منا ولا تحزن عن إلمامنا إياك إذ نحن خَصْمانِ تحاكمنا إليك حتى تقضى بيننا قد بَغى اى ظلم وتعدى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ اى أحدنا على الآخر فَاحْكُمْ ايها الحاكم العادل العالم بَيْنَنا بِالْحَقِّ اى بالعدل السوى وَلا تُشْطِطْ اى لا تمل ولا تتجاوز عن مقتضى القسط الإلهي وَبالجملة اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ اى اعدل الطرق وأقوم السبل في سلوك طريق الحق ثم أخذا في تقرير المسألة وتحرير الدعوى فقال أحدهما
إِنَّ هذا أَخِي في الدين ورفيقي في سلوك طريق التوحيد واليقين لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وهي الأنثى من الضأن قد كنى بها العرب عن المرأة وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فقط فَقالَ لي عدوانا وظلما أَكْفِلْنِيها واجعلنى كافلا لها ومالكا إياها حتى تصير نعاجى مائة ولم تبق لك نعجة وَمع ذلك لم يقتصر على مجرد القول بل قد عَزَّنِي وغلب على فِي مضمون هذا الْخِطابِ المذكور بحجج لا اقدر على دفعه ولا اسع المقاومة معه وبعد ما سمع عليه السلام كلام المدعى وتأمل في تقريره قال(2/230)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
للمدعى عليه هل تصدقه فيما ادعاه عليك قال بلى ثم التفت عليه السلام نحو المدعى متعجبا مستبعدا عما جرى عليه من الظلم والعدوان حيث
قالَ تالله لَقَدْ ظَلَمَكَ هذا الظالم ظلما صريحا بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ هذه ليأخذها منك ويضيفها إِلى نِعاجِهِ ليكثرها بها ويخالطها معها حرصا منه الى تكميل مشتهيات نفسه الامارة بالسوء وَبالجملة لا تستبدع هذا الأمر ولا تستبعد منه هذا بل إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الذين خلطوا أموالهم وتشاركوا فيها لَيَبْغِي اى يظلم ويتعدى بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ظلما وزورا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله من الخلطاء واستقاموا على صراطه الموضوع من عنده على العدالة والاستقامة وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المرضية عنده سبحانه سيما في الأمور المتعلقة لحقوق عباده وَلكن قَلِيلٌ ما هُمْ اى هم قليل في الدنيا في غاية القلة والندرة وما مزيدة زيد لتأكيد القلة والإبهام ثم التفت عليه السلام الى المدعى عليه فقال له بعد ما سمع منه اعترافه ان رمت وقلت هذا هكذا مرة اخرى قد ضربنا وقطعنا منك هذا وأشار الى طرف انفه فقال المدعى عليه أنت ايها الحاكم أحق بذلك الضرب فنظر عليه السلام ولم ير أحدا وَحينئذ ظَنَّ بل تيقن داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ وابتليناه بالذنب الذي صدر عنه فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ عما جرى عليه من افتتان الله إياه وَخَرَّ سقط ساجدا من خشية الله بعد ما كان راكِعاً مكسور الظهر منكوس الرأس عن ارتكاب الذنب وَأَنابَ إلينا على وجه الندم والخجل مستحييا عنا مستوحشا عن سخطنا وغضبنا إياه
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ الذنب بعد ما قد أخلص في الانابة والرجوع إلينا بل جميع ذنوبه التي صدرت عنه هفوة وَكيف لا نغفر إِنَّ لَهُ اى لداود عليه السلام عِنْدَنا وفي ساحة قربتنا وحضرة عزتنا لَزُلْفى لقربة ومنزلة رفيعة وَحُسْنَ مَآبٍ اى خير مرجع ومنقلب من مقامات القرب ودرجات الوصول ثم لما عاتب سبحانه داود عليه السلام بما عاتب وقبل توبته بعد ما استغفر وأثاب أراد سبحانه من كمال خلوصه في توبته ورجوعه نحو الحق عن صميم طويته ان يشرفه بخلعة الخلافة فقال مناديا له إظهارا لكمال اللطف والكرم معه
يا داوُدُ المتأثر عن عتبنا التائب إلينا المنيب نحونا عن محض الندم والإخلاص إِنَّا بعد ما طهرناك عن لوث بشريتك وغفرنا لك ما طرأ عليك من لوازم هويتك ولو أحق ناسوتك قد جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد وانواع الفتن والعناد فلك ان تستخلف عليها نيابة عنا فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ المستحكمين منك المترددين إليك في الوقائع والخطوب ملتبسا بِالْحَقِّ السوى بلا ميل الى كلا طرفي الإفراط والتفريط على الوجه الذي وصل إليك في كتابنا صريحا واستنبطت أنت منه ضمنا وقياسا وَعليك انه لا تَتَّبِعِ الْهَوى مطلقا في حكوماتك وقطعك للخصومات بين الأنام يعنى عليك ان تراجع في عموم الاحكام الى كتابنا ولا تميل في حال من الأحوال الى ما تهويه نفسك ويقتضيه رأيك ويشتهيه قلبك مما يخالف الكتاب وان اتبعت اليه بعد ما نهيناك فَيُضِلَّكَ اتباعك إياه عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموصل الى توحيده المبنى على القسط الصرف والعدالة الخالصة الحقيقية الحقية وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد الذي قد استوى وتمكن على عروش عموم ما لمعت عليه بروق تجلياته بالقسط والاستقامة لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ يوم يرجعون الى الله ويحشرون الى عرصات العرض عليه بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ اى بسبب نسيانهم فطرتهم الاصلية وعهدهم الذي عهدوا مع الله فيها وانكارهم على تنقيد الحق أعمالهم في يوم البعث والجزاء(2/231)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
وضلالهم عن الايمان به وبجميع ما فيه من الأمور الاخروية
وَكيف لا نبعث الأموات ولا نحاسبها أعمالهم التي أتوا بها في دار الاختبار إذ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وجميع من فيها وما فيها وَالْأَرْضَ وجميع من عليها وما عليها وَكذا ما بَيْنَهُما من الممتزجات الكائنة فوق الأرض وتحت السماء باطِلًا عبثا بلا طائل ولا مصلحة تقتضيها الحكمة الباعثة على إظهارها مع انا ما كنا من العابثين اللاعبين وما يليق بشأننا ان ينسب أفعالنا الى العبث والبطلان والخلو عن الحكمة وبالجملة ذلِكَ القول ببطلان أفعالنا وخلوها عن الفائدة وعرائها عن الحكمة والمصلحة ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالحق العليم الحكيم واعرضوا عن الايمان به وأنكروا توحيده فاستحقوا بذلك الظن الفاسد أسوأ العذاب وأشد النكال فَوَيْلٌ عظيم وعذاب اليم لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ إذ هم في أوحش امكنة جهنم وأهولها واغورها
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ المسرفين فِي الْأَرْضِ اى بل ظنوا وزعموا من غاية جهلهم وسخافة فطنتهم ورأيهم انا نسوى في الرتبة بين ارباب الهداية والايمان واصحاب الضلالة والطغيان أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ بل زعموا واعتقدوا مساواة اهل المغفرة والتقوى مع اصحاب الغفلة والهوى في اودية الضلالات بمتابعة اللذات والشهوات. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل العظة والتذكير هذا
كِتابٌ جامع لفوائد الكتب السالفة مشتمل على زوائد خلت عنها تلك الكتب قد أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ ايها النبي الجامع لجميع مراتب الوجود من مقام عظيم جودنا معك ومع من تبعك من المؤمنين مُبارَكٌ كثير الخير والبركة على من امتثل بأوامره واجتنب عن نواهيه وانكشف بما فيه من الرموز والإشارات المنبهة الى التوحيد وإسقاط الإضافات والتخلق بصفات الحق وأخلاقه والاتصاف بمقتضيات أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى انما أنزلناه لِيَدَّبَّرُوا اى ليتدبروا المتدبرون المتفكرون في أساليب آياتِهِ الكريمة واتساق تراكيبه البديعة واقتضائها المعاني العجيبة المنتشئة المترشحة من بحر الذات حسب شئون الأسماء والصفات الظاهرة آثارها على وفق التجليات الحبية وَلِيَتَذَكَّرَ ويتعظ بعد ما تأمل وتدبر أُولُوا الْأَلْبابِ المستكشفون عن حقائق الموجودات ولباب الكائنات والفاسدات معرضين عن قشورها مطلقا
وَبعد ما كرمنا بتشريف خلعة الخلافة قد وَهَبْنا لِداوُدَ ولدا خلفا عنه وارثا لملكه وخلافته محييا اسمه ومراسم دينه ومعالم ملته يعنى سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان إذ هو مقبول عندنا مقرب في حضرتنا مكرم لدينا وكيف لا يكون كذلك إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلينا ملتجئ نحونا في عموم الأوقات وشمول الحالات على وجه الخلوص والتفويض التام اذكر يا أكمل الرسل كمال رجوعه وإخلاصه فيه وقت
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ وهو مشمر الى الغزو وعازم عليه مهيّأ لأسبابه متمكن على كرسيه بضبط العسكر وتهيئة آلات القتال الصَّافِناتُ من الخيل وهي التي تدور سريعا كالرحى على طرف حافر من حوافره ان أراد الراكب تدويره وهي من أجمل أوصاف الخيل وأكملها عند اصحاب القتال إذ المبارز كثيرا ما يحتاج الى تدوير فرسه يوم الوغا الْجِيادُ سريعة الجري والعدو وذلك انه قد جلس على كرسيه يوما بعد ما فرغ من ورده في الظهيرة لاعداد اسباب القتال الذي قصد الخروج اليه يومئذ وجمع عدده فأمر بعرض الخيول عليه فعرض فاشغله الالتفات والتوجه نحو الخيول عن ورد عصره فتذكر والشمس قد غربت فاغتم غما شديدا وتحزن حزنا بليغا بحيث لم يطرأ عليه مثله
فَقالَ من شدة أسفه وضجرته متأوها(2/232)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
لائما نفسه إِنِّي من غاية غفلتي عن ربي أَحْبَبْتُ الخيل حُبَّ الْخَيْرِ اى مثل حب الخير والتوجه المقرب نحو الحق لذلك الهانى الخيل عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ وفات عنى وردى الذي قد كنت عليه قبل غروب الشمس وبعد ما وقع من الغفلة ما وقع وفات ما فات من الورد تسارع الى التدارك والتلافي فأخذ يقطع عرق الباعث الى الإلهاء والاغفال فقال للشرطة
رُدُّوها اى الخيول الصافنات عَلَيَّ وكرّوها الىّ كرة اخرى فاعادوها عارضين ثانيا فَطَفِقَ وقرب سليمان عليه السلام وأخذ السيف الصارم بيده يمسح ويمضى مَسْحاً وإمضاء وملاصقا بِالسُّوقِ وهي جمع ساق وَالْأَعْناقِ يعنى أخذ بقطع قوائم الخيول ورؤسها ليزول حبها عن قلبه ويتصدق بها طلبا لمرضاة ربه وجبرا لما انكسر من ورده وعن المرتضى المجتبى كرم الله وجهه ان الضمير في ردوها راجع الى الشمس يعنى امر سليمان عليه السلام الموكلين على الشمس باذن الله ووحيه إياه ان يردوا بعد ما غربت ليأتى سليمان عليه السلام بورده فردوها واتى بما اتى وذلك من كمال كرم الله معه ولطفه إياه
وَمع كونه مقبولا عندنا ممدوحا لدينا لَقَدْ فَتَنَّا وابتلينا سُلَيْمانَ بفتنة عظيمة وَبعد ما فتناه بفتنة عظيمة أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ وأجلسنا بدله عليها جَسَداً تمثالا وصورة لا حقيقة لها ثُمَّ بعد ما ابتليناه بما ابتلينا قد أَنابَ وتاب إلينا مخلصا متضرعا فقبلنا توبته عناية منا إياه حيث
