الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
عَذابِي ونكالي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ من عصاة عبادي وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ من المطيعين والعاصين وغيرهم فَسَأَكْتُبُها وأثبتها حتما لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويحذرون عن المحارم مطلقا طلبا لمرضاتى وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ اى يعطون مما في أيديهم من الرزق الصوري والمعنوي تمرينا على نفوسهم ملكة الكرم والجود وتطهيرا لها عن الشح المطاع الموجب للقسوة والغفلة وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا اى بجميعها يُؤْمِنُونَ يوقنون ويمتثلون بمقتضاها ألا وهم
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ المرسل بالتوحيد الذاتي النَّبِيَّ المتمم لمكارم الأخلاق الْأُمِّيَّ المتحقق المخصوص بالعلم اللدني الملقى له من ربه بلا واسطة كسب وتعليم من معلم الا وهو النبي الموعود الَّذِي يَجِدُونَهُ يعنى عموم اهل الكتب مَكْتُوباً في كتبهم بعثته ودينه واسمه وحليته وجميع أوصافه ثابتة عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ بانه إذا بعث يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ التي يحرمونها على نفوسهم وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ التي قد حللوها على أنفسهم وَبالجملة يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ اى يزيح ويزيل عنهم ثقلهم التي يترهبون ويتزهدون فيها فوق طاقتهم كقطع الأعضاء والجوارح التي يخطئون بها وقطع موضع النجاسة من الثوب وغير ذلك وَيضع ايضا الْأَغْلالَ اى التكاليف الشاقة الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ وبالجملة فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ حين ظهوره ودعوته وَعَزَّرُوهُ ووقروه حق توقيره وتعظيمه وَنَصَرُوهُ تقوية لدينه وَاتَّبَعُوا النُّورَ اى القرآن الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ من عند الله تأييدا له وتصديقا إياه أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله الموفقون من عنده باتباعه هُمُ الْمُفْلِحُونَ المقصورون من عنده على الفلاح والفوز بالنجاح
قُلْ يا أكمل الرسل الهادي للكل المرسل الى كافة البرايا يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة الناسون عهد الله وميثاقه المحتاجون الى المرشد الهادي ليهديكم الى طريق الرشد إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ قد أرسلني إِلَيْكُمْ جَمِيعاً اى الى قاطبة اهل التكليف وعامة البرايا لهديكم الى توحيده الذاتي اعلموا ايها المجبولون على فطرة الوجدة انه سبحانه هو العليم القدير الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وما فيها إيجادا وتصرفا بالاستقلال والاختيار وَالْأَرْضِ وما عليها كذلك لا إِلهَ اى لا متصرف في الشهود ولا مالك في الوجود إِلَّا هُوَ المتصرف المستقل بالوجود والألوهية يُحيِي ويظهر بلطفه وجماله من يشاء من مظاهره وَكذا يُمِيتُ بقهره وجلاله من يشاء ومتى عرفتم ان الملك كله لله والتصرف بيده فَآمِنُوا بِاللَّهِ المتوحد المتفرد بالالوهية وَرَسُولِهِ المرسل من عنده ليبين لكم طريق توحيده النَّبِيِّ المخبر بأحوال النشأة الاولى والاخرى الْأُمِّيِّ المكاشف الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ اى يوقن ويذعن بتوحيد الله ويصدق بعموم كلماته المفصلة المنزلة من عنده سبحانه بتوفيق الله وتأييده من لدن نفسه القدسية بلا مدرس ومرشد هاد ومعلم منبه وَإذا كان شانه هذا ووصفه هكذا اتَّبِعُوهُ ايها الطالبون لطريق الحق القاصدون نحو توحيده لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم بعموم ما تروحون وتقصدون اليه من مراسم التوحيد الذاتي ثم قال سبحانه تنبيها على المؤمنين وحثا لهم الى الاتصاف بالقسط والعدالة المنبئة عن الصراط الأقوم الإلهي
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى اى من بنى إسرائيل أُمَّةٌ وجماعة مقتصدة يَهْدُونَ الناس الى توحيد الحق بِالْحَقِّ والصدق المطابق للواقع لنجابة فطرتهم واستقامة عقيدتهم وَبِهِ يَعْدِلُونَ اى بسبب الحق يقتصدون لا يفرطون(1/270)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
في الاحكام أصلا
ثم قال سبحانه وَقَطَّعْناهُمُ اى قد حزبنا بنى إسرائيل وصيرناهم اثْنَتَيْ عَشْرَةَ حزبا على عدد أبناء يعقوب عليهم السّلام ليكونوا أَسْباطاً لهم كل حزب سبط لواحد منهم لذلك صاروا أُمَماً مختلفة متفرقة وان كان الكل مسمى ببني إسرائيل وَمن جملة نعمنا إياه انا قد أَوْحَيْنا من مقام جودنا إِلى مُوسى وقت إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ اى حين صاروا تائهين هائمين عطاشا حائرين أَنِ اضْرِبْ يا موسى بِعَصاكَ التي قد استعنت بها في الأمور الْحَجَرَ الذي بين يديك فضرب فَانْبَجَسَتْ جرت وخرجت على الفور بلا تراخ ومهلة مِنْهُ اى من الحجر اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً جارية بضربة واحدة على عدد الأسباط والفرق بحيث قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ من كل سبط مَشْرَبَهُمْ المخصوص لهم لئلا يقع الخصومة والنزاع بينهم وَايضا من جملة نعمنا إياهم انا قد ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ اى أمرنا الغمام بان يظل عليهم في التيه لئلا يتضرروا من شدة الحر فيستريحوا وَايضا أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ الترنجبين لشربهم تبريدا لأمزجتهم وَأنزلنا لهم ايضا السَّلْوى اى السمانى لغذائهم وقلنا لهم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لتقويم امزجتكم وتقويتها وهم مع تلك الكرامات العظام قد خرجوا عن مقتضى الأوامر والنواهي المأمورة إياهم وَبالجملة ما ظَلَمُونا أولئك الظالمون الخارجون عن مقتضيات حدودنا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اى ما يظلمون الا أنفسهم بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام ويلقونها بذلك في عذاب الدنيا والآخرة وهم مع قبح صنيعهم معنا قد راعيناهم وأنعمنا عليهم
وَمن جملة ما ظلموا على أنفسهم انهم إِذْ قِيلَ لَهُمُ واوصى إليهم إصلاحا لحالهم اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ اى بيت المقدس وَكُلُوا مِنْها اى من مأكولاتها المتسعة حَيْثُ شِئْتُمْ بلا مدافعة ومنع وَقُولُوا متضرعين إلينا متوجهين نحونا حِطَّةٌ اى سؤالنا منك يا مولانا حط ما صدر عنا من الآثام وعفو ما جرى علينا من المعاصي وَادْخُلُوا الْبابَ اى بيت المقدس سُجَّداً ساجدين متذللين واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان تأدبا وتعظيما نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ اى جميعها ان امتثلتم ما قد أمرناكم به بل سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ منكم بالرضوان الأكبر من لدنا
وبالجملة فَبَدَّلَ واستبدل الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أنفسهم بالخروج عن مقتضى ما امرناهم قَوْلًا صادقا صوابا قد قلنا لهم لإصلاح حالهم غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ على السنة رسلنا بل قد حرفوها لفظا ومعنى كما مر بيانه في سورة البقرة فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ بسبب تبديلهم وتحريفهم هذا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ اى عذابا نازلا من جانب السماء بِما كانُوا يَظْلِمُونَ اى بشؤم خروجهم عن مقتضى أوامرنا وأحكامنا
وَايضا من جملة ظلمهم على نفوسهم حيلتهم وخديعتهم في نقض العهد ان شئت ان تعرفها سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ اى اسئل خديعتهم من اهل القرية الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه قيل ايلة وقيل طبرية الشأم وقيل مدين اذكر وقت إِذْ يَعْدُونَ يتجاوزون عن حدودنا وعهودنا معهم فِي السَّبْتِ اى العهد الذي هم قد عهدوا معنا ان لا يصطادوا في يوم السبت بل اخلصوه لعبادتنا والتوجه نحونا فابتليناهم بمحافظة العهد والوفاء عليه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ المعهود المحرم شُرَّعاً متتابعة متوالية وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ ولا يعهدون فيه لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ اى مثل سبتهم فاحتالوا بتعليم شياطينهم إياهم فحفروا أخاديد وحياضا على شاطى البحر فأرسلوا الماء عليها في يوم السبت(1/271)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
واجتمعت الحبتان فيها فاصطادوها يوم الأحد والاثنين وبسبب خداعهم معنا واختراع الحيل لنقص عهودنا نَبْلُوهُمْ نبلاء المسخ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بسبب فسقهم وخروجهم عن مقتضى العهد
وَاذكر إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ اى جماعة من صلحائهم حين قال بعض آخر من الصلحاء ايضا للمحتالين المناقضين على وجه العظة والتذكير لم تحتالون ولم تخادعون مع الله كأنكم لا تخافون من بطشه وانتقامه لِمَ تَعِظُونَ ايها المذكرون المصلحون قَوْماً منهمكين في الغفلة والضلال مع انه اللَّهُ القادر المقتدر المطلع لعموم أحوالهم مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً اى قد أراد الله إهلاكهم او تعذيبهم باشد العذاب بشؤم حيلتهم وخداعهم هذه قالُوا يعنى المذكرين المصلحين تذكيرنا ونصحنا إياهم مَعْذِرَةً ما إِلى رَبِّكُمْ الذي قد أمرنا بنهي المنكر على وجه المبالغة ولتأكيد وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اى وأيضا ترجو من كرم الله وفضله ان ينتهوا ويحذروا بتذكيرنا إياهم عما هم عليه من الغفلة والضلال
وبالجملة فَلَمَّا نَسُوا واعرضوا عن ما ذُكِّرُوا بِهِ اى من العظة والتذكير ولم يقبلوا من الواعظين المذكرين وعظهم ونصيحتهم أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ متعظين بما ذكروا به وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالإعراض عنه بِعَذابٍ بَئِيسٍ شديد فطبع بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بسبب فسقهم واعراضهم
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ والحاصل انهم ما تكبروا واستكبروا عن امتثال أوامرنا واجتناب نواهينا قُلْنا لَهُمْ على لسان نبيهم داود عليه السّلام كُونُوا ايها المتكبرون المنهمكون في الغي والضلال قِرَدَةً خاسِئِينَ صاغرين مهانين لاستكباركم عن أوامر الله وتكاليفه مع انكم انما جبلتم على تحمل التكليفات الإلهية المستتبعة لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحانه فلما امتنعوا عنها مسخوا عن لوازم الانسانية بالمرة والحقوا باخس الحيوانات وأرذل الأعاجم
وَاذكر لمن تبعك يا أكمل الرسل واتل عليهم كي يتنبهوا وقت إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ اى قد عزم وكتب على نفسه كأنه اقسم سبحانه لَيَبْعَثَنَّ وليسلطن عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مستمرا دائما مَنْ يَسُومُهُمْ ويعلمهم سُوءَ الْعَذابِ لذلك ما ترى يهوديا في اقطار الأرض الا على مذلة وهوان إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَسَرِيعُ الْعِقابِ على من أراد عقابه وَإِنَّهُ ايضا لَغَفُورٌ لمن تاب وأخلص رَحِيمٌ بقبل توبته ويمحو معصيته
وَمن غاية اذلالنا إياهم قَطَّعْناهُمْ وفرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً فرقا فرقا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ اى الطالحون الخارجون عن مقتضى الايمان وَبالجملة قد بَلَوْناهُمْ اى اختبرناهم وحرمناهم بِالْحَسَناتِ اى بالعطاء والانعام وَالسَّيِّئاتِ بالأخذ والانتقام لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ رجاء ان يتنبهوا بنا فيرجعوا إلينا وبعد ما بلوناهم بما بلوناهم
فَخَلَفَ واستخلف مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد انقراضهم خلق خَلْفٌ خلفاء منهم يدعون انهم قد وَرِثُوا الْكِتابَ اى علم التورية منهم مع انهم يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى اى الدنيا مولعين بجمعها وأخذها وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا اى لن يأخذنا الله ابدا بأخذها وجمعها وَمن غاية حرصهم إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ بل أضعافه وآلافه يَأْخُذُوهُ بلا مبالاة اتكالا على مغفرة الله وعفوه مع انهم لم يستغفروا اليه أصلا أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الله المنزل في الْكِتابَ الذي ادعوا علمه ووراثته بل قد أخذ سبحانه منهم الميثاق في كتابهم على أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا القول الْحَقَّ ولا تنسبوا اليه سبحانه الا الصدق الثابت الذي(1/272)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
قد ورد عليه الأمر الإلهي من عنده سبحانه وَكيف لم يعلموا أخذ الله إياهم مع انهم قد دَرَسُوا من معلميهم ما فِيهِ من الاحكام والمواعظ والأوامر والنواهي وَبالجملة الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويحذرون عن حطام الدنيا ويجتنبون عن آثامها أَفَلا تَعْقِلُونَ خيريتها ايها الضالون المنغمسون «2» في قاذورات الدنيا ولذاتها وشهواتها مع انها لا مدار لها ولا قرار للذاتها ومشتهياتها
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ ويتمسكون منهم بِالْكِتابِ اى بما امرناهم في التورية ونهيناهم عنه فيه وَمع ذلك قد أَقامُوا الصَّلاةَ واداموا الميل والتوجه إلينا على الوجه الذي امرناهم في كتابهم فعلينا أجرهم إِنَّا لا نُضِيعُ ولا نهمل أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ الذين يصلحون ظواهرهم بالشرائع والاحكام المنزلة من عندنا وبواطنهم بالإخلاص والتوحيد المسقط للاضافات مطلقا
وَاذكر وقت إِذْ نَتَقْنَا وقلعنا الْجَبَلَ من مكانه ورفعنا فَوْقَهُمْ بحيث يظل عليهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقف فوق رؤسهم وَظَنُّوا من قبح صنيعهم أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ الى ان قلنا لهم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من مأمورات التورية بِقُوَّةٍ عزيمة صادقة وجزم خالص في أوامره وأحكامه وَاذْكُرُوا اى اتعظوا وتذكروا ما فِيهِ من المواعظ والتذكيرات لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تنتهون وتحذرون عن قبائح أعمالكم ورذائل أخلاقكم
وَبالجملة نقض العهود ورفض المواثيق ونكثها والاعراض عن التكاليف المأمورة ليس مما يختص بهؤلاء المعرضين بل ما هي الا من الديدنة القديمة والعادة المستمرة لبنى آدم اذكر وقت إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل مِنْ بَنِي آدَمَ حين أخرجهم حسب حصة ناسوتهم مِنْ ظُهُورِهِمْ اى من ظهور آبائهم وأصلابهم على التوالد المتعارف ذُرِّيَّتَهُمْ اى أولادهم قرنا بعد قرن بطنا بعد بطن وَأَشْهَدَهُمْ اى أحضرهم واطلعهم عَلى أَنْفُسِهِمْ اى على حصة لاهوتهم وعلى أرواحهم الفائضة عليهم المنفوخة فيهم من روحه سبحانه ثم قال لهم بعد ما شهدوا واستحضروا منشأهم وعلموا أصلهم اللاهوتى والناسوتي أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ الذي أوجدكم وأظهركم من كتم العدم بنفخ من روحي فيكم وفي ناسوتكم يا بنى آدم قالُوا بالسنة استعداداتهم بَلى قد شَهِدْنا يا مولينا سيما بعد ما أشهدتنا واقررتنا أنت ربنا لا رب لنا سواك ولا مظهر لنا غيرك فأخذ سبحانه على ذلك منهم الميثاق الوثيق حينئذ وانما أخذ ما أخذ كراهة أَنْ تَقُولُوا على سبيل المجادلة والمراء حين أخذهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بجرائمهم الصادرة عنهم المقتضية لنقض العهد إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا عن ربوبيتك واستقلالك فيها غافِلِينَ غير عالمين بها ولا منبهين عليها
أَوْ تَقُولُوا لو لم يأخذ سبحانه العهد الوثيق منهم جميعا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَقد كُنَّا ذُرِّيَّةً ضعافا مِنْ بَعْدِهِمْ فتقلدنا بهم أَفَتُهْلِكُنا وتأخذنا يا ربنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ اى بفعل آبائنا الذين قد أشركوا بك مع انا حينئذ لم نكن من اصحاب الرأى والتمييز وأخذنا بجرمهم ظلم علينا لذلك أخذ سبحانه الميثاق من جميع بنى آدم حتى لا يبقى لهم حجة عليه
__________
(2) كما نشاهد اليوم من اعيان زماننا احسن الله أحوالهم ومشايخ عصرنا واواننا يدعون وراثة الأنبياء ويجمعون من حطام الدنيا حلالها وحرامها وهم مولعون بجمعها الى حيث يلقون أنفسهم في المهالك ويحضرونها في المعاطب لنظم فضول العيش واسباب النخوة والجاه لذلك يترددون الى باب السلاطين ويتزورون بأنواع التزويرات والتلبيسات ويأخذون من اموال الجباية ما أمكن لهم ولا يعطون المستحقين شيأ منها ومع ذلك يدعون الولاية والوراثة والترك والتجريد والإطلاق والتفريد وبالجملة ما أولئك الا حزب الشيطان الا ان حزب الشيطان هم الخاسرون أعاذنا الله وعموم عباده من غوائل الشيطان وتسويلاته وتغريراته بمنه وجوده(1/273)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
سبحانه
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ ونبين على وجه الخصوص والعموم الْآياتِ الدالة على توحيدنا على اليهود وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ رجاء ان يتنبهوا فيرجعوا نحونا ومع ذلك لم يرجعوا ولم يتنبهوا أصلا
وَبعد ما قد بالغوا في الاعراض والإنكار اتْلُ عَلَيْهِمْ اى على اليهود يا أكمل الرسل نَبَأَ اى قصة الشخص الَّذِي آتَيْناهُ علم آياتِنا العظام وأسمائنا الكرام حتى قدر وتمكن بسببها على اى شيء أراد فاعرض عنا بمتابعة الهوى كهؤلاء الغواة فَانْسَلَخَ مِنْها اى تجرد وعرى من سرائر الآيات جميعا انسلاخ لحية من جلدها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ اى قد جعله اللعين تابعا لاهوية نفسه فَكانَ بمتابعتها مِنَ الْغاوِينَ المنهمكين في الغي والضلال بحيث لا يرجى هدايته أصلا كهؤلاء اليهود
وَلَوْ شِئْنا وتعلق مشيتنا لهدايته الى أقصى غاية التوحيد وأعلى مرتبته لَرَفَعْناهُ بِها اى بتلك الآيات وَلكِنَّهُ متعلق لذلك أَخْلَدَ اى انخفض ومال إِلَى الْأَرْضِ الأنزل الأرذل وَاتَّبَعَ هَواهُ ينزل عليها ومع ذلك يتمسك بها وأراد ان يتشبث بمقتضاها فَمَثَلُهُ في هذا التمسك والتشتت بعد اللتيا والتي كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ حملا موجبا للهثه واندلاع نسائه يَلْهَثْ يخرج لسانه بسببه أَوْ تَتْرُكْهُ ولم تحمل عليه ما يوجب للهثه يَلْهَثْ ايضا لرسوخ تلك الديدنة القبيحة في ذاته وبالجملة ذلِكَ اى مثل ذلك الكلب بعينه مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ يا أكمل الرسل لليهود الْقَصَصَ المعهود لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ويتأملون فيما هم عليه من الاعراض والإنكار فيتنبهون على قبح صنيعهم وسوء فعالهم مع الله قيل ذلك الشخص هو بلعام بن باعوراء وقصته معروفة وقيل امية ابن الصلت كان قد قرأ الكتب المنزلة ووحد فيها وصف النبي صلّى الله عليه وسلم ورجا ان يكون هو فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسد وكفر جميع الكتب المنزلة وكان من الغاوين
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ اى بئس المثل مثل القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واعرضوا عنها منكرين عليها وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ اى وما يظلمون بالإعراض والإنكار الا أنفسهم إذ عاد عليهم وباله ونكاله ولكن لا يشعرون لقساوة قلوبهم وخبث طينتهم
وبالجملة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بان يوفقه على سماع كلمة الحق فَهُوَ الْمُهْتَدِي الى توحيده وَمَنْ يُضْلِلْ بان يضله عن سبيله بإنكار آياته وتكذيب رسله فَأُولئِكَ البعداء الضالون هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي لا يرجى ربحهم وهدايتهم أصلا
ثم قال سبحانه وَلَقَدْ ذَرَأْنا أوجدنا وأظهرنا لِجَهَنَّمَ البعد والخذلان ونيران الإمكان والخسران كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مع انه قد ثبت لَهُمْ قُلُوبٌ هي مناط التكاليف والعرفان ومحال الايمان والإيقان وهم لا يَفْقَهُونَ بِها ليحصل لهم مرتبة اليقين العلمي وَلَهُمْ أَعْيُنٌ هي سبب مشاهدة الآثار والاستدلال منها على الأوصاف الموجدة لها المترتبة على الذات الإلهي وهم لا يُبْصِرُونَ بِها ليحصل لهم مرتبة اليقين العيني وَلَهُمْ ايضا آذانٌ هي آلات لسماع كلمة الحق ووسائل الى اكتساب الفضائل والكمالات المنبهة على ما في نفوسهم من السرائر والأسرار المكنونة الإلهية وهم لا يَسْمَعُونَ بِها ليحصل لهم الترقي من مرتبة اليقين العيني الى اليقين الحقي وبالجملة أُولئِكَ الحمقى الجهلاء المتصنعون بأوصاف العقلاء العرفاء كَالْأَنْعامِ في عدم الشعور والتنبه بَلْ هُمْ بسبب تضييع استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية أَضَلُّ من الانعام بمراتب وبالجملة أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ المقصورون على الغفلة المؤبدة(1/274)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
المتناهون فيها أقصى الغاية
وَاعلموا ايها العقلاء العرفاء الموحدون ان لِلَّهِ المتوحد المتفرد لذاته الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي تترتب عليها الصفات العليا المترتبة عليها الآثار الحادثة في عالم الكون والفساد والشهادة والغيبة والنشأة الاولى والاخرى فَادْعُوهُ سبحانه ايها الموحدون بِها وأسندوا الحوادث الكائنة إليها أولا وبالذات وَذَرُوا اى دعوا واتركوا اقوال الجاحدين الملحدين الَّذِينَ يُلْحِدُونَ يميلون وينحرفون فِي أَسْمائِهِ بنسبة الحوادث الكائنة الى الأسباب والوسائل العادية أولا وبالذات واعتقدوها عللا وأسبابا حقيقية واهجروا مذاهبهم واعتزلوا عنهم وعن مجالستهم واعلموا ان كل واحد منهم ايها المكلفون سَيُجْزَوْنَ بمقتضى ما كانُوا يَعْمَلُونَ في نشأة الدنيا ان خيرا فخير وان شرا فشر ثم قال سبحانه كلاما كليا جمليا شاملا على جميع الملل والأديان
وَمِمَّنْ خَلَقْنا اى اظهرناهم على صورتنا أُمَّةٌ مستخلفة عنا هم يَهْدُونَ الناس إلينا ملتبسين بِالْحَقِّ المطابق للواقع متمسكين به وَبِهِ اى بالحق لا بغيره إذ لا غير يَعْدِلُونَ يقسطون وينصفون في الوقائع والاحكام
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا المنزلة على رسلنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ اى سنستضلهم ونستذلهم قليلا قليلا الى ان نهلكهم بالمرة وندخلهم في جهنم البعد وسعير الإمكان مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون كيف وقعوا فيها ومن اى طريق دخلوا
وَبالجملة أُمْلِي لَهُمْ اى امهلهم في بطرهم وغفلتهم الى حيث ازدادوا على نفوسهم العتو والعناد الموجب لشدة العذاب مكرا عليهم وكيدا لهم إِنَّ كَيْدِي ومكري سيما مع العصاة الغواة الضالين عن منهج العدالة والرشد مَتِينٌ محكم بحيث لم يحسوا به وباماراته ومقدماته أصلا الى ان أخذوا بأسوإ العذاب وأشد النكال ثم أشار سبحانه الى توبيخ المسرفين المسفهين لرسول الله عنادا ومكابرة
فقال أَما يستحيون من الله أولئك المسرفون المفرطون من نسبة الجنون الى من فاق على عموم العقلاء بالرشد والهداية وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ولم يتدبروا انه ما بِصاحِبِهِمْ يعنى نبيهم ورسولهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنْ جِنَّةٍ خفة عقل موجب للخبط والجنون غاية ما في الباب ان هؤلاء القاصرين عن ادراك كلامه ينسبون ما لم يفهموا من كلامه الى انه قد صدر عنه هفوة لا عن قصد وشعور ويسمونه مجنونا لذلك إِنْ هُوَ اى بل ما هو صلّى الله عليه وسلّم عند التحقيق إِلَّا نَذِيرٌ ينذرهم باذن الله ووحيه ويخوفهم الله به مُبِينٌ عظيم الشان ظاهر البيان في امر الإنذار والإرشاد روى انه صلّى الله عليه وسلّم صعد الصفا يوما فدعاهم فخذا فخذا يحذرهم عن بأس الله وبطشه فقال قائلهم ان صاحبكم لمجنون فنزلت. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع لهؤلاء المسرفين الذين ينسبون ما هو خارج عن مدركات عقولهم الى الجنون ويدعون استقلال العقل في العلوم المتعلقة بالأشياء كلها
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا ولم يتدبروا كيف تقصر وتدهش عقولهم فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وكيفية نظمها ونضدها وترتيبها وتطبيقها وما فيها من كواكبها وبروجها وحركاتها وادوارها وانقلاباتها شتاء وصيفا ربيعا وخريفا وَالْأَرْضِ وما عليها من تلالها ووهادها وأنهارها وبحارها ورياضها وازهارها وغرائبها وبدائعها المكنونة المتكونة فيها بل وَفي جميع ما خَلَقَ اللَّهُ وأظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا مِنْ شَيْءٍ اى مما يطلق عليه اسم شيء تدهش وتتحير في ظهوره عقول فحول العقلاء بحيث لم يطلعوا ولم يفهموا كيفية ظهور ذرة حقيرة من ذرائر العالم فكيف لميتها لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم في دعائه اللهم أرنا الأشياء كما هي وقال ايضا صلّى الله عليه وسلّم(1/275)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
رب زدني فيك تحيرا هذا في الآفاق الخارجة عنهم وَاما في نفوسهم فلم ينظروا أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ المقدر المسمى لهم وهم لا يفهمونه وان اجتمع العقلاء في تعيين أجل شخص واحد ما قدروا ومع قصور نظرهم وسخافة أحلامهم ينسبون الجنون الى المكاشفين الناظرين بنور الله المشاهدين المطالعين دائما صفاء وجهه الكريم الا وهم الذين قد انخلعوا عن لوازم البشرية مطلقا وشقوا جلباب الناسوت رأسا وخرقوا الحجب المسدولة بالكلية وصاروا ما صاروا لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه وبعد ما سقط العقل عن درجة الاعتبار واضمحلت مدركاته رأسا وخرجت عن الوثوق والاعتماد مطلقا فلا تعويل الا على الوحى والإلهام الملقى من عند العليم العلام فَبِأَيِّ حَدِيثٍ من الأحاديث الملهمة والموحى بها بَعْدَهُ اى بعد نزول القرآن يُؤْمِنُونَ ايها المؤمنون المصدقون بالوحي والإلهام
وبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ وتعلق مشيته بإضلاله وإذلاله حسب جلاله فَلا هادِيَ لَهُ يرشده فعليك ان لا تجهد يا أكمل الرسل في هدايتهم ولا تصغى ايضا الى أباطيلهم إذ أمرهم مفوض الى الله وَكيف تجتهد وتسعى في ايمانهم إذ هم قوم يَذَرُهُمْ ويتركهم الله باسمه المذل المضل فِي طُغْيانِهِمْ المتجاوز عن الحد يَعْمَهُونَ يترددون ويتحيرون الى ان يأخذهم بما يأخذهم دعهم أنت ايضا مع أباطيلهم يترددون وفي سكرتهم يعمهون
يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ السَّاعَةِ التي تخوفهم بها ومن شدة أهوالها وافزاعها أَيَّانَ مُرْساها اى في اى آن من الآنات وزمان من الازمنة قيامها ووقوعها حتى نؤمن بها قبل قيامها قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم إِنَّما عِلْمُها وعلم قيامها عِنْدَ رَبِّي ومن جملة ما استأثر الله به سبحانه في غيبه ولم يطلع أحدا عليها وبالجملة لا يُجَلِّيها اى لا يظهرها ولا يكشف أمرها لِوَقْتِها الذي عين لها وفي ساعتها التي قدر لوقوعها إِلَّا هُوَ إذ هي من جملة الغيوب الخمسة التي قد خصها سبحانه لنفسه في قوله وعنده علم الساعة وينزل الغيث الآية وانما أخفاها وأبهم وقتها ولم يطلع أحدا عليها لان الحكمة المتقنة تقتضي ذلك إذ لو أظهرها على عباده قد ثَقُلَتْ عظمت وشقت عليهم أمرها واشتدت هولها على من فِي السَّماواتِ من الملائكة وَعلى من في الْأَرْضِ من الثقلين لذلك لا تَأْتِيكُمْ الساعة عند إتيانها إِلَّا بَغْتَةً فجاءة وعلى غفلة بحيث لا يسع لكم ترك ما كنتم فيه حينئذ من الأمور كما اخبر صلّى الله عليه وسلّم ان الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقى ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه وانما يَسْئَلُونَكَ عن الساعة وقيامها لظنهم فيك من نجابة طينتك يا أكمل الرسل كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها خبير بوقتها عليم بشأنها مذكر لها دائما مفتش عن أهوالها وأحوالها مستمرا قُلْ لهم إِنَّما عِلْمُها ووقت ظهورها عِنْدَ اللَّهِ وفي خزانة حضرة علمه ولوح قضائه وعالم أسمائه وغيب ذاته وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ انه سبحانه مختص به لا يطلع أحدا عليها
قُلْ يا أكمل الرسل لمن ظن بك انك حفى عليم بسرائر الأمور والعلوم ومخفياتها خبير أنت بحقائق الموجودات وماهياتها اعترافا بالعبودية وسلبا للاختيار عن نفسك والله لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً اى جلب نفع وَلا ضَرًّا اى دفع ضر إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إيصاله الى من النفع والضر وايضا لا اعلم من الغيب الا ما اوحى الله الى وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعنى لو تعلق علمي بعواقب أموري لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ لنفسي وَصرت بحيث ما مَسَّنِيَ السُّوءُ(1/276)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
ابدا وما لحقني ضر أصلا لكن إِنْ أَنَا اى ما انا إِلَّا نَذِيرٌ أنذركم باذن ربي على مقتضى وحيه والهامه إياي وَبَشِيرٌ ايضا بمقتضاه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بوحي الله والهامه وبالجملة ما انا عالم بحالي ولا بأحوالكم أصلا بل رسول من عند ربي أبلغكم ما أرسلت به وما اوحيت من لدنه
وكيف لا يكون الغيب مما استأثر الله به إذ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ اى أوجدكم وأظهركم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي أبونا آدم عليه السّلام وكان جسدا لا علم له ولا ادراك ثم علمه سبحانه من انيات الأشياء والأسماء ما تعلق ارادته بتعليمه إياه ولم يعلمه حقائقها وكمياتها إذ هي من جملة المغيبات التي لم يطلع أحدا عليها وَبعد ما أظهرها جَعَلَ مِنْها اى خلق من جنسها زَوْجَها حواء وانما خلقها لِيَسْكُنَ إِلَيْها ويوانس معها فَلَمَّا تَغَشَّاها وواقعها بالهام الله إياه حَمَلَتْ وحبلت حواء حَمْلًا خَفِيفاً اى أدركت حملا خفيفا في بطنها فَمَرَّتْ بِهِ ومضت عليها مدة أدركت ثقلها وأخبرت زوجها بثقلها فالهم بانه ولد فَلَمَّا أَثْقَلَتْ الى حيث اشتد عليها حملها وظهرت عندها امارة حيوة ما في بطنها واحست حركته دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا ولدا صالِحاً سالما لموانستنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمك المواظبين على أداء حقوق كرمك
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً بعد صالح وطالحا بعد طالح بطنا بعد بطن جَعَلا وأخذا موضع الشكر لَهُ سبحانه شُرَكاءَ باغواء الشيطان إياهما فِيما آتاهُما من الأولاد فسمياهم بعبد الحارث وعبد العزى وعبد المناة بتعليم الشيطان إياهما فَتَعالَى اللَّهُ المنزه بذاته عن الشريك مطلقا سيما عَمَّا يُشْرِكُونَ له هما وغيرهما من المشركين ثم لا يكن شركهما عن قصد واختيار بل بوسوسة الشيطان واغوائه وبخ سبحانه عليهم وعيرهم لينزجروا
وقال أَيُشْرِكُونَ جمعه باعتبار أولاده معنا ما لا يَخْلُقُ ويظهر شَيْئاً حقيرا قليلا بل وَهُمْ اى الأصنام والشركاء في أنفسهم يُخْلَقُونَ مخلوقون كسائر المخلوقات
وَكيف يشركون الأصنام معنا في الألوهية والربوبية مع انهم لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ اى لعبدتهم نَصْراً حيث يدفعون عنهم الأذى والضرر إذ هم جمادات لا شعور لها وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعنى بل لا يقدرون ان ينصروا أنفسهم بدفع ما يؤذيهم ويكسرهم فكيف لغيرهم
ثم قال سبحانه وَإِنْ تَدْعُوهُمْ ايها المؤمنون الموحدون المشركين المصرين على الشرك والعناد إِلَى الْهُدى الموصل لهم الى توحيد الحق لا يَتَّبِعُوكُمْ لخبث طينتهم بل سَواءٌ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون المريدون هداية هؤلاء الغواة أَدَعَوْتُمُوهُمْ اى دعوتكم إياهم الى الإسلام أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ ساكتون عن الدعوة بل عن الالتفات إليهم مطلقا لشدة قساوتهم وغلظة غشاوتهم
ثم قال سبحانه تبكيتا للمشركين إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتعبدون ايها الضالون المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ المتفرد بالالوهية المتوحد بالربوبية عِبادٌ أَمْثالُكُمْ اى هم مخلوقون أمثالكم بل أسوأ حالا منكم لكونهم جمادات لا شعور لها كيف سميتموها معبودات تعبدونها كعبادة الله وان اعتقدتم إلهيتهم وتأثيرهم فَادْعُوهُمْ بانزال العذاب على مخالفيكم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ البتة لكونكم عبادا لهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في انهم آلهة وبالجملة كيف تعتقدون ايها الحمقى الهية هؤلاء الجمادات الهلكى التي أنتم تنحتونها من الأحجار والأخشاب والإله منزه عنها متعال عن أمثالها وايضا كيف تعتقدون تأثير هؤلاء
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها فيؤثرون بها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها والتأثير مسبوق بأمثال هذه(1/277)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
القوى والآلات كيف وشرط التأثير الحيوة ولا حيوة لهم أصلا فكيف يؤثرون وأنتم ايها الحمقى كيف تعتقدون تأثيرهم أفلا تعقلون قُلِ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الذين تدعون مشاركتهم مع الله واستظهروا منهم ثُمَّ كِيدُونِ وامكرون بمظاهرتهم بحيث لا اطلع بمكركم أصلا فَلا تُنْظِرُونِ ولا تمهلوني مدة حتى اتأمل فيه واطلع عليه واشتغل لدفعه وبالجملة انا لا أبالي بكم وبمكركم وبمكر شركائكم ومعاونيكم جميعا بولاية الله وحفظه ونصره إياي
إِنَّ وَلِيِّيَ وحافظي ومعينى وناصري ومتولى عموم أموري اللَّهُ القادر المقتدر القيوم المطلق الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ اى القرآن لنصرى وتأييدى وَمن غاية لطفه هُوَ سبحانه بنفسه يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ من عباده ويحفظهم عن مكر الماكرين سيما الأنبياء الذين هم في كنف جواره وحوزة حفظه يحفظهم عن جميع ما يؤذيهم
وَكيف لا يحفظهم سبحانه عن تأثير هؤلاء الأصنام الهلكى الَّذِينَ تَدْعُونَ أنتم ايها الضالون مِنْ دُونِهِ سبحانه وتستنصرون منهم مع انهم لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ اى كيف ينصرونكم وهم لا ينصرون أنفسهم لعدم استعدادهم وقابليتهم على النصرة
وَمن خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم إِنْ تَدْعُوهُمْ ايها المؤمنون أولئك المشركين الضالين إِلَى الْهُدى ودين الإسلام لا يَسْمَعُوا ولا يقبلوا مع ورود هذه الدلائل الواضحة بل وَتَراهُمْ ايها المعتبر الرائي يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ويسمعون منك الادلة القاطعة وَهُمْ من خبث طينتهم وجهلهم المركوز في جبلتهم لا يُبْصِرُونَ الى ان أصنامهم جمادات ولا يتأملون ولا يتفطنون ان ما ينسبون الى هؤلاء من الشفاعة والشركة وهم زائل وخيال باطل وخروج عن مقتضى العقل الفطري بل يصرون على ما هم عليه عتوا وعنادا وإذا كان حالهم هذا وهكذا وإصرارهم بهذه الغاية
خُذِ الْعَفْوَ اى اختر يا أكمل الرسل طريق العفو والملاينة واترك الغضب والخشونة بمقتضى شفقة النبوة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ اى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة القوم الذين قد تفرست منهم الرشد والهداية بنور النبوة والولاية وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ المصرين وان جادلوك جادلهم بالتي هي احسن وبالجملة ان ربك اعلم منك بمن ضل عن سبيله وهو اعلم ايضا بالمهتدين منهم
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ينخسنك ويشوشنك مِنَ الشَّيْطانِ المثير المهيج للقوى الغضبية والحمية الجاهلية نَزْغٌ اى وسوسة وإغراء يحملك على الغضب ويخرجك عن مقتضى ما أمرت به من الحلم والملاينة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من غوائله وارجع نحوه سبحانه من وسوسة الشيطان ومخايله يكفيك سبحانه مؤنة شروره واغوائه إِنَّهُ سبحانه بذاته سَمِيعٌ لمناجاتك عَلِيمٌ بعموم حاجاتك.
ثم قال سبحانه تذكيرا لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وعظة إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا من عبادنا قد كانوا إِذا مَسَّهُمْ واستولى عليهم طائِفٌ خاطر يطوف ويحول حول قلوبهم مِنَ قبل الشَّيْطانِ المضل المغوى تَذَكَّرُوا ما أمروا به ونهوا عنه من عند الله فَإِذا هُمْ بتذكر المأمور او المنهي مُبْصِرُونَ مميزون موقع الخطايا فيحترزون منها ويتعوذون الى الله عما يغريهم الشيطان اليه
وَالذين لم يتقوا عن محارم الله ولم يحذروا عن غوائل الشيطان بل هم إِخْوانُهُمْ اى اخوان الشياطين إذا مسهم ما مسهم لا يتأتى لهم التذكر ولم يوفقوا عليه بل يَمُدُّونَهُمْ الشياطين بالتزيين والتحسين والوسوسة والإغراء الى ان يوقعوهم فِي الغَيِّ والضلال ثُمَّ بعد الإيقاع فيه لا يُقْصِرُونَ بل(1/278)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
يبالغون في اغوائهم واغرائهم الى حيث يردونهم بحال لا يرجى لهم الفلاح أصلا
وَمن غاية انهماكهم في الغي والضلال ونهاية غراقتهم فيه إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ يا أكمل الرسل بِآيَةٍ قد اقترحوها منك عنادا قالُوا على سبيل التهكم والاستهزاء لَوْلا اجْتَبَيْتَها وهلا انتخبتها من الأقوال كسائر منشأتك أعجزت فيها فان عجزت لم لم تطلبها من ربك بمقتضى دعواك كما طلبت غيرها منه قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم ما انا منشئ مختلق بل رسول مبلغ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي الذي هو مرسلى ومبلغي مالي صنع في نظمه وتأليفه وبلاغته وفصاحته واعجازه بل هذا اى القرآن وما فيه من الرموز والإشارات بَصائِرُ للمستبصرين المستكشفين بمقتضى الودائع الفطرية التي قد اودعها الله في قلوب عباده حسب حكمته المتقنة ومتى انكشفتم بودائعكم علمتم انها مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً ايضا يوصلكم الى ما جبلتم لأجله الا وهو التوحيد والعرفان وَرَحْمَةٌ نازلة من الله توقظكم عن نومة الغفلة ونعاس النسيان كل ذلك لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اى يتحققون بمرتبة اليقين العلمي ويطلبون الترقي منها الى العين والحق. حققنا بلطفك بحقيتك وخلصنا من هويتنا الباطلة بفضلك وجودك يا ارحم الراحمين
وَبعد ما سمعتم منا من أوصاف القرآن ما سمعتم إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ عندكم او قرأتم أنتم لأنفسكم فَاسْتَمِعُوا لَهُ عن صميم قلوبكم وتأملوا في معناه حسب وسعكم وطاقتكم وَأَنْصِتُوا اى اسكتوا واعرضوا وانصرفوا عن مقتضيات سائر قواكم وآلاتكم ولا تلتفتوا إليها أصلا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ تنكشفون وتتحققون بما في نفوسكم من ودائع الله بسببه
ثم خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم لان أمثال هذه الخطابات لا تسع الا في وسعه وقابليته فقال وَاذْكُرْ رَبَّكَ اى تذكر وتحقق بمربيك الذي أظهرك على صورته فِي نَفْسِكَ إذ أنت بهويتك ظاهر ربك تَضَرُّعاً وَخِيفَةً متضرعا متحننا خائفا عن غلبة غفلة ناسوتك وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ إخفاء من المحجوبين الجاهلين الجاحدين برتبتك وغيرة عليه سبحانه بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ اى بعموم أوقاتك التي جرى عليك بمقتضى بشريتك وَبالجملة لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ بحال من حالاتك لتحققك وتمكنك في مقام الكشف والشهود
وبالجملة إِنَّ السالكين الَّذِينَ قد حصلوا وتمكنوا عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ آنا ولمحة ولا يلتفتون الى ما سواه طرفة بل وَيُسَبِّحُونَهُ اى ينزهونه ويقدسونه سبحانه عن عموم ما يصور لهم ويوهمهم منه سبحانه ناسوتهم وَبالجملة لَهُ يَسْجُدُونَ دائما بمقتضى حصة لأهونهم منسلخين عن مقتضيات هوياتهم الباطلة الناسوتية مطلقا منخلعين عن لوازم اوهامهم وخيالاتهم العاطلة رأسا. ربنا اكشف عنا بفضلك حجب ناسوتنا بالمرة وحققنا بجودك بفضاء لاهوتك انك أنت الجواد الكريم
خاتمة سورة الأعراف
عليك ايها السالك المتوجه نحو القبلة الأحمدية والمقصد الاحدية المحمدية هداك الله نحو سواء سبيله وأوصلك الى مقر عزك من التوحيد الذاتي ان تتوجه الى فضاء قلبك وتتذكر ما فيه من ودائع ربك على وجه الخبرة والاستبصار مجتنبا عما يشوشك عن غبار الأغيار معيرا بمعيار العبرة والاعتبار بحيث لا يلهيك عنها وسوسة الشيطان المحيل المكار وتغريرات الدنيا الغرار ولا يتيسر لك هذا الا بتذكر ما في كتاب الله من المواعظ والاخبار والآثار وامتثال ما فيه من الأوامر والنواهي والتدبر(1/279)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
في سرائرها واستكشاف حكمها واسرارها وعليك ان تتوسل في استرشادك من كتاب الله بأحاديث رسوله المختار إذ هي مبينة له كاشفة عن سرائره ومرموزاته موضحة لما فيه من الغوامض متكفلة لحفظ عقيدتك عن التزلزل والانحراف عن جادة الهداية موصلة لك بقدر قابليتك الى مسائل مسالك التوحيد فلك ان تواظب على الاستفادة منها ناويا في استفادتك استخلاص نفسك عن ربقة التقليد مستقبلا في سلوكك هذا الى مقر المعرفة ومقصد التوحيد مشمرا ذيلك عن جميع ما يعوقك ويمنعك عن لوازم بشريتك ملتجأ نحو الحق في عموم حالاتك مستمدا في سلوكك هذا عن ارباب الولاء الوالهين في مطالعة جمال الله والعرفاء الواصلين الى فضاء وحدته وصفاء بقائه منخلعين عن جلباب ناسوتهم بالمرة بحيث لا يلتفتون الى لوازم بشريتهم أصلا الا وهم البدلاء الحائرون الحاضرون الوالهون الواصلون الفانون الباقون المتحققون الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون رب اجعلنا بفضلك من خدامهم وتراب اقدامهم
[سورة الأنفال]
فاتحة سورة الأنفال
لا يخفى على ذوى الألباب المستكشفين عن لب التوحيد المستنزهين عن قشوره ان من لم يترق ممن يتأتى منهم الهداية والسلوك في سبيل التوحيد عن المرتبة الحيوانية ولم يصل الى الدرجة العلية الانسانية لم يثمر شجرة هويته وظهوره ثمرة المعرفة واليقين التي قد غرست لأجلها وظهرت لحصولها وبالجملة من لم نحيى بحياة العلم اللدني الأزلي الأبدي بل بقي على الجهل الجبلي الهيولاني فهو ميت حقيقة وان كان حيا صورة وبسبب موتهم وجهلهم هذا لا يستنشقون نسمات الروح ونفحات الحيوة الطيبة من أنفاس الأنبياء المبعوثين لإحيائهم بنفخ الروح الإلهي والنفس الرحمانى المظهر لهوياتهم المحيي لهياكلهم وماهياتهم من كتم العدم ولم يؤمنوا بهم ولم يصدقوهم فيما جاءوا به من عند ربهم بل كذبوهم وقاتلوا معهم وأصروا على جهلهم واستكبروا عليهم حسب حميتهم الحيوانية الجاهلية الساقطة المسقطة الضالة المضلة لذلك قد صارت دماؤهم مباحا وأموالهم فيأ عند العارف المحقق المتحقق بتوحيد الحق وشئونه المعتدلة وبالجملة أموالهم وما ينسب إليهم من جملة أرزاق الله التي لم يضف الى احد من خلقه ولم يقسم بين عباده إذ الحكمة في ترزيق العباد انما هي كسب المعرفة والتوحيد لذلك اخبر سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم بكيفية تقسيم اموال الفيء والغنيمة مخاطبا له على وجه التعليم فقال سبحانه متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المقسم لأرزاق العباد على العدل القويم الرَّحْمنِ لهم بإصلاح ما ظهر بينهم من المخالفة والنزاع باغواء الشيطان الرجيم الرَّحِيمِ لهم يوفقهم على ازدياد الهداية والايمان سيما باحكام كتابه الكريم
[الآيات]
يَسْئَلُونَكَ اى أصحابك ايها الرسول المبعوث على الخلق العظيم عَنِ الْأَنْفالِ اى عن قسمة الغنائم عبر سبحانه عنها بالنفل وهو في اللغة عطية زائدة اشترطها الامام لمن اقتحم على محل الخطر زيادة على سهمه كأنها زائدة على سهام الغزاة المجاهدين المقاتلين في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق طلبا لمرضاته سبحانه وما يترتب عليه من اموال الدنيا انما هو بمنزلة النفل والعطية الزائدة على سهامهم التي هي المثوبة العظمى والمرتبة العليا عند الله قُلِ لهم يا أكمل الرسل الْأَنْفالِ كلها لِلَّهِ ومن مال الله وقسمتها مفوض اليه سبحانه وَالى الرَّسُولِ المستخلف منه النائب عنه سبحانه باذنه فَاتَّقُوا اللَّهَ ايها المؤمنون عن مخالفة امره وامر رسوله وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ(1/280)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
اى العداوة والخصومة التي قد وقعت بينكم بوسوسة الشيطان واغوائه وَبالجملة أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وانقادوا أمرهما ولا تجاوزوا عن حكمهما إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بتوحيد الله وتصديق رسوله
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملون في الايمان المتحققون بمرتبة اليقين والعرفان المصدقون بالرسول المبين لهم طريق التوحيد هم الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ الواحد الأحد المتفرد بالالوهية المتوحد بالربوبية وَجِلَتْ اى خافت وترهبت واضطربت قُلُوبُهُمْ من سطوة سلطنة عظمته وجلاله وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ الدالة على بسطته وكبريائه النازلة على رسله وأنبيائه زادَتْهُمْ تلك الآيات إِيماناً وتصديقا وإذعانا ويقينا عيانا وعرفانا وَهم من كمال يقينهم وعرفانهم عَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الأسباب الناقصة والرسوم العادية يَتَوَكَّلُونَ يتوسلون ويستعينون منه سبحانه في عموم الأمور بلا رؤية الوسائل في البين لتحققهم بمقام التوحيد المسقط للالتفات الى غير الحق مطلقا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويديمون الميل الى الله في جميع حالاتهم مراقبين لفيضه وجذب من جانبه وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من كد يمينهم يُنْفِقُونَ في سبيله طلبا لمرضاته
أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله هُمُ الْمُؤْمِنُونَ المتحققون لمرتبة الإذعان والإيقان حَقًّا ثابتا مستقرا بلا اضطراب وتزلزل وبالجملة لَهُمْ دَرَجاتٌ عظيمة عِنْدَ رَبِّهِمْ من درجات العلم والعين والحق وَمَغْفِرَةٌ اى ستر لأنانياتهم وتعيناتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ معنوي بدلها يرزقون به فرحين عناية من الله لان من توجه نحو الحق ومال الى جنابه ميلا مسقطا للتوجه الى الغير مطلقا وخرج عن لوازم بقعة الإمكان الى حيث ينفق ويبذل عموم ما نسب اليه من اموال الدنيا وزخارفها معرضا عنها مخرجا محبتها عن قلبها اعطى سبحانه له بدل إخلاصه من الرزق المعنوي ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
كَما اعطاك يا أكمل الرسل حين أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ وقت إذ أخبرك جبرئيل عليه السّلام من اقبال عير مكة من قبل الشأم وفيها ابو سفيان اخبارا ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع وَالحال إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ خروجك ومن كمال كراهتهم
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ الصريح الذي هو الجهاد سيما بَعْدَ ما تَبَيَّنَ وظهر لك بوحي الله إياك ووعده النصرة والظفر لك وهم من غاية رعبهم حين خروجهم كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ مثل البهائم نحو المسلخ وَهُمْ حينئذ يَنْظُرُونَ حيارى خائفين مرهوبين مع انه قد كتب لهم الظفر والغنيمة والغلبة من عند ربهم وذلك ان عير قريش أقبلت من الشأم وفيهم ابو سفيان مع أربعين من الفرسان ومعهم تجارة عظيمة فأخبر جبرئيل عليه السّلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبر الرسول للمؤمنين فخرجوا مسرعين بلا عدة استقلالا لهم وميلا الى أموالهم فلما خرجوا من المدينة بلغ خبر خروجهم الى العير فانصرفوا عن الطريق وأرسلوا خبرهم الى مكة فاستغاثوا فخرج ابو جهل مع جمع كثير فمضوا الى بدر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادي دقران فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام ثانيا يعده احدى الطائفين اى العدو او العير فاستشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وان كان رأيه الى القتال فقال بعضهم هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له انا قد خرجنا للعير فقال صلّى الله عليه وسلّم ان العير قد مضت على ساحل البحر وهذا ابو جهل قد اقبل فقالوا كارهين مرعوبين يا رسول الله عليك بالعير ودع العد وفقد غضب صلّى الله عليه وسلّم فقال المقداد بن عمرو يا رسول الله امض بما أمرك الله فانا معك حيثما(1/281)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
أحببت لا نقول لك مثل ما قال بنو إسرائيل اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون ولكن نقول اذهب أنت وربك فاننا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا الى برك الغما وهي مدينة بأقصى الحبشة قد مضينا معك بلا تكاسل ومخالفة فدعا صلّى الله عليه وسلّم له خيرا ثم قال عليه السّلام اجتمعوا على ايها الناس يريد الأنصار القائلين له حين بايعوه على العقبة انهم برءاء من كل ذمامه حتى يصل الى ديارهم فتخوف ان لا يروا نصرته الا على عدو دهمه بالمدينة فقال له سعد بن معاذ لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودا ومواثيق على السمع والطاعة فامض لما أمرت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت على البحر فخضته لخضنا معك بلا تخلف أتحسب انا إذ الا قينا العدو نتكاسل ونتساهل ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك ففرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونشطه قول سعد ثم قال سيروا على بركة الله وابشروا فان الله سبحانه قد وعدني الآن احدى الطائفتين والله لكأنى الآن انظر الى مصارع القوم
وَاذكروا ايها المؤمنون وقت إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ بالوحي على رسوله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها مغلوبة مقهورة لَكُمْ وَأنتم حين سمعتم مضمون الوحى تَوَدُّونَ وتحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ اى العير تَكُونُ لَكُمْ لان أهلها قليل ومالها كثير ولا احتياج لكم الى المقاتلة معهم لقلتهم وعدم شوكتهم وَيُرِيدُ اللَّهُ حسب قهره وقدرته أَنْ يُحِقَّ يظهر ويثبت الْحَقَّ اى التوحيد المطابق للواقع الذي هو الإسلام بِكَلِماتِهِ الملقاة من عنده سبحانه بملائكته حين أمرهم بامداد حبيبه الذي بعث لإعلاء كلمة توحيده وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ اى يستأصلهم الى حيث لم يبق منهم من يستخلفهم كل ذلك فضل من الله وامتنان منه على رسوله
لِيُحِقَّ الْحَقَّ اى الإسلام المحقق المطابق لما عند الله وَيُبْطِلَ الْباطِلَ المخالف لدين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ المصرون على ما هم عليه قبل نزول الإسلام ما أراد الله من تحقيق الحق وتمكينه وابطال الباطل وتخذيله
اذكروا ايها المؤمنون فضل الله عليكم ورحمته سيما وقت إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ حين اقتحم العدو وأنتم غزى قلائل وهم متكثرون ذووا عدد وعدد فَاسْتَجابَ لَكُمْ ربكم مغيثا عليكم قائلا لكم على لسان نبيكم أَنِّي بحولي وقوتي مُمِدُّكُمْ معينكم ومغيثكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ على عدوكم يضربونهم من وراءهم وأنتم من قدامهم
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ اى امدادكم هذا بملائكة السماء إِلَّا بُشْرى لكم بفضلكم وكرامتكم عليهم وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ في عموم ما وعدكم الله به وَاعلموا ايها المؤمنون المتحققون بمقام التوحيد مَا النَّصْرُ والغلبة والظفر إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ القادر المقتدر على كل ما أراد واختار إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والجلال عَزِيزٌ غالب على عموم مقدوراته ومراداته حَكِيمٌ متقن في جميع أحكامه ومأموراته يفعل ما يشاء ارادة واختيارا ويحكم ما يريد اذكروا ايها المؤمنون فضل الله عليكم وامتنانه
إِذْ يُغَشِّيكُمُ ويغلب عليكم بلطفه سبحانه النُّعاسَ اى النوم ازالة لرعبكم حين كنتم في سهر من خوف العدو لتكون أَمَنَةً نازلة مِنْهُ لتستريحوا وتطمئن قلوبكم وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ حينئذ مِنَ السَّماءِ ماءً مع انكم قد كنتم مجنبين ليلتئذ باغواء الشيطان وعدوكم على الماء والشيطان يعيركم بجنابتكم ويوسوس عليكم بأنكم تدعون الامامة بالولاية كيف تخرجون غد اتجاه العدو وأنتم جنب ودعواكم ان القتال والجهاد من اشرف العبادات وبأمثال هذه الهذيانات(1/282)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
يوقع بينكم الفتنة لتتقاعدوا عن القتال وأنتم ايضا مضطربون عن عروض الجنابة عليكم قد انزل الله عليكم المطر من محض لطفه لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ اى بالماء أبدانكم عن الجنابة الصورية كما طهر قلوبكم بماء العلم اللدني المترشح من بحر التوحيد عن الجنابة المعنوية والخباثة الحقيقية التي هي الكفر والنفاق وَبالجملة يُذْهِبَ عَنْكُمْ بانزال المطر رِجْزَ الشَّيْطانِ ووسوسته وإيقاعه وتخويفه من العطش وغيره وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ بانزاله انه سبحانه يعين عليكم وينصركم حين اضطراركم ليزداد وثوقكم به وبنصره سبحانه ووعده وانجاز وعده وَايضا يُثَبِّتَ بِهِ اى بهذا الربط الْأَقْدامَ اى اقدامكم على جادة التوحيد والتوكل الى الله والتفويض نحوه في جميع الأمور اذكر يا أكمل الرسل أنت
وذكر بمن تبعك فضل الله عليكم وقت إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ المأمورين لعونك وامدادك حين ازداد رعب أصحابك من اقتحام القتال قائلا لهم أَنِّي بكمال حولي وقوتي مَعَكُمْ حاضر عندكم شهيد عليكم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا في مكانهم تجاه العدو حتى لا يستدبروا إذ سَأُلْقِي من كمال نصرى وعوني للمؤمنين فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا اى في قلوب العدو الرُّعْبَ من المؤمنين فاستكثروهم واستدبروا منهم ومتى استدبر العدو فَاضْرِبُوا أنتم على الفور ايها المؤمنون فَوْقَ الْأَعْناقِ اى اعالى أعناقهم وَان وضعوا جننهم وأيديهم على أعناقهم حفظا لها اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ اى جميع أصابعهم لئلا يبقى لهم استعداد القتال أصلا حتى لا يكروا عليكم
ِكَ
اى انهزامهم وانخذالهم أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
اى خاصموا وخالفوا مع الله ورسوله مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ
القادر المقتدر على عموم ما أراد من القهر والانتقام
يخاصم سُولَهُ
المؤيد من عنده لتبليغ الاحكام قد استحق انواع العقوبة والنكال من عنده إِنَّ اللَّهَ
المتعزز برداء العظمة والجلال دِيدُ الْعِقابِ
صعب الانتقام سريع الحساب على من خالف امره وعادى رسوله
ذلِكُمْ اى انواع العقوبة والعذاب نازل على من تعدى حدود الله وكذب رسوله فَذُوقُوهُ ايها المخالفون المصرون ما أعد لكم من العذاب وَاعلموا أَنَّ لِلْكافِرِينَ المصرين المتمردين عَذابَ النَّارِ يخلدون فيها ابد الآباد.
ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم إعلاء كلمة الحق وانتصار دينه فعليكم إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ان تقاتلوا معهم وان كانوا زَحْفاً متكثرين بأضعافكم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ اى لا ترجعوا منهم حين التقائكم إياهم الى إدباركم خائفين منهزمين حال كونهم بأضعافكم فكيف ان كانوا أمثالكم او اقل منكم
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ منكم يَوْمَئِذٍ اى يوم ملاقاة عدوكم دُبُرَهُ مدبرا خائفا مرعوبا إِلَّا مُتَحَرِّفاً يعنى يكون إدباره وانحرافه لِقِتالٍ على سبيل المكر والخدعة أَوْ مُتَحَيِّزاً اى قاصدا بالاستدبار والانحراف التحيز واللحوق إِلى فِئَةٍ ثابتة من المؤمنين ليستعين بهم فَقَدْ باءَ اى رجع ولحق بِغَضَبٍ نازل مِنَ اللَّهِ لمخالفة امره وحكمه وحكمته وَمَأْواهُ في النشأة الاخرى جَهَنَّمُ البعد والخذلان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مرجعه ومصيره وعليكم ايها المؤمنون ان لا تنسبوا القتل بل جميع ما صدر عنكم الى نفوسكم مفاخرة ومباهاة بل انكم وان قتلتم عدوكم صورة
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أنتم حقيقة وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لان جميع الأمور الكائنة في الآفاق صادر من الله أولا وبالذات ومن آثار أوصافه وأسمائه وَبالجملة ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ أنت ايها النبي المأمور برمي الحصا عند هجوم الأعداء على أصحابك وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى إذ قد أوجد الرمي سبحانه بيدك التي هي يد الله حقيقة لذلك ترتب على(1/283)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
رميك صورة انهزامهم الذي قد استبعدتم أنتم وأولئك ايضا وَانما رماهم سبحانه بما رمى لِيُبْلِيَ ويجرب الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً اى من انعام نعمة الغنيمة والظفر هل يراجعون ويواظبون على شكر نعمه أم لا إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده سَمِيعٌ يسمع مناجاتهم الصادرة منهم على وجه الإخلاص عَلِيمٌ بعموم حاجاتهم التي هم يحتاجون إليها في معاشهم ومعادهم
ذلِكُمْ اى ابتلاء الله إياكم بالبلاء الحسن مختص بالمؤمنين المخلصين منكم وَاعلموا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المتولى لأموركم مُوهِنُ مضعف ومبطل كَيْدِ الْكافِرِينَ ومكرهم وحيلهم التي يقصدون بها إهلاككم واذلالكم. ثم قال سبحانه على سبيل التهكم للكافرين الذين كانوا إذا اقبل عليهم المؤمنون للقتال يطوفون حول الكعبة متشبثين بأستارها متضرعين مستفتحين من الله قائلين اللهم انصر أعلى الجندين واهدى الفئتين وأكرم الحزبين
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا منا ايها الهالكون في تيه الضلال لمقاتلة نبينا ومن تبعه من المؤمنين فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ بقتلكم وسبيكم اى غلبة المؤمنين عليكم وَإِنْ تَنْتَهُوا عن مقاتلتهم ومعاداتهم وعن الاستفتاح لها بل آمنوا كما آمن هؤلاء لنبينا عن ظهر القلب وصميم الفؤاد فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في أولئكم وأخراكم وَإِنْ تصالحوا معهم وآمنوا على وجه النفاق ثم ارتدوا بان تَعُودُوا الى مقاتلتهم ومعاداتهم نَعُدْ ايضا الى نصرهم وتأييدهم الى ان يستأصلوكم ويخرجوكم من دياركم وَبالجملة لا تغتروا ايها المسرفون بكثرة عددكم وعددكم إذ لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ التي أنتم تستظهرون وتستعينون بها شَيْئاً من غلبة المؤمنين وظفرهم وَلَوْ كَثُرَتْ فئتكم وَكيف تغنى فئتكم شيأ منهم أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ المجاهدين في سبيله لإعلاء كلمة توحيده ونصر دينه ونبيه ينصرهم ويعين عليهم.
ثم قال سبحانه مناديا للمؤمنين توصية وتذكيرا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم اطاعة الله واطاعة رسوله أَطِيعُوا اللَّهَ المراقب المعاون لكم في جميع أحوالكم وَأطيعوا ايضا رَسُولَهُ المبلغ لكم احكام الحق وشعائر دينه وتوحيده وَعليكم ان لا تَوَلَّوْا عَنْهُ اى لا تتولوا معرضين عن رسوله حتى لا تنحطوا عن رتبة الخلافة وكيف لا تطيعون رسوله وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ كلمة الحق منه واسمعوها سمعا وطاعة
وَبالجملة لا تَكُونُوا في عدم الإطاعة والانقياد كَالَّذِينَ قالُوا كفرا ونفاقا سَمِعْنا ما تلوت علينا وَهُمْ من غاية بغضهم ونفاقهم لا يَسْمَعُونَ سمع اطاعة وتسليم فكأنهم لم يسمعوا أصلا بل لا يتأتى منهم السماع لانحطاطهم عن رتبة العقلاء بل لحقوا بالبهائم في عدم الفطنة بل أسوأ حالا منها
وبالجملة إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ عن استماع كلمة الحق من السنة الرسل الْبُكْمُ عن التكلم بها سيما بعد ما فهموها ولاحت عندهم حقيقتها وبالجملة هؤلاء الحمقى التائهون في تيه الغي والضلال هم الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ اى ليسوا من زمرة العقلاء وان ظهروا على صورهم واشكالهم
وَبالجملة لَوْ عَلِمَ اللَّهُ العليم الحكيم فِيهِمْ اى في استعداد هؤلاء السفهاء المنحطين عن رتبة العقلاء خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ كلمة الحق سمع قبول وطاعة وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ مع كونهم ليسوا مستعدين لها لَتَوَلَّوْا وانصرفوا البتة من خبث طينتهم عنها وَبالجملة هُمْ في اصل فطرتهم وبمقتضى جبلتهم مُعْرِضُونَ عن الحق مجبولون على الاعراض والانصراف عن اهله لا يرجى منهم الإطاعة والانقياد أصلا.