قالَ في مناجاته معنا وعرض حاجاته إلينا رَبِّ يا من ربيتني بمقتضى لطفك وجودك وأعطيتني من مواهبك ما لم تعط أحدا من خلقك اغْفِرْ لِي ذنبي فاعف عنى زلتى وارحمني بسعة رحمتك وجودك وَبعد ما غفرتنى ومحوت عنى معصيتي هَبْ لِي مُلْكاً كما وهبتني قبل هذا وخصصنى به بمقتضى جودك وإحسانك علىّ إذ لا يَنْبَغِي ولا يليق بشأنك وبمزيد لطفك وإحسانك ان تعطيه لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إذ لا راد لفضلك ولا مانع لعطائك إِنَّكَ أَنْتَ المحسن الْوَهَّابُ المنحصر المقصور على إعطاء عموم المواهب والكرامات بلا عوض ولا غرض إذ لا معطى سواك ولا مفضل غيرك وبعد ما توجه إلينا وتضرع نحونا على وجه الانابة والخضوع والتذلل والخشوع آتينا ملكه وأجرينا حكمه كما كان
فَسَخَّرْنا لَهُ بدل ما مسح من الصافنات الجياد لتعظيم أمرنا وقوة حكمنا الرِّيحَ بعد ما ابتليناه وقبلنا توبته وجعلناها مقهورة له محكومة بحكمه بحيث تَجْرِي بِأَمْرِهِ منقادة له رُخاءً لينة هينة بلا تضعضع وتزعزع يتعب منه الراكب حَيْثُ أَصابَ اى تجرى الريح بامره الى أىّ صوب أراد وجانب قصد
وَايضا قد سخرنا له الشَّياطِينَ وجعلناهم منقادين لحكمه كُلَّ بَنَّاءٍ منهم سيبنى له ابنية عجيبة وقصورا مشيدة منيعة وحصونا محكمة بحيث لا يسع للانس ان يعمل مثلها وَكذا كل غَوَّاصٍ منهم ليغوص لأجله في لجج البحار ويستخرج بخزانته من اللئالئ النفيسة ما لا يعد ولا يحصى
وَآخَرِينَ من الشياطين وهم المردة الممتنعون عن الإطاعة والانقياد قد جعلناهم مُقَرَّنِينَ مشدودين محبوسين فِي الْأَصْفادِ اى القيود والأغلال المضيقة بمقتضى امره وحكمه. ثم قال سبحانه امتنانا عليه وتنبيها على تعظيمه وتكريمه
هذا المذكور من الحكومة والخلافة والتسخيرات السالفة عَطاؤُنا عليك يا من اصطفيناك لوراثة النبوة والخلافة فَامْنُنْ منه لمن شئت واجعل حق المستحقين موضعه أَوْ أَمْسِكْ لنفسك(2/233)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
ولا تعط أحدا يعنى لك الخيار والاختيار في المنع والإعطاء بِغَيْرِ حِسابٍ منا عليك وسؤال عن فعلك إذ امره مفوض إليك
وَكيف لا إِنَّ لَهُ اى لسليمان عليه السلام عِنْدَنا وفي ساحة عز حضورنا لَزُلْفى قربة ودرجة قريبة من درجات الوصال وَحُسْنَ مَآبٍ اى خير مرجع ومنقلب من مراتب التمكن في التوحيد والتقرب في مقر القبول
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل عَبْدَنا أَيُّوبَ هو ابن عيص بن اسحق وامرأته ليا بنت يعقوب اضافه سبحانه الى نفسه لكمال رضاه منه ولطفه معه حيث صبر على عموم ما مضى عليه من بلائه وجرى عليه من قضائه وشكر على جميع نعمائه وآلائه ولم ينقص من إخلاصه حالتي السراء والضراء شيء واذكر يا أكمل الرسل كمال تصبر أخيك أيوب وإخلاصه في توجهه إلينا للمتذكرين المعتبرين من أمتك كي يتذكروا من قصته ويتخلقوا من تصبره وتمكنه في مقر التفويض والتسليم
إِذْ نادى رَبَّهُ الذي رباه بين الخوف والرجاء وانواع العناء والعطاء اختبارا لكمال اصطباره ووقاره بما جرى عليه من مقتضيات الإمكان حين اضطراره الى الالتجاء نحو ربه والتضرع اليه أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ اى قد نفخ اللعين في فىّ وأحاط ضرر نفخه جميع أجزاء بدني بحيث لم يبق منى عضو لم يلحقه ضرر من شؤم نفخه وعذاب شديد مؤلم مزعج وبالجملة قد اضطرني هجوم العناء ونزول انواع المحن والبلاء الى بث الشكوى نحوك يا مولاي فانا عبدك وعلى عهدك ما استطعت وما توفيقي الا بك وما ثقتي الا عليك فارحمني بسعة رحمتك إذ لا راحم سواك ولا مغيث غيرك وبعد ما استغاث بنا مخلصا مضطرا راجيا الاجابة والقبول قد أدركته العناية وشملته الرحمة والكرامة من لدنا حيث قلنا له ملهمين إياه
ارْكُضْ واضرب بِرِجْلِكَ على الأرض فركض امتثالا للأمر الوجوبي فنبعت عين جارية ثم قلنا له تعليما وتنبيها هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ يبرد ويبرئ ظاهر جسدك وجلدك من الحرارة العارضة لبدنك من شؤم نفث عدوك الذي خلق من عنصر النار وَشَرابٌ شاف لباطنك من الداء الذي عرض عليك من انحراف مزاجك بسبب خروج اخلاطك عن الاعتدال الفطري بشؤم نفخه وبعد ما سمع أيوب ما سمع اغتسل منه فشرب وبرئ من المرض ظاهرا وباطنا وَبعد ما قد حصل له الصحة والنظافة عناية منا إياه وسقط ساجدا نحونا حامدا لنا شاكرا لأنعمنا مناجيا معنا مخلصا متضرعا
وَهَبْنا لَهُ تتميما لكمال لطفنا إياه وعنايتنا معه أَهْلَهُ اى جميع من مات من أولاده بسقوط السقف وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ يعنى بل وهبنا له إحسانا عليه وامتنانا منا إياه مثل اهله مع اهله وانما فعلنا معه كذلك بعد ما قد ابتليناه واختبرناه ليكون رَحْمَةً مِنَّا إياه وعظة وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ الذين يتذكرون بقصته بعده ويتخلقون بأخلاقه ليفوزوا بما فاز به
وَبعد ما صححناه من الأسقام ووهبنا له اهله وماله وزدنا عليه مثله تفضلا منا إياه أمرناه ثانيا تعليما له بان يتدارك قسمه وحلفه الذي قد حلف في مرضه حين ذهبت امرأته ليا او رحمة بنت أفرائيم بن يوسف لحاجة لها فابطأت قائلا ان برئت عن مرضى لأضربنك مائة جلدة وقلنا له تعليما خُذْ بِيَدِكَ لتدارك حلفك ضِغْثاً حزمة مشتملة على مائة اغصان صغار فَاضْرِبْ بِهِ اى بالضغث امرأتك مرة بحيث وصل اثر جميع ما في الحزمة من الاغصان إليها وَلا تَحْنَثْ حينئذ في حلفك فحللنا يمينك بها عناية منا لك ولا مرأتك فصارت هذه رخصة شرعية باقية في شرائع الأديان الى الآن وكيف لا نزيل شكواء ولا نحسن اليه ولا نجزيه احسن الجزاء إِنَّا وَجَدْناهُ(2/234)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)
اى أيوب عبدا صابِراً لجميع ما هجم عليه من انواع البلايا المتعلقة بماله وأولاده وبدنه وبالجملة نِعْمَ الْعَبْدُ عبدنا أيوب الصبور الصبار المسلم المفوض بلا جزع وتزعزع فكيف يجزع إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلينا متشمر نحونا في عموم أوقاته وحالاته طالب للفناء فينا والبقاء ببقائنا
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل عِبادَنا الذين هم أجدادك واسلافك إِبْراهِيمَ وَابنه إِسْحاقَ وَسبطه يَعْقُوبَ واذكر من شمائلهم الجميلة وخصائلهم الحميدة ليتعظ من سماعها ذوو العبرة والاعتبار من المؤمنين ويقتدون بمآثرهم لأنهم قد كانوا أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ اى ذوى القوة في الطاعة والبصيرة في مراسم الدين ومعالم التوحيد واليقين ولهم التمكن في مقر المعرفة والوصول الى درجات التجريد والتفريد ولا بد للذين يلونهم ان يقتدوا بهم ويسترشدوا من أخلاقهم وآثارهم ويتصفوا باوصافهم كي يفوزوا بمعارفهم وينكشفوا بمكاشفاتهم ومشاهداتهم لأنهم قدوة اصحاب التوحيد وزبدة ارباب الكشف والشهود وكيف لا
إِنَّا من مقام عظيم جودنا معهم أَخْلَصْناهُمْ وجعلناهم مخصوصين بِخالِصَةٍ اى بخصلة خالصة عن كدر التعلقات الناسوتية خالية عن شوب مقتضيات القوى البشرية العائقة عن التحقق بمرتبة اللاهوتية ألا وهي ذِكْرَى الدَّارِ الآخرة التي هي مقام التمكن في مقر التوحيد ومحل الانكشاف بسرائر الوحدة الذاتية وسريانها في ملابس الأسماء والصفات المقتضية للتعدد والتكثر
وَبالجملة إِنَّهُمْ اى أولئك الأنبياء العظام الساعين لطلب الخير في طريق الدين ورتبة اليقين عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ المختارين المنتخبين لحمل أعباء الرسالة الْأَخْيارِ المنتخبين الصالحين للاتصاف بسرائر التوحيد واليقين
وَاذْكُرْ ايضا يا أكمل الرسل جدك إِسْماعِيلَ ابن ابراهيم الخليل وتذكر تصبره ورسوخه في مقام التفويض والتسليم راضيا بما جرى عليه من مقتضيات حكم ربه مع انه لم يبلغ الحلم وَاذكر ايضا الْيَسَعَ هو ابن اليحطوب استخلفه الياس النبي عليه السلام على بنى إسرائيل ثم استنبئ وَذَا الْكِفْلِ هو ابن عم اليسع المذكور او بشر بن أيوب قيل انما لقب به لأنه فرّ اليه مائة نبي من بنى إسرائيل فآواهم وكفلهم وَكُلٌّ اى كل واحد من الأنبياء المذكورين معدود عندنا مِنَ الْأَخْيارِ الأبرار مثبت في حضرة علمنا ولوح قضائنا من زمرتهم
هذا الذي تلى عليك من الأمر بتذكير أولئك الثقات الكرام ذِكْرٌ جميل واثبات شريف وكمال لهم انما ذكرناهم وأمرنا بذكرهم يا أكمل الرسل تنبيها على جلالة قدرهم وعظم شأنهم وَبالجملة إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ المجتنبين عن محظوراتنا المتصفين بمأموراتنا الطالبين لمرضاتنا الهاربين عن مساخطنا وانتقاماتنا لَحُسْنَ مَآبٍ عندنا وخير منقلب ومتاب في كنف حفظنا وجوارنا وساحة عز قبولنا
جَنَّاتِ عَدْنٍ عطف بيان لحسن مآب وهي عبارة عن درجات القرب الى الوحدة الذاتية وتجددات التجليات الشهودية على ارباب الكشف والعيان ولكمال تحفظهم عن مقتضيات القوى ومشتهيات الهوى وخلوصهم في التوجه نحو المولى قد صارت الجنات المذكورة مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ مفتوحة الطرق واضحة السبل بالنسبة إليهم يدخلون فيها من كل باب بلا منع وحجاب وبعد دخولهم فيها وتحققهم دونها قد صاروا
مُتَّكِئِينَ فِيها متمكنين على ارائك القبول وسرر الإخلاص ولهم فيها ما تشتهي قلوبهم من المعارف المتجددة بتجدد التجليات الحبية المنبعثة من حضرة الرحموت إذ يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ من انواع ما يتفكهون ويتلذذون علما وعينا وحقا وَشَرابٍ يشربون من رحيق الحق وكأس التحقيق ولا يردون
وَ(2/235)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
يصور عِنْدَهُمْ من أعمالهم المقبولة وأحوالهم المرضية ومقاماتهم العلية في سلوك طريق التوحيد ازواج أبكار قاصِراتُ الطَّرْفِ عليهم بحيث لا ينظرن الى غيرهم أَتْرابٌ احداث كلهن مستويات في السن ليس فيهن تفاوت لصغر ولا كبر بل كلهن على كمال اللطافة والعدالة إذ كل ما فيها انما هو على كمال الاعتدال وبعد ما تمكنوا فيها وترفهوا بنعمها قيل لهم من قبل الحق امتنانا عليهم وتشويقا
هذا الذي بين أيديكم من النعم المقيمة واللذة الدائمة ما تُوعَدُونَ بألسنة الكتب والرسل لِيَوْمِ الْحِسابِ اى لأجله او فيه إذ لا وصول إليها الا بعد الحساب. ثم قال سبحانه إظهارا لكمال قدرته على عموم الانعام والانتقام
إِنَّ هذا المذكور لَرِزْقُنا المعد لخواص عبادنا المنجذبين إلينا بانخلاعهم عن لوازم هوياتهم الباطلة وعن مقتضيات تعيناتهم العاطلة من المآكل والمشارب والمناكح الفانية فنستبدل لهم بدلها رزقا معنويا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ اى لا انقطاع له أصلا خذ