ثم قال سبحانه مناديا للمؤمنين تذكيرا لهم وتعليما(1/284)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم اجابة الله واجابة رسوله اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ بامتثال مأموراته وأحكامه واجتناب نواهيه وَلِلرَّسُولِ بقبول سنته وآدابه وأخلاقه سيما إِذا دَعاكُمْ الرسول وحده باعتبار ان دعوة الرسول هي بعينه دعوة الحق حقيقة لِما يُحْيِيكُمْ من العلوم اللدنية والمعارف الحقيقية المثمرة لانواع المكاشفات والمشاهدات التي قد اضمحلت دونها نقوش السوى والأغيار مطلقا المورثة الموجبة للحياة الازلية الابدية والبقاء السرمدي في جنة الوحدة الذاتية التي لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الاولى التي هي الانخلاع عن لوازم القوى البشرية ومقتضيات الآلات البهيمية المستدعية للكثرة ولا بد ان يكون اجابتكم وقبولكم على وجه الخلوص والتسليم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده يَحُولُ ويحجب ويسدل بَيْنَ الْمَرْءِ المتشخص بالهوية الشخصية المتعين بالتعين العدمي وَقَلْبِهِ الذي هو بيت الله المعظم إذ يسع فيه الحق المنزه عن سمة الإطلاق والتقييد المبرى عن وصمة الاحاطة والتحديد بالحجب الكثيرة فما دامت الحجب والأستار مسدولة بين المرء وقلبه لم يشم رائحة المحبة والولاء المؤدى الى الفناء المثمر الى البقاء والخلود في جنة الوحدة الذاتية وانفتاح أبواب المحبة والولاء انما يحصل بالإخلاص والتسليم والتفويض والتوكل والتبتل والتوحيد المسقط للاضافات مطلقا وَبالجملة أَنَّهُ اى الشان إِلَيْهِ لا الى غيره بعد رفع الاظلال الهالكة والتعينات الباطلة تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الظل الى ذي الظل
وَاتَّقُوا ايها المؤمنون فِتْنَةً واى فتنة هي معصية مسقطة للعدالة مزيحة للمروءة مطلقا مورثة للمصيبة الشامل أثرها لعموم عباد الله مثل الطاعون والوباء المترتب على الزنا واللواطة والقحط المترتب على البخس والتطفيف والاحتكار وغيرها من طرق الربوا مع ان أثرها لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ وهم الذين قد أتوا بها خَاصَّةً بل يعم الظالمين وغيرهم بشؤمهم لان غيرهم يداهنون معهم كأنهم راضون بفعلهم لذلك قد أصابهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام سريع الحساب على من خرج عن مقتضيات أوامره ونواهيه
وَاذْكُرُوا ايها المؤمنون نعمنا إياكم واعانتنا لكم وداوموا بشكرها سيما وقت إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ بحيث يستضعفكم من فِي الْأَرْضِ يعنى ارض مكة شرفها الله ومن غاية ضعفكم وقلتكم تَخافُونَ أنتم ايضا أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ ويلتقطكم النَّاسُ عن وجه الأرض بحيث يستأصلكم بالمرة من غاية ضعفكم وقلتكم فَآواكُمْ الله بحوله وقوته واعادكم إليها بعد ما أخرجكم العدو منها ظلما وعدوانا وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بان تغلبوا وتظفروا على عدوكم وتخرجوهم منها مهانين مغلوبين مستضعفين وَبعد ما أيدكم وأظفركم سبحانه قد رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ التي غنمتم منهم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تواظبوا على شكر هذه النعم العظام
ثم قال سبحانه على وجه العظة والتذكير تعليما للمؤمنين مناديا لهم ليقبلوا بما أمروا به ويعرضوا عما نهوا عنه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَخُونُوا اللَّهَ في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وَالرَّسُولَ في سننه وأخلاقه وآدابه التي قد وضعها فيما بينكم لإصلاح حالكم وَبالجملة لا تَخُونُوا أَماناتِكُمْ التي قد ائتمنتم فيها ثقة عليكم واعتمادا وَالحال انه أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قبح الخيانة من انفسكم بلا احتياج لكم الى إنذار منذر واخبار مخبر والخيانات في الأمانات انما تنشأ من جلب المنفعة والحرص المفرط على تكثير المال لمصالح العيال
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
اختبار وابتلاء(1/285)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
لكم من ربكم ليجربكم هل تضطربون في امر المال والعيال وتقعون لأجلها في المعارك والمهالك واباحة المحرمات وارتكاب الخيانات المسقطة لعموم المروآت والفتوات مطلقا أم تفوضون أموركم كلها الى الله وترضون بما قضى عليكم وقدر لكم سبحانه في سابق علمه ولوح قضائه «2»
وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ
المطلع بجميع أحوالكم عِنْدَهُ
وفي كنف حفظه وجواره أَجْرٌ عَظِيمٌ
للمفوضين الذين رضوا بقسمة الله في جميع حالاتهم ووفوا بما ائتمنوا من الأمانات مجتنبين عن الخيانة فيها
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ وتحذروا عن محارمه ومحظوراته مطلقا وتؤدوا الأمانات التي ائتمنتم بها من الأموال والاعراض والشهادات بلا خيانة فيها وتفوضوا أموركم كلها اليه مجتنبين عن الخيانة يَجْعَلْ لَكُمْ وينزل على قلوبكم تفضلا وامتنانا فُرْقاناً ينور به قلوبكم بحيث تميزون الحق من الباطل والصواب من الخطأ والإلهام الإلهي من إغواء الشيطان وتغريره وَيُكَفِّرْ ويمح به وبامتثال أوامره واجتناب نواهيه عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ اى جرائمكم اللاتي قد مضت عليكم بالمرة وَبالجملة يَغْفِرْ لَكُمْ ويستر عنكم ذنوبكم مطلقا تفضلا وامتنانا وَلا تتعجبوا من افضاله هذا ولا تستبعدوا منه سبحانه أمثاله إذ اللَّهَ المراقب لأحوال عباده ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ واللطف الجسيم على من توكل عليه والتجأ نحوه في عموم حالاته على وجه الخضوع والخشوع
وَاذكر يا أكمل الرسل انجاءنا وتخليصنا إياك وقت إِذْ يَمْكُرُ ويخدع بِكَ لهلاكك ومقتك المفسدون المسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا بك يعنى قريشا وهم قد شاوروا لأمرك في دار الندوة لِيُثْبِتُوكَ ويحبسوك في دار ليس لها منفذ إلا كوة يلقون منها طعامك أحيانا أَوْ يَقْتُلُوكَ مزدحمين بحيث لم ينسب قتلك الى معين منهم أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة محمولا على جمل ليقتلك القطاع وَبالجملة يَمْكُرُونَ بمقتك أولئك الكفرة الماكرون وَيَمْكُرُ اللَّهُ الرقيب الحفيظ عليك لإنجائك وخلاصك من أيديهم فغلب مكره سبحانه على مكرهم واخرجك من بينهم سالما وَبالجملة اللَّهُ المطلع لجميع مخايلهم خَيْرُ الْماكِرِينَ اى أشدهم وأقواهم تأثيرا وقوة وذلك انهم حين سمعوا ايمان الأنصار شاوروا على أظهرهم في امره صلّى الله عليه وسلّم وارتفاع شانه وسطوع برهانه فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال انا من نجد سمعت اجتماعكم فاحضركم لا علم كيف تتدبرون في امر هذا الشخص الذي لو بقي زمانا على هذا يخاف عليكم من شره فقال ابو البختري رأيى ان تحبسوه في بيت وتشدوا منافذه غير كوة تلقون اليه طعامه وشرابه منها حتى يموت فقال الشيخ النجدي بئس الرأس هذا يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصونه من أيديكم فقال هشام بن عمرو رأيى ان تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم ولا يلحقكم ضرر بنى هاشم فقال الشيخ يفسد قوما آخر ويقاتلكم بهم اما رأيتم طلاقة لسانه وحلاوة كلامه ووجاهة منظره فقال ابو جهل انى ارى ان تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا فيضربوه دفعة واحدة فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنوا هاشم على حرب القريش كلهم فان طلبوا العقل عقلناه فقال الشيخ
__________
(2) المؤمن لا بد ان يقنع بالكفاف ويصبر على العفاف ويتصف بالانصاف ويجتنب عن الاعتساف ويرضى من الدنيا بأكل لقمة ولبس خرقة وكن حجرة ولا يطلب فضول العيش واسباب النخوة والثروة وامتعة الجاه والغفلة حتى لا يورثه املا طويلا وحزنا كثيرا فان سلسلة الإمكان متصلة وأغلال الأماني والآمال مثمرة على الدوام بلا انقطاع ولا انصرام(1/286)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
صدق هذا الفتى واتفقوا على رأيه فأتى جبرئيل عليه السّلام وأخبره الخبر وامره بالهجرة فبيت صلى الله عليه وسلّم عليا كرم الله وجهه على مضجعه متسجيا ببردة وخرج صلّى الله عليه وسلّم مع ابى بكر رضى الله عنه ومضيا الى الغار وبات المشركون يحرسون عليا رضى الله عنه يحسبون النبي صلى الله عليه وسلّم فلما أصبحوا ساروا ليقتلوه فرأوا عليا فقالوا اين صاحبك قال ما ادرى فاتبعوا اثره فلما وصلوا الغار رأوا نسج العنكبوت على بابه فقالوا لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت اثر فانصرفوا فمكث صلّى الله عليه وسلّم فيه ثلثة ايام ثم خرج نحو المدينة
وَمن جملة ما مكرنا معهم انا قد ختمنا على قلوبهم وعلى سمعهم بختم القساوة والغفلة بحيث إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا قالُوا من غلظة غشاوتهم وشدة قساوتهم قَدْ سَمِعْنا أمثال هذا من بلغائنا كثيرا بل لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا مع انهم قد عارضوا مدة ثم عجزوا مع وفور دواعيهم ثم لما عجزوا عن إتيان مثله قالوا عنادا ومكابرة إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى ما هو الا أكاذيبهم التي قد سطروها في دواوينهم لتغرير السفهاء
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالُوا من فرط عتوهم ونهاية انهماكهم في الغفلة والضلال وإصرارهم على تكذيب القرآن والرسول اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا المفترى هُوَ الْحَقَّ الثابت النازل مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا بسبب تكذيبنا إياه حِجارَةً مِنَ جانب السَّماءِ واستأصلنا بها أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم مفزع وما هذا الا مبالغة منهم في تكذيب القرآن والرسول على سبيل التهكم
وَبالجملة ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وان استحقوا أشد العذاب والنكال والإهلاك الكلى بسبب تكذيبك وتكذيب كتابك يا أكمل الرسل وَأَنْتَ فِيهِمْ يعنى ما كان سبحانه معذبهم ما دمت أنت فيهم وفي ديارهم ومكانهم فان عذبهم الله فقد اصابك مما أصابهم وَان أمكن تخليصك وانقاذك من عذابهم حين تعذيبهم ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وما أراد تعذيبهم واستئصالهم وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ اى يتوقع من أنفسهم او من اخلافهم وذراريهم الايمان والاستغفار في الاستقبال بخلاف الأمم الهالكة السالفة
وَبالجملة ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور اى اى شيء يمنع تعذيب الله إياهم مع انهم مستحقون للعذاب وكيف لا يعذبون هؤلاء المستكبرون المعاندون وَهُمْ من شدة عتوهم وعنادهم يَصُدُّونَ ويصرفون المؤمنين عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والطواف حول البيت مدعين ولايته وَالحال انهم ما كانُوا أَوْلِياءَهُ اى ليس لهم صلاحية الولاية في بيت الله لخباثة كفرهم وفسقهم وعدم لياقتهم بل إِنْ أَوْلِياؤُهُ وما يصلح لولايته وخدمته إِلَّا الْمُتَّقُونَ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ويتطهرون عن المعاصي والآثام مطلقا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ عدم ولايتهم ولياقتهم لها ومع ذلك يدعونها مكابرة واستكبارا وان كان بعضهم يعلم ولكن يعاند
وَبعد ما لم يصلحوا لولاية البيت ما كانَ صَلاتُهُمْ ودعاؤهم عِنْدَ الْبَيْتِ المعد للتوجه والتقرب نحو الحق على وجه الخضوع والانكسار والتذلل والافتقار إِلَّا مُكاءً صفيرا وصداء وَتَصْدِيَةً تصفيقا وتبخترا مع انهم يدعون ولايته ورعاية حرمته وما ذلك الا من امارات الاستهانة والاستخفاف المستلزم للكفر فَذُوقُوا الْعَذابَ ايها المنهمكون في الضلال بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ في النشأة الاولى والاخرى
. ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق وأصروا على الباطل عنادا واستكبارا الى حيث يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ على وجه الصدقة لأهل الجيش لِيَصُدُّوا ويمنعوا اهل الحق(1/287)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إعلاء للباطل على الحق وترويجا للضلالة على الهداية وذلك يوم بدر فَسَيُنْفِقُونَها ايضا على هذه النية تتميما لغرضهم الفاسد ورأيهم الكاسد فلا يصلون الى مبتغاهم ابدا وان بالغوا في الانفاق ثُمَّ بعد ما تنبهوا بعدم إفادتها تَكُونُ عَلَيْهِمْ وتصير تلك الصدقة والانفاق المبذول منهم حَسْرَةً متمكنة راسخة في قلوبهم مورثة لحزن طويل لتضييعهم المال بلا ترتب فائدة يبغونها ثُمَّ يُغْلَبُونَ وهذا أعظم مصيبة وَبالجملة الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن دينه ونبيه وكتابه جميعا إِلى جَهَنَّمَ البعد والخذلان وسعير الطرد والحرمان يُحْشَرُونَ ويساقون سوق البهائم نحو المسلخ
وانما يفعل بهم سبحانه هذا لِيَمِيزَ اللَّهُ الناقد البصير لاعمال عباده الْخَبِيثَ المنغمس في الكفر والضلال مِنَ الطَّيِّبِ الصافي عن شوب الكدر مطلقا وَبعد فصله وتمييزه يَجْعَلَ الْخَبِيثَ جملة واحدة بان يضم بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ ويجمعه جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ ويطرحه بعد جمعه وتركيمه فِي جَهَنَّمَ الإمكان وجحيم الخذلان وبالجملة أُولئِكَ البعداء المنغمسون في خباثة الكفر والطغيان هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي المجبولون على الحرمان السرمدي ليس لهم نصيب من مستلذات الجنان وحظ من لقاء الرّحيم الرّحمن الكريم
قُلْ يا أكمل الرسل لِلَّذِينَ كَفَرُوا تبشيرا لهم ووعدا لا ييأسوا من روح الله وسعة رحمته وجوده عما هم عليه من الكفر والضلال بل إِنْ يَنْتَهُوا ويعرضوا عن الكفر والإلحاد نحو الباطل الزائغ الزائل والميل الى البدع والأهواء الفاسدة الكاسدة من تكذيب الرسل والكتب بالإيمان الخالص عن ظهر القلب ورفع المنازعة والمخاصمة مع رسول الله ومع من تابعه يُغْفَرْ لَهُمْ ويعف عنهم عموم ما قَدْ سَلَفَ منهم من الجرائم والآثام مطلقا وَإِنْ يَعُودُوا على كفرهم ونزاعهم ويرتدوا بعد ايمانهم وصلحهم فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ اى سنن الأمم الهالكة الذين كفروا بالله وخرجوا على رسله فأصابهم ما أصابهم فليتوقعوا
وَبعد ما خرجوا عن عهدهم ونقضوا ميثاقهم وارتدوا على ادبارهم قاتِلُوهُمْ ايها المؤمنون اى المرتدين واستأصلوهم حَتَّى لا تَكُونَ اى لا توجد ولا تبقى فِتْنَةٌ وبقية من شركهم مضلة لضعفاء الأنام وَبعد استئصالهم وانقطاع شركهم وعرقهم يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ الواحد الأحد الذي لا شريك له فَإِنِ انْتَهَوْا بالقتال عن شركهم وكفرهم وأقروا بالإيمان والإطاعة فخلوا سبيلهم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع بضمائرهم بِما يَعْمَلُونَ في بواطنهم من الوفاق والنفاق بَصِيرٌ يجازيهم على مقتضى بصارته وخبرته
وَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا ولم ينتهوا بالقتال عن كفرهم بل قد أصروا عليه وأخذوا أولياء من إخوانهم وشياطينهم واستعانوا منهم بمقاتلتكم ايها المؤمنون لا تبالوا بهم وبمعاونيهم ومظاهريهم فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانتقام مَوْلاكُمْ معينكم ومتولى أموركم نِعْمَ الْمَوْلى موليكم وَنِعْمَ النَّصِيرُ نصيركم وظهيركم
وَبعد ما انتصرتم وظفرتم عليهم اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ منهم وأخذتم مِنْ شَيْءٍ اى مما يطلق عليه اسم الشيء حتى الخيط فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ اى فاعلموا ان خمسه مخرج لله وَيصرف من مال الله خمسه لِلرَّسُولِ المستخلف منه النائب عنه وَبعد انقراضه يصرف الى الولاة المقيمين لحدود الله وسهم آخر منه لِذِي الْقُرْبى المنتمين الى رسول الله من بنى هاشم والمطلب وَآخر حق الْيَتامى الذين لا مال لهم ولا متعهد وَآخر حق الْمَساكِينِ(1/288)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
الذين أسكنهم الفقر والفاقة في زاوية الهوان والمذلة وَآخر حق ابْنِ السَّبِيلِ المنقطعين عن الأوطان والأموال لمصلحة شرعية فعليكم ايها الحكام ان تحافظوا على هذه القسمة ولا تتجاوزوا عنها إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ المستوي على العدل القويم وَما أَنْزَلْنا يعنى عليكم ان تؤمنوا ايضا على انزالنا بمقتضى لطفنا وجودنا من النصر والظفر على الأعداء والإمداد بالملائكة عَلى عَبْدِنا وحبيبنا يَوْمَ الْفُرْقانِ الفارق بين الحق والباطل والمحق والمبطل وذلك يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ اى وقت التقاء الصفين من الطرفين في بدر مع ضعف اهل الحق وقوة الكفار وَاللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء عَلى كُلِّ شَيْءٍ من نصر ضعفاء الأولياء وانهزام أقوياء الأعداء قَدِيرٌ
اذكروا ايها المؤمنون ضعفكم ورثاثة حالكم وقت إِذْ أَنْتُمْ مترددون بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا اى على شفير الوادي الذي هو اقرب الى المدينة مع انه لا ماء فيه ورماله تسوخ ارجلكم وأنتم راجلون وَهُمْ متمكنون بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى اى على شفير الوادي الا بعد من المدينة والماء عندهم وَالرَّكْبُ اى العير التي أنتم قصدتم نحوه قد كان أَسْفَلَ وابعد مِنْكُمْ على ساحل البحر مقدار ثلثة أميال وأنتم حينئذ حيارى بين الاقدام والاحجام وَبالجملة لَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم معهم القتال في وقت معين بلا وحى من الله ووعد من جانبه لَاخْتَلَفْتُمْ أنتم البتة لضعفكم وقوتهم وشدة شوكتهم وصولتهم فِي الْمِيعادِ الذي أنتم وعدتم معهم لرعبكم ورهبتكم منهم وَلكِنْ جمع سبحانه بلطفه شملكم ومكنكم في مكانكم وأمطر عليكم في ليلتكم لِيَقْضِيَ اللَّهُ المتولى لنصركم وغلبتكم أَمْراً وحكما مبرما من نصر الأولياء وقهر الأعداء قد كانَ مَفْعُولًا عنده سبحانه مثبتا في حضرة علمه وسابق قضائه وان لم يفعل بعد وانما فعل سبحانه بكم ما فعل من النصر والظفر وبهم من القهر والقمع لِيَهْلِكَ من الكفار مَنْ هَلَكَ ومات وانخذل غيظا عَنْ بَيِّنَةٍ واضحة قد شاهدها وَيَحْيى ايضا من المسلمين مَنْ حَيَّ فرحا وسرورا عَنْ بَيِّنَةٍ واضحة لائحة قد انكشف بها وَاعلموا إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لَسَمِيعٌ لمناجاة كلا الفريقين عَلِيمٌ بنياتهم وحاجاتهم فيها يفعل مع كل منهم على مقتضى علمه
اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ اى أعداءك فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مما كانوا عليه تشجيعا لك يا أكمل الرسل ولأصحابك وتحريضا على قتالهم وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً وعلى شوكتهم التي هم فيها لَفَشِلْتُمْ وجبنتم البتة رهبة وهيبة وَبعد ما جبنتم لَتَنازَعْتُمْ البتة فِي الْأَمْرِ اى امر القتال سيما قد عرفتم كثرتهم وشوكتهم بل تسرعون أنتم بأجمعكم على الاستدبار والانهزام وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ اى أنعم عليكم بالسلامة عن القتل والتنازع بانزال السكينة والوقار على قلوبكم بسبب ذلك التقليل وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم مآل أمركم وعاقبته لذلك لبس عليكم ليجرئكم على القتال لإعلاء كلمة توحيده ونصر دينه
وَاذكر ايضا امداد الله إياكم بتلبيس الأمر عليكم إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ اى أعداءكم إِذِ الْتَقَيْتُمْ صافين من الطرفين فِي أَعْيُنِكُمْ كما في منامكم قَلِيلًا لتستقلوهم وتجترؤا عليهم وَيلبس أمركم عليهم ايضا تغريرا لهم ومكرا إذ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى لا يبالوا بكم وبجمعكم لذلك قال ابو جهل حين تراءت الفئتان ان محمدا وأصحابه اكلة جزور وانما فعل سبحانه ما فعل من التلبيس على كلا الفريقين لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ عنده مَفْعُولًا حتما وفي لوح قضائه مقضيا جزما وَبالجملة إِلَى اللَّهِ لا الى(1/289)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ اى تدابير الأمور الكائنة في عالم الكون والفساد إذ منه بدأ واليه يعود عموم ما هو مثبت وموجود
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الاعتصام بحول الله وقوته عليكم إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً من الكفار فَاثْبُتُوا وتمكنوا تجاه العدو ولا تضطربوا ولا تستدبروا وَبعد استقراركم وثباتكم اذْكُرُوا اللَّهَ ذكرا كَثِيراً واستعينوا منه وتوكلوا عليه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بالنصر والظفر والغلبة والغنيمة ان اخلصتم النية
وَبالجملة أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في جميع حالاتكم سيما عند المقابلة والمقاتلة مع العدو وَلا تَنازَعُوا بينكم باختلاف الآراء والأهواء بل فوضوا أموركم كلها الى الله ورسوله وان وقع النزاع والمخالفة بينكم فَتَفْشَلُوا وتضعفوا فيفتر عزمكم وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ اى دولتكم وهيبتكم التي قد ظهرت عليكم من نور الإسلام وَبعد ما سمعتم ما سمعتم اصْبِرُوا على مشاق الجهاد ورابطوا قلوبكم الى الله ورسوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ المرابطين المتمكنين يعين عليهم وينصرهم
وَلا تَكُونُوا ايها المؤمنون القاصدون نحو الجهاد كَالَّذِينَ اى كالكفار الذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعنى مكة للقتال بَطَراً مفاخرين مباهين مستظهرين بعددهم وعددهم وَيقصدون بذلك الخروج رِئاءَ النَّاسِ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وَهم بمجرد هذا القصد الفاسد والنية الكاسدة يَصُدُّونَ ويصرفون عباد الله عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموضوع على العدل القويم المسمى بالصراط المستقيم وَاللَّهُ المطلع بجميع أحوالهم بِما يَعْمَلُونَ ويأملون من المخايل الفاسدة مُحِيطٌ بعلمه الحضوري يجازيهم عليها بمقتضى علمه وخبرته
وَمن جملة ما يعين عليكم ويمد لنصركم تغرير الشيطان واغراؤه على أعداءكم امدادا لهم ونصرا فيصير وبالا عليهم وخزيا لا عونا ونصرا اذكروا وقت إِذْ زَيَّنَ اى حسن وحبب لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ اى عداوتهم وقتالهم معكم وَقالَ الشيطان تحريضا لهم على القتال ملقيا في روعهم على سبيل الوسوسة حتى تخيلوا انهم لا يغلبون أصلا اعتمادا على كثرة عددهم وعددهم لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ فلكم اليد والغلبة والاستيلاء والصولة والاستعلاء وَإِنِّي جارٌ مجير لَكُمُ مغيث فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ اى تلاقيا وتلاحقا فرأى اللعين من صفوف الملائكة ما رأى نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ ورجع قهقرى وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ومن جواركم إِنِّي أَرى من جنود السماء ما لا تَرَوْنَ أنتم ينزلون منها لامداد هؤلاء باذن الله وبالجملة إِنِّي أَخافُ اللَّهَ من قهره وغضبه وَاللَّهُ القادر المقتدر على وجوه الانتقام شَدِيدُ الْعِقابِ اليم العذاب لا نجاة للعصاة الغواة من عذابه وعقابه
اذكروا وقت إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى الذين لم يصف عن شوب الشبهة صدورهم ولم يصلوا الى مرتبة الاطمئنان في الايمان حين خرجتم نحو العدو مجترئين مع قلتكم وكثرة عدوكم قد غَرَّ هؤُلاءِ الحمقى دِينُهُمْ فالقوا أنفسهم الى التهلكة بأيديهم بخروج ثلاثمائة عزل بلا عدة الى زهاء ألف مستعدين فلا تبالوا ايها المطمئنون بالإيمان بهم وبقولهم ولا تفتروا ولا تضعفوا من هذياناتهم بل توكلوا على ربكم وفوضوا أموركم كلها اليه وَاعلموا ان مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ مخلصا فهو حسبه فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب في ذاته قادر على اعانة من استعان منه حَكِيمٌ متقن في فعله وامره يفعل ويأمر ما تستبعده العقول وتدهش فيه الأحلام
وَلَوْ تَرى ايها الرائي وقت إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ(1/290)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
اى يتوفيهم الملائكة ويقتلهم يوم بدر حال كونهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ من يأتى منهم من امامهم وَأَدْبارَهُمْ اى يضربون من خلفهم من يأتى من ورائهم وَيقولون لهم حين ضربهم وقتلهم تقريعا وتوبيخا ذُوقُوا ايها المعاندون المعادون مع الله ورسوله عَذابَ الْحَرِيقِ اى أنموذج عذاب النار حتى تصلوا الى جلها وبالجملة لو رأيت حالهم حينئذ ايها المعتبر الرائي لرأيت امرا فظيعا فجيعا
ذلِكَ العذاب والنكال في النشأة الاولى والاخرى انما عرض عليكم ايها المسرفون بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وبشؤم ما اقترفتم لأنفسكم من الكفر والكفران ومعاداة الرسول وبغض عموم اهل الايمان وبمقدار ما كسبتم بلا ظلم عليكم وعدوان وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المستوي على العدل القويم لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اى لا يظلم على الذين ظلموا أنفسهم باقتراف المعاصي والآثام بل يجازيهم حسب جرائمهم سواء بسواء عدلا منه سبحانه وكيف لا يجازيهم سبحانه إذ دأب هؤلاء المصرين المعاندين وديدنتهم القبيحة
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ اى سنتهم وعملهم كعمل آل فرعون وسنتهم وَكذا كدأب القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود وهم قد كَفَرُوا اى أولئك البعداء الخارجون عن طريق الحق بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على رسله عتوا وعنادا كهؤلاء المصرين المستكبرين فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ المنتقم منهم بِذُنُوبِهِمْ التي قد كسبوها بأيديهم لنفوسهم كهؤلاء إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والجلال قَوِيٌّ على الانتقام شَدِيدُ الْعِقابِ على من خرج عن مقتضى امره بحيث لا يدفع عقابه شيء
ذلِكَ اى حلول الغضب والنكال عليهم بِأَنَّ اللَّهَ المنعم المفضل لَمْ يَكُ مُغَيِّراً مبدلا ومحولا نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ تفضلا عليهم وامتنانا حَتَّى يُغَيِّرُوا ويبدلوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من مقتضيات العبودية والانقياد بالخروج عن حدود الله ونقض عهوده وارتكاب نواهيه ومحظوراته وبتكذيب آياته ورسله كما غيرها قريش خذلهم الله وَأَنَّ اللَّهَ المطلع لأحوال عباده سَمِيعٌ لما يقولون على الله وعلى رسوله حين بطرهم وغفلتهم عَلِيمٌ بما يخفون في نفوسهم من الأباطيل إذ دأب هؤلاء المسرفين المغيرين في ما هم عليه من الوفاق والمظاهرة والاخوة والقرابة
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِهِمْ على ديدنتهم وسنتهم قد كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ كهؤلاء المشركين فَأَهْلَكْناهُمْ واستأصلناهم بِذُنُوبِهِمْ وبشؤم كفرهم وعدوانهم بأنواع العذاب بالطوفان والريح والخسف والكسف وغير ذلك من المصيبات اللاحقة إياهم وَلا سيما قد أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ المبالغين المسرفين في العتو والاستكبار في اليم لانهماكهم في بحر الغفلة والضلال وَبالجملة كُلٌّ من أولئك الطغاة وهؤلاء الغواة قد كانُوا ظالِمِينَ أنفسهم بالخرج عن ربقة العبودية ورق الإطاعة والانقياد لذلك جزيناهم بما جزيناهم وهل نجازي بأمثال هذه الاجزئة الا الكفور.
ثم قال سبحانه تسجيلا عليهم بالكفر والضلال إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ العليم الحكيم المتقن في إظهارها الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبآياته ورسله وقد أصروا عليه بلا تمايل منهم الى الايمان لرسوخهم فيه فَهُمْ من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم لا يُؤْمِنُونَ اى لا يرجى منهم الايمان أصلا عبر سبحانه عن الكفرة بلفظ الدواب لانخلاعهم عن مقتضى الانسانية الذي هو الايمان والمعرفة مطلقا فلحقوا بالبهائم بل صاروا أسوأ حالا منها
لذلك قال سبحانه ان شر الدواب وانما صاروا من شر الدواب لأنهم هم الَّذِينَ قد عاهَدْتَ مِنْهُمْ يا أكمل الرسل وأخذت أنت عنهم مواثيقهم الغليظة(1/291)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
مرارا ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وما هي الا من شرارتهم وخباثة طينتهم وعدم فطنتهم لحكمة المعاهدة والمواثيق وَبالجملة هُمْ من تركب جهلهم لا يَتَّقُونَ ولا يحذرون من بطش الله تعالى ولا يتركون الغدر والنفاق مع اولياء الله ولا يوفون بالعهد والميثاق المؤكد
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ وتظفرن عليهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ ومزق جمعهم وشتت شملهم على الفور بحيث ينقطع عنهم مَنْ يأتى خَلْفَهُمْ من مظاهريهم ومعاونيهم لَعَلَّهُمْ بتشريدك وتفريقك إياهم عنوة وقهرا يَذَّكَّرُونَ يتعظون ويتنبهون من أمرك وشأنك وتأييدك فيؤمنون بك وبما جئت به
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ قد عاهدت معهم وأخذت الميثاق عنهم خِيانَةً ونقضا من امارات ظهرت منهم ولاحت عليهم فَانْبِذْ واطرح إِلَيْهِمْ أولا عهدهم عَلى سَواءٍ بلا غدر وخداع واظهر العداوة وارفع المعاهدة والهدنة على رؤس الملأ ثم اخرج عليهم بالقتال لئلا يؤدى الى الغدر والخيانة إِنَّ اللَّهَ المتصف بالعدل القويم لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ المخادعين الغادرين سيما من المؤمنين الموحدين
وَلا يَحْسَبَنَّ يا أكمل الرسل الكفرة الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبك هم قد سَبَقُوا وانقرضوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ المؤمنين ولا يضطرونهم الى القتال بل يلزمكم جمع العدة والتهيئة
وَأَعِدُّوا ايها المؤمنون لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ اى هيئوا لقتالهم من الآلات والأسباب ما تحتاجون إليها في حربهم سيما آلات الرمي وَمِنْ جملة العدة رِباطِ الْخَيْلِ اى شد الفرس وارتياضه ليوم الحرب كما يشده الرجال الابطال المتشوقون للقتال تُرْهِبُونَ بِهِ اى بالاعداد والشد عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وهم الذين في حواليكم يقاتلونكم ويخاصمون معكم جهرا وعلانية يعنى كفار مكة وَترهبون به ايضا آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ يعنى الذين ينافقون معكم ويظهرون إطاعتكم واخاءكم ظاهرا ويريدون مقتكم وهلاككم في بواطنهم وأنتم لا تَعْلَمُونَهُمُ اى عداوتهم لإخفائهم واظهارهم صداقتهم بل اللَّهِ المطلع لضمائرهم يَعْلَمُهُمْ ويعلم عداوتهم ونفاقهم ويجازيهم عليها وَبالجملة ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ للاعداد والتجهيز فِي سَبِيلِ اللَّهِ ونصر دينه وإعلاء كلمة توحيده يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه بأضعاف ما تصرفون له وآلافه وَبالجملة أَنْتُمْ في انفاقكم واعدادكم لا تُظْلَمُونَ ولا تنقصون من عوضه وجزائه ولا تخسرون بل تربحون وتفوزون بما ترضى به نفوسكم وبما لا تدرك عقولكم من الكرامة تفضلا وامتنانا
وَبعد ما اعددتم عددكم وهيأتم اسباب الحرب إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ اى مال الأعداء للمصالحة والمعاهدة فَاجْنَحْ لَها أنت يا أكمل الرسل ومل إليها وارض بها ايها الداعي للخلق الى الخلق تليينا لهم وتلطيفا معهم بمقتضى مرتبة النبوة والتكميل وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في عموم أمورك وثق عليه سبحانه ولا تخف من مكرهم وخداعهم فان الله حسبك وظهيرك يحفظك من مكرهم وغدرهم إِنَّهُ سبحانه بذاته هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأعمالهم ونياتهم فيها
وَإِنْ يُرِيدُوا بعد ما صالحوا وعاهدوا أَنْ يَخْدَعُوكَ ويمكروا بك وباصحابك فلا تبالوا أنتم بهم وبغدرهم وخداعهم فَإِنَّ حَسْبَكَ اى كافيك وظهيرك ومتولى جميع أمورك اللَّهُ المراقب عليك في عموم حالاتك كيف لا يرقبك من مكرهم مع انه هُوَ الَّذِي قد أَيَّدَكَ وقواك وأظفرك على عموم من عاداك بِنَصْرِهِ بلا اعداد منك ورباط وَبعد تأييدك قد عززك ايضا بِالْمُؤْمِنِينَ بك بايمانهم واطاعتهم لك وبذل مالهم ومهجهم لتقويتك وإعلاء دينك(1/292)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
وملتك
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بحيث قد ارتفعت غشاوة الحمية وغطاء التعصب عن ضمائرهم مطلقا وصاروا في محبتك ومودتك مستوية الاقدام متحابين لله في الله منخلعين عن لوازم البشرية مطلقا مع كونهم في جاهليتهم مصرين على التغالب والتهالك حسب الحمية الجاهلية والغيرة البشرية بحيث لَوْ أَنْفَقْتَ وصرفت ما فِي الْأَرْضِ من الزخارف جَمِيعاً لائتلافهم واجتماعهم ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لشدة بغضهم ونفاقهم وَلكِنَّ اللَّهَ المحول لأحوال عباده قد أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بمقتضى لطفه وجماله لينصروك ويقبلوا دينك كي يصلوا الى مرتبة اليقين والعرفان ويتحققوا في مقر التوحيد والايمان إِنَّهُ عَزِيزٌ غالب على عموم مراداته ومقدوراته حَكِيمٌ متقن في جميع أفعاله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد من عند الله بالنصر والظفر على الأعداء حَسْبُكَ اللَّهُ المتولى لأمورك وَايضا حسب مَنِ اتَّبَعَكَ بارادة الله تعالى ومشيته مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيد الله الموفين بعهوده الباذلين مهجهم في سبيله
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المظفر المنصور بنصر الله حَرِّضِ ورغب الْمُؤْمِنِينَ الموحدين عَلَى الْقِتالِ في سبيل الله لترويج توحيده وقل لهم نيابة عنا ووعدا منا إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ايها المؤمنون عِشْرُونَ صابِرُونَ مستقرون ثابتون تجاه العدو يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ منهم بتأييد منا وعون من لدنا وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابرة راسخة متمكنة يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بامدادنا إياكم الى حيث يقاوم واحد منكم عشرة منهم وبالجملة تلك المغلوبية والانهزام انما عرض عليهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ اى لا يصلون الى مرتبة اليقين العلمي بالله وكتبه ورسله حتى يترقوا منه الى مرتبة العين بل يبقون على المرتبة الحيوانية مهانين مغلوبين مخذولين هذا في بدأ الإسلام وضعف المسلمين وبعد ما ارتفع قدره وعلا رتبته وكثر اهله وانتشر في الآفاق هيبته
قال سبحانه الْآنَ اى حين كثر عددكم وعددكم ايها المؤمنون وثقل عليكم ما أمرتم فيما مضى قد خَفَّفَ اللَّهُ الميسر لأموركم أثقالكم عَنْكُمْ وَعَلِمَ بعلمه الحضوري أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً تستثقلون بتحمل المأمور به وأمركم ثانيا بقوله فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ ثابتة يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ منهم وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ونصره وتأييده وَاللَّهُ المراقب لأحوال عباده مَعَ الصَّابِرِينَ المتحملين في متاعب امور الدين.
ثم أشار سبحانه الى سر جواز أخذ الفدية والجزية للرسل والأنبياء ووقته وسببه فقال ما كانَ اى ما صح وما جاز لِنَبِيٍّ من الأنبياء أَنْ يَكُونَ لَهُ وفي يده أَسْرى من الكفار ان يفديهم على المال ويخلى سبيلهم حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ اى لا يجوز لهم أخذ الفدية الا ان يكثر القتل ويذل الكفار ويعز الدين ويغلب اهله الى حيث اضطر المخالفون لتخليص نفوسهم الى الفدية مع انه لا يتوقع منهم المنازعة والمخاصمة أصلا وصاروا مهانين مقهورين ومتى لم يصلوا الى هذه المرتبة لم يصح أخذ الفدية وإذا كان حكم الفدية هكذا كيف تُرِيدُونَ ايها المؤمنون بأخذها عَرَضَ الدُّنْيا ومتاعها وحطامها مداهنين في الأخذ وَاللَّهُ المصلح لأحوالكم المدبر لأموركم يُرِيدُ لكم الْآخِرَةَ وثوابها وما يترتب عليها من اللذات الروحانية وأنتم تقصدون ان تستلذوا بها من حطام الدنيا ومزخرفاتها مداهنة وَاللَّهُ المراقب لحالاتكم عَزِيزٌ غالب فيما أراد لاجلكم حَكِيمٌ يريد لكم ما يليق بحالكم
وبالجملة لَوْلا كِتابٌ حكم وامر ثابت نازل مِنَ اللَّهِ المنتقم الغيور قد سَبَقَ في سابق علمه بان لا يؤاخذ المجتهد المخطئ بخطئه لَمَسَّكُمْ قد(1/293)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
أصابكم ونزل عليكم فِيما أَخَذْتُمْ وافتديتم من أسارى بدر عَذابٌ عَظِيمٌ مقدار ما فوتم من حكمة الله وأبطلتم حكمه روى انه صلّى الله عليه وسلّم اتى يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس وعقيل بن ابى طالب فاستشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم فقال ابو بكر رضى الله عنه قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك وقال عمر رضى الله عنه اضرب أعناقهم فإنهم ائمة الكفر فان الله قد أغناك عن الفداء فمكني من فلان لنسيب له ومكن عليا وحمزة من اخويهما فلنضرب أعناقهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثلك يا أبا بكر مثل ابراهيم عليه السّلام حيث قال فمن تبعني فانه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السّلام حيث قال لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فخير أصحابه صلّى الله عليه وسلم فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمر رضى الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو وابو بكر يبكيان فقال يا رسول الله اخبرني فان أجد بكاء بكيت والا تباكيت فقال ابكى على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض على عذابهم ادنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة عنده فقال صلّى الله عليه وسلّم لو نزل العذاب لما بريء منه غير عمر وسعد بن معاذ ومتى اجتهدتم في أخذ الفدية من الأسرى فاخذتم الفدية وان كان اجتهادكم خطأ
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ بعد إخراج الخمس وافتديتم من الأسرى إذ هو من جملة الغنيمة حَلالًا مستحلين مستبيحين طَيِّباً خاليا عن وصمة الشبهة لاجتهادكم وجهادكم في أخذها وَاتَّقُوا اللَّهَ عن المبادرة في الأمور واحتاطوا فيها إِنَّ اللَّهَ المدبر لأموركم غَفُورٌ لما صدر عنكم من المبادرة الى الفدية رَحِيمٌ قد أباح لكم ما أخذتم
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المبعوث لتكميل الخلائق قُلْ على سبيل العظة والتذكير بمقتضى شفقة النبوة والإرشاد لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ المطلع لضمائركم واستعداداتكم فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ايمانا وإيقانا اطمينانا وعرفانا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من حطام الدنيا الا وهي اللذات الروحانية والمكاشفات والمشاهدات الحقيقية والحقية التي لا مقدار للذات الجسمانية دونها وَيَغْفِرْ لَكُمْ عموم ما صدر عنكم من الكفر والعصيان وَاللَّهُ الهادي لعباده نحو توحيده غَفُورٌ لذنوبهم بعد ما وفقهم على الايمان والإطاعة رَحِيمٌ يرحمهم بعد ما رجعوا نحوه وأنابوا اليه روى انها نزلت في العباس رضى الله عنه كلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ان يفدى نفسه وابني أخويه عقيل بن ابى طالب ونوفل بن الحارث فقال يا محمد تركتني اتكفف قريشا ما بقيت فقال صلّى الله عليه وسلّم فأين الذهب الذي دفعته الى أم الفضل وقت خروجك فقلت لها انى لا ادرى ما يصيبني في وجهى هذا فان حدث لي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم وقال العباس وما يدريك قال صلّى الله عليه وسلّم أخبرني ربي قال اشهد انك صادق وان لا اله الا الله وانك رسول الله والله لم يطلع عليه احد الا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل فقال العباس فابدلنى الله خيرا من ذلك الى الآن عشرون عبدا أدناهم ليضرب عشرين الفا وأعطاني زمزم وما أحب ان لي بها اى بمقابلتها جميع اموال اهل مكة وانا انتظر المغفرة من ربكم يعنى الموعود بقوله ويغفر لكم والله غفور رحيم
وَإِنْ يُرِيدُوا أولئك الأسارى خِيانَتَكَ يا أكمل الرسل بعد ما عاهدت معهم وتلطفت بهم فلا تتعجب من خيانتهم ونقضهم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ بالكفر والشرك في نقض العهد والخروج عن مقتضى المأمور مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ اى أمكنك ومكنك أولا عليهم حتى انتقمت مِنْهُمْ يوم بدر بالقتل والاسرفان(1/294)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
عادوا ورجعوا بالخيانة سيمكنك ثانيا وثالثا فلا تبال بهم وبخيانتهم معينك وناصرك يعصمك من مكائدهم وَاللَّهُ المطلع لمخائلهم عَلِيمٌ بنياتهم حَكِيمٌ بمجازاتهم يجازيهم على مقتضى علمه.
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بتوحيد الله تعالى ووجوب وجوده وَهاجَرُوا عن بقعة الإمكان طالبين الترقي الى المراتب العلية الوجوبية وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ منفقين لها ليتجردوا عنها ويطهروا نفوسهم عن الميل والمحبة إليها وَأَنْفُسِهِمْ ممسكين لها عن مقتضياتها ومشتهياتها باذلين بها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ليتحققوا بمرتبة الفناء فيه وليفوزوا ببقائه الأزلي الأبدي وَهم المهاجرون الَّذِينَ تحققوا بمرتبة التوحيد وتمكنوا فيها بحيث قد آوَوْا اى مكنوا ووطنوا يقينا من يرجع إليهم ويسترشد منهم من اهل الطلب والارادة وَبعد تمكينهم وتوطينهم نَصَرُوا وأعانوا عليهم بالتنبيهات اللائقة امدادا لهم بالواردات الغيبية والإلهامات القلبية والمكاشفات العينية أُولئِكَ
السعداء المقبولون عند الله الوالهون في بيداء ألوهيته بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يتناصرون ويتعاونون الى ان يرتفع تعددهم وتضمحل كثرتهم وسقط الافتراق والاجتماع عنهم وانقطع السلوك والطلب منهم وفنى السالك والسلوك والمسلك وبقي ما بقي لا اله الا هو ولا شيء سواه وكل شيء هالك الا وجهه وَالأبرار الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسله وَلَمْ يُهاجِرُوا نحو الفناء فيه ما لَكُمْ ايها الوالهون الواصلون مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ويتشمروا لسلوك مسلك الفناء وَبعد ما دخلوا باب الطلب إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ واستعانوا منكم فِي الدِّينِ اى في سلوك طريق التفويض والانقياد والمعرفة واليقين فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ اى لزم عليكم ان تنصروهم وتعينوا عليهم ليغلبوا على جنود القوى البهيمية والشياطين الشهوية والغضبية إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ من جنود النفوس اللوامة المعطلة لغوائل الامارة الخبيثة ووخامة عاقبتها وَاللَّهُ المطلع لجميع حالاتكم بِما تَعْمَلُونَ من النصر والإعانة بَصِيرٌ يجازيكم على مقتضى بصارته وخبرته
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله ولم يتفطنوا لسر سريان وحدته الذاتية السارية في جميع الأكوان ولم ينبهوا للفناء في ذاته ومع ذلك قد كذبوا الرسل المنبهين المبشرين المنذرين لهم إصلاحا وارشاد أولئك الأشقياء المردودون عن ساحة القرب بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يتعاونون ويتعاضدون في كفرهم وجهلهم مع إخوانهم بلا ولاية وودادة بينكم وبينهم إِلَّا تَفْعَلُوهُ يعنى ان لم تفعلوا ايها المؤمنون ما أمرتم به من موالاة الأولياء ونصرهم ومعاداة الأعداء والاعراض عنهم بل توالون أنتم مع الأعداء مثل موالاتكم مع الأولياء تَكُنْ فِتْنَةٌ وتحصل حينئذ بلية بينة ومصيبة عظيمة سار أثرها فِي اقطار الْأَرْضِ وَيحدث فيها بسببها فَسادٌ كَبِيرٌ الا وهو ضعف الايمان وقلة أوليائه وقوة الكفر وكثرة اودائه إذ أنتم حينئذ تحبون الكفرة وكفرهم وهم في أنفسهم يبغضونكم وايمانكم ولا فساد اكبر منه
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا اى سلكوا وسافروا عن بقعة الإمكان نحو فضاء الوجوب بعد ما تحققوا باليقين العلمي وَجاهَدُوا وارتاضوا بحيث تحققوا بالموت الإرادي وانخلعوا عن جلباب التعين فِي سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الفناء فيه ليتحققوا باليقين العيني وَالَّذِينَ آوَوْا ووالوا اولياء الله اهل الارادة وَنَصَرُوا ارباب الطلب أُولئِكَ الواصلون المبرورون هُمُ الْمُؤْمِنُونَ المتحققون الثابتون المثبتون في مرتبة اليقين الحقي حَقًّا ثابتا لائقا بلا دغدغة استكمال ووسوسة انتظار متقررين في مقر التوحيد ومقعد الصدق عند مليك مقتدر(1/295)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
وبالجملة لَهُمْ بعد وصولهم الى مقرهم مَغْفِرَةٌ وستر لأنانيتهم التي قد كانوا عليها بمقتضى تعيناتهم الباطلة العاطلة وَرِزْقٌ كَرِيمٌ من الكشف والشهود نزلا من عند العزيز العليم
ثم بشر سبحانه بما بشر به من اقتفى اثركم ايها المكاشفون الواصلون وسلك سبيلكم من اصحاب الارادة والطلب فقال وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا مثل ما هاجرتم أنتم ايها الفانون الواصلون وَجاهَدُوا مَعَكُمْ في سبيل الله وترويج دينه وسنته بأنفسهم وأموالهم كما جاهدتم أنتم فَأُولئِكَ المجاهدون الباذلون مِنْكُمْ اى من جملتكم وعدادكم وأجرهم عند الله مثل اجركم وهم إخوانكم وأرحامكم في الدين وَأُولُوا الْأَرْحامِ وذووا المناسبات والقربات في سبيل الدين وطريق العرفان واليقين بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في الولاية والنصر والمصاحبة والمواخات فِي كِتابِ اللَّهِ تعالى اى في حضرة علمه ولوح قضائه إِنَّ اللَّهَ المتجلى على ذرائر الآفاق بِكُلِّ شَيْءٍ من رقائق المناسبات ودقائقها عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعرب عن حضوره شيء
خاتمة سورة الأنفال
عليك ايها المتوجه نحو الفناء المهاجر عن ورطة الغفلة والغرور ان تقتفى في سلوكك هذا اثر اهل الهجرة والنصرة المرابطين قلوبهم لتوحيد الحق الباذلين مهجهم في تقوية من ظهر عليه صلّى الله عليه وسلّم وترويج دينه وسنته المتخلقين بأخلاقه المتعطشين بزلال مشربه المستظلين بظل لوائه المستمسكين بعروة ولائه ولا يحصل لك هذا الا بالركون الكامل والاعراض التام عن مقتضيات القوى البشرية ولوازم الطبيعة مطلقا كهؤلاء الكرام المنخلعين عن جميع ما يعوقهم ويشوشهم من لوازم هوياتهم حتى عن الأهل والأوطان لذلك قد انكشف لهم من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات ما انكشف بحيث اضمحلت عن عيون بصائرهم ما سوى الحق مطلقا وصاروا فانين في الله متحققين بمقام وبي يبصر وبي يسمع الحديث وعليك في عزيمتك هذه التشبث بكتاب الله الذي هو المرشد الحقيقي وبأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبكلمات المشايخ العظام قدس الله أرواحهم ولا سيما لك ان تستمد في مطلبك هذا من قلوب البدلاء الوالهين الحائرين بمطالعة وجه الله الكريم إذ هم لاستغراقهم في بحر الشهود قد انخلعوا عن لوازم هوياتهم مطلقا وبالجملة ما لنا من حالاتهم الا الحسرة والعبرة ان كنا من ذوى الاعتبار والاستبصار ربنا اهدنا إليك باى طريق شئت انك بفضلك وجودك تهدى من تشاء من عبادك الى فضاء وحدتك وانك على عموم ما تشاء قدير بلطفك يا كريم
[سورة البراءة]
فاتحة سورة البراءة
لا يخفى على من تمكن في مقر التوحيد وتوطن في مكمن الفناء والتجريد خالصا عن توهمات التخمين والتقليد مستويا على جادة اليقين والتحقيق معرضا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط ان من لم يترق عن المرتبة الحيوانية ولم تثمر شجرة هويته الثمرة الانسانية التي هي المعرفة والتوحيد فهو والحيوانات العجم سواء في الرتبة بل هو أسوأ حالا منها ومتى لم يطع حكم المربى ولم ينفذ لأمره لينقذه من جهله ويوصله الى ما خلق لأجله سيما إذا تعنت وتجبر واستكبر على من بعث لتربيته وامر لإرشاده وتكميله بل كذبه وأنكر عليه وطغى على امره سبحانه بل أشرك به غيره(1/296)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
العياذ بالله فقد حل قتله واستباح دمه على الموحدين المتمكنين الذين يبذلون أرواحهم في ترويج كلمة التوحيد ونصرة الدين القويم والشرع المستقيم لذلك قد فرض الجهاد والغزاء على ارباب الولاء المستمسكين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ليكون غزاتهم مع الله في عموم أحوالهم وشهداءهم احياء عند ربهم يرزقون من موائد افضاله ما لم تره عيونهم ولم تشتهيه نفوسهم ولهذا ما خلا نبي من الأنبياء من لدن آدم الى نبينا صلوات الله عليه وعليهم أجمعين من القتال والجهاد بينهم وبين مكذبيهم ومعانديهم كما فصل سبحانه بعض قصصهم وسيرهم في كتابه وأجمل البعض وقال مخاطبا لنبيه منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك والسرفى وجوب القتال للأنبياء والله اعلم ان بعثة الرسل والأنبياء انما هو لإصلاح احوال العباد وإرشادهم الى سبل الخير والصواب في معادهم ومعاشهم وذلك لا يتصور الا بعد ظهور الآراء الباطلة المتخالفة المتداعية الى انواع الاختلال وتزاحم الأهواء الفاسدة المستلزمة للضلال والإضلال وانتشار انواع البدع والجدال ورفع أمثال هذه المفاسد وقمع أهلها وقلع عرقها وأصلها انما هو باستئصال من تمسك بها وظهر عليها ولا يتيسر ذلك الا بالمقاتلة والمشاجرة لذلك قد جرت سنته سبحانه عليها وقد عدها من أفضل العبادات ثم لما كان المشركون المصرون على شركهم من أعدى الأعادي وأشدهم غيظا مع الله تعالى ورسوله وكان عهودهم ومواثيقهم غير معقول في علم الله قد تبرأ سبحانه منهم وامر رسوله ايضا بالتبري عنهم وعن عهودهم ومواثيقهم وان أكدوها وغلظوها
[الآيات]
فقال بَراءَةٌ اى هذه براءة ونقض عهد وإسقاط ذمة ورفع أمان قد كان بينكم ايها المؤمنون وبين المشركين نزلت إليكم مِنَ اللَّهِ المطلع على مخايل اهل الشرك اصالة وَمن رَسُولِهِ تبعا لتنبذوا أنتم وتطرحوا عهودكم ومواثيقكم إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وعليكم ان لا تبادروا ولا تفاجؤا الى المقاتلة بعد نبذ العهد
بل امهلوهم وقولوا لهم فَسِيحُوا اى سيروا ايها المسرفون فِي الْأَرْضِ اى في ارضنا هذا آمنين بلا خوف أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قيل هي عشرون من ذي الحجة وتمام المحرم والصفر وربيع الاول وعشر من ربيع الآخر واستعدوا في تلك المدة وهيئوا اسباب القتال فيها وَاعْلَمُوا ايها المصرون على الشرك يقينا وان زعمتم أنتم غلبتكم علينا بمظاهرة إخوانكم واستعانة قبائلكم وعشائركم أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ اى لستم أنتم غالبين على الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بالمجد والبهاء وَاعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور من عصاة عباده مُخْزِي الْكافِرِينَ اى مهينهم ومذلهم وان امهلهم زمانا بطرين على تجبرهم وتكبرهم
وَايضا هذه أَذانٌ اى اعلام وتشييع ونداء قد صدر مِنَ اللَّهِ وَمن رَسُولِهِ باذنه سبحانه إِلَى النَّاسِ المجتمعين من أقاصي البلاد يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وصف بالأكبر لان الوقوف بعرفة كان يوم الجمعة لذلك سمى به أَنَّ اللَّهَ اى بان الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اى من عهودهم ومواثيقهم مطلقا بحيث لا تؤمنوهم بعد عامكم هذا وَرَسُولِهِ ايضا مأمور من عنده سبحانه بالبراءة منهم ونقض العهد وإسقاط الذمة إليهم وبعد اليوم قد ارتفعت الهدنة وصار الأمر والحكم من الله اما السيف أم الإسلام فَإِنْ تُبْتُمْ ورجعتم عما أنتم عليه من الكفر والشرك الى الايمان والتوحيد فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في اولاكم وأخراكم وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن الإسلام والايمان وأصررتم على الشرك والطغيان فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ اى لستم غالبين على جنوده سبحانه وَبالجملة بَشِّرِ يا أكمل الرسل الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأصروا عليه ولم يرجعوا عنه(1/297)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
سيما مع ورود الزواجر المؤيدة بالخوارق بِعَذابٍ أَلِيمٍ في النشأة الاولى بالقتل والسبي والاجلاء وفي الآخرة بالحرمان عن رتبة الإنسان
ثم لما لم يصدر عن بعض المشركين شيء من امارات النقض والانباذ وعلامات المخالفة والمخادعة استثناهم الله سبحانه وامر المؤمنين بحفظ عهودهم الى انقضاء المدة المعلومة المعهودة فقال إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ بعد المعاهدة لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً مما عاهدوا عليه والتزموا حفظه بل داوموا على حفظها وَمع ذلك لَمْ يُظاهِرُوا ولم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم حفظا لعهودكم وميثاقكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ اى أنتم اولى بايفاء العهد وإتمام مدته إِلى انقضاء مُدَّتِهِمْ التي عاهدوا عليها إِنَّ اللَّهَ المستوي على العهد القويم يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يواظبون على إيفاء العهود وحفظ المواثيق حذرا عن تجاوز حدود الله وعهوده
فَإِذَا انْسَلَخَ وانقضى ومضى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ المأمورة فيها السياحة والأمن فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ المصرين على الشرك الناقضين للعهد والميثاق حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في حل او حرم مستأمنين أم لا وَخُذُوهُمْ اى اسروهم واسترقوهم واستولوا عليهم وَان استحفظوا واستحصنوا احْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ ولاخذهم وقتلهم كُلَّ مَرْصَدٍ وممر من شعاب الجبال وشفا الوادي فَإِنْ تابُوا ورجعوا عن الشرك ومالوا الى الايمان وَبعد ايمانهم أَقامُوا الصَّلاةَ التي هي من أقوى اعمدة ايمانهم وتصديقهم وَآتَوُا الزَّكاةَ التي بها تطهر قلوبهم عن امارات النفاق فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ كسائر المسلمين ولا تتذكروا ولا تلتفتوا بما صدر عنهم من المخالفة والمقاتلة والشقاق فيما مضى إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ لما صدر عنهم من المعاصي والآثام رَحِيمٌ لهم يوصلهم الى دار السّلام بعد ما أخلصوا في الانابة والرجوع
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المناقضين الذين قد أمرت بقتلهم واسرهم اسْتَجارَكَ وطلب منك يا أكمل الرسل جوارك ليأمن عما يؤذيه فَأَجِرْهُ اى فعليك يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة والرسالة ان تجيره وتؤمنه في جوارك حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ الهادي لعباده منك ويفهم سرائر دينك وشعائر شرعك كأنه يطلع على حقيته إذ كل فرد من افراد الإنسان قد جبل على فطرة الإسلام ثُمَّ بعد حصول اليأس من إيمانه وتنبه أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ اى موضع امنه ومحل قراره تتميما للشفقة والمروءة ذلِكَ الأمن والمواساة والتليين المأمور بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ في غاية البعد عن الايمان وما يترتب عليه من المواخاة وانواع الخيرات والمبرات لا يَعْلَمُونَ اى لا يطمعون ولا يتوقعون صدورها من اهل الايمان سيما بالنسبة إليهم فمتى صدر منكم أمثال هذا عسى ان يتحابوا ويتقربوا إليكم
ثم قال سبحانه كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ المصرين على الشرك والفساد والمبالغين في العتو والاستكبار عَهْدٌ مقبول عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إذ هم من غاية انهماكهم في كفرهم وضلالهم لا يلتفتون الى الله ولا الى رسوله لذلك لا يقبل منهم العهد والميثاق بل أمرهم اما السيف واما الإسلام إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فإنهم وان كانوا ايضا من المشركين المصرين الا ان حرمة المسجد الحرام يوجب إيفاء عهودهم ما داموا موفين بها فَمَا اسْتَقامُوا واستحفظوا لَكُمْ عهدكم فيه فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ بل أنتم اولى برعاية حرمة المسجد الحرام إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن سوء الأدب مع الله في عموم أحوالهم وأوقاتهم سيما عند بيته الحرام
كَيْفَ يكون للمشركين معكم عهد ايها المؤمنون وَ(1/298)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
كيف تعتمدون أنتم على ميثاقهم وعهدهم وهم من غاية بغضهم وشدة شكيمتهم إِنْ يَظْهَرُوا ويظفروا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ اى لا يحافظوا ولا يراعوا في حقكم إِلًّا اى عهدا وميثاقا وَلا ذِمَّةً حقا لازما يلتزمون غايتها كالحقوق التي جرت بين المعاهدين بل حالهم انهم يُرْضُونَكُمْ ويعاهدون معكم بِأَفْواهِهِمْ مخادعة ومداهنة وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ عما صدر عن ألسنتهم من المعاهدة بل وَأَكْثَرُهُمْ في أنفسهم فاسِقُونَ خارجون متمردون عن العهد مطلقا لا يتفوهون به أصلا فكيف ان يعهدوا ومن غاية فسقهم وتمردهم ونهاية توغلهم في الغفلة والضلال
اشْتَرَوْا واستبدلوا بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على رسوله الدالة على توحيده مع وضوحها وسطوعها ثَمَناً قَلِيلًا اى بدلا حقيرا مبتذلا مردولا الا وهو اتباع الاهوية الباطلة والآراء الفاسدة التي قد ابتدعها المبتدعون بتسويلات شياطينهم فَصَدُّوا اى اعرضوا وانصرفوا بأنفسهم واتباعهم بسبب تلك الآراء عَنْ سَبِيلِهِ اى عن دين الله الموصل الى توحيده وبالجملة إِنَّهُمْ من غاية ضلالهم واضلالهم ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ هذا العمل ومن سوء عملهم ايضا وقبح صنيعهم انهم من غاية بغضهم مع المؤمنين
لا يَرْقُبُونَ ولا يراعون فِي حق مُؤْمِنٍ اى احد من اهل الايمان وان بالغ في ودادهم وإخائهم ومحافظة عهودهم ودممهم إِلًّا وَلا ذِمَّةً أصلا لشدة شكيمتهم وقوة بغضهم وضغينتهم وَبالجملة أُولئِكَ الأشقياء البعداء المردودون المطرودون عن عز القبول وشرف الوصول هُمُ الْمُعْتَدُونَ المقصورون على التجاوز والعدول عن حدود الله وعن مقتضى المروءة اللازمة للمرتبة الانسانية بخبث طينتهم وردائة فطرتهم
فَإِنْ تابُوا ورجعوا الى الايمان بعد ما بالغوا في العناد والاستكبار وَبعد رجوعهم أَقامُوا الصَّلاةَ المصفية لبواطنهم عن الميل الى غير الحق وَآتَوُا الزَّكاةَ المطهرة لظواهرهم عما يشغلهم عن الحق فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أنتم وهم سواء في سلوك طريق الحق والرجوع نجوه وَما نُفَصِّلُ ونوضح الْآياتِ الدالة على توحيدنا الا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ويصلون الى مرتبة اليقين العلمي ويريدون الترقي منها الى اليقين العيني والحقي
وَإِنْ نَكَثُوا ونقضوا أَيْمانَهُمْ ونبذوا عهودهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وراء ظهورهم وَمع ذلك قد طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بتصريح التكذيب والتقبيح في الاحكام والمعتقدات وعموم الطاعات والعبادات فَقاتِلُوا ايها الغزاة المرابطون قلوبكم مع الله ورسوله أَئِمَّةَ الْكُفْرِ اى صناديدهم ورؤساءهم لأنهم ضالون مضلون وان تفوهوا بالعهد والميثاق لا تبالوا بهم وبعهودهم إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أصلا لتخمر طينتهم على الشرك والشقاق لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ يفقهون ويتنبهون اى سفلتهم الضالون عما عليه رساؤهم المضلون بعد انقراضهم.
ثم قال سبحانه تحريضا للمؤمنين على القتال على وجه المبالغة أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا ونقضوا أَيْمانَهُمْ وَبعد نقضهم الايمان والعهود قد هَمُّوا قصدوا واهتموا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة وَالحال انه هُمْ قوم قد بَدَؤُكُمْ بالمعاداة والمخاصمة أَوَّلَ مَرَّةٍ في بدء الإسلام حين تحدوا مع رسول الله بالمعارضة مرارا فأفحموا والتجائوا الى المقارعة والمشاجرة أَتَخْشَوْنَهُمْ منهم ايها المؤمنون في مقاتلتهم ان يلحقكم مكروه من جانبهم أم تداهنون معهم وتضعفون عنهم وان خشيتم أنتم عن لحوق المكروه وعروض المنكر من قبلهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ لأنه قادر على وجوه الانتقامات فعليكم ان تخشوا من الله ومخالفة امره وحكمه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله(1/299)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
وبأوامره ونواهيه
وبالجملة قاتِلُوهُمْ حيث وجدتموهم فإنكم منصورون عليهم بنصر الله إياكم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بأنواع العذاب من الأسر والقتل والاجلاء وَيُخْزِهِمْ اى يذلهم ويهنهم ما بقي منهم ومن ذرياتهم وَيَنْصُرْكُمْ دائما عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ بقهرهم وإذلالهم صُدُورَ قَوْمٍ غرباء مُؤْمِنِينَ حيث صارت قلوبهم مرضى من وعيدات أولئك الطغاة الغواة المتجبرين المتكبرين
وَيُذْهِبْ بقتل أولئك الكفرة وقمعهم واستئصالهم غَيْظَ قُلُوبِهِمْ اى ما حدث وخدش في قلوب هؤلاء الغرباء المؤمنين الذين تركوا أوطانهم بحب دين الإسلام من استيلاء الكفار وخافوا من كثرة عددهم وعددهم وجاههم ومالهم وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ان يصرف ويرجع من الباطل بسبب قلعهم وقمعهم من في قلوبهم مرض من الأقاصي والأداني وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده عَلِيمٌ بمخايلهم وامراض قلوبهم حَكِيمٌ في علاجها ودفعها.
ثم قال سبحانه على وجه التشنيع للمؤمنين تحريكا الحمية الايمان أَمْ حَسِبْتُمْ وظننتم ايها المؤمنون الكارهون للقتال المتقاعدون عن امتثال الأوامر الواقعة فيه أَنْ تُتْرَكُوا
على ما أنتم عليه ولا تؤمروا بالقتال من بعد وَزعمتم ايضا زعما فاسدا لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ ولما يفصل ويميز سبحانه بعلمه الحضوري الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ في سبيله مخلصين مخلصين خالصا لرضاه وَمع ذلك لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا من دون رَسُولِهِ المستخلف منه النائب عنه وَلا من دون الْمُؤْمِنِينَ المرابطين قلوبهم مع الله ورسوله وَلِيجَةً اى بطانة ومرجعا من الكفار يوالونهم ويفشون إليهم سرائرهم بلى ان الله عليم بجميع ما صدر عنكم من علامات الإخلاص وامارات النفاق وَاللَّهُ المطلع بجميع أحوالكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم ما تتخيلون وتخطرون ببالكم من التكاسل والتواني والالتجاء الى الأعداء والرجوع إليهم في خلواتكم واسراركم وموالاتكم معهم في قلوبكم
ثم قال سبحانه ما كانَ اى ما صح وما جاز لِلْمُشْرِكِينَ المصرين على الشرك والعناد أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ المعدة لأهل الايمان ليعبدوا فيها حتى يتحققوا بمقام المعرفة والتوحيد حال كونهم شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ والشرك قولا وفعلا وشركهم مناف لتعميرها إذ أُولئِكَ البعداء الهالكون في تيه الجحود والضلال قد حَبِطَتْ اى سقطت عن درجة الاعتبار أَعْمالُهُمْ الصالحة عند الله بحيث لا ينفعهم أصلا لمقارنتها بالشرك بل وَمآل أمرهم انهم داخلون فِي النَّارِ المعدة لأهل الشرك والضلال بل هُمْ خالِدُونَ فيها لا نجاة لهم منها أصلا سواء صدر عنهم الأعمال الصالحة أم لا
بل إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ المعدة للعبادة والتوجه نحو الحق والمناجاة معه مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وتحقق بمرتبة اليقين العلمي في توحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى صدق باليوم الآخر الذي مصير الكل اليه وَأَقامَ الصَّلاةَ وادام الميل والرجوع نحو الحق بعموم الجوارح والأركان مستمرا دائما وَآتَى الزَّكاةَ تخفيفا وتطهيرا لنفسه عن العلائق العائقة عن التوجه الحقيقي الحقي وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ اى لم يكن في قلبه خشية من فوات شيء أصلا الا من عدم قبول الله اعماله ومن عدم رضاه سبحانه منه فَعَسى وقرب أُولئِكَ السعداء الأمناء الباذلون جهدهم في طريق التوحيد المشتاقون الى فضاء الفناء المتصفون بالأوصاف المذكورة المداومون عليها المحافظون إياها أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ المتحققين في مقام الرضا والتسليم ان وفقوا بالإخلاص من عنده سبحانه. اصنع بنا ما تحب أنت عنا وترضى يا دليل الحائرين
أَجَعَلْتُمْ اى صيرتم وسويتم ايها المشركون المعاندون المكابرون سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ(1/300)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
مع كونهما صادرتين عنكم وأنتم على شرككم وضلالكم كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ اى كايمان من آمن بتوحيد الله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وَمع ذلك قد جاهَدَ بماله ونفسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وكلمة توحيده كلا وحاشا لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ عملة السقاية وعمرة المساجد مع المؤمنين الموقنين بتوحيد الله المجاهدين في سبيل الله لنصرة دينه وَاللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه المنزلة على رسله وأنبيائه
الَّذِينَ آمَنُوا اى تحققوا بمرتبة اليقين العلمي بتوحيد الله وَهاجَرُوا عن بقعة الإمكان طالبين مرتبة أعلى منها وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي طريق توحيده مع جنود النفوس الامارة واهل الشقاق والخلاف ساعين فيه بِأَمْوالِهِمْ اى ببذل ما نسب إليهم من امتعة الدنيا العائقة عن الوصول الى فضاء الوحدة وَأَنْفُسِهِمْ بمنعها عن مشتهياتها ومقتضياتها طالبين افناء انانياتهم وهوياتهم الباطلة في هوية الحق أَعْظَمُ دَرَجَةً وأعلى منزلة ومرتبة عِنْدَ اللَّهِ ما داموا سالكين سائرين وَبعد وصولهم وانقطاع سلوكهم أُولئِكَ السعداء الواصلون هُمُ الْفائِزُونَ المتحققون الواصلون بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
لذلك يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ إياهم اى باستعداداتهم الكامنة في عالم الأسماء والصفات بِرَحْمَةٍ وروح وراحة غير منقطعة نازلة ناشئة مِنْهُ سبحانه وَرِضْوانٍ فائض لهم من جانبه سبحانه قد كلت الألسن عن تفسيره وانحسرت العقول عن التعبير عنه وَجَنَّاتٍ متنزهات متجددات حسب تجددات التجليات الحبية لَهُمْ فِيها اى في تلك الجنات المتجددات نَعِيمٌ اى امداد عظيم من قبل الحق وفيض مُقِيمٌ دائم غير منقطع
خالِدِينَ فِيها أَبَداً مؤبدا لا تأبيد أمد ولا زمان بل لا يعرف كنهه الا هو وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المتجلى على قلوب خلص عباده عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ موهوب لهم حسب استعداداتهم وقابلياتهم بعد ما انكشفوا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الاجتناب عن اهل الغفلة والغرور حتى لا يسرى ضلالهم إليكم سيما اقرباءكم النسبية لا تَتَّخِذُوا ايها المهاجرون آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا واختاروا الْكُفْرَ والشرك عَلَى الْإِيمانِ والتوحيد وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ سيما بعد ورود النهى فَأُولئِكَ المتخذون المضلون الضالون هُمُ الظَّالِمُونَ المتجاوزون عن مقتضى حكم الله وامره ونهيه
قُلْ يا أكمل الرسل للمؤمنين الذين يقصدون موالاة أنسابهم إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ اى أقاربكم وذووا أرحامكم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اى اكتسبتموها بأيديكم وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها بمضى وقت ربحها ونمائها وَمَساكِنُ طيبة تَرْضَوْنَها اى ترضى بها نفوسكم وتطيب بها قلوبكم أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ المحبوب في قلوب أوليائه وَرَسُولِهِ الذي هو حبيبه وخليله وهو النائب المستخلف عنه سبحانه وَكذا من جِهادٍ هو عبارة عن الاجتهاد فِي سَبِيلِهِ سبحانه للفوز بشرف الوصول والشهود والنيل الى غاية المأمول والمقصود فَتَرَبَّصُوا اى فعليكم ان تتربصوا وتنتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ المنتقم الغيور من المتخذين لغيره اولياء بِأَمْرِهِ الموجب لعذابه وَاللَّهُ الهادي لعباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى ولائه وولايته اذكروا يا ايها المؤمنون
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ الحفيظ الرقيب عليكم فِي مَواطِنَ ومواقع كَثِيرَةٍ حين لا ينفعكم أحسابكم وانسابكم شيأ لا سيما في حربكم مع هوازن وثقيف وَلا سيما يَوْمَ حُنَيْنٍ هو واد بين مكة(1/301)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
والطائف إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ من ان تكونوا مغلوبين إذ أنتم اثنا عشر الفا وعدوكم اربعة آلاف فَلَمْ تُغْنِ حينئذ كثرتكم عَنْكُمْ شَيْئاً من غلبة العدو مع قلتهم وَقد صرتم أنتم حينئذ من شدة رعبكم وخوفكم الى حيث قد ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ اى مع وسعتها فلم تجدوا فيها مقرا تتمكنون عليها من غاية رهبتكم ثُمَّ ادى أمركم وخوفكم الى ان وَلَّيْتُمْ ورجعتم أنتم مُدْبِرِينَ صائرين ظهركم على العدو منهزمين منهم
ثُمَّ بعد انهزامكم وإدباركم قد أَنْزَلَ اللَّهُ المتولى لأموركم سَكِينَتَهُ اى رحمته الموجبة للقرار والوقار والطمأنينة عَلى قلب رَسُولِهِ وَعَلَى قلوب الْمُؤْمِنِينَ الذين تمكنوا معه واستقروا حوله اتكالا على الله واتفاقا مع رسوله وَبتثبيت الرسول وتمكينه وتقرير من تبعه قد أَنْزَلَ سبحانه نصرة لنبيه من الملائكة جُنُوداً مجندة لَمْ تَرَوْها باعينكم وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بنزولها عذابا شديدا من القتل والأسر والإذلال في النشأة الاولى وفي الاخرى بأضعافها وَذلِكَ اى ما لحقهم من انواع الإذلال جَزاءُ الْكافِرِينَ المحاربين مع الله ورسوله روى ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج بعد فتح مكة نحو حنين لقتال هوازن وثقيف مع عشرة آلاف من المهاجرين وألفين من الطلقاء وكان العدو اربعة آلاف فاعجب المسلمين كثرتهم فلما التقوا قالوا لن نغلب اليوم لان العدو في غاية القلة فكره الله منهم قولهم هذا وإعجابهم فاقتتلوا قتالا عظيما فغلب العدو عليهم فولوا منهزمين فبقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع شرذمة قليلة فأراد ان يقتحم على العدو بنفسه فأخذ عمه العباس بعنانه فنزل صلّى الله عليه وسلّم وقبض قبضة من التراب ورمى نحو العدو وذلك عند نزول الملائكة فقال حينئذ
انا النبي لا كذب ... انا ابن عبد المطلب
الآن قد حمى الوطيس اى التنور فأمر العباس ان يصيح على الناس المنهزمين فصاح يا عباد الله يا اصحاب الشجرة يا اصحاب سورة البقرة فكروا عنقا واحدا فاستقبلوا قائلين لبيك لبيك فصفوا خلف الملائكة وازدحموا وهجموا على العدو والريح من خلفهم ومن امام عدوهم فانهزم العدو بنصر الله وتأييده
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ويوفق عَلى مَنْ يَشاءُ إيمانه من أولئك المنهزمين فأتوا رسول الله وآمنوا فاعطى صلّى الله عليه وسلّم من سبى منهم بلا فدية وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ يغفر لمن تاب وآمن رَحِيمٌ يقبل توبته ويرحم عليه ان أخلص
ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان تذبوا وتدفعوا اهل الشرك عن الحرم إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ المنغمسون في خباثة الشرك والضلال نَجَسٌ يجب ان يطهر بيت الله منهم فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا اى سنة حجة الوداع وَإِنْ خِفْتُمْ ايها المؤمنون بسبب إخراجهم ومنعهم عن الحرم عَيْلَةً فقرا وقلة زاد ومكسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وسعة رزقه إِنْ شاءَ ترفهكم واتساعكم إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده عَلِيمٌ بمصالحهم حَكِيمٌ في إتيانها عند الحاجة ومقدارها
وبالجملة قاتِلُوا ايها الغزاة الحماة لدين الله المشركين الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وتوحيده وَلا يصدقون بِالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وان تفوهوا بالإيمان مداهنة ونفاقا لا تبالوا بايمانهم هذا وَهم ليسوا مراعين على مقتضى الايمان إذ لا يُحَرِّمُونَ من المحرمات ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ باذنه سبحانه وَبالجملة أولئك البعداء المنهمكون في بحر الغفلة والغرور لا يَدِينُونَ ولا ينقادون دِينَ الْحَقِّ المنزل على الحق ليصلوا الى مقر التوحيد وان كانوا؟؟؟(1/302)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
انهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى يدعون إتيانه إياهم وهم ليسوا على مقتضى الكتاب وان ادعوا وبالجملة لا تبالوا بهم وبادعائهم بل قاتلوهم الى ان تذلوهم وتصاغروهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ اى 2 التي يجزى او يعفى بها دينهم إياهم حماية له عَنْ يَدٍ اى حال كون اعطائهم صادرا منهم عن يد قاهرة غالبة عليهم وَهُمْ في حين العطاء والإعطاء صاغِرُونَ ذليلون مهانون بحيث يؤخذ من لحاهم ويضرب في لهازمهم وبالجملة خذوا الجزية منهم على وجه تضطروهم وتلجؤهم الى الايمان
وَكيف لا يقتل هؤلاء الكفرة المشركون إذ قالَتِ الْيَهُودُ منهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ المنزه عن مطلق الزواج والازدواج والأبوة والبنوة إذ هي من لوازم البشر وَقالَتِ النَّصارى ايضا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ذلِكَ المقول المهمل قَوْلُهُمْ دائما جاريا بِأَفْواهِهِمْ وان فرض مخالفة اعتقادهم قولهم هذا فلا اقل انهم يُضاهِؤُنَ ويشابهون بقولهم هذا قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا مِنْ قَبْلُ بأمثال هذه المهملات حيث قالوا الملائكة بنات الله لذلك قاتَلَهُمُ اللَّهُ واهلكهم بأمثال هذه المقالات المهملة أَنَّى يُؤْفَكُونَ اى كيف يصرفون أولئك الحمقى الناكبون عن الحق الصريح الى الباطل الزائغ الرائل
وبالجملة اتَّخَذُوا من فرط جهلهم وحيث طينتهم أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مستقلين في الوجود متأصلين فيه مِنْ دُونِ اللَّهِ المنزه عن الشريك مطلقا المستقل في الوجود المتفرد فيه بلا وجود لغيره أصلا الى حيث يعبدونهم كعبادة الله وَخصوصا الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَالحال انهم ما أُمِرُوا في كتبهم التي قد ادعوا العمل بمقتضاها إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أحدا صمدا فردا وترا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا إذ لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من مصنوعاته واظلاله
وبالجملة يُرِيدُونَ بأمثال هذه المفتريات الباطلة أَنْ يُطْفِؤُا اى يخمدوا ويستروا نُورَ اللَّهِ المتجلى في الآفاق المتشعشع في الكائنات بِأَفْواهِهِمْ اى بشركهم الناشئ من أفواههم بلا سند من عقل او نقل او كشف صريح وشهود ظاهر وَيَأْبَى اى يمنع اللَّهِ المنزه عن التعدد مطلقا ان يكون له شريك في الوجود إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ اى سوى ان يتجلى بجميع أوصافه وأسمائه على من استخلفه من خلقه فيتراءى منه جميع آثار أسمائه وعكوس أوصافه وأخلاقه الا وهو المظهر الكامل الجامع المحمدي الذي قد اتحد دون مرتبته صلّى الله عليه وسلّم قوس الوجوب والإمكان ودائرتا الغيب والشهادة لذلك قال صلى الله عليه وسلّم انا بعثت لأتمم مكارم الأخلاق قال ايضا انا سيد ولد آدم وقال ايضا آدم ومن دونه تحت لوائى وقال ايضا من أطاعني فقد أطاع الله ومن رآني فقد رأى الحق ونزل في شانه اليوم أكملت لكم دينكم الى غير ذلك مما دل على وحدة مرتبته واحاطتها على جميع المراتب لذلك ختم به صلّى الله عليه وسلّم امر الرسالة والتشريع وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ الساترون ظهور الحق المريدون اطفاء نور الوجود في المشكاة المحمدية
وكيف يريدون اطفاء نوره اللائح اللامع من المظهر الجامع المحمدي مع انه سبحانه هُوَ القادر المقتدر والقيوم المطلق الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ الهادي بِالْهُدى العام الشامل لكافة البرايا وَدِينِ الْحَقِّ الا وهو الإسلام المنزل على خير الأنام لِيُظْهِرَهُ اى الرسول ودينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ اى على كل الأديان وينسخ جميعها به لابتناء دينه على التوحيد الصرف الخالي عن شوب الثنوية وشين الكثرة مطلقا وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ظهوره بالهداية العامة ونسخ دينه جميع الأديان لخبث باطنهم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله(1/303)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
تحققوا وتيقنوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ الموسوسين لضعفاء العوام الملبسين لهم طريق الحق بالتغريرات المبتدعة من تلقاء أنفسهم كالشيخوخة التي قد ظهرت في زماننا هذا وانما غرضهم ومعظم مأمولهم لَيَأْكُلُونَ ويأخذون أَمْوالَ النَّاسِ المنحطين عن زمرة اهل الحق والتحقيق بِالْباطِلِ اى بترويج الباطل الزائغ الذي قد ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بلا مستند لهم وَيَصُدُّونَ اى يصرفون ويضلون باباطيلهم وتلبيساتهم ضعفاء الأنام عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الإسلام تلبيسا عليهم وتغريرا لهم ليأخذوا الرشى منهم ويكنزوها وَلم يعلموا ان الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ اى يجعلونهما مخزونين محفوظين من أية ملة كانوا وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ طلبا لمرضاته فَبَشِّرْهُمْ يا أكمل الرسل بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم مفزع اذكر لهم
يَوْمَ يُحْمى اى حين توقد وتحرق عَلَيْها اى على تلك الذهب والفضة المخزونة المحفوظة نار مع انها هي موضوعة فِي نارِ جَهَنَّمَ أمدا وهذا مبالغة لشدة احمائه وبعد ما قد حميت الى ان صارت جذوة نار وأية نار فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ ليوسموا بها ويعلموا على رؤس الاشهاد جزاء ما افتخروا بها في النشأة الاولى وَجُنُوبُهُمْ ايضا ليتألموا بها أشد تألم بدل ما قد تلذذوا بها أشد تلذذ وَتكوى بها ايضا ظُهُورُهُمْ بدل ما قد كانوا يستظهرون بها ويتعاونون بسببها ويقال لهم حين الكي والتعذيب هذا ما كَنَزْتُمْ واختزنتم لِأَنْفُسِكُمْ لتنتفعوا بها وتسروا بجمعها وادخارها وهذا نفعها فَذُوقُوا اليوم وبال ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ بدل ما قد كنتم تتلذذون بها.