هذا ايها المتشمر نحو الحق والراغب الى ما عنده من موائد الانعام والإفضال وكما تفضلنا على المطيعين بأنواع التعظيم والتنعيم وكرمناهم بأصناف الكرامة والتكريم قد انتقمنا ايضا عن العاصين الجاحدين وَبالجملة إِنَّ لِلطَّاغِينَ الذين طغوا علينا بالخروج عن مقتضيات حدودنا الموضوعة فيهم المنبهة الى مبدأهم ومعادهم لَشَرَّ مَآبٍ وأسوأ منقلب ومتاب على عكس المطيعين المتقين يعنى
جَهَنَّمَ البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان يَصْلَوْنَها ويدخلون فيها بأنواع الحسرات والزفرات بين اصناف العقارب والحيات وانواع الهوام والحشرات المصورة لهم من سيئات أعمالهم التي قد أتوا بها في دار الاختبار ونشأة الاعتبار وبالجملة فَبِئْسَ الْمِهادُ والفراش مهد اصحاب الجحيم وفراشهم
هذا منقلبهم ومآبهم ثم لما دخلوا في النار قيل في حقهم من قبل الحق مخاطبا لخزنة جهنم فَلْيَذُوقُوهُ اى كل واحد واحد منهم نزلا لهم شرابا وهو حَمِيمٌ اى الماء الحار الذي يشوى وجوههم ويحرق أمعاءهم قد سخنه نيران شهواتهم التي أتوا بها على خلاف ما امر الله وحكم عليه وَغَسَّاقٌ اى الماء البارد الزمهريرى الذي ينجمد في فيهم بل في أجوافهم قد برده واجمده كمال بلادتهم وجهلهم بالله الحكيم العليم وغفلتهم عما وضع سبحانه من بينهم الحدود والاحكام الصادرة عن محض الحكمة المتقنة المتعلقة لإصلاح احوال عباده
وَآخَرُ مفردا ايضا مِنْ شَكْلِهِ اى من جنس الشراب المذوق ومثله او أخر جمعا من أنواعه واصنافه على القرائتين أَزْواجٌ اصناف وانواع بعضها أسوأ من بعض ليكون عذابا فوق عذاب ثم لما اقتحم القادة من اصحاب النار وادخلوا أنفسهم عليها خوفا من الموكلين الذين يسوقونهم نحوها بمقامع من حديد وازدحم عقيبهم اتباعهم على الفور فضيقوا على القادة مكانهم فصرخوا على الخزنة من تضييقهم قال الخزنة لهم بعد ما سمعوا صراخهم وصيحتهم
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ معقبين مضيقين عليكم فالتفتوا أثرهم فقالوا هؤلاء اتباعنا لا مَرْحَباً بِهِمْ ولا يوسع عليهم إِنَّهُمْ ايضا صالُوا النَّارِ اى داخلوها أمثالنا ثم لما سمع الاتباع قول القادة والرؤساء هذا
قالُوا على سبيل المعارضة والمخاصمة بَلْ أَنْتُمْ ايها الضالون المضلون أحقاء ان يقال لكم لا مَرْحَباً بِكُمْ إذ أَنْتُمْ بشؤم اضلالكم واغرائكم قد قَدَّمْتُمُوهُ لَنا اى الكفر الذي هو سبب دخول النار وابدعتموه أنتم أولا بيننا ثم اغويتمونا أنتم بتغريركم وتضليلكم حتى كفرنا نحن مثلكم بسعيكم وابتلينا بها أمثالكم فَبِئْسَ الْقَرارُ اى بئس مقرنا ومقركم اليوم جهنم الطرد وسعير الحرمان وبعد ما بالغ الاتباع في تعيير القادة وتشنيعهم تضرعوا نحونا داعين على(2/236)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
رؤسهم حيث
قالُوا رَبَّنا يا من ربانا على فطرة التوحيد وأشركنا بك بشؤم هؤلاء المشركين المضلين نرجو اليوم من عدلك مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا ودلنا عليه بتغريره وتضليله فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً اى ضعف عذابنا فِي النَّارِ إذ نحن ضالون وهم الضالون المضلون
وَقالُوا اى الرؤساء القادة بعد ما قد توغلوا في انواع العذاب على سبيل التحسر والتقريع على أنفسهم ما لَنا أى شيء عرض لنا ولحق بأبصارنا حيث لا نَرى رِجالًا فقراء ارذالا أذلاء بيننا قد احاطتهم انواع الفاقة والعناء لذلك قد كُنَّا نَعُدُّهُمْ ونخصهم مِنَ جملة الْأَشْرارِ الأرذال الساقطين عن درجة الاعتبار وكنا قد بالغنا في طردهم وذبهم وزجرهم حيث (2)
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا واستهزأنا بهم تهكما وتقرعا وبالجملة لا نرى اليوم منهم أحدا في النار أهم ما يدخلون النار كما هو زعمهم ودعواهم أَمْ هم ايضا داخلون لكن قد زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ اى قد مالت عن رؤيتهم أبصارنا من شدة اهوالنا واحتجبوا منا يعنون فقراء المسلمين الذين قد استرذلوهم واستهزؤا بهم. ثم قال سبحانه على سبيل المبالغة والتأكيد
إِنَّ ذلِكَ الذي قد حكينا لك يا أكمل الرسل من اهل النار لَحَقٌّ صدق ثابت مطابق للواقع لا بد ان يتكلموا به حين دخولهم فيها وبالجملة ما هذا الذي سمعت الا تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ في النار على الوجه الذي ذكر ثم لما بالغ سبحانه في حقية ما حكى من اهل النار امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بان بلغ للأنام التوحيد المبعد لهم عن النار والعذاب المؤبد فيها فقال
قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين المستحقين لعذاب النار انقاذا لهم عنها ان قبلوا منك قولك إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ لكم باذن الله ووحيه عن أمثال ما ذكر من العذاب في النشأة الاخرى وَاعلموا انه ما مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويرجع اليه في الخطوب ويلتجأ نحوه في النوائب والمصائب إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لا شريك له في الوجود ولا شيء غيره في الشهود الْقَهَّارُ للاغيار مطلقا إذ كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الاظلال الى الشمس والأمواج الى البحر وكيف لا هو سبحانه بتوحده واستقلاله
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا اى مظهر كل ما في العلو والسفل وكذا ما في حشوهما والمحاط بهما إذ الكل منه بدأ واليه يعود وكيف لا وهو الْعَزِيزُ الغالب على امره في خلقه وحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الْغَفَّارُ الستار المحاء لهويات الأغيار وهياكل الاظلال الغير القار
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد بينت لهم توحيد الحق واستقلاله في تصرفاته وتدبيراته هُوَ اى الذي قد بلغت لكم بوحي الله من احاطة الحق وشموله بجميع ما لمعت عليه بروق تجلياته نَبَأٌ عَظِيمٌ وخبر خطير قد أخبركم به الحق ونبهكم عليه من كمال أعطافه واشفاقه لينقذكم به عن عذابه المترتب على كفركم وشرككم أَنْتُمْ من كمال توغلكم في الجهل والضلال عَنْهُ مُعْرِضُونَ مع انه انفع لكم وأصلح بحالكم وهو سبحانه اعلم بشأنكم منكم وبمقتضى علمه بحالكم انزل كتابه عليكم ليرشدكم الى جهة معرفته ووجهة توحيده وما على الا تبليغ ما اوحى الى كسائر الرسل إذ
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ اى ما حصل عندي وما ثبت لدى من علم متعلق منى بِالْمَلَإِ الْأَعْلى اى الملائكة السماويين سيما وقت إِذْ يَخْتَصِمُونَ في خلافة آدم ونبوته ونيابته بل قد الهمنى الله بوحيه عموم ما جرى بينهم من الحجج والمعارضات الواقعة في تلك الحالة وفي افحامهم بعد جدا لهم واصطفاء الله إياه وأمرهم بسجوده تعظيما له وتكريما وبالجملة
إِنْ يُوحى اى ما يوحى إِلَيَّ من عند ربي إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(2/237)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)
اى لانما انا منذر لكم من ان يفتنكم الشيطان وجنوده المرتكزة في هياكلكم فيضلونكم عن سبل السلامة وطرق الاستقامة الموصلة الى وحدة ذات الحق وكمال أسمائه وصفاته اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ قالَ رَبُّكَ الذي رباك على مقتضى الجمعية المنتهية الى الوحدة الذاتية التي قد جئت أنت لإظهارها وإيضاح منهجها لِلْمَلائِكَةِ المهيمين بمطالعة وجهه الكريم على سبيل المشورة معهم ليظهر كرامة آدم وجلالة قدره إِنِّي بمقتضى بدائع صنعتي وغرائب حكمتى وقدرتي خالِقٌ اى مظهر موجد بَشَراً اى جسدا متخذا مِنْ طِينٍ ليكون مرآة لي يتراءى عموم أوصافي وأسمائي
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وعدلت قالبه على الوجه الذي جرى في حضرة علمي ولوح قضائي وَنَفَخْتُ فِيهِ بعد تسويته وتعديله مِنْ رُوحِي اى أفضت من حياتي ومن مقتضيات أسمائي وصفاتي ليستحق بخلافتى ونيابتي ويظهر فيه ومنه أسمائي وصفاتي فَقَعُوا لَهُ وخروا عنده أنتم ايها الملائكة تعظيما له وتكريما ساجِدِينَ متذللين له واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان دونه ثم لما سمع الملائكة منه سبحانه ما سمعوا
فَسَجَدَ له الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ امتثالا للأمر الوجوبي
إِلَّا إِبْلِيسَ المعدود من عدادهم المنخرط في سلكهم قد اسْتَكْبَرَ عن سجوده وتعظيمه وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ بترك الانقياد للأمر الوجوبي الإلهي ثم لما امتنع إبليس عن اطاعة آدم وتعظيمه مع ورود الأمر الوجوبي من قبل الحق
قالَ سبحانه معاتبا عليه مناديا له سائلا عن سبب امتناعه يا إِبْلِيسُ المستكبر المتخلف عن أمرنا ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ اى أى شيء منعك عن السجود المأمور به لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وصورته بقدرتي وبمقتضى حكمتى وبكمال حولي وقوتي ليكون مرآتى ويليق بخلافتى وخلتي أَسْتَكْبَرْتَ أنت عن اطاعة حكمنا وامتثال أمرنا أَمْ كُنْتَ أنت قد احتسبت نفسك مِنَ الْعالِينَ المعتوقين المتفوقين عليه بحيث لا تجوز لنفسك ان تذلل عنده وتنقاد له وبعد ما سمع اللعين منه سبحانه ما سمع من الخطاب الهائل المشتمل على انواع العتاب
قالَ اللعين بعد ما اختار الشق الثاني من الترديد أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ صورة ومادة إذ قد خَلَقْتَنِي أنت بكمال قدرتك مِنْ نارٍ هي أعلى العناصر وارفعها قدرا ومكانا وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ هو أسفل العناصر وارذلها قدرا وأدناها مكانا والأمر بسجود الأفضل الأعلى للارذل الأدنى غير موافق ومطابق لحكمتك المتقنة يا ربي ثم لما قد خرج إبليس عن ربقة الإطاعة التعبدية واتى بالحجة الاقناعية الجدلية
قالَ سبحانه مغاضبا عليه من كمال غيرته وقهره من اين يطيق احد من مظاهره ومصنوعاته ان يخالف امره ويحتج عليه اذله الحجة البالغة فَاخْرُجْ مِنْها من رتبة الملكية وأعلى مرتبة العبودية فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مرجوم مطرود عن سعة رحمتنا وشرف عز حضرتنا
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي اى طردي وتبعيدى عن ساحة عز قربتي مستمرة عليك إِلى يَوْمِ الدِّينِ وبعد ذلك عذابك مؤبد في النار وأنت مخلد فيها ابد الآبدين ثم لما قنط إبليس عن روح الله ومن سعة رحمته
قالَ بعد ما ايس مناجيا رَبِّ يا من رباني على فطرة الإطاعة والانقياد فعصيت أمرك بشؤم عجبي ونخوتى فَأَنْظِرْنِي وأمهل على بعد ما قد بعدتنى عن كنف قربك وجوارك وطردتني عن محل كرامتك وجودك إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