ثم قال سبحانه تعليما للمؤمنين وتنبيها على ما قد ثبت عنده سبحانه من الأيام والشهور لتتميم مصالحهم ومعاملاتهم إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ على ما ثبت عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ اى في حضرة علمه ولوح قضائه يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى حين اظهر سبحانه عالم الكون والفساد المقدر بمكيال الأيام والليالى المنقسمتين الى الشهور والأعوام والأسبوع والساعات إذ في أزل الذات لا صباح ولا مساء ولا صيف ولا شتاء ولا فصول الفصول ولا شهرة الشهور ولا عدة السنين ولا الأيام ولا الساعات فسبحان من تنزه عن مطلق التبدل والتحول وتقدس عن الظهور والبطون مِنْها اى من تلك الشهور المثبتة في كتاب الله أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ هي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم سميت بها لان الله تعالى سبحانه قد حرم فيها لعباده بعض ما قد أباح لهم في الشهور الاخر كرامة لها واحتراما ولهذا جعل رأس السنة وأول العام منها فعليكم ايها المكلفون ان تواظبوا فيها على الطاعات وتداوموا على الخيرات والمبرات وتجتنبوا عن الآثام والجهالات وأكثروا فيها الأعمال الصالحات وتوجهوا نحو الحق في جميع الحالات سيما في تلك الشهور المعدة للتوجه نحوه سبحانه ذلِكَ اى تحريم الشهور الاربعة الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الموروث لكم من ملة أبيكم ابراهيم وإسماعيل عليهما السّلام فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بالخروج عن مقتضى تحريمها وهتك حرمتها حتى لا تستحقوا عذاب الله ونكاله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ فيها ان قاتلوكم ولا تبادروا ولا تسابقوا الى قتالهم فيها وفي غيرها بل ان بادروا على قتالكم قاتلوهم واقتلوهم كَافَّةً اى جميعا كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً بلا ترحم وتوقيت وَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المستوي على العدل القويم مَعَ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن هتك حرمة الله قد حرمها الله لحكمة ومصلحة لم يطلعكم عليها
إِنَّمَا النَّسِيءُ اى تأخير حرمة الشهر المحرم الى شهر آخر بدله من غير المحرمات زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ إذ خصوصية هذه الأشهر معتبرة في الحرمة(1/304)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
واستبدالها ازدياد في الكفر لان هتك الحرمة كفر وتبديلها كفر آخر يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا اى بسبب تبديلهم ضلالا زائدا على ضلالهم الأصلي إذ يُحِلُّونَهُ اى النسيء الذي يؤخرونه عاماً وسنة وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً آخر وسنة اخرى بلا رعاية خصوصيته في التحريم وليس غرضهم من هذا التحليل والتحريم الا لِيُواطِؤُا ويوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وهي الاربعة من غير التفات الى خصوصية فَيُحِلُّوا بفعلهم وتبديلهم هذا ما حَرَّمَ اللَّهُ بخصوصه وما ذلك الا ان زُيِّنَ اى حسن وحبب لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ اى تحليلهم وتبديلهم القبيح وَاللَّهُ الهادي لعباده الى صوب جنابه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ الخارجين عن مقتضى مأموراته
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ماذا عرض ولحق لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لنصرة دينه وإعلاء كلمة توحيده اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم وتعاللتم وتباطئتم أنتم وقد صرتم من غاية ثقلكم وتكاسلكم كأنكم تلزقون وتلصقون إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ ايها الحمقى المستبطئون المتثاقلون بِالْحَياةِ الدُّنْيا الدنية الحقيرة ومزخرفاتها الفانية بدلا مِنَ الْآخِرَةِ ولذاتها الباقية فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا والاستمتاع بها والتلذذ بمستلذاتها ومشتهياتها فِي الْآخِرَةِ اى في جنب لذاتها ودرجاتها وحالاتها الدائمة الباقية ازلا وابدا إِلَّا قَلِيلٌ مستحقر مسترذل بل فان مطلق لا وجود لها أصلا عند من كحل الله عين بصيرته واذهب عمى قلبه
إِلَّا تَنْفِرُوا وما تشتغلوا الى تهيئة اسباب النفر واعداد راده وعتاده بعد ما أمرتم به يُعَذِّبْكُمْ الله المنتقم منكم عَذاباً أَلِيماً باستيلاء عدوكم عليكم واستئصالكم بافظع الوجوه وأفزعها وَبعد إهلاككم يَسْتَبْدِلْ منكم قَوْماً غَيْرَكُمْ مطيعين لأمره منقادين لحكمه لينفروا في سبيله كأهل اليمن والفرس وَاعلموا انكم بتكاسلكم وتقاعدكم عن القتال المأمور به لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً إذ هو سبحانه منزه في ذاته عن تقويتكم واضراركم وكفركم وايمانكم وَاللَّهُ المنتقم على من خرج عن مقتضى امره عَلى كُلِّ شَيْءٍ من صور الانتقام والانعام قَدِيرٌ لا يخرج عن حيطة قدرته شيء
إِلَّا تَنْصُرُوهُ أنتم اى ان لم تنصروا نبيه المؤيد من عنده فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ الرقيب عليه اذكروا نصر الله إياه وقت إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا اى اهل مكة من مكة حال كونه ثانِيَ اثْنَيْنِ اى ليس معه الأرجل واحد وهو أبو بكر رضى الله عنه فذهبا نحو الجبل فدخلا الغار واقتفى العدو اثرهما فوصلوا الغار إِذْ هُما حينئذ فِي الْغارِ فتحزن صاحبه من ادراك العدو اذكروا إِذْ يَقُولُ صلى الله عليه وسلّم في تلك الحالة لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ عن ادراكهم ولحوقهم ولا تيأس عن نصر الله وحفظه إِنَّ اللَّهَ الرقيب علينا حاضر مَعَنا غير مغيب عنا يكفينا ويكف عنا مؤنة ضررهم واضرارهم فَأَنْزَلَ اللَّهُ سبحانه بقوله صلّى الله عليه وسلّم سَكِينَتَهُ اى اطمئنانه وقراره عَلَيْهِ اى على صاحبه وَبالجملة أَيَّدَهُ سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بِجُنُودٍ اى ملائكة حافظين حارسين له صلّى الله عليه وسلّم بحيث لَمْ تَرَوْها بعيونكم ايها النظار مثل أولئك الجنود وَبالجملة قد جَعَلَ سبحانه بنصره وتأييده إياه صلّى الله عليه وسلّم كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ما يدعون ويخاصمون معه صلّى الله عليه وسلّم لأجله وترويجه من الأصنام والأوثان السُّفْلى الدنيا النزلى لا يؤبه ولا يبالى بها أصلا وَكَلِمَةُ اللَّهِ اى كلمة توحيده التي قد ظهر بها حبيبه صلّى الله عليه وسلّم هِيَ الْعُلْيا إذ الحق يعلو ولا يعلى عليه وَاللَّهُ القادر المقتدر على عموم ما يشاء عَزِيزٌ غالب في نصر أوليائه(1/305)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
وقهر أعدائه حَكِيمٌ في عموم أفعاله وتدابيره
انْفِرُوا ايها الغزاة المجاهدون في سبيل الله خِفافاً نشطين فرحين مشتاقين منبسطين لمرتبة الشهادة وَثِقالًا قاصدين لاخذ الغنيمة ونيل الأحمال والأثقال من عدوكم او المعنى مشاة وركبانا وَبالجملة جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ لتهيئة الأسباب واعداد السفر وَأَنْفُسِكُمْ بتحمل المشاق والمتاعب فِي سَبِيلِ اللَّهِ لتفوزوا من عنده سبحانه بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا التي لا درجة أعلى منها ذلِكُمْ اى ما أمرتم به من عند ربكم خَيْرٌ لَكُمْ في اولاكم واخراكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير وتميزونه من الشر ثم قال سبحانه في حق المتخلفين عن القتال المأمور به المستأدنين عن رسول الله المعتذرين له بالأعذار الكاذبة تعريضا وتوبيخا لهم وتقريعا
لَوْ كانَ ما تدعوهم اليه وتهديهم نحوه يا أكمل الرسل عَرَضاً متاعا دنيويا مما يشتهيه نفوسهم قَرِيباً سهلة الحصول وَمع ذلك كان السعى في حصوله سَفَراً قاصِداً متوسطا مساويا نفعه لمشقة تحصيله لَاتَّبَعُوكَ البتة طائعين طامعين لما يتأملونه من جلب النفع ولا يتبعونك لغرض ديني ونفع اخروى وان كان نفعه بأضعافه وآلافه وَلكِنْ قد بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ المسافة واشتدت الشُّقَّةُ والمشقة فيه مع جزمهم بعدم الفائدة فيه بزعمهم الفاسد واعتقادهم الكاسد وَمع ذلك سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ معتذرين متمنين بلا مواطأة قلوبهم بألسنتهم بعد ما رجعت من غزوة تبوك والله لَوِ اسْتَطَعْنا بالخروج استطاعة مالية او بدنية لَخَرَجْنا مَعَكُمْ البتة مع انهم قادرون مستطيعون تينك الاستطاعتين معا وهم من خباثة بواطنهم يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بهذا الحلف الكاذب ويعرضونها على عذاب الله ظلما وعدوانا وَاللَّهُ المطلع لمخايل عموم المنافقين يَعْلَمُ بعلمه الحضوري إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم وعذرهم هذا
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ فيما قد جئت به يا أكمل الرسل من ترك الاولى لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حين استأذنوك بالقعود اى لهؤلاء المنافقين المتخلفين المعتذرين بالأعذار الكاذبة حَتَّى يَتَبَيَّنَ ويظهر لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في الاعتذار والاعتلال وَتَعْلَمَ وتميز الْكاذِبِينَ فيه من الصادقين على مقتضى نفاقهم الكامنة في نفوسهم
وبالجملة لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى ليس من عادة المؤمنين الاستيذان منك الى الخروج نحو القتال مطلقا بل هم منتظرون دائما مهيئون أسبابهم مترصدون الى أَنْ يُجاهِدُوا في سبيل الله بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وينتهزوا الفرصة بالمسابقة حين أمروا فكيف ان يستأذنوا بالقعود وعدم الخروج، والمعذورون منهم متألمون متحسرون يبكون في زوايا الخمول والحرمان محزونين ملهوفين متأسفين لذلك وعدلهم سبحانه من فضله درجة عظيمة وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن مخالفة امر الله وامر رسوله بلا عذر شرعي
بل إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ بالقعود والتخلف المنافقون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبتوحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وَمع ذلك قد ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ لعدم اطمئنانها ورسوخها بالإيمان والتوحيد فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ المركوز في جبلتهم يَتَرَدَّدُونَ يتحيرون ويتذبذبون لا إلى هؤلاء ولا الى هؤلاء
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ وقصدوا الوفاق والانفاق مع المؤمنين كما أظهروا لَأَعَدُّوا وهيئوا لَهُ عُدَّةً اهبة وأسبابا بوجه حسن طلق بشاش بسام وَلكِنْ لخبث بواطنهم وانهماكهم في الغفلة والضلال قد كَرِهَ اللَّهُ المطلع على قساوة قلوبهم انْبِعاثَهُمْ اهتزازهم وتحركهم نحو القتال فَثَبَّطَهُمْ لذلك وحبسهم بل اقعدهم في مكانهم بإلقاء الرعب والكسل(1/306)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
في قلوبهم وَكأنه قد قِيلَ لأسماعهم من قبل الحق تضليلا لهم وتغريرا حسب اسمه المضل المذل اقْعُدُوا ايها المنهمكون في الغفلة مَعَ الْقاعِدِينَ من النساء والصبيان والمرضى والزمنى وانما ثبطهم سبحانه وكره نهوضهم وانبعاثهم
إذ قد علم سبحانه منهم انهم لَوْ خَرَجُوا معكم وكانوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فسادا وإفسادا بالغيبة والتميمة وإيقاع الفتنة بينكم وَلَأَوْضَعُوا اسرعوا وادخلوا ركائبهم خِلالَكُمْ ليخللوا بينكم ويفرقوا جمعكم حتى يشتغلوا بالنميمة وإذا ازدحم العدو هزموكم بتفريق جمعكم وتشتيت شملكم وبالجملة هم انما يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ويوقعونكم فيها باى وجه أمكن وَالحال انه فِيكُمْ ومن جمعكم وبين أظهركم قوم سَمَّاعُونَ لَهُمْ اى ضعفة يسمعون قولهم ويقبلون نصحهم ويرغبون إليهم ويطيعون أمرهم وَاللَّهُ المطلع لأحوال عباده عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامره سرا وعلانية
والله لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ يعنى ليس هذا أول ابتغائهم وإيقاعهم بل هم قد أوقعوا الفتنة مِنْ قَبْلُ وأرجفوا بهلاكك وشتتوا شمل أصحابك وَقَلَّبُوا لَكَ ولأصحابك الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ اى النصر والتأييد الموعود لك يا أكمل الرسل المقرر دونه سبحانه من نصر دينك وإظهاره على عموم الأديان ونسخه إياها وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ ونفذ حكمه وقضيت حكمته وعلت كلمته وَهُمْ من خبث بواطنهم كارِهُونَ ظهور دينك وارتفاع شأنك وسمو برهانك
وَمِنْهُمْ من المستأذنين المتخلفين مَنْ يَقُولُ لك حين استأذن منك يا أكمل الرسل بالقعود ائْذَنْ لِي بالقعود إذ ليس لي قوة الخروج وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة والمعصية بالخروج انى أخاف على نفسي من انواع الفتن والمعاصي لو خرجت قل لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا يعنى تنبهوا ايها المؤمنون المتنبهون انهم قد وقعوا في فتنة التخلف واظهار النفاق والشقاق باستيذانهم هذا وقولهم هكذا واستحقوا سوء العذاب وأشد النكال وَبالجملة إِنَّ جَهَنَّمَ البعد والخذلان لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ في الدنيا والآخرة ومن شدة شكيمتهم وغيظ قلوبهم معك يا أكمل الرسل
إِنْ تُصِبْكَ في بعض أسفارك وغزواتك حَسَنَةٌ ظفر وغنيمة تَسُؤْهُمْ وتزيد غيظهم ونفاقهم وَإِنْ تُصِبْكَ أحيانا مُصِيبَةٌ كسر وهزيمة يَقُولُوا تصحيحا وتحسينا لرأيهم الفاسد قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا وقد أصبنا فيه مِنْ قَبْلُ اى حين تعوقنا وتخلفنا عن هؤلاء المستجسنين أمرهم وشأنهم وَيَتَوَلَّوْا عن مجمعهم الذي يشامتون فيه بحال المؤمنين تبحبحا وَهُمْ في رجوعهم وانصرافهم عند تفرقهم فَرِحُونَ مسرورون
قُلْ يا أكمل الرسل للمشامتين المنافقين بمقتضى كشفك وشهودك بربك لَنْ يُصِيبَنا من الحوادث والمصيبات الكائنة في علم الله ولوح قضائه إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ المقدر للآجال والأرزاق وجميع الأحوال والأفعال وعموم الحوادث والملمات الجارية في عالمي الغيب والشهادة لَنا وخصصنا به في حضرة علمه ولوح قضائه إذ هُوَ بذاته وبمقتضيات أسمائه الكاملة وأوصافه الشاملة مَوْلانا ومتولى عموم أمورنا يصنع بنا بمقتضى ما قد ثبت في حضرة علمه بلا تبديل ولا تغيير وَبالجملة مالنا الا الرضا بعموم ما جرى علينا من القضاء لذلك عَلَى اللَّهِ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية إذ مرجع الكل اليه كما ان مبدأه منه أولا وبالذات فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بتوحيد الذات وسريان سر الوحدة الذاتية الإلهية المتجلية على صفحات الكائنات وصحائف المكونات
قُلْ لهم ايضا هَلْ تَرَبَّصُونَ(1/307)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
وما تترقبون وتنتظرون أنتم بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ اى الا احدى العاقبتين الحميدتين اللتين كل منهما محض خير لنا ومنحة عظيمة وعطية كريمة كثيرة بالنسبة إلينا من ربنا وهما النصرة على الأعداء والشهادة في سبيل الله بيد أعدائه إذ قد وعدنا الله ايضا من فضله بأحدهما وَنَحْنُ ايضا نَتَرَبَّصُ بِكُمْ بمقتضى وحى الله والهامه أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور بِعَذابٍ نازل مِنْ عِنْدِهِ سبحانه بلا صنع منا ودخل من قبلنا من كسف او خسف او زلزلة او طاعون او غيرها أَوْ بِأَيْدِينا اى بعذاب صادر منا واقع عليكم من القتل والأسر والاجلاء والإذلال وبالجملة فَتَرَبَّصُوا وانتظروا لما وعد لنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ منتظرون لما اوعدتم به حتى ننظر نحن وأنتم كيف يجرى حكم الله وامره بنا وبكم
قُلْ يا أكمل الرسل للمنافقين المتخلفين الذين يريدون اعانتك بالمال بدل الخروج الى الجهاد لن ينفعكم اليوم انفاقكم عند الله سواء أَنْفِقُوا طَوْعاً طائعين فيه أَوْ كَرْهاً كارهين له لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إذ الانفاق انما يقبل عنده سبحانه من المؤمنين الموقنين المصلحين المخلصين إِنَّكُمْ بسبب كفركم ونفاقكم مع الله ورسوله قد كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود الإلهية مطلقا لا يقبل منكم الصدقات مطلقا لعدم مقارنتها بالإيمان والتوحيد
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ اى ليس عدم قبول نفقاتهم وصدقاتهم عند الله إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ المتوحد بذاته وأشركوا له ما هو من مصنوعاته وَبِرَسُولِهِ بتكذيبه وعدم أطاعته وانقياده وَعلامة كفرهم ونفاقهم انهم لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ الفارقة بين الكفر والايمان إِلَّا يأتونها مداهنة وَهُمْ في إتيانها كُسالى مبطؤن مؤخرون عن أوقاتها بلا انبعاث قلبي وداعية شوقية وَايضا لا يُنْفِقُونَ عموم ما ينفقون إِلَّا وَهُمْ في إنفاقه كارِهُونَ كراهة قلبية إذ لا يعتقدون ترتب الثواب عليه لعدم ايمانهم بيوم الجزاء ودار الثواب والعقاب وبعد ما قد تحقق كفرهم ونفاقهم
فَلا تُعْجِبْكَ يا أكمل الرسل أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ اى كثرتها وتفاخرهم بها إذ هي من الأسباب الجالبة لانواع العذاب والنكال عليهم وبالجملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المنتقم الغيور لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بجمعها وحفظها ونمائها وارتكاب الشدائد والمحن في تحصيلها وَمن كثرة محبتهم لها وحرصهم عليها تَزْهَقَ وتزول أَنْفُسُهُمْ وقت حلول الأجل عليهم وَهُمْ كافِرُونَ محجوبون عن توحيد الله والايمان به مائلون محرومون عنهما
وَمن جملة نفاقهم انهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ بالحلف الكاذب إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ اى من جملتكم وزمرتكم نفرح بفرحكم ونسر بسروركم ونتغمم بحزنكم ومصيبتكم وَالحال انه ما هُمْ مِنْكُمْ لشركهم وكفرهم المركوز في جبلتهم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون ان تفعلوا أنتم بهم فعلكم مع المشركين فاضطروا الى المداهنة والنفاق فأظهروا الإسلام حفظا لدمائهم وأموالهم وهم مضطرون على اظهار الايمان ومن غاية تذللهم واضطرارهم
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً منيعا من الحصون والقلاع أَوْ مَغاراتٍ في شعاب الجبال أَوْ مُدَّخَلًا جحرا يمكنهم الانجحار والاستتار فيه لَوَلَّوْا وانصرفوا البتة إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ويسرعون في الانصراف والانجحار اليه كالفرس الجموح
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ يعيبك ويغمزك فِي الصَّدَقاتِ اى في قسمة الغنائم ويتردد حولك حين القسمة طامعا فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها سهما او شيأ يعتد به رَضُوا منك واثنوا عليك شكرا لاعطائك وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها لعدم استحقاقهم وبسبب تخلفهم ونفاقهم إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ(1/308)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
ويفاجئون بالغيظ والسخط إظهارا لما في قلوبهم من الأكنة
وَلَوْ أَنَّهُمْ كانوا مؤمنين كما ادعوا قد رَضُوا في تقاسيم الغنائم وغيرها على ما آتاهُمُ اللَّهُ واعطاهم من فضله إذ هو الحكيم في قسمة أرزاق عباده على تفاوت درجاتهم وَرَسُولُهُ المستخلف له الملهم من عنده وَقالُوا من كمال إخلاصهم وتفويضهم كسائر المؤمنين حَسْبُنَا اللَّهُ المدبر الكافي لأمورنا يكفينا علمه بنا سَيُؤْتِينَا اللَّهُ المتكفل لأرزاقنا مِنْ فَضْلِهِ وسعة لطفه وجوده ما يكفينا وَسيعطينا رَسُولُهُ النائب عنه باذنه من الغنائم والصدقات ما يشبعنا ويغنينا إِنَّا بعد ما قد آمنا بالله وتحققنا بتوحيده بإرشاد رسوله إِلَى اللَّهِ الباقي بالبقاء الأزلي السرمدي لا الى غيره من الاظلال والعكوس والأموال والمزخرفات الفانية راغِبُونَ ليرزقنا من موائد رزقه المعنوي وفوائد توحيده الذاتي اى هم لو رضوا كما رضى المؤمنون الموقنون واعترفوا كما اعترفوا لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وتقريرا في قلوبهم
ثم بين سبحانه مصارف الصدقات فقال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ والزكوات تصرف لِلْفُقَراءِ وهم الذين لا مال لهم ولا مكسب من الحرف وغيرها كأنه يكسر فقار ظهرهم الفاقة والافتقار وَالْمَساكِينِ وهم الذين لهم مكسب وصنعة لكن لا تفي لعيالهم كأن احتياجهم قد أسكنهم في زاوية المسكنة والهوان وَالْعامِلِينَ عَلَيْها اى الساعين لتحصيلها وجمعها وإيصالها الى مصارفها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم الذين قرب عهد إسلامهم يجب على المسلمين موانستهم ومواساتهم ليتقرروا على الايمان ويترسخوا في جادة الإسلام وَتصرف منها ايضا على من فِي الرِّقابِ اى فك رقبة من الرق وتحريرها وهو من أهم مهمات الإسلام وَالْغارِمِينَ الذين استغرق أموالهم في ديونهم ولم تف لأدائها تصرف إليهم منها ليؤدوها وَايضا تصرف منها سهم فِي سَبِيلِ اللَّهِ لتجهيز جيوش اهل الجهاد وتهيئة أسبابهم وعددهم إذ هي من أهم مهمات الدين وَابْنِ السَّبِيلِ وهو الذي انقطع وبعد عن الأهل والمال لمصلحة شرعية وبالجملة انما جرى هذه القسمة لهؤلاء المستحقين فَرِيضَةً صادرة مِنَ اللَّهِ مقدرة من عنده ليحافظ المؤمنون عليها وَاللَّهُ المدبر لأمور عباده عَلِيمٌ بمصارف الصدقات حَكِيمٌ في صرفها إياهم تقوية لهم وامدادا
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ويسيئون الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم وَيَقُولُونَ في حقة افتراء واستهانة هُوَ أُذُنٌ اى سمع كله ليس له درية ودراية وتعمق في المعارف والحقائق بل يسمع منا ويجرى على ما سمع بلا تفتيش وتدبر قُلْ لهم يا أكمل الرسل مبلغا منا ناقلا عنا هو اذن لا اذن شر وفتنة بل أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ان صدر عنكم ما يتعلق بأمور دينكم موافقا لما امر الله به هو ايضا يقبله منكم لأنه صلّى الله عليه وسلّم يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اى يقر ويصدق بوحدانيته وَيُؤْمِنُ ايضا لِلْمُؤْمِنِينَ المخلصين فيما أتوا به من الأعمال والأقوال الصادرة عن محض الإخلاص والطواعية وَكيف لا يكون الرسول اذن خير إذ هو كله رَحْمَةٌ اى شفقة وعطف لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وأخلصوا في ايمانهم وَبالجملة الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ باى وجه كان لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في النشأة الاخرى جزاء لما أتوا به من إيذاء رسوله في النشأة الاولى
ومن جملة نفاق المنافقين وشقاقهم انهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ اى لتسليتكم وتلبيسكم ايها المؤمنون على ما صدر عنهم من التخلف والتقول على سبيل العذر لِيُرْضُوكُمْ اى لترضوا أنتم عنهم وتقبلوا عذرهم وَاللَّهُ المطلع لضمائرهم وَرَسُولُهُ الملهم من لدنه سبحانه بمخايلهم وأباطيلهم أَحَقُّ وأليق أَنْ يُرْضُوهُ اى رسوله أحق بالإرضاء والمراضاة(1/309)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
وجد الضمير لان إرضاء الرسول مستلزم لإرضاء الله بل هو عين ارضائه ورضاه سبحانه عند من رفع سبل التعدد عن عينيه وغشاوة الكثرة عن بصره مطلقا إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ بالله وبحقية رسوله
أَلَمْ يَعْلَمُوا ولم يفهموا أولئك المتخلفون المؤذون لله ولرسوله أَنَّهُ اى الشان مَنْ يُحادِدِ ويشاقق اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويتعد حدود الله ويخالف امر رسوله فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ جزاء لما اقترف من المعاداة فيكون خالِداً فِيها لا ينجو منها أصلا ذلِكَ اى الخلود في جهنم الحرمان الْخِزْيُ الْعَظِيمُ والهلاك الدائم الأليم ابدا دائما
ومن شدة نفاقهم وشقاقهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ المصرون على الكفر الكامن في قلوبهم المظهرون للايمان استهزاء ومداهنة أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ اى على المؤمنين سُورَةٌ طائفة من الكلام تُنَبِّئُهُمْ وتخبرهم بِما فِي قُلُوبِهِمْ من الكفر والنفاق فحينئذ فعلوا بهم ما فعلوا بالمشركين المجاهرين قُلِ لهم تهديدا وتقريعا اسْتَهْزِؤُا بالمؤمنين وامضوا على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق إِنَّ اللَّهَ المنتقم منكم مُخْرِجٌ ومظهر ما كنتم تَحْذَرُونَ منه وهو إنزال السورة لإفشاء حالكم انتقاما لكم
وَكيف لا ينتقم الله عنهم لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ اى لئن سألتهم واخذتهم حين استهزؤا بك وباصحابك وقت مرورهم عليك في غزوة تبوك قائلين انظروا الى هذا الرجل يريد ان يفتح قصور الشأم وحصونه هيهات هيهات فألهمت به أنت يا أكمل الرسل فدعوتهم وقلت لهم لم قلتم كذا وكذا فقالوا لا والله ما كنا في شأنك وشأن أصحابك في شيء بل إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ بالأراجيف مزاحا ليهون السفر علينا قُلْ لهم بمقتضى علمك إياهم بوحي الله والهامه توبيخا وتقريعا أَبِاللَّهِ المنزه ذاته عن ان يستهزئ به وَآياتِهِ البريئة عن النقص مطلقا وَرَسُولِهِ المطهر عن شوب الكذب كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ايها الحمقى فتربصوا وانتظروا حتى يستهزئ الله بكم فانا منتظرون
وبالجملة لا تَعْتَذِرُوا ايها المنافقون المخالفون لدين الله المعاندون لرسوله بالأعذار الفاسدة ولا تحلفوا بالحلف الكاذب انكم قَدْ كَفَرْتُمْ وأظهرتم الكفر بإيذاء الرسول وطعن دينه وقدح كتابه مدة اعماركم سيما بَعْدَ إِيمانِكُمْ اى بعد ما أظهرتم الايمان فارتفع الآن الامان عنا وعنكم بفعلكم هذا فلحقتم بالمشركين المجاهرين فنفعل بكم نحن بعد اليوم ما نفعل بهم إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بعد ما تابوا عما صدر عنهم ورجعوا الى الله نادمين خاضعين عن ظهر القلب نُعَذِّبْ بالقتل والأسر والاجلاء والإذلال طائِفَةٍ اخرى منكم بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ مصرين على ما هم عليه من الكفر والنفاق وإيذاء الرسول والتخلف عن امره بلا توبة وندامة فعليكم ايها المؤمنون ان تعذبوهم حتما ذكرا وأنثى
إذ الْمُنافِقُونَ المصرون على النفاق اصالة وَالْمُنافِقاتُ المصرات عليه تبعا بَعْضُهُمْ ناش مِنْ بَعْضٍ يتظاهرون ويتعاونون في نفاقهم حيث يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ على عكس المؤمنين وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن عموم الخيرات والمبرات كلها وما ذلك الا انهم قد نَسُوا اللَّهَ المظهر الموجد لهم بالإعراض عن حكمه وإيذاء رسوله المبين لأحكامه فَنَسِيَهُمْ الله ايضا ولم ينظر إليهم بنظر الرحمة إِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على النفاق المتمردين عن الوفاق هُمُ الْفاسِقُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية لذلك
وَعَدَ اللَّهُ المنتقم المقتدر على انواع الانتقام الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ المجاهرين بلا تفاوت نارَ جَهَنَّمَ منزلا لا نجاة لهم منها أصلا بل صاروا خالِدِينَ فِيها ابدا هِيَ(1/310)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
حَسْبُهُمْ اى النار محسبهم وقرينهم وَمع ذلك قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ اى طردهم وابعدهم عن سعة رحمته وَلَهُمْ بسبب طرد الله إياهم ولعنه عليهم عَذابٌ عظيم فوق عذاب جهنم مُقِيمٌ دائم غير منقطع يتأملون طرد الله إياهم ويتعذبون بها ولا عذاب أعظم من حرمان الوصول الى جنة الحضور نعوذ بك منك لا ملجأ لنا غيرك يا ذا القوة المتين وبالجملة مثلكم ايها المتمردون المنهمكون في الكفر والضلال المصرون على النفاق والعناد المعادون مع الله ورسوله
كَالَّذِينَ اى كمثل الكفرة الذين مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ بطرين مفتخرين بما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها بل هم قد كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وقدرة وَأَكْثَرَ منكم أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ اى مع نصيبهم وحظهم مما قدر لهم من لذات الدنيا وشهواتها واستكبروا على من أرسل إليهم لتكميلهم وإرشادهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ أنتم ايضا بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ اى أخذتم وشرعتم أنتم في الأباطيل وتكذيب الرسول والمعاداة معه وقصد إيذائه وقتله وقتل من آمن له كَالَّذِي خاضُوا اى كالمسرفين الذين خاضوا وشرعوا في حق أنبيائهم ورسلهم بما لا يليق بشأنهم انظروا الى وخامة عاقبتهم كيف استوصلوا فانتظروا أنتم لمثله بل باشد منها وبالجملة أُولئِكَ البعداء المردودون عن منهج الرشد والسداد قد حَبِطَتْ اى هلكت واضمحلت وبطلت أَعْمالُهُمْ التي قد عملوها لتفيدهم وتنفعهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فلم تنفعهم أصلا لا في الاولى ولا في الاخرى لعدم مقارنتها بالإيمان وتصديق الرسل وَأُولئِكَ الضالون عن طريق الحق هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي المقضيون بالحرمان والخذلان السرمدي وبالجملة مثلكم ايها المنافقون كمثلهم بل أنتم أسوأ حالا منهم إذ نبيكم الذي أنتم قد كذبتم به أعلى رتبة من عموم الأنبياء
أَيصر المنافقون على النفاق والشقاق ولَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ خبر إهلاك القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ كيف اهلكهم الله تعالى بظلمهم وذنوبهم مثل قَوْمِ نُوحٍ عليه السّلام كيف استوصلوا بالطوفان وَعادٍ بالريح وَثَمُودَ بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ عليه السّلام بالبعوض وَأَصْحابِ مَدْيَنَ اى قوم شعيب عليه السّلام قد اهلكوا بالنار النازلة عليهم من جانب السماء يوم الظلة وَالْمُؤْتَفِكاتِ قرى قوم لوط قد هلكوا بالزلزلة وامطار الأحجار عليهم بحيث يجعل عاليها سافلها كل من أولئك الهالكين قد أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة الدالة على صدقهم في دعويهم فكذبوهم عنادا ومكابرة فلحقهم ما لحقهم بشؤم تكذيبهم فَما كانَ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده لِيَظْلِمَهُمْ اى لم يكن من سنته سبحانه الانحراف عن القسط الى حيث يؤدى الى الظلم المتباعد عن ساحة ذاته سبحانه بمراحل إذ هو سبحانه مستو دائما على العدل القويم والصراط المستقيم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالخروج عن مقتضى العدل الإلهي الموضوع فيهم من قبل الحق بنيابة رسله
ثم لما ذكر سبحانه احوال المنافقين ومظاهرتهم ومعاونتهم عقب أحوالهم بأحوال المؤمنين جريا على سنته المستمرة فقال وَالْمُؤْمِنُونَ الموقنون بتوحيد الله المصدقون لرسله وَالْمُؤْمِناتُ الملحقات بهم المتفرعات عليهم بَعْضُهُمْ في الأمور الدينية أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالمظاهرة والموالاة وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ بمقتضى ما وصل إليهم من رسلهم وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ المفروضة المصفية لبواطنهم عن الميل والانحراف الى غير الحق وَايضا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ المطهرة لظواهرهم عن الاشتغال بما سواه سبحانه وَبالجملة(1/311)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
يُطِيعُونَ اللَّهَ في جميع حالاتهم اطاعة تفويض وتسليم وَينقادون رَسُولَهُ في عموم ما جاء به ودعا اليه أُولئِكَ السعداء المفوضون أمورهم الى الله المنقادون لرسوله سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ الرقيب عليهم من فضله ولطفه إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده عَزِيزٌ غالب مقتدر على عموم ما أراد بهم حَكِيمٌ متقن في جزائهم حسب أعمالهم واستعدادهم لذلك
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والمكاشفات المتجددات حسب تجددات التجليات الإلهية خالِدِينَ فِيها ابدا لا يتحولون منها أصلا وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ اى مقرا ومستقرا معدا لهم في مقام التوحيد خاليا عن وصمة الكثرة طاهرا عن لوث السوى والأغيار مطلقا وَبالجملة رِضْوانٌ وقبول مِنَ اللَّهِ المستوي على العدل القويم بحيث لا يسخط لهم أصلا لتحققهم بمقام التخلق بأخلاقه سبحانه بحيث لا يبقى لهم شائبة انحراف عن صراطه المستقيم الذي هو صراط الله الأقوم الأعدل أَكْبَرُ وأكرم وارفع وأعلى من جميع ما ذكر من قبل من الدرجات العلية والمقامات السنية ذلِكَ الرضا من الله والقبول من جانبه هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطف الجسيم لأرباب الولاء الواصلين الى مرتبة الفناء فيه سبحانه والبقاء ببقائه لذلك وعدوا من عنده بما لا يمكن التعبير عن كنهه الا لمن كوشف به وشوهد
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ الهادي لعباد الله الى تلك المرتبة باذن الله جاهِدِ الْكُفَّارَ المتمردين عن الإطاعة والانقياد بإرشادك وتكميلك وَالْمُنافِقِينَ الذين يحيلون ويخدعون معك في اظهار الايمان وهم في سرهم ونجويهم على شركهم وكفرهم الأصلي متقررون ثابتون وَبعد ما أصروا على نفاقهم وشقاقهم اغْلُظْ عَلَيْهِمْ حسب إصرارهم واعراضهم وَلا تبال بهم إذ مَأْواهُمْ ومنقلبهم جَهَنَّمُ البعد والخذلان في الدنيا والآخرة وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصير أولئك المحرومين المطرودين عن ساحة عز القبول
ومن جملة نفاقهم وكفرهم انهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كذبا ومينا انهم ما قالُوا ما قالوا من الطعن في كتاب الله وتكذيب رسوله وَالحال انهم لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ اى كلمة الطعن والتكذيب المستلزم للكفر فحلفوا على عدم القول كذبا وَهم في أنفسهم قد كَفَرُوا بالحق واعرضوا عنه سيما بَعْدَ إِسْلامِهِمْ اى انقيادهم وتسليمهم اى اختاروا الكفر بعد ما أظهروا الإسلام مرتدين وَمع ذلك ما اقتصروا على اظهار الكفر فقط بل هَمُّوا وقصدوا بِما لَمْ يَنالُوا ولم يصلوا بما أملوا من قتل الرسول والاقتحام عليه بغتة في الليل بلا علم من أصحابه او هموا بإخراجه وبإخراج من معه من أصحابه من المدينة وَبالجملة ما نَقَمُوا وما قصدوا إهلاك رسول الله او إخراجه إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ اى اهل المدينة بسبب رسول الله وأصحابه إذ فتح سبحانه أبواب الرزق والمكاسب عليهم مذ دخلوا المدينة وَرَسُولُهُ ايضا بإعطائه الغنائم إياهم كل ذلك مِنْ فَضْلِهِ سبحانه وهم في مقام الشكر واظهار المنة ينكرون له ويكفرون نعمه وبعد ما وقع ما وقع فَإِنْ يَتُوبُوا عما صدر عنهم توبة صادرة عن محض الندم والإخلاص يَكُ خَيْراً لَهُمْ عند الله يغفر لهم ويعف عن زلاتهم وَإِنْ يَتَوَلَّوْا ويعرضوا عن التوبة ويصروا على ما هم عليه من الكفر والنفاق يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ المنتقم منهم عَذاباً أَلِيماً مؤلما فجيعا فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي والاجلاء والإذلال وانواع العقوبات وَفي الْآخِرَةِ بأضعاف ما في الدنيا وآلافها لانحطاطهم عن الرتبة الانسانية وقبول التكليفات الإلهية المقتضية لإظهار الحكمة والكرامة المودعة(1/312)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
في هياكلهم وَان استظهروا واستنصروا من أوليائهم ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ بعد انتشار دين الإسلام في أقطارها مِنْ وَلِيٍّ يعينهم ويتولى أمرهم وَلا نَصِيرٍ ينصرهم من بأس الله وعذابه
وَمِنْهُمْ اى من المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ مالا وأعطانا رزقا كثيرا لَنَصَّدَّقَنَّ منها للفقراء المستحقين وَلَنَكُونَنَّ بالبذل والانفاق وأداء الشكر مِنَ الصَّالِحِينَ الشاكرين المنفقين طلبا لمرضاة الله
فَلَمَّا آتاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ ما طلبوا منه بَخِلُوا بِهِ ومنعوا حق الله منه وَتَوَلَّوْا عن امتثال امر الله وانصرفوا عن اطاعة رسوله وَبالجملة هُمْ قوم مُعْرِضُونَ عادتهم الاعراض عن اطاعة الله ورسوله بخبث طينتهم
فَأَعْقَبَهُمْ الله بسبب فعلهم هذا نِفاقاً راسخا متمكنا فِي قُلُوبِهِمْ مستمرا إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ اى الله سبحانه في يوم الجزاء فيجازيهم حسب نفاقهم وشقاقهم أسوأ الجزاء ذلك بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ من الصدق والصلاح والشكر والفلاح ونقضوا عهده وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ اى بكذبهم حين العهد والميثاق بلا موافقة من قبلهم
أَلَمْ يَعْلَمُوا حين هموا الى القول الكذب مع الله أَنَّ اللَّهَ المطلع لضمائرهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري سِرَّهُمْ اى اخلافهم الوعد عند حصول مطلوبهم وَنَجْواهُمْ اى مناجاتهم معه لا عن اخلاص ناش من محض المعرفة والايمان بالله والإقرار بربوبيته لرسوخ الكفر والشرك في جبلتهم وَلم يعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء فمن آمن بتوحيده واحاطة علمه وقدرته كيف يخرج عن مقتضى امره وأطاعته
ومن المنافقين المصرين على النفاق والشقاق مع المؤمنين هم الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ويستهزؤن الْمُطَّوِّعِينَ المتطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إعطاء الصَّدَقاتِ وَخصوصا المؤمنين الَّذِينَ لا يَجِدُونَ من الصدقة إِلَّا جُهْدَهُمْ اى يبذلون مقدار طاقتهم طلبا لمرضاة الله فَيَسْخَرُونَ أولئك اللامزون المستهزءون مِنْهُمْ اى من الذين بذلوا جهدهم في امر الصدقة قد سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ في الآخرة مجازاة عن سخريتهم هذه وَلَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ بدل ما تلذذوا بسخريتهم. وذلك انه صلّى الله عليه وسلّم حث المؤمنين يوما على الصدقة فجاء عبد الرّحمن بن عوف باربعة آلاف دينار وقال لي ثمانية آلاف فاقرضت ربي اربعة وأمسكت لعيالي اربعة فقال صلّى الله عليه وسلّم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. واتى عاصم بن عدى بمائة اوسق من تمر وجاء عقيل الأنصاري بصاع تمر فقال بت ليلتي اجرّ بالجرير على صاعين وتركت صاعا لعيالي وأتيت بها فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ان ينثر على الصدقات تبركا فلمزهم المنافقون فقالوا ما اعطى عبد الرّحمن وعاصم الارياء وسمعة
ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع عقيل ولكنه أحب ان يعد نفسه من المتصدقين فنزلت اسْتَغْفِرْ لَهُمْ يا أكمل الرسل لهؤلاء اللامزين المستهزئين المستسخرين من المؤمنين بانقاذهم من العذاب او تخفيفه أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سواء عند الله في انتقامهم وعذابهم بل إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لا مرة ولا مرتين بل سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ البتة لعظم جرمهم وفسقهم ذلِكَ اى عدم غفرانهم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وأشركوا معه غيره في الألوهية مع انه منزه عن الشريك مطلقا وَرَسُولِهِ اى كذبوا برسوله وبعموم ما جاء به من عند ربه واستهزؤا بالمؤمنين المصدقين له المتصدقين في سبيل الله وَاللَّهُ الهادي لعباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى أوامر الله ونواهيه المسيئين الأدب مع الله ورسوله ومع المؤمنين.
ثم قال سبحانه(1/313)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
فَرِحَ المنافقون الْمُخَلَّفُونَ عن رسول الله المتخلفون لأمره المتمكنون بِمَقْعَدِهِمْ ومكان قعودهم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ حين خرج الى غزوة تبوك وَما ذلك اى قعودهم واستقرارهم بعد رسول الله في مكانهم الا انهم قد كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لخبث بواطنهم وقساوة قلوبهم وَقالُوا ايضا للمؤمنين تغريرا وتكسيلا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ اى لا تجاهدوا ولا تقاتلوا في الصيف حتى لا تضعفوا أنتم ومواشيكم قُلْ لهم يا أكمل الرسل نارُ جَهَنَّمَ البعد والخذلان التي قد استوجبتم بها بتخلفكم وقعودكم عن الجهاد أَشَدُّ حَرًّا وابلغ احراقا وايلاما لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ ويفهمون ما هي وكيف هي لم يختاروها على حر الدنيا
وبالجملة فَلْيَضْحَكُوا أولئك المتخلفون الهالكون في العذاب المؤبد والوبال المخلد قَلِيلًا في الدنيا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً فيها لما لحقهم بعد خروجهم منها من انواع العذاب والنكال جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فيها من الجرائم العظام والمعاصي والآثام
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ وردك عن غزوتك هذه اى غزوة تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ اى من المتخلفين المستأذنين وهم الذين قعدوا في المدينة بلا عذر وبعد ما قصدت غزوة اخرى فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ تلافيا لما مضى فَقُلْ لهم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ الى الجهاد أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا أصلا إِنَّكُمْ قوم قد رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ والتخلف أَوَّلَ مَرَّةٍ بلا عذر بل عن خديعة وغدر فَاقْعُدُوا أنتم دائما مَعَ الْخالِفِينَ المعذورين من النساء والصبيان والزمنى والمرضى
وَمتى ظهر لك حال أولئك الغواة الطغاة الهالكين في النقض والنفاق لا تُصَلِّ ولا تدع عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً اى بعد ورود النهى أصلا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ لتستغفر له إِنَّهُمْ من خبث بواطنهم قوم قد كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ في حال حياتهم وَماتُوا على الكفر ايضا وَهُمْ فاسِقُونَ مجبولون على الفسق في اصل فطرتهم
وَبعد ما تحقق عندك يا أكمل الرسل كفرهم وظهر فسقهم وخروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ التي هي وبال عليهم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المضل المذل لعصاة عباده أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا بأنواع الحوادث والمصيبات وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ اى يخرج أرواحهم عن اجسادهم وصار ميلهم ومحبتهم منوطة بها وَبالجملة هُمْ كافِرُونَ بالله غير معترفين بألوهيته وربوبيته
وَمن شدة نفاقهم وبغضهم مع الله ورسوله إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن ناطقة أَنْ آمِنُوا ايها المكلفون بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ في سبيله اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ والسعة مِنْهُمْ اى صناديدهم وعظماؤهم خوفا من أموالهم وأنفسهم وَقالُوا ذَرْنا ودعنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ المعذورين الغير القادرين
وبالجملة قد رَضُوا أولئك الغواة مع قوتهم وسعتهم بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ اى الضعفاء الفاقدين للقوة والسعة وَما ذلك الا ان طُبِعَ وختم عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر والضلال فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ قبح ما جاءوا به من المخالفة والقعود مع أولئك المعذورين ولذلك لم يأتوا بالمأمور ولم يمتثلوا به
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وامتثلوا لأمر الله وانقادوا لحكمه سمعا وطاعة قد جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سبيله ابتغاء لمرضاته وتثبيتا في دينه وَأُولئِكَ المؤمنون المجاهدون لَهُمُ الْخَيْراتُ والمثوبات العظمى والدرجات العليا عند الله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون عنده سبحانه بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وبالجملة قد أَعَدَّ اللَّهُ(1/314)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
المجازى لخلص عباده لَهُمْ اى لهؤلاء المجاهدين المرابطين قلوبهم مع الله ورسوله الباذلين مهجهم في سبيله جَنَّاتٍ متنزهات علمية وغيبية وحقية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الكشوف والشهود والواردات الغيبية والإلهامات القدسية لا دفعة ولا دفعات بل خالِدِينَ فِيها ابدا مستمرا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطف العميم لهؤلاء المخلصين المختصين بالعناية الازلية والسعادة السرمدية
وَمتى جاءت ونزلت سورة ناطقة بالقتال والجهاد جاءَ الْمُعَذِّرُونَ بالأعذار الكاذبة ومن في قلوبهم مرض مِنَ الْأَعْرابِ الذين لا اطمئنان لهم في الايمان لِيُؤْذَنَ لَهُمْ بالقعود وعدم الخروج الى الجهاد وَقَعَدَ المصرون الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ من غير مبالاة بأمر الله واطاعة رسوله لا تبال بهم وبمخالفتهم وكذبهم إذ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ بعد افتضاحهم وظهور نفاقهم عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة بحيث لا نجاة لهم من العذاب أصلا
ثم قال سبحانه لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ الفاقدين استطاعة الحرب ولو كانوا أصحاء كالنسوان والصبيان والشيوخ وَلا عَلَى الْمَرْضى الفاقدين الاستطاعة بعروض العوارض كالعمى والعرج والزمانة وغيرها وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ للزاد والسلاح والمركب وغيرها حَرَجٌ اى اثم ومعصية في قعودهم وتخلفهم إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ اى أخلصوا في الايمان والإطاعة بالله ورسوله بلا مرض مكنون في قلوبهم ودعوا دائما للمجاهدين والغزاة خيرا وأحسنوا مع اهل بيتهم وأطفالهم وفعلوا معهم خيرا ان استطاعوا وبالجملة ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ القاعدين المعذورين المخلصين مع الله ورسوله والمؤمنين مِنْ سَبِيلٍ في المعاتبة والحرج الدنيوي فضلا عن العقاب والعتاب الأخروي بل هم من جملة المجاهدين وزمرتهم فيها وَاللَّهُ المطلع لضمائرهم غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ لهم يجازيهم على قعودهم هذا خيرا لكونهم معذورين فيه
وَلا حرج ولا عقاب ايضا عَلَى المؤمنين المخلصين الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ حين هممت أنت يا أكمل الرسل وعزمت الى الخروج لِتَحْمِلَهُمْ على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وغيرهم حتى يبلغوا مكان العدو قُلْتَ لهم لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وانصرفوا من عندك آيسين وَأَعْيُنُهُمْ حين توليهم وانصرافهم تَفِيضُ وتسيل مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً وأسفا أَلَّا يَجِدُوا اى لئلا يجدوا ما يُنْفِقُونَ حتى يبلغوا المعركة ويحضروا الوغاء فهؤلاء ايضا لا عتاب لهم ولا عقاب بل يرجى لهم الأجر الجزيل من الله لإخلاصهم واسفهم
بل إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة والمعاقبة وانواع العذاب عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ بالقعود معتذرين وَالحال انه هُمْ أَغْنِياءُ مستطيعون قادرون بالجسد والمال الا انهم قد رَضُوا من خبث بواطنهم ومرض قلوبهم بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ المعذورين الغير المستطيعين وَما ذلك الا ان طَبَعَ اللَّهُ المذل المضل لأهل الغفلة والعناد عَلى قُلُوبِهِمْ بالجهل والضلال فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ جهلهم وضلالهم حتى يتسببوا لازاحتهما وازالتهما
ومع ذلك يَعْتَذِرُونَ أولئك المستأذنون المستطيعون إِلَيْكُمْ ايها المؤمنون إِذا رَجَعْتُمْ من غزوتكم هذه إِلَيْهِمْ بان يكونوا معكم في عموم غزواتكم ويأتون بالأعذار الكاذبة الغير المطابقة للواقع تسلية لكم وتغريرا وتتميما لنفاقهم قُلْ يا أكمل الرسل تعليما للمؤمنين في مقابلة اعذارهم لا تَعْتَذِرُوا منا مراء ومداهنة انا لَنْ نُؤْمِنَ ولن نصدق لَكُمْ سيما قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ المطلع لضمائركم وبما يجرى في صدوركم بالوحي على رسوله مِنْ أَخْبارِكُمْ التي(1/315)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
تكتمونها أنتم في نفوسكم من الشر والفساد بالنسبة إلينا والى نبينا وَكيف تعتذرون أنتم عن جرائمكم وتلبسونها مع انه سَيَرَى اللَّهُ الناقد البصير عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ فتفتضحون حينئذ على رؤس الاشهاد ثُمَّ تُرَدُّونَ في النشأة الاخرى إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وتحاسبون عنده عليه فَيُنَبِّئُكُمْ ويظهر عليكم مفصلا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في النشأة الاولى فيجازيكم على مقتضى علمه وخبرته
ومن جملة نفاقهم وتلبيسهم انهم سَيَحْلِفُونَ ويقسمون بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ ورجعتم مشتكين معاتبين إِلَيْهِمْ عن قعودهم وتخلفهم انما غرضهم من الحلف الكاذب تغريركم وتلبيسكم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ وعن عتابهم ولا تسألوا عن مخالفتهم وقعودهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ وعن عتابهم قبل حلفهم وتلبيسهم ولا تلتفتوا إليهم إِنَّهُمْ في أنفسهم رِجْسٌ اى جبلتهم مجبولة على الخباثة والنجاسة لا تقبل التطهير بالتأديب أصلا وَمَأْواهُمْ اى مرجعهم ومنقلبهم في النشأة الاخرى جَهَنَّمُ الطرد والخذلان جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ في النشأة الاولى من الكفر والنفاق والإصرار على الشرك والشقاق
وانما يَحْلِفُونَ لَكُمْ حين عتابكم وشكواكم لِتَرْضَوْا أنتم عَنْهُمْ وتقبلوا إخلاصهم ومودتهم وتكونوا معهم كما كنتم فَإِنْ تَرْضَوْا أنتم عَنْهُمْ بمجرد حلفهم الكاذب وتغريرهم الفاسد لا يغنى ولا يدفع رضاكم عنهم شيأ من غضب الله عليهم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لما في ضمائرهم من الأكنة المكنونة والنفاق المدفون لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة لتطهير النفوس الخبيثة عن أرجاس الطبيعة وتصفيتها عن ادناس الأخلاق الذميمة العائقة عن الوصول الى مقر التوحيد.
ثم قال سبحانه الْأَعْرابُ اى اهل الوبر المترددون في البوادي المنهمكون في الغي والضلال والعتو والعناد أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من اهل المدر المستأنسين مع العقلاء المستفيدين منهم وَلشدة شكيمة أولئك الاعراب وفرط جهلهم وعدم قابليتهم أَجْدَرُ اى أحق وأليق أَلَّا يَعْلَمُوا اى بان لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده عَلى رَسُولِهِ النائب عنه المتكفل لإرشاد عباده بوحيه والهامه بإقامة حدوده المنزلة من الأوامر والنواهي المستلزمة لتأديبهم في معاشهم ومعادهم إذ هم في غاية البعد عن الهداية والصلاح وتحمل التكاليف الإلهية مطلقا وَاللَّهُ المطلع لسرائر عباده عَلِيمٌ باستعداداتهم الكامنة فيهم حَكِيمٌ في الزام التكليف عليهم
وَمِنَ منافقي الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ اى يعد ويحسب ما يُنْفِقُ بأمر الله في سبيله مَغْرَماً ويتخيله غرامة وخسرانا لعدم إيمانه واعتقاده بترتب الثواب عليه بل انما ينفق ما ينفق رياء وسمعة وتقية وَمن خباثة باطنه يَتَرَبَّصُ اى يترقب وينتظر بِكُمُ الدَّوائِرَ اى نوائب الزمان الدائرة عليكم لينقلب الأمر ويتحول الحال ويخلص من الانفاق بالنفاق بل يدور عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ على عكس مرامهم دائما متجددا مستمرا وَاللَّهُ المراقب عليهم سَمِيعٌ لمناجاتهم عَلِيمٌ بنياتهم وحاجاتهم يدبر عليهم ويعيد إليهم ما يتربصون بكم من الدوائر
وَمِنَ مخلصى الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اى يوقن ويذعن بتوحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى يصدق باليوم الآخر المعد لجزاء الأعمال وترتب المثوبات بالقربات والصدقات وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ في سبيل الله قُرُباتٍ ونيل مثوبات ورفع درجات عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ اى سبب استغفاره صلّى الله عليه وسلّم ودعائه له أَلا إِنَّها اى تنبهوا ان ما يتصدقون به أولئك المؤمنون المخلصون المتقربون قُرْبَةٌ لَهُمْ وسبب(1/316)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
وصولهم اليه سبحانه سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الموفق لهم الرقيب عليهم فِي سعة رَحْمَتِهِ وجوده بعد انقضاء النشأة الاولى إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالهم غَفُورٌ لما صدر عنهم من المعاصي قبل ايمانهم رَحِيمٌ لهم يقبل بعد ايمانهم وإخلاصهم ما يتقربون به طلبا لمرضاته
وَالسَّابِقُونَ في الايمان المبادرون الى التصديق وقبول الاحكام الْأَوَّلُونَ الأقدمون بمتابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الْمُهاجِرِينَ الذين قد هاجروا من مألوفات نفوسهم ومشتهيات طباعهم الى الفناء في الله وَالْأَنْصارِ الأبرار الذين سلكوا نحو الحق بالرياضات والمجاهدات الشاقة المزيحة لدرن التعلقات ورين الإضافات المانعة من التوجه الحقيقي وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ واقتفوا أثرهم من اهل الطلب والارادة بِإِحْسانٍ اى بلا تمايل الى الرياء والسمعة والعجب والنخوة أولئك المبرورون المقبولون قد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لتحققهم بمرتبة الإخلاص والتسليم وَايضا هم قد رَضُوا عَنْهُ سبحانه لإيصالهم الى مقر التوحيد وفضاء الفناء المثمر للبقاء الأبدي والحيوة السرمدية وَأَعَدَّ لَهُمْ سبحانه في حوزة حمايته وروضة بقائه جَنَّاتٍ متنزهات تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ مملوة من مياه العلوم اللدنية والمعارف الحقيقية الحقية خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون عنها أصلا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطيف الجسيم لأهل العناية من ارباب المحبة والولاء المنخلعين عن جلباب ناسوتهم بالكلية
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ايها المؤمنون مِنَ الْأَعْرابِ الذين يسكنون في البوادي قوم هم مُنافِقُونَ معكم وان أظهروا المودة والإخاء والايمان على طرف اللسان لا تبالوا بايمانهم ولا تغفلوا عن مكرهم وخداعهم وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ايضا قوم قد مَرَدُوا رسخوا وثبتوا عَلَى النِّفاقِ ومن شدة نفاقهم وتمرنهم عليه صاروا بحيث لا تَعْلَمُهُمْ ايها المتصف بالفراسة الكاملة من نهاية تلبيسهم واخفائهم بل نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ونعلم ما في ضمائرهم من الخيالات الفاسدة سَنُعَذِّبُهُمْ في الدنيا مَرَّتَيْنِ مرة بتفضيحهم واظهار ما في قلوبهم من الأكنة والشقاق والشقاوة ومرة بقتلهم وسبيهم واجلائهم ثُمَّ يُرَدُّونَ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو حرمانهم وانحطاطهم عن المرتبة الكاملة الانسانية التي هي مرتبة الخلافة والنيابة الجامعة لعموم المراتب الكونية والكيانية
وَمن اهل المدينة ايضا قوم آخَرُونَ ليسوا من المصرين على النفاق المتمرنين فيه بل قد اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم من المخالفة والبغض والطعن والاستخفاف والغيبة حين خلوا مع المنافقين المتمرنين على النفاق وهم وان صدر عنهم الايمان والإخلاص ولكن هم قد خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً من الإخلاص والرضا والتسليم وَعملا آخَرَ سَيِّئاً وهو اتفاقهم مع المنافقين في خوضهم وطعنهم وبذلك قد انحطوا عن رتبة المؤمنين المخلصين في عموم أحوالهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويوفقهم على التوبة والندامة ويقبل منهم توبتهم بعد ما أخلصوا فيها إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ لمن تاب وندم عن ظهر القلب رَحِيمٌ يقبل توبتهم وان افرطوا
خُذْ يا أكمل الرسل مِنْ أَمْوالِهِمْ اى من اموال هؤلاء المذنبين التائبين النادمين عما صدر عنهم من المخالفة حين أذنوا لك ان تخرج أنت منها صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ عن ادناس الطبيعة المولعة لحب المال والحرص في جمعها ونمائها وَتُزَكِّيهِمْ بِها اى تصفى بواطنهم عن الشواغل العائقة عن اللذات الروحانية وَصَلِّ عَلَيْهِمْ واستغفر لذنوبهم وادع لهم بالدعاء الخير(1/317)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
إِنَّ صَلاتَكَ إياهم والتفاتك بحالهم سَكَنٌ لَهُمْ وسكينة لقلوبهم ووقار وطمأنينة لنفوسهم وسبب لتقررهم وتثبتهم على جادة التوحيد والايمان وَاللَّهُ المراقب عليهم في عموم حالاتهم سَمِيعٌ لإخلاصهم ومناجاتهم عَلِيمٌ بنياتهم وحاجاتهم
أَلَمْ يَعْلَمُوا أولئك التائبون النادمون المخلصون المتضرعون المسترجعون نحو الحق على عفو زلاتهم وتقصيراتهم أَنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالهم هُوَ سبحانه بلطفه وفضله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ خلص عِبادِهِ بعد ما وفقهم عليها ويتجاوز عن سيئاتهم وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ من أموالهم اى يقبلها منهم تطهيرا لقلوبهم عما يشوشهم من رذائل هوياتهم وأثقال تعيناتهم ليشمروا نحو الحق محقين وَلم يعملوا أَنَّ اللَّهَ المتفضل لعباده هُوَ التَّوَّابُ الرجاع لهم من مقتضيات نفوسهم نحو جنابه الرَّحِيمُ عليهم يوصلهم الى بابه ان أخلصوا في سلوكهم وتوجههم
وَقُلِ يا أكمل الرسل للمتخلفين من الاعراب اعْمَلُوا ما شئتم من الكفر والنفاق فَسَيَرَى اللَّهُ الرقيب عليكم عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ايضا بوحيه سبحانه والهامه وَالْمُؤْمِنُونَ ايضا بتبليغه صلى الله عليه وسلّم وَاعلموا ايها الغواة الطغاة المحرومون سَتُرَدُّونَ للحساب والجزاء إِلى عالِمِ الْغَيْبِ اى السرائر والخفايا التي أنتم تسرونها من الكفر والمعاصي وانواع الضلالات والجهالات وَالشَّهادَةِ اى التي أنتم تعلنون بها فَيُنَبِّئُكُمْ ويخبركم سبحانه على التفصيل الذي صدر عنكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من طغيان نفوسكم ويجازيكم عليها
وَآخَرُونَ من المتخلفين بعد ما تنبهوا بقبح صنيعهم مُرْجَوْنَ مؤخرون منتظرون لِأَمْرِ اللَّهِ وحكمه وصاروا مترددين بين الخوف والرجاء في ما فعل الله معهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ أخذا على ما قد صدر عنهم بمقتضى عدله وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ويوفقهم على التوبة حسب فضله وسعة رحمته وَاللَّهُ المطلع لخفيات صدورهم عَلِيمٌ باخلاصهم ونياتهم حَكِيمٌ في فعله بهم بعد علمه بحالهم
وَمن أشد الاعراب كفرا ونفاقا وأغلظهم بغضا وشقاقا هم الَّذِينَ اتَّخَذُوا تلبيسا وتغريرا مَسْجِداً قاصدين في بنائه ضِراراً مضرة وسوأ لرسول الله وللمؤمنين وَكُفْراً اى اشتدادا وزيادة فيه إذ هم قد قصدوا ببنائه وإنشائه قتل رسول الله ومن معه من المؤمنين فيه وَقصدوا ايضا تَفْرِيقاً وتشتيتا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ المجتمعين في مسجد قباء وَبالجملة انما يبنونه إِرْصاداً اى ترقبا وانتظارا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهو ابو عامر الراهب الذي حارب مع المؤمنين مِنْ قَبْلُ يوم حنين فانهزم فهرب الى الشأم ليذهب الى قيصر فيأتى بجنود وهم منتظرون مجيئه وَبعد ما قد ظهر نفاقهم وخداعهم بوحي الله والهامه على رسوله لَيَحْلِفُنَّ وليقسمن بالإيمان الغليظة إِنْ أَرَدْنا وما قصدنا ببنائه إِلَّا الْحُسْنى والخير والصلاة المقربة لنا نحو الحق والذكر والتسبيح والتوسعة على المؤمنين وازدياد شعائر الإسلام ومعالم الدين القويم وَاللَّهُ المطلع لضمائرهم ومخايلهم يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم وايمانهم هذه وإذا عرفت يا أكمل الرسل حالهم وحلفهم وسوء قصدهم وفعالهم
لا تَقُمْ فِيهِ اى في المسجد الضرار أَبَداً للتوجه والصلاة إذ هو مبنى على الخداع والتزوير والله لَمَسْجِدٌ مبارك قد أُسِّسَ وبنى عَلَى التَّقْوى عن مطلق المحارم خالصا لرضاه سبحانه مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ بنى وهو مسجد قباء أَحَقُّ أليق واولى أَنْ تَقُومَ أنت يا أكمل الرسل فِيهِ للصلاة والميل نحو الحق والمناجاة معه سبحانه مع انه فِيهِ وفي حواليه رِجالٌ مؤمنون مخلصون كاملون في الايمان بحيث يُحِبُّونَ دائما مستمرا(1/318)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
أَنْ يَتَطَهَّرُوا عن المعاصي والآثام ويتوجهوا نحو الحق برفض الشواغل ونفض العوائق والعلائق وَاللَّهُ المطلع بنياتهم يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ القاصدين تطهير ذواتهم عن التوجه الى ما سوى الحق المطلق بل عن هوياتهم وتعيناتهم الباطلة مطلقا
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ ووضع بناءه عَلى تَقْوى الا وهي قاعدة محكمة وركن شديد وحصن منيع وسبب تحفظ وتحصن مِنَ غضب اللَّهِ وسخطه وَايضا على طلب رِضْوانٍ ومثوبة عظيمة ومنزلة رفيعة منه سبحانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ اى على طرف واد قد جوفه السيول والأمطار فسقط البعض واشرف الباقي على السقوط والانهدام فوضع عليه بناءه فَانْهارَ بِهِ وسقط معه من بناه واقامه فِي نارِ جَهَنَّمَ اى الوادي الغائر الهائر المملو من نيران الحرمان والخذلان وَاللَّهُ الهادي لخلص عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه ومن شدة غيظهم وخبث باطنهم
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا يورث ويزيد رِيبَةً شكا وريبا متزايدا فِي قُلُوبِهِمْ مترشحا فيها إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ بنيران الحسرة وتفتتت وتلاشت بهجوم اهوال العذاب الهائل عليها الى حيث لا يتأتى منها الإدراك وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمخايلهم الكامنة في صدورهم حَكِيمٌ في جزائها وانتقامها
ثم قال سبحانه تبشيرا للمؤمنين الباذلين مهجهم في سبيل الله إِنَّ اللَّهَ المتفضل بالفضل العظيم قد اشْتَرى واستبدل مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين الموقنين أَنْفُسَهُمْ وهوياتهم الفانية الباطلة الهالكة في حد ذاتها المبذولة في سبيله سبحانه في النشأة الاولى وَأَمْوالَهُمْ المصروفة فيها ايضا بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ الباقية واللذة المستمرة الدائمة بدلها لذلك يُقاتِلُونَ أولئك الممتثلون لأمر الله المصدقون لوعده فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ أعداءه ويستحقون المثوبة التي قد وعد من لدنه سبحانه للغزاة المجاهدين وَيُقْتَلُونَ ايضا يصلون الى درجة الشهداء الذين هم احياء عند الله يرزقون من موائد افضاله فرحون بما وعدوا من عنده سبحانه وَعْداً عَلَيْهِ بلا خلف فيه حَقًّا ثابتا مثبتا مكتوبا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ المنزلة من لدنه سبحانه وَبالجملة مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ ووفى المعهود فقد استحق مِنَ اللَّهِ الوعد الموعود فَاسْتَبْشِرُوا وافرحوا واربحوا ايها المؤمنون بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ مع ربكم حيث استبدلتم الفاني الزائل بالباقي المستمر الدائم وَبالجملة ذلِكَ الموعود الذي قد وعد لكم هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم المعد لأرباب العناية والقبول
الا وهم التَّائِبُونَ النادمون على ما جرى عليهم من المعاصي والآثام المحافظون عليها بلا مراجعة أصلا الْعابِدُونَ بالعزائم الصحيحة الخالصة الصافية عن مطلق الكدورات والإخلاص التام في نيات الطاعات الْحامِدُونَ الشاكرون الصارفون عموم ما اعطاهم الحق من النعم والقوى والآلات الى ما خلق لأجله السَّائِحُونَ السائرون السالكون في سبيل الهداية والرشد لازدياد المعارف والحقائق الرَّاكِعُونَ المتواضعون المنكسرون المتذللون عند عموم مظاهر الحق تكريما له سبحانه وتعظيما لشأنه السَّاجِدُونَ المتذللون الواضعون جباههم على تراب المذلة والهوان خضوعا وانقيادا ميلا ودعاء الى الله في عموم حالاتهم الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ المستحسن عقلا وشرعا بالقلب واللسان وعموم الجوارح والأركان وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ المستقبح عقلا وشرعا على الوجه الذي ورد الشرع به وَبالجملة هم الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ الموضوعة بين ارباب التكاليف قابلين لسلوك مسالك التوحيد(1/319)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
والتحقيق مطلقا وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُؤْمِنِينَ الموصوفين بهذه الصفات الجميلة باللذات التي لا يمكن وصفها بلسان التعبير من لدن حكيم خبير.
ثم قال سبحانه على طريق النهى عموما ما كانَ اى ما صح وما جاز لِلنَّبِيِّ الأمي الهاشمي المبعوث الى كافة البرايا بالهداية العامة والإرشاد الكامل الشامل وَالَّذِينَ آمَنُوا معه وأخلصوا فيه أَنْ يَسْتَغْفِرُوا ويشفعوا لِلْمُشْرِكِينَ المصرين على الكفر والعناد لا بتخفيف العذاب عنهم ولا بدخول الجنة وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى من النسب إذ لا عبرة لقرابة النسب بل القرابة المعتبرة عند الله هي قرابة الدين والايمان سيما مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ موت اقربائهم على الكفر والجاهلية وظهر عندهم أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ اى ملازموها وملاصقوها لا نجاة لهم منها لاصرارهم على موجباتها
وَلا يرد على هذا استغفار ابراهيم عليه السّلام لأبيه إذ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ آزر على سبيل الشفقة والشفاعة والعطف الموجب لها بل ما هو إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعهد قد وَعَدَها إِيَّاهُ حين أراد ان يخرجه من الكفر والشرك بان يستغفر له ما تقدم من ذنبه ان آمن فاستغفر قبل الايمان انجازا لوعده ليلين قلبه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وظهر عنده أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ مصر على كفره مطبوع على قلبه مختوم بختام الجهل والغفلة تَبَرَّأَ مِنْهُ واسترجع الى الله الخليل الجليل منيبا عن اجترائه واستغفاره في حق أبيه الكافر مع عدم علمه باستعداده وبتوفيق الله إياه وبالجملة إِنَّ إِبْراهِيمَ مع كونه متحققا بمقام الخلة مع الله لَأَوَّاهٌ كثير التأوه والتحزن عن أمثال هذه الجرأة حَلِيمٌ كثير الشفقة والمرحمة على اهل الغفلة لظهوره على مقتضى اللطف والجمال
وَاعلموا ايها المؤمنون ما كانَ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده لِيُضِلَّ قَوْماً ويسميهم ضلالا وفساقا بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ على الايمان والإسلام حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ وينبه عليهم ما يَتَّقُونَ ويحذرون من المحارم والمعاصي لامتناع تكليف الغافل ثم بعد ارتكاب المحذر به يسميهم ما يسميهم ويأخذهم بما يأخذهم منتقما عليهم إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده بِكُلِّ شَيْءٍ مما يتعلق بصلاحهم وإصلاحهم عَلِيمٌ لا يعزب عن علمه شيء فعليكم ايها المؤمنون ان تفوضوا أموركم كلها الى الله إذ الأمر كله لله
إِنَّ اللَّهَ المستقل بالالوهية والوجود لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وما فيها من النجوم والبروج والجنود التي لا اطلاع لنا عليها وَكذا ملك الْأَرْضِ وما عليها وكذا ملك ما بينهما من الكائنات والفاسدات يُحْيِي ويظهر بلطفه متى تعلق ارادته وَيُمِيتُ ويعدم ويخفى بقهره متى جرت مشيئته وَما لَكُمْ ايها المؤمنون الموقنون بتوحيد الله مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس معه شيء ولا دونه حي مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم وَلا نَصِيرٍ ينصركم عليها
وبالجملة لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ ووفقه على التوبة والندامة بعد ما صدر عنه صلّى الله عليه وسلّم اذن المخالفين المستأذنين المعتذرين بالأعذار الكاذبة تغريرا له وتلبيسا عليه مع عدم علمه بحالهم وَقد تاب ايضا على الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ نحو تبوك حين خرج إليها فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ وايام القحط إذ ليس لهم في تلك السفر لا زاد ولا راحلة ولا ماء حيث تعاقب عشرة على بعير وقسم تمر بين اثنين في يوم وشرب الفظ والفرث من شدة العطش لذلك قد تمايل على المخالفة والمراجعة كثير من الناس مِنْ بَعْدِ ما كادَ وقرب يَزِيغُ ويميل عن المتابعة قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ من قلة التصبر وكثرة المقاسات والأحزان ثُمَّ تابَ الله عَلَيْهِمْ ووفقهم على التوبة مما اخطروا(1/320)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
ببالهم وتخيلوا في خيالهم وكيف لا يوفقهم سبحانه على التوبة إِنَّهُ بِهِمْ عليم باستعداداتهم وقابلياتهم رَؤُفٌ عطوف عليهم يعفو عنهم عموم زلاتهم التي صدرت عنهم وقت الاضطرار رَحِيمٌ يقبل منهم عموم ما جاءوا به من الانابة والاستغفار
وَايضا قد تاب سبحانه ووفق عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عن غزوة تبوك بلا عذر لهم وهم كعب بن مالك وهلال بن امية ومرارة بن ربيع وهم قد صاروا مضطرين مضطربين من عدم التفات رسول الله والمؤمنين إليهم سيما بعد امر الرسول على المؤمنين ان لا يتكلموا معهم خمسين ليلة حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ اى مع فسحتها ووسعتها بل وَقد صاروا من هجوم الأغراض النفسانية الى ان ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ واشتد عليهم الأمر وانسد دونهم أبواب التدابير مطلقا فاضطروا في أمرهم وشأنهم هذا والتجأوا نحو الحق مخلصين وَظَنُّوا لا بل كشفوا أَنْ لا مَلْجَأَ ولا مفر مِنَ اللَّهِ اى من غضبه وسخطه إِلَّا إِلَيْهِ إذ ليس لغيره وجود حتى يرجع اليه ويلتجأ نحوه لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم في أمثال هذه المضائق أعوذ بك منك ثُمَّ بعد ما أخلصوا في الانابة والرجوع وفوضوا أمورهم اليه سبحانه قد تابَ الله عَلَيْهِمُ اى أقدرهم ووفقهم على التوبة بل أمرهم في سرهم لِيَتُوبُوا ويرجعوا نحو الحق نادمين عما صدر عنهم من المخالفة فيغفر لهم ويعفو عن زلاتهم إِنَّ اللَّهَ المصلح الموفق لعباده هُوَ التَّوَّابُ الرجاع لعباده نحو جنابه حين صدر عنهم المعاصي الرَّحِيمُ لهم يرحمهم ويقبل توبتهم حين رجوعهم نحوه متضرعين مخلصين
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم التقوى عن محارم الله اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور عن مخالفة امره وحكمه وَكُونُوا في السراء والضراء مَعَ الصَّادِقِينَ المصدقين لرسوله المتابعين له في عموم أموره
واعلموا انه ما كانَ وما صح وما جاز لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ يسكن فيما حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ المترددين في بواديها أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ حين خرج الى القتال واقتحم على الأعادي وَايضا لا يصح لهم ان يَرْغَبُوا ويميلوا بِأَنْفُسِهِمْ اى بحفظها وصيانتها عَنْ نَفْسِهِ صلى الله عليه وسلّم بل يجب عليهم ان يفدوا نفوسهم ويبذلوا مهجهم وأموالهم وأولادهم وعموم ما يضاف إليهم وينسب نحوهم لصيانته وحفظه صلّى الله عليه وسلّم وحيث اقتحم صلّى الله عليه وسلّم فلهم المبادرة والمسابقة ذلِكَ اى ما وجب عليهم من تحمل المشاق والمتاعب والاسراع والاقتحام والاقدام عليها بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم متى خرج صلّى الله عليه وسلّم معهم وفي أظهرهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ عطش وَلا نَصَبٌ الم عناء من انواع الآلام وَلا مَخْمَصَةٌ ومجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وكلمة توحيده وَكذا لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً موضعا ولا يدوسون ولا يقطعون مسافة بحيث يَغِيظُ الْكُفَّارَ مرورهم عنها وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا من القتل والأسر والغلبة والنهب والغارة إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عند الله عَمَلٌ صالِحٌ موجب للمثوبة العظمى والدرجة العليا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المحسن المتفضل لخواص عباده لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله ويعبدونه كأنهم يرونه ومع رسوله المستخلف منه النائب عنه سبحانه
وَهؤلاء المحسنون المخلصون لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً لا قليلة ولا كثيرة في سبيل الله طلبا لمرضاته وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً تجاه العدو حين أمرهم الله ورسوله إِلَّا وقد كُتِبَ لَهُمْ في صحف حسناتهم لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى(1/321)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
جزاء احسن بمراتب عن أعمالهم الحسنة التي قد أتوا بها.
ثم قال سبحانه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ اى ما صح لهم وما ينبغي لشأنهم وما يليق بحالهم لِيَنْفِرُوا عن بلدانهم وأماكنهم كَافَّةً بحيث تخلو بلادهم عن الحفظة والحراس مطلقا فَلَوْلا وهلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ الى الرسول لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وليتعلموا شعائره وما يتعلق به من الآداب وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ بذلك إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ويقيموا لهم ما يتعلمون ويتفقهون من شعائر الإسلام ومعالم الدين القويم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ من منهيات الدين القويم ويتصفون بمأموراته ويصلحون عقائدهم بها فيؤمنون ويوقنون بالله ويتدينون بدينه. ومن معظم شعائر الإسلام القتال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ويقرب منكم في حواليكم وحواشيكم مِنَ الْكُفَّارِ وَلتضيقوا ولتشددوا عليهم لْيَجِدُوا ويشاهدوا فِيكُمْ غِلْظَةً تشددا وتصبرا على القتال وجرأة وتهورا عليه فيخافوا منكم ويتركوا عنادهم وإصرارهم ولا تبالوا بكثرة عددهم وعددهم واجترءوا عليهم بلا مبالاة لهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة مَعَ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون حدود ما انزل الله عليهم فتوكلوا عليه وامتثلوا بمأموراته ان كنتم موقنين
وَكيف لا تقاتلون ولا تشددون ايها المؤمنون على الغواة الطغاة المستهزئين الذين إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من عندنا مشتملة على تكميل دينكم وزيادة ايمانكم ويقينكم فَمِنْهُمْ اى من المنافقين مَنْ يَقُولُ لأصحابه ورفقائه من خبث باطنه وركاكة فطنته استهزاء وسخرية أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ استحقارا لها واستهانة إياها إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبعموم ما نزل من عنده لإصلاح احوال عباده فَزادَتْهُمْ بعد ما تأملوا فيها وتدبروا في مرموزاتها إِيماناً يقينا واطمئنانا وَهُمْ بعد ما اطلعوا على مطلعها يَسْتَبْشِرُونَ بنزولها
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الا وهو التعامي عن آيات الله وعن مقتضى إشاراتها ورموزها فَزادَتْهُمْ هذه رِجْساً كفرا وشركا منضما إِلَى رِجْسِهِمْ الأصلي وكفرهم الجبلي بحيث صاروا منغمسين منهمكين بالكفر والضلال وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ مصرون على كفرهم وشركهم فلحقوا بشياطينهم الذين مضوا قبلهم. خسر الدنيا والآخرة. الا ذلك هو الخسران المبين
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ من خباثة بواطنهم ورجاسة نفوسهم يُفْتَنُونَ ويقتلون ويصابون فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً بلية ومصيبة واحدة أَوْ مَرَّتَيْنِ بليتين كرتين لتلين قلوبهم بها ويتنبهوا فيتوبوا ثُمَّ لا يَتُوبُونَ الى الله من كفرهم ولا يرجعون نحوه بالإيمان والتوبة ليقبل عنهم بل يصرون على ما هم عليه وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ بها ولا يتذكرون ولا يتعظون منها بل يكابرون ويعاندون
وَمن جملة إصرارهم وعنادهم انهم إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مفضحة لهم مفصحة مصرحة بما هم عليه من النفاق والشقاق ونقض العهد والميثاق نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يتغامزون بعيونهم ويقولون استهزاء وتهكما هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من هؤلاء المؤمنين ثُمَّ انْصَرَفُوا من عنده مريدين النفاق والشقاق بأضعاف ما كانوا عليه بسبب تفضيحهم بهذه السورة لذلك صَرَفَ اللَّهُ المصرف المضل قُلُوبَهُمْ عن الايمان وجادة التوحيد والعرفان وما ذلك الا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ولا يفهمون لذة الايمان ولا يتخلقون على فطرة التوحيد وفطنة العرفان مثل المؤمنين الموحدين
ولذلك لَقَدْ جاءَكُمْ ايها الاعراب المجبولون على الكفر والكفران والشرك والطغيان رَسُولٌ مؤيد بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة منتشئ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ومن جنسكم(1/322)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
وبنى صنفكم ومن غاية شفقته ومرحمته لكم عَزِيزٌ شاق شديد عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عموم ما عَنِتُّمْ اى عنتكم وهلاككم والقاؤكم انفسكم بالتهلكة والتقاؤكم بالمكروه مطلقا واتصافكم به إذ هي من امارات الكفر وعلامات الشرك وعدم الإطاعة والانقياد بأوامر الله ونواهيه مع انه صلّى الله عليه وسلّم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ اى على ايمانكم وإسلامكم وإصلاح حالكم إذ هو صلّى الله عليه وسلّم بِالْمُؤْمِنِينَ الموحدين المخلصين رَؤُفٌ عطوف مشفق رَحِيمٌ يرحمهم ويرضى عنهم بخروجهم عن ظلمة الكفر بنور الايمان وبالجملة كن أنت يا أكمل الرسل كما قد كنت عليه بمقتضى شفقة النبوة والمروءة والفتوة
فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عنك وانصرفوا عن الايمان بك وبدينك فَقُلْ في نفسك ملتجأ الى ربك مستظهرا منه سبحانه حَسْبِيَ اللَّهُ المراقب علىّ الكافي لعموم مهامى يكفى بي ويكف مؤنة خصومتهم عنى إذ لا إِلهَ يرجع اليه في الوقائع ويلجأ نحوه في الخطوب إِلَّا هُوَ سبحانه عَلَيْهِ لا على غيره إذ لا غير معه في الوجود تَوَكَّلْتُ فلا أرجو ولا أخاف الا منه سبحانه وَكيف لا أتوكل عليه ولا ارجع نحوه إذ هُوَ سبحانه بذاته وبعموم أسمائه وصفاته رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ اى مربى عروش ذرائر الأكوان الكائنة في برزخ الإمكان وهو المستوي عليها بالاستقلال والاحاطة والاستيلاء التام إذ لا شيء سواه. وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون
خاتمة سورة البراءة
عليك ايها الطالب المشمر لسلوك مسلك الفناء كي تصل الى فضاء البقاء شكر الله سعيك وهديك الى غاية مبتغاك ان تقتفى في تشمرك هذا اثر من نبهك عليها وهديك إليها الا وهو النبي الذي اختاره الله لرسالته واصطفاه من بين خليقته لتكميل بريته وأظهره على صورته وخلقه بعموم أخلاقه لذلك اتخذه حبيبا وجعله على سائر الأنبياء اماما ونقيبا وتشبث بأذيال لطفه فعلا وقولا وشيما وخلقا صارفا عنان عزمك الى سرائر ما جاء صلّى الله عليه وسلّم به من عند ربه لإرشاد عباده وكذا ما سمح وجاد صلّى الله عليه وسلّم به من تلقاء نفسه من الرموز والإشارات التي قد استنبطها صلّى الله عليه وسلّم من كلام الله وفاض عليه بوحي الله والهامه لصفاء استعداده الفطري الذي قد صار صلّى الله عليه وسلّم به مرآة لتجليات الحق وشئونه وتطوراته وخليفة لله في ارضه وسمائه وكذا ما التقط واستنبط من فحاوي كلماته وإشاراته صلّى الله عليه وسلّم الأولياء الوارثون منه مقتفون اثره قدس الله أسرارهم وأرواحهم وكذا ما ورد عليهم وخطر في خواطرهم النقاوة وجرى على قرائحهم الوقادة على تفاوت طبقاتهم في طريق التوحيد من المواجيد والملهمات الغيبية المنتشئة من النفحات الإلهية والنفسات الرحمانية الناشئة من التجليات الجمالية والجلالية المتفرعة على الشئون والتطورات الكمالية الذاتية وبالجملة لا بدلك ان تفرغ همك عما سوى الحق مطلقا ولا يتيسر لك هذا الا بمتابعة المحققين المتحققين بمقام الكشف والشهود الواصلين الى مقام المراقبة والحضور مع الله وبالاستفادة منهم ومن ملتقطاتهم ووارداتهم حتى يمكن لك التمكن في مكمن الفناء والتقرر في مقر البقاء وحينئذ يصح لك ان تقول بلسان حالك ومقالك حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم جعلنا الله من عباده المفوضين المتوكلين الذين يتخذون الله وقاية ووكيلا ويعتقدونه حسيبا وكفيلا(1/323)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
[سورة يونس عليه السّلام]
فاتحة سورة يونس عليه السّلام
لا يخفى على المنجذبين نحو التوحيد الإلهي من طريق السلوك والمجاهدة ورفض الشواغل وقطع العلائق ونفى الخواطر ودفع الوساوس وإسقاط الأوهام والخيالات المستندة الى الهويات الباطلة الجزئية المستلزمة للغيرية والامتياز والاستقلال في الوجود وما يترتب عليه من الآثار والإضافات ان السلوك من هذا الطريق لا يتم الا بالاستمداد والاسترشاد من اهل الخبرة والاستبصار وارباب الكشف والاعتبار الواصلين الى مقر التوحيد من جادة المجاهدة ومحجة الفناء المقتضية للموت الإرادي عن لوازم الهوية البشرية مطلقا وبالجملة ان الكاملين المكملين العارفين بأمارات الطريق وموانعه عرفوا ان قضية الحكمة وامر المناسبة الإلهية الواقعة بين الأوصاف الذاتية تقتضي ان تكون بين المفيد والمستفيد علاقة ورابطة إذ لا يمكن الاستفادة والاسترشاد من اى شخص كان بل لا بد من المناسبة والعلاقة المصححة للافادة والاستفادة في هذه الطرق الا من جذبه الحق بنفسه عن نفسه واخلع عنه جلباب ناسوته مطلقا او كساء خلعة لاهوته دفعة فصار هو هو بل قد ارتفعت الهوية واضمحلت الموضوعية والمحمولية ايضا عن بصر بصيرته وشهوده فهم تحت قباب العزة ولواء العظمة والكبرياء وسرادقات المجد والبهاء بحيث لم يبق عندهم سلوك وسالك ومسلك وقصد ومقصد وطلب ومطلب بل مطلوب ومقصود ايضا وبالجملة هم لا يعرفون سوى الحق وكذا لا يعرفهم الا هو كما نطق به الحديث القدسي لذلك ما يروا هؤلاء الا به وفيه واما اهل الطلب والارادة المتدرجون في سلوك طريق الفناء المتعطشون بزلال التوحيد والبقاء فلا بد لهم ان يتوسلوا ويتشبثوا بذيل من أيده الحق لتكميل العباد وإرشادهم الى مبدأهم ومعادهم الا وهم الأنبياء الذين قد جبلوا على النفوس القدسية المطهرة عن الكدورات الانسية والعلائق البشرية العائقة عن الفناء في هوية الحق ثم الأولياء الوارثون منهم الواصلون بمتابعتهم الى مرتبة التوحيد والعرفان التي هي عبارة عن الفناء في ذاته سبحانه. والمحجوبون المجبولون على الغفلة المنهمكون في الغي والضلال يتعجبون عن ارشاد الأنبياء والأولياء عباد الله الى فضاء توحيده وينكرون لياقتهم للنبوة والرسالة انما هو لجهلهم بدقائق المناسبات ورقائق الارتباطات الواقعة بين الحق والإنسان الكامل ويقيسون احوال الأنبياء والأولياء الى احوال آحاد الناس ولم يتفطنوا ان أفضل البشر أفضل من أفضل الملائكة لتحققهم في مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية بجمعيتهم دونهم لعدم جمعيتهم لذلك رد الله سبحانه على هؤلاء الجهلة بما هم عليه من التعجب والإنكار ووبخهم بما وبخهم ليتنبه المؤمنون على ما هو الحق فقال متيمنا باسمه العظيم ومخاطبا على رسوله الكريم بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على ما ظهر بمقتضى أوصافه وأسمائه الكامنة في وحدة ذاته فتتراءى متكثرة بكثرة أسمائه وصفاته الرَّحْمنِ على عموم مظاهره بالامداد الدائم المتجدد حسب تجلياته الذاتية الحبية الرَّحِيمِ على خلاصة مظاهره وزبدة مكوناته التي هي الإنسان الجامع لجميع مراتب المظاهر بالنبوة العامة والولاية التامة الشاملة لكلتى مرتبتي الاول والآخر والظاهر والباطن في المبدأ والمعاد باعتبار النشأتين
[الآيات]
الر ايها الإنسان اللبيب الرشيد اللائق للرسالة العامة والرياسة الكلية الكاملة الشاملة على كافة البرية تِلْكَ الآيات المنزلة عليك في هذه السورة آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ اى بعض آيات الكتاب الإلهي الذي هو حضرة علمه المحيط ولوح قضائه المحفوظ ناطقة بالصدق والصواب على مقتضى(1/324)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
الحكمة المتقنة الإلهية نازلة من عنده لتصديقك وتأييدك يا أكمل الرسل في عموم تبشيراتك وانذاراتك وفي جميع لوازم نبوتك ورسالتك وارشادك لأهل الغي والضلال
أَكانَ لِلنَّاسِ الناسين بطلان هوياتهم الباطلة عَجَباً اى سبب تعجب واستغراب أَنْ أَوْحَيْنا بان ألهمنا من محض فضلنا وجودنا إِلى رَجُلٍ فاش مِنْهُمْ ظاهر من جنسهم وبنى نوعهم أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ المنهمكين في الغي والضلال بمقتضى اهوية هوياتهم الباطلة وماهياتهم العاطلة تعجبا ناشئا واستغرابا منتشأ عن محض الغفلة والنسيان والاعراض عن الحق والانحراف عن طريق التوحيد وجادة الإسلام وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل منهم ارباب المحبة والولاء الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا برسالتك وارشادك نحو وحدة ذات الحق واستقلاله في الوجود وما يتفرع عليه من الأسماء والصفات والآثار المترتبة عليها والشئون المتجددة بها أَنَّ لَهُمْ اى بان لهم قَدَمَ صِدْقٍ اى اقداما صادقا وقدما راسخا ثابتا في جادة التوحيد وارادة خالصة مقبولة عِنْدَ رَبِّهِمْ وهم معدودون عنده سبحانه من زمرة السابقين المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ثم لما ظهر شأن الرسول وعلا قدره وشاع دينه وكثر اتباعه قالَ الْكافِرُونَ المصرون على الشرك والعناد من خبث طينتهم وشدة بغضهم وشكيمتهم بعد ما أبصروا منه خوارق عجزوا عنها سيما القرآن الكامل في الاعجاز البالغ على مراتب البلاغة إِنَّ هذا المدعى للرسالة والنبوة لَساحِرٌ مُبِينٌ ماهر ظاهر متفرد في فن السحر وحيد في عصره فيه. ومن قرأ لسحر أراد به القرآن المعجز لجمهور البلغاء مع توفر دواعيهم في معارضته وصاروا من عجزهم بحيث لم يقدروا على إتيان اقصر آية منه وكيف يعارضون مع رسوله ومع الكتاب المنزل من عنده سبحانه اليه
إِنَّ رَبَّكُمُ ايها المؤمنون اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد القيوم المطلق الَّذِي خَلَقَ وقدر ببسط عكوس أسمائه ومد اظلال أوصافه ورش رشحات نوره السَّماواتِ اى العلويات التي هي عبارة عن الأعيان الثابتة وَالْأَرْضَ اى عالم الطبيعة القابلة للانعكاس منها فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اى في الجهات الست كلها إذ يتوهم الامتداد والابعاد والأقطار فيهما وفي ما بينهما وبالقياس إليهما ثُمَّ اسْتَوى واستولى بلا توهم التراخي والزمان والمهلة على ما يقتضيه لفظة ثم بل بلا اين وكيف وكم عَلَى الْعَرْشِ المفروش المبسوط القابل لانعكاس اشعة أسمائه وأوصافه مطلقا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى شئون الحوادث الكائنة بالاستقلال ما مِنْ شَفِيعٍ من المظاهر والمصنوعات يشفع لاحد عنده سبحانه إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وإمضاء مشيئته ونفاذ قضائه ذلِكُمُ اللَّهُ اى الموصوف المتفرد المتوحد في ذاته بالالوهية المستقل في آثاره وتدابيره بالربوبية رَبَّكُمُ اى مربيكم وموجدكم ايها الاظلال الهلكى فَاعْبُدُوهُ حق عبادته حتى تعرفوه حق معرفته أَفَلا تَذَكَّرُونَ وتتفكرون وحدة ذاته وعظمة أسمائه وصفاته ايها العقلاء المجبولون على التفكر والتذكر في آلاء الله وجلائل نعمائه وكيف لا تتفكرون آلاء الله ايها الغافلون
مع انه إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود مَرْجِعُكُمْ ورجوعكم جَمِيعاً كما قال سبحانه ثم إلينا مرجعكم. وإلينا ترجعون. الى غير ذلك من الآيات واعلموا ايها المكلفون ان وَعْدَ اللَّهِ العليم الحكيم الذي لا يخلف ميعاده أصلا حَقًّا محققا ثابتا لازما حتما بلا تغيير ولا تبديل وكيف لا يكون وعده سبحانه حقا إذ هو سبحانه قادر على عموم المقدورات والمرادات المثبتة في حضرة علمه ولوح قضائه ومن كمال قدرته إِنَّهُ بذاته وحسب أسمائه وصفاته(1/325)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ويظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا بلا سبق مادة ومدة ثم يعدمه إظهارا لقدرته الغالبة ثُمَّ يُعِيدُهُ في النشأة الاخرى لإظهار سرائر تكاليفه التي قد كلف بها عباده في النشأة الاولى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدته وصدقوا رسله فيما مضى وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم من لدنه سبحانه بالسنة كتبه ورسله جزاء حسنا مقرونا بِالْقِسْطِ والعدل القويم ويتفضل على من تفضل عناية منه وامتنانا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأشركوا له سبحانه شيأ من مظاهره بل قد شاركوه معه في أخص أوصافه واشرف أسمائه لَهُمْ في يوم العرض والجزاء بعد ما يحاسبون شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ بدل ما كانوا يتلذذون بالاشربة المحرمة في النشأة الاولى وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بالله ويكذبون رسله عنادا وإصرارا وكيف يكفرون بالله أولئك الحمقى العمى الهالكون في تيه الغفلة والضلال وظلمة الجهل وسوء الفعال
مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً محضا ليكون دليلا على كمال ظهوره واشراقه وشدة جلاء وجوده وانجلائه وَجعل الْقَمَرَ نُوراً يعنى صير القمر مرآة مظلمة في نفسها مستنيرة من ضوء الشمس في ظلمات الليل ليكون دليلا على إضاءته سبحانه في مشكاة التعينات وظلمات الهويات وَقَدَّرَهُ اى للقمر مَنازِلَ متعددة تسهيلا لكم وتدبيرا لأموركم لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ التي تحتاجون إليها في معاملاتكم وتجاراتكم وحراثتكم كما قدر منازل نور النبوة والولاية في مشكاة الأنبياء والأولياء الوارثين منهم لتقتبسوا أنتم أنوار الايمان المزيحة لظلم الكفر والعصيان من مصابيح أولئك الأمناء الكرام وتتوسلوا بها الى ان تستضيئوا بضياء الشمس الحقيقية الحقية التي لا افول لها أصلا. ثم قال سبحانه ترغيبا لعباده وتنبيها لهم على اصل فطرتهم ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ اى ما اظهر وأوجد ما أوجد في عالمي الغيب والشهادة حسب أسمائه وأوصافه الا ملتبسا بالحق الثابت الصريح بلا احتياج فيه الى الدلائل والشواهد إذ لا شيء اظهر من ذاته سبحانه حتى يجعل دليلا عليها كما قال سبحانه يُفَصِّلُ ويوضح الْآياتِ المنبهة عليها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يتحققون بمرتبة اليقين العلمي ليترقوا منها الى اليقين العيني والحقي. واما المحجوبون فهم من عداد البهائم والانعام لا يرجى منهم الفلاح لكثافة حجبهم وغلظ غشاوتهم
وبالجملة إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وإيلاجه في النهار وَالنَّهارِ وإيلاجه في الليل وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي أوضاع السَّماواتِ من الأمور المقتضية لاختلافهما وَالْأَرْضِ من المكنونات الكائنة فيها على مقتضى تربية العلويات وتدبيراتها لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على قدرة القادر الحكيم المتقن في امره وفعله لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ويحذرون عن قهر الله ويلتجئون اليه سبحانه عن غضبه وسخطه
ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والوعيد إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لإنكارهم اعادتنا إياهم في يوم الجزاء لنجزيهم وفق ما عملوا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا المستعارة بلا التفات منهم الى دار القرار وَاطْمَأَنُّوا بِها اى وطنوا ومكنوا أنفسهم بلذاتها وَبالجملة أولئك الحمقى الجاهلون هم الَّذِينَ هُمْ من شدة قساوة قلوبهم وغباوة فطنتهم عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ذاهلون مع غاية وضوحها وظهورها غفلة لا يرجى انتباهم منها أصلا
وبالجملة أُولئِكَ البعداء المعزولون عن مقتضى العقل الفطري المستفاد من العقل الكل الذي هو عبارة عن حضرة العلم المحيط الإلهي مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والعصيان ومخالفة العقل المفاض ومتابعة الوهم والخيال.