قالَ سبحانه فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو وقت النفخة الاولى وبعد ما انظره سبحانه وأنجح مسئوله
قالَ إبليس مقسما مبالغا في التهديد لبنى آدم فَبِعِزَّتِكَ وجلالك لَأُغْوِيَنَّهُمْ اى لأضلن بنى آدم عن جادة التوحيد وصراط العدالة(2/238)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
أَجْمَعِينَ إذ لا يسع لهم وليس في وسعهم ان يسدوا سنن مداخلى فيهم وطرق مخادعتي إياهم
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ألا وهم المؤمنون الموقنون المخلصون الذين قد أخلصوا في عموم أعمالهم وأحوالهم معك واعتصموا بحبل توفيقك راجين من رحمتك ورضوانك هاربين مرعوبين عن مقتضى سخطك وغضبك بلا ميل لهم الى ما يلهيهم ويشغلهم عنه
قالَ سبحانه في جوابه اظهار الكمال الاستغناء والقدرة فَالْحَقُّ الثابت المثبت ما قلت لك في هذه النشأة يا ملعون من الطرد والتبعيد وانظارك فيما بينهم للاختبار والاعتبار وَالْحَقَّ أَقُولُ اى أقول الحق ايضا فيما يترتب على اغرائك واغوائك إياهم واتباعهم لك في هذه النشأة وكذا ما يترتب على متابعتهم إياك في النشأة الاخرى والكل هو هذا والله بمقتضى عزتي وجلالي
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ المعدة لأصحاب الشقاوة الازلية من المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية الضالين عن الصراط السوى مِنْكَ اى من جنسك الذي هو الجن وَايضا مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اى من جنس الانس أَجْمَعِينَ تابعا ومتبوعا ضالا ومضلا
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بلغت ما يوحى إليك من الحق الصريح على وجهه بلا خبط وخلط وبلا زيادة ونقصان كلاما ناشئا عن محض الحكمة والعدالة ما أَسْئَلُكُمْ ولا اطلب وأطمع منكم ايها المكلفون عَلَيْهِ اى على تبليغى إياكم ما أمرت بتبليغه من ربي مِنْ أَجْرٍ اى جعل ومال على عادة اصحاب التلبيس من المتشيخة الذين هم من اعونة إبليس وانصاره وَما أَنَا ايضا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ المتصنعين بخصائل ليس في أمثالهم على سبيل التلبيس والتدليس بل
إِنْ هُوَ اى ما هو اى القرآن المنزل على إِلَّا ذِكْرٌ اى عظة وتذكير لِلْعالَمِينَ من الثقلين المجبولين على فطرة الدراية والإيقان المكلفين بطرق الهداية والايمان وسبل التوحيد والعرفان
وَلَتَعْلَمُنَّ أنتم أيها المتذكرون الوحى والقرآن العظيم والمعرضون عنه نَبَأَهُ اى صدق اخباره وحقية مواعيده ووعيداته وما يترتب عليها وعلى قصصه المذكورة وأحكامه الموردة فيه وكذا ما ينكشف عندكم ولاح لديكم من حكمه ورموزه وإشاراته ومعارفه وحقائقه بَعْدَ حِينٍ اى بعد انخلاعكم من لوازم ناسوتكم بالمرة واتصافكم بخلعة اللاهوت في النشأة الاخرى حين تبلى السرائر وتكشف الضمائر وارتفعت الحجب والأستار فاعتبروا الآن يا اولى الأبصار وذوى الاعتبار بما فيه من السرائر والأسرار
خاتمة سورة ص
عليك ايها السالك المتدبر في رموزات القرآن والمتأمل المتدرب في درك إشاراته الخفية تحت أستار ألفاظه وأحكامه المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن وتصفية السر عن التوجه نحو الغير مطلقا ان تعرف أولا ما في نفسك من اعونة الشيطان وجنوده الامارة بالسوء المزعجة لك الى قبول مأموراتها المقتضية للبعد عن جادة العدالة التوحيدية الإلهية التي هي صراط الله الا قوم وتجاهد معها مهما أمكنك واعانك الحق ومكنك ووفقك لتسخيرها الى ان صارت مغلوبة لك مقهورة تحت قهرك حسب ما يسر الله ووفقك على غلبتك إياها ثم بعد ذلك نبع من صدرك ينابيع الحكم المترشحة من بحر الوحدة الذاتية وجرى على لسانك ما أراد الله وشاءه بعد ما افناك عنك وابقاك ببقائه وصار سبحانه قلبك وسمعك وبصرك وجميع قواك وحينئذ قد اجتمع الفرق وارتبق الفلق واتحد الظهور والبطون وانطوى الأزل والأبد واتصل الاول والآخر والظاهر والباطن وبالجملة هو بكل شيء عليم ليس كمثله شيء ولا معه حي وهو الحي القيوم وحده وهو السميع العليم لا غير معه(2/239)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
[سورة الزمر]
فاتحة سورة الزمر
لا يخفى على الموحدين المحمديين المتدرجين من سفل الإمكان وحضيض التقييد الى أوج الوجوب وذروة الإطلاق التي هي الوحدة الذاتية المنطوية دونها الكثرات مطلقا ان الوصول الى هذا المطلب الأعلى والمقصد الأسنى انما هو بتوفيق الحق على متابعة كتبه واطاعة رسله المرسلين من عنده سبحانه لتبيين ما في كتبه من الحكم والاحكام والمعارف والحقائق المرموزة فيها ولا شك ان أفضل الكتب وأكمل الرسل هو القرآن ونبينا عليه الصلاة والسلام فمن امتثل بمقتضيات القرآن وتمسك بسنن صدرت من معدن الرسالة وأحاديث شاعت من مشكاة النبوة والولاية فقد أفاض عليه الحق من سجال فضله ولطفه ما أفاض وفاز بما جبل لأجله بمقتضى الحكمة لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم وأوصاه بامتثال ما في كتابه المنزل عليه وبتبليغه الى من وفق بمتابعته وجبل من زمرته وهدى بإرشاده وهدايته فقال بعد ما تيمن باسمه الأعظم المشتمل على كل أسمائه الحسنى وصفاته العليا بِسْمِ اللَّهِ الذي انزل كتابه معربا عما فصله في حضرة علمه ولوح قضائه الرَّحْمنِ لعموم عباده بانزال الكتاب إليهم ليهديهم الى درجات جنابه الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى وحدة ذاته بعد ما أفناهم من مقتضيات تعيناتهم المقتضية للكثرة
[الآيات]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ المبين لطريق التوحيد المنبه على وحدة الحق وكمالات أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى مِنَ اللَّهِ المدبر لعموم ما جرى في ملكه وملكوته إذ لا منزل في الوجود سواه سبحانه الْعَزِيزِ الغالب في امره بالاستقلال والاختيار الْحَكِيمِ المتقن في فعله حسب علمه المحيط وقدرته الشاملة وإرادته الكاملة وبعد ما بين سبحانه امر التنزيل عموما أشار الى التنزيل المخصوص المتمم المكمل لأمر الإنزال والتنزيل مطلقا فقال مشيرا الى عظم قدر المنزل اليه وجلالة شأنه ورفعة رتبته ومكانه
إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لك وتعظيما لشأنك الْكِتابَ الجامع لجميع ما في الكتب السالفة مع زوائد خلا عنها كلها ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع بلا شوب شك وريب في نزوله منا وبالجملة فَاعْبُدِ اللَّهَ الذي اصطفاك لرسالته وخصصك بكتابه هذا حال كونك شاكرا لنعمه مؤديا لحقوق كرمه مُخْلِصاً في عبادتك وعبوديتك إياه مجتنبا عن مداخل الشرك ورعونات الرياء مطلقا لَهُ الدِّينَ والانقياد خاصة ولا مستحق للاطاعة الخالصة والاتباع الصافي الا هو سبحانه ولا يعبد بالحق الا هو وبعد ما امر سبحانه حبيبه بالعبادة والإخلاص في الإطاعة والانقياد نبه على عموم عباده بالإخلاص في الطاعة والخلوص في نيات العبادات فقال
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ اى تنبهوا ايها المجبولون على فطرة التوحيد ان الدين الذي كلفكم الحق عليه وأوجبه عليكم هو الدين الخالص عن امارات الشرك ومقتضيات الهوى الصافي عن شوب السمعة وشين الرياء وَبعد ما وضح ان الدين الخالص لله ولا مستحق له سواه الَّذِينَ اتَّخَذُوا وأخذوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اى المشركون الذين ادعوا الولاية لغير الله واستحقاق الإطاعة والانقياد لسواه قالوا في تعليل اتخاذهم حين سئلوا عنه وبخوا عليه ما نَعْبُدُهُمْ اى هؤلاء الغرانيق العلى التي هي الأصنام والأوثان وجميع ما عبد من دونه سبحانه إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى اى تقريبا كاملا إذ هم كملة مقبولون عنده مكرمون لديه سبحانه فنتوسل بهم حتى نصل الى قرب الحق وجواره لا تبالوا ايها الموحدون المتمسكون لحبل التوفيق الإلهي بقولهم هذا ولا تلتفتوا الى أباطيلهم الزائغة(2/240)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
إِنَّ اللَّهَ المطلع لما في ضمائرهم من الشرك والعناد والإلحاد عن سبيل الرشد والسداد يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وبينكم بمقتضى علمه وخبرته فِي ما هُمْ فِيهِ من الشرك يَخْتَلِفُونَ معكم ايها الموحدون بان يدخلهم في النار بأنواع المذلة والهوان ويوصلكم الى الجنة بالمغفرة والرضوان وكيف لا يدخل سبحانه المشركين النيران بأنواع الخزي والهوان إِنَّ اللَّهَ الحكيم المتقن في أفعاله لا يَهْدِي اى لا يوفق على الهداية والرشد مَنْ هُوَ كاذِبٌ سيما في حق الله وفي مقتضى ألوهيته وربوبيته واستقلاله في ملكه وملكوته كَفَّارٌ بنعمه الموهوبة له من فضله وكرمه حيث اثبت له سبحانه شريكا وولدا مع انه
لَوْ أَرادَ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الألوهية والوجود المنزه عن الأهل والولد أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ويختار صاحبة لَاصْطَفى واختار مِمَّا يَخْلُقُ اى من بين سائر مخلوقاته في جميع شئونه وحالاته ما يَشاءُ اولى وانسب له وأليق بشأنه من مريم وعيسى فكيف من الأصنام والأوثان سُبْحانَهُ تعالى شأنه وتنزه ذاته الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد عن اتخاذ الصاحبة والولد بل هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ من جميع الوجوه المستقل بالالوهية والوجود الْقَهَّارُ لعموم السوى والأغيار مطلقا قطعا لعرق الشركة عن أصله بمقتضى توحيده سبحانه وقهره مطلقا الغير والسوى ولإظهار كمالاته المندمجة في وحدة ذاته باعتبار شئونه وتطوراته اللازمة للحي الأزلي الأبدي قد
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى قدر وأعد الأسماء الذاتية الفعالة المنعكسة من شئونه الذاتية والأوصاف القابلية المنفعلة من تلك الأسماء المظهرة لآثارها ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع لا ينبغي ان يرتاب فيه احد من اهل التوحيد سيما بعد انكشافه بسرائر الوجود واسرار التوحيد بحسب الجود الإلهي وبمقتضى هذه الازدواجات المعنوية الجارية بين الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية ايضا يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ اى يغشى ويغيب سبحانه على سبيل التلفيف والتخليط اضواء الأسماء والصفات بظلام الهيولى والتعينات العدمية في النشأة الاولى فكذلك يغطى ويغيب في النشأة الاخرى حجب الطبائع واظلال الهويات الهيولانية الكثيفة الظلمانية الجسمانية باشعة أنوار الذات المنتشئة منها بمقتضى الشئون والتطورات المثبتة للأسماء والصفات الإلهية وَبعد ما قد كمل سبحانه امر الظهور والإظهار وانبسط على عروش عموم ما ظهر وما بطن بالاستيلاء والاستقلال سَخَّرَ الشَّمْسَ اى جذب وقبض نحوه سبحانه بمقتضى الجاذبة المعنوية الحبية الكاملة الوجود العامّ المطلق الفياض من لدنه سبحانه على هياكل عموم الموجودات المنعكسة من الأسماء والصفات الإلهية وَالْقَمَرَ اى الهويات القابلة لانعكاس شمس الذات المستخلفة عنها إظهارا لكمال قدرته ومتانة حكمته لذلك كُلٌّ من اهل العناية يَجْرِي يكون ويدوم في مكانه ومكانته من التعيّنات موقوفا لِأَجَلٍ مُسَمًّى اى حلول أجل معين مقدر من عند ربه بمقتضى جذبه وعنايته فإذا حل الأجل المسمى انقطع الجري والسير وارتفع السلوك أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال الهالكة في شمس الذات هُوَ اى الموصوف بهذه الصفات الكاملة الله الْعَزِيزُ المنيع ساحة عز ذاته عن ان يحوم حول سرادقات عزه وجلاله ادراك العقول المتحيرة والأوهام المدهوشة المقهورة الْغَفَّارُ الستار لغيوم تعيناتكم باشراق شمس الذات وانقهار جميع ما لمع عليه نور الوجود على مقتضى جلاله وتفرده في نعوت كماله وكيف لا وقد