ثم قال سبحانه على مقتضى(1/326)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد وبالعكس إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأيقنوا بتوحيده وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة من عنده لإصلاح أحوالهم يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ الى فضاء وحدته بِإِيمانِهِمْ وبسبب يقينهم العلمي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى جداول المعارف والحقائق المنتشئة من بحر الوحدة الذاتية منصبغة باليقين العيني والحقي فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يعنى هم متمكنون مخلدون في مستلذاتهم الروحانية ابد الآباد
دَعْواهُمْ ومناجاتهم مع ربهم وحاجاتهم معه فِيها بعد ما انقطعوا عن السلوك والتكميل سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ يا مولانا انما حسب ما علمتنا بمقتضى فضلك وجودك ننزهك تنزيها بليغا ونقدسك تقديسا كاملا عن عموم ما لا يليق بجناب قدسك وَتَحِيَّتُهُمْ اى ترحيب بعض ارباب الدرجات على بعض مع تفاوت مقاماتهم ومراتبهم فِيها سَلامٌ وتسليم لتحققهم بمقام الرضا ومقعد الصدق والتسليم وَآخِرُ دَعْواهُمْ بعد وصولهم الى غاية مأمولهم الذي هم جبلوا لأجله أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ والمنة والثناء لله المنعم المتفضل رَبِّ الْعالَمِينَ الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم تفضلا منه سبحانه وامتنانا.
ثم قال سبحانه حثا لعباده الى الرجوع والتوجه نحوه وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ المدبر لأمور عباده لِلنَّاسِ الشَّرَّ حين استعجلوه منه سبحانه لغرض من الأغراض او استحقوا له بعمل من الأعمال اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ كاستعجال الخير لهم حين طلبوا ودعوا لأجله او اعطاهم تفضلا منه إياهم لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ يعنى قد انقرض مدة حياتهم البتة بحلول أجلهم المقدر المعهود حين دعائهم واستحقاقهم ولكن قد امهلناهم رجاء ان يستغفر منهم من يستغفر وبالجملة فَنَذَرُ ونترك المصرين الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ورضوا بالحياة الدنيا واقتصروا عليها وأنكروا يوم البعث والجزاء فِي طُغْيانِهِمْ المتجاوز عن الحد يَعْمَهُونَ ويترددون زمانا امهالا وتهويلا لعذابهم
وَمن شدة عمههم وطغيانهم إِذا مَسَّ وعرض الْإِنْسانَ الضُّرُّ اى ما يضره من مضر مؤلم ومصيبة مفجعة مفزعة دَعانا مشتكيا إلينا مقترحا ملحا باثا شكواه عندنا ملقيا لِجَنْبِهِ ان لم يقدر على غيره من الأوضاع أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ان قدر متضرعا متفجعا مستكشفا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ وعجلنا له مراده مَرَّ وتجاوز عنا وتباعد من أمرنا ولم يلتفت الى حكمنا أصلا بل صار من شدة عمهه وغفلته كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا قط إِلى كشف ضُرٍّ قد مَسَّهُ وبالجملة كَذلِكَ اى مثل ما سمعت يا أكمل الرسل قد زُيِّنَ اى حبب وحسن لِلْمُسْرِفِينَ المنهمكين في الغي والضلال ما كانُوا يَعْمَلُونَ من مخالفة امر الله ومخاصمة رسوله والمؤمنين المتابعين له والإصرار على ما هم عليه من العتو والعناد.
ثم قال سبحانه مهددا مقسما وَالله يا اهل مكة لَقَدْ أَهْلَكْنَا حسب قهرنا وجلالنا الْقُرُونَ الماضية مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا اى حين ظلموا مثل ظلمكم وخرجوا عن طاعة الله واقامة حدوده مثل خروجكم وَهم ايضا أمثالكم إذ قد جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ اى بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة الدالة على صدقهم انما جاءوهم ليمتنعوا عماهم عليه من الظلم والعناد وَهم ما كانُوا اى أولئك الأمم لِيُؤْمِنُوا لرسلهم وأنبيائهم وما يصدقوهم فيما جاءوا به أمثالكم بل قد كذبوهم أمثالكم وأصروا على ما هم عليه بل زادوا عليه عنادا ومكابرة فأخذناهم بظلمهم وأهلكناهم بإصرارهم بعد ما نبهنا عليهم فلم ينتبهوا وبالجملة كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ المصرين على الجرائم مع ورود الزواجر والروادع
ثُمَّ بعد إهلاكهم واستئصالهم قد(1/327)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ منهم وصيرناكم خلفاء عنهم فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ واختبرناكم بما اختبرناكم وابتليناكم أمثالهم لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أنتم ايضا أتعملون الخير فنجازيكم خيرا أم تعملون الشر فنجازيكم شرا مثل ما جزيناهم
وَهم قد كانوا من شدة انهماكهم في الغفلة والغرور والغي والضلال أمثالكم إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على كمال عظمتنا ووفور قدرتنا على وجوه الانعام والانتقام مع كونها بَيِّناتٍ واضحات مبينات لأحوال النشأة الاخرى وأهوالها وانكالها قالَ الكافرون المسرفون الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أمثالكم بل ينكرون الحشر والنشر والثواب والعقاب وعموم ما يترتب على النشأة الاخرى فكيف لقاءنا فيها ائْتِ ايها المدعى من عند ربكم بِقُرْآنٍ وكتاب غَيْرِ هذا القرآن والكتاب إذا أردت ان نؤمن لك أَوْ بَدِّلْهُ وغيره بعض آياته المشتملة على الإنذارات البليغة والتخويفات الشديدة فانا لا طاقة لنا بها وانما قصدهم وغرضهم بقولهم استهزاء وسخرية برسل الله واستخفاف بكتاب الله أمثال هؤلاء القائلين المسرفين المستهزئين بك وبكتابك يا أكمل الرسل قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم كما قال أولئك الرسل الكرام في جواب أممهم بمقتضى وحينا والهامنا ما يَكُونُ اى ما يصح وما يجوز لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ واحرفه مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي بمقتضى اهويتهم الفاسدة بل إِنْ أَتَّبِعُ اى ما اتبع وانتظر انا إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وليس في وسعى وطاقتي سوى الاتباع والانتظار وكيف أتصرف فيه إِنِّي أَخافُ بمجرد ان اسمع منكم قولكم هذا العصيان على نفسي فكيف إِنْ عَصَيْتُ بقصد التبديل والتغيير رَبِّي وقد استوجبت حينئذ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ كما استوجبتم أنتم بسؤالكم هذا على سبيل الإلحاح والاقتراح
قُلْ يا أكمل الرسل ايضا إلزاما لهم وتبكيتا لَوْ شاءَ اللَّهُ اى لو تعلق مشيئته بغير هذا المتلو ما تَلَوْتُهُ انا عَلَيْكُمْ هذا وما أوحاه سبحانه على وما أجراه على لساني وَلا أَدْراكُمْ بِهِ اى ما أعلمكم بهذا وما أسمعكم من لساني ايضا ولكن قد تعلق مشيئته بهذا فاوحاه وأجراه وامر باسماعه فأسمعكم والا فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مدة أربعين سنة مِنْ قَبْلِهِ اى قبل وحى القرآن بلا تلاوة وادراء واعلام أَفَلا تَعْقِلُونَ وتستعملون عقولكم في هذا الأمر ولا تدبرون ولا تدربون فيه مع انكم من اهل الدرية والدراية متدربون بأساليب الكلام بالغون فيه أقصى الغاية حتى ينكشف لكم ان امر القرآن ليس منى بل هو خارج عن حيطة حولي وقدرتي مطلقا
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ونسب اليه ما لم يصدر عنه افتراء ومراء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ التي قد صدرت عنه ونزلت على رسله وأنبيائه لإصلاح احوال عباده وإرشادهم الى مبدئهم ومعادهم وبالجملة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ المفترون عليه بالأباطيل الزائغة المكذبون كلامه المنزل من عنده على رسله
وَكيف يفلحون ويفوزون أولئك المسرفون بالفلاح وهم من شدة ضلالهم يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بذاته المستقل بألوهيته ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ إذ هم ليسوا من ذوى القدرة والارادة بل من جملة الجمادات المعطلة التي لا شعور لها أصلا وَيَقُولُونَ من كمال غفلتهم وضلالتهم هؤُلاءِ الأصنام والتماثيل العاطلة شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ ينقذوننا من بأس الله وبطشه ان تحقق وقوعه قُلْ لهم يا أكمل الرسل تسفيها وتحميقا أَتُنَبِّئُونَ وتخبرون بقولكم هذا اللَّهِ العالم بالسرائر والخفايا بِما لا يَعْلَمُ من الأمور الكائنة فِي السَّماواتِ وَكذا بما لا يعلم ايضا فِي الْأَرْضِ من الكوائن فيها مع انه سبحانه في ذاته وحسب أسمائه وصفاته لا يعزب ولا يغيب(1/328)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
عن حيطة حضرة علمه المحيط شيء من الأشياء لا في الأرض ولا في السماء سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ من الأوثان والتماثيل التي لا شعور لها أصلا مع انها من أدون المظاهر واخس المخلوقات وبالجملة ما قدروا الله أولئك الحمقى حق قدره لذلك نسبوه اليه ما هو منزه عنه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وَما كانَ النَّاسُ المجبولون على مظهرية الحق المنعكسون من اظلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً ملتجئة الى الله مقتبسة من أنوار تجلياته منعكسة منها فَاخْتَلَفُوا اى الاظلال الهالكة باختلاف صور الأسماء المتقابلة والأوصاف المتضادة المتخالفة حسب شئون التجليات المتجددة في الكمالات المترتبة عليها وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل لتسويتهم وتعديلهم في النشأة الاخرى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالعدالة والقسط فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في هذه النشأة بلا تأخير الى اخرى لكن الحكمة المتقنة الإلهية تقتضي تأخيرها لذلك أخر أمرهم وحسابهم وعذابهم لئلا يبطل سر التكاليف وحكم الأوامر والنواهي ومطلق الاحكام الواردة من عنده سبحانه
وَمن خبث طينتهم وشدة شكيمتهم يَقُولُونَ بعد ما اقترحوا عنه صلّى الله عليه وسلّم بالآيات ولم تنزل لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ من الآيات المقترحة مع ان دعواه ان ربه قادر مقتدر على عموم المقدورات والمرادات بحيث لا يخرج عن حيطة قدرته شيء فَقُلْ في جوابهم بلى ان الله قادر على جميع المقدورات ومن جملتها مقترحاتكم الا ان في عدم انزالها وإنجاحها حكمة غيبية ومصلحة خفية إلهية لا يعلمها الا هو إِنَّمَا الْغَيْبُ كله لِلَّهِ وفي حيطة حضرة علمه فَانْتَظِرُوا بتعلق ارادته بمقترحاتكم إِنِّي مَعَكُمْ ايضا بلا تفاوت بيني وبينكم في عدم الاطلاع على غيبه مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمسرفين وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً خلاصا ونجاة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ واضطرتهم الى الرجوع والتوجه نحونا إِذا لَهُمْ مَكْرٌ اى قد فاجؤا بعد نزول الكشف والرحمة نحو المكر والخديعة مع نبينا والطعن والقدح فِي آياتِنا قُلِ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا اللَّهُ المطلع على ما في ضمائركم ومخايلكم أَسْرَعُ مَكْراً وأشد تدبيرا وانتقاما على مكركم وخداعكم قد أعد واثبت لكم سبحانه في حضرة علمه ولوح قضائه عذاب مكركم واشهد عليكم ملائكته كما قال إِنَّ رُسُلَنا الموكلين عليكم المراقبين لأحوالكم يَكْتُبُونَ في صحائف أعمالكم ما تَمْكُرُونَ وتحيلون مع الله ورسوله وكيف لا يراقبكم ويحافظ عليكم
مع انه سبحانه هُوَ القادر المقتدر الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ اى يمكنكم على السير والسياحة فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ليجرب إخلاصكم وتقويكم ورسوخكم على الايمان حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ اى السفينة والجوار وَجَرَيْنَ الجواري بِهِمْ اى بمن فيها بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ معتدلة موافقة لسيرها وَفَرِحُوا بِها وبجريها على مرادهم جاءَتْها بغتة رِيحٌ عاصِفٌ شديد الهبوب مزلزل لها محرك إياها وَمن شدة هبوبها وتحريكها البحر قد جاءَهُمُ الْمَوْجُ الهائل مثل الجبال الرواسي مِنْ كُلِّ مَكانٍ اى جانب وجهة وَظَنُّوا من غاية ارتفاع الأمواج المتوالية المتتالية أَنَّهُمْ قد أُحِيطَ بِهِمْ بأسباب الهلاك فتقع عليهم وتستأصلهم وحينئذ دَعَوُا اللَّهَ ملتجئين متضرعين مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مقتصرين الإطاعة والانقياد له سبحانه إذ لا تعارض حينئذ للأهواء الفاسدة والآراء الباطلة قائلين مقسمين والله لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا ربنا بفضلك وجودك مِنْ هذِهِ البلية الهائلة المحيطة بنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمك المتذكرين دائما بحقوق جودك وكرمك
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ اجابة لدعائهم وكشفا لضرهم وبلائهم(1/329)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
إِذا هُمْ يفاجئون الى الكفران ويسارعون نحو الطغيان بحيث يَبْغُونَ ويطلبون الفساد فِي الْأَرْضِ المعدة للعبادة والصلاح بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا رخصة شرعية بل عن بغى وعناد. التفت سبحانه من الخطاب الى الغيبة تنبيها على غاية بعدهم وطردهم عن ساحة عز الحضور والقبول لذلك ابعدهم بالغيبة بعد ما قربهم بالخطاب. ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون نعمة الإنجاء والتخليص عن ورطة الهلاك إِنَّما بَغْيُكُمْ وكفرانكم الذي قد فاجأتم به بدل الشكر والإطاعة في النشأة الاولى وبال عائد عَلى أَنْفُسِكُمْ في النشأة الاخرى إذ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا والتمتع بلذاتها وشهواتها والركون الى مزخرفاتها قليل حقير نزر يسير لا ينبغي للعاقل ان يترك الباقي لأجل الفاني واللذة الروحانية الدائمة المستمرة للذة الجسمانية المتناهية القصيرة ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلَيْنا لا الى غيرنا إذ لا غير في الوجود معنا مَرْجِعُكُمْ ومصيركم رجوع الاظلال الى ذي الظل والأضواء الى الشمس فَنُنَبِّئُكُمْ اى نخبركم ونعمل بكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بمقتضى عملكم ان خيرا فخير وان شرا فشر
وبالجملة إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا اى شئونها الغريبة وحالاتها العجيبة التي كنتم تغترون بها وتميلون إليها وتفتخرون بمزخرفاتها ومموهاتها وأمتعتها وأبنيتها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ وامتزج بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ اى ترابها المنبتة للنبات وحصل مِنَ اختلاطهما وامتزاجهماما يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من انواع البقول والحشائش حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وشرعت القوة النامية لتربيتها وَازَّيَّنَتْ اى تزينت بأنواع البهجة والتزيينات وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ متمكنون عَلَيْها وعلى جمعها وحصادها وأخذ قطوفها وغلاتها أَتاها أَمْرُنا وحكمنا بغتة بإهلاكها واستئصالها لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً محصودا قبل بدو صلاحها بل مقطوعا عن أصلها الى حيث كَأَنْ لَمْ تَغْنَ ولم تنبت فيها منها شيء بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ نوضح ونمثل الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويستعملون عقولهم بإدراك الممثل والممثل به وبعد تعقلهم وتفكرهم يتنبهون ان الدنيا وحياتها ما هي الا سراب غدار وغرار وبرق بلا قرار من اغتر بغرورها هلك عطش الأكباد ومن استنار بنورها فقد ضل عن سبيل الرشد والسداد
وَبالجملة اللَّهُ الهادي لعموم عباده يَدْعُوا جميعهم إذ اصل جبلتهم وفطرتهم مجبولة على التوحيد والإسلام إِلى دارِ السَّلامِ اى الى مقر التوحيد الذي من تمكن فيه سلم عن جميع الآثام وسار عموم أموره الى العليم العلام القدوس السّلام وَبعد دعوته سبحانه عموم الأنام الى دار السّلام يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ويوفق من يشاء من خلص عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده الا وهو دين الإسلام المنزل على خير الأنام تتميما لحكمة التكاليف المنزلة من عنده وتمييزا بين اهل الهداية والضلال من عباده واصحاب الجنة والنار على تفاوت طبقاتهم
لذلك قال سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الأدب في هذه النشأة مع الله ورسله وامتثلوا بعموم ما جاءوا من عنده سبحانه في كتبه المنزلة على رسله تعبدا وانقيادا ايمانا واحتسابا الْحُسْنى اى المثوبة العظمى والدرجة العليا بدل إحسانهم في الدنيا عدلا من الله وَزِيادَةٌ عليها الا وهي رضوان الله عنهم عناية وتفضلا وَصاروا من صفاء عقائدهم وإحسانهم مع الله بحيث لا يَرْهَقُ ولا يلحق وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ اى غبار الغفلة والندامة وَلا ذِلَّةٌ صغار وهوان من التواني والتكاسل في احتمال التكاليف الإلهية وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله أَصْحابُ الْجَنَّةِ المعدة لأرباب الفضل والعناية هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء بما كانوا يعملون من الخيرات والمبرات
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ(1/330)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
من طغيان نفوسهم ولم يلتفتوا الى ما أمرهم الحق وهديهم اليه رسله يجزون بمقتضى ما اقترفوا جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عدلا منه سبحانه وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ اى تغطاهم غبار المذلة والخذلان بدل ما اكتسبوا من البغي والعدوان ما لَهُمْ حينئذ مِنَ اللَّهِ اى من عذابه وعقابه مِنْ عاصِمٍ حافظ يحفظهم او شفيع يشفع لهم ويخفف عنهم بل صاروا من ظلمة كفرهم وفسقهم كَأَنَّما أُغْشِيَتْ سترت وأحيطت وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً في غاية الظلمة لعدم استنارتهم بنور الايمان والعمل الصالح وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء البعداء الهالكون في تيه الغي والضلال أَصْحابُ النَّارِ المعدة لأهل الغفلة والأهواء هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء بما كانوا يكسبون من الكفر والمعاصي وانواع الجرائم والآثام
وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ اى كلا الفريقين جَمِيعاً مجتمعين في يوم العرض والجزاء ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بنا غيرنا من التماثيل والأصنام الزموا مَكانَكُمْ واستقروا عليه أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ حتى تسألوا عما اجرمتم فَزَيَّلْنا اى فرقنا وفصلنا بَيْنَهُمْ بان رفعنا رابطة العابدية والمعبودية وعلاقة العبادة التي بها وصلتهم وارتباطهم وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ باقدار الله إياهم حينئذ مخاطبين لهم مشافهة براءة لنفوسهم وتنزيها ما كُنْتُمْ ايها الضالون المنهمكون في الغي والضلال إِيَّانا تَعْبُدُونَ بعلمنا وبمقتضى أمرنا إذ لسناح من ذوى العلم واولى الأمر بل تعبدون أنتم أهواءكم وشياطينكم الكامنة في نفوسكم قد افتريتم علينا ونسبتم وانتسبتم بنا عنادا ومكابرة
فَكَفى بِاللَّهِ اليوم فيما مضى شَهِيداً شاهدا حاضرا على ما قد جرى بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ هو اعلم بعلمه القديم إِنْ كُنَّا اى انا كنا عَنْ عِبادَتِكُمْ وعن توجهكم ورجوعكم إلينا لَغافِلِينَ إذ لم نخلق من ذوى الشعور والإدراك في نشأة الاختبار حتى نضلكم ونستعبدكم
وبالجملة هُنالِكَ اى حين احضروا للسؤال والجواب والجزاء والحساب تَبْلُوا اى تختبر وتتفطن كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما أَسْلَفَتْ وكسبت فيما سبق وَبعد تفطنهم وتنبههم رُدُّوا جميعا إِلَى اللَّهِ المتوحد المتفرد للجزاء إذ هو سبحانه مَوْلاهُمُ متولى نعمهم ومتولى أمورهم الْحَقِّ وَما سواه من الآلهة الكاذبة هي الباطلة مع بطلانها قد ضَلَّ غاب وضاع عَنْهُمْ عموم ما كانُوا يَفْتَرُونَ ظلما وزورا وسموهم آلهة وشفعاء افتراء ومراء ولم يبق حينئذ في الوجود والشهود الا الله الواحد القهار ولو كشفوا بسريان وحدة الحق في عموم المظاهر والأكوان الكائنة في جميع الاحياز والأحيان لتحققوا بتوحيده دائما بلا توقف الى يوم القيمة الا انهم لانهماكهم في الغفلة والضلال لم يتنبهوا في النشأة الاولى
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر توحيد الحق واستقلاله في الآثار والتدبيرات الواقعة في الأقطار إلزاما لهم وتبكيتا مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بامطار الأمطار وتصعيد البخار وَالْأَرْضِ بالإنبات والإخراج أَمَّنْ يَمْلِكُ ويستطيع ان يخلق لكم السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ اللتين هما من أعظم اسباب حفظكم وحضانتكم انفسكم بهما وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ الحيوان السوى القوى مِنَ الْمَيِّتِ اى من النطفة الضعيفة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ اى النطفة الجامدة من الحيوان وَبالجملة مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ في عالم الأسباب والمسببات فَسَيَقُولُونَ اضطرارا من غاية ظهوره ووضوحه بحيث لا يمكنهم ان يكابروا اللَّهُ المدبر لجميع الأمور الكائنة في الآفاق والأنفس وبالجملة هم من غاية ظهوره وجلائه لم يمكنهم ان يعاندوا او يكابروا فَقُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اعترفوا بالله المدبر لعموم الكوائن(1/331)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
والفواسد توبيخا وتقريعا أَفَلا تَتَّقُونَ ولا تحذرون من بطشه وانتقامه فلم تشركون له ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى من الحق شيئا
وبالجملة فَذلِكُمُ الذي قد اعترفتم به هو اللَّهُ المتوحد المستحق للالوهية والمعبودية إذ هو رَبُّكُمُ مربيكم ومدبر أموركم وهو لا غيره الْحَقُّ الثابت المتحقق الحقيق بالحقية فَماذا بَعْدَ ثبوت الْحَقُّ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن التعدد والتكثر مطلقا مما اتخذتم آلهة ظلما وزورا إِلَّا الضَّلالُ الباطل العاطل فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ايها الحمقى المسرفون المفرطون وكيف تنصرفون وترجعون الى غيره من الاظلال الهالكة المستهلكة وتنسبونها الى الألوهية والربوبية ظلما وعدوانا
كَذلِكَ اى مثل ما سمعت من ثبوت الألوهية والربوبية له سبحانه حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ اى قد ثبتت وتمت صدقا وعدلا بحيث لا تبديل لكلماته أصلا عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا وخرجوا عن عبادة الله ظلما وعدوانا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولا يوقنون بالله ولا يصلون الى التوحيد أصلا لا علما ولا عينا
قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ اى في وسعهم وقدرتهم مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ اى يوجده ثم يعدمه ثُمَّ يُعِيدُهُ في النشأة الاخرى كما هو شأن الإله المتفرد بالالوهية قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا اللَّهُ القادر المقتدر على عموم المقدورات يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وكيف تشكون والى اين تصرفون وتنصرفون عن جادة التوحيد بالميل الى هؤلاء التماثيل الزائغة العاطلة المعطلة قُلْ يا أكمل الرسل لهم ايضا تبكيتا وإلزاما
هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى طريق الْحَقِّ وصراطه المستقيم الموصل الى توحيده سبحانه فان بهتوا قُلِ اللَّهُ الهادي لعباده يَهْدِي لِلْحَقِّ وطريق توحيده من يشاء من عباده ويوصله الى مرتبة حق اليقين أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ اى الى اليقين الحقي أَحَقُّ أليل وأحرى أَنْ يُتَّبَعَ اى يطاع وينقاد له أَمَّنْ لا يَهِدِّي ولا يهتدى بنفسه الى شيء أصلا إِلَّا أَنْ يُهْدى فاهتدى ان كان من اهل الاستعداد كبعض آلهتكم مثل عزيز وعيسى وبالجملة فَما عرض وأي شيء لحق لَكُمْ ايها الغفلاء المعزولون عن مقتضى العقل كَيْفَ تَحْكُمُونَ بالوهيتهم وشركتهم مع الله مع ان بديهة العقل تأبى عن ذلك
وَبالجملة ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر المشركين في اشراك هؤلاء المنحطين عن درجة الاعتبار مع الله المنزه عن الشريك مطلقا إِلَّا ظَنًّا وتخمينا ناشئا عن تخيلات فاسدة وتوهمات كاسدة من اسناد الآثار الظاهرة الى ظواهر الأسباب مع الغفلة عن المسبب الموجد لها وبالجملة إِنَّ الظَّنَّ والتخمين الذي قد تمسكوا وتشبثوا به لا يُغْنِي ولا يفيد مِنَ الْحَقِّ الصريح الذي هو مناط الايمان والاعتقاد شَيْئاً من الإغناء إِنَّ اللَّهَ المطلع بجميع مخائلهم عَلِيمٌ خبير بصير بِما يَفْعَلُونَ بمقتضى ظنونهم وخيالاتهم واوهامهم فيجازيهم على مقتضى علمه وخبرته وبعد ما نبه سبحانه على بطلان اعتقاداتهم وظنونهم وجهالاتهم أراد ان ينبه ان مستند اهل الايمان الذي هو القرآن الموضح لهم طريق التوحيد والعرفان ليس كذلك
فقال وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ المنزل على خير الأنام المبين لهم قواعد دين الإسلام أَنْ يُفْتَرى ويخيل انه قد صدر مِنْ دُونِ اللَّهِ العليم الحكيم وكيف يصدر هذا من غير الله إذ هو في أعلى مراتب البلاغة ونهاية درجات الاعجاز لصدوره عن الحكمة المتقنة الإلهية التي كلت الافهام دونها وعجزت عموم المدارك والآلات عن دركها فلا يتوهم صدوره عن غير الله أصلا وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ(1/332)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
مطابق لما نزل من عنده من الكتب السالفة بل هو أعلى حكمة وأتم فائدة منها وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ الذي هو عبارة عن حضرة علمه ولوح قضائه وبالجملة لا رَيْبَ فِيهِ انه نازل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وليس في وسع بشران يأتى بمثله أيشكون نزوله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم
أَمْ انزاله من لدنه سبحانه حيث قال يَقُولُونَ افْتَراهُ واخترعه من عنده ونسبه الى الله ترويجا وتعظيما قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما شككتم انه من عند الله بل قد جزمتم بانه من عند غيره مفترى عليه سبحانه فَأْتُوا بِسُورَةٍ قصيرة من مِثْلِهِ في الفصاحة والبلاغة ورعاية المقتضيات والحكم والمطابقات ووجوه الدلالات والتمثيلات والتشبيهات وانواع المجازات والكنايات وَان عجزتم أنتم ادْعُوا واستظهروا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ واستوثقتم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم بانه من كلام البشر مفترى على الله وبعد ما أفحموا عن الإتيان وعجزوا عن المعارضة ومع ذلك لم ينصفوا ولم يقروا بانه معجز ليس من كلام البشر
بَلْ كَذَّبُوا وبادروا الى الرد والتكذيب بِما اى بشيء لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولم يعلموا ولم يفهموا ما فيه بقرائحهم وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ من معلم وملهم بل قد كابروا في تكذيبه بلا سند عقلي او نقلي وبالجملة كَذلِكَ اى مثل تكذيبهم هذا قد كَذَّبَ الأمم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم وكتبهم التي قد جاءوا بها من عند الله فَانْظُرْ ايها المعتبر الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الأوامر المبادرين الى تكذيب الله وتكذيب رسله واعتبر مما جرى عليهم من المصيبات الهائلة فانتظر يا أكمل الرسل وترقب لهؤلاء المكذبين المكابرين أمثالها
وَمِنْهُمْ اى من المكذبين المكابرين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ اى بالقرآن ويصدق بإعجازه في نفسه ويصر على التكذيب ظاهرا عنادا ومكابرة وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ مطلقا لغلظ غشاوته وشدة قساوته وشكيمته وَبالجملة رَبُّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل بأنواع الهداية والصلاح أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ المكذبين المعاندين الذين يفسدون في الأرض بأنواع الفسادات
وَإِنْ كَذَّبُوكَ وأصروا على تكذيبك مع وضوح دلائل صدقك فَقُلْ يا أكمل الرسل على سبيل التبري والتنزه والمجاراة لِي عَمَلِي وانا اجزى به وبمقتضاه وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ تجزون أنتم ايضا بأعمالكم وبمقتضاها وبالجملة أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ منكرون له وَأَنَا ايضا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ بأضعاف برائتكم وآلافها فانتظروا أنتم بجزاء أعمالكم وانا ايضا انتظر بجزاء عملي حتى يأتى وقت الجزاء ويوم العرض والحساب
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ استهزاء وأنت تلتفت الى اسماعهم ارادة ايمانهم وتبالغ فيه مهما أمكنك ليتعظوا وهم لا يسمعون ولا يفقهون لاكنة قلوبهم وصمم اسماعهم أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وتجتهد في اسماعهم واصغائهم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون كلامك لجهلهم المركوز في جبلتهم
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ويعاين دلائل نبوتك ويشاهد اماراتها ومع ذلك ينكر بك وبنبوتك حسدا وبغيا أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وتقدر على تبصيره وَلَوْ كانُوا مجبولين بأنهم لا يُبْصِرُونَ لتعامي بصائرهم وأبصارهم وقساوة قلوبهم
إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا يَظْلِمُ النَّاسَ المستوجبين للعذاب والنكال شَيْئاً مما لحقهم منه وَلكِنَّ النَّاسَ الناسين صرف ما أنعم الله لهم الى ما خلق لأجله أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى هم يظلمون أنفسهم بصرفه الى خلاف ما حكم الله وأظهره له لذلك استحقوا المقت والانتقام
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ(1/333)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
الى أهواله المتطاولة وشدائده المترادفة المتوالية الى حيث يصور عندهم مدة حياتهم في الدنيا لطول ذلك اليوم وشدة أهواله كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ وهم حينئذ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ اى يعرف بعضهم بعضا هذا في أول النشر ثم يشتد عليهم الأمر ويرتفع التعارف والالتفات وتصير كل نفس رهينة بما كسبت وبالجملة قَدْ خَسِرَ وخاب خيبة عظيمة المسرفون الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ في الآخرة وأصروا على ما هم عليه من اقتراف المعاصي ولم يلتفتوا الى الأنبياء والكتب التي قد جاءوا بها من عنده سبحانه لإصلاح أحوالهم في مبدئهم ومعادهم وَما كانُوا ايضا مُهْتَدِينَ بطريق الصلاح والصواب من تلقاء نفوسهم بلا ارشاد مرشد لقصورهم عن الرشد والهداية سيما بلا مرشد هاد
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ اى ان تحقق اراءتنا إياك يا أكمل الرسل بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بالهداية والإرشاد والسلوك في سبيل الصواب والسداد أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل إيصالهم الى فنائك ليسترشدوا منك وليستهدوا من زلال هدايتك وليسترشحوا من رشحات فيضك وجودك ويصفوا من كدر هوياتهم ورين انانياتهم فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ يعنى فاعلم يا أكرم الرسل إلينا مرجعهم جميعا ضالا ومضلا هاديا ومهديا رجوع الاظلال الى ذي الظل والأضواء الى الشمس ثُمَّ بعد رجوعهم اللَّهُ المظهر لهم من كتم العدم لمصلحة العبودية والعرفان شَهِيدٌ مطلع حاضر عالم بعلمه الحضوري عَلى عموم ما يَفْعَلُونَ من المعرفة والايمان والضلال والطغيان يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته
وَاعلموا انه لِكُلِّ أُمَّةٍ اى فرقة وطائفة رَسُولٌ معين في علم الله مثبت في لوح قضائه مرسل من عنده إياهم على مقتضى حكمه وحكمته ليهديهم الى توحيده فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ والعدل الموضوع من عند الله بمقتضى الحكمة البالغة لإصلاح احوال عباده وَبالجملة هُمْ لا يُظْلَمُونَ في يوم الجزاء ولا ينقصون من أجور أعمالهم بل يجازون حسب ما اقترفوا من المعاصي
وَمن خبث بواطنهم يَقُولُونَ لك يا أكمل الرسل مستنكرين عليك مستكبرين مستهزئين معك مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي أوتيت أنت إتيان العذاب علينا فيه عين لنا وقته إِنْ كُنْتُمْ ايها المدعون تابعا ومتبوعا صادِقِينَ في هذه الدعوى مصدقين لمن يدعى الصدق فيه يعنون الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين
قُلْ يا أكمل الرسل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ولا اقدر ان اكتسب عليها ولا لها ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وقدره في سابق قضائه ومتى لم اقدر على افعال نفسي وأحوالها فانى يكون لي قدرة وقوة على استعجال ما في مشيئة الله وما في غيبه وتعيين وقته مع انه لم يأذن لي ولم يوح الى من عنده سبحانه سوى انه لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم بل لكل شخص من الأشخاص سواء كانوا محقين او مبطلين أَجَلٌ معين ووقت مقدر في علم الله إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الذي قد عينه الحق لإهلاكهم فيه لا يمكن التخلف فيه لا استعجال ولا استئخار فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ اى لا يمكنهم طلب التأخير لمحة وطرفة إذ الساعة مصروفة الى مطلق الزمان المتناول للآن والطرفة واللمحة ليدفعوا الضرر ولا يمكنهم ايضا طلب التقديم ليجلبوا النفع بل الأمر حتم في وقته والحكم مبرم في زمانه لا يتجاوز عنه أصلا فانتظروا فسيجيء اجلكم ووقتكم وينجز وعدكم ومتى كان الأجل مبهما ولم يكن لأحد أن يعين وقته
قُلْ لهم توبيخا وتقريعا أَرَأَيْتُمْ اى أخبروني ايها المجرمون المستعجلون للعذاب والنكال إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً اى حال كونكم بائتين في الليل أَوْ نَهاراً حال كونكم(1/334)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
مترددين فيه وعلى اى شأن وفي كل حال يصعب عليكم امره إذ هو يفزعكم ويفجعكم البتة وإذا كان حالكم عند حلول هذا وشأنكم هكذا ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ سبحانه حلوله الْمُجْرِمُونَ المستحقون لانواع العقوبة والعذاب مع انه مكروه كله سيما بالنسبة إليهم
أَتنكرون وتكذبون وتصرون على ما أنتم عليه من الكفر والشرك الى وقت حلول العذاب ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ ونزل آمَنْتُمْ بِهِ والحال ما ينفعكم الايمان حينئذ إذ قيل لكم في تلك الحالة من وراء سرادقات العز والجلال آلْآنَ ايها الضالون المكذبون آمنتم به وَالحال انه قَدْ كُنْتُمْ من شدة انكاركم وإصراركم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ استهزاء وسخرية
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالله بالخروج عن مقتضى أوامره وحدوده سبحانه ذُوقُوا بدل ذوقكم واستلذاذكم بتكذيب الرسل والاستهزاء بهم عَذابَ الْخُلْدِ المستمر الدائم الذي لا ينقطع ابد الآباد وبالجملة هَلْ تُجْزَوْنَ وما تعاقبون أنتم إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في النشأة الاولى من الجرائم العظام والمعاصي والآثام
وَبعد تبليغك إليهم يا أكمل الرسل مآل أمرهم وعاقبة حالهم انهم يَسْتَنْبِئُونَكَ ويستخبرونك على مقتضى أكنتهم المستكنة في قلوبهم أَحَقٌّ هُوَ اى ما أخبرت به من الوعيدات الهائلة يعنى أجدّ هو أم هزل وتخويف قُلْ يا أكمل الرسل مبالغا في تحقيقه وتقريره إِي وَرَبِّي اى اقسم بحق ربي الذي رباني على الصدق والعدالة وانواع الامانة والكرامة إِنَّهُ لَحَقٌّ اى عموم ما أخبرت به بوحي الله والهامه ثابت محقق مطابق للواقع بلا شبهة وتردد في وقوعه وثبوته وَما أَنْتُمْ ولستم في وسعكم وطاقتكم سيما بأمثال هذه الشبهات الواهية والظنون والجهالات الناشئة من الأوهام والخيالات بِمُعْجِزِينَ مسقطين العذاب النازل عليكم
وَكيف تسقطون عذاب الله عنكم ايها الجاحدون الجاهلون مع انه لَوْ فرض وقدر أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ وخرجت عن مقتضى أوامر الله ونواهيه تملكا وتصرفا عموم ما فِي الْأَرْضِ من الخزائن والدفائن جميعا لَافْتَدَتْ بِهِ البتة بل بأضعافه وآلافه ان قبلت الفدية منها فافتدت وَبعد افتدائهم وافدائهم هذه قد أَسَرُّوا النَّدامَةَ واضمروا اليأس والحرمان في نجواهم لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ اى حين عاينوا به وبأهواله وافزاعه وهم حينئذ قد ندموا عما افتدوا بمقابلته وقنطوا عنها مطلقا مستقلين بما افتدوا وافدوا وَبالجملة لم تنفعهم الفدية ولم يفدهم الافتداء أصلا بل قُضِيَ بَيْنَهُمْ وحكم عليهم بِالْقِسْطِ والعدل السوى الإلهي وبمقتضى حكمته وحكومته وَبالجملة هُمْ لا يُظْلَمُونَ في جزاء ظلمهم وكفرهم وكيف يتصور الظلم والجور من لدنه سبحانه مع ان الكل من انجلال أسمائه وعكوس أوصافه
أَلا إِنَّ لِلَّهِ وفي حيطة حضرة علمه وقدرته عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ وَكذا عموم ما ظهر في الْأَرْضِ من الكائنات والفاسدات يعذب من يشاء عدلا منه ويرحم على من يشاء فضلا أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعد لعباده من الثواب والعقاب حَقٌّ محقق ثابت لا محالة إذ لا يجرى الخلف في وعده أصلا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لقصور فهمهم وقلة تدبرهم في أحكامه المبرمة وحكمته المتقنة لا يَعْلَمُونَ حقية وعده ولا يؤمنون بها جهلا وعنادا وكيف يشكون ويترددون أولئك المصرون المعاندون في سعة حوله وقوته وكمال قدرته وتستبعدون منه سبحانه انجاز وعده ووعيده
إذ هُوَ يُحيِي اى يظهر ويوجد بالتجلى الحبى الجمالي أولا هياكلهم وأشباحهم مع انهم لم يكونوا شيأ مذكورا وَبعد ما احيي واظهر عموم ما اظهر يُمِيتُ يعدم بالتجلى القهرى الجلالي(1/335)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
عموم ما ظهر على ما هو عليه من العدم وَكيف لا يقدر سبحانه على اعادتهم احياء بعد اماتتهم للحساب والجزاء وتعديد الأعمال والأحوال مع انهم بعموم أحوالهم وأعمالهم وذواتهم وصفاتهم إِلَيْهِ سبحانه لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُونَ رجوع عموم الأضواء والاظلال الى الشمس وذي الظل
يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون المنشأ الأصلي والموطن الحقيقي قَدْ جاءَتْكُمْ لإيقاظكم وانتباهكم مَوْعِظَةٌ وتذكرة ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة الهداية والدراية وَاعلموا ايها المكلفون ان تذكرتكم هذه شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ يعنى تشفى هذه التذكرة عليكم وتزيل عطش غليلكم وأكنتكم المستكنة في صدوركم وَايضا هي هُدىً يهدى ارباب العناية والقبول الى مقر الوحدة ومنزل الوصول وَبالجملة هي رَحْمَةٌ عامة شاملة لِلْمُؤْمِنِينَ اى لعموم ارباب البر والقبول الموفقين على الانابة والرجوع من لدنه سبحانه فعليكم ايها الأحرار ان تتعظوا وتتذكروا بحكمه وأحكامه وتتأملوا في رموزه وإشاراته وتدربوا في مفاتحه ومطالعه حتى تنكشفوا منه بقدر وسعكم وطاقتكم بما تنكشفون والله هو الهادي الى جنابه من يشاء من عباده وهو العزيز الحكيم
قُلْ يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين إرشادا لهم وتذكيرا بِفَضْلِ اللَّهِ المحسن المتفضل وبحسن قبوله وبشرف عز حضوره وَكذا بِرَحْمَتِهِ اى بمقتضى سعة رحمته الواسعة المتسعة لعموم مظاهره ومصنوعاته فليبسطوا وليتشرفوا فَبِذلِكَ التلذذ والحضور الحقيقي فَلْيَفْرَحُوا بدل ما لم يتلذذوا ولم يفرحوا بالمستلذات الجسمانية الفانية المتناهية وبالجملة هُوَ اى سروركم وفرحكم الروحاني خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من اهوية نفوسكم ومقتضيات هوياتكم ان كنتم موقنين مخلصين
قُلْ أَرَأَيْتُمْ اى أخبروني كيف كفرتم وتصرفتم في ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لأموركم لَكُمْ لمعاشكم وتقوية امزجتكم مِنْ رِزْقٍ مسوق نحوكم محصل بأسباب سماوية مباح لكم فَجَعَلْتُمْ أنتم من تلقاء انفسكم مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا يعنى قد حرمتم أنتم على انفسكم بعضه وحللتم بعضا آخر بلا ورود وحى وشرع ونزول الهام وكتاب قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل المبالغة والإلزام والافحام آللَّهُ أَذِنَ لكم بهذه التفرقة والقسمة ايها المسرفون المفسدون أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أنتم بنسبتها اليه
وَما ظَنُّ اى اىّ شيء هو زعم أولئك المسرفين المفترين الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بأنهم لم يحاسبوا ولم يؤاخذوا ولم يجازوا يَوْمَ الْقِيامَةِ والجزاء على افترائهم على الله ما لم يصدر عنه ولم يوح منه بلى انهم مؤاخذون على اجترائهم على الله وافترائهم إياه سبحانه سيما بعد ورود انواع الزواجر والروادع من الآيات البينات والمعجزات الباهرات الظاهرات الدالة على امتناع هؤلاء الغواة الطغاة من غوايتهم وطغيانهم فلم يمتنعوا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المدبر المصلح لأحوال عباده لَذُو فَضْلٍ عظيم ولطف عميم عَلَى النَّاسِ بانزال الكتب وإرسال الرسل المنبهين عليهم بما هو الأصلح لهم وأليق بحالهم وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لفرط جهلهم وخبث طينتهم لا يَشْكُرُونَ نعمه بل ينكرون عليها ويكفرون بها عنادا ومكابرة
وَكيف ينكرون رسالتك من الله والوحى النازل إليك يا أكمل الرسل من لدنه سبحانه تأييدا لك وتعظيما لشأنك مع انك ما تَكُونُ أنت يا أكمل الرسل فِي شَأْنٍ ولست أنت في امر من ادعاء الرسالة من الله ودعوى التشريع من لدنه سبحانه بلا اذن منه وبلا وحى والهام نازل من عنده وَايضا ما أنت تَتْلُوا مِنْهُ اى من كلامه(1/336)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
سبحانه مِنْ قُرْآنٍ قراءة وتلاوة مدعيا نزوله من عنده سبحانه وَلا تَعْمَلُونَ أنتم ايها المعاندون المكابرون مِنْ عَمَلٍ صالح او طالح خيرا او شرا إِلَّا قد كُنَّا بذاتنا وبجميع أسمائنا واوصافنا عَلَيْكُمْ ايها المكلفون شُهُوداً حضراء رقباء مطلعين على عموم ما قد جئتم وعملتم به بل نحن مطلعونه قبل إِذْ تُفِيضُونَ اى تخوضون وتقصدون الشيوع والشروع فِيهِ او الذب والانصراف عنه وكيف لا نطلع عليه ولا يحيط علمنا به وشهودنا إياه وَما يَعْزُبُ ولا يغيب ولا يفوت عَنْ رَبِّكَ ومربيك ايها المظهر الأكمل للاسم الأعظم الجامع لجميع المراتب الكلية والجزئية الكونية والكيانية المتخلق الكامل بعموم الأخلاق الإلهية مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ كائنة فِي اقطار الْأَرْضِ وأرجائها وَلا كائنة فِي السَّماءِ وفضائها وَكيف يعزب ويغيب عن حيطة حضرة علمه شيء مع انه لا شيء أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ المقدار المذكور وَلا شيء ايضا أَكْبَرَ منه إِلَّا هو مثبت مرقوم فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو حضرة العلم الإلهي ولوح محفوظ القضاء والأعيان الثابتة على اختلاف العبارات وهو ظاهر الابانة والظهور بالنسبة الى ارباب الولاء الباذلين مهجهم في طريق الفناء المستغرقين في بحر الوحدة فانين عن هوياتهم بالمرة
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ المنخلعين عن لوازم بشريتهم بالكلية المنسلخين عن مقتضيات اهوية نفوسهم رأسا لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إذ الخوف والحزن انما هو من لوازم الطبيعة ومقتضياتها وبعد ما انسلخوا عنها وتجردوا عن لوازمها قد فنوا في هوية الحق وصاروا ما صاروا بحيث لم يبق فيهم مبدأ الخوف والحزن والأمن والسرور إذ لا يتصف المعدوم الفاني والموجود الحقيقي الباقي بأمثال هذه الأوصاف الاضداد.
والأولياء هم الَّذِينَ آمَنُوا بالله في بداية سلوكهم وتحققوا بمقام اليقين العلمي وَبعد تمكنهم وتقررهم فيه كانُوا يَتَّقُونَ ويحذرون من سطوة سلطنة صفاته الجلالية لانغماسهم بشواغل اهوية الهويات وانهماكهم بعلائق التعينات ثم لما استخلصوا منها بالإخلاص التام والإخبات الصادق
ُمُ الْبُشْرى
من الله بالفوز العظيم الا وهو تحققهم بمقام الفناء والفناء عن الفناء ايضاي الْحَياةِ الدُّنْيا
ما داموا فيها فِي الْآخِرَةِ
بأضعافها وآلافها إذ هم قد تحققوا بمقام العبودية وتقرروا في مقر التوحيد ووصلوا الى ما اظهر هم الحق لأجله الا وهو المعرفة والشهود والحضور مع الخلاق الودود فنعم المقام المحمود ونعم الحوض المورود ونعم الشاهد المشهود وبالجملة تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
التامات الناطقة بأنواع البشارات والكرامات لِكَ
التبشير الشامل حكمه للنشأتين والباقي اثره حسب المنزلتين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
والفضل الجسيم لأهل العناية من ارباب القبول
وَبعد ما تحققت أنت يا أكمل الرسل بولاية الله واتصفت بولائه ومحبته وفزت بما فزت لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ الفاسد الباطل بالكفر والشرك والتكذيب والاستهزاء ولا تغتم بتهديدهم إياك ولا تبال بمفاخرتهم وخيلائهم ومباهاتهم بالمال والجاه عليك إِنَّ الْعِزَّةَ المعتبرة العظيمة لِلَّهِ المتعزز برداء العظمة والجلال المتوحد بنعوت الكمال والجمال جَمِيعاً بحيث لا يعتد بعزة هؤلاء الغواة العصاة وسيخذلهم الله عن قريب بالقهر والانتقام وينصرك عليهم بالغلبة والاستيلاء إذ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الكاذبة الباطلة الْعَلِيمُ بنياتهم الفاسدة فيها فيجازيهم بمقتضى علمه وينتقم عنهم وفق خبرته. قل يا ايها النبي الهادي لمن يدعى ربوبية الاظلال الهالكة والوهية التماثيل الباطلة تنبيها عليهم وايقاظا لهم عن منام غفلتهم كيف تدعون ايها الحمقى شركة المصنوع المرذول مع الصانع(1/337)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
القديم العليم الحكيم
أَلا إِنَّ لِلَّهِ اى تنبهوا ايها المسرفون الجاهلون بقدرة الله المتوحد المنفرد بذاته المتجلى في الآفاق حسب أسمائه وصفاته مظاهر مَنْ فِي السَّماواتِ اى العلويات من الأسماء والصفات الموسومات بالملائكة وَكذا مظاهر مَنْ فِي الْأَرْضِ من الثقلين وهم مع كمال فضلهم وشرفهم وعلو شأنهم لا يستحقون بالالوهية والربوبية فكيف تستحق هؤلاء الجمادات الساقطة عن درجة الاعتبار وَظاهران ما يَتَّبِعُ المشركون الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ في ألوهيته مستحقين للعبادة كعبادته الا الزور الباطل والزيغ الزائل بل إِنْ يَتَّبِعُونَ وما يقتدون هؤلاء الضالون المشركون المفرطون إِلَّا الظَّنَّ والتخمين الناشئ من جهلهم وغفلتهم عن سرسريان هوية الحق المطلق والثابت في المظاهر كلها لذلك حصروها في مظهر دون مظهر وَبالجملة إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ اى ما هم في ادعائهم وحصرهم هذا الا كاذبون كذبا مبينا آفكون إفكا عظيما تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا كيف تغفلون عن الله ايها الجاهلون
وكيف تشركون معه غيره ايها الجاحدون المحجوبون مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ بكمال قدرته وحكمته لباسا لكم لِتَسْكُنُوا فِيهِ وتستريحوا من المتاعب وَكذا قد جعل لكم النَّهارَ مُبْصِراً لتهتدوا الى مطالبكم في امور معاشكم إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل والتقدير لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما دالة على كمال قدرته ومتانة حكمه وحكمته وتوحده في ألوهيته وتفرده في ربوبيته واستقلاله في التصرف مطلقا بلا مظاهرة احد ومشاركة ضد وند لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سمع تدبر وتدرب واستكشاف تام بعزيمة صادقة صافية عن شوب الغفلة والذهول وهم من كثافة حجبهم وغشاوة قلوبهم واسماعهم وأبصارهم ما قدروا الله حق قدره لذلك نسبوا اليه ما هو منزه عنه سبحانه
حيث قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ وتعالى عما يقول الظالمون في شأنه علوا كبيرا كيف يكون له سبحانه ولد مع انه هُوَ الْغَنِيُّ بذاته عن التعدد مطلقا وليس لغيره وجود أصلا بل لَهُ سبحانه مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ اى العلويات والسفليات حيث ظهر سبحانه حسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا بمقتضى التجلي الحبى الشوقى اللطفى بلا انصباغ له بالكون بل بالتمثل والانعكاس وبامتداد الظل ورش النور إِنْ عِنْدَكُمْ وما معكم وليس دونكم ايها الجاهلون الجاحدون بمعرفة الله وحق قدره مِنْ سُلْطانٍ اى حجة وبرهان بِهذا الادعاء الكاذب والقول الباطل بل ما تتكلمون به الا افتراء ومراء أَتَقُولُونَ وتفترون عَلَى اللَّهِ المنزه المقدس ما لا تَعْلَمُونَ ولا تدركون لياقته بجنابه ايها المفترون المبطلون
قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا للمكذبين المفترين كلاما ناشئا عن محض حكمته إِنَّ المسرفين المفرطين الَّذِينَ يَفْتَرُونَ وينسبون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ولا يفوزون في النشأة الاخرى بمرتبة التوحيد التي هي معراج اهل الكمال بل ما يحصل لهم بافترائهم هذا
وان حصل الا مَتاعٌ اى تمتع قليل فِي الدُّنْيا من الرياسة والجاه ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في النشأة الاخرى ثُمَّ بعد تيقنهم وكشفهم فيها نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بدل ما قد تلذذوا بالمحرمات والمكروهات في النشأة الاولى بِما كانُوا يَكْفُرُونَ اى بشؤم كفرهم وشركهم
وَاتْلُ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ تذكيرا وتعريضا نَبَأَ نُوحٍ اى قصته مع قومه وقت إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ حين استعظموا امره وقصدوا إهلاكه عنادا ومكابرة يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه بمقتضى شفقة النبوة إِنْ كانَ كَبُرَ اى قد(1/338)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
شق وعظم عَلَيْكُمْ مَقامِي فيكم وحياتي بينكم وَتَذْكِيرِي إياكم بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده واستقلاله في ألوهيته وربوبيته فَعَلَى اللَّهِ لا على غيره إذ لا غير معه ولا شيء سواه تَوَكَّلْتُ اى وثقت به وفوضت امرى اليه فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ اى فعليكم ان تجمعوا عموم تدابيركم في قتلى وإهلاكي وَمع ذلك ادعوا شُرَكاءَكُمْ واستظهروا منهم لدفعى ثُمَّ بعد تدبيركم في انفسكم واستظهاركم بهم أظهروا بحيث لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ وشأنكم ولم يبق فيه عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثلمة وسترة أنتم تغتمون بها وتحزنون بسببها بل رتبوا أموركم وأسبابكم كلها على الوجه الذي تقتضيه نفوسكم وترتضيه عقولكم ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وامضوا واصرفوا نحوي جميع ما اعددتم وهيأتم من الأسباب الموجبة لهلاكى ومقتى وَلا تُنْظِرُونِ ولا تمهلون طرفة بل امضوا على دفعة ما أنتم عليه من قتلى ومقتى فاعلموا انى لا أبالي بكم ولا بتدابيركم وظهراءكم إذ الله حسبي وعليه توكلي وبه اعتمادي واعتصامي اذكر لكم باذنه وأعظكم بوحيه على الوجه الذي أمرني واوحانى
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ اى أعرضتم أنتم وانصرفتم عن تذكيري بلا سبب وما هو الا من جهلكم وضلالكم فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ حتى يكون سبب توليكم وأعراضكم سؤالى منكم الجعل ويشق عليكم إعطاؤه فانصرفتم وأعرضتم بل إِنْ أَجْرِيَ اى ما اجرى وما جعلى إِلَّا عَلَى اللَّهِ الذي قد أمرني به وَكيف لا قد أُمِرْتُ انا من عنده أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المسلمين الأمور كلها اليه المنقادين لحكمه وقضائه إذ الكل منه بدأ واليه يعود ومع ذلك النصح والشفقة والتليين التام المنبعث عن محض الحكمة وكذا مع انواع الحجج والبراهين الدالة على صدقه في دعواه
فَكَذَّبُوهُ عنادا ومكابرة وأصروا على تكذيبه عتوا واستكبارا فأخذناهم بالطوفان لانهماكهم في الغي والطغيان فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ اى نجينا نوحا ومن آمن به من الغرق محفوظين فِي الْفُلْكِ التي قد نحتها نوح عليه السّلام بيده بوحي الله إياه وتعليمه وهم قد استهزؤا معه حين اشتغل بنحتها وترتيبها وَجَعَلْناهُمْ اى اصحاب السفينة خَلائِفَ من الهالكين وهم ثمانون مؤمنون بالله مصدقون لرسوله وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ ايها المعتبر الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ المكذبين لنذيرهم ومنذرهم والى اين ادى انكارهم واستكبارهم فاعتبروا يا اولى الأبصار
ثُمَّ لما ازداد أولئك الخلفاء الناجون وتشعبوا الى ان صاروا امما وأحزابا ودار عليهم الأدوار والأكوار وصاروا منصرفين عن طريق الحق مائلين منحرفين عن سبيل الرشد والسداد بَعَثْنا لإصلاح أحوالهم مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد نوح رُسُلًا منهم كل واحد من الرسل إِلى قَوْمِهِمْ وأمتهم فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات الساطعة القاطعة المثبتة لدعواهم من لدنا فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا اى ما تيسر لهم وما صح عندهم وما ثبت لديهم ان يؤمنوا ويصدقوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ اى قبل بعثة الرسل بل قد أصروا على ما هم عليه واعتادوا له بلا تغيير ولا تبديل لتركب جهلهم المركوز في جبلتهم وخباثة طينتهم وبالجملة كَذلِكَ نَطْبَعُ ونختم بختام الغفلة والنسيان عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن حدود الله الراسخين على التجاوز والعدوان حسب فطرتهم
ثُمَّ لما عتوا عن الأمم الماضية من عتوا وأخذنا منهم من أخذنا بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد هؤلاء الرسل الماضين مُوسى وَهارُونَ الذي هو اخوه وظهيره إِلى فِرْعَوْنَ المبالغ في العتو والعناد الى حيث ادعى الربوبية لنفسه من شدة بطره وخيلائه حيث تفوه بكلمة انا ربكم الأعلى وَالى(1/339)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
مَلَائِهِ المؤمنين به المعاونين بشأنه الكافرين بالله مؤيدين بِآياتِنا الدالة على استقلالنا في الآثار وتفردنا في الألوهية والربوبية وعلى صدق رسولنا في عموم ما جاء به من لدنا فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد واستقبلوا بالتكذيب والعناد وَبالجملة هم في سابق علمنا ولوح قضائنا قد كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مجبولين بأعظم الجرائم مستحقين باشد العذاب لذلك أظهروا ما هو كامن مكنون في استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ الحقيق بالاتباع والانقياد مِنْ عِنْدِنا سيما بعد ما قد عارضوا معه مرارا قابلوا بمعجزاته ما قابلوا من السحر والشعبذة تكرارا قالُوا من فرط عتوهم وعنادهم بدل ما صدقوه وآمنوا له بعد ظهور امره وشأنه بالبراهين القاطعة والمعجزات الساطعة إِنَّ هذا الذي جاء به هذا الساحر الكذاب لَسِحْرٌ مُبِينٌ عظيم ظاهر فائق على سحر عموم السحرة
قالَ مُوسى بعد ما سمع منهم هذا آيسا عن ايمانهم قنوطا عنهم متحسرا متحزنا بمقتضى شفقة النبوة موبخا لهم على وجه العظة والتذكير أَتَقُولُونَ ايها الحمقى لِلْحَقِّ الصريح الثابت الصحيح لَمَّا جاءَكُمْ وحين أتاكم لإصلاح حالكم ليورث في قلوبكم تصديقا بوحدانية ربكم ويؤثر فيها انه سحر باطل وزور أَما تستحيون من الله ولا تنصفون وما تخافون من بطشه تقولون سِحْرٌ هذا وَالحال انه لا يُفْلِحُ ولا يفوز بالخير ابدا السَّاحِرُونَ المزورون المبطلون وهذا خير كله عاجلا وآجلا وفوز بالفلاح والنجاح ظاهرا وباطنا
قالُوا على سبيل المكابرة والعناد بعد ما سمعوا من موسى قوله ونصحه أَجِئْتَنا ايها الساحر الكاذب لِتَلْفِتَنا وتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وأسلافنا وَاشتهيت أنت يا موسى اصالة وأخوك تبعا لك ان تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ والعظمة فِي الْأَرْضِ التي كنا مستقرين عليها ساكنين فيها مرفهين وَبالجملة اذهبا الى حيث شئتما ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ مصدقين منقادين
وَبعد ما أفحموا عن براهينهما وحجتهما وعجزوا عن معجزاتهما صمموا العزم لمعارضتهما حيث قالَ فِرْعَوْنُ امرا لأعوانه وانصاره ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ماهر كامل فيه فأرسلوا شرطا لجميع اهل السحر فجمعوا واحضروا على فناء فرعون مجتمعين ثم عينوا الوقت والموعد فخرجوا اليه ليعارضوا معهما
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ الموعد الموعود وحضروا في الميقات المعهود قالوا لموسى تحقيرا له وتهوينا لأمره الق يا موسى ما جئت به من السحر قالَ لَهُمْ مُوسى مستعينا بالله معتصما عليه ملهما من عنده متوكلا عليه أَلْقُوا أنتم ايها المفترون المكذبون أولا
ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا عموم ما جاءوا به من انواع السحر واستحسنوا من فرعون وملائه واستأملوا منه الجعل الكثير وجزموا على الغلبة قالَ لهم مُوسى بعد ما رأى جميع ما القوا ما جِئْتُمْ بِهِ ايها المفسدون المعاندون هو السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ المطلع بعموم مخايلكم سَيُبْطِلُهُ عن قريب ثم القى موسى عصاه بالهام الله إياه فإذا هي تلقف وتلتقم عموم ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فانقلبوا هنالك وصاروا صاغرين وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ منهم لانهماكهم في الإفساد والإسراف المصرين على العتو والعناد
وَبالجملة يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ الثابت عنده ويقرره في مكانه بِكَلِماتِهِ التامات اى بأوامره ونواهيه وآياته ومعجزاته وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ المحرومون عن نور الايمان والتوحيد ذلك التثبيت والتقرير ثم لما ظهر امر موسى وشاع غلبته بين الأنام وفاق معجزاته على عموم ما جاءوا به من السحر(1/340)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
والشعبذة
فَما آمَنَ لِمُوسى منهم مع ظهور صدقه بين أظهرهم إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ شبان قَوْمِهِ اى بنى إسرائيل وسبب توقف شيوخهم بعد الدعوة انهم عَلى خَوْفٍ وخطر عظيم مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الذين يجتمعون حولهم من القبط أَنْ يَفْتِنَهُمْ ويصول عليهم ليقتلهم وَكيف لا يخافون أولئك المظلومون إِنَّ فِرْعَوْنَ المتناهي في العتو والاستكبار لَعالٍ فِي الْأَرْضِ غالب قاهر على عموم من فيها وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في الاستيلاء والبسطة والكبرياء حيث تفوه من كمال كبره بانا ربكم الأعلى
وَبعد ما قد رأى موسى توقف قومه في امر الايمان سيما بعد وضوح البرهان قالَ لهم مُوسى على سبيل العظة والتذكير وتعليم التوكل والتفويض الذي هو من أقوى شعائر الايمان مناديا لهم ليقبلوه عن ظهر القلب يا قَوْمِ أراد به بنى إسرائيل إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ الرقيب الحسيب لعباده فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا في عموم أموركم وحالاتكم إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مسلمين أموركم اليه سبحانه منقادين لحكمه وما جرى عليكم من قضائه
ثم لما سمعوا مقالة موسى تأثروا منها وتذكروا فَقالُوا عَلَى اللَّهِ المتولى لأمورنا تَوَكَّلْنا رَبَّنا يا من ربانا بلطفك وهدانا الى توحيدك لا تَجْعَلْنا بحولك وقوتك فِتْنَةً اى محل فتنة ومصيبة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين قصدوا ان يتسلطوا علينا ويفتنوا بنا
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ التي وسعت كل شيء مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ القاصدين ستر الحق باباطيلهم الزائغة الكائدين الماكرين المخادعين مع من توجه نحوك ورجع إليك
وَبعد ما بثوا شكواهم إلينا وأخلصوا في تضرعهم وتوجههم نحونا قد أَوْحَيْنا إِلى مُوسى اصالة وَالى أَخِيهِ تبعا أَنْ تَبَوَّءا اى اتخذا مباءة ومسكنا ومبيتا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ وأموالهم ان يبنوا بُيُوتاً فيها وَبعد ما بنيتم بيوتا اجْعَلُوا اى كل واحد منكما ومنهم بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ومسجدا تتوجهون فيها الى الله وتتقربون نحوه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها واديموا الميل والتوجه نحو الحق مخبتين خاشعين مخلصين وَبعد ما قد واظبوا على ما أمروا واستقاموا عليه مخلصين بَشِّرِ يا موسى الداعي لهم الى طريق الحق الْمُؤْمِنِينَ المتوجهين نحوه سبحانه بالنصرة على الأعداء في الدنيا وبالكرامة العظيمة في النشأة الاخرى الا وهي الفوز بالوصول الى فناء المولى وشرف لقائه
وَقالَ مُوسى بعد ما تفرس الاجابة والقبول داعيا على الأعداء رَبَّنا إِنَّكَ بفضلك وجودك قد آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً هم يتزينون بها وَأَمْوالًا يميلون إليها ويفتخرون بها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ولم يشكروا لنعمك بل يكفرون بهايا رَبَّنا وانما افتخروا وباهوا بحطامهم لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ضعفاء المؤمنين المتلونين الذين لم يتمكنوا في مقر اليقين ولم يتوطنوا في موطن التمكين رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ اى امحها وأتلفها لئلا يتمكنوا على تضليل عبادك بها وَاشْدُدْ ختمك وطبعك عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا ولا ينكشفوا بالإذعان والقبول حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ المعد لهم بكفرهم وإصرارهم الْأَلِيمَ المؤلم في غاية الإيلام حين رأوا المؤمنين في سرور دائم ولذة مستمرة وجنة النعيم
قالَ سبحانه مبشرا لموسى وأخيه قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما ووقع مناجاتكما في محل القبول ثنى الضمير لان هارون يؤمن حين دعا موسى فَاسْتَقِيما على ما أنتما عليه من الدعوة والزام الحجة ولا تفتروا في شأنكما هذا والزما الصبر والاصطبار إذ الأمور مرهونة بأوقاتها وَلا تَتَّبِعانِّ في الاستسراع والاستعجال سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ولا يحسنون الأدب مع الله في الحاحهم واقتراحهم في طلب الحاجات(1/341)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
وبعد ما تمرنوا بالصبر واستقاموا على ما أمروا مخبتين فازوا بما ناجوا وطلبوا مؤملين
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إذ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ اى عبرناهم من البحر سالمين وذلك حين هم فرعون وملاؤه ان يكبوا على بنى إسرائيل ويستأصلوهم بالمرة فأوحينا الى موسى ان أسر بعبادي ليلا فاسرى بهم فأخبروا فخرجوا على أثرهم على الفور فادركوهم على شاطئ البحر فأوحينا الى موسى بضرب البحر بالعصا فضرب فانفلق البحر وافترق فرقا فعبروا سالمين فلما ابصر فرعون وملاؤه انفلاق البحر وعبورهم منه سالمين فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ واقتحموا في البحر مغرورين بلا مبالاة وتأمل بَغْياً وَعَدْواً ظلما وزورا عتوا واستكبارا فاجتمع البحر بعد اقتحامهم وعاد على ما كان عليه فغرقوا حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ اى فرعون وايس عن حياته وجزم ان لا نجاة له أصلا قالَ في حالة الاضطرار مصرخا صائحا باكيا راجيا الخلاص بمجرد الإقرار آمَنْتُ واعترفت أَنَّهُ اى بانه لا إِلهَ يعبد بالحق إِلَّا الا له الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لما جاء به رسوله موسى وحين تفوه بها فرعون قد هتف هاتف من وراء سرادقات العز والجلال قائلا
آلْآنَ ايها الطاغي الباغي الغاوي آمنت حين انقرض وقت الايمان وانقضى زمانه وَقد أخذت على ما قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ في مدة حياتك وَقد كُنْتَ في زمان طغيانك وعصيانك الذي هو زمان الايمان والعرفان مِنَ الْمُفْسِدِينَ بأنواع الفسادات لا من المؤمنين
فَالْيَوْمَ والآن لا ينفعك إيمانك بل نُنَجِّيكَ ونخرجك من البحر بِبَدَنِكَ بلا روح ونسقطك على الساحل عريانا لِتَكُونَ أنت لِمَنْ خَلْفَكَ من المتجبرين المتكبرين آيَةً زاجرة وعبرة رادعة لهم عن العتو والعناد صارفة لهم عن الجور والفساد وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الناسين عهودنا ومواثيقنا التي قد عهدنا مع استعداداتهم في حضرة علمنا ولوح قضائنا عَنْ آياتِنا الدالة على شدة أخذنا وانتقامنا لَغافِلُونَ مثلك ايها الطاغي
وَبعد ما أهلكنا فرعون وملائه بالغرق لَقَدْ بَوَّأْنا مكنا واسكنا حسب ما وعدنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ اى مقعد صدق وموضع ثبوت واستقرار وتمكين على ما تقتضيه نفوسهم وترتضيه عقولهم وَبعد تمكينهم وتوطينهم قد رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى من أطايب الاغذية والأشربة والفواكه ولذائذها فَمَا اخْتَلَفُوا في امر دينهم قبل نزول الكتاب عليهم بل هم متفقون مجتمعون على ما بلغهم رسولهم وهداهم اليه حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ وانزل عليهم الكتاب فما اختلفوا فيه وتفرقوا فرقا وتحزبوا أحزابا وانحرفوا عن طريق الحق وحرفوا كتابه سيما نعتك وحليتك واوصافك يا أكمل الرسل إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ويحكم عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اى يفصل بينهم ويميز محقهم عن مبطلهم بالاثابة والعقاب
فَإِنْ كُنْتَ يا أكمل الرسل فِي شَكٍّ وريب مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ في كتابك من قصصهم واخبارهم فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ وارجع إليهم لازالة شكك وحل شبهتك وتفحص عنهم حتى تنكشف لك وتحقق عندك وبالجملة لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ الصريح الصحيح الثابت المطابق للواقع بلا شوب ريب عليك مِنْ عند رَبِّكَ يا أكمل الرسل فَلا تَكُونَنَّ أنت فيه مِنَ المُمْتَرِينَ إذ ليس هذا محلا للشك والارتياب إذ لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد عليم
وَبعد ما سمعت ما سمعت يا أكمل الرسل لا تَكُونَنَّ(1/342)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
البتة مِنَ المسرفين المفرطين الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على كمال قدرته ومتانة علمه وحكمته فَتَكُونَ أنت حينئذ مع علو شأنك وسمو برهانك مِنَ الْخاسِرِينَ الساقطين عن مرتبة الخلافة النازلين عن درجة ارباب المعرفة والتوحيد وأمثال هذه الخطابات من الله العليم الحكيم لحبيبه الذي قد ظهر على الخلق العظيم وتمكن على الصراط المستقيم انما هي حث وترغيب للمؤمنين على ملازمة كتاب الله ومحافظة أوامره ونواهيه وتثبيت لهم في ايمانهم وتصديقهم
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ اى ثبتت وجرت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل في سابق علمه ولوح قضائه بكفرهم وشركهم لا يُؤْمِنُونَ بدعوتك وتبليغك إليهم الآيات الرادعة الزاجرة والبراهين الساطعة القاطعة
بل وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ مقترحة لهم منك لم يؤمنوا بك لشدة شكيمتهم معك وكثافة غشاوتهم حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المعد لهم من عند الله العزيز العليم فاعرض عنهم يا أكمل الرسل ودعهم وأمرهم فانا ننتقم منهم
فَلَوْلا وهلا كانَتْ قَرْيَةٌ من القرى الهالكة التي قد أخذوا بظلمهم آمَنَتْ حين حلول العذاب عليهم ولاح اماراته دونهم مثل ما آمن فرعون حين غشيه اليم فَنَفَعَها في تلك الحالة الملجئة إِيمانُها ونجى به عن العذاب إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا حين عاينوا بحلول العذاب وظهر عليهم علامات الغضب الإلهي وأخلصوا لله مخبتين خاضعين خاشعين قد كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ الذي هم يفتضحون بسببه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لو لم نكشف وَبعد ما كشفنا العذاب عنهم قد مَتَّعْناهُمْ بأنواع التمتع وصيرناهم مترفهين إِلى حِينٍ حلول آجالهم المقدرة وذلك انه لما بعث يونس عليه السّلام الى نينوى هي قرية من قرى الموصل كذبوه واستهزؤا به فوعدهم بالعذاب بعد ثلثين او أربعين فلما قرب الوعد الموعود خرج من الأفق سحاب غليظ وغيم اسود ودخان مظلم شديد فغشى قريتهم فهابوا هيبة عظيمة فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه وهموا الى الانابة والتضرع فلبسوا المسوح وخرجوا نحو الصحارى بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرقوا بين والدة وولدها وحن بعضها الى بعض فصاحوا وصرخوا وتضرعوا الى حيث قد علت الأصوات واختلطت الضجيج وأظهروا الندامة وأخلصوا التوبة والانابة فرحمهم الله وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة ولا تستبعد يا أكمل الرسل مثل هذه الألطاف من الله الغفور الرّحيم
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ وتعلقت ارادته بإيمان من على الأرض لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لم يبق على وجه الأرض كافر أصلا بل يؤمنون جَمِيعاً مجتمعين بلا اختلاف وتفرقة لكن قضية الحكمة تقتضي الخلاف والاختلاف والكفر والايمان والحق والباطل والهداية والضلال ليظهر سرائر التكاليف والتحميلات الواردة من الله على السنة رسله وكتبه وكذا سر المجازاة في النشأة الاخرى وحكمة خلق الجنة والنار وجميع الأمور الاخروية والمعتقدات الدينية ومتى جرت حكمة الله على هذا أَفَأَنْتَ يا أكمل الرسل من حرصك على تكثير المؤمنين تُكْرِهُ النَّاسَ وتلجئهم الى الايمان حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ جميعا مع ان بعضهم مجبولون على كفرهم ولم يتعلق ارادة الله ومشيئته بايمانهم
وَبالجملة ما كانَ لِنَفْسٍ اى ما تيسر لها وما وسع في وسعها وطاقتها أَنْ تُؤْمِنَ بالله باختيارها إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وتوفيقه واقداره إذ لا حول ولا قوة الا بالله. وافعال العباد كلها مستندة الى الله ناشئة من مشيئته اصالة ومادام لم تتعلق مشيئته لم يحدث حادث من الحوادث الكائنة فعليك يا أكمل الرسل ان لا تتعب نفسك في هداية من أراد الله إضلاله وضلاله وبالجملة انك لا تهدى من أحببت فكيف سعيت واجتهدت(1/343)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
وأتعبت نفسك ولكن الله يهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم وَمن جملة حكمته سبحانه انه يَجْعَلُ الرِّجْسَ اى الخذلان والحرمان ابدا عَلَى الكافرين الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ولا يستعملون عقولهم التي هي مناط التكاليف الإلهية الى ما خلقوا لأجله ولا يتفكرون ولا يتأملون في الآثار الصادرة من القادر المختار حتى ينكشفوا بتوحيده
قُلِ لهم يا أكمل الرسل على مقتضى رتبة النبوة تهييجا لهم وتحريكا على ما في استعداداتهم وقابلياتهم انْظُرُوا ايها المجبولون على النظر والتأمل ماذا اى اى شيء وذات عظيمة وسلطنة غالبة قاهرة قد ظهر بحسب أسمائه وصفاته فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مظاهر العلويات والسفليات والغيوب والشهادات وَان كان ما تُغْنِي ولا تكفى الْآياتُ الدالة على وحدة الذات المتجلية في عموم الكوائن والجهات وَلا تكفى ايضا النُّذُرُ المبينون المنبهون على مدلولاتها عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ لم يتعلق ارادة الله بايمانهم وتوحيدهم