خَلَقَكُمْ اى أظهركم وأوجدكم سبحانه بالتجليات الجمالية مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي طبيعة العدم القابلة لانعكاس اشعة نور الوجود المنعكسة فيها(2/241)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
أبوكم آدم على سبيل الظلية والاستخلاف ثُمَّ جَعَلَ واظهر منعكسا مِنْها زَوْجَها إبقاء للتناسل وتتميما للازدواجات الغير المتناهية حسب رقائق الأسماء والصفات المتقابلة الإلهية إظهارا لكمال القدرة وتتميما للحكمة المتقنة البالغة وَبعد ما أتم سبحانه امر ايجادكم واثباتكم أَنْزَلَ لَكُمْ اى قسم وقضى لاجلكم تتميما لأمور معاشكم عناية منه وتكريما مِنَ الْأَنْعامِ المناسبة لتغذيتكم وتقوية امزجتكم ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكرا وأنثى بمقتضى جبلتكم لتدوم بدوامكم وهي الأصناف المذكورة في سورة الانعام هذا بحسب ظهوركم وبروزكم في عالم الشهادة وفي عالم الغيب والبطون يَخْلُقُكُمْ ويقدر موادكم فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ اى تقديرا بعد تقدير اعجب واغرب من سابقه بان قدركم أولا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم سواكم جسدا انسانيا ثم نفخ فيكم روحا من روحه وبالجملة قد أظهركم في عالم الشهادة بعد ما اخفاكم مدة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ هي أصلاب آبائكم وحجب تعيناتكم وبطون أمهاتكم وبالجملة ذلِكُمُ الذي قد فعل بكم هذه الأفعال الجميلة المتقنة هو اللَّهُ المستقل بالالوهية والتصرف في ملكه وملكوته وهو رَبُّكُمْ الذي رباكم واحسن تربيتكم لا مربى لكم سواه إذ لَهُ الْمُلْكُ والملكوت خاصة لا يشارك في ملكه ولا ينازع في سلطانه وشأنه فظهر انه لا إِلهَ يعبد له ويرجع اليه في الخطوب والملمات إِلَّا هُوَ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالحقية المستحق للالوهية والربوبية فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وكيف تعدلون ايها المشركون المنحرفون عن جادة توحيده مع انكم ايها الاظلال المنهمكون في بحر الحيرة والضلال
إِنْ تَكْفُرُوا بالله وتنكروا ظهوره واستيلاءه على عموم ما ظهر وبطن بالاستقلال فَإِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء غَنِيٌّ عَنْكُمْ وعن ايمانكم وإطاعتكم وكفركم وعصيانكم وَغاية ما فيه انه عز شأنه وجل برهانه لا يَرْضى ولا يحب لِعِبادِهِ الذين هم قد ظهروا منه سبحانه حسب اظلال أوصافه وأسمائه الْكُفْرَ والجحود بذاته سبحانه عطفا لهم وترحما عليهم لأنهم انما جبلوا على فطرة المعرفة ومصلحة الايمان والإيقان والا فهو سبحانه في ذاته أعز وأعلى من ان يفتقر الى ايمان احد وأطاعته او يتضرر بكفره وإنكاره وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ اى وكذا غنى عنكم وعن شكركم نعمه الفائضة عليكم إذ لا يعلل فعله سبحانه بالأغراض والأعواض مطلقا لكن يرضى عنكم لو شكرتم نعمه ويزيد عليكم بأضعافها لإتيانكم بالمأمور وامتثالكم امره سبحانه مع ان نفع شكركم انما يعود إليكم وَبالجملة لا بد لكل احد من المكلفين ان يمتثلوا بما أمروا به من عنده سبحانه حتى يصلوا الى ما وعدوا من المثوبات والكرامات ويجتنبوا ايضا عما نهوا عنه ليخلصوا من المهالك والدركات المعدة الموعودة لهم إذ لا تَزِرُ ولا تحمل نفس وازِرَةٌ عاصية مرتكبة بحمل أثقال الأوزار والآثام الحاصلة لها وِزْرَ نفس أُخْرى كما لا تتصف بحسناتها ايضا ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ كافة كما ان منشأكم منه جميعا فَيُنَبِّئُكُمْ ويخبركم سبحانه بعد رجوعكم اليه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بعموم ما جرى عليكم من سيئاتكم وحسناتكم بلا فوت شيء منها ويجازيكم على مقتضاها وكيف لا يخبركم ولا يجازيكم بأعمالكم سبحانه إِنَّهُ بذاته عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بجميع الأمور الكائنة المكنونة في صدور عباده بعموم ما خفى في ضمائرهم ونياتهم فكيف بما صدر عن جوارحهم وآلاتهم وبعد ما نبه سبحانه الى احوال عباده شرع بعد مساويهم وأخلاقهم الذميمة الناشئة من بشريتهم وبمقتضى بهيميتهم فقال
وَإِذا مَسَّ(2/242)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
الْإِنْسانَ ضُرٌّ
اى لحقه شيء من اماراته ولاح عليه اثر من آثاره دَعا رَبَّهُ متضرعا نحوه مُنِيباً إِلَيْهِ إذ لا مرجع له سواه ملحا لكشفه وإزالته ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ سبحانه وأزال عنه ضره وكربه وأعطاه وأفاض عليه نِعْمَةً فائضة مِنْهُ سبحانه موهوبة له متعهدا إياه متفقدا حاله تعظيما له وتكريما نَسِيَ شكره لخالقه ونبذ وراء ظهره ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ سبحانه مِنْ قَبْلُ عند شدة ضره وسورة كربه وَمع ذلك لم يقتصر على النبذ والنسيان بل جَعَلَ اى قد أخذ واثبت لِلَّهِ الصمد المنزه عن الضد والند أَنْداداً وادعاهم شركاء له سبحانه وانما جعل وفعل كذلك لِيُضِلَّ الناس الناسين عهود ربهم عَنْ سَبِيلِهِ ويحرفهم عن طريق توحيده ساعيا في اغوائهم واضلالهم مجتهدا فيه قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا مهددا إياهم تَمَتَّعْ ايها الضال المضل بِكُفْرِكَ هذا في نشأتك هذه قَلِيلًا اى زمانا قليلا ومدة يسيرة إِنَّكَ أنت البتة في النشأة الاخرى مِنْ أَصْحابِ النَّارِ اى من ملازميها وملاصقيها ومن جملة من فيها. ثم قال سبحانه أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أيتعجب المشرك المثبت لنا شريكا بل شركاء وأندادا من تهديدنا إياه بالنار وعذابها فيظن ظنا كاذبا ان من هو قائم على أداء العبادات مواظب عليها آناءَ اللَّيْلِ اى في خلاله وأطراف النهار وساعاته ساجِداً متذللا واضعا جبهته على تراب المذلة من خشيتنا وَقائِماً على قدميه مدة متطاولة تعظيما لأمرنا ومع ذلك يَحْذَرُ الْآخِرَةَ اى من العذاب اللاحق له فيها حسب قهرنا وجلالنا وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ على مقتضى لطفه وجماله كهؤلاء الكفرة بالله الجهلة بشأنه المتخذين له أندادا ظلما وزورا مع تعاليه عنه سبحانه وبعد ما تفرست يا أكمل الرسل هذا الظن والتسوية منهم قُلْ لهم على سبيل التبكيت والإلزام مستفهما إياهم على سبيل التقريع والتوبيخ هَلْ يَسْتَوِي المكلفون الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الحق بذاته وأسمائه وأوصافه ويعبدونه سبحانه حسب علمهم به وبأوامره ونواهيه وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذاته ولا شيأ من أوصافه وأسمائه ولا يعبدون له ايضا كلا وحاشا من اين يتأتى المساواة فشتان ما بين العالم والجاهل والعابد والعاصي الا انه إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ اى ما يتذكر ولا يتعظ بأمثال هذه المواعظ والتذكيرات المنبهة على سرائر الوحدة الذاتية الا أولوا الباب الناظرون الى لب الأمور المعرضون عن قشوره
قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا مناديا منا لخلص عبادنا يا عِبادِ أضافهم الى نفسه اختصاصا وتكريما الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاتى وبظهورى حسب شئوني وتطوراتى وبمقتضى أسمائي وصفاتي مقتضى ايمانكم التقوى عن مقتضيات الهوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ واجتنبوا عن محارمه ومنهياته واتصفوا بمأموراته واعلموا انه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الأدب منكم مع الله فِي هذِهِ الدُّنْيا التي هي نشأة الاختبار والاعتبار حَسَنَةٌ بأضعافها وآلافها في الآخرة التي هي دار القرار فاعتبروا يا ذوى البصائر واولى الأبصار فعليكم الإتيان بالإحسان في كل حين وأوان ولا تخلوا عنه في كل زمان ومكان وَلا تفتروا عنه وعن المواظبة عليه بتفاقم الأحزان وتلاطم امواج الفتن في الأماكن والأوطان إذ أَرْضُ اللَّهِ المعدة لأداء العبادات والاشتغال بالطاعات واسِعَةٌ فسيحة فعليكم الجلاء لأجل الفراغ والخلاء فتهاجروا إليها متحملين عموم ما لحقكم من الشدائد والمتاعب في الانتقال والارتحال صابرين على مفارقة الأوطان والخلان ومصادفة الكروب والأحزان وبالجملة إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ المتحملون لانواع الشدائد والمشاق في طريق الايمان وسلوك سبيل العرفان أَجْرَهُمْ ويوفر عليهم الحسنات وانواع المثوبات(2/243)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
والكرامات بِغَيْرِ حِسابٍ اى توفية وتوفيرا لا يمكن ضبطه بالعد والإحصاء تفضلا عليهم وتكريما. وفي الحديث صلوات الله على قائله انه ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون بها أجورهم ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر حتى يتمنى اهل العافية في الدنيا ان اجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به اهل البلاء من الفضل والعطاء. ثم قال سبحانه آمرا لحبيبه بالتوصية والتبليغ لعموم عباده كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن رعونات الرياء متمحضا للنصح والتكميل
قُلْ يا أكمل الرسل إِنِّي أُمِرْتُ من قبل ربي أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ حق عبادته وأطيعه حق أطاعته مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ والانقياد الصادر منى لا تسبب باطاعتى وانقيادي على وجه الإخلاص ان أعرفه حق معرفته ويفيض على قلبي زلال توحيده وكرامته
وَأُمِرْتُ ايضا من عنده لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ اى اسبق المسلمين المفوضين أمورهم كلها اليه منخلعين من لوازم بشريتهم ومقتضيات اهوية هويتهم ثم