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ وما يترصدون أولئك المتمردون عن الايمان إِلَّا مِثْلَ ما قد وقع ونزل على أمثالهم في الجرائم والآثام من الخسف والكسف والغرق وغير ذلك من المصائب التي قد أصابت على المشركين المسرفين في أَيَّامِ المفسدين الَّذِينَ خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل هؤلاء المسرفين فان عارضوا معك يا أكمل الرسل مثل ما قد عارض أسلافهم مع أنبيائهم ورسلهم قُلْ لهم تبكيتا وإلزاما مثل ما قالوا اخوانك من الأنبياء الماضين فَانْتَظِرُوا لمقتي وهلاكي إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لمقتكم وهلاككم فالامر بيد الله والحكم في قبضة قدرته ومشيئته
ثُمَّ بعد ما أهلكنا الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل وإصرارهم على الكفر والشرك نُنَجِّي مما أصابهم رُسُلَنا الذين قد أرسلناهم إليهم وَايضا ننجي الَّذِينَ آمَنُوا بنا وصدقوا رسلنا وانقادوا بعموم ما جاء به رسلهم كَذلِكَ اى مثل انجائنا إياهم حَقًّا عَلَيْنا تفضلا منا وامتنانا على عبادنا نُنَجِّي عموم الْمُؤْمِنِينَ المنقادين لرسلنا المتدينين بديننا وعلى ذلك جرت سنتنا ومضت حكمتنا
قُلْ يا أكمل الرسل للمترددين في أمرك ودينك المتمردين عن اطاعتك وانقيادك يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ وريب مِنْ دِينِي الذي هو اسد الأديان وأصحها وأشملها واشرف الملل وأكملها إذ هو مرجع عموم الأديان كما هو مبدؤه لابتنائه على التوحيد الذاتي الذي قد اضمحلت دونه عموم الكثرات وسقطت عنده جميع الإضافات ومع ظهور فضله وكماله ووضوح حجته وبرهانه وعلو شأنه أنتم تشكون فيه فانا أحق ان أشك فيما أنتم عليه وعبدتم اليه فَلا أَعْبُدُ وأتوجه انا الأشباح والتماثيل الَّذِينَ تَعْبُدُونَ أنتم مِنْ دُونِ اللَّهِ لقصورهم عن المعبودية وعدم استحقاقهم للالوهية والربوبية مطلقا وَلكِنْ انا أَعْبُدُ اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ اى يعدمكم ومعبوداتكم بعد ما أظهركم وإياهم من العدم وَأُمِرْتُ من عنده أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين لتوحيده المنقادين لعموم أحكامه
وَايضا أمرت من عنده أَنْ أَقِمْ واستقم وَجْهَكَ اى توجه بوجهك الذي هو يلي الحق لِلدِّينِ الذي قد أنزله إليك لإصلاح حالك حال كونك حَنِيفاً مائلا عن عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة وَبالجملة لا تَكُونَنَّ أنت بحال من الأحوال وشأن من الشئون سيما بعد ما ظهر عليك ولاح عندك حقية دينك وملتك مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يدعون الوجود لغير الله ويشركون معه سبحانه(1/344)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
غيره عنادا وعدوانا
وَمتى عرفت أنت حقيقة الحال وحقيتها وظهر عندك جلية المقال لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الواجب الوجود ما لا يَنْفَعُكَ من الموجودات الباطلة والاظلال الزائلة وَلا يَضُرُّكَ ايضا إذ لا اثر لها من ذواتها ولا وجود لها في أنفسها فَإِنْ فَعَلْتَ أنت وادعيت وجود غير الحق واعتقدت له أثرا فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون على الله بادعاء الوجود والأثر لغيره
وَكيف تدعى وتثبت أنت لغيره وجودا وأثرا مع انه إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ الرقيب عليك ويصبك بِضُرٍّ يسوءك ويحزنك فَلا كاشِفَ لَهُ ولا يرفع ولا يدفع عنك ضرره إِلَّا هُوَ إذ لا شيء سواه ولا اله الا هو وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يسترك تفضلا عليك وامتنانا لك فَلا رَادَّ ولا دافع لِفَضْلِهِ عنك غيره بل يُصِيبُ بِهِ اى بالفضل والحسنى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلا يمنع فضله سبحانه جرائمهم وعصيانهم إذ هُوَ الْغَفُورُ لذنوبهم بعد استغفارهم ورجوعهم الرَّحِيمُ عليهم يقبل توبتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ان أخلصوا فيها
قُلْ يا من بعث لكافة البرايا وأرسل إليهم بالتوحيد الذاتي الذي قد ختم به امر التشريع والإرسال والإنزال وبلغ إليهم عموم ما جئت به من ربك مناديا عليهم ليقبلوا بقبوله يا أَيُّهَا النَّاسُ المكلفون بالعبادة والعرفان قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ الصريح مِنْ رَبِّكُمْ الا وهو الإسلام المبين لشعائر الايمان والعرفان فَمَنِ اهْتَدى بمعالم الإسلام الى التوحيد الذاتي فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وما يكتب الهداية الا لها ولتكميلها ونال ثوابها عليها وَمَنْ ضَلَّ ولم يهتد بنور الإسلام فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وما يقترف الضلالة الا إليها فعاد وبالها عليها وَقل لهم ايضا يا أكمل الرسل ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ حفيظ كفيل لأموركم ضمين لها بل ما انا الا نذير وبشير أبلغكم ما أرسلت به فلكم الخيار وعليكم الاختيار
وَبالجملة اتَّبِعْ أنت يا أكمل الرسل بنفسك عموم ما يُوحى إِلَيْكَ من ربك وامض عليه وبلغ الى الناس على وجه أمرت به وَلا تبال باعراضهم عنك وتكذيبهم بك بل اصْبِرْ على أذاهم وتحمل بمكروهاتهم ولا تفتز عن دعوتك إياهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ المتولى لأمورك بنصرك وغلبتك عليهم بالقتال وبنسخ دينك عموم الأديان وبنشره في جميع الأنحاء والأقطار وَبالجملة هُوَ سبحانه خَيْرُ الْحاكِمِينَ وأفضل الفاضلين إذ هو سبحانه مطلع على سرائر الأمور وخفاياها قادر على عموم الانتقام لمن أراد مقتك واعرض عنك وانصرف عن دينك رب احكم بالخير والحسنى ووفقنا على متابعة سيد الورى
خاتمة سورة يونس عليه السّلام
عليك ايها الطالب لتحقيق الحق العازم الحازم على سلوك سبيل التوحيد والعرفان المستكشف عن اهل الكشف وارباب المحبة والولاء أنجح الله آمالك ويسر لك مآلك ويصونك عما عليك ان تحافظ على شعائر دين الإسلام الذي هو الحق الصريح المنزل من الحكيم العلام على خير الأنام بالعزيمة الصحيحة الخالصة عن شوب الرياء والسمعة الصافية عن كدر الهوى والغفلة وتلازم الاستفادة والاسترشاد من كتاب الله ومن أحاديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكذا ممن سمحت به أكابر الصحابة سيما الحضرة الرضوية المرتضوية وأولاده الكرام وأحفاده العظام سلام الله عليهم وكرم وجوههم والتابعين لهم بإحسان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وكذا مما جاد به المشايخ العظام والا ماجد الكرام(1/345)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
أنار الله براهينهم وقدس الله أسرارهم وكن في عزمك هذا متوجها الى قبلة الوحدة وكعبة الذات مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مصفيا قلبك عن امارات الكثرة والتعدد بحيث ارتفع عنك الالتفات الى نفسك وشأنك ايضا حتى تحل عليك الحيرة المفنية هويتك في هوية الحق المسقطة لتعيناتك رأسا ولا يتيسر لك هذا الا بالركون عن لوازم الطبيعة والخروج عنها وعن ما يترتب عليها من اللذات الوهمية والمشتهيات البهيمية التي هي مقتضيات التعينات العدمية والتشخصات الهيولانية ومتى صفا سرك وسريرتك عن أمثال هذه المزخرفات العائقة عن الاستغراق في بحر الذات قد فزت بما فزت وصرت بما صرت وحكم الله عليك بالخير والحسنى وأسكنك عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وليس وراء الله مرمى لا حول ولا قوة الا بالله وهو يقول الحق وهو يهدى السبيل
[سورة هود عليه السّلام]
فاتحة سورة هود عليه السّلام
لا يخفى على ذوى العبرة والاستبصار واولى الخبرة والاعتبار من المنقطعين نحو الحق المتأملين في كشف غوامض اسرار توحيده بقدر الاستطاعة والاقتدار بتوفيق من عند العليم القدير المجبولين على الحكمة والتدبير من لدن حكيم خبير. ان مبنى الأمر ومناط هذا الشأن العظيم الذي هو التوحيد والعرفان انما هو على العبودية المحضة والتذلل التام والانكسار المفرط المفضى الى افناء الهويات الباطلة في هوية الحق الحقيق بالحقية وفناء التعينات العدمية فيها وذلك لا يحصل الا بمتابعة الرسول البشير النذير المؤيد من لدن عليم قدير ليرشدهم ويهديهم بالتوجه والتبتل الى اللطيف الخبير إذ مرجع الكل اليه كما ان مبدأه من عنده ومصدره لديه ومعاده اليه كما قال سبحانه. وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين. لذلك اخبر سبحانه لرسوله المبعوث على كافة الخلق المبين لهم طريق الرشد في كتابه المنزل عليه بعد احكام آياته وتفصيلها تأييدا له وتقوية لأمره ليهدى به التائهين عن جادة التوحيد المنصرفين عنها بمتابعة الشيطان المريد فقال متيمنا باسمه العظيم مخاطبا على رسوله الكريم بِسْمِ اللَّهِ الذي احكم آيات كتابه الدالة على توحيده لتكون موصلة الى وحدة ذاته لمن تمسك بها الرَّحْمنِ على عباده بتفصيل تلك الآيات تسهيلا عليهم وتوضيحا لهم الرَّحِيمِ لهم بأمرهم بالعبادة والتذلل ليتحققوا بمرتبة حق اليقين الذي هو الصراط المستقيم
[الآيات]
الر ايها الإنسان الأحق الأليق لإعلاء لواء لوامع أنوار الألوهية وارتفاع رايات رموز اسرار الربوبية بين الأنام بالبيان والتبيان هذا كِتابٌ انزل إليك لتأييدك في أمرك وشأنك ومصدق لعموم ما في الكتب السالفة جامع لأحكامها وحكمها قد أُحْكِمَتْ ضممت ونظمت آياتُهُ أشد تنظيم وتضميم وابلغ احكام وإتقان بحيث لا يعرضه خلل واختلال أصلا لا في معناه ولا في لفظه لذلك عجزت عن معارضته عموم ارباب اللسان والبيان مع وفور دواعيهم ثُمَّ بعد أحكامه لفظا ومعنى قد فُصِّلَتْ وأوضحت فيه المعارف والحقائق والاحكام المتعلقة بالعقائد والعلوم اليقينية والقصص المشيرة الى العبر والمواعظ والأمثال المشعرة الى الرموز والإشارات الصادرة مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ متقن في أفعاله خَبِيرٍ تصدر منه الأفعال على وجه الخبرة والاعتبار
ومن اجلة ما حكم فيه واحكم أَلَّا تَعْبُدُوا ايها الاظلال المجبولون على العبادة حسب الفطرة الاصلية إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي قد أوجدكم وأظهركم من كتم العدم بمقتضى جوده باستقلاله إيجادا إبداعيا بمد ظله عليكم ورش نوره إليكم وقل لهم يا أكمل(1/346)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
الرسل تبشيرا وتنبيها إِنَّنِي مع كوني من حملتكم وبنى نوعكم لَكُمْ مِنْهُ اى من الله المتوحد بذاته حسب امره ووحيه نَذِيرٌ أنذركم عما يبعدكم عن الحق حتى لا تستحقوا عذابه وعقابه وَبَشِيرٌ ايضا من لدنه سبحانه أبشركم بما بقربكم نحو جنابه حتى تستحقوا الفوز العظيم من عنده سبحانه
وَايضا قد حكم فيه أَنِ اسْتَغْفِرُوا واسترجعوا في فرطاتكم رَبَّكُمْ الذي رباكم على فطرة المعرفة والتوحيد ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ وترجعوا نحوه وتوصلوا به سبحانه بعد رفع حجب الانابة عن البين وكشف سدل التعينات الوهمية عن العين يُمَتِّعْكُمْ بعد اضمحلال رسومكم وتلاشى هوياتكم في هويته بالرزق المعنوي والغداء الحقيقي من عنده مَتاعاً حَسَناً بمقتضى نشئات أوصافه وأسمائه وتطورات تجلياته الجمالية والجلالية إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو عبارة عن الطامات الكبرى التي قد انقهرت دونها توهمات الاظلال وتحيلات السوى والاعيار وَبعد تسييركم وتنزيلكم من عالم الغيب متنازلين الى عالم الشهادة لاقتراف المعارف والحقائق وترجيعكم منها اليه متصاعدين اظهار لقدرته وسلطته وكمال حكمته ومصلحته التي لا تنكشف الا له ولا تكتنه الا عنده يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ اى يؤتى ويعطى كلا من ذوى العناية الموفقين على الهداية التي قد خلقوا لأجلها فَضْلَهُ اى حقه وحراءه اى قبل منهم ما اكتسبوا من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات واقرهم في النهاية على مقر قد نزلوا عنه في البداية وَقل لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح إِنْ تَوَلَّوْا وتعرضوا وتنصرفوا عن مقتضى إنذاري وتبشيرى فَإِنِّي من غاية اشفاقى لكم وتحننى نحوكم أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ اى من نزول العذاب عليكم سيما يوم العرض الأكبر الذي قد أشرقت فيه شمس الذات الى حيث اضمحلت دونها نقوش الاظلال والعكوس مطلقا وفنى في شروقها السوى والأغيار رأسا ونودي حينئذ من وراء سرادقات العز والحلال عند ارتفاع تراحم الاظلال والأغيار لمن الملك اليوم وأجيب ايضا من وراءها إذ لا مجيب غيره لله الواحد القهار
وبالجملة اعلموا ايها الاظلال المقهورة والعكوس المستهلكة إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق مَرْجِعُكُمْ ورجوعكم جميعا رجوع الظل الى ذي الظل والعكوس الى ما انعكس هي منه وَبالجملة هُوَ سبحانه في ذاته مع انه قاهر فوق عباده عَلى كُلِّ شَيْءٍ من صور العذاب والانتقام قَدِيرٌ لا يخرج عن حبطة قدرته مقدور ولا يعزب عن حضرة علمه معلوم مما جرى عليهم من الأحوال
أَلا إِنَّهُمْ اى المحجوبين الغافلين من غاية جهلهم وغفلتهم عن الله يَثْنُونَ ويعطفون ويحرفون صُدُورَهُمْ عن الميل الى الحق وعن التوجه نحوه طالبين لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ اى يستروا ويخفوا من الله ما تكن صدورهم من الاعراض عن الحق والمخالفة بأوامره ورسله أَلا انهم لم يعلموا ولم يتفطنوا ان الله المطلع بجميع ما جرى ويجرى في ملكه وملكوته يعلم منهم عموم ما جرى عليهم ولاح منهم حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ويطلبون التدثر والتغطى بها وقت رقودهم في مضاجعهم بل يَعْلَمُ منهم جميع ما يُسِرُّونَ في ضمائرهم وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم ومشاعرهم وكيف لا يعلم سبحانه إِنَّهُ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بِذاتِ الصُّدُورِ وبما هو مكنون فيها من السرائر والضمائر
وَكيف يستبعد أمثال هذا من حيطة حضرة علمه المحيط إذ ما مِنْ دَابَّةٍ تتحرك فِي الْأَرْضِ مثلا إِلَّا عَلَى اللَّهِ المتكفل لأرزاق مظاهره ومصنوعاته مطلقا رِزْقُها(1/347)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
اى ما تعيش وتتقوم به وَمع ذلك يَعْلَمُ منشأها ومصدرها في عالم الغيب ويعلم ايضا مُسْتَقَرَّها اى محل قرارها وبقائها في عالم الشهادة ومقدار ثباتها واستقرارها فيها وَيعلم ايضا مُسْتَوْدَعَها ومرجعها في عالم الغيب بعد انقضاء النشأة الاولى وبالجملة كُلٌّ من الأحوال والأطوار والنشأة الطارية عليها بحيث لا يشذ شيء منها مثبت مسطور يعلم تقديره ومحفوظ فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو حضرة علمه ولوح قضائه
وَكيف تنكرون ايها المنكرون احاطة علمه وتستخفون منه سبحانه شيأ من مخايلكم وانى يعزب ويغيب عن علمه شيء مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي خَلَقَ اى أبدع واظهر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات اللتين هما بمثابة الآباء والأمهات والفواعل والقوابل لنشأتكم وظهوركم فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لتحيطوا بالجهات كلها وَقد كانَ عَرْشُهُ اى مجلاه ومحل بروزه وتشعشع تجلياته قبل ظهور هذه المظاهر والمجالى الكائنة مستويا عَلَى الْماءِ اى على الحيوة المحضة الحقيقية والقيومية المطلقة والديمومية المستمرة الثابتة ازلا وابدا الخالية عن مطلق التغيرات والانقلابات المتوهمة من نقوش التعينات العدمية والتشخصات الهيولانية المترتبة على آثار الأسماء والصفات الإلهية وانما أظهرها سبحانه على هذا التمثال وابدعها على هذا المنوال لِيَبْلُوَكُمْ ويختبركم ايها العكوس والاظلال أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وقبولا وأتم توجها ورجوعا وأكمل تحققا ووصولا في يوم الجزاء وَبعد ما قد نبههم الحق على ما هو الا حق وأوجدهم على فطرة الفطنة والذكاء بمبدئهم ومنشأهم الأصلي لَئِنْ قُلْتَ يا أكمل الرسل تذكيرا لهم وإصلاحا لأحوالهم إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ للحساب والجزاء وتنقيد الأعمال فعليكم اليوم ان تتهيؤا لها وتدخروا لأجلها حتى لا تؤاخذوا ولا تعاقبوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا منهم من فرط غفلتهم وقسوتهم بعد ما سمعوا منك قولك هذا إِنْ هذا وما الذي تقول وتفوه هذا الرجل ان وقع وتحقق إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته عظيم امره لو وقع إذ احياء الموتى من العظام الرفات لا يتصور الا بالسحر الخارق للعادات فان وقع فهو في غاية الندارة ونهاية الغرابة
وَبعد ما استوجبوا لا سوء العذاب واستحقوا باشد العقاب بكفرهم هذا وانكارهم يوم الجزاء لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ المعد لهم اى إتيانه لحكمة ومصلحة قد استأثرنا بها إِلى أُمَّةٍ اى الى ازمنة وساعات من الأوقات والأحيان مَعْدُودَةٍ قلائل لَيَقُولُنَّ مستهزئين مستسخرين من غاية جهلهم وجحودهم ما يَحْبِسُهُ واى شيء يعوقه ويمنعه عن إتيان ما يدعيه من العذاب ووقوع ما يعد به من الأخذ والبطش أَلا تنبهوا ايها المؤمنون وتذكروا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب الموعود عليهم لا يخفف عنهم مطلقا بل لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ساقطا عن ذمتهم أصلا بل حل عليهم حتما وَحاقَ وأحاط بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الموعود وقت ما انذرهم الرسول.
ثم قال سبحانه وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ اى من غاية لطفنا وجودنا الى الإنسان المجبول على الكفران والنسيان ونهاية إحساننا معه وتفقدنا لحاله لئن أعطيناه وفضلنا عليه مِنَّا رَحْمَةً ونعمة تسره وتفرج همه ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ومنعناها عنه لحكمة اظهار قدرتنا الغالبة وبسطتنا الكاملة إِنَّهُ من قلة تصبره وغاية ضعفه وتكسره لَيَؤُسٌ قنوط من فضلنا ورحمتنا كَفُورٌ لما وصل اليه من نعمتنا
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ وأنعمنا عليه نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أعجزته وأزعجته لَيَقُولَنَّ مفتخرا مباهيا بطرا قد ذَهَبَ السَّيِّئاتُ المؤلمة المحزنة عَنِّي إِنَّهُ من غاية غفلته عن المنعم(1/348)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
لَفَرِحٌ فَخُورٌ بطر فرحان مغرور مفتخر بما في يده من النعم مشغول بها عن المنعم وعن شكرها وأداء حقها
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على ما أصابهم من السيئات المملة المؤلمة واسترجعوا الى الله لكشفها وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وواظبوا على الخيرات والحسنات وداوموا على الإيثار والصدقات شكرا لما أنعمنا عليهم أُولئِكَ السعداء الصابرون على البلاء الشاكرون على الآلاء والنعماء لَهُمْ مَغْفِرَةٌ اى ستر ومحو لذنوبهم التي قد مضت عليهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ منا إياهم الا وهو الرضاء منهم تفضلا عليهم وامتنانا
فَلَعَلَّكَ يا أكمل الرسل من غاية ودادك ايمانهم ونهاية محبتك بمتابعتهم لك تارِكٌ أنت بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ من لدنا مشتملا على توبيخهم وتقريعهم وزجرهم وتشنيعهم كراهة ان يركنوا عنك وينصرفوا عن متابعتك وَضائِقٌ بِهِ اى بسبب ما يوحى إليك صَدْرُكَ مخافة أَنْ يَقُولُوا لو أظهرت عليهم بما اوحيت به لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ بدل هذه التوبيخات والوعيدات من عند ربه ليتابع الناس له أَوْ هلا جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ مصدق لنبوته ورسالته ليطيعوا ويؤمنوا له طوعا بلا كلفة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبهذياناتهم هذه ولا تخطر ببالك أمثال هذا إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ بلغ عموم ما انزل إليك من الإنذار والتخويف ولا تلتفت الى ردهم وقبولهم وتوكل على ربك وثق به واعتمد عليه فانه يكفى ويكف عنك مؤنة ضررهم وشرورهم وَبالجملة اللَّهُ المراقب عليهم عَلى كُلِّ شَيْءٍ صدر عنهم وَكِيلٌ حفيظ عليهم يعلم منهم ما هو مستوجب للعقوبة والعذاب وما هو موجب للنوال والثواب يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته او لم يكف بتصديق نبوتك ورسالتك وصدقك في دعوى الهداية والرشد القرآن المعجز لعموم ارباب اللسن والبيان مع تشددهم في المعارضة والمقابلة
أَمْ يَقُولُونَ مكابرة وعنادا افْتَراهُ واختلقه من تلقاء نفسه في نسبته الى الوحى والإلهام تغريرا وترويجا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما نسبوك الى الافتراء والاختلاق فَأْتُوا ايها المكابرون المعاندون بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ اى مثل اقصر سورة من سور القرآن مُفْتَرَياتٍ مختلقات كما زعمتم مع انكم أنتم أحق باختلاقها لكثرة تمرنكم وتزاولكم في الإنشادات والانشاءات وتتبع كلام البلغاء والتعود بمدارسة القصص والقصائد وان عجزتم أنتم عن اختلاقها بأنفسكم فاستظهروا بإخوانكم ومعاونيكم وَبالجملة ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ واستمدوا منهم واتفقوا معهم في اختلاقها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ظنكم هذا
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ايها المؤمنون ولم يأتوا بما تحديتم إياهم فَاعْلَمُوا ايها المؤمنون واطمئنوا وتيقنوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وبكمال قدرته وارادته لا يمكن لاحد من مظاهره ومصنوعاته ان يأتى بمثله ويعارض معه وكيف يعارض معه سبحانه إذ لا شيء سواه وَأَنْ لا إِلهَ في الوجود إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لحكمه مسلمون أموركم كلها اليه مخلصون مطمئنون متمكنون في جادة توحيده بل أنتم بحمد الله ايها الموحدون المحمديون هكذا.
ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير مَنْ كانَ بارتكاب الأعمال الشاقة واحتمال شدائدها ومتاعبها يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها المزخرفة التي تترتب عليها من الأموال والأولاد نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها لأجلها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ اى لا ينقص شيء من أجور أعمالهم في النشأة الاولى ان كان غرضهم مقصورا عليها محصورا بها
واما في النشأة الاخرى أُولئِكَ القاصرون المقصرون هم الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ(1/349)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
اى لم يبق لهم مما يترتب على أعمالهم فيها إِلَّا النَّارُ إذ حسناتهم قد وفيت في النشأة الاولى ولم يبق لهم سوى توفية السيئات وليس توفية السيئات الا بالنار وما يترتب عليها من انواع العذاب والآلام وَبالجملة قد حَبِطَ اى ضاع واضمحل عموم ما صَنَعُوا فِيها اى في النشأة الاولى من الخيرات والمبرات بإرادتهم مزخرفات الدنيا الدنية لأجلها وَبعدم إخلاصهم وانعكاس مرادهم باطِلٌ فاسد ضائع جميع ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الصالحات فيها بل قد صارت أعمالهم الصالحة طالحة من خساسة نيتهم وخباثة طويتهم
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعنى أتظنون وتحسبون ان من انكشف له برهان واضح وكشف صريح وشهود محقق من قبل ربه وتحقق بمقام التوحيد واطلع على سرسريان الوحدة الذاتية في جميع الكوائن والفواسد وَمع ذلك يَتْلُوهُ ويطرء عليه ويجرى على لسانه شاهِدٌ ناطق بتصديقه نازل مِنْهُ اى من عند ربه امتنانا له وتفضلا عليه يريد ويقصد من أفعاله واعماله الصادرة عنه ظاهرا مثل ما أراد أولئك المحجوبون المستورون عن الحق واحاطته وشموله واستقلاله في الآثار الظاهرة في الآفاق كلا وحاشا هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وبالجملة ما يتذكر منه الا أولوا الألباب وَكيف ينكرون شهادة القرآن على تصديق خير الأنام إذ قد جاء مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن كِتابُ مُوسى من قبل ربه مصدقا له في دعواه وقد صار كتابه بكمال اشتماله على الحكم والاحكام إِماماً وقدوة لقاطبة الأنام وَرَحْمَةً شاملة للخواص والعوام ليهديهم الى دار السّلام وبالجملة أُولئِكَ اى عموم اهل التورية وهم الذين يؤمنون بها ويمتثلون بما فيها يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بحقية القرآن لكونه مذكورا في كتابهم المنزل عليهم وَبالجملة مَنْ يَكْفُرْ بِهِ اى بالقرآن وينكر بحقيته مِنَ الْأَحْزابِ المتحزبين مع المحرفين للتورية المنحرفين عن جادة العدالة والايمان فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ لا بد وان يرد عليها بمقتضى العدل الإلهي فَلا تَكُ أنت يا أكمل الرسل فِي مِرْيَةٍ شك وارتياب مِنْهُ اى من ورودهم عليها انجازا لوعده سبحانه إِنَّهُ الْحَقُّ الثابت النازل مِنْ رَبِّكَ لا بد ان يتحقق وقوعه حتما وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لانهماكهم في الغفلة وغلظ حجبهم عن الله لا يُؤْمِنُونَ بحقيته سبحانه وحقية وعده وإنجازه الموعود لذلك حرفوا ما جاء من عند الله في كتابه وزادوا عليه ما لم يجيء من لدنه سبحانه ظلما وعدوانا
وَمَنْ أَظْلَمُ على الله مِمَّنِ افْتَرى وقد نسب عَلَى اللَّهِ كَذِباً عمدا وحرف كتابه بتنقيص شيء منه او زيادة عليه قصدا أُولئِكَ الأشقياء المحرفون المجترؤون على الله بتبديل آياته يُعْرَضُونَ في يوم العرض الأكبر عَلى رَبِّهِمْ ويسألون عما فعلوا بكتاب الله فينكرون ويستنزهون أنفسهم عنه وَيومئذ يَقُولُ الْأَشْهادُ ويشهد عليهم الشهود العدول من أعضائهم وجوارحهم إلزاما لهم بانه هؤُلاءِ المسرفون المعاندون الَّذِينَ قد كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ وحرفوا كتابه افتراء ومراء ظلما وزورا وبعد إشهاد هؤلاء الاشهاد نودي من وراء سرادقات العز والجلال تفضيحا لهم وتخذيلا على رؤس الملأ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ وطرده وابعاده عن سعة رحمته نازلة عَلَى الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى حكمه وحكمته عنادا ومكابرة
وهم الَّذِينَ يَصُدُّونَ ويصرفون عباد الله عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الشرع المتين المبين المنزل من عنده على أنبيائه ورسله بالعدالة والتقويم وَيَبْغُونَها عِوَجاً اى يريدون ان يحدثوا فيها عوجا وانحرافا ليصرفوا عنها ويرتدوا منها أهلها سيما بعد ايمانهم بها وانقيادهم لها(1/350)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
فاستحقوا العذاب والنكال الأخروي وَالحال انه هُمْ بِالْآخِرَةِ المعدة للجزاء والانتقام هُمْ كافِرُونَ منكرون لخبث طينتهم وردائه فطنتهم وفطرتهم
أُولئِكَ البعداء المسرفون المفترون على الله المفرطون في تحريف كتابه لَمْ يَكُونُوا من اهل الغلبة والاعجاز حتى صاروا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ كل من يتحدى معهم ويعارضهم وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ حتى ينصروهم ويحفظوهم من عذاب الله إياهم ان تعلق ارادته بتعذيبهم في الدنيا وانما امهلهم وأخر عذابهم الى يوم الجزاء ليقترفوا من موجباته وأسبابه اكثر مما كانوا عليه حتى يدوم وبالهم ونكالهم لأجلها بل يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ أضعافا وآلافا لأنهم بسبب اعراضهم عن الحق ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إذ في آذانهم واسماعهم وقر وصمم وَما كانُوا يُبْصِرُونَ لتعاميهم عن ابصار آثاره ودلائله
وبالجملة أُولئِكَ
المعزولون عن استماع كلمة الحق وابصار علاماته هم الَّذِينَ
قد خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
بالافتراء على الله بما لا يليق بجنابه باشراك مصنوعاته معه في استحقاق العبادة
وَمع ذلك قد ضَلَ
وغاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
من الآلهة الباطلة ولم يبق لهم سوى الندامة والخسران
لذلك لا جَرَمَ وحق عليهم أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ المقصورون على الخسران والحرمان الأبدي الا ذلك هو الخسران المبين أعاذنا الله منه
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وفوضوا أمورهم كلها اليه سبحانه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى جنابه وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ وتضرعوا له مطمئنين خاشعين أُولئِكَ السعداء المقبولون الصالحون المصلحون الخاشعون المخبتون أَصْحابُ الْجَنَّةِ التي هي دار السعداء هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مطمئنون متمكنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وبالجملة مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ اى المؤمن والكافر في السعادة والشقاوة والهداية والضلال كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ كل واحدة مع نقيضها هَلْ يَسْتَوِيانِ كل من النقيضين مَثَلًا ايها العقلاء أَفَلا تَذَكَّرُونَ التفاوت والتفاضل وهل تتنبهون وتتفطنون
وَمن عدم تذكر الإنسان ووفور توغله في الغفلة والنسيان لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً الناجي عما سوى الحق المنجى للهالكين في تيه الضلال إِلى قَوْمِهِ حين ظهر عليهم امارات الكفر والعصيان ولاح منهم علامات الظلم والطغيان قائلا لهم على وجه العظة والنصيحة إِنِّي من غاية اشفاقى وعطفي لَكُمْ نَذِيرٌ من قبل الحق أنذركم من حلول عذابه ونزول غضبه وسخطه بسبب ظلمكم وكفركم مُبِينٌ مظهر مبين لكم ما يوجب تعذيبكم من أفعالكم وأعمالكم الدالة على كفركم وشرككم فعليكم ايها المسرفون المفرطون
أَنْ لا تَعْبُدُوا ولا تتوجهوا إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الذي لا شريك له ولا شيء سواه ولا تشركوا به غيره إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ لو أشركتم بالله وكفرتم به عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم مفزع كأن الم العذاب يسرى في زمانه ايضا لفظاعة شأنه وشدة أهواله واحزانه
ثم لما سمعوا قوله وفهموا مراده استكبروا عليه واستبعدوا امره فَقالَ الْمَلَأُ اى الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مستكبرين عليه مستهزأين له ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا كيف تدعى الرسالة والنيابة عن الله والوحى من جانبه وَمع ذلك لا شوكة لك ولا استيلاء ولا حول ولا قوة بسبب المال والأعوان والأنصار حتى تدّعى الرسالة علينا بل ما نَراكَ اتَّبَعَكَ منا إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا اى اسافلنا وادانينا عقلا وجاها سعة ومالا بادِيَ الرَّأْيِ اى يلوح رذالتهم للناظرين في بادى النظر بلا احتياج الى تأمل وتعمق(1/351)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
وَبالجملة ما نَرى لَكُمْ ايها السفلة الأراذل تابعا ومتبوعا عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ زيادة في العقل والمال والجاه والثروة والرياسة حتى نتبعكم ونقبل منكم قولكم بَلْ ما نَظُنُّكُمْ ونعتقدكم الا كاذِبِينَ في دعويكم مفترين فيها طالبين الرياسة والثروة بسببها بلا اظهار معجزة وبينة واضحة
قالَ نوح متحسرا آيسا منهم قنوطا عن ايمانهم بعد ما سمع منهم ما سمع يا قَوْمِ أضافهم مع غاية يأسه بمقتضى شفقة النبوة أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ قد جئت لكم عَلى بَيِّنَةٍ واضحة دالة على صدقى في دعواي نازلة على مِنْ رَبِّي لتأييدى وتصديقى وَمع ذلك قد آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ سبحانه تفضلا وامتنانا مشعرة بنجابتى وطهارتى وصدقى في قولي وتذكيري فَعُمِّيَتْ فخفيت واشتبهت عَلَيْكُمْ الدلائل والشواهد مع وضوحها وسطوعها أَنُلْزِمُكُمُوها بها وَالحال انه أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ تكرهون لها غير ملتفتين إليها ولا متأملين فيها ولا في إشاراتها ورموزاتها
وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغى وإرشادي إياكم وهدايتي لكم مالًا جعلا واجرا بل إِنْ أَجرِيَ وما جعلى إِلَّا عَلَى اللَّهِ الذي قد أمرني به وبعثني لتبليغه وَان أردتم ان اطرد من معى من المؤمنين فاعلموا انى ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا وليس في وسعى وطاقتي ان اطردهم وكيف اطردهم إِنَّهُمْ من كمال سعادتهم وصلاحهم مُلاقُوا رَبِّهِمْ الذي قد وفقهم على الايمان والهداية فيخاصم سبحانه مع طاردهم البتة وينتقم عنه لأجلهم وَلكِنِّي أَراكُمْ من خباثة بواطنكم وقساوة قلوبكم قَوْماً تَجْهَلُونَ وتنكرون لقاء الله ولا تعتقدون بحوله وقوته واعانته للمظلوم وانتقامه على الظالم الطارد
وَيا قَوْمِ المكابرين المعاندين في طلب طرد المؤمنين مَنْ يَنْصُرُنِي ويدفع عنى مَنْ حلول عذاب اللَّهِ وبطشه وانتقامه على إِنْ طَرَدْتُهُمْ ابتغاء مرضاتكم ومواساة لكم بلا وحى وارد من قبل الحق واذن نازل من عنده أَفَلا تَذَكَّرُونَ ايها المجبولون على العقل المفاض المستلزم للتوحيد والعرفان لينكشف عندكم وتعرفوا عاقبة التماسكم طرد المؤمنين وتوفيقكم عليه
وَيا قوم لا أَقُولُ لَكُمْ مدعيا بعدم طردهم وابعادهم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فاغنيهم بها لذلك لم اطردهم وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ اى انا لا ادعى الاطلاع على غيوب أحوالهم في عواقبهم ومآلهم حتى يكون سبب ودادي لهم وَايضا لا أَقُولُ لكم مباهاة ومفاخرة إِنِّي مَلَكٌ حتى تقولوا ما أنت الا بشر مثلنا وَلا أَقُولُ ايضا لِلَّذِينَ اى للمؤمنين الذين تَزْدَرِي وتستحقرهم أَعْيُنُكُمْ يعنى قد استرذلتموهم وتقولون في حقهم ما نريك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادى الرأى لَنْ يُؤْتِيَهُمُ ولن يعطيهم اللَّهُ خَيْراً ابدا لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ حالهم ومآلهم وعواقب أمورهم من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها ولم يطلعني عليها بل اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من الإخلاص والرضاء وبالجملة مالي علم بأحوالهم الا بوحي الله والهامه ولم يوح الى شيء منها وان تفوهت عنهم وعن أحوالهم بلا وحى إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ المجترئين على الله في ادعاء الاطلاع على غيبه رجما به وتخمينا وبعد ما سمعوا من نوح عليه السّلام ما سمعوا
قالُوا من فرط عتوهم وعنادهم يا نُوحُ نادوه استهانة واستحقارا قَدْ جادَلْتَنا وخاصمت معنا بالمقدمات الكاذبة الواهية الوهمية فَأَكْثَرْتَ علينا جِدالَنا وبالغت فيها وتماديت فَأْتِنا ايها المكثر المفرط بِما تَعِدُنا من العذاب فانا لن نؤمن بك ابدا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك وبعد ما سمع(1/352)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
منهم ما سمع
قالَ نوح عليه السّلام متأسفا متحزنا مأيوسا قنوطا من ايمانهم يا قوم لست انابآت بموعدى حتى تعجزونى وتضطرونى وتستهزءوا بي بل إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اى بالعذاب الموعود اللَّهُ المنتقم منكم المقتدر على اخذكم وقهركم إِنْ شاءَ انتقامكم وتعلق ارادته لمقتكم وهلاككم وَبالجملة ما أَنْتُمْ حين حلول غضب الله عليكم بِمُعْجِزِينَ الله في فعله واخذه إذ هو القاهر فوق عباده بل أنتم حينئذ عاجزون مضطرون مقهورون
وَبالجملة لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي اليوم حتى يلحقكم ما سيلحقكم من العذاب الموعود إِنْ أَرَدْتُ وأحببت أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ لأحفظكم إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ يعنى لا ينفعكم نصيحتي ان تعلق مشيئة الحق في حضرة علمه وسابق قضائه باغوائكم واضلالكم إذ هُوَ سبحانه رَبُّكُمْ ومتولى أموركم وَإِلَيْهِ لا الى غيره من وسائل العكوس والاظلال تُرْجَعُونَ في عموم أموركم وحالاتكم أتريد يا نوح نصحهم وإشفاقهم وهم لا يقبلون منك
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بل هم يقولون قد اختلقه من عنده ونسبه الى الوحى ترويجا وتغريرا قُلْ لهم حين قالوا لك هذا مجاراة عليهم ومماراة لهم إِنِ افْتَرَيْتُهُ واختلقت ما جئت به فَعَلَيَّ إِجْرامِي اى وبال امرى ونكاله عائد على وجزاؤه آئل الى وَالحال أَنَا بَرِيءٌ في نفسي مِمَّا تُجْرِمُونَ وتنسبون أنتم الىّ من الجرائم
وَبعد ما بالغوا في العتو والعناد والإصرار على ما هم عليه من الجور والفساد وحان حين أخذهم وانتقامهم أُوحِيَ والهم إِلى نُوحٍ حين ظهر عليهم امارات الإنكار ولاح منهم علامات الاستخفاف والاستكبار أَنَّهُ اى الشان لَنْ يُؤْمِنَ لك ابدا بعد هذا احد مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ لك قبل هذا فاقنط عن ايمانهم ولا تجتهد في هدايتهم وإرشادهم فَلا تَبْتَئِسْ ولا تحزن ولا تغتم من إهلاكنا إياهم وإنزال العذاب عليهم واعلم جزما انهم مهلكون بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الاعراض والإنكار والعتو والاستكبار
وَبعد ما حصل لك اليأس والقنوط عن ايمانهم اصْنَعِ الْفُلْكَ والسفينة لحفظك وحفظ من آمن معك من الغرق بِأَعْيُنِنا اى بكنفنا وجوارنا وحفظنا وحصارنا وَوَحْيِنا لك كيف تصنعها وتشيدها وَبعد ما صنعت لا تُخاطِبْنِي ولا تناج يا نوح معى فِي إنجاء القوم الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالمكابرة والعناد ونبذوا وراء ظهورهم ما جئت به من لدنا من الهداية والرشد إِنَّهُمْ بسبب انهماكهم في الغفلة والغرور مُغْرَقُونَ مهلكون حتما جزما لا نجاة لهم أصلا
وَبعد ما أوحاه الحق وامره شرع يَصْنَعُ الْفُلْكَ بتعليم جبرائيل عليه السّلام إياه باذن الله وَقد كان حينئذ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ وطائفة مِنْ قَوْمِهِ حين اشتغاله بصنع الفلك قد سَخِرُوا مِنْهُ واستهزؤا معه لكونه في بادية لا ماء فيها وقالوا له على سبيل التهكم قد صرت نجارا بعد ما كنت نبيا مختارا قالَ لهم نوح المنكشف بما امره الحق له إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا الآن لجهلكم بسر صنيعنا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ ايضا حين كنا على الفلك وأنتم غرقى كَما تَسْخَرُونَ اليوم منا
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وتدركون وبال ما أنتم عليه من الاستهزاء والسخرية الزموا مكانكم لتعلموا مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ويرديه منا ومنكم وَمن يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم مستمر وبالجملة هم قد صاروا مصرين على إصرارهم
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وحان حلول أجلنا الذي قد أجلنا وقدرنا لمقتهم وهلاكهم في حضرة علمنا ولوح قضائنا وَفارَ اى نبع وعلا حينئذ التَّنُّورُ المعهود في حضرة علمنا ولوح قضائنا نبع(1/353)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
ماء الطوفان منه وبعد فوران التنور المعهود وغليانه واطلعت عليه امرأته فأخبرته قُلْنَا له تفضلا عليه وامتنانا احْمِلْ فِيها اى في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ من الحيوانات التي تعيش في البر وفي الهواء اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى وَاحمل ايضا عليها أَهْلَكَ اى جميع اهل بيتك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ والحكم منا في سابق قضائنا بانه قد كان من الكافرين المغرقين وَاحمل ايضا فيها جميع مَنْ آمَنَ لك من قومك وَالحال انه ما آمَنَ مَعَهُ من قومه إِلَّا قَلِيلٌ قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونسائهم واثنان وسبعون رجلا من غيرهم والكل مع نوح عليه السّلام. روى انه عليه السّلام قد أتم السفينة وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وسمكها ثلثين وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحوش وفي أوسطها الانس وفي أعلاها الطير
وَبعد ما نبع التنور وانتشر الماء وانبسط على الأرض قالَ نوح بوحي الله إياه والهامه ارْكَبُوا فِيها اى صيروا في جوفها متمكنين واستقروا عليها قائلين متيمنين بِسْمِ اللَّهِ إذ هو سبحانه بحوله وقوته مَجْراها وَمُرْساها حيث أراد إجرائها وارساءها اى إقامتها إِنَّ رَبِّي الذي رباني بلطفه واوحانى بصنعها ونحتها لَغَفُورٌ لمن استغفر له رَحِيمٌ يقبل توبته ويمحو ذلته وينجى عن عذابه فركبوا مسميين متيمنين على الوجه المأمور
وَهِيَ اى السفينة تَجْرِي بِهِمْ فِي خلال مَوْجٍ وهو ما ارتفع من الماء من تهييج الرياح عال كَالْجِبالِ الشامخ وَحينئذ نادى نُوحٌ ابْنَهُ المسمى بكنعان وَكانَ فِي مَعْزِلٍ قد اعتزل عنه وانصرف عن دينه فرآه بين الماء فتحرك عطف الأبوة فصاح عليه يا بُنَيَّ صغره واضافه لشدة شفقته وترحمه ارْكَبْ مَعَنا لتنجو من الغرق وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ المغرقين وبعد ما سمع ابنه صيحة أبيه
قالَ مستنكرا عليه سَآوِي والتجئ إِلى جَبَلٍ عال يَعْصِمُنِي مِنَ إغراق الْماءِ بشموخه وارتفاعه قالَ يا بنى لا عاصِمَ ولا منجى الْيَوْمَ لاحد مِنْ أَمْرِ اللَّهِ المبرم وحكمه المحكم إِلَّا مَنْ رَحِمَ الحق إياه وأنجاه إذ لا منجى ولا عاصم في الوجود غيره وَحينئذ قد حالَ بَيْنَهُمَا اى بين نوح وابنه كنعان الْمَوْجُ العظيم الهائل فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وصار ابنه من زمرة الغرقى الهالكين
وَبعد ما انبسط الماء على وجه الأرض وعلا على اعالى الجبال وإقلال الرواسي وهلك من عليها قِيلَ من وراء سرادقات العز والجلال مناديا آمرا على الأرض والسماء مثل نداء ذوى العقول المكلفين المبادرين الى امتثال الأوامر المأمورة لهم يا أَرْضُ النابعة للماء المخرجة له ابْلَعِي ماءَكِ اى انشفى واقبضى ما نبع عنك من الماء وَيا سَماءُ الماطرة الهامرة أَقْلِعِي وأمسكي ماءك ولا تمطرى 2 إذ يمطر الماء مثل ما نبع من الأرض وَبعد ورود الأمر الوجوبي الإلهي غِيضَ الْماءُ ونقص من نشف الأرض وأقلعت السماء وَقُضِيَ الْأَمْرُ الموعود الذي هو إهلاك الكفار وإنجاء المؤمنين وَبعد انقضاء المأمور المعهود وانجاز الوعد الموعود قد اسْتَوَتْ السفينة واستقرت عَلَى الْجُودِيِّ هو جبل بالموصل وقيل بآمد. روى انه عليه السّلام قد ركب على السفينة عاشر رجب ونزل عنها عاشر المحرم فصام ذلك اليوم فصار صومه سنة سنية منه على من بعده وهو صوم يوم عاشوراء وَبعد إهلاك أولئك الكفرة العصاة الغواة قِيلَ من قبل الحق بُعْداً اى قد بعد بعدا وطرد طردا مقتا وهلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين(1/354)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
عن مقتضى الوحى الإلهي المكذبين لرسله ابعادا لهم عن ساحة عز الحضور بحيث لا يرجى قربهم وقبولهم أصلا
وَبعد ما وقع ما وقع نادى وناجى نُوحٌ رَبَّهُ باثّا له الشكوى في حق ابنه كنعان فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي ايضا مِنْ أَهْلِي وأنت بفضلك وجودك قد وعدتني بنجاة أهلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الذي وعدتني به الْحَقُّ الصدق والصريح الذي لا خلف فيه وَبالجملة أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ واقسطهم وأعدلهم بل احكام جميع الحكام راجع الى حكمك يا رب
قالَ سبحانه مجيبا له مزيلا لشكويه يا نُوحُ إِنَّهُ اى ابنك بسبب اعتزاله عنك وعن دينك لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إذ لا قرابة ولا الفة بين المؤمن والكافر وكيف يكون من أهلك إِنَّهُ من غاية فسقه وفساده كأنه عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ يعنى هو مسمى به لكونه مغمورا فيه مجسما منه بحيث لا يرجى صلاحه وإصلاحه مطلقا فَلا تَسْئَلْنِ متعرضا معترضا على ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بوروده على إِنِّي أَعِظُكَ واذكر لك قبيل هذا مخافة أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ اى كذلك منهم بذهولك وغفلتك عما نبهت عليك بالاستثناء السابق يعنى قوله الا من سبق عليه القول وبعد ما سمع نوح من ربه ما سمع
قالَ معتذرا الى ربه مستحييا رَبِّ إِنِّي بعد ظهور خطائى وزلتى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ بعد هذا ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا اى وان لم تَغْفِرْ لِي زلتى وسوء ادبى وَلم تَرْحَمْنِي بفضلك وجودك أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا مبينا
قِيلَ من قبل الله بعد ما غاض الماء واستوت وانكشفت الأرض ويبست يا نُوحُ اهْبِطْ وانزل أنت من السفينة ومن معك مقرونا بِسَلامٍ وسلامة ونجاة وأمن ناش مِنَّا عليك تفضلا وامتنانا وَبَرَكاتٍ وخيرات كثيرة نازلة من لدنا عَلَيْكَ اصالة وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ تبعك تبعا سماهم امما باعتبار العاقبة والمآل وَمن ذرية من معك أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ونربيهم في النشأة الاولى بأنواع النعم ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا في النشأة الاخرى بسبب كفرهم وفسقهم عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بدل ما تلذذوا بنعم الدنيا وكفروا بها
تِلْكَ اى قصة نبينا نوح عليه السّلام مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ اى من بعض اخباره نُوحِيها إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تعليما لك وتذكيرا لأمتك إذ ما كُنْتَ تَعْلَمُها لا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ لا بالدراسة ولا بالتعليم مِنْ قَبْلِ هذا الوحى والإنزال وان طعن المشركون لك ونسبوك الى الكذب والافتراء فَاصْبِرْ على اذياتهم وكن في تبليغك وارشادك على عزيمة خالصة صحيحة إِنَّ الْعاقِبَةَ الحميدة والأجر الجزيل في النشأة الاخرى لِلْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن الميل الى البدع والأهواء ويصبرون على عموم المكاره والأذى حتى يتحققوا بمقام الرضاء ويفوزوا بشرف اللقاء
وَبعد ما تناسل قوم نوح وتكاثرت امم منهم فاستكبروا عن طريق التوحيد واتخذوا الأوثان والأصنام آلهة قد أرسلنا إِلى قوم عادٍ العادين عن طريق الحق المتجاوزين عن صراط التوحيد ظلما وعدوانا أَخاهُمْ هُوداً ليهديهم الى طريق الحق والصراط المستقيم قالَ بعد ما أوحينا اليه وإذنا له بتذكير قومه يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه تحننا وإشفاقا على ما هو مقتضى الإرشاد اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا اله الا هو واعتقدوا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويرجع اليه في الخطوب غَيْرُهُ إذ لا موجود سواه ولا اله الا هو إِنْ أَنْتُمْ اى ما أنتم بعد ما ظهر الحق باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة غيره إِلَّا مُفْتَرُونَ مبطلون في اتخاذها افتراء ومراء
يا قَوْمِ اسمعوا قولي واتعظوا به(1/355)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
وامضوا بمقتضاه واقبلوا نصحى إذ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ولا اطلب منكم عوضا بل انا مأمور بالتبليغ والتذكير من عند العليم الخبير إِنْ أَجْرِيَ وما جعلى إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي وجبلنى على جبلة الهداية والإرشاد أَتشكون في امرى وتترددون في شأنى وتذكيري ونصحى فَلا تَعْقِلُونَ ولا تستعملون عقولكم في أفعالكم القبيحة وأعمالكم الفاسدة الناكبة عن طريق العدالة التي هي صراط الله الأعدل الا قوم
وَبعد ما ازدادوا الإصرار والاستكبار وأخذهم الله أولا بعقم الأرحام والأمطار فاضطروا قال هود عليه السّلام يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من فرطاتكم وهفواتكم واطلبوا المغفرة والنجاة منه سبحانه ثُمَّ تُوبُوا واسترجعوا إِلَيْهِ نادمين مخلصين يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ بأمر الله وبمقتضى ارادته مِدْراراً مغزارا وامطارا كثيرة على سبيل التتابع والإدرار تفضلا عليكم وامتنانا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ اى يضاعف أولادكم التي هي قوة ظهوركم وَعليكم ان لا تَتَوَلَّوْا ولا تتعرضوا على الله حال كونكم مُجْرِمِينَ معرضين عنه وعن رسله مصرين على ما أنتم عليه
قالُوا بعد ما سمعوا منه ما سمعوا يا هُودُ نادوه باسمه استحقارا له واستكبارا عليه ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ واضحة مثبتة لدعواك حتى نقبل منك قولك وبعد ما لم تجئ إلينا بالبينة الملجئة ما كنا نعتقدك صدوقا صادقا ثقة معتمدا حتى نقبل منك قولك بلا بينة اترك ما أنت عليه من الدعوى الكاذبة وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا التي قد وجدنا آباءنا وأسلافنا لها عاكفين عَنْ قَوْلِكَ وعن مجرد دعواك بلا بينة ودليل وَبالجملة ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مصدقين بلا شاهد وبينة
بل إِنْ نَقُولُ وما نتفوه في شأنك إِلَّا اعْتَراكَ اى سوى هذا القول وهوانك قد أصابك ورماك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ من جنون وخفة عقل وخبط واختلال حال وقد كنت أنت تسئ الأدب معهم وتذكرهم وتهجوهم بما لا يليق بشأنهم لذلك اصابوك واستخفوا عقلك وبعد ما سمع منهم هود ما سمع ايس من ايمانهم وهدايتهم حيث قالَ أولا مبرئا نفسه من الشرك امحاضا للنصح إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ العالم بسرى واعلانى وخفيات أسراري وَاشْهَدُوا أنتم ايضا ايها الهالكون في تيه الغفلة والغرور على أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أنتم الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس له شريك في الوجود أصلا سيما من العكوس والاظلال الهالكة المستهلكة في أنفسها والتماثيل الباطلة العاطلة المتخذة
مِنْ دُونِهِ آلهة سواه سبحانه فَكِيدُونِي اى فعليكم ايها الحمقى المنحطون عن زمرة العقلاء بعد ما سمعتم قولي وحققتم برائتى ان تمكرونى وتصيبونى أنتم وشركاؤكم جَمِيعاً ثُمَّ بعد اليوم لا تُنْظِرُونِ اى لا تمهلوني في امرى ولا تضعفوا ولا تفتروا في مكري
إِنِّي قد تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ لا أبالي بكم وشركائكم ولا اتحزن لمكركم ومكرهم بعد ما أتمكن بمقر التوحيد إذ ما مِنْ دَابَّةٍ تتحرك على الأرض إِلَّا هُوَ سبحانه بذاته وبيد قدرته آخِذٌ بِناصِيَتِها اى بوجوهها التي تلى الحق يقودها نحوه ويتصرف فيها كيف يشاء حسب ارادته اختيارا وبالجملة إِنَّ رَبِّي في جميع شئونه وتطوراته عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا اعوجاج له أصلا
فَإِنْ تَوَلَّوْا اى ان تتولوا وتعرضوا أنتم عما جئت به من ربي فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ واجتهدت في تبليغه وبذلت وسعى فيه فاعلموا انه لا أبالي انا ولا يبالى الله ايضا بإعراضكم وإصراركم بل ان شاء يستأصلكم وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ليتعظوا بكم ويعتبروا منكم ومما جرى عليكم وَأنتم بإعراضكم وانصرافكم عنه سبحانه لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً من الإضرار لا بالله ولأبي بل(1/356)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
إِنَّ رَبِّي من كمال جوده وسعة رحمته عَلى كُلِّ شَيْءٍ كائن في حيطة جوده ووجوده حَفِيظٌ رقيب
وَلَمَّا تمادوا في الغفلة والاعراض وبالغوا في الإصرار والاستكبار قد جاءَ أَمْرُنا وجرى حكمنا بالريح فعصفت عليهم السموم وكانت تدخل من أنوفهم أجوافهم فقطعت أمعاءهم فهلكوا ولما أخذناهم بما أخذناهم نَجَّيْنا من مقام جودنا هُوداً الداعي لهم الى سبيل الحق وَايضا قد نجينا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ ناشئة مِنَّا تفضلا عليهم وامتنانا وَما اقتصرنا على انجاءهم من عذاب الدنيا بل قد نَجَّيْناهُمْ ايضا كرامة منا إياهم مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ معد لأولئك الكفرة في النشئة الاخرى
وَتِلْكَ العصاة الغواة المقهورون بقهر الله وغضبه عادٌ المبالغون في العتو والعناد قد جَحَدُوا من غاية غفلتهم وغرورهم بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة على السنة رسله وَعَصَوْا رُسُلَهُ ايضا بالتكذيب والاستحقار إذ يستلزم تكذيب الواحد تكذيب الجميع وَاتَّبَعُوا من غاية جهلهم ونهاية بغضهم مع الله ورسله أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ مبالغ في التجبر والتكبر عَنِيدٍ متناه في المكابرة والعناد فتركوا متابعة الداعي لهم الى سبيل الرشد
وَلذلك أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ايضا وبالجملة قد صاروا متبوعين لأصحاب الطرد والتخذيل في النشأة الاولى والاخرى أَلا تنبهوا يا اولى الأبصار وذوى الاعتبار إِنَّ عاداً المعاندين المكابرين قد كَفَرُوا رَبَّهُمْ نعمه وجحدوا توحيده أَلا بُعْداً طردا وتخذيلا وتبعيدا عن ساحة عز الحضور لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ اردفه بعطف البيان ليتميز من عاد ارم
وَبعد ما انقرضوا وانقهروا بما انقهروا قد أرسلنا إِلى ثَمُودَ حين ظهروا بالكفر والشقاق والانصراف عن منهج الرشد باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة أَخاهُمْ صالِحاً لأنه اولى وأليق بإرشادهم وهدايتهم قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لم يكن له كفوا احد ولا تشركوا به شيأ إذ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ موجد مظهر لكم من كتم العدم غَيْرُهُ بل هُوَ سبحانه بذاته وبمقتضى أسمائه وأوصافه الذاتية والفعلية قد أَنْشَأَكُمْ وأظهركم مِنَ الْأَرْضِ بامتداد اظلال أسمائه ورش رشحات انواره الذاتية التابعة لتجلياته الجلالية والجمالية وبعد ما أظهركم منها وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها وابقاكم عليها زمانا وربيكم بأنواع اللطف والكرم وبالجملة فَاسْتَغْفِرُوهُ واسترجعوا اليه على ما فرطتم في حقه ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ مخلصين نادمين عسى ان يقبل منكم ويعفو عن زلاتكم إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ لكم يعلم منكم توبتكم وإخلاصكم فيها مُجِيبٌ يجيب دعوتكم ويعفو عن زلتكم
قالُوا بعد ما سمعوا منه دعوته وتذكيره يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ أنت فِينا مَرْجُوًّا مستشارا مؤتمنا وقد اعتقدناك سيدا سندا ذا رشد وامانة قَبْلَ هذا الزمان فالآن قد صرت أخرق اخرف ذا خلل ظاهر وخبط متناه أَتَنْهانا أنت وتمنعنا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ونهيتنا عن عبادة معبوداتنا ومعبودات آبائنا وأسلافنا القديمة وَالحال انه إِنَّنا لَفِي شَكٍّ وتردد عظيم مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من وحدة الا له المعبود بالحق وكذا من بطلان آلهتنا القديمة التي قد وجدنا آباءنا لها عابدون مُرِيبٍ ذي ريبة منتهية الى كمال الإنكار مع انك ايضا لم تأت ببينة معجزة تلجئنا الى تصديقك
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ قد جئت لكم مقرونا عَلى بَيِّنَةٍ واضحة موضحة دالة على صدق ما ادعيت نازلة مِنْ عند رَبِّي لتصديقي وتأييدى وَ(1/357)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
الحال انه قد آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً نبوة ورسالة تامة مؤيدة بأنواع المعجزات فَمَنْ يَنْصُرُنِي يكفيني ويمنعني مِنْ عذاب اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ سيما في تبليغ رسالته واظهار ما أمرني بإظهاره وأوصاني بنشره وبالجملة فَما تَزِيدُونَنِي حين ابتلائى وأخذ الله إياي بعصيانى غَيْرَ تَخْسِيرٍ على تخسير وتخذيل فوق تخذيل
وَبعد ما ايس عن ايمانهم قال يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً دالة على صدقى في دعواي وتأييد الله إياي فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ مسلمة بلا منع وإباء وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ لأجل الماء والكلأ فَيَأْخُذَكُمْ ويلحقكم ان أصبتموها بسوء عَذابٌ قَرِيبٌ اجله وحلوله وبعد ما قد ظهرت الناقة من الصخرة الصماء بين أظهرهم وأكلت كلأهم وشربت ماءهم فتضرروا منها وشاوروا في أمرها وتقرر رأيهم الى قتلها
فَعَقَرُوها وأهلكوها ظلما وعدوانا بغيا وطغيانا فَقالَ لهم صالح بعد ما وقع الواقعة الهائلة تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ وعيشوا بعد ما خالفتم حكم الله وقد أتيتم بما قد نهيتم عنه ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء والخميس والجمعة فوادعوا فيها وتوادعوا واعلموا ان ذلِكَ وَعْدٌ قد اوحى الى من ربي ووعد ربي غَيْرُ مَكْذُوبٍ ولا منسوب الى كذب قط بل صادق مصدوق متيقن مجزوم به لا تشكوا فيه
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بالعذاب المهلك بعد انقضاء الأيام الثلاثة التي قد ظهرت فيها علاماته من اصفرار وجوههم في اليوم الاول واحمرارها في الثاني واسودادها في الثالث نَجَّيْنا من فضلنا وجودنا صالِحاً الذي قد أصلح نفسه وأراد إصلاح نفوسهم فلم يقبلوا إصلاحها بل أفسدوها بأنفسهم وَنجينا ايضا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وصلحوا باصلاحه بِرَحْمَةٍ نازلة مِنَّا على قلوبهم حتى وفقوا بها على قبول دعوته واظهار الايمان به وبسبب ايمانهم قد نجوا من خزي النشأة الاخرى وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ايضا إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل الموفق لهم على الايمان والإذعان هُوَ الْقَوِيُّ المحصور على القوة والقدرة إذ لا حول ولا قوة الا به وهو الْعَزِيزُ الغالب على إمضائه وإنفاذه حيث أراد وشاء
وَبعد ما أنجاهم الله بلطفه أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالعتو والعناد الصَّيْحَةُ الهائلة المهولة التي قد وعدها الله لإهلاكهم فَأَصْبَحُوا بعد ما سمعوا الصيحة في أثناء الليل فِي دِيارِهِمْ التي قد كانوا متمتعين فيها جاثِمِينَ جامدين ميتين بحيث
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا ولم يسكنوا فِيها أصلا وعند وقوع تلك الواقعة الهائلة قد صاح اصحاب العبرة والاعتبار وأولو الخبرة والاستبصار أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ بكفران نعمه وتكذيب رسله أَلا بُعْداً لِثَمُودَ عن سعة رحمة الحق في النشأة الاولى والاخرى
وَبعد ما انقرض أولئك الهالكون في تيه الغفلة والغرور حدث بعدهم قوم لوط المبالغون في الغفلة القبيحة والديدنة الشنيعة عقلا ونقلا ومروة المصرون عليها زمانا الى ان أخذناهم بما أخذناهم وحين أردنا أخذهم لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا اى الملائكة المأمورون لإهلاك قوم لوط إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى والبشارة بالولد بعد ما ايس هو وزوجته عن التوالد والتناسل قالُوا له حين لا قوة سَلاماً اى نسلم سلاما عليك ترحيبا منا إليك وتعظيما قالَ سَلامٌ عليكم دائما مستمرا ايها المستحقون للتحية والترحيب فَما لَبِثَ وما جلس بعد نزولهم الى أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ مشوى ضيافة لهم ونزلا لقدومهم ووضع بين أيديهم فانصرفوا عنه ولم يمدوا أيديهم نحوه
فَلَمَّا رَأى ابراهيم أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ ولا يتناولون منه كما هو عادة المسافرين نَكِرَهُمْ اى أنكر منهم عدم أكلهم لان(1/358)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
الامتناع من الطعام دليل على قصد المكروه لصاحبه وَأَوْجَسَ واهمز مِنْهُمْ خِيفَةً خوفا ورعبا حتى أحسوا منه الخوف وعلامات الرعب قالُوا تسلية له وازالة لرعبه لا تَخَفْ منا إِنَّا وان كنا من اهل الإنذار والإهلاك قد أُرْسِلْنا إِلى إهلاك قَوْمِ لُوطٍ مالنا معك شغل
وَحين قالوا له ما قالوا امْرَأَتُهُ اى سارة حاضرة قائِمَةٌ لخدمة الأضياف فَضَحِكَتْ بعد ما سمعت قولهم فرحا وسرورا لأنها كانت تقول اضمم إليك لوطا فانى اعلم ان البلاء ينزل على هؤلاء المسرفين فَبَشَّرْناها اى سارة تفضلا وامتنانا بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ ولده يَعْقُوبَ أب الأنبياء
قالَتْ سارة بعد ما سمعت منهم التبشير مستحية مستغربة يا وَيْلَتى ويا هلكتي وفضيحتي أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ قد مضت علىّ تسع وتسعون سنة وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فانيا ابن مائة وعشرين سنة وبالجملة إِنَّ هذا التوالد بيننا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ غريب خارق للعادة ان وقع
قالُوا ازالة لشكها وتعجبها أَتَعْجَبِينَ وتستبعدين مِنْ أَمْرِ اللَّهِ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة وحكمه وحكمته أمثال هذا اى التوالد بينكما تفضلا وامتنانا وما هذا الا رَحْمَتُ اللَّهِ اى انواع فضله وجوده وَبَرَكاتُهُ اى خيراته الكثيرة النازلة عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ الْبَيْتِ يعنى اهل بيت الخلة والنبوة إِنَّهُ سبحانه في ذاته حَمِيدٌ يفعل دائما ما يوجب الحمد له مَجِيدٌ محسن كثير الإحسان والانعام المستجلب لانواع المحامد والاثنية
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ اى الخوف والرعب بتسلية الرسل إياه وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بما لا ترقب له فيه أخذ يُجادِلُنا اى يجادل مع رسلنا ويناجى معنا فِي حق قَوْمِ لُوطٍ وأخذنا إياهم وما حمله على المجادلة والمناجاة إلا فرط اشفاقه ورقة قلبه
إِنَّ إِبْراهِيمَ في نفسه لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام كظيم الغيظ والغضب صبور على عموم المصيبات أَوَّاهٌ كثير التأوه والتأسف من الذنب الصادر عنه مُنِيبٌ رجاع الى الله في جميع حالاته فقاس حالهم على نفسه فأخذ يجادل في حقهم مؤملا انابتهم ورجوعهم قال الرسل له بوحي الله إياهم
يا إِبْراهِيمُ المتحقق بمقام الخلة أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال وانصرف عن مدافعة حكم الله المبرم المحكم إِنَّهُ اى الشان قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وثبت منه الحكم بهلاكهم ولا تنفعهم مجادلتكم وممانعتكم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عن قريب عَذابٌ حتم جزم غَيْرُ مَرْدُودٍ بتقويك وحمايتك وَاذكر يا أكمل الرسل
لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً على اشكال مرد ملاح صباح متناسبة الأعضاء وهم ما رأوا طول عمرهم أمثال هؤلاء في الصباحة واللطافة وكمال الرشاقة سِيءَ بِهِمْ اى ساء مجيئهم على هذه الأشكال لوطا ومن آمن معه وَضاقَ مجيئهم على هذه الصور البديعة بِهِمْ ذَرْعاً قد شق واشتد على لوط والمؤمنين امر حفظهم وحضانتهم لأنهم عالمون بقبح صنيع قومهم لو علموا مجيئهم لقصدوا بهم ولهم ايضا مكروها واشتد عليهم ايضا مدافعتهم وإخراجهم إذ هم قد نزلوا ضيفا فاضطر لوط في أمرهم وشأنهم وتحير وَقالَ متأوها متضجرا متأسفا هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ شديد مظلم في غاية الشدة والظلمة
وَبعد ما انتشر خبر نزولهم جاءَهُ قَوْمُهُ متجسسين يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ويطوفون حول بيته سريعا ويطلبون فرصة الدخول عليهم ويحتالون لدفع لوط والمؤمنين وَهم قوم خبيث مِنْ قَبْلُ قد كانُوا من غاية خباثتهم يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الخارجة عن مقتضى العقل والنقل والمروة وحين اضطر لوط من تبخترهم وترددهم ولم ير في نفسه مدافعتهم ومقاومتهم(1/359)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
قالَ لقومه من غاية غيرته وحميته في حق أضيافه يا قَوْمِ هؤُلاءِ الإناث بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ان أردتم الوقاع فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور وَلا تُخْزُونِ ولا تخجلوني فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ ايها المجبولون على فطرة الإدراك رَجُلٌ رَشِيدٌ ذو مروءة وعقل كامل
قالُوا في جوابه مبالغين مقسمين والله لَقَدْ عَلِمْتَ يقينا ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ اى ميل وحظ بل انما عرضت بناتك علينا لنترك اضيافك وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ يقينا ما نُرِيدُ ثم لما اضطر لوط عليه السّلام من مسارعتهم ومماراتهم
قالَ مشتكيا الى الله مناجيا نحوه لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ادفع بها خزيي وخزي أضيافي لا دفعكم بتوفيق الله واقداره أَوْ آوِي وارجع حين ظهور عدم مقاومتى ومدافعتي معكم إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ هو حفظ الله وكنف وقايته وجواره وحصين حضانته وحصاره ثم لما رأى الرسل اضطرار لوط واضطرابه إذ هو غلق على أضيافه باب بيته فيجادل مع قومه ويتكلم معهم عند الباب وبعد ما امتدت مجادلته معهم قصدوا ان يثقبوا الجدار فاشتغلوا بالثقب والنقب
قالُوا اى الرسل بعد ما بلغ الم لوط غايته يا لُوطُ لا تغم ولا تضطرب في أمرنا ولا تهلك نفسك غيرة وغيظا إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ابدا ولن ينالوا باضرارنا حتى اضطررت من أجلنا ذرنا معهم واخرج أنت من بيننا فخرج لوط عليه السّلام مفتحا باب بيته فدخلوا على الرسل بالفور فضرب جبرئيل بجناحه على وجوههم فأعماهم فانقلبوا خارجين صائحين النجاء النجاء فان في بيت لوط سحرة وبعد ما خرجوا فاقدين أبصارهم قال الرسل امر اللوط فَأَسْرِ اى سر ليلا بِأَهْلِكَ وبمن آمن معك بِقِطْعٍ اى بعد مضى طائقة مِنَ اللَّيْلِ وَبعد ما خرجتم لا يَلْتَفِتْ ولا ينظر مِنْكُمْ ايها الخارجون أَحَدٌ خلفه حين سمع حنينهم وأنينهم وتشدد العذاب عليهم إِلَّا امْرَأَتَكَ فإنها تلتفت البتة حين سمعت الصيحة فخرجوا على الوجه المأمور فنزل عليهم العذاب بعد خروجهم بالفور فصاحوا صيحة عظيمة ولم يلتفت احد من الخارجين الا مرأته فلما سمعت التفتت وصاحت وا قوماه فاصيبت هي ايضا بلا تراخ ومهلة إِنَّهُ اى الأمر والشان في علمنا مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ فلما سمع لوط من الرسل ما سمع واستسرع الى مقتهم من شدة ضجرته منهم قالوا له إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ اى موعد هلاكهم صبح هذه الليلة أَلَيْسَ الصُّبْحُ ايها المستعجل بِقَرِيبٍ
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا على رسلنا باهلاكهم جَعَلْنا اى جعل الرسل باقدارنا وتمكيننا إياهم قريتهم عالِيَها سافِلَها اى يقلبون عليهم بيوتهم وَمع ذلك قد أَمْطَرْنا من جانب السماء عَلَيْها اى على أماكنهم وقراهم حِجارَةً تتحجر مِنْ سِجِّيلٍ وهو معرب سنك وكل مَنْضُودٍ ممتزج منضد بعضها على بعض
مُسَوَّمَةً معلمة مقدرة عِنْدَ رَبِّكَ وحضرة علمه ولوح قضائه لإهلاك هؤلاء البغاة الغواة الهالكين في تيه الغفلة والغرور بها وَبالجملة ما هِيَ اى أمثال هذه البليات والمصيبات مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن حدود الله وعن مقتضيات أوامره ونواهيه بِبَعِيدٍ غريب حتى يستغرب في حقهم
وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين المعتبرين من ذوى الاستبصار والاعتبار وقت إذ أرسلنا إِلى مَدْيَنَ حين بالغوا التطفيف والتخسير في المكيلات والموزونات أَخاهُمْ ومن شيعتهم شُعَيْباً المتشعب منهم ليكون ادخل في نصحهم واجهد في هدايتهم وإرشادهم قالَ موصيا لهم متحننا على وجه الشفقة والنصيحة يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد(1/360)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
الصمد الفرد الذي ليس له شريك في الوجود والألوهية والربوبية وتيقنوا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ مظهر لكم وكذا لعموم ما ظهر وما بطن غيبا وشهادة غَيْرُهُ بل الألوهية محصورة عليه مقصورة له منحصرة بذاته إذ لا شيء سواه ولا يستحق للعبادة الا هو وَعليكم ايها المأمورون من عنده بالاعتدال والاقتصاد في جميع الأخلاق والأفعال والأحوال ان لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ لبنى نوعكم إِنِّي أَراكُمْ وأخبركم بِخَيْرٍ اى سعة ورفاهية فائضة من الله عناية لكم وتفضلا عليكم فعليكم ان تزيدوها وتديموها بالشكر والإنصاف والانتصاف على مقتضى ما أمرتم به من عند ربكم وَان لم تسمعوا منى نصحى ولم تقبلوا قولي إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ من غيرة الله ومن كمال قهره وسطوة جلاله عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ فيه عذابه على عموم اهل الزيغ والضلال المنحرفين عن جادة الاعتدال
وَبعد ما قدم المنهي للعناية والاهتمام بشأنه اردفه بالمأمور للتأكيد والمبالغة وزيادة التقرير والاحكام كأنه قد استدل عليه لمزيد اشفاقه بهم وكمال مرحمته إياهم فقال يا قَوْمِ ان أردتم خير الدارين ونفع النشأتين أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ على عباد الله لا تزيدوا عليهما ولا تنقصوا منهما إذ كلا الطرفين مذمومان بلا وفيهما فاوفوهما بِالْقِسْطِ والعدل السوى وَعليكم ان لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ في حال من الأحوال وَبالجملة لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ولا تظهروا عليها بالمكر والخداع والحيف والبخس والتطفيف
وبالجملة بَقِيَّتُ اللَّهِ التي قد قدرها لعباده في حضرة علمه خَيْرٌ لَكُمْ ومزيد لأموالكم من تطفيفكم وتنقيصكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله وبكمال تدبيراته وتقديراته وَاعلموا يا قوم ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ احفظكم عن جميع ما لا يعنيكم بل ما انا الا مبلغ ما أرسلت به إليكم فلكم الامتثال والتوفيق من الله الكبير المتعال
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالُوا له مستهزئين متهكمين يا شُعَيْبُ المدعى دعوة الخلق الى الحق أَصَلاتُكَ الكثيرة التي تصليها في خلواتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام والأوثان أَوْ أَنْ نَفْعَلَ ونتصرف فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا يعنى أتأمرك صلاتك ان نترك أفعالنا التي قد كنا عملنا بها في ازدياد أموالنا وبضائعنا حسب ارادتنا واختيارنا إِنَّكَ ايها الداعي للخلق الى الحق لَأَنْتَ الْحَلِيمُ ذو الحلم والكرم لا تعجل في الانتقام الرَّشِيدُ العاقل الكامل الكافل لا تتكدر بأمثال هذه الأوهام
وبالجملة ما قالوا له أمثال هذا الا استهزاء وسخرية قالَ شعيب عليه السّلام بعد ما تفرس بنور النبوة استهزاءهم يا قَوْمِ الساعين للباطل المصرين عليه أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ
قد جئت لكم ملتبسا عَلى بَيِّنَةٍ مصدقة لي ناشئة مِنْ قبل رَبِّي معجزة لعموم من يقابلني ويعارضني وَمع ذلك قد رَزَقَنِي مِنْهُ اى من عنده سبحانه رِزْقاً حَسَناً معنويا وصوريا وروحانيا وجسمانيا فهو لا يليق بمثلي ان يفترى عليه سبحانه وينسب اليه امر ما لم يوح اليه من عنده كذبا او بهتانا وَاعلموا ايضا انى ما أُرِيدُ بنهي لكم عن التطفيف والتبخيس أَنْ أُخالِفَكُمْ فيما أنتم عليه وارجع انا بنفسي إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ لاستبد واتخصص به وبالجملة ما هذا الا إفساد وميل عن جادة الحق وصراط الله الا قوم فكيف يميل سيما الموحد المؤيد من عند الله بأنواع اللطف والكرم واصناف المعجزات الخارقة للعادات الى أمثال هذا بل إِنْ أُرِيدُ وما اقصد إِلَّا الْإِصْلاحَ مقدار مَا اسْتَطَعْتُ وَما انا متكفل للإصلاح ايضا ومدّع للاستقلال به إذ ما تَوْفِيقِي وليس اقتدارى وتمكينى وما حولي وقوتي(1/361)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
إِلَّا بِاللَّهِ إذ لا حول ولا قوة بالأصالة الا بالله لذلك عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وثقت والتجأت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ارجع وأتوقع في عموم ما رجوت إذ هو مولاي ومتولى أموري وعليه اعتمادي واعتضادى
وَبعد ما تفرس منهم العصبية والمراء قال على مقتضى المحبة والشفقة وإرخاء العنان يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي اى لا يحملنكم بغضي وعداوتي المركوزة في قلوبكم على الجرائم المستجلبة لانواع العذاب والنكال إياكم وبالجملة انى أخاف عليكم أَنْ يُصِيبَكُمْ بسبب جرائمكم وعصيانكم مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ مثل ما أصاب قَوْمَ هُودٍ أَوْ مثل ما أصاب قَوْمَ صالِحٍ وَبالجملة ما قَوْمُ لُوطٍ وقصة استئصالهم وإهلاكهم وتقليب أماكنهم عليهم مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ متماد في البعد بحيث يحصل لكم الذهول عنه لقرب عهدهم