قُلْ يا أكمل الرسل إِنِّي مع كمال وثوقى بكرم الله وسعة رحمته ووفور فضله وجوده على أَخافُ خوفا شديدا إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي وخرجت عن عروة أطاعته وربقة انقياده عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فظيع فجيع لعظم ما فيه من الجزاء المترتب على الجرائم العظام وبعد ما بلغت يا أكمل الرسل ما بلغت
قُلِ على وجه الحصر والتخصيص اللَّهَ أَعْبُدُ لا غيره إذ لا غير معه مُخْلِصاً لَهُ دِينِي وانقيادي حسب وسعى وطاقتي
فَاعْبُدُوا ايها المنهمكون في بحر الغي والضلال ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ سبحانه بمقتضى اهويتكم الفاسدة وآرائكم الكاسدة واعلموا ان ما يترتب على عبادة غير الله ليس الا الخيبة والخسران قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بعبادة غير الله والانحراف عن جادة التوحيد وَمع ذلك قد خسروا أَهْلِيهِمْ ايضا بالإغواء والإضلال يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة لجزاء الأعمال يعنى حرموهم عن الفوائد الاخروية المترتبة على ايمانهم وأعمالهم الصالحة في يوم القيامة والنشأة الاخرى أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ والحرمان العظيم نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين وكيف لا يكون خسران المشركين مبينا وحرمانهم عظيما
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ وأطباق مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ كذلك بالنسبة الى من في الطبقة السفلى لان دركات النيران مثل دركات الإمكان متطابق بعضها فوق بعض فيكون سكانها ايضا كذلك ذلِكَ العذاب الذي سمعت وصفه يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ في دار الاختبار ويحذرهم عنه ثم ناداهم ليقبلوا اليه ويعتبروا من تخويفه فقال يا عِبادِ فَاتَّقُونِ واحذروا من بطشى وتعذيبى إياكم في يوم الجزاء
وَبالجملة المؤمنون الموحدون الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ المبالغ في الطغيان والعدوان ألا وهي الشيطان المضل المغوى والنفس الضالة الغوية واستنكفوا أَنْ يَعْبُدُوها ويقبلوا منها وسوستها ويصغوا الى اغوائها واغرائها وَمع ذلك قد أَنابُوا ورجعوا إِلَى اللَّهِ في النشأة الاولى على وجه الإخلاص والخضوع نادمين عن عموم ما صدر عنهم من الجرأة على الجريمة لَهُمُ الْبُشْرى في النشأة الاخرى بالدرجة العليا والمثوبة العظمى فَبَشِّرْ عِبادِ يا أكمل الرسل
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ الحق الذي قد صدر منا ولا يمترون فيه بل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ على الوجه الأحسن الادقّ ويمتثلون بما أمروا به ويجتنبون ايضا عما نهوا عنه أُولئِكَ السعداء الموفقون على استماع القول الحق والامتثال به هم الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ الى طريق توحيده ووفقهم الى الفناء فيه والبقاء ببقائه وَبالجملة أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ الواصلون الى(2/244)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
لب اللباب. ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والتأديب
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ يعنى اتسعى وتجتهد أنت يا أكمل الرسل في تخليص من قد ثبت منا في سابق قضائنا وحضرة علمنا الحكم بتعذيبه يعنى أبا لهب وولده واتباعه أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ اى أتظن أنت وتعتقد لنفسك انك تقدر على إنقاذ من هو مخلد في نار جهنم حسب قهرنا وغضبنا إياه كلا وحاشا فلا تتعب نفسك فيما ليس في وسعك إذ لا يبدل القول لدينا ولا يغير الحكم المبرم منا عندنا
لكِنِ المؤمنين الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ في جميع شئونهم وحالاتهم خائفين من قهره وغضبه راجين رحمته لَهُمْ عند ربهم غُرَفٌ ودرجات علية مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ودرجات أعلى منها كأنها منازل مَبْنِيَّةٌ على الأرض بعضها فوق بعض على تفاوت طبقاتهم في مراتب القرب تَجْرِي على التعاقب والتوالي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات على مقتضى استعداداتهم الفطرية الموهوبة لهم بمقتضى الجود الإلهي وما كان ذلك الا حسب ما وَعْدَ اللَّهِ الذي وعدها لخلص عباده الذين سلكوا في سبيل توحيده متعطشين الى زلال لقائه فله ان ينجزه سبحانه حتما إذ لا يُخْلِفُ اللَّهُ القادر المقتدر على عموم ما شاء وأراد الْمِيعادَ الذي وعده للعباد سيما لأهل العناية منهم
أَتتعجب وتستبعد من الله انجاز المواعيد الموعودة من عنده ولَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالإرادة والاختيار قد أَنْزَلَ وأفاض بمقتضى جوده المعهود ووعده الموعود مِنَ السَّماءِ اى عالم الأسماء والصفات ماءً اى حياة مترشحة من عين الوجود وبحر الذات فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ اى قد ادخله في ينابيع التعينات وعيون الهويات المنعكسة من تلك الأسماء والصفات وأجراه فِي الْأَرْضِ اى ارض الطبيعة القابلة لقبول الآثار الفائضة عليها ثُمَّ بعد اجرائه عليها يُخْرِجُ بِهِ بمقتضى حكمته المتقنة زَرْعاً اى هياكل وتعينات أنواعا وأصنافا مثمرة ثمرات انواع العقائد والمعارف والحقائق مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ حسب اختلاف الاستعدادات الفائضة عليها من عنده ثُمَّ يَهِيجُ اى بعد ما ظهر منها ما ظهر وترتب عليها ما ترتب يجف وييبس الى حيث يذهب نضارتها ورواؤها المترتبة على الإمداد الإلهي فَتَراهُ حينئذ مُصْفَرًّا مشرفا على الاضمحلال والانعدام ثُمَّ يَجْعَلُهُ يقبض ما فيه من رشاشات الحياة حُطاماً لتاتا رفاتا تذروه رياح الآجال وتعيده الى ما عليه من العدم إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ اى تذكيرا بليغا وبرهانا قاطعا شاطعا على وجوب وجود من هو منيع عموم الكرم والجود ومبدأ جميع الموجود لا يطرأ عليه زوال ولا يعرضه تحول وانتقال ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الا انه لا يتذكر به ولا يتنبه منه الا أولوا الألباب الناظرون بنور الله على لب الأمور المعرضون عن قشوره. ثم قال سبحانه
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يعنى أيستوى من وسع الله قلبه لنزول سلطان توحيده ووفقه لقبول شعائر الإسلام ومعالم الدين المبين له دلائل التوحيد واليقين فَهُوَ بواسطة شرح الله صدره وتوفيقه إياه عَلى نُورٍ انكشاف تام ويقين كامل مِنْ رَبِّهِ بحيث قد فنى فيه وبقي ببقائه ونظر بنوره حيث نظر ورأى آيات ربه الكبرى في عموم ما ابصر ورأى ومن طبع الله على قلبه وختم على سمعه وبصره فأعماه عن ابصار آيات وجوب وجوده وأصمه عن استماع دلائل توحيده كلا وحاشا مساواة ذا مع هذا بل فَوَيْلٌ عظيم وعذاب اليم معد لِلْقاسِيَةِ المضيقة المكدرة قُلُوبُهُمْ مِنْ سماع ذِكْرِ اللَّهِ واستماع ما نزل من عنده من الآيات العظام(2/245)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
الدالة على وحدة ذاته ووجوب وجوده وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون المطرودون عن ساحة عز القبول والحضور فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وجهل عظيم وغفلة شديدة وغشاوة غليظة لا نجاة لهم منها وبالجملة لا ترتفع عن عيون بصائرهم حجبهم الكثيفة أصلا ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور فكيف يتيسر لاحد ان يعرض عن ذكر الله وينصرف عن استماع كلامه مع انه
اللَّهُ الذي دبر امور عباده وارشدهم الى طريق معاده حيث نَزَّلَ تتميما لتربيتهم وإرشادهم أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وأبلغه في الإفادة والبيان وجعله كِتاباً جامعا لما في الكتب السالفة مُتَشابِهاً بعض آياته ببعض في حسن النظم واتساق المعنى مَثانِيَ إذ قد ثنى وكرر سبحانه الاحكام فيه تأكيدا ومبالغة امرا ونهيا وعدا ووعيدا ثوابا وعقابا عبرا وأمثالا قصصا وتذكيرا وجعله في كمال الإيجاز ونهاية الاعجاز والتأثير بحيث تَقْشَعِرُّ اى تنقبض وتضطرب على وجه الاشمئزاز مِنْهُ اى من سماعه على وجه التأمل والتدبر جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ في جميع حالاتهم خوفا من سطوة سلطنته وجلاله ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَتطمئن قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ رجاء من سعة رحمته بمقتضى لطفه وجماله وبالجملة ذلِكَ الكتاب الرفيع الشأن الواضح البرهان هُدَى اللَّهِ الهادي لعباده يَهْدِي بِهِ ويوفق على الهداية والرشد بمقتضى ما فيه مَنْ يَشاءُ من عباده ويضل به عن الاستفادة بما فيه من يشاء ارادة واختيارا وَبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بمقتضى قهره وجلاله فَما لَهُ مِنْ هادٍ إذ لا يبدل القول لديه ولا ينازع حكمه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
أَفَمَنْ يَتَّقِي اى يصلى ويدخل بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ اى أشده وأسوئه إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أيديهم يسحبون نحو النار بحيث لا يصلى منهم إليها أولا الا وجوههم مثل من أمن منها وسلّم عن مطلق المكاره كلا وحاشا بل وَقِيلَ حينئذ لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية ظلما وعدوانا على سبيل التوبيخ والتقريع ذُوقُوا ايها المنهمكون في بحر الغفلة والشهوات جزاء ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في دار الاختبار بمقتضى اهويتكم الفاسدة وآرائكم الباطلة وليس هذا التكذيب والجزاء المترتب عليه مخصوصا بهؤلاء الكفرة المكذبين لك يا أكمل الرسل بل كل ممن
كَذَّبَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من المشركين رسلهم المبعوثين إليهم فَأَتاهُمُ الْعَذابُ الموعود عليهم فجاءة في النشأة الاولى مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ اماراته أصلا فسيأتيهم مثله بل أمثاله وآلافه في النشأة الاخرى وبالجملة
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ المنتقم عنهم الْخِزْيَ اى الذل والهوان والخيبة والخسران فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ المعد لهم فيها أَكْبَرُ اى أشد وأفزع لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شدته وفظاعته لما ارتكبوا ما يئول اليه ويوقعهم فيه