وَيا قوم اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ الذي قد أظهركم من كتم العدم من جميع فرطاتكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ وأخلصوا في انابتكم ورجوعكم نحوه ولا تغتموا بعد اخلاص التوبة بما جرى عليكم من الجرائم إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ يقبل توبتكم ويعفو زلتكم الصادرة عنكم فيما مضى وَدُودٌ يحبكم حينئذ ويرحمكم ويتفضل عليكم وبعد ما قد بالغ عليه السّلام في نصحهم وإرشادهم
قالُوا له تسفيها وتخويفا يا شُعَيْبُ نادوه باسمه على سبيل الاستهزاء والاستحقار ما نَفْقَهُ ونعقل كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ اى بعض هذياناتك التي قد تكلفت أنت بها وَإِنَّا وان لم نفهم بعض كلماتك لابتنائها على الخبل والخرق لَنَراكَ في بادى الرأى فِينا ضَعِيفاً في غاية الضعف والحقارة وَبالجملة لَوْلا رَهْطُكَ اى عشائرك واقوامك لَرَجَمْناكَ بالحجارة البتة بسبب هذياناتك هذه وذكرك آلهتنا بالسوء ودخلك على أفعالنا وتصرفاتنا فيها وَاعلم يقينا انك بنفسك ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ بل عزتك عندنا بسبب رهطك لكونهم إخواننا في الدين فلا نريد إذا هم بقتلك والافتتان بك ورجمك وبعد ما ايس شعيب عليه السّلام عن ايمانهم
قالَ يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه هنا تهكما بخلاف ما مضى إذ قد قنط عن صلاحهم بالمرة أَرَهْطِي واقوامى أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ الذي أوجدكم من كتم العدم فعززتموهم وراعيتم جانبهم وَاتَّخَذْتُمُوهُ اى الله سبحانه وأوامره ونواهيه واطاعة رسوله وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا مطروحا منبوذا وراء ظهوركم بل قد رجحتم جانب المصنوع المرجوح على صانعه الراجح وبالجملة إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ من المفاسد مُحِيطٌ بعلمه احاطة حضور بحيث لا يغيب عنه شيء فيفصلها عليكم ويجازيكم بها
وَيا قَوْمِ الناكبين عن طريق الحق المصرين على الباطل اعْمَلُوا ما شئتم عَلى مَكانَتِكُمْ وعلى مقتضى مرتبتكم وشأنكم اىّ عمل شئتم إِنِّي ايضا عامِلٌ على شأنى سَوْفَ تَعْلَمُونَ أنتم وانا ايضا مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ويرديه وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ منا بالله بسر ربوبيته وتوحيده وَارْتَقِبُوا وانتظروا وترقبوا أنتم بالعذاب والنكال إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ متربص منتظر
وَلَمَّا جاءَ ونفذ أَمْرُنا باهلاكهم نَجَّيْنا وأخرجنا أولا من بينهم شُعَيْباً الناجي وَكذا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وامتثلوا بما أمروا به من عنده بِرَحْمَةٍ نازلة مِنَّا إياهم تفضلا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم حين صاروا في فراشهم بائتين الصَّيْحَةُ الهائلة فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ التي كانوا مترفهين فيها جاثِمِينَ جامدين جثمانهم وأجسامهم بلا روح وصاروا
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا ولم يسكنوا فِيها فصاح عليهم من صاح من ارباب الفطنة والعبرة أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ
وَبعد ما انقرض أولئك الطغاة الغواة المهلكون في الغي والضلال(1/362)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
المفسدون في الأرض بأنواع الإفساد والإضلال لَقَدْ أَرْسَلْنا حين حدث على الأرض أمثال ما حدث في ازمنة أولئك الهالكين بل هؤلاء أسوأ منهم حالا وأقبح شيمة منهم وخصالا وأشد منهم بغضا وشكيمة على الحق واهله عبدنا مُوسى اى المختص من لدنا بتكليمنا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا واستقلالنا في ملكنا وملكوتنا وَسُلْطانٍ اى قد أيدناه من لدنا بحجة واضحة وبرهان قاطع مُبِينٍ ظاهر الدلالة على صدقه في دعواه عند من له ادنى مسكة
إِلى فِرْعَوْنَ الذي هو رأس اهل الضلال ورئيسهم حيث يتفوه بالالوهية من غاية عتوه واستكباره وَمَلَائِهِ المعاونين له في امره وشأنه ثم لما أمهلنا زمانا على غروره ورفعنا قدره في هذه الدنيا وصيرنا مسرورا تغريرا عليه مكرا وتلبيسا الى حيث فَاتَّبَعُوا من على الأرض أَمْرَ فِرْعَوْنَ وامتثلوا بمقتضاه وَالحال انه ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ وما حكمه وشأنه بِرَشِيدٍ هاد الى الحق موصل الى مقصد التوحيد بل هو غار موصل الى تيه الضلال والتقليد المستلزم للدخول الى نار الخذلان وسعير الحرمان إذ هو بنفسه
يَقْدُمُ قَوْمَهُ ويتقدم عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ التي قد انكشفت فيها السرائر واضمحلت الأوهام والضمائر فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ مثل إيرادهم على ماء نيل في دار الدنيا شبه حالهم في النشأة الاخرى بحالهم في النشأة الاولى لذلك عبر عنه بالإيراد وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ نار الخذلان وجحيم الحرمان
وَهم من غاية خبثهم وفسادهم أُتْبِعُوا فِي هذِهِ النشأة لَعْنَةً دائمة مستمرة وَيلعنون ايضا يَوْمَ الْقِيامَةِ بأضعاف هذه اللعنة وآلافها إيفاء لها وزيادة عليها وبالجملة بِئْسَ الرِّفْدُ والعون والعطاء الْمَرْفُودُ المعان المعطى رفدهم وعونهم الذي هو عبارة عن طردهم ولعنهم في الدارين وحسب النشأتين
ذلِكَ المذكور مِنْ أَنْباءِ الْقُرى واخبارهم وما جرى عليهم نَقُصُّهُ عَلَيْكَ بالوحي يا أكمل الرسل ليكون عبرة لك ولمن تبعك مشاهدة وتذكيرا إذ مِنْها اى من تلك القرى ما هو قائِمٌ جدرانها بلا سقوف وَمنها ما هو حَصِيدٌ مدروس مندك كالزرع المحصود قد عفت آثاره واندرست اطلاله
وَبالجملة ما ظَلَمْناهُمْ باهلاكهم وتخريب ديارهم وَلكِنْ هم قد ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ باتخاذ مصنوعاتنا آلهة أمثالنا مستحقة للعبادة ظنا منهم ان آلهتهم تنفعهم لدى الحاجة وتشفعهم وقت الشفاعة فَما أَغْنَتْ وما كفت وما دفعت عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ظلما وزورا مِنْ شَيْءٍ اى شيأ قليلا من القضاء لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وحين نزل عذابه وحل عقابه إياهم بل وَما زادُوهُمْ آلهتهم حين حلول العذاب عليهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ اى هلاك وتخسير فوق هلاك وتخسير إذ هم بسبب عبادة هؤلاء قد صاروا مطرودين عن سعة رحمة الله وجوده
وَكَذلِكَ اى ومثل ما سمعت يا أكمل الرسل أَخْذُ رَبِّكَ وانتقامه وبطشه وقت إِذا أَخَذَ الْقُرى وحين انتقم من أهلها بظلمهم وعصيانهم وَالحال انه هِيَ ظالِمَةٌ خارجة أهلها عن مقتضى الأمر الإلهي ونهيه وبالجملة إِنَّ أَخْذَهُ للمسرفين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية أَلِيمٌ مؤم شَدِيدٌ في غاية الشدة والإيلام لكونهم مبالغين في الإصرار والاستكبار
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من قصص الأمم الهالكة لَآيَةً عظة وتذكيرا عظيما وعبرة كاملة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ وحساب الله إياه فيها على رؤس الملأ والاشهاد إذ ذلِكَ اليوم يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ اى يجمع ويحشر الناس فيه لأجل الحساب والجزاء وَايضا ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يشهد فيه الجميع للجميع بل الجوارح والآلات على صاحبها(1/363)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
وَما نُؤَخِّرُهُ ونسوقه الى يوم الموعود والعذاب المعهود فيه إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ اى الى انقضاء مدة قصيرة
اذكر يا أكمل الرسل عظة وتذكيرا لمن تبعك يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم الموعود الهائل لا تَكَلَّمُ فيه نَفْسٌ ولا تشفع شافع لشدة هوله وفزعه إِلَّا بِإِذْنِهِ اى باذن الله واقداره إياها فَمِنْهُمْ اى من الموقنين في المحشر يوم العرض الأكبر شَقِيٌّ قد خرج من الدنيا على الشقاوة ووخامة العاقبة وَمنهم سَعِيدٌ قد خرج منها على السعادة وحسن العاقبة
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا في الدنيا وخرجوا منها على الشقاوة فَفِي النَّارِ اى هم في النشأة الاخرى داخلون في النار مضطرون مضطربون فيها إذ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ اى إخراج نفس من شدة الحرارة وَشَهِيقٌ اى رده يعنى حالهم فيها كحال من استولت الحرارة على قلبه وضاق الأمر عليه فيردد نفسه كما في سكرة الموت وما ذلك الا من شدة كربهم والمهم ولكونهم متناهيين في الشقاوة والقساوة في دار الدنيا لا ينقطع عذابهم فيها أصلا بل صاروا
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ اى ما تحقق الجهتان الحقيقيتان اى الفوق والتحت إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وتعلق ارادته ومشيته بإخراج البعض منها كفساق المؤمنين وبالجملة إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وله الاختيار التام في عموم مراداته ومقدوراته ومن جملتها إخراج بعض العصاة عن نيران الإمكان
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا في الدنيا وخرجوا على السعادة منها فَفِي الْجَنَّةِ اى هم في النشأة الاخرى في الجنة التي أعدت للسعداء الآمنين الفانين الفائزين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ متنعمين فيها مترفهين بأنواع النعم الجسام إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وتعلق ارادته ان يرفعهم بأعلى منها الا وهو الانكشاف الذاتي والتجلي الشهودى كل ذلك لمن يعطى عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ متناه مقطوع إذ لا انقطاع للتجليات الذاتية ولا للذاتها المترتبة عليها بالنسبة الى الفائزين بها جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم وبعد ما تبين حال السعداء المقبولين والأشقياء المردودين
فَلا تَكُ أنت يا أكمل الرسل فِي مِرْيَةٍ شك وتردد مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ المشركون ان يستجلب عليهم العذاب والنكال كما استجلب على أسلافهم إذ هم ما يَعْبُدُونَ لأوثانهم وأصنامهم إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ وأسلافهم إياها مِنْ قَبْلُ فيلحقهم مثل ما لحقهم لان اشتراك الأسباب يوجب اشتراك المسببات بالضرورة وَإِنَّا وان امهلناهم زمانا في الدنيا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ وحظهم من العذاب في الآخرة مثلهم غَيْرَ مَنْقُوصٍ عن عذابهم عدلا منا إياهم
وَكيف لا نوفى العذاب على المشركين لَقَدْ آتَيْنا من عظيم جودنا مُوسَى الْكِتابَ اى التورية حين نشأ الجدال والمراء والكفر والفسوق بين بنى إسرائيل واضمحلت العدالة بالكلية فَاخْتُلِفَ فِيهِ مثل اختلافهم في كتاب الذي هو أفضل الكتب علما واحاطة واجمعها حكما وأشملها معرفة وأكملها حقيقة وكشفا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في انظار هؤلاء الكفرة وإمهالهم الى يوم القيمة لَقُضِيَ حكم وفصل بَيْنَهُمْ الآن بحيث يتميز المحق من المبطل فيلحق المبطلين وبال ما صنعوا فهلكوا كما هلكوا وَإِنَّهُمْ اى كفار قومك يا أكمل الرسل من غاية انهماكهم في الغفلة وتماديهم في العناد والاستكبار لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى من امر القرآن مع انهم قد عارضوا معه مرارا فأفحموا مُرِيبٍ موقع في الريب والشك سيما بالنسبة الى الخرق المنحطين عن التأمل في مرموزاته والتدرب في إشاراته
ثم قال سبحانه وَإِنَّ كُلًّا اى ما كلا(1/364)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
من المؤمنين المحقين والكافرين المبطلين لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ويوفون عليهم حين يحشرون ويعرضون على الله للحساب والجزاء بلا زيادة ولا تنقيص إظهارا للقدرة الغالبة الكاملة والعدالة التامة الشاملة رَبُّكَ الذي أظهرهم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة أَعْمالَهُمْ اى اجورها وجزاءها ان خيرا فخير وان شرا فشر وكيف لا يوفيهم ولا يوفر عليهم سبحانه أجورهم إِنَّهُ سبحانه بذاته وأوصافه وأسمائه بِما يَعْمَلُونَ من الخير والشر والصلاح والفساد والعبادة وتركها خَبِيرٌ على وجه الحضور بحيث لا تغيب عن حضوره غائبة ولا تخفى عليه خافية ومتى تفطنت يا أكمل الرسل بخبرة الحق وحضوره تفطنا شوقيا وتنبهت تنبها وجدانيا حضوريا وانكشفت بها انكشافا عينيا شهوديا
فَاسْتَقِمْ واعتدل في اوصافك وافعالك وأقوالك كَما أُمِرْتَ من قبل ربك وبموجب وحيه والهامه عليك وَامر ايضا بالعدالة والاستقامة مَنْ تابَ مَعَكَ وآمن لك واتبعك وَبالجملة لا تَطْغَوْا ولا تميلوا ولا تخرجوا ايها المتحققون بحقية التوحيد واستقامة صراطه ولا تنحرفوا عن سبيل السلامة التي هي جادة الشريعة المصطفوية أصلا إِنَّهُ سبحانه بذاته بِما تَعْمَلُونَ من عموم الأعمال الموجبة للعدالة او الانحراف بَصِيرٌ لا يخفى عليه شيء ولصعوبة الامتثال بهذه الآية الكريمة قال صلّى الله عليه وسلّم شيبتني سورة هود وقال ايضا صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية قصمت ظهور أنبياء الله وأوليائه
وَبالجملة لا تَرْكَنُوا ولا تميلوا ميلة يسيرة ولا تلتفتوا التفاتا قليلا ايها المستوون على صراط الحق المستقيمون في جادة عرفانه وتوحيده إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وخرجوا عن حدود الله الموضوعة لإصلاح احوال عباده فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بادنى الميلة والالتفات وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ينقذونكم من النار لو توالونهم وتداومون الميل إليهم ثُمَّ اعلموا انكم لو اخترتم موالاة الظلمة واتخذتموهم إخوانا كسائر المؤمنين لا تُنْصَرُونَ أنتم ولا تنقذون من النار بولايتهم ونصرهم ايضا فعليكم ان لا تتخذوا الكفار اولياء من دون المؤمنين
وَأَقِمِ الصَّلاةَ وداوم يا أكمل الرسل على الميل والركون الى الله بجميع الأعضاء والجوارح في عموم الأوقات والحالات سيما طَرَفَيِ النَّهارِ اى قبل الطلوع وقبل الغروب فإنهما وقتان محفوظان عن وسوسة الأوهام خاليان عن الشواغل غالبا وَعليك ان تختلس الفرصة لتوجهك زُلَفاً في آنات وساعات مِنَ أواخر اللَّيْلِ قريبة بالنهار فان مجرد اقدامك عليها وإقامتك لها حسنات سيما في تلك الساعات الخالية عن وساوس الشواغل والخيالات إِنَّ الْحَسَناتِ الخالية عن شوب الرياء والرعونات يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وتصفى صاحبها عن كدر الغفلات ذلِكَ اى الأمر بالاستقامة على المتذكرين الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويتعظون بجميع ما جرى عليهم من الخصب والرخاء انما هو ذِكْرى وعظة كافية وتذكرة وافية لِلذَّاكِرِينَ الله في عموم أحوالهم وحالاتهم
وَبالجملة اصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل على أذاهم واكظم غيظك فان الصبر على المصيبات من أعظم الحسنات والمثوبات فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ سيما على من أساء إليهم
فَلَوْلا وهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ الذين قد خلوا مِنْ قَبْلِكُمْ فيهم أُولُوا بَقِيَّةٍ وتقية وذووا رأى ونهية وفضل وتدبير يَنْهَوْنَ برأيهم الصائب وتدبيرهم المتين عَنِ الْفَسادِ الواقع فِي الْأَرْضِ لكن اليوم ما بقي منهم عليها احد إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ اى من عقلائهم ليتبع لهم العوام فينجوا من الآثام وَمع ذلك لم يتبعوا حتى ينجوا بل اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا(1/365)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
أنفسهم بالعرض على عذاب الله وبالخروج عن مقتضى حدوده في ما أُتْرِفُوا فِيهِ اى المترفهون المتنعمون من ذوى اللذات والشهوات فاهتموا بتحصيل اسبابها وَكانُوا بميلهم الى مقتضيات الهوى واللذات الجسمانية مُجْرِمِينَ مستحقين لانواع العقوبات
وَما كانَ رَبُّكَ وليس من سنته وجرى عادته لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ اى بسبب شرك وكفر صدر عنهم وَأَهْلُها والحال ان أهلها مُصْلِحُونَ على الأرض لا مفسدون عليها يعنى لا يأخذهم سبحانه بمجرد حق الله بلا انضمام حقوق العباد اليه بل انما أخذهم الله حين فشا الفسوق والمراء وظهر الفساد والجدال بين العباد
كيف وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ من غاية لطفه لعباده بمقتضى جماله لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً متفقة على التوحيد بلا مخالفة منهم وَلكن قد اظهر وأوجد البعض بمقتضى الجمال والبعض الآخر بمقتضى القهر والجلال لذلك لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الهداية والضلالة والسعادة والشقاوة
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وجعل فطرته على صرافة الوحدة وَلِذلِكَ التوحيد والعرفان قد خَلَقَهُمْ وأظهرهم سبحانه وَبالجملة قد تَمَّتْ وجرت كَلِمَةُ رَبِّكَ بوضع الاختلاف بين استعدادات عباده حسب شئونه وتجلياته بمقتضى أوصافه المتضادة وأسمائه المتقابلة بحسب الكمال لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ التي قد أعدت للأشقياء المردودين المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية والقسط الحقيقي مِنَ الْجِنَّةِ اى الشياطين وَالنَّاسِ التابعين لهم والمقتفين أثرهم أَجْمَعِينَ من جنسهما جميعا
وَكُلًّا اى كل قصة نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ العظام من جملة ما نُثَبِّتُ بِهِ ونقرر على مقر التوحيد فُؤادَكَ إذ بكل قصة من القصص المذكورة ينشرح صدرك لقبول التوحيد ونزول الوحدة الذاتية وَقد جاءَكَ وحصل لك فِي هذِهِ القصص الْحَقُّ اى الشهود الكامل والانكشاف التام المطابق للواقع خاصة وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يصدقونك ويقتفون اثرك
وَقُلْ يا أكمل الرسل لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بك وبدينك وكتابك مماراة لهم ومباهلة اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ اى عمل شئتم إِنَّا عامِلُونَ ايضا على مكانتنا وشأننا بتوفيق الله إيانا
وَانْتَظِرُوا باى شيء انتظرتم إِنَّا ايضا مُنْتَظِرُونَ بالعواقب
وَالغايات عند الله العالم بالسرائر والخفيات إذ لِلَّهِ خاصة لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والاطلاع عليهما وعلى مكنوناتهما وَإِلَيْهِ لا الى غير يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ إذ لا مرجع سواه ولا آمر الا هو فَاعْبُدْهُ يا أكمل الرسل حق عبادته وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ حق التوكل والتفويض وَما رَبُّكَ يا أكمل الرسل المحيط حضرة علمه بعموم ذرائر الأكوان احاطة حضور بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من العبادة والإخلاص والتبتل والتوكل والرضا والتسليم وكذا من نقائضها
خاتمة سورة هود عليه السّلام
عليك ايها الموحد المحمدي المأمور بتهذيب الأخلاق من الرذائل والأوصاف من الذمائم والأفعال من القبائح والأقوال من الكواذب وعموم الأطوار من المخالفات المنافية لصرافة الوحدة ان تستقيم وتعتدل حسب عزائمك في هذه الأمور على الوجه المأمور لنبيك الذي هو قبلة جميع مقاصدك بقوله تعالى فاستقم كما أمرت واعتدل بجميع ما صدر عنك فلك ان تقتفى اثره صلّى الله عليه وسلّم(1/366)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
في عموم احوالك من امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتهذيب الأخلاق والأطوار إذ هو صلّى الله عليه وسلّم زبدة ارباب التوحيد الواصلين بمقعد الصدق ومقام التفريد. والسابقون واللاحقون كلهم مقتبسون من مشكاة انواره ومصابيح اسراره صلّى الله عليه وسلّم فعليك ايها المستفيد المسترشد من الكلام المجيد ان تضبط عموم احوالك على الاستقامة والاعتدال وتجتنب عن كلا طرفي الإفراط والتفريط وتستعيذ بالله عن مداخلة الرياء والسمعة المنافيين للإخلاص واعلم ان خير قرينك في طريقك هذا الرضا والتسليم والتوكل والتفويض الى العزيز العليم ولك اختيار العزلة والفرار عن الخلطة والاجتناب عن الانخراط في سلك اهل الثروة واصحاب الغفلة ودوام القناعة بالكفاف والعزوبة بالعفاف سيما في زمانك هذا وإياك إياك ان تفرق همك وتشغل خاطرك في امور دنياك ولو لحظة حتى لا تورثك هما كثيرا وحزنا طويلا إذ المسافر في منزله لا يتصرف الا بمقدار مقيله اما تسمع قول النبي الأديب الأريب. كن في الدنيا كأنك غريب. واشدد حيازيمك للموت والرحيل.
كأنك عابر سبيل. وبالجملة لا تغتر بحياتك في دار الغرور. وعدّ نفسك من اصحاب القبور. فهذا دأب اهل السرور. وديدنة ارباب الحضور. جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم
[سورة يوسف عليه السّلام]
فاتحة سورة يوسف عليه السّلام
لا يخفى على من تأمل في صور الرؤيا وتدبر في كيفية ظهورها وانمحائها سريعا وترتب الآثار الغريبة على تعبيراتها ان الوجود الخيالى الطف الموجودات وأرقها وأصفاها عن كدر الهيولى وأشبهها بالتجليات الإلهية المتجددة المتشعشعة دائما الا ان الآثار الغيبية التي هي منتزعة عنها مأخوذة منها ستوجد البتة لذلك وجب العبور عنها والتعبير لها ولهذا صار الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزء من أجزاء النبوة الا ان المطلعين عليها والمتأملين فيها لا يكونون الا ممن خصه الله بالنفوس القدسية والمرتبة الحدسية المتفرعة على التمرن والرسوخ في كشف سرسريان الوحدة الذاتية المتجلية على ذرائر المكونات وكذا في كيفية رقائق المناسبات والارتباطات الواقعة بين أجزاء المظاهر وجزئياتها والمتصف المتحقق بهذه المرتبة العلية في غاية الندرة إذ بواسطة ذلك الاتصاف قد صارت كمالاتهم اللائقة لنشأتهم كلها بالفعل وصاروا بذلك مستحقين للخلافة والنيابة الإلهية ومنهم يوسف الصديق صلوات الله عليه وسلامه قد أحاط بمقتضيات حضرة الخيال الى حيث لم يشذ عن تعبيره صورة من صور الرؤيا كما اخبر عنه الحق سبحانه في هذه السورة ويفصح عنه التواريخ والآثار المروية عن النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم ثم لما أراد سبحانه ان يشير الى مرتبته صلّى الله عليه وسلّم وينبه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعلو شأنه وسمو رتبته ذكر قصته في كتابه تتميما لسعة دائرة كمال حبيبه صلى الله عليه وسلّم والمقتفين اثره صلّى الله عليه وسلّم من خلص اولياء الله لينال كل منهم الى ما قدر الله لهم من لطفه وحظوظ المراتب العلية فقال متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بكمالاته على حضرة الخيال الرَّحْمنِ لعباده بالعبور عنها الى صور الهياكل العينية والتمثال الرَّحِيمِ لهم أوصلهم الى كيفية ظهوره بالتفصيل والإجمال
[الآيات]
الر ايها الإنسان الأكمل اللائق الرشيد لرفع لواء سرائر الربوبية ورموز التوحيد وتمييز أجل لباب الرؤيا والروايات الواردة البينة عن قشورها تِلْكَ العبر والأمثال والقصص والآثار المذكورة لك فيما يتلى عليك يا أكمل الرسل لتأييدك وارتفاع شأنك آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الذي هو عبارة عن حضرة علمنا المحيط المشتمل(1/367)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
على عموم مراداتنا ومقدوراتنا
إِنَّا من مقام عظيم لطفنا وجودنا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً منظما على صور الألفاظ والعبارات مترجما عما عليه الأمر في حضرة علمنا الحضوري عَرَبِيًّا أسلوبه عناية منا إليكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ معناها وتطلعون على مرموزاتها وإشاراتها وتطرحون عقولكم المموهة لكم لكشف سرائرها وخفياتها
نَحْنُ من كمال لطفنا معك يا أكمل الرسل نَقُصُّ عَلَيْكَ تأييدا لأمرك تعظيما لشأنك أَحْسَنَ الْقَصَصِ سماعا واستماعا وأكملها انتفاعا وأشملها عبرة وأتمها فائدة وأعمها عائدة إذ الفطن اللبيب قد استفاد منها من العبر والتذكيرات والرموز والإشارات ما يكفى مؤنة سلوكه في امر دينه لو كان من ذوى الرشد واهل الخبرة والبصيرة وانما علمنا هالك ونبهنا عليك ملتبسا بِما أَوْحَيْنا وبمقتضى ايحائنا وانزالنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ المخبر عن المغيبات المكنونة المخزونة في حضرة علمنا ولوح قضائنا وَإِنْ كُنْتَ أنت في نفسك مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل وحينا والهامنا إياك لَمِنَ الْغافِلِينَ
اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ حين بلغ الحلم وترقى من الطفولية يا أَبَتِ ناداه تحننا اليه إِنِّي رَأَيْتُ في المنام أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً من الكواكب العظام وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
ايضا معهن رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ جميعا واضعين جباههم على تراب المذلة والهوان عندي تعظيما وتكريما جمعها جمع العقلاء باعتبار ما يئول اليه ويأول به ثم لما تفرس أبوه من رؤياه ما تفرس بادر الى نهيه ومنعه عن الانتشار والإفشاء لإخوته
حيث قالَ له أبوه قبل ان يشتغل بتأويلها وتعبيرها يا بُنَيَّ صغره تلطفا عليه وإشفاقا وتخوفا من كيد اخوته معه لا تَقْصُصْ ولا تذكر رُؤْياكَ التي قد رأيتها عَلى إِخْوَتِكَ لئلا يحسدوا لك من ارتفاع شأنك فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً باغواء الشيطان إياهم ويحتالوا لمقتك وهلاكك حسدا ومكرا عليك وبالجملة إِنَّ الشَّيْطانَ المغوى المضل لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة محيل عظيم يعاديهم في لباس الصداقة ويفسدهم في صورة الإصلاح
ثم لما سارع يعقوب عليه السّلام بالنهى عن الإفشاء تحذيرا وتخويفا له من كيد اخوته اشتغل بتأويل رؤياه فقال وَكَذلِكَ اى ومثل اراءتك هذه الرؤيا وتخصيصك بها يَجْتَبِيكَ وينتخبك رَبُّكَ من بين الناس ويخصك بالرياسة العظمى والمرتبة العليا إلا وهي النبوة والنيابة الإلهية وَبعد ما يصطفيك ويجتبيك يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ اى يخصصك بعلم الرؤيا وتعبيرها بحيث قد انكشف لك حضرة الخيال انكشافا تاما وَبالجملة يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَبوسيلتك عَلى آلِ يَعْقُوبَ وبنيه وأحفاده ومن ينتمى اليه من ذرياته وان سفل كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ وجديك مِنْ قَبْلُ في سالف الزمان يعنى إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ قد أعطاهما من الانعام والإفضال ما لم يعط أحدا من الخلة والإنجاء والانقاذ والفدية والخلاص وغير ذلك من النعم الجسام إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع اللطف والكرم عَلِيمٌ بعلمه الحضوري باستعدادات عباده على مقتضى ما ثبت في لوح قضائه اجمالا حَكِيمٌ في صور تفاصيله وفق الإجمال بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء
واعلم يا أكمل الرسل انه لَقَدْ كانَ فِي قصة يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وما جرى بينهم من الحيل والمخادعات وإسقاط المروءة وانواع الخيانات والجنايات الناشئة من القوى الطبيعية التي هي من مقتضيات الهيولى ولوازم الأركان والإمكان ومن الانابة والرجوع منها الى الله في الخلوات واظهار الندم والاستحياء من الله ومن يوسف وأبيه آياتٌ دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على سرائر التوحيد واسرار العرفان(1/368)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
لِلسَّائِلِينَ عن دقائق المعارف والحقائق ورقائق الايمان والعرفان لو تأملوا في رموزها وإشاراتها واعتبروا منها
اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالُوا اى اخوة يوسف حين بثوا الشكوى من أبيهم في خلواتهم حاسدين على يوسف وأخيه والله لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين أضافوه اليه لكونه من امه وهم ليسوا كذلك أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا يؤانس بهما ويتحنن نحوهما وَنَحْنُ عُصْبَةٌ فرقة ذووا قوة وكفاية نحن نستحق وننبغى ان يحننا ويلتفت إلينا وبالجملة إِنَّ أَبانا في تفضيل المفضول وترجيح المرجوح لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر المخالفة بالعقل والعرف فعليكم ايها الاخوان ان تتأملوا في امر أبيكم وتحتالوا لمقت يوسف وهلاكه حتى لا يلحق العار عليكم ولا يمحقكم الحقد والحسد
وبالجملة اقْتُلُوا يُوسُفَ حتى ييأس أبوكم منه ويقبل نحوكم بالمرة أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً بعيدة عن العمران غاية البعد حتى ينساه أبوه وحينئذ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ اى يخص ويخلص لكم مواجهة أبيكم خاليا عن اغياركم ويقتصر حينئذ التفاته وتحننه نحوكم وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد فقد يوسف عن نظر أبيكم وغيبته من عنده قَوْماً صالِحِينَ لخدمته وصحبته وموانسته او المعنى بان تتوبوا بعد ما قد صدر عنكم هذه الجريمة وتكونوا من بعده قوما صالحين تائبين نادمين وبعد ما شاوروا في مقت يوسف وطرحه وطرده
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ وهو يهودا وكان أحسنهم رأيا لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ إذ نحن عترة الأنبياء لا يليق بنا قتله بلا رخصة شرعية وَان أردتم ان تدفعوه عن عند أبيكم أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ الذي على متن الطريق يَلْتَقِطْهُ ويذهب به بَعْضُ السَّيَّارَةِ اى بعض السائرين في اقطار الأرض الواردين على الماء فلا طريق لكم لطرده وتبعيده سوى هذا إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قاصدين جازمين ان تفعلوا معه ما يبعده عن وجه أبيه وبعد ما سمعوا من يهودا ما سمعوا فقد استقر رأيهم على ما رأى فأخذوا يحتالون ويمكرون لينالوا ما قصدوا به فاجتمعوا يوما عند أبيهم تحننا عليه وتواضعا
قالُوا له على سبيل الشكوى واظهار الحزن يا أَبانا نحن بنوك وعبيدك ويوسف أخونا وقرة أعيننا وقوة ظهرنا ما لَكَ واى شيء منا وصل إليك وحصل دونك لا تَأْمَنَّا ولا تجعلنا أمينا مشفقا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا في أنفسنا لَهُ لَناصِحُونَ مشفقون حافظون حارسون مريدون الخير له ثم لما تفرسوا بان كلامهم قد اثر في أبيهم ولاح منه امارات الرضا والتسليم أخذوا في المكر حيث قالوا متضرعين اليه متحننين نحوه
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً نخرج الى الصحراء مستنشقين يَرْتَعْ ويتفكه من انواع الفواكه وَيَلْعَبْ بأنواع اللعب من الاستباق والانتضال تفريجا وتفريحا وَلا تخف من ان يلحقه مكروه إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ بجمعنا من عموم المكاره
وبعد ما قد الحوا بما الحوا بالغوا بما بالغوا قالَ أبوهم إِنِّي من شدة محبتي وشوقي اليه وتحننى وعطفي نحوه لَيَحْزُنُنِي مفارقته وأَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَمع ذلك أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لان ارضنا هذه مذئبة وَأَنْتُمْ من شدة شغلكم على الرتع واللعب عَنْهُ غافِلُونَ حينئذ ذاهلون عن حصانته وحفظه
وبعد ما سمعوا منه كلامه قالُوا على وجه الاستبعاد والإنكار مقسمين تغريرا وتأكيدا لمكرهم وخداعهم والله لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَكيف اكله إذ نَحْنُ عُصْبَةٌ وجماعة أقوياء وذوو عدة وعدة وقدرة وقوة إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ضعفاء ذليلون مغبونون انما قالوا ذلك على سبيل التشدد واظهار الجرأة والشجاعة كأنهم يستدلون على عدم وقوع المحذر به
فَلَمَّا احتالوا وبالغوا في المكر والحيلة الى ان ذَهَبُوا بِهِ اى(1/369)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
بيوسف الى الصحراء فاشتغلوا أولا بضربه وشتمه والقهر عليه وانواع العذاب والعقاب وكادوا ان يقتلوه ظلما وعدوانا قال لهم يهودا أنتم قد عهدتم ان لا تقتلوه فما هذه المبالغة والاشتداد في زجره ايها الجاهلون المفرطون اما تستحيون من الله وَبعد ما قال لهم يهودا هذا أَجْمَعُوا واتفقوا على أَنْ يَجْعَلُوهُ ويطرحوه فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وهو جب مشهور بجب يوسف على ثلثة أميال من صفد يعقوب قريب بجسر يقال له جسر يعقوب بفرسخ تقريبا فقربوه على الجب وعزموا على القائه فيها فتعلق يوسف بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا منه قميصه ليلطخوا بالدم الكذب فالقوه مربوطة اليدين على الماء وكان فيها صخرة عظيمة فجلس عليها عريانا قلقا حائرا حزينا مضطربا مستوحشا وَبعد ما القوه وقضوا الوطر عنه قد أزلنا وحشته وكربه عنه عناية منا إياه بان أَوْحَيْنا وألهمنا من مقام لطفنا وجودنا إِلَيْهِ لا تغتم ايها الصديق الصدوق من صنيع هؤلاء الغواة الهالكين في تيه الحسد والعناد انا بمقتضى كرمنا وإحساننا لنفضلنك عليهم ونمكننك على انتقامهم بحيث لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وتحدثنهم أنت معاتبا عليهم منتقما منهم بِأَمْرِهِمْ هذا معك وحيلتهم ومكرهم مع أبيك وَهُمْ في تلك الحالة لا يَشْعُرُونَ انك يوسف لعلو شانك وارتفاع قدرك وسلطانك اصبر ايها الصديق على أذاهم في الحال فان لك السطوة والسلطنة عليهم في المآل
وَبعد ما فعلوا بيوسف ما فعلوا قد جاؤُ أَباهُمْ ملتبسين محتالين عِشاءً في آخر اليوم يَبْكُونَ صائحين صارخين فزعين فجعين تغريرا على أبيهم وتزويرا
فلما سمع يعقوب صياحهم واضطرابهم فقال ما لكم واين يوسف قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ونتسابق بالعدو والرمي واستمر تسابقنا زمانا وَقد تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا لحفظها فغفلنا عنه بغرور السباق فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وكنت قد تطيرت من أول الأمر فوقع وَقد كنا نعلم منك يا أبانا ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ مصدق لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ فيما أخبرنا لك لسوء ظنك بنا وفرط محبتك بيوسف
وَبعد ما تفرسوا منه الإنكار والاستبعاد جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ اى معه بِدَمٍ كَذِبٍ يعنى جاءوا حال كونهم مثبتين لدعواهم بدم كذب ملطخ بقميصه مفترين بالذئب بانه قد اكله وبعد ما جاءوا بالقميص الملطخ طلبه منهم أبوهم فألقاه على وجهه فبكى بكاء فظيعا فجيعا وتمادى في البكاء زمانا طويلا حتى احمر وجهه من الدم الملطوخ به ثم كشف القميص فرآه لم يمزق فقال ما رأيت ذئبا احلم من هذا الذئب قد أكل ابني ولم يمزق قميصه ثم قالَ متوجها إليهم ما جئتم به معتذرين على ليس بمطابق للواقع بَلْ قد سَوَّلَتْ زينت وسهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً بإلقاء الشيطان وتعليمه إياكم لتعتذروا به على فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أجمل على فيما ابتليت به وما امرى وشأنى سوى هذا وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى احتمال ما تَصِفُونَ بألسنتكم ايها المسرفون المفسدون المفرطون إذ لا طاقة لي بحمله الا بعون الله واقداره
وَبعد ما مضى ثلثة ايام على الإلقاء جاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة وقفل عظيم يسيرون من مدين الى مصر فنزلوا قريب الجب فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ الذي قد كان يرد الماء للاستقاء وهو مالك بن ذعر الخزاعىّ فَأَدْلى دَلْوَهُ وألقاها لإخراج الماء فتدلى بها يوسف فأخرجها فرآه قالَ مستبشرا فرحانا يا بُشْرى تعالى فهذا أوانك إذ هذا الذي قد خرج في الدلو بدل الماء غُلامٌ صبيح مليح في كمال الصباحة والملاحة وَبعد ما أخرجه هو ومن معه من رفقائه أَسَرُّوهُ واخفوا امره ليكون بِضاعَةً لهم وقت(1/370)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وصولهم الى مصر ليشتروه ويقسموا ثمنه وَاللَّهُ المطلع مخايل عباده عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ويأملون وهم يسرونه في نفوسهم ولما اطلع اخوة يوسف على قدوم السيارة ونزولهم حول الجب تسارعوا نحوهم ليبيعوه لهم حتى يخلصوا منه بالمرة فوصلوا الجب ولم يجدوه فبادروا نحو القفل وتجسسوا فوجدوه عندهم فقالوا لهم هذا عبدنا قد ابق منا ان اشتريتم نبيعه على ما رضيتم وأقر يوسف ايضا على الرقية خوفا من القتل ولم ينكر عليهم
وَبالجملة شَرَوْهُ بعد اعترافه بالرقية وباعوه بِثَمَنٍ بَخْسٍ مبخوس منقوص دَراهِمَ لا دنانير مَعْدُودَةٍ قليلة وَانما شروه بها إذ هم قد كانُوا فِيهِ اى في شأن يوسف وفي حقه مِنَ الزَّاهِدِينَ الراغبين المعرضين عنه لذلك باعوه بها وبعد ما اشتراه مالك بن ذعر من اخوته بما اشتراه ذهب به الى مصر بضاعة فلما أوصله الى مصر وأراد ان يبيعه فسلمه الى النخاس فباعه
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ وهو العزيز الذي قد كان على خزائن ملك مصر واسمه قطفير او اطفير حين ذهب به الى بيته لِامْرَأَتِهِ زليخا أو راعيل أَكْرِمِي مَثْواهُ وأحسني حاله ومعاشه وتلطفى معه بأنواع اللطف والشفقة انى أتفرس منه الرشد والنجابة عَسى أَنْ يَنْفَعَنا بعقله ورشده وكفايته وتدبيره أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً يستخلف منا لأنه كان عقيما فأراد ان يتبناه وَكَذلِكَ اى مثل ما عطفنا قلب العزيز عليه بعد قهر اخوته وفرقة أبيه وأخيه وغربته من وطنه في صغر سنه ووحشته في غيابت الجب وذلة رقيته قد مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وجعلناه متصرفا عليها ذا قدرة واختبار تام ورشد كامل ليتصرف فيها كيف يشاء وَلِنُعَلِّمَهُ وننبه عليه مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ الواقعة في عالم الكون والفساد وطريق الرشد والعدالة ليصل بها الى العدالة الحقيقية الحقية التي هي عبارة عن النبوة والنيابة الإلهية وَبالجملة اللَّهُ المدبر لأمور عباده غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ المراد له المتعلق لمصالح عموم عباده وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ غلبته سبحانه واستقلاله في امره وتصرفه في ملكه لذلك اشتغلوا بخلاف مراده والسعى في ابطال مشيته كاخوة يوسف فلم يصلوا الى ما قصدوا
وَلَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ وكمال عقله وقوته وأوانه في الغالب ما بين الثلثين والأربعين قد آتَيْناهُ انجازا لما وعدنا عليه في سابق علمنا وقضائنا حُكْماً حكومة بين الناس مقارفة بالقسط والعدل السوى وَعِلْماً بسرائر الأمور ورقائق المناسبات ومن جملتها تعبير الرؤيا وَكَذلِكَ اى مثل ايتائنا إياه من الفضائل والفواضل المقدرة له في لوح القضاء نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب معنا في عموم حالاتهم اتقاء منا وتوجها إلينا
وَاذكر يا أكمل الرسل اتقاء يوسف الصديق من الله سيما وقت اشتغال نار الشهوة في عنفوان الشباب وحين راوَدَتْهُ وخادعته والحت عليه بالوقاع الامرأة الَّتِي هُوَ اى يوسف فِي بَيْتِها والحال انه هي سيدة له حاكمة عليه وهي زليخا امرأة العزيز وقد احتالت عليه بأنواع الحيل حتى تخرجه عَنْ نزاهة نَفْسِهِ ونحبة فطرته الا وهي العصمة والعفاف وتوقعه الى ما تهواه نفسها وهو الوقاع والسفاح وَبالغت في ذلك المكر والاحتيال الى ان غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ السبعة يوما عليه وخلت معه في بيت وَقالَتْ متحننة عليه معرضة نفسها اليه هَيْتَ لَكَ يعنى بادريا يوسف الى التعانق والجمع معى قالَ يوسف حينئذ بمقتضى نجابة النبوة وطهارة الفطرة والفطنة بالهام الله إياه مع سورة شهوته ووفور ميله اتقاء من محارم الله ورعاية لحق من احسن اليه مَعاذَ اللَّهِ اى أعوذ بالله معاذا والوذ نحوه سبحانه ان يعصمني عن أمثال هذه الفعلة الذميمة(1/371)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
والديدنة القبيحة سيما مع من يربيني ويحسن الى فكيف إِنَّهُ اى الشان هذا رَبِّي يربيني بأنواع اللطف والكرم سيما قد أَحْسَنَ مَثْوايَ وأوصلني بإحسانه فكيف اسئ في مقابلة احسان محسنى ومتولى امرى ومتولى نعمى وبالجملة إِنَّهُ اى الشان لا يُفْلِحُ ولا يفوز الظَّالِمُونَ بالخير والحسنى لو خرجوا عن مقتضى الأمر الإلهي سيما بالإساءة في مقابلة الإحسان
وَبعد ما قد رد يوسف عليها أمرها وبالغت هي فيه ولم تفد بل هي لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ اى قصدت وتعلقت زليخا به ارادة واختيارا وَهَمَّ يوسف ايضا بِها بمقتضى بشريته مع انه لا ارادة له بمرادها ولا اختيار إذ الكف عن المنهي لا بد وان يكون عند القدرة عليه والا لم يكن ممدوحا ولا مستوجبا للمثوبة والقربة لَوْلا أَنْ اى ان يوسف رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ودليله الواضح الدال على قبح الزنا واساءة المحسن بإلقاء الله إياه والهامه في قلبه لهلك البتة بطغيان نيران القوة الشهوية لكن قد رآه باراءة الله إياه فأبى وامتنع وبالجملة كَذلِكَ فعلنا معه وألهمنا عليه لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ في مقابلة الإحسان وَالْفَحْشاءَ بدل العصمة والعفاف إِنَّهُ اى يوسف الصديق مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الخالصين عن رين البشرية وشين شهويتها وغضبيتها المنزهين عن مقتضيات القوى البهيمية مطلقا وبعد ما قد غلب على يوسف الاتقاء عن محارم الله بمقتضى البرهان الذي قد رآه باراءة الله إياه بادر نحو الفرار منها وقصد ان يخرج من البيت وقصدت ايضا ان تمنعه عن الخروج
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وتسابقا نحوه فسبقها يوسف فأخذت ذيل قميصه وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ وشقت ذيله مِنْ دُبُرٍ إذ هي في عقبه ففتح يوسف الباب فخرجا متعاقبين مضطرين وَأَلْفَيا سَيِّدَها وصادفا زوجها لَدَى الْبابِ وعنده قالَتْ مسرعة باكية على سبيل الشكاية ما جَزاءُ واى شيء مكافاة مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً وقصد الزنا معها مكرها إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ غير ان يقيد ويدخل في السجن أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم أشد من السجن وانما فعلت كذلك وبادرت الى الشكوى متباكية لتظهر براءتها وعفتها عند زوجها وتحمل الخطأ على يوسف لتنتقم عنه او تلينه وترضيه وتضطره الى إنجاح مرادها منه مع انها قد شغفها حبا بحيث لم تصبر عنه لخطة
قالَ يوسف حينئذ مستحييا من ربه يا سدى مالي في ذلك خطأ بل هِيَ بنفسها قد راوَدَتْنِي وخادعتنى عَنْ نَفْسِي مرارا وأمرت على بالفعل الشنيع تكرارا فلم اقبله منها ولم ارض به وَبعد ما تعارضا عند السيد قد شَهِدَ شاهِدٌ هو صبي في المهد شهد في غير أوانه إذ هو رضيع لم يتكلم بعد بإنطاق الله إياه واقداره عليه وأبهم في الشهادة وأجمل إذ هو مِنْ أَهْلِها وابن عمها او ابن خالها فقال الشاهد الرضيع إِنْ كانَ قَمِيصُهُ اى قميص يوسف قُدَّ وشق مِنْ قُبُلٍ ومن قدامه فَصَدَقَتْ زليخا وَهُوَ اى يوسف مِنَ الْكاذِبِينَ في دعوى البراءة والتنزه
وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ وخلف فَكَذَبَتْ هي في دعوى العصمة والبراءة وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما ادعى من البراءة والعفة
فَلَمَّا رَأى اى السيد قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ تفرس الى براءته وطهارة ذيله مع ان الشاهد ايضا ليس من ارباب الولاية إذ هو صبي رضيع في المهد لم يتكلم الا بهذا فكوشف من نجابته وعفته ما كوشف وتوجه نحو زوجتها وقالَ مقرعا عليها معرضا إياها إِنَّهُ وما وقع من أمثال هذا الأمر والشان مِنْ كَيْدِكُنَّ ومكركن أيتها المحتالات إِنَّ كَيْدَكُنَّ وحيلتكن أيتها الماكرات المفسدات عَظِيمٌ من كيد الشيطان ومكره إذ الشيطان قد يستعين(1/372)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
ويستمد منكن وقت اضطراره
ثم لما انكشف الأمر عند العزيز وجزم بطهارة ذيل يوسف ونجابة طينته بادر الى ستره واخفائه خوفا من الفضيحة فقال مناديا ليوسف أولا لصدقه وطهارته يا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا التكلم واسكت منه واكتمه في سرك فقد ظهر على صدقك وبراءتك وَاسْتَغْفِرِي أنت ايضا يا زليخا لِذَنْبِكِ إِنَّكِ في هذا الأمر قد كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ المتعمدين القاصدين على الجريمة القبيحة والديدنة الشنيعة جمعه جمع المذكر للتغليب
وَبعد ما شاع أمرهما وانتشر قصتهما بين الأنام قالَ نِسْوَةٌ جماعة من صناديد النسوان فِي الْمَدِينَةِ على سبيل التشنيع والتقريع امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ وتخادع فَتاها عَنْ نَفْسِهِ طلبا لمواقعته إياها ومجامعته معها إذ قَدْ شَغَفَها حُبًّا يعنى قد دخل حبه في جميع شغاف قلبها وشقوقه فصار قلبها مملوا بمحبته وعشقه لذلك راودته ما اشنعها وافضحها وبالجملة إِنَّا لَنَراها بقبح فعلها وسوء صنيعها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ من لحوق العار عليها وعلى زوجها وفشو الفضيحة سيما مع الرقيق وكسر عرض العزيز بين الأنام
فَلَمَّا سَمِعَتْ راعيل بِمَكْرِهِنَّ وغيبتهن وتخطئتهن إياها خفية أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ قواصد ليدعوهن على سبيل الضيافة وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ وهيأت لكل واحدة منهن في بيتها مُتَّكَأً على حدة ليتكأن عليه على ما هو عادة بلدتهم ووضعت عند كل متكأ طبقا من الفواكه مثل الرمان والتفاح والكمثرى وغيرها وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ وبعدد رؤسهن سِكِّيناً شديد الحدة والمضأ وبعد تهيئة أماكنهن على الوجه المذكور قد جئن وجلسن عليها واشتغلن بأكل الفواكه وتنقية قشورها بالسكين وَبعد ذلك قالَتِ زليخا ليوسف اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فخرج فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وكبرن جميعا لله برؤية جماله وكمال حسنه البديع وبهائه وغاية نضارته وصفائه إذ يتشعشع ويلمع ضوء وجهه على الجدار مثل الشمس والقمر. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم انه قال رأيت أخي يوسف الصديق عليه السّلام ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر ومن شدة حيرتهن بحسنه وجماله بهتن بأجمعهن وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ اى كل منهن وَبعد ما افقن قُلْنَ مستبعدات مستغربات حاشَ لِلَّهِ وتنزه ذاته من ان يعجز عن خلق مثله غير انه ما هذا الهيكل المرئي بَشَراً إذ لا نرى البشر قط على هذه الصورة إِنْ هذا ما هذا المشاهد المحسوس إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ نجيب مصور من الروح لا من الطين وبعد ما قد تفرست زليخا منهن ما تفرست من كمال الحيرة والحسرة والوله والهيمان برؤيته
قالَتْ فَذلِكُنَّ وهذا ذلك العبد الكنعانى الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وفي مراودته والافتنان به وبمحبته ولما رأت راعيل منهن ما رأت من نفسها بل أشد منه أقرت عندهن ما فعلت معه لتستعين منهن ويحتلن هن وهي بأجمعهن في تليين قلبه فقالت متحسرة مقسمة وَالله لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ مرارا كثيرة فَاسْتَعْصَمَ وابى عن القبول من كمال عفته وعصمته ومن نجابة فطرته وطينته وَالله لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ ولم ينجح ما انا آمرة به طالبة إياه ولم يقبل قولي ولم يقض حاجتي لَيُسْجَنَنَّ وليحصرن في السجن مدة وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين المهانين الباقين في السجن مدة مديدة فلما قالت راعيل ما قالت وأقسمت بما أقسمت التفتت النسوة بأجمعهن على اعانتها واتفقن على إنجاح مرادها والحن واقترحن على يوسف بقبول قولها والإتيان بمطلوبها إلحاحا بليغا بل قد اضمرن في انفسهن كل منهن إتيانه عليهن بمقتضى شهوات النساء وبعد ما رأى يوسف منهن اتفاقهن واجتماعهن على منكر ناجى ربه من شرهن وتعوذ نحوه سبحانه(1/373)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
من فتنتهن
حيث قالَ رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم والعصمة والعفاف السِّجْنُ الذي قد اوعدتنى به هذه المرأة أَحَبُّ إِلَيَّ وآثر عندي مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ هؤلاء الطغيات البغيات الغويات وَإِلَّا تَصْرِفْ بفضلك وعصمتك يا ربي عَنِّي كَيْدَهُنَّ ولم تحفظني من مكرهن بإلقاء البرهان العقلي والكشفى في سرى أَصْبُ امل انا إِلَيْهِنَّ واتحنن نحوهن بمقتضى القوى البهيمية وَحينئذ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ المتابعين لشيطان الشهوة الخارجين عن مقتضى العقل المفاض من المبدأ الفياض وبعد ما أخلص في مناجاته وأبر في رجوعه وعرض حاجاته
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ما ناجاه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ وحفظه عن مكرهن إِنَّهُ لذاته وبمقتضى أوصافه وأسمائه هُوَ السَّمِيعُ لمناجات عباده الْعَلِيمُ بحاجاتهم منها ونياتهم فيها
ثُمَّ بَدا ولاح لَهُمْ اى للعزيز وأصحابه مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ اى بعد رؤيتهم علامات الصدق وامارات العصمة والعفاف سيما بشهادة الطفل الرضيح بطهارته وصدقه مع انه لم يعهد من أمثاله هذه فتشاوروا في امره وتأملوا في شأنه فاستقر رأيهم لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ لئلا يلحق العار على راعيل ولا ينتشر بين الأنام صدقه وعصمته وقبح صنيعها وفاحشة فعلها بل يحسبونه مجرما وراعيل غير متهمة لذلك حملوا الجرم عليه وراموه افتراء فأدخلوه في السجن انتقاما ومراء
وَدَخَلَ مَعَهُ اى مع يوسف السِّجْنَ في تلك المدة فَتَيانِ من أعوان الملك شرابيه وخبازه بتهمة قد اتهما بها وهي معروفة فلما تفرسا منه الرشد والنجابة وصفاء الصورة والأخلاق قالَ أَحَدُهُما وهو الشرابي مستعبرا عنه حاكيا عما مضى إِنِّي أَرانِي في المنام أَعْصِرُ ماء العنب لاتخذ منه خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ وهو الخباز إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً مع طبق تَأْكُلُ وتنهش الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ وأخبرنا عما يئول اليه ويئول به رؤيانا إِنَّا نَراكَ في بادى الرأى مِنَ الْمُحْسِنِينَ الصالحين المصلحين لمفاسد الأنام وتفصيل ما يشكل عليهم ومن جملته تعبير الرؤيا ثم لما تفرس يوسف منهم الإخلاص وحسن الظن بالنسبة اليه بادر قبل الاشتغال بالتعبير الى تمهيد مقدمة دالة على التوحيد والايمان والمعرفة والإيقان منبهة على استقلال الحق الحقيق بالحقية في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وجميع آثاره الحادثة في الكائنات والفاسدات وعلى نبوته وعلو رتبته وتشرفه بخلعة الخلة والخلافة من عنده سبحانه
حيث قالَ أولا لا يَأْتِيكُما في المستقل طَعامٌ تُرْزَقانِهِ لسد الجوعة وتقويم المزاج إِلَّا نَبَّأْتُكُما وأخبرتكما انا أولا بِتَأْوِيلِهِ وتبيين ماهيته وكيفية تأثيره وتوليده من الأخلاط وتقويته للمزاج كيف هو وعلى اى وجه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما وقبل ان يظهر عندكما بمدة ذلِكُما اى تعبير رؤيا كما وتأويل طعامكما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي من جملة الأمور التي قد علمني ربي من لدنه حيث اطلعنى على رقائق المناسبات ودقائق الارتباطات والازدواجات الواقعة بين أجزاء العالم وجريانها على التفصيل المشروح المثبت في الأعيان الثابتة في عالم الأسماء والصفات المنبسطة على ظواهر الأكوان إِنِّي بعد ما انكشف الغطاء عن بصرى وارتفعت الحجب عن بصيرتي قد تَرَكْتُ بتوفيق الله إياي مِلَّةَ قَوْمٍ ذوى حجب لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبتوحيده واستقلاله في الوجود وكذا في التصرفات والآثار الصادرة الظاهرة على صفحات الكائنات بمقتضى الجود وَمع ذلك هُمْ بِالْآخِرَةِ اى النشأة المعدة لجزاء ما جرى عليهم في هذه النشأة هُمْ كافِرُونَ منكرون جاحدون
وَبالجملة قد اتَّبَعْتُ انا في سلوك طريق التوحيد مِلَّةَ آبائِي(1/374)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
وأجدادي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا وما صح وما جاز لنا معاشر الأنبياء والرسل أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ المتوحد بذاته وأوصافه وأسمائه المستقل في وجوده وحقيقته مِنْ شَيْءٍ لا وجود له أصلا سوى العكسية والظلية وبالجملة ذلِكَ الشهود والانكشاف مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ الذين قد أرسلنا إليهم وبعثنا بينهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
الناسين حقوق نعم الله لا يَشْكُرُونَ نعمة الإرسال وبعثة الرسل ولا يواظبون على أداء شكرها ثم لما مهد يوسف عليه السّلام لصاحبيه طريق التوحيد ونبه عليهما السلوك عليه والتوجه نحوه اشارة الى دعوتهما اليه على سبيل التدريج كما هو دأب الأنبياء
فقال مناديا لهما ليقبلا على قبول مقوله يا صاحِبَيِ السِّجْنِ الساكنين فيه المصاحبين معى أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ متكثرون في العدد متماثلون في عدم القدرة والاختيار خَيْرٌ عندكم وأحق بعبادتكم وانقيادكم أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الأحد المتوحد في ذاته المستقل في ألوهيته وربوبيته المستغنى عن المظاهر مطلقا الْقَهَّارُ الغالب على جميع السوى والأغيار
واعلموا ايها الاخوان ان ما تَعْبُدُونَ أنتما ومن على دينكما في مصر من عبدة الالهة الباطلة مِنْ دُونِهِ اى من دون الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في الوجود أصلا ما هو إِلَّا أَسْماءً مطلقة على اظلال معدومة وعكوس موهومة قد سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ من تلقاء انفسكم آلهة ومعبودات مع انه ما أَنْزَلَ اللَّهُ المنزل للكتب المرسل للرسل بِها مِنْ سُلْطانٍ اى بشأن آلهتكم من حجة وبرهان عقلي او نقلي حتى تكون تمسكا لكم في اتخاذكم هؤلاء التماثيل آلهة مستحقة للعبادة والإطاعة إِنِ الْحُكْمُ وما الأمر المطلق والاستحقاق التام للاطاعة والانقياد وعبادة العباد إِلَّا لِلَّهِ المتردي برداء العظمة والكبرياء المتفرد بالجلال والبقاء المتوحد في البسطة والاستيلاء إذ هو المستحق بالعبادة وهو المستقل بالربوبية والألوهية وهو في ذاته هو ولا شيء سواه ولا اله الا هو مع انه قد أَمَرَ في عموم ما انزل على أنبيائه ورسله من الكتب والصحف أَلَّا تَعْبُدُوا ولا ترجعوا ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الباطلة إِلَّا إِيَّاهُ إذ به وبمد اظلال أوصافه وأسمائه قد ظهرت أشباحكم ولاحت تماثيلكم وأرواحكم فلا رجوع لكم الا اليه ذلِكَ اى طريق التوحيد الذاتي هو الدِّينُ الْقَيِّمُ الأقوم الأعدل الذي لا عوج فيه أصلا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لكثافة حجبهم وغلظ اغطيتهم واغشيتهم لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون سرّ سريان الوحدة في الكثرة لذلك حجبوا بالمظاهر المتكثرة عن الوحدة الظاهرة فانصرفوا عن طريق الحق الى الباطل الزاهق الزائل ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم لما دعاهما يوسف عليه السّلام الى الايمان والتوحيد ونبه عليهما طريقه اشتغل بتعبير الرؤيا
فقال مناديا لهما ايضا يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ سيده خَمْراً على ما كان عليه بلا احتياج الى تأويل وَأَمَّا الْآخَرُ وهو الخباز فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ هذا ما ظهر لي في تأويل رؤياه بتوفيق الله إياي وبعد ما سمعا منه التأويل والتعبير قالا له قد كذبنا فيما قلنا لك واستعبرنا منك قال يوسف عليه السّلام قد قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ وحكم حكما مبرما على الوجه الذي ذكر في حضرة علم الله ولوح قضائه إذ الأمر الذي جرى على السنة الرسل والأنبياء لا بد وان يقع إذ لا جريان للكذب وعدم المطابق للواقع في ألسنتهم
وَحينئذ قالَ يوسف الصديق لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا وهو الشرابي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ واذكر حالي وقصتي للملك(1/375)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
عند ملاقاتك وقل ان رجلا قد سجن بلا جرم صدر عنه أوصاه به رجاء ان يستخلصه ويستكشف عن امره ولم يستثن مع ان المناسب بحاله ورتبته العلية الاتكال على الله والتبتل والتفويض والتسليم بلا التفات الى الغير أصلا والرضاء بما جرى عليه من القضاء والتصبر على هجوم البلاء وتزاحم العناء فضلا عن ان يستمد بلا استثناء وذلك في صغر سنه وعنفوان شبابه وقبل نزول الوحى عليه وقبل عروجه الى معراج استعداده وقابليته وبالجملة فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ للناجى ذِكْرَ رَبِّهِ اى ذكر يوسف وحكاية حاله عند الملك حين جلس في مجلسه وسقى له خمرا فَلَبِثَ وبقي يوسف عليه السّلام بسبب ترك الاستثناء وطمع الإعانة والاستخلاص من المصنوع الأرذل الأنزل وطلب الاستعانة منه فِي السِّجْنِ بعد ما قد لبث فيه خمسا بِضْعَ سِنِينَ اى سبعا بعد الخمس مجازاة عليه وانتقاما عنه كما قال نبينا صلّى الله عليه وسلّم رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس
وَبعد ما لبث في السجن بضعا قد هيأ سبحانه لخلاصه سببا بعد ما ادّبه بترك الاستثناء بان قالَ الْمَلِكُ وهو ريان بن الوليد لأصحابه يوما من الأيام إِنِّي أَرى في المنام سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَايضا أرى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَسبعا أُخَرَ يابِساتٍ قد التففن وتعلقن على السبع الخضر فغلبن عليها فجمع من في ملكه من اهل التنجيم والتكهين وجميع العلماء والصلحاء وعرضها عليهم وقال يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ وعبروها لي واوّلوها على إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ اى ان كنتم من اهل التعبير والعبور والعبرة والاعتبار فلما سمعوا قوله وتأملوا في رؤياه
قالُوا بأجمعهم متفقين ما هذه الا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وأباطيل قد صورتها القوة المتخيلة وخلطتها تخليطا بحيث لا تقبل التعبير والتأويل أصلا وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ الباطلة بِعالِمِينَ معبرين مأولين
وَبعد ما عجز الملأ عن تعبير رؤيا الملك واجمعوا على انها أضغاث احلام قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما اى من صاحبي السجن وهو الشرابي الموصى له بالذكر فنسي وَادَّكَرَ تذكر بهذا التعبير وما اوصى له يوسف عليه السّلام لكن بَعْدَ أُمَّةٍ ومدة مديدة من الزمان أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ الى السجن فأرسله الملك ودخل عليه
فقال يا يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ الصدوق الصادق سيما في تأويل الرؤيا أَفْتِنا وعبر لنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ ملتفة الى سبع أخر وَأُخَرَ يابِساتٍ عبر لي هذه الرؤيا لَعَلِّي أَرْجِعُ بتأويلها إِلَى النَّاسِ الذين هم قد عجزوا عن تعبيرها وصيروها من الأباطيل والتخليطات الساقطة عن التعبير والتأويل لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويله ويفحمون عما يقولون ان هذه الرؤيا للملك وهم قد جعلوها من قبيل الأضغاث وأنت إذا عبرتها أرجو ان تتخلص من هذا السجن
قالَ يوسف مأولا للرؤيا مدبرا فيه طريق المعاش لئلا يضطروا في تدبيره أنتم تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً على ما هو دأبكم وعادتكم فَما حَصَدْتُمْ وحصلتم منها في تلك المدة فَذَرُوهُ واتركوه فِي سُنْبُلِهِ يعنى عليكم ان تدخروا ما حصدتم في سنى الخصب بان تتركوه في سنبله ولا تفرقوه منه ولا تدوسوه لئلا يقع فيه السوس إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك المدة
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد انقراض سنى الخصب والرخاء سَبْعٌ شِدادٌ وذوات جدب وعناء بحيث لا ينبت فيها الزرع وتلك المدد يَأْكُلْنَ اى أهلها من ما قَدَّمْتُمْ وادخرتم لَهُنَّ في سنى الخصب إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ اى تحرزونه وتحفظونه للبذر والزرع(1/376)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد انقضاء السبع الشداد عامٌ ذو بركة ورخاء فِيهِ يُغاثُ ويمطر النَّاسُ بعد ما منعوا من القطر والمطر مدة مديدة وَصار الناس من كمال الخصب والرخاء وكثرة الفواكه فِيهِ يَعْصِرُونَ الأدم من العنب والخرنوب وانواع الحبوب وبالجملة كل ما جاء به يوسف عليه السّلام من التأويل والتدبير انما هو مستند الى الوحى والإلهام والعلم برقائق المناسبات الواقعة بين ذرائر الأكوان ولما سمع الشرابي من يوسف ما سمع تسارع نحو الملك وأخبره ما سمع من التعبير
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فأرسل من يحضره فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ليخرجه من السجن قالَ يوسف لا اخرج من السجن ما لم يظهر براءتي وعصمتي وطهارة ذيلي وكمال عفتي مما يرموننى ويسجنوننى بسببه ارْجِعْ ايها الرسول إِلى رَبِّكَ سيدك فَسْئَلْهُ ان يكشف عن امرى وما جرى على من أولئك المفترين سيما ليسئل ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وما امرهن وشأنهن معى إِنَّ رَبِّي الذي رباني بكمال العصمة والعفة بِكَيْدِهِنَّ ومكرهن الذي قد قصدن معى عَلِيمٌ على التفصيل الذي يخفين في نفوسهن يجازيهن في يوم الجزاء بمقتضى علمه
ثم لما رجع الرسول الى الملك واخبر عن حاله ومقاله بادر الملك الى إحضار تلك النسوان فحضرن قالَ الملك لهن مستفهما عنهن مفتشا عما جرى بينهن وبين يوسف ما خَطْبُكُنَّ وشأنكن أيتها الماكرات المحتالات إِذْ راوَدْتُنَّ وخادعتن بأنواع الحيل والخداع يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ واى شيء ظهر منه من امارات الفساد وعلامات الفسوق حتى تجترئن أنتن بمراودته قُلْنَ بأجمعهن بعد ما سمعن كلام الملك واستفساره على وجه الانتقام حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وفعلة ذميمة وديدنة قبيحة باعثة لنا الى مراودته سوى انا قد رأيناه على صورة عجيبة وحسن بهى بديع وقد ملنا اليه وأردنا مخالطته فاستعصم من كمال عفته ونجابة طينته ثم قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عند الملك بعد ما بدا ما اخفت وفشا ما سترت مقرة مقررة معترفة بطهارة ذيله الْآنَ قد حَصْحَصَ اى لاح وظهر الْحَقُّ وارتفع عنه الحجب وانكشف الأستار أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ بعد ما قد شغفنى حبه وازعجنى ميله وَإِنَّهُ في نفسه وعموم أقواله وأفعاله لَمِنَ الصَّادِقِينَ المبرئين المنزهين عما افترينا عليه ورمينا به
ثم لما انكشف امره عند الملك وثبت براءته لديه أرسل الرسول اليه ثانيا ليخرجه من السجن قال يوسف حينئذ بمقتضى الحكمة الصادرة من السنة الأنبياء توطينا لنفس العزيز وتسلية له ليجزم انه ما أساء الأدب في السر والعلانية ذلِكَ الكشف والتفتيش انما هو لِيَعْلَمَ العزيز يقينا أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ حين انغلاق الأبواب السبعة على وانا مع زوجته فكيف مع غيرها وَليعلم العزيز ايضا أَنَّ اللَّهَ المطلع بعموم ما جرى على عباده لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ولا يوصل اهل الخيانة مطلقا الى ما يقصدونه اليه بكيدهم وحيلهم بل يفضحونهم بها على رؤس الاشهاد في الاولى والاخرى
ثم قال هضما لنفسه وكسرا لها وَما أُبَرِّئُ وانزه نَفْسِي عن مطلق الفرطات والغفلات وعن عموم الخواطر القبيحة والديدنة الشنيعة بمقتضى القوى الشهوية واللذة البهيمية وكيف ابرئ وانزه إِنَّ النَّفْسَ المركوزة في الجبلة الانسانية لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ مائلة بالطبع الى الفساد متوجهة نحوه ان خليت وطبعها إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي وحفظها من كمال رحمته وشفقته من طغيانها ومن وسوسة الشيطان المضل المغوى إليها إِنَّ رَبِّي الذي رباني بالعصمة والعفاف غَفُورٌ لما صدر عنى من الخواطر النفسانية رَحِيمٌ يرحمني(1/377)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
بفضله ويعصمني بلطفه عما يبعدنى من كنف حفظه وجواره
وَبعد ما فتش الملك عن أحواله وما جرى عليه وثبت وتحقق عنده أمانته وديانته ورعايته حقوق سيده وحفظ الغيب معه ورشده في الأمور سيما في التعبيرات والتأويلات وصدقه في جميع الأقوال الصادرة عنه قالَ الْمَلِكُ متحننا عليه متشوقا الى لقائه ائْتُونِي بِهِ سريعا أَسْتَخْلِصْهُ واجعله خالصا لِنَفْسِي ليكون أنيسي وجليسي ومولى أموري وظهيري في عموم تدبيرى فاحضروه عنده وسلّم على الملك ترحيبا وتعظيما فَلَمَّا كَلَّمَهُ وأخذ بحمد الملك وثنائه ودعائه باللغة العبرية قالَ الملك ما هذا اللسان قال هذا لسان آبائي وأجدادي وكان الملك يتكلم على سبعين لغة فكلم معه بجميعها فأجاب بجميعها واحسن فيها فتعجب الملك منه وقال أريد ان اسمع تأويل رؤيائي من فيك فحكاه وبين وجوه المناسبات بين البقرات والسنوات المجدبة والمخصبة وكيفية الانتقالات والتعبيرات على مقدار فهم الملك وتأويلات السنابل الخضرة واليابسة على الوجه الذي الهم واوحى فازداد الملك محبة ومودة لذلك قال إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو مكانة ومرتبة علية ومنزلة رفيعة أَمِينٌ مؤتمن على عموم أمورنا فلك اليد والتصرف في ملكنا كيف تشاء وبعد ما تفرس يوسف عليه السّلام ان لا محيص له عنه ولا بد له من ارتكاب امر من امور الملك
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ اى ارض مصر إِنِّي بإقامة هذه الخدمة حَفِيظٌ بوجوه محافظة اى جنس من الأجناس عَلِيمٌ بطرق تدابيرها والتصرف فيها قيل قد اتفق وفات قطفير هو سيد يوسف عليه السّلام في تلك الليالى وقد كان هذا المنصب له لذلك طلبه وتزوج زوجته التي قد شغفها حبا فوجدها عذراء وولد ليوسف افرائيم وميشا
وَكَذلِكَ ومثل ما سمعت من القصة قد مَكَّنَّا واقدرنا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ اى في ارض مصر بعد ما أدخلناه فيها رقيقا مهانا وصيرناه محبوسا مسجونا مدة متطاولة ورفعنا مكانته فيها الى حيث يَتَبَوَّأُ يتنعم ويترفه مِنْها اى من نواحيها وبلادها حَيْثُ يَشاءُ وتهوى نفسه ويميل إليها طبعه إذ من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة انا نُصِيبُ ونوفى بِرَحْمَتِنا التي قد وسعت كل شيء مَنْ نَشاءُ من خلص عبادنا المجبولين على فطرة توحيدنا السالكين سبيل الانابة والرجوع الى فضاء فنائنا وَبالجملة نا لا نُضِيعُ ولا نهمل ولا ننقص أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله في عموم أحوالهم وشئونهم ولا يغفلون عنه سبحانه طرفة ولا يلتفتون الى غيره لمحة ولا يخطر ببالهم سواه خطرة هذا مآلهم في النشأة الاولى
وَالله لَأَجْرُ النشأة الْآخِرَةِ المعد لهم فيها خَيْرٌ منها بأضعاف وآلاف كل ذلك لِلَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله عن ظهر القلب وصميم الفؤاد وَكانُوا يَتَّقُونَ عن محارم الله طلبا لمرضاته وقياما بحسن آدابه ورجاء من ثوابه وخوفا من عقابه
وَحين استوزر الملك يوسف عليه السّلام واقام لضبط الممالك وقيام امور الناس من التدبيرات المتعلقة بأمور معاشهم من تكثير الغلات والزراعات وتحصيل الأرزاق والأقوات حتى دخلت السنون المجدبة وقد كانت البيوتات والمغلات المتعلقة للملك مملوة بأنواع الأقوات واصناف الحبوبات وبعد ما أحاط الجدب والقحط جميع بلاد المصر والشام وعمم البلوى في عموم الأماكن والجهات اضطر الناس من الأقاصي والأداني الى ان يلتجئوا الى باب العزيز ليستغلوا منه ويسدوا رمقهم بها لذلك قد جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ من الكنعان ليستغلوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ بأجمعهم فَعَرَفَهُمْ في الفور وسألهم عن الوطن والمصلحة فقالوا نحن أولاد يعقوب عليه السّلام(1/378)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
نبي الله ابن اسحق ذبيح الله بن ابراهيم خليل الله قد جدبنا الآن واضطررنا الى ان جئنا لنستقوت من جاه العزيز ثم قال لهم يوسف أنتم بأجمعكم أبناء رجل واحد قالوا نعم ان لأبينا اثنى عشر ابنا عشرة من زوجة واثنان من زوجة اخرى ونحن تلك العشرة وواحد من الاثنين قد هلك في الصحراء والآخر عند أبينا يوانس معه ويدفع به وحشة أخيه إذ هو محبوب له مرغوب عنده وَهُمْ مع طول صحبتهم معه ومجالستهم عنده لَهُ مُنْكِرُونَ بحيث لا يتفطنون ولا يتنبهون فكيف يعرفونه
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ الخدام باذن العزيز بِجَهازِهِمْ وهيئوا رحالهم وأحمالهم وأرادوا ان يشدوا فدخلوا على العزيز للتوديع قالَ لهم العزيز ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ليدل على صدقكم ونجابة أصلكم أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وأتمه لكم وأوفره عليكم وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ واحسن المضيفين إياكم
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ اى بأخيكم فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي بعد اليوم وَلا تَقْرَبُونِ ولا تدخلوا دارى وأنتم حينئذ قوم كاذبون وبعد ما سمعوا منه كلاما موحشا تفرسوا انهم لو لم يأتوا بأخيهم لما كال لهم العزيز ولم ينزلهم فكيف ان يحسن إليهم ويضيفهم
قالُوا له معتذرين ان له أبا شيخا كبيرا ضريرا اسيفا ضعيفا محزونا يتسلى به وبالجملة سَنُراوِدُ ونجتهد مقدار وسعنا وطاقتنا عَنْهُ أَباهُ ونخادع بأنواع الحيل والخداع حتى نأتى به وَإِنَّا لَفاعِلُونَ البتة وجوها من الخدعة لإتيانه ان قبل أبونا
وَبعد ما هيئوا للسفر وأرادوا ان يرحلوا قالَ يوسف عليه السّلام لِفِتْيانِهِ أعوانه وخدامه اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ التي قد أتوا بها وهي الأدم والنعال فِي رِحالِهِمْ على وجه لا يشعرون لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها وقت إِذَا انْقَلَبُوا ورجعوا إِلى أَهْلِهِمْ وبعد رؤيتهم البضاعة ايسوا لَعَلَّهُمْ بعد ذلك يَرْجِعُونَ بأخيهم لو رجعوا
فَلَمَّا رَجَعُوا من مصر إِلى أَبِيهِمْ وحكوا عنده جميع ما قد جرى بينهم وبين العزيز من الحكايات التي مضت ثم طلبه منهم من يصدقهم ويشهد لهم واضطرارهم من الشاهد وأمرهم العزيز بإحضار أخيهم بنيامين ليكون مصدقا لهم ثم بعد ما بسطوا الكلام عند أبيهم قالُوا متفقين يا أَبانا قد مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ بعد اليوم لو لم ترسل معنا بنيامين فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا ليكون مصدقا لنا عند العزيز وبعد تصديقه إيانا نَكْتَلْ لجميعنا وَلم لم ترسل معنا أخانا يا أبانا إِنَّا بجميعنا لَهُ لَحافِظُونَ من لحوق المكروه عليه إذ نحن عصبة ذوو قدرة وقوة
قالَ لهم أبوهم متأسفا متحزنا هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ وأجعلكم وقاية له وكفيلا لحفظه إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف مِنْ قَبْلُ وبالجملة فَاللَّهُ المراقب على عباده في عموم أحوالهم خَيْرٌ لهم حافِظاً اى من جهة الحصانة والحفظ وَهُوَ في ذاته أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إذ رحم كل راحم راجع اليه إذ هو رحيم بالذات ورحم غيره؟؟؟ يتشعب من رحمه وبعد ما قد الحوا مع أبيهم واقترحوا له بإرسال أخيهم وتفرسوا منه انه لم يرض بإرساله خرجوا من عنده محزونين
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ التي قد جاءوا بها وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ التي قد اشتروا بها الكيل رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ندموا وتحزنوا ثم رجعوا الى أبيهم شاكين مشتكين قالُوا يا أَبانا انا نجزم بمنع الكيل لو نكر ما نَبْغِي واى شيء نعمل وندبر هذِهِ بِضاعَتُنا قد رُدَّتْ إِلَيْنا على وجه لا نطلع عليها الا الآن وبالجملة قد جزمنا ان لا كيل لنا ان عدنا اليه مرة اخرى بلا إتيان أخينا بل نكون عند العزيز من الكاذبين الصاغرين المهانين وَبالجملة قد نسأل منك يا أبانا من كمال كرمك وجاهك ان ترسل معنا أخانا ليصدقنا عند العزيز(1/379)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
وبعد تصديقه إيانا نَمِيرُ ونحمل العطايا العظام من عنده أَهْلَنا ولأجلهم وَنَحْفَظُ في الذهاب والإياب أَخانا وَنَزْدادُ بسببه كَيْلَ بَعِيرٍ وحمله إذ من سنة العزيز ان يحمل لكل منا بعيرا ذلِكَ الكيل الذي قد جئنا به كَيْلٌ يَسِيرٌ نزر قليل لا يفي لمعاشنا الى وقت الخصب ما لم نزده ثم لما بالغوا في سؤالهم واقترحوا الاسعاف بما طلبوا
قالَ لهم أبوهم معاتبا عليهم لَنْ أُرْسِلَهُ اى بنيامين مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ اى يمينا وقسما عظيما أثق به واعتمد عليه لَتَأْتُنَّنِي بِهِ البتة بلا خلاف إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ نوع من البلاء من إلمام العدو وغيره فَلَمَّا اضطروا الى ما طلبه أبوهم منهم آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ فرضي أبوهم بإرسال أخيهم معهم ضرورة قالَ أبوهم تأكيدا لهم وتغليظا وتفويضا لأمره الى ربه اللَّهِ المطلع لعموم احوال عباده عَلى ما نَقُولُ ويجرى بيننا وَكِيلٌ رقيب كفيل حفيظ يفعل بنا بمقتضى علمه وخبرته ما فعل ثم لما رضى يعقوب عليه السّلام بإرسال ابنه بنيامين معهم فشدوا الرحال وأرادوا ان يخرجوا وصى يعقوب عليه السّلام لبنيه ان يتفرقوا عند الدخول الى مصر ولا يدخلوها كوكبة واحدة خوفا منهم ان يعانوا إذ هم ذو جمال وبهاء كان الناس يتعجبون منهم حيث انصرفوا مجتمعين
قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا على البلدة مِنْ بابٍ واحِدٍ مجتمعين بل وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فرادى فرادى حتى لا يلحقكم ضرر العيون اللامة وَاعلموا انى ما أُغْنِي وادفع بقولي لكم هذا عَنْكُمْ مِنَ قضاء اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ بل إِنِ الْحُكْمُ وما الأمر والشان إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ لا على غيره من العكوس والاظلال تَوَكَّلْتُ في كل الأمور والأحوال وَعَلَيْهِ سبحانه في عموم الخطوب والملمات فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ إذ لا رجوع للكل الا اليه
وَبالجملة لَمَّا دَخَلُوا مصر مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ وعلى الوجه الذي أوصاهم متفرقين من أبواب متعددة مع انه ما كانَ يُغْنِي ويدفع عَنْهُمْ تدبير أبيهم مِنْ قضاء اللَّهِ المقدر لهم في حضرة علمه ولوح قضائه إذ لا معقب لحكمه ولا مرد لقضائه مِنْ شَيْءٍ قليل إِلَّا حاجَةً يعنى سوى انه قد كانت حاجة اى هذه الوصية تختلج فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها واوصى بها لابنائه تفألا وتفريجا وَإِنَّهُ اى يعقوب عليه السّلام في نفسه لَذُو عِلْمٍ كامل ومعرفة تامة فائضة له من لدنا متعلقة بما لا مرد لقضائنا ولا مبدل لقولنا ولا معقب لحكمنا لذلك قال وما اغنى عنكم من الله من شيء وذلك لِما عَلَّمْناهُ بطريق الوحى والإلهام إياه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الجهل والنسيان لا يَعْلَمُونَ ان قضاءنا لا يرد وان الحذر لا يغنى عن القدر وان الكائن مقدر وان المقدر لا يدفع بالحذر
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ مع بنيامين أضافهم واجلس كل اثنين منهم على سماط فبقى بنيامين وحيدا فبكى وتأوه متحسرا وقال لو كان أخي يوسف حيا لما بقيت وحيدا ولما رأى يوسف حينئذ بكائه آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ورجع نحوه وضمه الى نفسه وأجلسه على سماطه ثم امر يوسف ان ينزلوا كل اثنين منهم بمنزل واحد فبقى بنيامين لا ثانى له فاغتم حينئذ أشد اغتمام فذهب به يوسف عليه السّلام الى منزله فقال له أتحب ان أكون انا أخاك بدل أخيك الهالك قال فمن يجد مثلك أخا ايها العزيز غير انك لم يلدك يعقوب ولا راحيل ثم لما تفرس يوسف منه ازدياد الحزن والكربة والكآبة وشدة التأسف والتغمم قالَ لا تحزن ولا تغتم يا أخي بنيامين إِنِّي بشخصى أَنَا أَخُوكَ يوسف ابن يعقوب وراحيل قد احتال على إخوتك وخادعونى بأنواع الحيل والخداع الى ان فرقوا بيني(1/380)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
وبين ابى بمدة مديدة ضنا وحسدا فأنقذني الله عن مكرهم وكيدهم واخلصنى عن قيد الرقية والسجن وانواع المحن وقد رفع الآن قدري ومكانتى وشرفني بلقياك يا أخي وأعطاني من الكرامات ما لا يعد ولا يحصى فَلا تَبْتَئِسْ ولا تحزن يا أخي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ معى ومعك من انواع الصغار والهوان واصناف الأذيات ثم لما أقر عينا بنيامين بوجه يوسف وسر قلبه بلقياه سيما بعد ما ايس وقنط يأسا كليا قال يا أخي انا لا أفارقك ابدا قال له يوسف لا يتيسر لنا هذا الا بعد ان اتهمك بتهمة فآخذك لأجلها ان رضيت قال رضيت انا باية تهمة اتهمتنى أنت بها
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ على الوجه المعهود وشدوا رحالهم جَعَلَ السِّقايَةَ اى امر يوسف للخدمة ان يجعلوا السقاية التي بها يكال الأقوات وهي من الفضة وقيل من الذهب فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين وبعد ما شدوا الرحال ودعوا مع العزيز جميعا فخرجوا ثُمَّ بعد ما خرجوا من البلدة أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وصاح عليهم صائح من شرطة العزيز أَيَّتُهَا الْعِيرُ والقفل الزموا مكانكم الى اين تمشون إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ
قالُوا مدبرين وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ اى على الصائحين مضطربين خائفين ماذا تَفْقِدُونَ ايها الفاقدون المتفقدون
قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ اى الظرف الذي يصاع ويكال به وَبالجملة لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الكيل وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ضمين اتكفل ان أتفحص من رحله
قالُوا مضطربين مقسمين مستبعدين تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ايها الخدمة والعزيز ايضا انا ما جِئْنا عندكم وفي أرضكم لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ سيما السرقة فإنها من اكبر الفسادات في دين أبينا وَبالجملة ما كُنَّا سارِقِينَ أصلا إذ نحن أولاد الأنبياء ولا يليق بنا أمثال هذه
قالُوا اى الشرطة والخدام فَما جَزاؤُهُ واى شيء جزاء السارق منكم إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في دعوى البراءة والنزاهة
قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ نفسه وشخصه جَزاؤُهُ اى جزاء سرقته بان يسترق سنة وقد كان جزاء السارق في دين يعقوب استرقاق سنة وبالجملة كَذلِكَ ومثل ما قلنا نَجْزِي الظَّالِمِينَ السارقين في دين أبينا يعقوب عليه السّلام
ثم لما أفتوا بما أفتوا أخذوا بالكشف والتفتيش فَبَدَأَ الزاعم بِأَوْعِيَتِهِمْ وتفتيشها وتفحصها قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين ثُمَّ بعد ما استقصى الكل واستقرأه تفتيشا اسْتَخْرَجَها اى السقاية مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ لئلا يظن انهم يدسونها في رحله كَذلِكَ اى مثل كيد يوسف لاخذ أخيه بنيامين قد كِدْنا لِيُوسُفَ في اخذه من يد إخوتهم وخلاصه من الرق والسجن وكدنا له ايضا في أخذ أخيه من اخوته بفتواهم ايضا إذ ما كانَ وما صح وما جاز له لِيَأْخُذَ أَخاهُ بجرم السرقة فِي دِينِ الْمَلِكِ اى ملك مصر إذ في دينه الضرب وأخذ ضعف ما سرق منه إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هذا الحكم المخصوص في دين الملك وألهمه يوسف بنفاذه او يحكم يوسف عليه السّلام في هذه المسألة على دين آبائه او كان الملك قد اسلم بيده ودخل بدين آبائه على ما نقل إذ نَرْفَعُ ونعلو دَرَجاتٍ ومراتب ومنازل مَنْ نَشاءُ من عبادنا بازدياد انواع الفضائل والكمالات والحقائق والمعارف وَلا يبعد منا أمثال هذا إذ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أعلى واعلم منه لا الى نهاية إذ لا انقطاع لتجددات التجليات أصلا لذلك قال سبحانه الا طال شوق الأبرار الى لقائي ومن وراء شئوني وتجلياتى ثم لما شاهد الاخوة استخراج الوعاء من رحل بنيامين اضطربوا اضطرابا شديدا وتحزنوا حزنا بليغا
قالُوا مغاضبين عليه مريدين مقته إِنْ يَسْرِقْ هذا اللئيم فلا تتعجبوا منه إذ هي من ديدنة أخيه قد سرت عليه فَقَدْ(1/381)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
سَرَقَ مثله أَخٌ لَهُ اكبر منه مِنْ قَبْلُ في أوان طفوليته يريدون منه يوسف عليه السّلام قيل ورثت عمة يوسف عليه السّلام من أبيها منطقة ابراهيم عليه السّلام وكانت تحضن يوسف عليه السّلام وتحبه فلما شب يوسف أراد يعقوب انتزاعه من عندها فلم ترض العمة فشدت المنطقة على وسطه ثم أظهرت ضياعها فتفحصت عنها فوجدتها مشدودة في وسطه فتحا كما فصارت أحق به في دينهم فلما سمع يوسف منهم ما سمع فَأَسَرَّها وكتمها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ولم يظهر الإنكار عليهم بل أضمر حيث قالَ في نجواه وسره أَنْتُمْ ايها المسرفون المفرطون شَرٌّ مَكاناً وخصلة ومنزلة وشأنا وَاللَّهُ المطلع لأحوال عباده أَعْلَمُ منكم بِما تَصِفُونَ وتشرحون بألسنتكم افتراء ومراء
ثم لما جزم العزيز بأخذ أخيه على جريمة السرقة واسترقاقه الى سنة قالُوا متضرعين متذللين منادين له على وجه الخضوع راجين منه قبوله يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أدام الله عزك وجاهك إِنَّ لَهُ اى لهذا المفسد السارق أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن والمرتبة إذ هو نبي من الأنبياء وقد صار ضريرا من فراق ابنه الهالك يتسلى قلبه ويزول وحشته وكربه بمؤانسة هذا المفسد المسرف مع انا قد حلفنا معه وآتيناه موثقا عظيما ان نرجع به فَخُذْ من جاهك وإحسانك أَحَدَنا مَكانَهُ وبدّله بواحد منا ليخدم في بابك وأطلقه لنذهب به الى أبيه الضرير الضعيف لئلا يستوحش هو ولا نحنث نحن في حلفنا وبالجملة احسن إلينا كما احسن الله إليك إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ المتعودين للإحسان المتمرنين فيه فتمم علينا إحسانك وامتنانك سيما على الشيخ الضعيف الضرير
قالَ يوسف مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ يعنى نعوذ بالله ان نأخذ غير السارق بدله ظلما لمصلحتكم إِنَّا ان فعلنا مثل ما طلبتم منا قد كنا إِذاً لَظالِمُونَ خارجون عن حدود الله بلا اذن شرعي
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ومن تبديله خَلَصُوا وخرجوا من عنده نَجِيًّا مناجين في نفوسهم بان ما عليه العزيز هو الحق لان أخذ البرئ بدل المجرم ظلم صريح ثم لما صمموا العزم الى الرجوع وايسوا من أخذ بنيامين قالَ كَبِيرُهُمْ رأيا او سنا وهو رؤبيل او شمعون أَلَمْ تَعْلَمُوا ايها المسرفون أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً عظيما وعهدا وثيقا مِنَ اللَّهِ القادر المقتدر على وجوه الغضب والانتقام بان ترجعوا به وَايضا لم تستحيوا من الله ولم تتذكروا قبيح صنيعكم مِنْ قَبْلُ في سالف الزمان اما تستحضرون ما فَرَّطْتُمْ فِي حق يُوسُفَ وشأنه من الإذلال والزجر التام والألم المفرط والإلقاء في الجب وبيعه بالدراهم المعدودة واسترقاقه وغير ذلك من انواع الأذيات معه ومع أبيه وأخيه بفراقه وأنتم ايها المفرطون ما استحييتم من الله تدّعون وراثة الأنبياء وتنسبون انفسكم إليهم وصنيعكم هذا وبعد اللتيا والتي قد فعلتم بأخيه هذا وبالجملة فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ انا ولن أزول عن ارض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ
ارْجِعُوا أنتم إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا بسرقته وإسرافه إِلَّا بِما عَلِمْنا يقينا انه سارق وما علمنا سرقته الا بالمشاهدة والاحساس بان اخرج صاع الملك من رحله وَانا وان كنا حفيظا له رقيبا عليه لكن ما كُنَّا لِلْغَيْبِ المخفي المستتر عنا حافِظِينَ إذ لا اطلاع لنا على سره وضميره
وَان لم تقبل يا أبانا منا قولنا سْئَلِ الْقَرْيَةَ اى من أهلها الَّتِي كُنَّا فِيها لرعى الحوامل وتهيئة الأسباب وَأسهل من ذلك اسئل الْعِيرَ والقفل الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها(1/382)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
إذ هم رفقاؤنا معنا حين سرق ابنك وأخذوه مع انا قد اجتهدنا كثيرا ان يأخذوا أحدا منا بدله لم يقبلوا منا وقالوا لا نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده وان مضينا وقضينا بمقتضى مقترحكم نكون إذا من الظالمين بأخذ البرئ بدل الجاني مع ان أخانا يهودا اوروبيل قد تخلف عنا خوفا من الحنث واستحياء منك وَالله يا أبانا إِنَّا لَصادِقُونَ فيما حكينا لك عما جرى علينا ثم لما رجعوا الى أبيهم وقالوا له ما قالوا على التفصيل المذكور وسمع منهم يعقوب عليه السّلام ما سمع تأسف وتأوّه وبكى كثيرا
ثم قالَ من اين يعرف العزيز ان السارق يؤخذ بسرقته بَلْ سَوَّلَتْ زينت وحسنت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ان تفرقوا ابني عنى ظلما وعدوانا كما قد فرقتم أخاه فيما مضى فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وما امرى وشأنى في هذا ايضا الا صبر جميل إذ الصبر الجميل أجمل منى فيما فرطتم فيّ وفي ابنىّ ايها المفسدون المسرفون المفرطون عَسَى اللَّهُ الكريم الرّحيم المطلع بحالي وحزنى وبشدة كآبتى وكربتي أَنْ يَأْتِيَنِي بمقتضى لطفه وسعة جوده ورحمته بِهِمْ اى بيوسف وأخيه وبكبيركم المتخلف عنكم جَمِيعاً مجتمعين إِنَّهُ سبحانه بذاته هُوَ الْعَلِيمُ بمناجاة عباده وميلهم الى حاجاتهم الْحَكِيمُ في أفعاله على مقتضى مصالح عباده
وَبعد ما سمع منهم أبوهم ما سمع قد تَوَلَّى اعرض وانصرف عَنْهُمْ مغاضبا عليهم مشتكيا الى ربه من سوء فعالهم وَقالَ من شدة حزنه وكآبته ونهاية ضجرته على مفارقة ابنيه يا أَسَفى ويا حزنى وشدة بلائي ويا حسرتى وحرقة كبدي وبالجملة يا هلكتي تعالى إذ لم يبق بيني وبينك ما يبعّدك عنى ويبعّدني عنك سيما عَلى يُوسُفَ خصه بالذكر إذ هو عمدة محبته وزبدة مودته مع انه متردد في حياته وجازم بحياة الآخرين وَبالجملة لما تجاوز عن الحد ألمه وتطاول حزنه وأسفه قد ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ كثرة الْحُزْنِ والكآبة قبل فقدان هذين الاثنين فكيف بعد فقدانهما وبالجملة فَهُوَ في نفسه كَظِيمٌ مملو من الغيظ والأسف والحزن والبلاء كأنه مجسم منها متجرع انواع الغصص والألم من بنيه ثم لما رأى الناس منه ما رأوا من قلة الاكل والشرب وذوبان البدن ونقصان القوى البشرية والسهر المفرط واستمرار الحزن والأسف ودوام التأوه والتلهف
قالُوا متعجبين من حاله مقسمين على هلاكه تَاللَّهِ تَفْتَؤُا لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ على هذا المنوال حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مهزولا مدقوقا مشرفا على الهلاك أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ
ولما بالغوا في منعه عما عليه من الكآبة والحزن وكثرة التأوه والبكاءالَ
في جوابهم مستنكرا عليهم نَّما أَشْكُوا بَثِّي
وما أبث وابسط شكواي حُزْنِي
المفرط الخارج من حد التصبر الالَى اللَّهِ
المطلع لما في قلبي من الحرقة والا لم المفرط رجاء ان يزيل عنى ما يؤذيني ويوصلني بلطفه وجوده الى ما يسرني ويفرج همي عنى
اعلموا ايها اللائمون المبالغون في منعى انى بالهام الله إياي ووحيه الى عْلَمُ مِنَ
كرم لَّهِ
ومن سعة رحمته وجوده وفضله الا تَعْلَمُونَ
أنتم ايها اللائمون المبالغون بل انما حملني الله وازعجنى على بث الشكوى ونشر النجوى معه واظهار التذلل والخشوع والتضرع والخضوع نحوه حتى لا اقنط من ملاقاة يوسف ولا اترك المناجاة مع الله لأجله وان تطاولت المدة وتمادى الزمان ثم لما استروح يعقوب عليه السّلام من روح الله واستنشق من نسمات رحمته نادى بنيه نداء مرحمة واشفاق ليقبلوا اليه بعد ما ايسوا عنه وقنطوا من عطفه إذ هم قد بالغوا في سوء الأدب معه وإيقاعه بأنواع المحن والشدائد
فقال يا بَنِيَّ اذْهَبُوا الى مصر كرة اخرى فَتَحَسَّسُوا تفحصوا وتطلبوا اصالة مِنْ(1/383)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
يُوسُفَ وَأَخِيهِ بنيامين تبعا وَلا تَيْأَسُوا ولا تقنطوا يا بنى مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وتنفيسه وتقريحه الهم إذ نحن معاشر الأنبياء لا يليق بنا اليأس والقنوط سيما عن كرم الله وجوده في حال من الأحوال إِنَّهُ لا يَيْأَسُ ولا يقنط مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ومن كمال قدرته وسعة جوده ورحمته إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ الساترون بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق السارية المتجلية في الأنفس والآفاق والفائضة عليهم سجال الفضل والكرم على مقدار قابلياتهم واستعداداتهم فعليكم ان لا تقنطوا من الله بحال من الأحوال بل اعتقدوا ان له التصرف والقدرة الكاملة والارادة التامة المتعلقة بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم لما صمموا العزم بالخروج الى مصر كرة اخرى باذن أبيهم فخرجوا من عنده وساروا الى ان وصلوا مصر
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ اى على يوسف قالُوا أولا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ قد مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ والجدب وشدة الجوع وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ قليلة ردية فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وتممه لنا من جاهك وإحسانك وَقالوا ثانيا تَصَدَّقْ عَلَيْنا برد أخينا لنرده الى أبيه المحزون فانه قد اشرف على الهلاك من شدة الحزن والأسف إِنَّ اللَّهَ المجازى على اعمال عباده يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ المحسنين منهم جزاء حسنا لا جزاء احسن منه ثم لما سمع يوسف من أسف أبيه وشدة كربه وكآبته وابيضاض عينيه وهزال جسمه ونحوله واشرافه على الانهدام والانخرام شرع يظهر امره عليهم
حيث قالَ تفضيحا لهم وتقريعا هَلْ عَلِمْتُمْ ايها المسرفون المفرطون قبح ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ من الزجر والإذلال والضرب والشتم وانواع المكروهات والمذمومات سيما قد اشتريتم بثمن بخس دراهم معدودة لتبعدوه عن وجه أبيه وتطردوه عن ساحة عز حضوره إِذْ أَنْتُمْ قوم جاهِلُونَ بان لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فاجتهدتم لهدم بناء الله وتغيير مراده ورد قضائه مبارزة عليه وخروجا بين يديه وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا
قالُوا مخبتين خاضعين متذللين بعد ما عرفوه مستفهمين على سبيل التقرير والتثبيت أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ايها العزيز قالَ أَنَا يُوسُفُ بن يعقوب الذي قد فعلتم به ما فعلتم وَهذا أَخِي بنيامين من ابى وأمي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بأنواع الكرم والإحسان ووقانا عما قصدتم علينا من السوء والعدوان وانواع الظلم والطغيان وبالجملة إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ عن محارم الله وعما لا يرضى به الله وَيَصْبِرْ على ما جرى عليهم من قضاء الله فَإِنَّ اللَّهَ الرقيب المطلع لأحوال عباده لا يُضِيعُ ولا يهمل ولا ينقص أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله ويعبدونه كأنهم يرونه ثم لما ظهر عليهم ما ظهر من الفضيحة والشناعة وانواع الندامة والكآبة
قالُوا متضرعين مستحين متذللين مقسمين على سبيل التثبيت والتقرير تَاللَّهِ يا أخانا لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ واصطفاك عَلَيْنا وأراك في المنام ما أراك من سجود الشمس والقمر والكواكب المعتبرة وكفاك هذا دليلا على نجابتك واختيارك علينا مع ان أبانا قد علم منك ما علم من الرشد وكمال العلم والفضل لذلك آثرك علينا محبة وعطفا وَبالجملة إِنْ كُنَّا اى انا كنا لَخاطِئِينَ في إذلالك وارادة مقتك وإهلاكك وضربك وايذائك وبالجملة قد كنا ساعين في ابطال ارادة الله ومشيته وكمال حكمته وقدرته لا سيما في إيذاء أبينا بمفارقتك عنه وإيقاعه بأنواع البليات والنكبات الى حيث قد ابيضت كريمتاه من فراقك فالآن الحكم لك والأمر بيدك وانا مجرمون مقرون معترفون بأنواع الجرائم فلك الاختيار وعلينا الحسرة والندامة وانواع الكآبة(1/384)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
والسآمة ثم لما رأى يوسف منهم ما رأى من الندامة المفرطة والخجل الغير المتناهي والخذلان المتجاوز عن الحد وانواع الخيبة والخسران
قالَ لهم تسلية عليهم وتزكية لنفسه بمقتضى نجابة طينته وكرامة فطرته لا تَثْرِيبَ اى لا لوم ولا تقريع عَلَيْكُمُ منى في حال من الأحوال سيما الْيَوْمَ الذي أنتم تعتذرون فيه وتستعفون عنى فاعلموا انى قد عفوت لكم مالي من الحقوق عليكم وقد ابرأت ذمتكم عنها جميعا بل يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ بعد ما استغفرتم اليه مخلصين وَهُوَ سبحانه في ذاته أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إذ رحم عموم الرحماء انما هو منه ومن ظل رحمته التي وسعت كل شيء وبعد تسليتهم وعفوهم وأخلاء الرعب عن خواطرهم أمرهم بالذهاب سريعا نحو أبيهم المحزون المغبون ليخلص عما عليه من الحزن المفرط والكآبة الغير المتناهية
فقال اذْهَبُوا يا إخوتي بِقَمِيصِي هذا وهو عليه فأخرجه ولفه بلا تنقية وغسل فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ يرجع ويصر بَصِيراً قريرا بعد ما كان مكفوفا ضريرا فاقد العينين وَبعد ما صار بصيرا صحيحا سالما سويا أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ وبجميع ما ينسب إليكم من النسوان والذراري والخدم والحشم
أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ وخرجت الركب والقفل من عمران مصر نحو كنعان قالَ أَبُوهُمْ لمن في صحبته من المؤمنين له إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ وتسفهوني ايها الحضار وتنسبونى الى نقصان العقل والخرف لصدقتمونى
قالُوا اى المؤمنون الحاضرون عنده تَاللَّهِ إِنَّكَ بتذكير يوسف ومن كثرة تخطيره ببالك لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ اى في ضلالك الذي قد كنت عليه زمانا مستمرا وهو وان سفهه القوم ومنعوه بتزايد شوقه ووجده زمانا فزمانا يترقى اشفاقه ونوحه ساعة فساعة
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ وهو يهودا مع القميص أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ على الوجه المأمور به فَارْتَدَّ رد وعاد فجأة بَصِيراً كما كان في سالف الزمان فشكر الله وحمده وسجد له سبحانه سجدة شكر على وجه الخضوع والخشوع وكمال التذلل والتفويض. ثم لما رفع رأسه من سجوده قالَ لبنيه ولحضار مجلسه أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يا قوم حين لمتمونى بالاسف والحزن المفرط وكثرة المناجاة مع الله ورفع الحاجات اليه سبحانه لملاقاة يوسف إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ كرم اللَّهِ ومن سعة رحمته وجوده ما لا تَعْلَمُونَ أنتم ايها اللائمون ثم لما سر يعقوب عليه السّلام وخلص من المحن والشدائد وقر عيناه
قالُوا اى بنوه منادين له متضرعين اليه متحننين نحوه يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا التي قد كنا نعمل معك ومع من أحببته واخترته علينا إِنَّا فيما فعلنا من الجرائم العظام وانواع المعاصي والآثام قد كُنَّا خاطِئِينَ جاهلين عن عواقبها وما تؤل اليه إذ هي من جملة ما قد قضى الله إيانا وحكم علينا لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه ثم لما تفرس يعقوب عليه السّلام منهم الإخلاص والانابة الصادقة والندامة الخالصة والرجوع عن ظهر القلب
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ في ذاته هُوَ الْغَفُورُ لذنوب عباده لا غافر لهم سواه سبحانه سيما لمن قد أخلصوا في رجوعهم وتوجههم نادمين الرَّحِيمُ لهم يقبل توبتهم وما سوف عليه السّلام امر استغفارهم الا الى ملاقاة يوسف عليه السّلام والمشورة معه ويدل عليه ما روى ان يعقوب عليه السّلام استقبل القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفه اذلة خاشعين حتى نزل جبريل عليه السّلام فقال ان الله قد أجاب دعوتك في حق ابنائك وقد عقد سبحانه مواثيقهم بعدك على النبوة ثم لما صمموا عزم الرحيل الى مصر وشدوا ركائبهم وساروا حتى وصلوا الى قربها فسمع يوسف بقدومهم وخرج الى استقبالهم(1/385)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
مع الملك وجنوده وجميع اهل مصر
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ ووصلوا اليه آوى إِلَيْهِ وحنن نحوه أَبَوَيْهِ فضمهما يوسف الى نفسه وواسى معهما وآنس بهما وزال وحشته ووحشتهما وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ عن نكبات الجدب والقحط واذيات الرحيل
وَبعد ما دخلوا على بيته رَفَعَ أَبَوَيْهِ تعظيما لهما وتوقيرا عَلَى الْعَرْشِ الذي يجلس هو عليه وهو بنفسه يقوم بين يديهما وَبعد ما تمكن ابواه على عرشه خَرُّوا لَهُ وبنوهما سُجَّداً لله شكرا للقياه وشرف حضوره سجود شكر وخضوع ولما رأى يوسف سجود هؤلاء تذكر ما رأى في المنام في أوان الصبا وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ في سالف الزمان قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا صدقا محققا مطابقا للواقع وَقَدْ أَحْسَنَ بِي بأنواع الإحسانات إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ بعد ما كنت فيه مدة مديدة وَأعظم منه انه قد جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ والبادية البعيدة سيما مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ وأوقع الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي بأنواع الإيقاعات والوساوس وبالجملة إِنَّ رَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم لَطِيفٌ مدبر كامل وموفق كافل لِما يَشاءُ من الأمور ويريد إصلاحه إِنَّهُ بذاته هُوَ الْعَلِيمُ بعلمه الحضوري بمصالح عباده الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله على مقتضى ما تعلق به علمه وارادته
ثم دعا يوسف عليه السّلام لنفسه وناجى ربه مناجاة صادرة عن محض الحكمة والزكاء والفطنة بقوله رَبِّ يا من رباني بلطفك وفضلك بأنواع التربية واصناف النعم والكرامة بحيث قَدْ آتَيْتَنِي وأعطيتني مِنَ الْمُلْكِ الظاهر اى الحكومة المتعلقة بعالم الشهادة وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ والعبور من صور الحوادث الكائنة في عالم الشهادة والخيال الى ما في عالم الغيب من الصور المقتضية إياها يا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عالم الأسماء والصفات التي قد انعكست منها هذه الاظلال الهالكة الشهادية أَنْتَ بذاتك بعد ما قد تحققت بتوحيدك وانكشفت به وارتفعت الحجب بيني وبينك وَلِيِّي ومتولى امرى وحامل أسراري فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ اى في النشأة الاولى والاخرى تَوَفَّنِي واقبضنى يا ربي نحوك مُسْلِماً مسلما مفوضا عموم أموري إليك وَأَلْحِقْنِي بمقتضى فضلك ولطفك بِالصَّالِحِينَ الذين أصلحوا نفوسهم في النشأة الاولى والاخرى حتى يفوزوا من عندك بشرك اللقيا
ذلِكَ المذكور من قصة يوسف وما جرى بينه وبين اخوته وبين امرأة العزيز وغير ذلك من الوقائع الهائلة الواقعة على يوسف وعلى أبيه وأخيه من حسد اخوتهما مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ومن الاخبارات التي قد سترت عنك وعن قومك يا أكمل الرسل نُوحِيهِ إِلَيْكَ ونعلمك نحن بالوحي والإلهام وَبالجملة ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ ودونهم وفي جمعهم وقت إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ويقصدون المكر والخداع مع يوسف وأبيه بعد ما شاوروا كثيرا في إهلاك يوسف وابعاده من عند أبيه واستقرار رأيهم بعد تكرر المشاورة على ما فعلوا به واتفقوا عليه وما أنت ايضا من اهل الإملاء والنسخ حتى تضبط قصصهم من التواريخ ولا من اهل التعلم لتستفيد من الغير بل ما هي الا مجرد وحى يوحى إليك من عندنا
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ الذين يترددون بين يديك ودونك وَلَوْ حَرَصْتَ أنت بايمانهم وإذعانهم بِمُؤْمِنِينَ لك مصدقين بما جئت به من عند ربك
وَما عرض لهم ولحق لنفوسهم من الغفلة لم يقبلوا منك ما قلت لهم إذ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغ ما قد جئت به من عند الله مِنْ أَجْرٍ جعل ومال من حطام الدنيا كما يفعله حملة الاخبار(1/386)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
ومتفقهة الزمان والمتشيخة من اهل التلبيس المقتفين اثر إبليس بل إِنْ هُوَ اى ما هذا القرآن وما فيه من العبر والاحكام والقصص المستلزمة لانواع المواعظ والتذكيرات إِلَّا ذِكْرٌ عام وفائدة جليلة شاملة
لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ كثير مِنْ آيَةٍ دالة على وجود الصانع وتوحيده واستقلاله في التصرف والآثار كائنة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى العلويات والسفليات او عالم الأسماء والصفات وعالم الطبيعة المنعكسة منها يَمُرُّونَ عَلَيْها مرور غفلة وذهول وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ حيث لا يعتبرون منها ولا يتأملون فيها وفي رموزها وإشاراتها وما ذلك الا من غاية توغلهم في الكثافة الطبيعية والحجب الظلمانية ونهاية تدنسهم بادناس الطبيعة الهيولانية
وَلذلك ما يُؤْمِنُ ويوقن أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ المستغنى في ذاته عن عموم المظاهر والمجالى المستقل بوجوده بحيث لا وجود لغيره أصلا إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ مشتركون له سبحانه من مصنوعاته في استحقاق العبادة ما لا وجود له في نفسه أصلا
أَيغفلون أولئك المسرفون عن مكر الله فَأَمِنُوا عن كمال قدرته على الانتقام ولم يخافوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ وترسل عليهم غاشِيَةٌ وعقوبة هائلة نازلة عليهم محيطة بهم مِنْ عَذابِ اللَّهِ في هذه النشأة حيث تغشيهم وتحيط بهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ الموعودة بَغْتَةً فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ اماراتها وعلاماتها وان أصروا على كفرهم واشراكهم بالله وعدم الالتفات بك وبقولك
قُلْ لهم يا أكمل الرسل مجاراة عليهم هذِهِ سَبِيلِي اى الدعوة الى التوحيد الذاتي واعداد الزاد ليوم المعاد طريقي وانا انما بعثت لأجلها وتبيينها أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ والى توحيده باذنه كافة عباده عَلى بَصِيرَةٍ تامة فائضة علىّ من عنده سبحانه أَنَا اى ادعو انا بمقتضى الوحى والإلهام وَمَنِ اتَّبَعَنِي من خيار أمتي بوسيلة إرشادي وهدايتي إليهم وَسُبْحانَ اللَّهِ وانزهه تنزيها تاما عن معتقدات اهل الزيغ والضلال في حقه سبحانه وَبالجملة ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ابرئ نفسي عماهم عليه من الشرك المنافى للتوحيد مطلقا.
ثم قال سبحانه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ايها المبعوث الى الكل إِلَّا رِجالًا مثلك من جنس البشر نُوحِي إِلَيْهِمْ ونخصهم بالوحي والإلهام مثل ما خصصناك لنجابة طينتهم في اصل خلقتهم مع انهم مِنْ أَهْلِ الْقُرى اى من جملة ما يسكنون فيها أَيصرون هؤلاء المصرون المعاندون على تكذيبك معللين بقولهم الباطل لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ قد كذبوا الرسل المبعوثين إليهم من جنسهم وبنى نوعهم مثل تكذيبهم إياك حتى يعتبروا منها وَالله لَدارُ الْآخِرَةِ المعدة للفوز والفلاح خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا اى للمؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عن عموم ما حذرهم الله عنه أَفَلا تَعْقِلُونَ ايها المسرفون المكذبون بها خيريتها مع انكم مجبولون من زمرة العقلاء وهم ايضا أمثالكم ايها المسرفون المكابرون وتمادوا في الغفلة والإصرار على التكذيب مدة مديدة
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ وقنط الرُّسُلُ المبعوثون إليهم بل وَظَنُّوا من طول الامهال وعدم الأخذ والبطش أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا يقينا وصاروا كأنهم قد اخلف عنهم الوعد الذي وعدوا به من جانب الحق وبعد ما ازداد يأسهم وقنوطهم قد جاءَهُمْ نَصْرُنا الذي وعدناهم وعذابنا الذي قد اوعدنا به أممهم وبعد ما جاء أخذنا إياهم فَنُجِّيَ نوفق ونخلص مَنْ نَشاءُ إيمانه بنا وبرسلنا وانقياده إيانا وإياهم وَبالجملة لا يُرَدُّ بَأْسُنا الذي قد وعدنا به عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الذين قد أجرموا علينا بتكذيب رسلنا وكتبنا وان(1/387)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
طالت مدة الامهال.
ثم قال سبحانه تنبيها وحثا لعباده على ما في كتابه من الإشارات لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ اى في قصص الأنبياء المذكورين في القرآن سيما قصة يوسف عليه السّلام عِبْرَةٌ واعتبار واستبصار لِأُولِي الْأَلْبابِ الذين يتأملون ويتعمقون في لب الكلام ويعرضون عن قشوره وبالجملة ما كانَ القرآن وما ذكر فيه من القصص والاحكام حَدِيثاً مموّها مختلقا يُفْتَرى به الى الله افتراء ومراء وَلكِنْ وحى قد نزل من عند الله ليكون تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب الإلهية اى مصدقا عموم أحكامها وآثارها وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ احتيج اليه في الدين والدنيا من الأمور المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن وَهُدىً مرشدا هاديا قائدا لمن تمسك به وعمل بما فيه قد أمن من الضلال ووصل الى فضاء الوصال وَرَحْمَةً عامة تامة شاملة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به ويصدقون بما فيه ويعملون بمقتضاه
خاتمة سورة يوسف عليه السّلام
عليك ايها المستبصر الخبير والمسترشد البصير بصرك الله بعيوب نفسك وجنبك عن غوائلها ان تعتبر عن القصة التي ذكرت في هذه السورة وتحترز عن مطلق المكائد المذكورة فيها والمخادعات المصرحة بها والمرموزة إليها وتصفى امارة نفسك عن مباديها وتبرئها حسب طاقتك وقدر وسعك وقوتك عما يئول إليها ويؤدّى نحوها وتشمر ذيل همتك لتهذيب ظاهرك وباطنك عما يعوقك عن سلوك طريق التوحيد المفضى الى اضمحلال الرسوم وانقهار التعينات العدمية والاظلال الهالكة المؤدّية الى الكثرة والثنوية الحاجبة عن صرافة الوحدة الذاتية بالنسبة الى ذوى الحجب الكثيفة والغشاوة الغليظة وعليك ان تتوجه بوجه قلبك الى افناء لوازم تعيناتك الباطلة واهويتك العاطلة التي هي شياطين طريقك نحو الحق المنزه عن مطلق التغير والتبدل المقدس عن عموم الانقلابات وعن مطلق التحول والتحويل إذ لا يشغله شأن عن شأن ولا يفتره كر الدهور ومر الأعوام والأزمان بل هو كل يوم وآن في شأن لا كشأن وكل من عليها فان وبالجملة بعد ما قد فنيت أنت عن وجوه تعيناتك رأسا يبقى وجه ربك الذي لا انقلاب له أصلا ذو الجلال الذاتي الأزلي والإكرام الأبدي السرمدي جعلنا الله ممن أيده الحق لسلوك طريق الفناء ووفقهم على افناء ما يعوقهم عن شرف اللقاء ودوام البقاء انه سميع مجيب
[سورة الرعد]
فاتحة سورة الرعد
لا يخفى على من ترقى من مرتبتي العلم والعين بلا تلوين وتحقق واستعلى على مرتبة حق اليقين مع تثبيت وتمكين ان الآثار الغريبة والتدابير العجيبة الكائنة في عالم الكون والفساد انما تصدر عن ذات متصفة بجميع أوصاف الكمال منزهة عن نقص الحدوث والزوال مستقلة في مطلق تصرفاتها بلا مزاحمة ضد وند ومظاهرة معاون وممد إذ لا وجود لغيرها ولا ثبوت لسواها أصلا الا بها ومنها فدلت الأفعال المتقنة والآثار المحكمة والنظام المحسوس المشاهد على هذا النمط البديع على وحدة فاعلها عند من تشبث بأذيال العقل المستدل واما اهل الكشف والشهود المستغرقون في مطالعة جمال الله وجلاله لا يرون في الوجود الا هو ولذلك لا يسندون الآثار والأفعال والحركات والسكنات والحوادث الكائنة مطلقا الا لله أولا وبالذات بلا رؤية الأسباب والوسائل في البين بل(1/388)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
انما لا يرون الكل وما يعتقدونه الا من لوائح تجلياته واشعة شئونه الذاتية وتطوراته لذلك نبه سبحانه في كتابه على عباده مخاطبا لحبيبه منبها عليه بان التدابير الكائنة انما تستند اليه تعالى وتصدر عنه بالاستقلال بلا مظاهر ومعين فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المتجلى على ظواهر الكائنات بأنواع التدبيرات الرَّحْمنِ لعموم عباده في النشأة الاولى بوفور العطيات الرَّحِيمِ لهم في النشأة الاخرى بأعظم المثوبات وارفع الدرجات
[الآيات]
المر ايها الإنسان الكامل اللبيب اللائق لملاحظة رموز آثار الوحدة الذاتية الإلهية اللائح من غرته الغراء مقتضيات لوامع الرشد والرضاء بعموم ما جرى عليه من القضاء تِلْكَ السورة المنزلة إليك يا أكمل الرسل آياتُ الْكِتابِ الجامع لفوائد الكتب المنزلة وأحكامها اى من جملة آياته وبعض منها وَايضا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ قبل نزول هذه السورة مِنْ رَبِّكَ من الآيات الدالة على تهذيب الظاهر والباطن كلها هو الْحَقُّ المطابق للواقع النازل من عند الحكيم العليم وبالجملة عموم ما انزل إليك في كتابك هذا منجما حق مطابق للواقع بلا شك وارتياب في نزوله من لدنه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لانهماكهم في الغفلة والنسيان لا يُؤْمِنُونَ به ولا يصدقون بما فيه ولا يعتقدون بحقيته وحقية منزله وكيف لا يعتقدون حقيته أولئك الحمقى المعاندون إذ هو
اللَّهُ الواحد الأحد المبدئ الرفيع البديع الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ اى العلويات معلقا بِغَيْرِ عَمَدٍ وأساطين يعتمدن عليها ظاهرة كما تَرَوْنَها في بادى النظر لتكون أسبابا ووسائل للسفليات ثُمَّ لما رفعها وصورها على ابلغ النظام وابدعه اسْتَوى واستولى باسمه الرّحمن عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش ذرائر الكائنات بالإظهار والإبراز وانواع التدبيرات المتعلقة لحفظها وإبقاء نظامها وانتظامها وَكذلك سَخَّرَ من بينها الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لتتميم التدبير كُلٌّ منهما يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى اى يدور دورة مقدرة شتاء وصيفا ربيعا وخريفا تكميلا لإصلاح ما يتعلق لمعاشهم وحفظهم وبالجملة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى امر معاشكم على ما ينبغي ويليق بلا فتور وقصور يُفَصِّلُ لكم الْآياتِ ويوضح لكم الدلائل والشواهد الدالة على توحيده هكذا لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ رجاء ان تتفطنوا وتتيقنوا بوحدة موجدكم ومربيكم من الدلائل الواضحة والشواهد اللائحة
وَكيف لا تتفطنون ايها المجبولون على فطرة الفطنة والذكاء بموجدكم ومربيكم مع انه هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وفرشها مبسوطة وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا شامخات لتكون أوتادا لها وَاجرى عنها وفي خلالها ووهادها أَنْهاراً منتشئة منها جارية على وجه الأرض لا نبات ما تقتاتون وتتفكهون به عليها وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ قد جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ 4 ليكون سببا لدوامها وبقائها ولانضاجها وإصلاحها يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يلبس الليل بالنهار لتسكين البرودة والنهار بالليل لتسكين الحرارة ليحصل الاعتدال في طبيعة الهوا المنضج وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الحكم والتدابير العجيبة لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتأملون في حكم الصانع الحكيم المدبر العليم
وَايضا من بدائع قدرته وغرائب حكمته انه قد حصل وظهر فِي الْأَرْضِ حسب تدبيره البديع قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ متماثلات في الطبيعة والمزاج وَحدثت ايضا فيها جَنَّاتٌ وبساتين مملوة مِنْ أَعْنابٍ في بعض أطرافها وَفي بعض زَرْعٌ وَفي البعض الآخر نَخِيلٌ مختلفة أنواعها بعضها صِنْوانٌ اى نخلات متكثرة وأصلها(1/389)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
واحد وَغَيْرُ صِنْوانٍ اى متفرقات الأصول مع ان الكل يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَمع وحدة طبيعة الأرض والماء نُفَضِّلُ حسب حكمتنا المتقنة بَعْضَها اى بعض الثمرات عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إذ بعضها ضار لبعض وبعضها نافع وكذا بعضها حلو وبعضها حامض الى غير ذلك من التفاوت والاختلافات الواقعة في الفواكه والثمرات وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الاختلافات مع وحدة طبيعة القابل لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما دالة على حكمة الفاعل العليم الحكيم ومتانة فعله وصنعته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في التفكر بمصنوعات الحق والتدبر بمبدعاته ومخترعاته
وَإِنْ تَعْجَبْ أنت يا أكمل الرسل انكار الكفار حشر الأجساد مع وضوح دلائله وسطوح براهينه فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ اى فعليك ان تتعجب من قولهم هذا إذ قولهم هذا محل العجب مع شهودهم بالشواهد والآثار التي ذكرت آنفا يقولون هكذا حال كونهم مستفهمين مستبعدين على سبيل التعجب أَإِذا كُنَّا تُراباً وعظاما ورفاتا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ كلا وحاشا ان نعود ونصير إنسانا بعد ما قد صرنا كذلك وبالجملة أُولئِكَ البعداء المعزولون من منهج الرشد هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ الذي أوجدهم وأظهرهم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة ورباهم بأنواع التربية مع ان اعادتهم أيسر من ابدائهم وابداعهم وَبالجملة أُولئِكَ الضالون المقيدون بسلاسل الطبيعة في النشأة الاولى قد صارت الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ في النشأة الاخرى دائما مستمرا وَبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ابد الآباد
وَمن قبح صنيعهم ونهاية غفلتهم عن الله 4 وشدة غيرة الحق وانتقامه إياهم يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ المهدد بها والموعد عليها اى يطلبون منك يا أكمل الرسل استعجال إتيانها استهزاء وتهكما قَبْلَ الْحَسَنَةِ الموعودة لهم على تقدير ايمانهم وَالحال انه قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِمُ على أمثالهم من الأمم الهالكة الْمَثُلاتُ اى انواع القصاصات والعقوبات التي قد صارت أمثالا متداولة بين الناس يضرب بها وحال أولئك الغواة الطغاة الهالكين السالفين يكفى لهم ويكف مؤنة استعجالهم واستهزائهم لو تأملوا وتدبروا وَبالجملة هم من غاية إصرارهم وكفرهم وان استحقوا على ما يستعجلون بل على اضعافها وآلافها على أقبح الوجوه لكن قد امهلهم الله العليم الحكيم زمانا حسب حلمه وحكمته إِنَّ رَبَّكَ الحليم الحكيم العليم لَذُو مَغْفِرَةٍ ستر وعفو لِلنَّاسِ المنهمكين في بحر الغفلة والنسيان عَلى ظُلْمِهِمْ اى مع ظلمهم على أنفسهم باستجلاب عذاب الله إياها وَإِنَّ رَبَّكَ ايضا على مقتضى عدله وقهره لَشَدِيدُ الْعِقابِ سريع الحساب على من خرج عن ربقة أطاعته استكبارا واستنكافا
وَمن شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبدينك وكتابك لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ قد اقترحناه بها مِنْ رَبِّهِ ان كان نبيا مثل سائر الأنبياء الماضين لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبكفرهم وقولهم هذا إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مخبر بما جئت به من عند ربك لا هاد مصلح ما عليك الا البلاغ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ هو الله سبحانه ان تعلق ارادته بهدايتهم يهديهم إذ هو عالم بسرائرهم وضمائرهم وبعموم ما جرى عليهم وما يئول اليه أمرهم
إذ اللَّهُ يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى من النطفة المصبوبة المدفوقة وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وتنقصها منها دفعا لفضلاتها وَما تَزْدادُ عليها لتنميتها وتصويرها وَبالجملة كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ اى حصول كل كائن مقدور ومقدر عنده انما هو بمقدار مخصوص من مادة(1/390)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
معينة في مدة مقررة لا ينقص منها ولا يزيد عليها والاطلاع عليها وعلى كيفياتها وكمياتها مما قد استأثر الله به في غيبه إذ هو بذاته
عالِمُ الْغَيْبِ اى مطلق الأمور التي قد خفى علينا وغاب عنا انيته ولميته وَالشَّهادَةِ اى الأمور التي قد ظهر لنا انيته دون لميته وكيف لا يعلم الغيب والشهادة سبحانه إذ هو الْكَبِيرُ في ذاته الْمُتَعالِ المنزه المستغنى بصفاته الكاملة عن الاتصاف بصفات كلا العالمين ولوازمهما وان كان كل منهما ايضا من اظلال أوصافه الذاتية وأسمائه الحسنى واعلموا ايها الاظلال الهالكة ان كل ما صدر عنكم وجرى عليكم
سَواءٌ عنده سبحانه بالنسبة الى حيطة حضرت علمه المحيط المتعلق بأحوال المكونات مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وأخفاه وأضمره في نفسه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وأظهره وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ اى مستتر متغط بِاللَّيْلِ وَكذا من هو سارِبٌ بارز ظاهر بِالنَّهارِ إذ لا يشغله شأن عن شأن ولا يحجب عليه الأستار والسدول ولا يعين عليه البروز والظهور إذ لا يخفى عليه شيء لا في الأرض ولا في السماء
بل لَهُ سبحانه بالنسبة الى كل شيء من الأشياء حتى الذرة والنملة والخطفة والطرفة مُعَقِّباتٌ من الأوصاف الإلهية مسميات بالملائكة يعقبن عليه متواليا دائما متتاليا محيطات إياه حافظات له مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ عما لا يعنيه وينافره ويؤذيه وما هو الا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إياهم وتعلق ارادته ومشيته بحصانته وحفظه على مقتضى لطفه وجماله إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده المصلح لأحوالهم لا يُغَيِّرُ ولا يبدل ما بِقَوْمٍ من النعمة والعافية والرفاهية والفرح والسرور حَتَّى يُغَيِّرُوا ويبدلوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من محاسن الأخلاق ومحامد الأوصاف الى المقابح والمذام بترك أوامر الله وارتكاب نواهيه وَبالجملة إِذا أَرادَ اللَّهُ المطلع بسرائر عباده واستعداداتهم بِقَوْمٍ سُوْءاً ناشئا من خباثة طينتهم ورداءة فطرتهم فَلا مَرَدَّ لَهُ اى لا يمكن لاحد من خلقه ان يرد ارادته وَكيف يرد مراده سبحانه مع انه ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ سبحانه مِنْ والٍ يتولى أمورهم ويرجعون نحوه في الوقائع والخطوب
وكيف يرجعون الى غير الله ويستردون مراده سبحانه منه مع انه هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ بغتة ويورث منه فيكم خَوْفاً من ان يصابوا به وَطَمَعاً بما هو مستتبع له من المطر وَايضا يُنْشِئُ من الابخرة المتصاعدة السَّحابَ المتراكم من الابخرة الثِّقالَ بالمياه المتكثرة
وَحين اراءة البروق وإنشاء السحب يُسَبِّحُ الرَّعْدُ المتكون من اصطكاك الابخرة والادخنة المحتبسة بين السحب المتراكمة بِحَمْدِهِ اى بحمد الله بإلقاء الملائكة الموكلين عليه المعاقبين الممدين له إياه وَالْمَلائِكَةُ ايضا يسبحون حينئذ بحمده مِنْ خِيفَتِهِ وخشيته سبحانه ومن سطوة سلطنة قهره وجلاله وَايضا يُرْسِلُ سبحانه الصَّواعِقَ الكائنة من الابخرة والاجنة المحترقة بالاجزاء النارية فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ إهلاكه وقتله زجرا له وانتقاما عليه وَبالجملة هُمْ مع غاية ضعفهم وعدم قدرتهم وقوتهم يُجادِلُونَ ويكابرون فِي توحيد اللَّهِ وفي عموم ما جاءت به رسله من عنده من الأوامر والنواهي المتعلقة بالنشأة الاولى والاخرى وَالحال انه لكمال قدرته وبسطته وسلطنته القاهرة وجلاله الغالب هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ صعب المكابدة شديد الانتقام سيما لمن جادل معه وكذب رسله بالباطل
لكن لَهُ سبحانه دَعْوَةُ الْحَقِّ المطابق للواقع الصادرة من الرأى المحق المتحقق بمرتبة التوحيد اى قبولها وإجابتها وإنجاحها لمن دعا بها مخلصا في دعائه وتوجهه بها نحو الحق(1/391)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
وَالأصنام والأوثان الَّذِينَ يَدْعُونَ المشركون المسرفون المكابرون إياهم مِنْ دُونِهِ اى من دون الله لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ قليل مما يطلبونه فكيف بالكثير بل ما مثلهم في دعوة الأصنام ودعائهم إياهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ اى كمثل عطشان قد بسط كفيه الى الماء يدعوه لِيَبْلُغَ فاهُ ويرويه والحال انه غائر عميق وهو جماد لا شعور له ليجيب دعوته وَما هُوَ بِبالِغِهِ وبسبب ذلك قد زاد عطشه وحرقة قلبه وزفرة صدره كذلك المشركون يدعون أصنامهم ليشفعوا لهم ويصلوا الى مرامهم بواسطتهم والحال انه هم جمادات لا يقدرن على الإيصال والقبول أصلا وَبالجملة ما دُعاءُ الْكافِرِينَ الساترين باباطيلهم الكاذبة وأوثانهم الباطلة العاطلة نور الحق الحقيق بالحقية الوحيد في الألوهية الفريد بالمعبودية إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع وخسران وحرمان وخذلان وبطلان
وَكيف يتوجه ويدعى لغير الحق مع انه لا اله الا هو ولا شيء سواه لذلك لِلَّهِ المتأصل في الوجود المتصف بالقيومية لا لغيره من الاظلال الهالكة في أنفسها يَسْجُدُ ويتذلل ويتضرع عموم مَنْ فِي السَّماواتِ اى في عالم الأسماء والصفات المسماة بالأعيان الثابتات وَكذا عموم من في الْأَرْضِ اى عالم الطبائع والأركان من الصور والهياكل المتكونة المنعكسة من الأسماء والصفات طَوْعاً طائعين راغبين عن خبرة واستبصار وَكَرْهاً كارهين عن حيرة وضلال وَايضا يسجد له سبحانه ظِلالُهُمْ اى لوازم هوياتهم وما يترتب عليها دائما بِالْغُدُوِّ اى في أول الظهور والبروز وَالْآصالِ اى في وقت الانمحاء والزوال
قُلْ يا أكمل الرسل لمن عاند الحق وجادل مع اهله مكابرة مستفهما على سبيل التبكيت والإسكات مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وموجدهما ومظهرهما من كتم العدم ومربيهما بأنواع التربية والكرم قُلْ أنت ايضا في جواب سؤالك إذ هم معزولون عن التنطق بكلمة الحق وكيف لا وقد ختم الله على قلوبهم وأفواههم اللَّهُ اى الموجد المربى هو الله المستقل بالالوهية والربوبية لا اله سواه ولأمر بي الا هو. ثم بعد ما ظهر الحق قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع أَفَاتَّخَذْتُمْ وأخذتم ايها الجاهلون بحق الله وحق قدره مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ معبودات من جنس مصنوعاته سيما من أدونها وهي الجمادات التي لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ لا نَفْعاً وَلا ضَرًّا فضلا لغيرهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا ايها الجاهلون المعزولون عن مقتضى العقل الفطري هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى الفاقد البصر وَالْبَصِيرُ الواجد لها أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ اى الاعدام الهالكة في أنفسها وَالنُّورُ «4» اى الوجود المتشعشع اللامع في ذاته ازلا وابدا أَمْ جَعَلُوا أولئك الحمقى العمى الهلكى في تيه الغفلة والضلال لِلَّهِ المنزه عن مطلق المثل والمثال شُرَكاءَ مثله وهم ايضا قد خَلَقُوا واوجدوا كَخَلْقِهِ وإيجاده فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يعنى بحيث قد اشتبه عليهم وتشابه عندهم خلق شركائهم بخلقه سبحانه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا قُلْ يا أكمل الرسل إرشادا وتكميلا اللَّهُ المستجمع لصفات الكمال بأسرها والمربى لعموم الكائنات برمتها خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ومظهرها وموجدها بالاستقلال والانفراد بلا مظاهرة ولا مشاركة أصلا وَهُوَ بذاته الْواحِدُ الأحد المستقل في الوجود الْقَهَّارُ لعموم الأغيار الهالكة في أنفسها المنعكسة من اظلال أسمائه الحسنى وأوصافه العليا الباقية في صرافة عدميتها الاصلية ومن كمال اشفاقه سبحانه وشمول مرحمته على عباده
قد أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ اى من فضاء عالم اللاهوت
__________
(4) جمع الظلمات وافراد النور باعتبار تعددات التعينات العدمية ووحدة شمس الذات [.....](1/392)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
ماءً الا وهو ماء الايمان والعرفان المحيي لأموات العكوس والاظلال فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها اى قد امتلأت النفوس القدسية القابلة للمعارف والحقائق بقدر ما يسع في استعداداتها منها فسالت بعد ما امتلأت فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً اى دفع وأماط مياه المعارف والحقائق المترشحة من بحر الوحدة الذاتية السائلة من قلوب الكمل زبد التقليدات الحاصلة من رسوب القوى البشرية وغش الطبيعة لتسقطها على أطراف بحر الوجود وتصفيه عن الكدورات مطلقا وَمثل ذلك الزبد الباطل يحصل مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ اى من الأشياء التي يطرح في النار ويوقد عليها لتصفيها من الكدر من الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها حين أرادوا ان يصفوها من الغش والكدر ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ اى طلب اتخاذها منها أَوْ مَتاعٍ آخر من الأواني وآلات الحرب زَبَدٌ فاسد باطل في نفسه مِثْلُهُ اى مثل الزبد الاول وبالجملة كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده الْحَقَّ وَالْباطِلَ لهم كي يتنبهوا ويتفطنوا فيتبعوا الحق ويجتنبوا عن الباطل ثم بين لهم سبحانه مآلهما توضيحا وتقريرا بقوله فَأَمَّا الزَّبَدُ المرتفع على الماء فَيَذْهَبُ جُفاءً ويضمحل ويتلاشى بالجفاف كما ان زبد التقليدات يسقط ويضمحل باشراق نور اليقين وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من مياه المعارف والحقائق فَيَمْكُثُ ويستقر فِي الْأَرْضِ اى الطبيعة القابلة لانعكاس اشعة الأسماء والصفات الإلهية لينبت فيها منها شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ فطلبوا منه الْحُسْنى اى المثوبة الحسنى العظمى والمرتبة العليا معتقدين افاضتها واعطاءها إياهم وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ مثل ما استجاب اهل الحق ولم يعتقدوا مثل ما اعتقد أولئك المحقون لذلك لم ينالوا نصيبهم وحظهم منها مثل ما نالوا بحيث لَوْ فرض أَنَّ لَهُمْ وثبت في تصرفهم ملك ما فِي الْأَرْضِ من الزخارف والأموال جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ بل أمثاله وأضعافه معه لَافْتَدَوْا بِهِ جميعا لينالوا بما نال أولئك السعداء المقبولون لكن لم ينالوا البتة بل أُولئِكَ الأشقياء المردودون عن ساحة عز القبول لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ يحاسبون على عموم ما صدر عنهم من النقير والقطمير ويؤاخذون عليه وَفي الآخرة مَأْواهُمْ ومثواهم جَهَنَّمُ الخذلان وسعير الطرد والحرمان وَبالجملة بِئْسَ الْمِهادُ مهد أولئك الضالين عن منهج الرشد والسداد
أَيعتقد المشرك المتمرد عن متابعك وقبول دينك فَمَنْ يَعْلَمُ ويصدق أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لتأييدك من الكتاب الجامع لما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي والعبر والأمثال والرموز والإشارات هو الْحَقُّ المطابق للواقع بلا شك وارتياب فيه كَمَنْ هُوَ أَعْمى يعنى ايعتقدون ان هذا المؤمن المصدق مثل من هو أعمى عن ابصار ما يرى في الآفاق من المبصرات بل هو أشد عمى لأنه فاقد البصيرة إذ لا يمكن ادراك الأمور الدينية والمعارف اليقينية إلا بها وبالجملة إِنَّما يَتَذَكَّرُ ويتفطن بسرائر كتاب الله أُولُوا الْأَلْبابِ المستكشفون عن لب الأمور المعرضون عن قشورها ولا يحصل ذلك الا بالبصيرة الا وهم المؤمنون الموقنون
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الذي عهدوا معه حين رش ورشح سبحانه من رشحات نور الوجود على أراضي استعداداتهم وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ الوثيق بل يحفظونه ويواظبون على حفظه دائما حسب ما وفقهم الحق
وَكذا هم الَّذِينَ يَصِلُونَ ويتصفون بعموم ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من المأمورات والمرضيات الإلهية والمعارف والحقائق والخصال الجميلة والأخلاق الحميدة وَ(1/393)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
مع ذلك يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ عن ارتكاب المنهيات والمحظورات وكذا عن مطلق الذمائم من الأخلاق والأطوار وَبالجملة هم يَخافُونَ من الله وعن مخالفة امره ونهيه سُوءَ الْحِسابِ ورداءة المنقلب والمآب
وَأيضا هم الَّذِينَ صَبَرُوا إذا اصابتهم مصيبة واحاطتهم بلية ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ اى ما سبب صبرهم الا طلب مرضات ربهم مسترجعين اليه سبحانه متضرعين نحوه وَأَقامُوا الصَّلاةَ واداموا الميل والتوجه نحوه في عموم الأحوال والأزمان وَمع ذلك أَنْفَقُوا للفقراء المستحقين مِمَّا رَزَقْناهُمْ ووفقناهم عليه واقدرناهم لكسبه وجمعه سِرًّا اى على وجه لا يشعر الفقير بالمنفق ولا يعرفه أصلا لئلا يتأذى بتوهم المن والأذى وَعَلانِيَةً على وجه يشعر به لكن يبالغ المنفق في التذلل والانكسار بحيث لا يتوهم المنة أصلا وَايضا هم الذين يَدْرَؤُنَ اى يدفعون ويسقطون بِالْحَسَنَةِ الخصلة الحميدة والخلق المرضى السَّيِّئَةَ الذميمة القبيحة من الخصائل والأخلاق وبالجملة أُولئِكَ السعداء الأولياء ذووا العهد والوفاء وأولوا الخوف والرجاء الصابرون على عموم البلاء الراضون بما جرى عليهم من سوء القضاء المتوجهون الى المولى في السراء والضراء المنفقون مما عندهم لرضاه سبحانه على الفقراء وبالجملة قوم سعداء قد حصل لَهُمْ حين كانوا في النشأة الاولى عُقْبَى الدَّارِ الاخرى وما يحصل فيها من اللذات والمثوبات ورفع الدرجات ونيل المرادات بلا انتظار لهم الى النشأة الاخرى والطامة الكبرى
ومن جملتها جَنَّاتُ عَدْنٍ ودار اقامة وخلود ومنزل كشف وشهودهم يَدْخُلُونَها اصالة واستحقاقا وَيدخل ايضا بشفاعتهم وتبعيتهم مَنْ صَلَحَ لصحبتهم ورفاقتهم مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وممن ينتمى إليهم وكذا من استرشد منهم واهتدى بهدايتهم من اهل الطلب والارادة وَحين استقروا وتمكنوا فيها يزورهم الْمَلائِكَةُ ويطوفون حولهم ترحيبا وتعظيما بحيث يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب الجنة قائلين
سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها الفائزون بالفلاح والنجاح بِما صَبَرْتُمْ في دار الابتلاء بأنواع المحن والبلاء فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ منزلكم ومنقلبكم في دار القرار وعواقب أموركم فيها من الفرح الدائم وسرور المستمر ثم بين سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب حسن عواقب الأبرار بقبح احوال الأشرار وبوخامة عواقبهم بقوله
وَالمسرفون المفرطون الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ الذي عهدوا معه في بدء الوجود واصل الفطرة سيما مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ الوثيق وأحكامه المحكم البليغ وَمع ذلك يَقْطَعُونَ ويتركون عموم ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويحافظ عليه وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات من الظلم والزور والافتراء والمراء وانواع المكابرة والمعاداة مع الأنبياء والأولياء وسوء الظن مع ارباب المحبة والولاء أُولئِكَ البعداء المعزولون عن ساحة عز القبول لَهُمُ اللَّعْنَةُ والطرد والحرمان والرد والخذلان في النشأة الاولى وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ورداءة المرجع والمآب في النشأة الاخرى
ثم لما افتخر اهل مكة بما عندهم من الامتعة والزخارف وباهوائها واستحقروا فقراء المؤمنين وشنعوا عليهم رد الله عليهم هذياناتهم هذه بكلام ناش عن محض الحكمة فقال اللَّهُ المطلع على استعدادات عباده يَبْسُطُ يكثر ويوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده في النشأة الاولى وَيَقْدِرُ يقبض وينقص على من يشاء ارادة واختيارا حكمة منه وتدبيرا وَهم في أنفسهم وحسب مفاخرتهم ومباهاتهم بحطام الدنيا قد فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا المستعارة التي لإقرار لها ولا ثبات لنعيمها(1/394)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا وما يترتب عليها من اللذات الفانية والمشتهيات الغير الباقية فِي جنب حيوة الْآخِرَةِ وما يترتب عليها من اللذات الدائمة والمثوبات الباقية إِلَّا مَتاعٌ قليل لا يؤبه به ولا يلتفت اليه عند من كان له ادنى مسكة
وَمن خبث طينتهم ورداءة فطرتهم يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك ودينك لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ملجئة لنا بالإيمان مِنْ رَبِّهِ مع انه يدعى التأييد من لدنه ومع شدة شغفه وحرصه لان نؤمن له قُلْ لهم يا أكمل الرسل ما علىّ الا البلاغ إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بمقتضى علمه وعدله لمن أراد إضلاله وانتقامه وَيَهْدِي إِلَيْهِ على مقتضى جوده مَنْ أَنابَ اليه عن ظهر القلب إذ كل ميسر لما خلق له
وبالجملة الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بتوحيد الحق وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ اى تسكن وتستقر عن دغدغة التقليد الباطل والتخمين المضمحل الزائل بِذِكْرِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الوجود بلا اضطراب وتردد فقد اضمحلت وتلاشت عن صحائف خواطرهم نقوش الأغيار والسوى مطلقا أَلا تنبهوا ايها الاظلال الطالبون للوصول الى مرتبة الكشف والشهود بِذِكْرِ اللَّهِ المسقط لعموم الإضافات تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وتتمكن في مقام الحضور وتستريح عن تشويشات الأوهام
وبالجملة الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا في أوائل سلوكهم وطلبهم حتى يتحققوا في مرتبة اليقين العلمي وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى مطلوبهم ليصلوا الى مرتبة اليقين العيني طُوبى لَهُمْ الفوز بالفلاح والنجاح وَحُسْنُ مَآبٍ وقت تحققهم بمقام الكشف والشهود الذي هو مرتبة اليقين الحقي
وكَذلِكَ اى مثل ما أرسلنا الرسل على الأمم المنحرفة الماضية بمقتضى سنتنا السنية القديمة أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل فِي أُمَّةٍ منحرفة عن طريق الحق وليس ارسالك عليهم ببدع مستحدث بل قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أمثالهم مائلون عن طريق الحق وسواء السبيل وكما قد أرسلنا إليهم الرسل وايدناهم بالكتب والصحف وكانوا يتلون على أممهم لينجذبوا نحو الحق كذلك قد أرسلناك الى أمتك لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ وتبلغهم الكتاب الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من المعارف والحقائق القدسية والآداب السنية والأخلاق المرضية المقبولة في جنابنا المودعة في استعدادات عبادنا ليفوزوا بها سعة رحمتنا وجودنا وَهُمْ لانهماكهم في الغفلات والشهوات يَكْفُرُونَ وينكرون بِالرَّحْمنِ الذي قد وسع كل شيء رحمة وعلما قُلْ يا أكمل الرسل للمنكرين الغافلين تنبيها عليهم وتبليغا وان كانوا من الحمقى الهالكين في تيه الغفلة والنسيان هُوَ الله المستجمع لعموم أوصاف الكمال رَبِّي وربكم ومتولى أموري وأموركم لا إِلهَ في الوجود يعبد له ويرجع اليه في الوقائع والخطوب إِلَّا هُوَ الله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لا شريك له وبالجملة عَلَيْهِ لا على غيره من الوسائل والاظلال تَوَكَّلْتُ في عموم أموري وَإِلَيْهِ لا الى غيره من الأسباب العادية مَتابِ مرجعي ومعادي
وَبالجملة لَوْ أَنَّ قُرْآناً بمثابة ومكانة لو تلى وقرئ قد سُيِّرَتْ وتحركت بِهِ الْجِبالُ عن مكانها الأصلي واندكت وقلعت أَوْ قُطِّعَتْ انصدعت وانشقت بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى عند قراءته عليهم وإسماعه لهم بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ والحكم والقدرة الكاملة والحول التام والقوة الغالبة في الأمور المذكورة جَمِيعاً له سبحانه ان تعلق ارادته ومشيته لكان الكل مقضيا البتة ومع ذلك هم لم يؤمنوا به ولم يقبلوه منك لشدة شكيمتهم وغاية(1/395)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
قسوتهم ثم قال سبحانه أَفَلَمْ يَيْأَسِ ولم يقنط الَّذِينَ آمَنُوا عن ايمان أولئك المدبرين المعاندين مع ظهور امارات الكفر عليهم وعلامات الإنكار عنهم سيما بعد ما سمعوا في حقهم من الله ما سمعوا ولم يعلم هؤلاء المؤمنون أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ وتعلق ارادته بهداية الكل لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فلم يهدهم لعدم تعلق ارادته بهداية البعض وَبالجملة لا تقنطوا ايها المؤمنون عن نصر الله إياكم على أعدائكم ولا تيأسوا عن روحه إذ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا وأصروا على الكفر عنادا واستكبارا تُصِيبُهُمْ وتدور عليهم بِما صَنَعُوا اى بقبح صنيعهم وإصرارهم عليه قارِعَةٌ داهية هائلة تقرع اسماعهم ويضطربون بها اضطرابا شديدا أَوْ تَحُلُّ وتنزل الداهية العظيمة في حواليهم قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ ومساكنهم لتدور عليهم حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الذي قد وعده لنبيه بان ينتقم عنهم ويعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة في الدنيا بالفتح والظفر عليهم وفي الآخرة بأنواع العقاب والعذاب إِنَّ اللَّهَ المؤيد لأنبيائه المنجز لما وعدهم من إهلاك أعدائهم لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ثم لا تحزن أنت يا أكمل الرسل من استهزائهم وسخريتهم بك ولا تبال بعمههم وسكرتهم وبطرهم وثروتهم واشتهارهم بمالهم وجاههم
وَالله لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أشد من استهزاء هؤلاء بك فَأَمْلَيْتُ وأمهلت لِلَّذِينَ كَفَرُوا اى للمستهزئين الذين كفروا حتى انهمكوا في الغفلة وتوغلوا فيها بطرين فرحين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فجاءة واستأصلتهم بغتة فَكَيْفَ كانَ عِقابِ مع أولئك ومع هؤلاء أشد من ذلك.
ثم قال سبحانه أَينسى الحساب ويترك العقاب فَمَنْ هُوَ قائِمٌ مطلع محاسب ومراقب محافظ عَلى كُلِّ نَفْسٍ من النفوس الخيرة والشريرة ليحيط بِما كَسَبَتْ فيجازيها ان خيرا فخير وان شرا فشر وَلا سيما مراقبة اهل الشرك الذين قد جَعَلُوا لِلَّهِ الواحد الأحد المنزه عن الشريك والولد شُرَكاءَ فوق واحدة من اظلاله ومصنوعاته مع انه سبحانه قد تنزه وتعالى عن مطلق التعدد علوا كبيرا قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا عليهم وإلزاما سَمُّوهُمْ اى أولئك الشركاء بأسماء وصفوهم بصفات يستحقون بها الألوهية والربوبية أَمْ تُنَبِّئُونَهُ وتخبرونه بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ 4 اى بأسماء وصفات لا يعلمها من في الأرض بل انما يعلمها من في السماء أَمْ سموهم بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ مجازا بلا اعتبار المعنى الحقيقي فيهم وبالجملة هم عاجزون عن الكل ساكتون عنه بَلْ انما زُيِّنَ وحسن لِلَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا مَكْرُهُمْ اى تمويههم وتلبيسهم الصادر من تلقاء أنفسهم بلا مستند عقلي او نقلي بل مع علمهم ببطلانها ايضا وَمع ذلك قد صُدُّوا واعرضوا بواسطة هؤلاء الأسامي المجردة الباطلة عَنِ سواء السَّبِيلِ وقصدوا ايضا أعراض ضعفاء المؤمنين عن طريق الحق وما هو الا من غيهم وضلالهم في اصل فطرتهم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ وأراد ضلاله فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديهم ويوفقهم الى سبيل الرشد
بل لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بغفلتهم عن معرفة الله وعن اللذات الروحانية مطلقا مع عدم شعورهم بها قطعا
وَالله لَعَذابُ الْآخِرَةِ
حين انكشف الحال وارتفع الحجب أَشَقُ
وأصعب
وَكيف لا يكون عذاب الآخرة أشق إذ ما لَهُمْ
فيها مِنَ اللَّهِ
من عذابه وانتقامه مِنْ واقٍ
حافظ شفيع يشفعهم ليخفف عنهم او يحفظهم من عذابه.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعيد بالوعد مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ المتحفظون نفوسهم عن ارتكاب المعاصي والآثام مطلقا الممتثلون بعموم ما أمروا ونهوا من العقائد والاحكام تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا(1/396)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
الْأَنْهارُ لاجرائهم انهار المعارف والحقائق على أراضي استعداداتهم لا نبات ثمرات الكشوف والشهود أُكُلُها من الرزق المعنوي والاغذية الروحانية دائِمٌ غير منقطع وَكذا ظِلُّها الذي يستريحون فيه دائم غير زائل بحيث لا انقطاع له أصلا كاظلال الدنيا تِلْكَ الجنة التي قد وصفت بما وصفت عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا اى عاقبة امر المؤمنين الذين اتقوا عن محارم الله وَعُقْبَى الْكافِرِينَ المصرين على ارتكاب المعاصي والشهوات البهيمية النَّارُ المعدة لهم بدل لذاتهم وشهواتهم الحسية.
ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ واتبعناهم النبي المبين لهم ما فيه من الأوامر والنواهي يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ اى بكتابك الجامع لما في كتبهم لأنهم يجدونه موافقا مطابقا لكتبهم وَمِنَ الْأَحْزابِ اى من هؤلاء المتحزبين في امر القرآن مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ اى الآيات الناسخة لبعض احكام كتبهم قُلْ لهم انما نسخ ما نسخ من الاحكام الجزئية بمقتضى سنة الله في نسخ بعض الاحكام الجزئية الثابتة في الكتب السابقة باحكام الكتب اللاحقة وليس هذا منا ببدع واما العقائد الكلية المصونة عن طريان النسخ والتبديل فهي المتفق عليها بين جميع الكتب السماوية المنزلة على جماهير الأنبياء لذلك إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الفرد الحقيق بالحقية المستقل في الألوهية والربوبية وَلا أُشْرِكَ بِهِ شيأ من اظلاله ومصنوعاته بمقتضى امره وحكمه سبحانه إِلَيْهِ لا الى غيره من الاظلال الهالكة في اشراق شمس ذاته أَدْعُوا دعاء مؤمل متضرع خاضع خاشع وَكيف لا ادعوه واتحنن نحوه وإِلَيْهِ مَآبِ منقلبي ومرجعي رجوع الظل الى ذي الظل
وَكَذلِكَ اى مثل انزالنا للأمم الماضية كتابا بعد كتاب ناسخا لبعض ما فيه على مقتضى الأزمان والأقوام كذلك أَنْزَلْناهُ اى القرآن إليك يا أكمل الرسل حُكْماً مبينا للقضايا بمقتضى الحكمة المتقنة عَرَبِيًّا مناسبا بلسانك ولسان قومك ليسهل لهم الاسترشاد والاستهداء به ناسخا لبعض ما في الكتب السالفة وَالله لَئِنِ اتَّبَعْتَ أنت بنفسك أَهْواءَهُمْ وان كانت قبل النسخ هدى سيما بَعْدَ ما جاءَكَ في كتابك مِنَ الْعِلْمِ المتعلق بنسخها وبصيرورتها بعد النسخ هوى ما لَكَ مِنَ اللَّهِ اى من غضبه وانتقامه عنك مِنْ وَلِيٍّ يتولى أمرك بالاستخلاص والاستشفاع وَلا واقٍ حافظ يحفظك ويمنعك من مقته.