وَالله لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ الناسين عهودنا ومواثيقنا فِي هذَا الْقُرْآنِ المتكفل لهداية عموم الضالين مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ينبههم على معالم الدين ومراسم التوحيد واليقين لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ رجاء ان يتعظوا بما فيه ويتفطنوا بسرائره ومرموزاته مع انا انما جعلناه
قُرْآناً عَرَبِيًّا أوضح بيانا وأعظم شأنا وأجل تبيانا وبرهانا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ اى بلا اختلال واختلاف في معناه موجب للتردد والالتباس فيه مستلزم للشك والارتياب لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عن محارمنا ويحذرون عما نهيناهم عنه ومع ذلك لم يتقوا بل لم يتنبهوا ولم يتفطنوا أصلا ولهذا قد
ضَرَبَ اللَّهُ المطلع على جميع ما في استعدادات عباده وقابلياتهم مَثَلًا واضحا موضحا لحال الموحد منهم والمشرك(2/246)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
وشبه سبحانه كلتا الطائفتين برجلين مملوكين رَجُلًا مملوكا فِيهِ شُرَكاءُ اى له ملاك وارباب متشاركون فيه كلهم مُتَشاكِسُونَ بالنسبة اليه متخالفون في استخدامه متنازعون في شأنه يتجاذبونه على مقتضى اهويتهم وأمانيهم بكمال الاستيلاء والغلبة هذا مثل المشركين بالنسبة الى معبوداتهم الباطلة وَرَجُلًا اى مملوكا آخر سَلَماً لِرَجُلٍ اى مسلما مخصوصا لمالك ورب فقط بلا شوب شركة فيه ونزاع في امره هذا مثل الموحد بالنسبة الى ربه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا تعدد فيه ولا كثرة أصلا هَلْ يَسْتَوِيانِ ويتماثلان مَثَلًا هذان الرجلان المملوكان الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي لا شركة في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله بل في تحققه ووجوده ولا نزاع لاحد في حكمه وامره بل يفعل ما يشاء بالإرادة والاختيار ويحكم ما يريد بالاستقلال والاستحقاق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وحدته واستقلاله في الوجود والتصرفات الواردة فيه باعتبار شئونه وتطوراته لذلك يشركون له غيره ظلما وعدوانا جهلا وطغيانا. ثم قال سبحانه
إِنَّكَ مَيِّتٌ يعنى كيف لا يستقل سبحانه بالوجود والآثار المترتبة عليه مع انك يا أكمل الرسل واشرف الكائنات وأفضلهم معطل في ذاتك وفي نشأتك هذه عن اسناد ما ظهر وصدر منك ظاهرا إليك إذ لا وجود لك من ذاتك وَإِنَّهُمْ اى غيرك من الأشخاص بالطريق الاولى مَيِّتُونَ مائتون معطلون عن آثار الوجود مطلقا في هذه النشأة بل كلكم أنت وعموم العباد مسخرون مقهورون تحت حكمه سبحانه وامره وما عليك وعليهم الا الامتثال والانقياد
ثُمَّ إِنَّكُمْ ايها الموحدون والمشركون جميعا يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة للحساب والجزاء عِنْدَ رَبِّكُمْ المطلع على عموم ما جرى عليكم تَخْتَصِمُونَ بعضكم مع بعض في ما أنتم عليه في نشأتكم الاولى ثم تحاسبون وتجازون بمقتضاه فستعلمون حينئذ اىّ منقلب تنقلبون. ثم قال سبحانه على سبيل الاستبعاد والتقريع
فَمَنْ أَظْلَمُ وأضل طريقا مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وأنكر وجوده واستقلاله فيه وفي الآثار المترتبة عليه وَكَذَّبَ ايضا بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ يعنى بالقرآن الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم مبينا لتوحيد الحق واستقلاله في الوجود أَلَيْسَ يبقى فِي جَهَنَّمَ البعد والحرمان مَثْوىً لِلْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الظاهر في الآفاق بالاستقلال والاستحقاق مع ان هذا العذاب معد لهؤلاء المردة المطرودين عن ساحة عز القبول
وَبالجملة الموحد المحق الَّذِي جاءَ من قبل ربه بِالصِّدْقِ بلا افتراء ومراء وَصَدَّقَ بِهِ ايمانا واحتسابا بلا شوب شك وتردد فيه أُولئِكَ السعداء الصادقون المصدقون هُمُ الْمُتَّقُونَ الذين يحفظون نفوسهم عن الميل الى ما لا يرضى منه سبحانه وبسبب اتصافهم بالتقوى عن محارم الله
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من اللذات اللدنية الروحانية عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع الكرامة ووفقهم على الهداية الى جنابه والعكوف حول بابه تفضلا عليهم وتكريما ذلِكَ الذي سمعت من الكرامة جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله بحسب ظواهرهم وبواطنهم ويأخذون ما نزل من عنده من الأوامر والنواهي على وجه العزيمة الخالصة عن شوب الرياء والرعونات المنافية المباينة لإخلاص العبودية وليس تلك الكرامات العلية الا
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بسبب إخلاصهم في عزائمهم أَسْوَأَ العمل الَّذِي عَمِلُوا فكيف أسهله وأصغره وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ اى يعطيهم جزاء أعمالهم في الآخرة بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ اى احسن من حسناتهم وأوفر منها لخلوصهم فيها(2/247)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
أَلَيْسَ اللَّهُ القدير العليم بِكافٍ عَبْدَهُ المتوكل عليه المفوض امره اليه ليكفيه ما ينفعه ويكف عنه ما يضره وَهم من جهلهم بالله وبكمال علمه وقدرته يُخَوِّفُونَكَ يا أكمل الرسل يعنى قريشا بِالَّذِينَ اى بأصنامهم الذين يدعونهم آلهة مِنْ دُونِهِ سبحانه جهلا وعنادا ويقولون لك على سبيل النصح لا تذكر آلهتنا بسوء فانا نخاف عليك ان يخبلوك ويفسدوا عقلك وما ذلك الا من نهاية جهلهم بالله وغوايتهم عن طريق توحيده وَبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بمقتضى قهره وجلاله فَما لَهُ مِنْ هادٍ
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ إذ هو سبحانه فاعل على الإطلاق بالاختيار والاستحقاق لا يجرى في ملكه الا ما يشاء أَلَيْسَ اللَّهُ العليم القدير بِعَزِيزٍ غالب على امره ذِي انْتِقامٍ شديد على من أراد انتقامه من أعدائه. ثم أشار سبحانه الى توضيح دلائل توحيده تعريضا على المشركين وتسجيلا على غوايتهم وغباوتهم فقال مخاطبا لحبيبه
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا أكمل الرسل يعنى كفار قريش مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات ومن أوجدها وأحدثها واظهر ما فيها من العجائب والغرائب لَيَقُولُنَّ البتة اللَّهُ المتفرد بالخلق والإيجاد المتوحد بالالوهية والربوبية إذ لا يسع لهم العدول عنه لغاية ظهوره قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما سمعت قولهم هذا إلزاما وتبكيتا أَفَرَأَيْتُمْ وابصرتم عيانا او سمعتم بيانا ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ اى من هؤلاء المعبودات الباطلة التي أنتم تدعونها آلهة سوى الله شركاء معه في أخص أوصافه الهم قوة المقاومة وقدرة المخاصمة معه سبحانه مثلا إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ وجرى حكمه على ان يمسني بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ اى آلهتكم هذه كاشِفاتُ ضُرِّهِ سبحانه عنى على سبيل المعارضة أَوْ أَرادَنِي الله بِرَحْمَةٍ فائضة من عنده علىّ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ حيث يمنعونها عنى ويدفعون وصولها الى وبعد ما بهتوا وسكتوا عند سماع هذه المقالة نادمين قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض التوحيد واليقين خاليا عن امارات الريب والتخمين حَسْبِيَ اللَّهُ الواحد الأحد الكافي لمهام عموم الأنام الرقيب عليهم في جميع حالاتهم إذ عَلَيْهِ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ المؤمنون المفوضون أمورهم كلها اليه حيث يتخذونه وكيلا ويعتقدونه كافيا وكفيلا
قُلْ لهم ايضا على سبيل التوبيخ والتهديد يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ اى على حالكم وشأنكم ما شئتم من الأعمال إِنِّي عامِلٌ ايضا على مكانتى وحالي ما شئت فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مآل ما تعملون وغايته واعلموا ان
مَنْ يَأْتِيهِ منا ومنكم عَذابٌ يُخْزِيهِ ويرديه في الدنيا وَهو دليل على انه يَحِلُّ عَلَيْهِ ويلحق به في الآخرة عَذابٌ مُقِيمٌ دائم مؤبد مخلد فتربصوا حتى يأتى الله بامره ونحن نتربص ايضا. ثم قال سبحانه على وجه العظة والتأديب لحبيبه صلّى الله عليه وسلم
إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الجامع المشتمل على عموم مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم لتكون أنت هاديا لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ مبلغا لهم جميع ما فيه من الوعد والوعيد فَمَنِ اهْتَدى ووفق على قبول ما فيه من الأوامر والنواهي فَلِنَفْسِهِ اى نفع هدايته واهتدائه عائد الى نفسه وَمَنْ ضَلَّ ايضا فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ويلحق وبال ضلالها كذلك وَبعد ما وضح الأمر لديك لا تتعب نفسك في هدايتهم إذ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ضمين لهدايتهم وتكميلهم بل ما عليك الا البلاغ وعلينا الحساب وكيف لا يكون حساب العباد على الله ولا يكون في قبضة(2/248)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
قدرته سبحانه إذ
اللَّهُ المستوي على عروش عموم ما ظهر وبطن بالاستيلاء التام والقدرة الكاملة الشاملة يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ ويقطع حبل إمداده عليه حسب النفس الرحمانى حِينَ مَوْتِها اى حين تعلق ارادته سبحانه بقطع علقة إمداده عنها وإرجاعها الى ما كانت عليه من العدم وَكذا يتوفى الأنفس الَّتِي لَمْ تَمُتْ بعد اى لم يحكم عليها بقطع العلقة والإمداد عنها فِي مَنامِها اى يفرق ويفصل عنها ما هو مبدأ الآثار والأفعال وما يترتب عليها من التمييز والشعور من القوى والآلات بحيث يبقى رمق منها فيها فَيُمْسِكُ ويقبض سبحانه بعد الفصل والتوفي الأنفس الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ في سابق قضائه وحضرة علمه وَيُرْسِلُ الْأُخْرى ويعيدها الى أبدانها مرة بعد اخرى ويمهلها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معين مقدر عنده بقطع الإمداد والارتباط. وعن المرتضى الأكبر الأكرم كرم الله وجهه يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح الى جسده بأسرع من لحظة ولهذا قيل ان أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت الرجوع الى الأجساد امسك الله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء الى أجسادها وبه ورد الحديث صلوات الله على قائله إذا أوى أحدكم الى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فانه لا يدرى ما خلفه عليه ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك ارفعه ان أمسكت نفسي فارحمها وان أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين إِنَّ فِي ذلِكَ التوفي والفصل والإمساك والإرسال لَآياتٍ ودلائل واضحات وشواهد لائحات على قدرة الصانع الحكيم القدير العليم لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في مقدوراته سبحانه ويشاهدون آثار قدرته عليها ويعتبرون منها وبعد ما سمع قريش كمال قدرة الله واستقلاله بالتصرفات الواقعة في ملكه وملكوته حسب ارادته واختياره ينبغي لهم ان يوحدوه سبحانه ويتخذوه وكيلا ويجعلونه حسيبا وكفيلا ومع ذلك لم يتخذوه ولم يوحدوه
أَمِ اتَّخَذُوا بل أخذوا من تلقاء أنفسهم مِنْ دُونِ اللَّهِ اولياء من الأصنام والأوثان ظلما وزورا وسموه شُفَعاءَ عنده سبحانه لذلك يعبدونهم كعبادته قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا أَوَلَوْ كانُوا اى أتتخذونهم شفعاء ايها الحمقى وتستشفعون منهم وتعبدون لهم ولو كانوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من جلب النفع ودفع الضر وَلا يَعْقِلُونَ ولا يدركون مقاصدكم أصلا وبالجملة ما عبادتكم هذه إياهم الا وهم باطل وزور ظاهر بل خروج عن مقتضى العقل الفطري والفطنة الجبلية
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد لاح دونك غيهم وغباوتهم على وجه العظة والتذكير لعلهم يتنبهوا لِلَّهِ الواحد الأحد المحيط بالكل الشَّفاعَةُ جَمِيعاً اى مطلق الشفاعة مختصة لله مستندة اليه اصالة كائنة ناشئة فائضة من عنده بحيث لا يسع لاحد من اهل العناية ان يشفع بمجرم عنده سبحانه الا باذنه وكيف لا يكون كذلك إذ لَهُ وفي قبضة قدرته مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عموم ما ظهر من العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات فله التصرف فيها بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة أنداد واغيار ثُمَّ لو وقعت شفاعة من احد ممن اذن له الرحمن ورضى له قولا فإنما هي آئل ايضا اليه سبحانه إذ إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال تُرْجَعُونَ رجوع الأضواء الى الشمس والأمواج الى البحر
وَمن شدة قساوة المشركين وجهلهم بالله إِذا ذُكِرَ اللَّهُ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية وَحْدَهُ على ما كان عليه بلا مشاركة احد معه في الثبوت والوجود اشْمَأَزَّتْ اى انقبضت وضاقت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ(2/249)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
بالانكشاف التام في النشأة الاخرى المفنى لأظلال السوى والعكوس مطلقا وَإِذا ذُكِرَ آلهتهم الَّذِينَ يدعونهم مِنْ دُونِهِ سبحانه إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ اى فاجؤا واسرعوا عند ذكر آلهتهم الباطلة الى البسط والاستبشار
قُلِ يا أكمل الرسل عند يأسك عنهم وعن ايمانهم وتنبههم مسترجعا الى ربك مفوضا الأمور كلها اليه سبحانه سيما امور هؤلاء الضلال المعاندين اللَّهُمَّ يا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ومظهرهما من كتم العدم بالإرادة والاختيار يا عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ على التفصيل بحيث لا يعزب عن حيطة علمك مثقال ذرة من ذرات ما لمع عليه برق وجودك بمقتضى كرمك وجودك أَنْتَ بذاتك حسب شئونك وتطوراتك تَحْكُمُ وتقضى بَيْنَ عموم عِبادِكَ سيما هؤلاء الضالين وبيني فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ معى في امر الدين القويم المنزل على من عندك والكتاب الكريم المبين طريق توحيدك. ثم قال سبحانه تسجيلا على عدم قابليتهم واستعدادهم لقبول الحق وفيضان اسرار التوحيد
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بعد ما جبلوا على فطرة التوحيد من عند الله الحكيم واستبدلوا بالشقاوة لو حق وثبت لهم ملك ما فِي الْأَرْضِ من الامتعة والزخارف الامكانية جَمِيعاً بل وَمِثْلَهُ مَعَهُ بل أضعافه وآلافه معه لَافْتَدَوْا بِهِ في سبيل الله راجين النجاة مِنْ سُوءِ الْعَذابِ المعد لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ جزاء لاعمالهم لما حصل لهم هذا ولا نجاة لهم منه أصلا إذ لا يبدل القول منا ولا يغير الحكم لدينا بل وَبَدا لَهُمْ وظهر عليهم مِنَ اللَّهِ الحكيم ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ من قبله إذ هم عند الإتيان بفواسد الأعمال والعبادات على معبوداتهم زاعمون ترتب جزاء الخير عليها وقد العكس الأمر عليهم
وَحين ظهر عليهم عكس المطلوب بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا اى تحقق عندهم كون أعمالهم التي قد أتوا بها سيئات كلها وَحينئذ حاقَ وأحاط بِهِمْ حجالة ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الأمور الدينية والمعتقدات الاخروية الجارية على ألسنة الرسل والكتب في النشأة الاولى ولم ينفعهم الندم والخجالة حينئذ لانقضاء زمان إمكان التدارك والتلافي. ثم أشار سبحانه الى تزلزل الإنسان وعدم ثباته على العزيمة الخالصة نحو ربه فقال
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ ولحقه على وجه المساس ليكون منها له موقظا إياه عن سنة الغفلة ونوم النسيان ومذكرا له للتوجه والتحنن إلينا دَعانا لكشفه واستكشف عنا على وجه الإلحاح والاقتراح ثُمَّ بعد كشفنا عنه ضره إِذا خَوَّلْناهُ ووسعنا عليه نِعْمَةً تفضلا مِنَّا إياه وتكريما لنختبر كيف يشكر على حصول النعمة ودفع النقمة قالَ حينئذ على سبيل الكفران والطغيان إِنَّما أُوتِيتُهُ من النعم عَلى عِلْمٍ منى بوجوه كسبه وطرق جمعه وارباحه واخذه والمعنى ما أوتيت وأعطيت بما أوتيت الا بسبب سعيي وعلمي بوجوه جمعه وتحصيله لا من حيث لا احتسب وبالجملة هكذا يقول من الكلمات الدالة على الكفران والطغيان مع ان نعمته ما هي نعمة في أنفسها بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ابتلاء واختبار منا إياه لننظر أيشكر أم يكفر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون فتنتنا واختبارنا لذلك ينهمكون في بحر الكفران والطغيان وليس هذا القول مخصوصا لهؤلاء الكفرة التائهين في تيه الغفلة والكفران بل
قَدْ قالَهَا اى الكلمة المخصوصة التي هي جملة انما أوتيته على علم عموم الكافرين المسرفين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مثل قارون وغيره وبالجملة فَما أَغْنى ودفع عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
من الزخارف الدنياوية شيأ من عذاب الله حين أحاط بهم ونزل عليهم العذاب فكذا ما اغنى عن هؤلاء ايضا أمتعتهم شيأ من عذاب الله حين(2/250)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أحاط بهم ونزل عليهم وحين حلوله بل
فَأَصابَهُمْ اى الكفرة الماضين وأحاط بهم في النشأة الاولى سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا مثل الخسف والكسف والغرق ونحوها وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ المستخلفين عنهم القائلين بقولهم يعنى قريشا خذلهم الله سَيُصِيبُهُمْ عن قريب سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أمثال أولئك الهالكين وَما هُمْ اى هؤلاء المسرفون المفسدون بِمُعْجِزِينَ الله القادر المقتدر على انواع التعذيب والانتقام فقتل صناديدهم يوم بدر وقحطوا سبع سنين. ثم وسع سبحانه عليهم الرزق ليتنبهوا ان مقاليد الأمور بيده او خزائن الرزق عنده ومع ذلك لم يتفطنوا
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا ولم يتنبهوا أَنَّ اللَّهَ المتكفل لأرزاق عباده يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده ويوسع عليه وَيَقْدِرُ اى يقبض عن من يشاء ارادة واختيارا على مقتضى علمه بتفاوت استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية الفائضة عليهم من الحكيم الوهاب إِنَّ فِي ذلِكَ القبض والبسط المستلزمين لانواع الدقائق والرقائق الغير المحصورة في الأمور الإلهية لَآياتٍ وبراهين واضحات على حكمة القدير العليم لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بذات الله وكمال أوصافه وأسمائه وبعد ما تنبهوا على حقية الحق وتفطنوا بدلائل توحيده
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا مناديا لهم على وجه الاختصاص مضيفا لهم إلينا عطفا ورفقا ولطفا يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ طول دهرهم قبل انكشاف الاغطية والسدل عن عيون بصائرهم لا تَقْنَطُوا وتيأسوا مِنْ فيضان رَحْمَةِ اللَّهِ عليكم سيما بعد كشف الغطاء ورفع الحجب والغشاء إِنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر عباده وعموم نياتهم يَغْفِرُ ويستره الذُّنُوبَ التي صدرت عنكم وقت غفلتكم جَمِيعاً وكيف لا يغفرها سبحانه إِنَّهُ بمقتضى ذاته وأوصافه وأسمائه هُوَ الْغَفُورُ المقصور على الستر والعفو لعموم عباده سيما على اهل التوحيد منهم الرَّحِيمُ لهم يوصلهم بعد رفع الحجب الى مقر التجريد والتفريد
وَبعد ما قد سمعتم سعة رحمة الحق وجميل عفوه ومغفرته أَنِيبُوا اى تقربوا وتوجهوا ايها المجبولون على فطرة الإسلام إِلى رَبِّكُمْ الذي رباكم لمصلحة المعرفة والتوحيد وَأَسْلِمُوا لَهُ وانقادوا لأوامره واجتنبوا عن نواهيه بالعزيمة الخالصة عن كدر الرعونات وشين الشهوات والغفلات مطلقا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ الموعود في يوم الجزاء ثُمَّ بعد نزوله وإتيانه لا تُنْصَرُونَ اى حينئذ لا يسع لكم التدارك والتلافي لانقضاء زمان التوبة والرجوع
وَبالجملة ان أردتم النجاة من العذاب اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ايها المكلفون على الدين المستبين ألا وهو القرآن الكريم المنزل على خير الأنام وأفضل الرسل الكرام وامتثلوا بجميع ما فيه من الأوامر والنواهي على وجه العزيمة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً فجاءة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ من علاماته حتى تتداركوا وتحذروا منها وبالجملة احذروا من يوم هائل مهول مخافة
أَنْ تَقُولَ في حلوله وألمامه نَفْسٌ وازرة منكم مقصرة عن الانابة والرجوع حين حلول العذاب عليها يا حَسْرَتى ويا ندامتا عَلى ما فَرَّطْتُ وقصرت فِي جَنْبِ اللَّهِ ورعاية جانبه وحقه في أطاعته وانقياده وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ اى فرطت في حقه سبحانه والحال انى قد كنت من الساخرين بالأنبياء الهادين والعلماء الراشدين المنبهين علىّ وبالجملة فندمت يومئذ فما ينفع الندم
أَوْ تَقُولَ متحسرة على كرامة اهل العناية لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي ووفقني على التوبة والانابة نحوه كسائر أوليائه لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن الإفراط في(2/251)