ثم قال سبحانه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مثلك مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً مثل أولادك وأزواجك فلا تقدح في نبوتهم أزواجهم وأولادهم فكيف تقدح في نبوتك مع انك أفضل منهم وَايضا قد أرسلنا رسلا من قبلك ما كانَ وما صح وما جاز لِرَسُولٍ منهم أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ مقترحة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ووحيه إذ لِكُلِّ أَجَلٍ ووقت يسع فيه امر من الأمور الكائنة والفاسدة كِتابٌ نازل من عنده سبحانه ناطق بوقوع عموم ما كان ويكون فيه
وبالجملة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وينسخه بمقتضى حكمته وارادته وَيُثْبِتُ ما أراد إثباته وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ اى حضرة العلم المحيط ولوح محفوظ القضاء وحضرة القدر المتوالية المتتالية على مقتضى الأوصاف الذاتية الإلهية والتجليات اللطفية والقهرية والجلالية والجمالية
وَبالجملة لا تفرح يا أكمل الرسل إِنْ ما نُرِيَنَّكَ اى ان تحقق اراءتنا إياك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من الإهلاك والاجلاء والقهر والغلبة أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ يعنى لا تغتم ايضا ان تحقق توفينا لك قبل رؤيتك بما نعدهم من العذاب والنكال فَإِنَّما عَلَيْكَ وليس في وسعك وطاقتك الا الْبَلاغُ بما أمرت بتبليغه وَعَلَيْنَا الْحِسابُ والجزاء(1/397)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
بمقتضاه عاجلا وآجلا
أَينكرون حسابنا إياهم وانتقامنا عنهم وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ التي قد شاع فيها كفرهم كيف نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وأرجائها حتى ضاقت عليهم بإظهار دين الإسلام وكثرة اهله وَاللَّهُ المدبر بمقتضى الحكمة يَحْكُمُ بحكم مبرم لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أصلا ليبدله ويغيره وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ صعب الانتقام على من أراد تغيير حكمه وتبديله
وَقَدْ مَكَرَ القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مع أنبيائهم المبعوثين إليهم مثل مكر هؤلاء الماكرين معك يا أكمل الرسل فلحقهم ما لحقهم وهم غافلون عن مكر الله فَلِلَّهِ المطلع لعواقب الأمور الْمَكْرُ اى جنس المكر المعتد به جَمِيعاً إذ هو يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من خير وشر ونفع وضر فينتقم عنها بمقتضى علمه وَهم وان غفلوا عن مكر الله وما يترتب عليه من الوبال سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ المصرون على الكفر والضلال لِمَنْ من الفريقين عُقْبَى الدَّارِ والعاقبة الحميدة في النشأة الاخرى
وَمن شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بدينك وكتابك اى رؤساؤهم وصناديدهم لَسْتَ أنت مُرْسَلًا من عند الله مثل سائر الرسل لذلك ما نتبعك وما نؤمن بك وبكتابك قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ اى كفى الله بي شاهدا لإثبات رسالتي وادّعائى النبوة إذ أيدني بالمعجزات القاطعة والبراهين الساطعة وَكذا كفى بي شاهدا ايضا مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ اى من كان من اهل الكتب السالفة وله علم بها وعلم رسالتي منصوص مصرح فيها جزما او المعنى من كان له علم الكتاب من اصحاب الألسن والفصاحة وارباب الفطنة والذكاء المتأملين في رموزات الكتاب المتعمقين في استكشاف سرائره لو تأملوا فيه حق تأمل وتدبر لم يبق لهم شائبة شك وتردد في انه ما هو من جنس كلام البشر بل ما هو الا وحى يوحى الىّ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
خاتمة سورة الرعد
عليك ايها الطالب القاصد لاستكشاف سرائر المرتبة الجامعة المحمدية التي قد اتحد عندها قوسا الوجوب والإمكان واتصل دونها الغيب والشهادة ان تتأمل في القرآن المنزل عليه من عند ربه حسب نشأته وكمال استعداده وعزة شأنه وتتدبر حق التدبر في مرموزاته حسب وسعك وطاقتك وان كان الاطلاع على غوره من المستحيلات سيما بالنسبة الى ذوى الاستعدادات الضعيفة حتى يشهد له ذوقك ووجدانك وتصدق أنت من نفسك رسالته ونبوته وهدايته الى توحيد ربه وإرشاده الى سبيل الحق ولا يتيسر لك هذا الا بعد تصفية ظاهرك عن الشواغل الحسية والعلائق الدنياوية الدنية مطلقا وباطنك عن مطلق التقليدات والتخمينات المورثة لدرن الجهالات ورين الأوهام والخيالات الموقعة لانواع الشبهات والترددات وبالجملة لا يحصل لك هذا الا بعد تحققك بمرتبة الموت الإرادي وخروجك عن مقتضيات هويتك الناسوتية مطلقا جعلنا الله ممن أيده الحق لسلوك طريق توحيده ووفقه على سواء سبيله وهداه الى زلال مشرب تفريده بمنه وجوده
[سورة ابراهيم عليه السّلام]
فاتحة سورة ابراهيم عليه السّلام
لا يخفى على اولى البصائر والاستبصار وذوى الفهم والاعتبار من المستكشفين المستنيرين بلوا مع(1/398)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
نور الوجود المتشعشعة المتجلية على صفائح المكونات الغيبية والشهادية ان حكمة إرسال الرسل وإنزال الكتب انما هو لإخراج اصحاب الجهالات والغفلات عن ظلمات الضلالات ومهاوي التقليدات والتخمينات الى نور اليقين وفضاء العرفان ليتنبهوا على شأنهم في منشأهم ومآلهم في مبدئهم ومعادهم ويتفطنوا بسرائر إيجادهم واظهارهم وحكمه وبعد تنبههم وتفطنهم يتيسر لهم سلوك طريق التوحيد المنجى عن غياهب الشكوك وظلمات الأوهام ويحصل لهم الترقي من المنزل الأنزل الأدنى الى المقام الأرفع الأعلى لذلك خاطب سبحانه حبيبه بما خاطب وانزل عليه ما انزل تأييد اله وتتميما لإرشاد عباده الى توحيده فقال متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بالكمالات اللائقة على صدور أنبيائه لتكميل من آمن لهم من عباده وهدايتهم الى طريق توحيده الرَّحْمنِ لهم بإرسال من هو من جنسهم ليسهل بهم الاستفادة والاسترشاد منه بلا كلفة الرَّحِيمِ لهم بانزال الكتاب الجامع لجميع شعائر سلوكهم في مبدئهم ومعادهم ليدوم هدايته وإرشاده فيهم
[الآيات]
الر ايها الإنسان الكامل الأحق الأليق لقبول لوامع لوائح رقائق رموز الربوبية بان تنزل على قلبك بطريق الوحى والإلهام فنذيعه أنت بين الأنام على سبيل الإرشاد والتكميل هذا كِتابٌ جامع لجميع آثار لوامع رقائق الربوبية واسرار لوائح رموز الألوهية مناسب مطابق لمرتبتك الجامعة قد أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لك في أمرك لِتُخْرِجَ النَّاسَ الناسين المقام الأصلي والمنزل الحقيقي مِنَ الظُّلُماتِ الامكانية الطبيعية الهيولانية إِلَى النُّورِ البحت الخالص عن شوب المادة والمدة وليس اخراجك يا أكمل الرسل إياهم الا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الذي رباهم في اصل استعدادهم وفطرتهم بأنواع اللطف والكرم ووفقهم على قبول ما قد جئت به من عنده ليوصلهم إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الغالب في امره بمقتضى قدرته وارادته على الوجه الأقوم الأعدل الْحَمِيدِ في فعله لخلوه عن كلا طرفي الإفراط والتفريط وكيف لا يكون صراطه مستقيما وفعله معتدلا مقتصدا
إذ هو اللَّهِ المستجمع لجميع الكمالات القادر المقتدر الَّذِي لَهُ وفي قبضة قدرته تكوين عموم ما فِي السَّماواتِ من الكواكب السيارات والثابتات على النمط البديع والنظم العجيب وَكذا ما فِي الْأَرْضِ من العناصر والمركبات على أقوم الأمزجة وأعدلها وَوَيْلٌ اى طرد وتبعيد عن مرتبة التوحيد لِلْكافِرِينَ الساترين شمس الحق الظاهر في الآفاق بالعدالة التامة وكمال الاستحقاق بغيوم الاظلال الباطلة والعكوس المستهلكة العاطلة مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ هو مسخهم وتبديلهم عن كمال مظهرية الحق وخلافته الى مرتبة الحيوانات العجم بل الى مرتبة الجمادات التي هي انزل المراتب وبالجملة أولئك البعداء الضالون عن منهج الحق كالأنعام في عدم الشعور والإدراك بل هم أضل
الا وهم الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا المستعارة التي لا مدار لها ولا قرار إذ هي اظلال باطلة وعكوس عاطلة زائلة عَلَى الْآخِرَةِ اى على الحيوة الاخروية التي هي بقاء سرمدي وحيوة ازلية ابدية لا انقضاء لها أصلا وَهم مع اختيارهم وترجيحهم الحيوة الفانية على الباقية يَصُدُّونَ ويصرفون ايضا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الايمان بالله وبرسوله وكتابه وَيَبْغُونَها عِوَجاً اى يطلبون ان يحدثوا فيها مع استقامتها عوجا وانحرافا أُولئِكَ الأشقياء المردودون عن طريق الحق الساعون في الباطل مكابرة وعنادا فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الهداية بمراحل بحيث لا يرجى هدايتهم أصلا لأنهم هم المجبولون على الغواية والضلال في اصل فطرتهم
وَبالجملة ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ(1/399)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
من الرسل على امة من الأمم إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ اى ما أرسلناه الا بلغة موافقة بلغة قومه ليفقهوا منه حديثه ويفهموا لسانه ولِيُبَيِّنَ لَهُمْ طريق التوحيد ويجنبهم عن خلافه وما عليه وليس في وسعه الا البلاغ فَيُضِلُّ اللَّهُ المضل المذل لعباده مَنْ يَشاءُ إضلاله واذلاله حسب قهره وجلاله وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بمقتضى لطفه وجماله وَهُوَ في ذاته الْعَزِيزُ الغالب على عموم ما أراد وشاء ارادة واختيارا الْحَكِيمُ المتقن في فعله على مقتضى ارادته
ثم ذكر سبحانه قصة إرسال موسى الى قومه حين فشا الجدال والمراء بينهم وانحرفوا عن طريق الحق ليتعظ بها المؤمنون ويعتبروا فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا من مقام فضلنا وجودنا مُوسى المؤيد بِآياتِنا الباهرة مثل العصى واليد البيضاء وسائر المعجزات الظاهرة على يده وقلنا له أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ الضالين عن سواء السبيل بمتابعة الاهوية الفاسدة مِنَ انواع الظُّلُماتِ الطارئة عليهم من الكفر والفسوق والعصيان والتقليدات والتخمينات الناشئة من الأوهام والخيالات المنبعثة عن الكثرة المستدعية للانانية التي هي الظلمة الحقيقة إِلَى النُّورِ الحقيقي الذي هو صرافة التوحيد والوحدة الذاتية المسقطة لعموم الإضافات والكثرات وَذَكِّرْهُمْ ايضا بِأَيَّامِ اللَّهِ التي قد مضت على الأمم الهالكة من أمثال هذه الأفعال المورثة لانواع الظلمات لعلهم يعتبرون عن سماعها وينصرفون عماهم عليه من القبائح والذمائم إِنَّ فِي ذلِكَ اى في ذكر تلك الوقائع الهائلة والبليات العظيمة لَآياتٍ دلائل واضحة وعبرا ظاهرة لِكُلِّ مؤمن معتبر من أمثالها خائف عن بطش الله صَبَّارٍ على عموم ما جرى عليه من قضائه شَكُورٍ مبالغ في أداء الشكر على ما قد وصل اليه من آلائه ونعمائه
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ حين أراد تعديد نعم الله عليهم وإحسانه إليهم ليستحيوا عن مخالفة امره وترك طاعته وعبادته اذْكُرُوا ايها المغمورون بنعم الله نِعْمَةَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ من لدنه وواظبوا لأداء حق شيء منها سيما إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ حين يَسُومُونَكُمْ ويقصدون لكم سُوءَ الْعَذابِ وأسوأ العقاب وافضحه واقبحه وَهو انه يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ قمعا وقلعا لعرقكم وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ توبيخا وتقريعا عليكم وَبالجملة فِي ذلِكُمْ العذاب بَلاءٌ واختبار لكم نازل مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ إذ هو باقدار الله إياهم وتمكينه ولا بلاء أعظم منه والإنجاء عن أمثال هذه البليات من أعظم النعماء وأجل الآلاء فعليكم ان تواظبوا لشكره
وَاذكروا ايضا إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ وأعلمكم اعلاما بليغا وأوصاكم وصية عظيمة تتميما لتربيتكم لَئِنْ شَكَرْتُمْ على ما أعطيتم من النعم العظام وقمتم لأداء حقها لَأَزِيدَنَّكُمْ واضاعفنكم بأمثالها واضعافها وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ في مقابلة الإحسان والعطاء لا يلحق علىّ اثر كفرانكم بل إِنَّ عَذابِي ونكالي على من انصرف عن امرى وخرج عن إطاعتي وانقيادي لَشَدِيدٌ مبرم محكم لا يندفع أصلا فعليكم ان تلازموا الشكر وتجانبوا عن الكفران
وَبعد ما فرغ عن التعديد والتذكير قالَ لهم مُوسى قولا ناشئا عن محض الحكمة والرزانة بمقتضى نور النبوة والولاية إِنْ تَكْفُرُوا ايها الغافلون عن كمال استغناء الله وعلو شانه وسمو سلطانه وبرهانه أَنْتُمْ بأجمعكم وَعموم مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فان ذلك لا يزن في جنب استغنائه سبحانه مقدار جناح بعوضة فَإِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء لَغَنِيٌّ في ذاته هما سواه من اظلاله مطلقا حَمِيدٌ بمقتضيات أوصافه وأسمائه
أَلَمْ يَأْتِكُمْ ايها التائهون في تيه الغفلة(1/400)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
والغرور نَبَؤُا الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ مثل قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من الأمم الهالكة لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ المطلع لعموم ما كان ويكون بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء حين جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ المبعوثون إليهم بِالْبَيِّناتِ الواضحات والمعجزات الباهرات المثبتة لرسالاتهم فدعوهم الى الايمان والتوحيد فامروهم بالمعروفات ونهوهم عن المنكرات فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ مشيرين إليها من غاية انكارهم واستهزائهم وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا وقد اعترفنا بالكفر بأفواهنا هذه. قد أخبروا عن كفرهم وكفرانهم بالجملة الماضويه تحقيقا وتقريرا لما هم عليه من الكفر والطغيان بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وبعموم ما قد جئتم به من عند ربكم وَكيف نؤمن لكم إِنَّا لَفِي شَكٍّ عظيم وارتياب تام مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإله الواحد الأحد الفرد الصمد المتصف بجميع صفات الكمال الموجد المظهر للكائنات مُرِيبٍ موقع للريب القوى المؤدى الى الإنكار العظيم إذ المتصف بهذه الصفات لا بد ان يكون اظهر من الشمس مع انه أخفى من كل شيء بل لا وجود له أصلا
قالَتْ لهم رُسُلُهُمْ على سبيل التوبيخ والتقريع أَفِي اللَّهِ الظاهر المتجلى في الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق شَكٌّ وتردد مع كونه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وموجدهما ومظهرهما من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة انما يَدْعُوكُمْ سبحانه الى توحيده بإرسال الرسل وإنزال الكتب لِيَغْفِرَ لَكُمْ بعضا مِنْ ذُنُوبِكُمْ وهو ما بينكم وبينه سبحانه إذ حق الغير لم يسقط ما لم يعف صاحب الحق عنه وَبعد دعوتكم يُؤَخِّرَكُمْ ويمهلكم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مقدر من عنده وهو يوم الجزاء ليهيئ كل منكم زاد يومه هذا على الوجه المأمور المبين في الكتب المنزلة على الرسل وبعد ما سمعوا من الرسل ما سمعوا قالُوا مستكبرين عليهم مستهزئين لهم إِنْ أَنْتُمْ ولستم في انفسكم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تأكلون وتشربون وتفعلون أنتم جميع ما نفعل نحن تُرِيدُونَ أنتم بأمثال هذه الحيل والتزويرات الباطلة أَنْ تَصُدُّونا وتنصرفونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا وأسلافنا من الآلهة والأصنام وان صدقتم في دعواكم هذه فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وبحجة واضحة لائحة نقترحها نحن منكم
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ مسلمين منهم المشاركة في الجنس إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ نشارك لكم في عموم احوال البشر وأوصافه ولوازمه على الوجه الذي قررتم أنتم وَلكِنَّ اللَّهَ المنعم المفضل يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بمقتضى جوده وإحسانه بفضائل مخصوصة وكرائم غير شاملة حسب تفاوت مراتبهم واستعداداتهم المثبتة في علم الله ولوح قضائه وَاما امر مقترحاتكم فانه ما كانَ وما صح وما جاز لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ وبرهان أنتم تقترحون به إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وبتوفيقه ووحيه واقداره وتمكينه ان تعلق ارادته بصدوره منا وَعَلَى اللَّهِ لا على غيره من الأسباب والوسائل العادية فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الموحدون المفوضون أمورهم كلها الى الله أولا وبالذات بحيث لا يعتقدون الحول والقوة الا بالله المستقل في ذاته وأوصافه وأفعاله
وَبعد ما ايسوا عنهم وعن صلاحهم اشتغلوا الى تزكية نفوسهم وتصفية قلوبهم حيث قالوا من كمال شوقهم وودادتهم ما لَنا واى عذر قد عرض لنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ المصلح لأحوالنا ولم لم نتخذه وكيلنا وكفيلنا وَالحال انه سبحانه بمقتضى لطفه وجماله قَدْ هَدانا وأوضح لنا سُبُلَنا لنسلك بها نحو توحيده وعرفانه مع ان عموم ما جرى علينا من المنافع والمضار انما(1/401)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
هو من عنده سبحانه وبمقتضى مشيته وارادته وَالله بعد ما تحققنا بمقام التوحيد وتمكنا في مقر التجريد والتفريد لَنَصْبِرَنَّ عَلى عموم ما آذَيْتُمُونا بالرد والإنكار والتكذيب والاستكبار وغير ذلك من الاستهزاء وسوء الأدب وكيف لا نصبر إذ الكل بيده سبحانه وبحيطة حضرة قدرته وارادته وانما وصل إلينا عموم ما وصل من المنح والمحن انما هو ابتلاء منه سبحانه إيانا واختبار لنا وَبعد ما قد تحقق وثبت ان الكل من عنده عَلَى اللَّهِ المستقل في عموم التصرفات الجارية في ملكه وملكوته لا على غيره من الأسباب والوسائل العادية فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ الموحدون المفوضون أمورهم كلها اليه وليبذلوا مهجهم في ترويج دينه وطريق توحيده وإعلاء كلمته
وَبالجملة قد ادّى امر استكبارهم واستنكارهم وتكذيبهم الى ان قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ حين بالغوا في دعوتهم وهدايتهم لَنُخْرِجَنَّكُمْ ايها المزورون الملبسون مِنْ أَرْضِنا اجلاء وإخراجا على وجه الاهانة والإذلال التام أَوْ لَتَعُودُنَّ أنتم كما كنتم منصفين ملجئين فِي مِلَّتِنا التي هي ملة آبائكم واسلافكم فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ حين اشتد الأمر عليهم واضطروا من ظلمهم وطغيانهم قائلا لهم على سبيل الوعد والتبشير لا تبالوا ايها الرسل المبلغون كلمة الحق إليهم عن تهديداتهم وتشنيعاتهم هذه ولا تخافوا عن شوكتهم وصولتهم إذ نحن أقوى منهم لَنُهْلِكَنَّ بمقتضى قهرنا وجلالنا ونستأصلن الظَّالِمِينَ الخارجين عن ربقة إطاعتكم وانقيادكم
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ نورثنكم ونقررنكم الْأَرْضَ التي هم يريدون إخراجكم منها مهانين صاغرين مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد إهلاكهم واستئصالهم ذلِكَ اى إهلاك العدو وايراث الأرض والديار لِمَنْ خافَ مَقامِي اى للمؤمنين الموحدين الخائفين عن قيامي وحفظي واطلاعى بعموم احوال عبادي وبسبب خوفهم هذا لا يخرجون عن مقتضى امرى ونهي وَمع ذلك قد خافَ وَعِيدِ وعن بطشى وانتقامي في يوم الجزاء بأنواع العذاب والنكال ومن غاية خوفهم ورعبهم عن الوعيدات الاخروية قد استعدوا لها وهيئوا اسباب النجاة عنها جعلنا الله ممن وفق لتهيئة اسباب أخراه في أولاه
وَكيف لا ينصرهم الحق ولا يهلك عدوهم إذ هم قد اسْتَفْتَحُوا واستنصروا من الله وطلبوا الفتح والنصرة على أعدائهم مفوضين أمورهم كلها اليه مسلمين أبدانهم وأرواحهم على قضائه سبحانه لذلك قد فتح عليهم ونصرهم سبحانه على عدوهم وَقد خابَ خيبة ابدية وخسر خسرانا سرمديا كُلُّ جَبَّارٍ متكبر متجبر على الله وعلى عباده عَنِيدٍ مبالغ في العتو والعناد مع أنبيائه ورسله ومع ذلك لا يقتصر عليهم بالعذاب العاجل
بل مِنْ وَرائِهِ اى في وراء العذاب العاجل الدنيوي جَهَنَّمُ البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان الأخروي وَيُسْقى فيها حين اشتداد زفرتهم مِنْ ماءٍ اى مايع كالماء صَدِيدٍ قيح سائل من جراحات أجساد اهل النار المنهمكين في النشأة الاولى بأكل السحت واموال الأيتام والرشى في الاحكام وخبيث بشيع في غاية البشاعة
بحيث يَتَجَرَّعُهُ بتكلف شديد واضطراب بليغ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ولا يقرب ان يجرى على حلقه وينحدر منه للزوجته وحرارته وشدة التصاقه وَلعدم اساغته وجوازه وغاية بشاعته يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ويتوجه نحوه ويحيط به اسباب الموت والهلاك من كل عضو من أعضائه لوصول اثر اشتداده ورداءته وبشاعته كل جزء جزء من أجزاء بدنه حتى اصول شعره فتقشعر من هوله كما يشاهد بمثله عند شرب الأدوية الردية الكريهة الرائحة واللذة مثل السقمونيا والحنظل وغير ذلك وَمع إتيان اسباب الموت من(1/402)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
جميع الأعضاء ما هُوَ بِمَيِّتٍ حتى يخلص عن العذاب وَمِنْ وَرائِهِ وعقيب سقيه على هذا الوجه يأتيه عَذابٌ غَلِيظٌ من انواع العقاب.
ثم قال سبحانه كلاما جمليا شاملا لعموم اصحاب الضلال مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع النعم فكفروا النعم والمنعم جميعا ولم يصلوا الى مرتبة توحيده وعرفانه ولم يؤمنوا به حتى يصلوا بالسلوك والمجاهدة اليه لذلك صار مثلهم وشأنهم العجيب وحالهم الغريب في ما يتلى عليكم هذا أَعْمالُهُمْ الحسنة من الصدقة والعتق والصلة وغير ذلك من الأعمال المقربة نحو الحق ان كانت مقرونة بالإيمان والمعرفة كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ذي رياح شديدة عاصفة فطار بها الرماد الى حيث لم يبق في مكانه اثر منه اى مثلهم وشأنهم في كون أعمالهم وحسناتهم ضايعة حبطة يوم القيمة كمثل ذلك الرماد بحيث لا يَقْدِرُونَ لدى الحاجة مِمَّا كَسَبُوا واقترفوا من الأعمال المنجية المخلصة عَلى شَيْءٍ قليل حقير فكيف بالعظيم الكثير منها ذلِكَ الإحباط وعدم النفع هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ بمراحل عن الهداية والفوز بالفلاح وما ذلك الا لعدم مقارنتها بالإيمان والعرفان ولتكذيب الرسل المبينين لهم طريق التوحيد والإيقان
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي المستبعد لإحباط اعمال أولئك الكفرة المعاندين مع الله ورسله أَنَّ اللَّهَ تعالى القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة بحيث لا ينتهى قدرته دون مقدور أصلا قد خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وأوجدهما من كتم العدم على سبيل الإبداع والاختراع خلقا ملتبسا بِالْحَقِّ الثابت المطابق للواقع الموافق للحكمة المتقنة البالغة الكاملة بحيث ما ترى فيها من فطور وفتور ليشاهد اهل البصائر والاعتبار هذا النمط البديع والنظام العجيب فينكشفوا منها الى مبدأها ومنشأها ومع ذلك إِنْ يَشَأْ سبحانه يُذْهِبْكُمْ ايها المائلون عن طريق الحق الناكبون عن مقتضى حكمته بمتابعة اهوية نفوسكم ومقتضيات هوياتكم الباطلة وَيَأْتِ بدلكم بِخَلْقٍ آخر جَدِيدٍ مستبدع مستحدث ليواظبوا على طاعته ويداوموا على مقتضيات حكمته
وَلا تستبعدوا من الله أمثال هذا إذ ما ذلِكَ وأمثاله عَلَى اللَّهِ المتعزز بالمجد والبهاء والعظمة والكبرياء والبسطة والاستيلاء بِعَزِيزٍ متعذر او متعسر إذ لا يتعسر عند قدرته الكاملة الغالبة مقدور ولا يتعذر دونه شيء من الأمور
وَكيف يتعسر او يتعذر عليه شيء من الأمور مع ان الكل منكم ومن غيركم قد بَرَزُوا وظهروا في النشأة الاولى ورجعوا وانصرفوا في النشأة الاخرى لِلَّهِ المظهر المبرز لعموم ما ظهر وبرز من كتم العدم جَمِيعاً مجتمعين إذ لا يخرج عن حيطته شيء فَقالَ الضُّعَفاءُ من ذوى الاستعدادات القاصرة حين أخذوا بجرائمهم لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عليهم في النشأة الاولى بالرياسة والمال والجاه والعقل التام وادعاء الفضل والكمال الى حيث جعلوا نفوسهم متبوعين لهم مضطربين مضطرين إِنَّا كُنَّا لَكُمْ ايها الأشراف تَبَعاً في دار الدنيا وأنتم ناصحون لنا آمرون إيانا بتكذيب الرسل وبارتكاب انواع الفواحش والقبائح الممنوع عنها بألسنة الرسل والكتب فَهَلْ أَنْتُمْ اليوم حين أخذنا على ما أمرتمونا مُغْنُونَ دافعون مانعون عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ المنتقم منا مِنْ شَيْءٍ اى بعض من عذابنا ونكالنا قالُوا اى الأشراف المستكبرون المتبوعون بعد ما عاتبهم الضعفاء لَوْ هَدانَا اللَّهُ الهادي لعباده لَهَدَيْناكُمْ نحوه البتة ولكن قد أضلنا حسب اسمه المضل فاضللناكم نحن فالآن نحن وأنتم ضالون مضلون ظالمون مؤاخذون سَواءٌ عَلَيْنا وعليكم(1/403)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
أَجَزِعْنا عن شدة العذاب والنكال أَمْ صَبَرْنا على مقاساة الأحزان ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ مخلص ومناص
وَقالَ الشَّيْطانُ اى الاهوية الفاسدة المفسدة لهم في نشأتهم الاولى مصورة على صورة الشيطان المضل المغوى لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ اى بعد استقرار اهل الجنة في الجنة واهل النار في النار إِنَّ اللَّهَ المصلح المدبر لأحوال عباده قد وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ بهذا اليوم الذي أنتم تؤاخذون فيه وَوَعَدْتُكُمْ انا اضلالا وإغواء لكم بخلافه وبالجملة فَأَخْلَفْتُكُمْ انا عموم ما وعدتكم به بخلاف ما وعد به ربكم فان إنجازه مقطوع به بلا شك فيه أصلا واتبعتم أنتم بمقتضى طباعكم قولي مع انه ما هو الا غرور وإضلال لا يرجى إنجازه منى وَالحال انه ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ حجة مرجحة وادلة ملجئة إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ وسوى ان اغريتكم بمقتضى اهويتكم وامنيتكم التي تقتضيها هويتكم وماهيتكم ومع ذلك فَاسْتَجَبْتُمْ لِي وصدقتم قولي وقبلتم تغريري بلا تردد ومماطلة طوعا ورغبة فَلا تَلُومُونِي اليوم بل وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ الباعثة الداعية على متابعتي مع جزمكم بمكرى وعداوتي وبالجملة ما أَنَا اليوم بِمُصْرِخِكُمْ مغيثكم ومعينكم وان ادعيت فيما مضى ذلك تغريرا وتلبيسا وَما أَنْتُمْ ايضا بِمُصْرِخِيَّ إذ قد انكشفت الحال وانقطعت علقة المحبة ورابطة المودة بيننا وصارت كل نفس رهينة بما كسبت إِنِّي اليوم بعد انكشاف السرائر والضمائر قد كَفَرْتُ أنكرت وتبرأت بِما أَشْرَكْتُمُونِ اى باشتراككم معى في الشرك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له أصلا مِنْ قَبْلُ في دار التلبيس والتزوير والإغواء والتغرير وبالجملة إِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات أوامر الله ونواهيه عدوانا وظلما في ما مضى لَهُمْ اليوم عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم أشد إيلام. ثم بين سبحانه على مقتضى سننه المستمرة بعد ما بين وخامة احوال الهالكين المنهمكين في تيه العتو والعناد وفظاعة أمرهم في يوم الجزاء حال المؤمنين عن تغريرات الدنيا الدنية وتسويلات الشياطين الغوية فيها
فقال وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله وصدقوا كتبه ورسله وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ التي هي نتائج الايمان وثمرات اليقين والعرفان جَنَّاتٍ متنزهات من العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة بمياه العلوم اللدنية لتنبت في أراضي استعداداتهم ومزارع قابلياتهم مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من المكاشفات والمشاهدات الخارجة عن طوق البشر وطور العقل ومع ذلك صاروا خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ اى برضاه وتوفيقه وتيسيره تَحِيَّتُهُمْ من قبل الحق بالسنة الملائكة حين وصولهم ونزولهم فِيها سَلامٌ لأنهم مسلمون منقادون مسلمون أمورهم كلها الى الله في النشأة الاولى
أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر المنصف الخبير البصير كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده مَثَلًا ليتنبهوا منه حيث شبه كَلِمَةً طَيِّبَةً هي كلمة التوحيد القائلة المفصحة المعربة بان لا وجود لسوى الحق كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ هي النخلة التي أَصْلُها وعروقها ثابِتٌ في الأرض بحيث لا يقلعها ولا يشوشها الرياح أصلا وَفَرْعُها اى أفنانها وأغصانها مرتفعة فِي السَّماءِ وجانبها
تُؤْتِي أُكُلَها وثمارها كُلَّ حِينٍ من الأحيان المعينة للاثمار بِإِذْنِ رَبِّها وبمقتضى ارادته ومشيته يعنى كما ان النخلة تنمو وتثمر بسبب أصلها الثابت في الأرض وفرعها المرتفع نحو السماء ويحصل منها الثمر وقت حصولها كذلك شجرة الكلمة الطيبة التوحيدية المستقر أصلها في أراضي الاستعدادات الفطرية المرتفعة أغصانها وأفنانها نحو سماء العالم الروحاني المثمرة لثمرات المكاشفات والمشاهدات القالعة لعرق مطلق التقليدات(1/404)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
والتخمينات القامعة لاشواك عموم الكثرات الناشئة من النسب والإضافات العدمية وَلا حاجة لأولى البصائر والألباب المنكشفين بصرافة الوحدة الذاتية وبإطلاق الوجود الإلهي البحت الخالص عن مطلق القيود والحدود الى أمثال هذه التنبيهات بل ما يَضْرِبُ اللَّهُ المطلع لسرائر استعدادات عباده الْأَمْثالَ المذكورة الا لِلنَّاسِ الناسين عهودهم ومواثيقهم مع الله بالمرة بحجب تعيناتهم المستتبعة لعموم الإضافات والكثرات لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ رجاء ان يتذكروا ما نسوا من أمثال هذه الأمثال والتنبيهات
وَايضا مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي كلمة الكفر المستتبعة لانواع الفسوق والعصيان المخالفة لجادة التوحيد النافية لصرافة الوحدة الذاتية كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ هي الحنظلة التي اجْتُثَّتْ اى أخذت تنمو جثتها مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ بلا استحكام عرقها وأصلها في الأرض وتعمقها فيها لذلك ما لَها مِنْ قَرارٍ وثبات إذ ادنى الرياح يقلبها كيف يشاء يعنى كما ان الشجرة الخبيثة الغير المستقرة يقلبها الرياح كيف يشاء كذلك اعتقادات الكفرة والفسقة المقلدة يقلبها ادنى رياح الشكوك والشبهات ويوقعها في مهاوي الأوهام واغوار الخيالات
وبالجملة يُثَبِّتُ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده اقدام المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ اى بالإقرار المطابق للاعتقاد والواقع فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الى حيث قد بذلوا أرواحهم من كمال تثبتهم وتمكنهم ورسوخهم في الايمان والتوحيد ونهاية حرصهم وتشددهم لإعلاء كلمة الحق ونصرة الدين القويم بحيث لا ينصرفون عنها أصلا وَفِي الْآخِرَةِ ايضا بحيث لا يتلعثمون ولا يضطربون يوم العرض الأكبر بل في البرزخ ايضا عند سؤال المنكر والنكير وَكما يثبت ويقرر الله المعز الهادي اقدام المؤمنين على الايمان كذلك يُضِلُّ اللَّهُ المذل المضل الظَّالِمِينَ الخارجين عن ربقة العبودية عنادا واستكبارا ويثبت اقدامهم على الضلالة بحيث لا يفوزون بالفلاح والنجاح أصلا بل صاروا خالدين في النار ابد الآباد وَبالجملة يَفْعَلُ اللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء ما يَشاءُ من الهداية والإضلال والإعزاز والإذلال
أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى الظالمين المسرفين الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الفائضة عليهم من محض فضله وعطائه ليشكروا له ويواظبوا على أداء حقوقه كُفْراً وزادوا بها كفرانا وطغيانا حيث صرفوها الى نشر البغي والعدوان على الله وعلى خلص عباده مع ان المناسب صرفها الى إعلاء كلمة الله ونصر دينه ونبيه وَبذلك قد أَحَلُّوا وادخلوا قَوْمَهُمْ وأنفسهم دارَ الْبَوارِ ومنزل الهلاك والخسار
يعنى جَهَنَّمَ التي يَصْلَوْنَها ويدخلون فيها اذلّاء مهانين صاغرين مقهورين لا نجاة لهم منها أصلا وَبالجملة بِئْسَ الْقَرارُ والمقر مقرهم ومحل قرارهم الذي هو جهنم الطرد والخذلان
وَمن خبث بواطنهم وشدة شكيمتهم قد جَعَلُوا لِلَّهِ المتوحد في ذاته أَنْداداً واشباها شركاء له من اظلاله ومصنوعاته لِيُضِلُّوا بإثباتها ضعفاء الأنام عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو دين الإسلام المنزل على خير الأنام الموصل الى توحيد الله العليم العلام وقُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع تَمَتَّعُوا ايها المسرفون بما أنتم عليه من الكفر والعناد فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ ومآل أمركم إِلَى النَّارِ المعدة لتخذيلكم وجزائكم
قُلْ يا أكمل الرسل لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بجميع ما قد جئت به إليهم من امور الدين سيما الصلاة المصفية لبواطنهم والزكاة المزكية لظواهرهم عليهم ان يُقِيمُوا الصَّلاةَ ويديموها في الأوقات المقدرة المحفوظة وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ على المستحقين سِرًّا بلا سبق سؤال وَعَلانِيَةً بعد السؤال وبالجملة استعدوا ايها الطالبون(1/405)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
للنجاة لأخريكم في أولئكم واعدوا زاد عقباكم في دنياكم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ يتدارك ويتلافى المقصر بالإنفاق والصدقة بعض تقصيراته وَايضا لا يقبل فيه خِلالٌ وشفاعة من خليل شفيع وصديق حميم يشفع للجرائم والتقصيرات وكيف لا تستعدون ايها المكلفون بعد ما أمركم الله باعداده وسهل أسبابه عليكم
إذ اللَّهُ الموفق على عباده اسباب معادهم هو الخالق المدبر المصلح الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ اى العلويات المعدة للافاضة والإحسان من الأسماء والصفات وَالْأَرْضَ اى السفليات القابلة للفيض والقبول من الطبائع والأركان وَأَنْزَلَ وأفاض مِنَ جانب السَّماءِ ماءً وعلما لدنيا فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ انواع الثَّمَراتِ الصورية والمعارف والمكاشفات والمشاهدات التي هي عبارة عن الثمرات المعنوية لتكون رِزْقاً لَكُمْ مقوما لأمزجتكم مبقيا لحياتكم الصورية والمعنوية لتواظبوا على طاعة الله واعداد زاد يوم الميعاد وَمع ذلك قد سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ والسفن الجارية التي هي أبدانكم واجسامكم لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ اى بحر الوجود بِأَمْرِهِ وبمقتضى مشيئته وارادته لتسيروا معها الى حيث شئتم وتتجروا بها وتربحوا من المعارف والحقائق وَايضا قد سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ الجارية والقوى الروحانية المملوة بمياه العلوم اليقينية السارية السائرة على بسيط الأرض وفضاء القوابل من السنة الأنبياء والأولياء ليسهل لكم إخراج الجداول منها للحراثة والزراعة الصورية والمعنوية
وَسَخَّرَ لَكُمُ ايضا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وقد صيرهما دائِبَيْنِ دائرين مختلفين في سيرهما شتاء وضيفا خريفا وربيعا لإنضاج ما تحرثونه وتزرعونه وايضا قد وضع بينكم مرتبتي النبوة والولاية وادارهما بينكم على تفاوت طبقاتكم أبرارا وشطارا اقطابا وابدالا لتنجذبوا نحو الحق وتتصلوا ببحر الوحدة وَايضا قد سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ والعدم والوجود لسباتكم ومعاشكم وسيركم وسلوككم نحو وحدة الذات
وَبالجملة قد آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ بلسان استعداداتكم وقابلياتكم من متممات نفوسكم ومكملات ادراككم وَبالجملة قد بلغ انعامه وإحسانه سبحانه إياكم في الكثرة الى حيث إِنْ تَعُدُّوا وتحصوا نِعْمَتَ اللَّهِ الفائضة عليكم لتربيتكم وتقويتكم لا تُحْصُوها ولا يسع لكم احصاؤها من نهاية كثرتها ووفورها فعليكم ان تواظبوا على شكرها وأداء شيء من حقها وان كانت القوة لا تفي بأدائها بل بأداء شيء منها على وجهها لكن قليل منكم تشكرون نعمه إِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على الغفلة والنسيان في اصل فطرته باعتبار قوى بشريته وبهيميته لَظَلُومٌ مظلوم محزون عند لحوق الشدة وهجوم البلاء كَفَّارٌ مبالغ في الكفران والنسيان وقت الفرح والسرور
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ جدك إِبْراهِيمُ الخليل الجليل صلوات الله عليه حين ناجى مع الله بعد ما قد عمر مكة شرفها الله رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ الذي تأمرنى بتعميره آمِناً ذا أمن وأمان من تخريب العدو وتغييره وَاجْنُبْنِي وبعدنى وَبَنِيَّ ايضا عن أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ بتسويلات الاهوية الفاسدة وتغريرات الشياطين المضلة المغوية
رَبِّ إِنَّهُنَّ اى الأوثان والأصنام بإظهارك بعض الخوارق عليها ابتلاء منك وفتنة لعبادك قد أَضْلَلْنَ وصرفن كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عن جادة توحيدك فَمَنْ تَبِعَنِي منهم بعد دعوتي إياهم الى توحيدك فَإِنَّهُ مِنِّي وعلى ملتي وديني وَمَنْ عَصانِي ولم يقبل قولي وأصر على ما هو عليه فَإِنَّكَ بمقتضى فضلك وجودك غَفُورٌ قادر على العفو(1/406)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
المغفرة من عموم المعاصي الصادرة عنهم رَحِيمٌ يرحمهم حسب سعة رحمتك وحلمك
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ ومكنت بإذنك مِنْ ذُرِّيَّتِي اى بعضا منهم وهو إسماعيل وبنوه بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ إذ هي حجرية لا زرع فيها ولا حرث عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ سمى به إذ قد حرمت فيه المقاتلة والصيد والتعرض والتهاون مطلقا حفظا لحرمته لذلك لا يزال معظما مكرما يهابه الجبارة وانما اسكنتهم عنده ليكنسوا بيتك من الأقذار ويصفوه من الاكدار رَبَّنا ما أسكنت وأقمت ذريتي عند بيتك الا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ويديموا الميل المقرب نحو جنابك وفناء بابك فَاجْعَلْ حسب فضلك وجودك أَفْئِدَةً ووفدا كثيرا وقفلا عظيما مِنَ النَّاسِ تَهْوِي تميل وتتوجه إِلَيْهِمْ من الجوانب وَارْزُقْهُمْ مِنَ انواع الثَّمَراتِ الروحانية والنفسانية المهداة إليهم من البلاد البعيدة يأتى بها الزوار والتجار لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ نعمك ويواظبون على طاعتك وخدمة بيتك عن فراغ القلب وخلاء الخاطر
رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي من حوائجنا وَما نُعْلِنُ منها ومالنا علم به إذ أنت اعلم بحوائجنا منا إذ علمك بنا وبعموم مظاهرك ومصنوعاتك حضورى ذاتى ولا علم لنا بذاتنا كذلك بل ما نحن الا عاجزون قاصرون عن ادراك أنفسنا كعجزنا عن ادراك ذاتك يا مولينا لذلك قال اصدق القائلين صلّى الله عليه وسلّم في مقام العجز والقصور من عرف نفسه فقد عرف ربه وَكيف تخفى عليك حوائجنا إذ ما يَخْفى وليس شيء يستر ويغيب عَلَى اللَّهِ المحيط بعموم الأشياء لا مِنْ شَيْءٍ ظاهر ولا باطن لا فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وكيف خفى عليه شيء إذ هو عالم بها مظهر لهما محيط بهما بحيث لا يعزب عنه شيء منهما
وبالجملة الْحَمْدُ الكامل والمنة التامة لِلَّهِ المنعم المفضل الَّذِي وَهَبَ لِي من يخلفني ويحيي اسمى حين أيست إذ قد بلغ سنى عَلَى غاية الْكِبَرِ والهرم يعنى إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ روى انه قد ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة واسحق لمائة وثنتى عشرة سنة وبالجملة إِنَّ رَبِّي الذي رباني بأنواع الكرم وشرفني بخلعة الخلة وكمال الحلم والكرم لَسَمِيعُ الدُّعاءِ الذي قد صدر عن لسان استعدادي وقابليتي باذنه واقداره سبحانه ومجيبه وهو طلب من يخلفني ويقوم مقامي
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومديم الميل والتوجه نحوك على وجه الخضوع والخشوع وكمال التبتل والإخلاص وَاجعل مِنْ ذُرِّيَّتِي ايضا من يقيمها ويديمها على الوجه المذكور رَبَّنا استجب منى وَتَقَبَّلْ دُعاءِ في حقي وفي حق أولادي واحفادى
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي بفضلك إذ لا املك لنفسي نفعا ولا ضرا وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ جميعا واعف حسب جودك عن زلتى وزلاتهم يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وينشر الكتاب ويحاسب على كل نفس ما كسبت من الخير والإحسان والشر والعصيان
وَبالجملة لا تَحْسَبَنَّ يا أكمل الرسل اللَّهَ المطلع على سرائر الأمور وخفياتها غافِلًا ناسيا ذاهلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن حدود الله بإمهالهم زمانا بل إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ ويسوف عذابهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ وتتحير فِيهِ الْأَبْصارُ وصاروا من شدة الهول والمهابة بحيث لا يقدرون على ان يطرفوا عيونهم بل تبقى ابدا مفتوحة حائرة كعيون الموتى كأنهم قد انقطعت أرواحهم عن اجسادهم من شدة الهول والهيبة وهم مع هذه الحيرة والدهشة
مُهْطِعِينَ مسرعين نحو المحشر حيارى سكارى مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ اى رافعيها نحو السماء مترقبين لنزول البلاء مدهوشين هائمين حائرين بحيث لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لشدة ولههم وهيمانهم وَفي تلك الحالة(1/407)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
أَفْئِدَتُهُمْ وقلوبهم التي هي محل الأماني والخيالات الفاسدة هَواءٌ خالية عارية لا يخطر ببالهم شيء مطلقا وان كانت لا تخلو عن الانخطار والخيال أصلا
وَمتى سمعت يا أكمل الرسل اهوال يوم القيمة واحوال الأنام فيه أَنْذِرِ النَّاسَ الناسين عهود الحق ومواثيقه التي قد عهدوا معه سبحانه في بدء فطرتهم وقل لهم اى شيء يفعلون يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ المعهود في اليوم الموعود وحينئذ قد انقطعت سلسلة اسباب النجاة وتدبيرات الخلاص ولا يسع لهم التدارك والتلافي أصلا فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بتكذيب الله وتكذيب رسله حين رأوا العذاب مناجين متضرعين متمنين رَبَّنا أَخِّرْنا وأعدنا وارجعنا الى الدنيا وأمهلنا فيها إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وايام قلائل نُجِبْ دَعْوَتَكَ فيها ونقبلها عن السنة رسلك وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ونصدقهم بعموم ما جاءوا به من عندك فيقال لهم حينئذ على سبيل التهكم والتقريع أَوَلَمْ تَكُونُوا ايها الظالمون المسرفون أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا بطرين مغرورين ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ اى مالنا وبال ولا لأموالنا زوال ومالنا عن اماكننا وأوطاننا انتقال وارتحال
وَمع قولكم هذا ويمينكم عليه قد سَكَنْتُمْ وتمكنتم حينئذ ايها المسرفون المفرطون فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ قبلكم أمثالكم مثل عاد وثمود وَهم ايضا مقسمين بما أقسمتم كذلك وهلم جرا وقد تَبَيَّنَ لَكُمْ وظهر عندكم ولاح دونكم كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وكيف انتقمنا عنهم واستأصلناهم وَكيف لا قد صار امر إهلاكهم من الفظاعة الى ان قد ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ بالسنة انبيائنا ورسلنا مرارا وصرفناها تكرارا لتعتبروا أنتم عما جرى عليهم وتتركوا فعالكم وخصالكم لئلا تنتقموا أمثالهم ومع ذلك لم تعتبروا ولم تتركوا فالآن تؤاخذون وتصابون باشد مما أصيبوا وأخذوا
وَلا يفيدكم اليوم المكر والحيلة كما لا يفيد لهم مكرهم حين أخذهم إذ قَدْ مَكَرُوا حينئذ مَكْرَهُمْ الذي قد خيلوه دلائل قاطعة وظنوه براهين ساطعة وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ولم يفهموا ان عند الله سبحانه ما يزيل مكرهم وحيلهم وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ في المتانة والقوة لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ إذ لا يعارض فعله ولا ينازع حكمه بل له الغلبة والاستيلاء والتعزز والكبرياء وإذا كان الأمر كذلك
فَلا تَحْسَبَنَّ يا أكمل الرسل اللَّهَ القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء مُخْلِفَ وَعْدِهِ الذي قد وعد به رُسُلَهُ من إهلاك عدوهم وتعذيبهم باشد العذاب إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء عَزِيزٌ غالب قادر على عموم مراداته ومقدوراته ذُو انتِقامٍ شديد على من أراد انتقامه وبطشه من أعدائه نصرة على أوليائه قل لهم يا أكمل الرسل لا تغتروا بامهال الله إياكم ايها المسرفون المفرطون في دنياكم ان لا يهلككم الله ولا ينتقم عنكم
اذكر يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ وتغير تغييرا كليا بان قد دكت الجبال دكا دكا وصارت مسواة لا عوج فيها ولا امتا بل وقد صارت الأرض غَيْرَ الْأَرْضِ التي قد كانت قبل هذا وَايضا قد طويت السَّماواتُ المحسوسة وانتثرت الكواكب المركوزة عنها وكورت الشمس والقمر بحيث قد صارت السموات ايضا غير تلك السموات وبالجملة قد تضعضعت اركان العالم وتغيرت أوضاعها وأشكالها واضمحلت آثارها وتلاشت اجزاؤها وتداخلت ارجاؤها وانحاؤها وانحل نظامها وانفضح انتظامها وَبَرَزُوا ظهروا وخرجوا اى أموات بقعة الإمكان عن أجداث اجسادهم بعد نزع تعيناتهم وجلباب هوياتهم لِلَّهِ المظهر لهم الظاهر فيهم الْواحِدِ الأحد في ذاته وفي عموم أوصافه وأسمائه وأفعاله وجميع شئونه وتجلياته المستقل(1/408)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
في وجوده الْقَهَّارِ لعموم الأغيار والسوى مطلقا
وَبالجملة تَرَى ايها المعتبر الرائي الْمُجْرِمِينَ الذين قد أجرموا بالله بإثبات الوجود لغير الله واسناد الحوادث الى اسبابها العادية يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ مقيدين فِي الْأَصْفادِ اى سلاسل التقليدات والتقييدات وأغلال التعينات والتخمينات
بحيث قد صارت سَرابِيلُهُمْ يعنى قمائص تعيناتهم وسربالات تشخصاتهم وهوياتهم يومئذ مِنْ قَطِرانٍ اى من غرابيب الظلمة العدمية البعيدة بمراحل عن نور الوجود وهو في اللغة دهن الأبهل والعرعر اسود كالزفت في غاية الاسوداد منتن نتنه في غاية الكراهة وَبالجملة تَغْشى وتستر وُجُوهَهُمُ التي تلى الحق النَّارُ اى نيران الإمكان وجهنم البعد والحرمان وسعير الخذلان والخسران
وما ذلك الأخذ والانتقام الا لِيَجْزِيَ اللَّهُ العليم الحكيم المتقن في عموم أفعاله ومأموراته ومنهياته وفي جميع تدبيراته كُلَّ نَفْسٍ متعينة بتعين مخصوص جزاء ما كَسَبَتْ واقترفت وامتثلت بما أمرت به ونهيت عنه او أعرضت وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المراقب على عموم عباده المطلع بجميع ما صدر عنهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم ويجازيهم على مقتضى حسابه عدلا منه
هذا اى ما ذكر من أوصاف يوم القيمة وأهوالها وافزاعها ما هو الا بَلاغٌ اى تذكرة كافية وموعظة وافية لِلنَّاسِ الذين نسوا طريق التوحيد واعرضوا عنه بعروض الغفلة لهم وليتعظوا وَلِيُنْذَرُوا بِهِ عن المعاصي والاجرام حتى لا يؤاخذوا عليها وليجتنبوا عن الشرك ولا يركنوا اليه وَلِيَعْلَمُوا اى عموم العباد علما يقينيا ايمانا وإذعانا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ يعبد بالحق ويرجع نحوه في الخطوب الى ان ينكشفوا بحقيقة حقيته عيانا وحقا وَلِيَذَّكَّرَ ويتعظ خصوصا أُولُوا الْأَلْبابِ الناظرون بنور الله الى لب الأمور الفانون فيه الباقون ببقائه جعلنا الله ممن ذكر له الحق فتذكر وتحقق في مقر التوحيد وتقرر
خاتمة سورة ابراهيم عليه السّلام
عليك ايها اللبيب الأريب المتذكر لمرتبة الاحدية التي هي ينبوع بحر الوجود ان تتذكر وتتعظ بمواعظ الكتاب الإلهي وتذكيراته من مواعيده ووعيداته وانذاراته وتبشيراته وحكمه واسراره ورموزه وإشاراته لتتفطن بتطورات الحق وشئونه وتجلياته في مراتب تنزلاته حتى يسهل لك التيقظ من المنامات العارضة والغفلات الطارئة عليك من الإضافات الحاصلة بين آثار الشئون والتجليات الإلهية المبعدة عن صرافة الوحدة الذاتية ويتيسر لك الوصول الى منبع عموم الأسماء والصفات المستتبعة لانواع الكثرات ومرجع جميع الكائنات والفاسدات المترتبة عليها. فاعلم ايها الطالب القاصد لسلوك طريق الهداية الموصلة الى صفاء الوحدة الذاتية ان التوجه إليها والوقوف على اماراتها لا يتيسر الا بعد تنبيه منبه نبيه وارشاد مرشد رشيد كامل مكمل خبير بصير لذلك قد جرت عادة الله واستمرت سنته السنية على إرسال الرسل والأنبياء المؤيدين بالكتب والصحف ليتيسر لهم ارشاد الناقصين المنحطين عن درجة التدبر والتدرب في غوامض طرق العرفان ومغاليق مسالك التوحيد ومع ذلك لا يتيسر لهم الا البلاغ والتبليغ والتوفيق انما هو من عند العزيز العليم وأكمل الرسل نبينا صلّى الله عليه وسلّم وأفضل الكتب القرآن الفرقان الجامع المنزل عليه الناسخ لعموم ما نزل قبله من الكتب لذلك قال سبحانه على سبيل العموم هذا اى القرآن بلاغ للناس اى كامل في التبليغ والإرشاد لقاطبة الأنام الى توحيد الملك العلام القدوس السّلام فلك ان تتأمل فيه وتتذكر به على الوجه المأمور لتتمكن في مقعد الصدق عند الملك الغفور(1/409)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
[سورة الحجر]
فاتحة سورة الحجر
لا يخفى على ذوى التمكن والاطمئنان من ارباب التوحيد والعرفان الواصلين الى مرتبة التحقيق والإيقان ان اصحاب التقليد والتلوين المترددين في مضيق الحسبان والتخمين متى ظهر عندهم ولاح عليهم امارات تسليم ارباب التوحيد المفوضين أمورهم كلها الى الله وشاهدوا من ظواهر أحوالهم واوصافهم وأفعالهم امارات الاعتدال وعلامات الرضا والتسليم تمنوا ان يكونوا أمثالهم وعلى اوصافهم وأخلاقهم وأحبوا ان يتدينوا باديانهم ويتخلقوا بأخلاقهم لعدم رسوخهم فيما هم فيه من التقليدات الباطلة والتخمينات العاطلة الموروثة لهم من آبائهم وأسلافهم ويتفطنوا من أنفسهم التزلزل والتذبذب في ظنونهم وجهالاتهم الا انهم من شدة شكيمتهم وضغينتهم وخبث طينتهم لم يقدموا على قبول الايمان والتدين بدين الإسلام مع نزول الآيات الظاهرة الدالة المثبتة لحقيته وورود المعجزات الباهرة المبينة لصدقه ومطابقته للواقع لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التنبيه بما يدل على تأييده وتعضيده في امره وأوصاه بترك مكالمتهم ودعوتهم وبشره باهلاكهم وانتقامهم فقال متيمنا باسمه العظيم بِسْمِ اللَّهِ الموفق لعباده بمقتضى مشيته ومراده الرَّحْمنِ لهم بتبيين دلائل دينه وبراهين توحيده حسب استعداداتهم وقابلياتهم الرَّحِيمِ لهم يوفقهم على الاتصاف به وبقبوله
[الآيات]
الر ايها الإنسان الأفضل الأكمل الأليق لان يفيض سبحانه عليك لطائف رموز اسرار ربوبيته ولوائح رقائق سرائر ألوهيته اللامعة اللائحة من مقر رحمته العامة الواسعة وكرامته الكاملة الشاملة تِلْكَ الآيات المذكورة في هذه السورة آياتُ الْكِتابِ اى بعض آيات الكتاب الجامع الناسخ للكتب السالفة وَبعض آيات قُرْآنٍ فرقان فارق بين الهداية والضلالة والرشد والغي مُبِينٍ ظاهر البيان والتبيان لأولى البصائر المتأملين في حكم إيجاد الموجودات سيما الإنسان الكامل المميز الممتاز بأنواع الفضائل والكرامات ولا سيما بالعقل المفاض له المنشعب من العقل الكل الذي هو عبارة عن حضرة العلم المحيط الإلهي ليتوجه به نحو موجده ويتدبر به امر مبدأه ومعاده ومن لم يصرفه الى ما خلق لأجله وجبل لمصلحته فقد كفر وضل ضلالا بعيدا بمراحل عن المرتبة الانسانية وذلك من غاية انهماكهم في الغفلة وعمههم وسكرتهم بمزخرفات الدنيا الدنية وحين أفاقوا عن سكرتهم وعمههم أحيانا
رُبَما يَوَدُّ وقلما يحب ويستحسن على وجه التمني المسرفون المفرطون الَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق ولم يصرفوا عقولهم الى كشفه لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مصرفين عقولهم الى معرفة الله مفوضين أمورهم كلها اليه متوكلين على الله في عموم أحوالهم لكن من شدة طغيانهم ونهاية غوايتهم وخسرانهم لم يقبلوا منك دعوتك ولم يؤمنوا بك وبكتابك يا أكمل الرسل عنادا واستكبارا حتى ينجوا من خذلان الدنيا وخسران الآخرة
وبالجملة ذَرْهُمْ يا أكمل الرسل وشغلهم في دنياهم يَأْكُلُوا من مأكولاتها المورثة لانواع المرض في قلوبهم وَيَتَمَتَّعُوا بمزخرفاتها الفانية ولذاتها الوهمية البهيمية وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ويشغلهم عن الاشتغال بالطاعات ويحرمهم عن اللذات الاخروية مطلقا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قبح صنيعهم وسوء فعالهم حين انكشف الأمر وتبلى السرائر فحينئذ يتنبهون على ما فوتوا لأنفسهم من اللذات الروحانية باعراضهم عن الله وكتابه ونبيه
وَمن سنتنا القديمة انا ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ يعنى ما أردنا إهلاك قرية من القرى(1/410)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
الهالكة الا وقد كتبنا أولا في لوح القضاء وحضرة العلم لإهلاكها أجلا معلوما ووقتا معينا
بحيث ما تَسْبِقُ وما تتقدم مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها الذي قد عين لإهلاكها وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه بل متى وصلوا اليه هلكوا حتما بحيث لا يسع لهم التقديم والتأخير أصلا ولا يجرى فيه التقدم والتأخر مطلقا
وَكيف لا نهلكنهم ولا نعذبنهم باشد العذاب ولا ننتقم عنهم إذ هم قالُوا حين دعوتك إياهم والقائك إليهم شعائر الايمان والإسلام منادين لك مستهزئين معك متهكمين يا أَيُّهَا النبي الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ من عند ربه الذِّكْرُ والكتاب المبين له أمثال هذه الكلمات التي نسمع منك إِنَّكَ في دعوتك هذه وادعائك النبوة والكتاب لَمَجْنُونٌ مخبط مختل العقل يخبطك الجن ويعلمك أمثال هذه الكلمات والحكايات فتخيلت أنت انهم ملائكة ينزلون إليك بها وبأمثالها وان اطلعت أنت على الملائكة وصاحبت معهم مع انك بشر مثلنا
لَوْ ما وهلا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ المنزلين إليك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك هذه حتى نريهم ونسمع منهم قولهم مثل رؤيتك إياهم وسماعك منهم
قل يا أكمل الرسل نيابة عنا ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ لكل احد من البشر بل لمن نؤتى الحكمة له في اصل فطرته واستعداده وهم الأنبياء والرسل المأمورون بالإرشاد والتكميل وما ننزلهم إِلَّا تنزيلا ملتبسا بِالْحَقِّ اى بالدين الثابت الجازم المطابق للواقع ليتدين بدينهم من يتبعهم ويؤمن لهم اطاعة وانقيادا ولو اطلع الكل على نزولهم ورأوا صورهم لبطل حكمة الإرسال والإطاعة والتكميل إذ الكل في الرشد والهداية على السواء حينئذ وَايضا ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ منتظرين الى يوم الجزاء إذ الكل ح ناجون مهديون في النشأة الاولى
وبالجملة إِنَّا نَحْنُ حسب حكمتنا المتقنة قد نَزَّلْنَا الذِّكْرَ اى الكتب والصحف على الأنبياء والرسل على وجه يعجز البشر عن إتيان مثله لكون ألفاظه ومعانيه ومعلوماته ونظمه واتساقه خارجة عن مقتضيات مداركهم وعقولهم لذلك ينسبون اكثر الأنبياء والرسل الى الجنون والخبط والاختلال وَمع ذلك إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عن تحريف اهل الزيغ والضلال المنحرفين عن جادة التوحيد والاعتدال
وَبالجملة لا تحزن يا أكمل الرسل من استهزائهم بك وتكذيبهم فانه من الديدنة القبيحة القديمة بين اصحاب الضلال فانا لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رسلا وقت شيوع الفسوق والعصيان فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ فرقهم وفئتهم
وَهم من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ بأنواع الاستهزاء من نسبة الكذب والجنون واصناف العيوب
وبالجملة كَذلِكَ نَسْلُكُهُ وندخله نحن بمقتضى حكمتنا فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الذين قد تعلقت ارادتنا وجرت مشيتنا باهلاكهم وتعذيبهم بمقتضى اوصافنا القهرية الجلالية
لذلك لا يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بالرسول المرسل والكتاب المنزل إليهم وكيف يؤمن بك يا أكمل الرسل هؤلاء الكفرة وَقَدْ خَلَتْ ومضت سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ اى سنة الله في الكفرة الماضين او سنة كل فرقة من أسلافهم وهم ايضا على أثرهم وطبقهم تقليدا لهم
وَمن خبث طينتهم ونهاية قسوتهم وغفلتهم لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ اى على هؤلاء المستهزئين المنهمكين في الغي والعناد باباً مِنَ السَّماءِ على خلاف العادة المستمرة ليؤمنوا بك وبدينك وكتابك فَظَلُّوا فِيهِ وصاروا يَعْرُجُونَ ويصعدون منه نحو السماء بحيث يستوضحون ما فيها
لَقالُوا البتة من شدة غيهم وضلالهم ونهاية جهلهم وانكارهم المركوز في فطرتهم إِنَّما سُكِّرَتْ وتحيرت أَبْصارُنا بسحر محمد وتلبيسه انما فعل بنا هذا لنؤمن له ونصدق قوله وكتابه(1/411)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
ونقبل دينه بَلْ الأمر كذلك وشأنه هكذا بلا شك وتردد وبالجملة ما نَحْنُ بمشاهدة هذا الفتح والعروج الغير المعهود الا قَوْمٌ مَسْحُورُونَ مخبوطون مخبطون البتة قد لبس علينا الأمر هذا الشخص بالسحر والشعبذة.
ثم قال سبحانه امتنانا لعباده بتهيئة اسباب معاشهم وَلَقَدْ جَعَلْنا وقدرنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً اثنى عشر تدور وتبدل فيها الشمس في كل سنة شتاء وصيفا ربيعا وخريفا والقمر في كل شهر تتميما لأسباب معاشكم وتنضيجا لأقواتكم واثماركم وَمع ذلك زَيَّنَّاها وحسنا نظمها وترتيبها وهيئاتها وأشكالها لِلنَّاظِرِينَ المتأملين في كيفية حركتها ودوراتها وانقلاباتها ليستدلوا بها على قدرة مبدعها ومتانة حكمة صانعها وحكم مخترعها الى ان ينكشفوا بوحدة المظهر الموجد ورجوع الكل اليه
وَمع ذلك قد حَفِظْناها مِنْ اطلاع كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ على ما فيها من السرائر والحكم المودعة
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ واختلس من الشياطين السَّمْعَ والاستطلاع من سكان السموات وتكلف في الصعود والرقى نحوها فَأَتْبَعَهُ من قهر الله إياه شِهابٌ جذوتنا على مثال كوكب مُبِينٌ بين ظاهر عند اولى الأبصار زجرا له ومنعا عن الاستطلاع بالسرائر
وَالْأَرْضَ ايضا قد مَدَدْناها مهدناها وبسطناها وَقد أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ شامخات لتقريرها وتثبيتها ولتكون مقرا للمياه والعيون ومعدنا للجواهر والفلزات وَبالجملة قد أَنْبَتْنا فِيها اى في الأرض مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مطبوع ملائم تستحسنه الطباع وتستلذ به
وَانما جَعَلْنا وخلقنا كل ذلك اى العلويات والسفليات ليحصل لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها وتقومون امزجتكم منها لتتمكنوا على سلوك طريق التوحيد والعرفان الذي هو سبب ايجادكم والباعث على اظهاركم إذ ما خلقتم وما جبلتم الا لأجله وَايضا قد جعلنا فيها معايش مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ لذرياتكم من اخلافكم وأولادكم وان كنتم تظنون انكم رازقون لهم ظنا كاذبا بل رزقكم ورزقهم وكذا رزق عموم من في حيطة الوجود علينا
وَكيف لا يكون رزق الكل علينا إِنْ مِنْ شَيْءٍ وما من رطب ويابس ولا نقير ولا قطمير مما يطلق عليه اسم الشيء إِلَّا عِنْدَنا وفي حيطة قدرتنا وحوزة مشيتنا خَزائِنُهُ اى مخزونات كل شيء ومخازنه عندنا وفي قبضة قدرتنا وتحت ضبطنا وارادتنا بحيث لا ينتهى قدرتنا دون مقدور ولا تفتر عنه بل لنا القدرة الغالبة بإيجاد الخزائن من كل شيء وَلكن قد اقتضت حكمتنا المتقنة انا ما نُنَزِّلُهُ وما نظهره إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ عندنا مخزون في حيطة حصرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ وأجل مقدر معين لدينا لا اطلاع لاحد عليه
وَمن بدائع حكمتنا وعجائب صنعتنا انا قد أَرْسَلْنَا من مقام فضلنا وجودنا الرِّياحَ الهابة في فصل الربيع وجعلناها لَواقِحَ ملقحات يعنى يجعل الأشجار حوامل بالأثمار فَأَنْزَلْنا بعد صيرورتها حوامل مِنَ السَّماءِ ماءً مدرارا مغزارا تتميما لتربيتها وتنميتها فَأَسْقَيْناكُمُوهُ والحوامل به الى وقت الصلاح والحصاد وَبالجملة ما أَنْتُمْ لَهُ اى للماء بِخازِنِينَ حافظين حارسين وليس في وسعكم وطاقتكم حرزه وحفظه في الغدائر والحياض وكذا القاح الأشجار وإنباتها وإصلاحها وجميع ما يحتاج اليه إذ ليس عندكم خزائن كل شيء
وَايضا عن غرائب مبدعاتنا إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي ونظهر بمقتضى اوصافنا اللطفية البسيطة وَنُمِيتُ ونعدم حسب اوصافنا القهرية القبضية وَبالجملة نَحْنُ الْوارِثُونَ الدائمون الباقون بعد انقهار عموم المظاهر وفنائها(1/412)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
بالطامة الكبرى
وَمن كمال علمنا وخبرتنا انا لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ المتقدمين في الوجود مِنْكُمْ ومن اسلافكم بل من شئونكم ونشأتكم التي في أصلاب آبائكم وأرحام أمهاتكم بل قد علمنا استعداداتكم اللاتي في ذرائر العناصر بل حصصكم من الروح الأعظم والغوث المعظم وَبالجملة لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ المتأخرين ايضا منكم في الوجود على الوجه المذكور ازلا وابدا
وَبالجملة إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل هُوَ المطلع بسرائر الماضي والحال والمستقبل بل الازمنة كلها ساقطة مطوية منطوية عند حضوره وشهوده يَحْشُرُهُمْ في المحشر وموعد القيمة للحساب والجزاء حسب حكمته المتقنة وكيف لا إِنَّهُ في ذاته وأوصافه وأفعاله حَكِيمٌ متقن الفعل متين الصنع والعمل عَلِيمٌ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء.
ثم قال سبحانه امتنانا لكم وتنبيها على دناءة منشأكم ثم على شرف مكانتكم وعلو شأنكم ايها المكلفون من الثقلين القابلون لفيضان الايمان والمعارف
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وأظهرنا جنسه وقدرنا جسمه مِنْ صَلْصالٍ طين يابس مصوت من غاية يبسه وبقائه على حر الشمس متخذ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ من طين اسود منتن كريه الرائحة يستكره ريحه عموم الحيوانات
وَالْجَانَّ اى جنسه ايضا قد خَلَقْناهُ وأظهرناه مِنْ قَبْلُ اى قبل إيجاد الإنسان وإظهاره من مادة دنية ايضا إذ هو متخذ مِنْ نارِ السَّمُومِ اى شديدة الحرارة المتناهية فيها انظروا أولا ايها المكلفون المعتبرون الى منشأكم ومادتكم
وَاذكروا تشريف ربكم إياكم كيف عدلكم وسويكم واسدكم وقويكم وكرمكم واجتباكم وكيف هديكم واصطفاكم الى حيث اخلفكم عن نفسه وانابكم مناب قدس ذاته اذكر وقت إِذْ قالَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل. خصه سبحانه صلّى الله عليه وسلّم بالخطاب للياقته وكمال استحقاقه من ان يكون مخاطبا لله كأنه لجميعه مرتبته عموم مراتب بنى نوعه عبارة عن جميعهم لِلْمَلائِكَةِ على سبيل الاخبار والتعليم إِنِّي لمطالعة جمالي وجلالي وعموم أوصاف كمالي على التفصيل خالِقٌ مقدر موجد بَشَراً تمثالا وهيكلا متخذا مِنْ صَلْصالٍ متخذ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ بعيد بمراحل عن مقاربتى ومقارنتي إذ هو اخس الأشياء وأدونها
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وعدلته وكملت شكله وأتممت هيكله وَقد نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ورششت عليه من رشحات نور وجودى ومن رشاشات حياتي حسب لطفي وجودي ليكون حيا بحياتي فيصير مرآة لي اطالع فيها عموم أسمائي وصفاتي فَقَعُوا لَهُ وخروا عنده يا ملائكتي حينئذ ساجِدِينَ واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان تعظيما لأمرنا وتكريما له. ثم لما خلق سبحانه ما خلق على الوجه الذي خلق وامر ما امر على سبيل الوجوب والقطع
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ بلا طلب مرجح ودليل راجح كُلُّهُمْ بلا خروج واحد منهم أَجْمَعُونَ مجتمعون معا بلا تقدم وتأخر وتردد وتسويف
إِلَّا إِبْلِيسَ الذي هو منهم تبعا لا اصالة قد أَبى عن السجود وامتنع عن أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ثم لما تخلف اللعين وركن عن امر الله
قالَ له سبحانه يا إِبْلِيسُ ناداه توبيخا وتقريعا ما لَكَ واى شيء عرض عليك ولحق بك ايها المزور أَلَّا تَكُونَ أنت مَعَ السَّاجِدِينَ الخاضعين الواضعين جباههم على تراب المذلة عند مرآتنا المجلوة المجبولة لمصلحة الخلة والخلافة امتثالا للأمر الوجوبي الصادر منا
قالَ إبليس محتجا على الله طالبا للرجحان والمزية على سبيل الإنكار والتعريض لَمْ أَكُنْ ولم يصح منى ولم يحسن عنى ولم يلق على رتبتي ومكانتى لِأَسْجُدَ(1/413)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
لِبَشَرٍ جسمانى ظلماني دنى كثيف قد خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ اكثف واظلم منه وقد أخذت الصلصال مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ لا شيء اظلم منه وابعد عن ساحة عز قبولك يا ربي وبالجملة التمثال المشتمل على هذه الظلمات المتراكمة لا يليق ان يخضع ويسجد له الروحاني النورانى
قالَ سبحانه بعد ما سمع منه الترفع والحجة المذكورة طردا له وتبعيدا حسب قهره وجلاله فَاخْرُجْ ايها اللعين المردود المطرود مِنْها اى من حيطة الملائكة وحوزتهم ولا تعد نفسك بعد اليوم من زمرتهم ومن عدادهم فَإِنَّكَ بتخلفك عن مقتضى أمرنا الوجوبي رَجِيمٌ مرجوم مبعد مطرود مردود عن كنف رحمتنا وكرامتنا
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ الطرد والتخذيل نازلة مستمرة ابدا إِلى يَوْمِ الدِّينِ واعلم ان مقرك ومنقلبك النار التي قد افتخرت بها وتكبرت بسببها المعدة لك ولمن تبعك من عصاة العباد وغواتهم أجمعين
ثم لما ايس إبليس عن القبول وقنط عن رحمة الله قالَ مشتكيا الى الله متحسرا متأسفا رَبِّ يا من رباني بأنواع النعم والكرم فكفرت نعمك بمخالفة أمرك وحكمك فَأَنْظِرْنِي وأمهلني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ويحشرون لأضل بنى آدم وانتقم عنهم
قال سبحانه بمقتضى حكمته المتقنة فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فيما بينهم لتكون أنت عبرة للعالمين وعظة لهم
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ اى الى وقت لا يمكن فيه تلافى التقصير وتداركه ولا كسب الزاد للمعاد ولا تهيئة الأسباب ليوم الميعاد قيل هو وقت النفخة الاولى لحشر الأموات
قالَ إبليس مقسما مبالغا رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي وبحق قدرتك التي قد أغويتني وأضللتني بها وحططتنى عن رفعة منزلتي ومكانتى بمقتضاها وأخرجتني بها من بين أحبتي وإخوتي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ أعمالهم الفاسدة واحسنن عليهم أفعالهم القبيحة فِي الْأَرْضِ واغرينهم الى ارتكاب انواع المفاسد والمقابح والى اتصاف اصناف الجرائم والآثام المائلة إليها طباعهم ونفوسهم طبعا وَبالجملة لَأُغْوِيَنَّهُمْ ولأضلنهم أَجْمَعِينَ بحيث لا يشذ عنهم احد من ذوى النفوس الامارة
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ المخلصين رقابهم عن ربقة رق الامارة وعن عروة العبودية لها المطمئنين المتمكنين في مقام الرضاء والتسليم
ثم قالَ سبحانه بمقتضى اشفاقه ورحمته على عباده هذا اى اخلاص المخلصين المطمئنين الراضين بما جرى عليهم من قضائي صِراطٌ عَلَيَّ وطريق مُسْتَقِيمٌ موصل الى والى وحدة ذاتى واستقلالى في عموم آثار أسمائي وصفاتي بحيث لا عوج ولا انحراف فيه أصلا. من توجه الى عن هذا الطريق قد فاز ونجا بحيث لا يعرض الضلال والانحراف أصلا وكيف يعرضه إذ هو حينئذ من خلص عبادي
إِنَّ عِبادِي الذين هم تحت قبابى لَيْسَ لَكَ ايها المضل المغوى عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ استيلاء وغلبة إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ منهم ايها المضل المغوى فيكون حينئذ مِنَ الْغاوِينَ الضالين باغوائك عن منهج الحق ومحجة اليقين وهم وان كانوا من جنسهم صورة ليسوا منهم حقيقة
ومعنى وَإِنَّ جَهَنَّمَ البعد والخذلان لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ تابعا ومتبوعا
لَها اى لجهنم سَبْعَةُ أَبْوابٍ على عدد مداخلها من الشهوات السبعة المقتضية إياها المذكورة في كريمة زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين الآية لِكُلِّ بابٍ من الأبواب السبعة الجهنمية مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ اى طائفة مفروزة وفرقة ممتازة منهم بالدخول من كل باب وان كان الكل شريكا في الكل بعد ما دخلوا.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية في كتابه إِنَّ الْمُتَّقِينَ المخلصين المخلصين نفوسهم عن وسوسة الشياطين متمكنون فِي جَنَّاتٍ منتزهات العلم والحق وَعُيُونٍ جاريات من زلال الحقائق والمعارف المترشحة من بحر الوجود(1/414)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
صافيات عن كدر الرياء ودرن التقليدات وشين السمعة وشوب التخمينات ويقول لهم الملائكة حين وجدوهم متصفين بحلية التقوى
ادْخُلُوها بِسَلامٍ سالمين عن شدائد الحساب آمِنِينَ عن شوائب العذاب والعقاب
وَكيف لا يكونون سالمين آمنين إذ قد نَزَعْنا وأخرجنا بنور الايمان والتوحيد عموم ما فِي صُدُورِهِمْ وضمائرهم مِنْ غِلٍّ حقد وحسد متمكن في نفوسهم متعلق ببني نوعهم حتى صاروا جميعا إِخْواناً أصدقاء أخلاء متكئين عَلى سُرُرٍ متساوية من الصداقة مُتَقابِلِينَ متناظرين مطالعين كل منهم محامد أخلاقه ومحاسن شيمه وأطواره في مرآة أخيه وصديقه وكلهم فيها أصحاء سالمون معتدلون
بحيث لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ محنة وعناء حتى يشوشوا بها وَبالجملة ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أصلا حتى يخافوا من ان يعودوا بل هم فيها خالدون مخلدون دائمون مستمرون ما شاء الله
ثم قال سبحانه تسلية لعموم عباده وتبشيرا لهم بسعة فضله ورحمته نَبِّئْ اخبر وأعلم يا أكمل الرسل المبعوث على كافة الأمم عموم عِبادِي مؤمنهم وكافرهم مطيعهم وعاصيهم أَنِّي من كمال اشفاقى ومن رحمتي إياهم أَنَا الْغَفُورُ المبالغ في الستر والعفو لكل من استرجع الى واستغفر منى واستعفى عن ظهر القلب وأناب عن محض الندم والإخلاص الرَّحِيمُ لهم ارحمهم واقبل منهم توبتهم وأعفو عنهم زلتهم
وَايضا نبئهم أَنَّ عَذابِي وبطشى وانتقامي على من أصر على عناده واستمر على ترك طاعتي وانقيادي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ المؤلم المستمر المقصور عليه الذي لا نجاة لاحد منه
وَان أنكروا على انعامى وانتقامي نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ تبيينا وتوضيحا لهم
واذكرهم وقت إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ وهم جرد مرد صباح ملاح فَقالُوا ترحيبا له وتكريما سَلاماً اى نسلم عليك سلاما ثم لما تفرس ابراهيم عليه السّلام منهم بنور النبوة انهم ملائكة قد جاءوا بأمر خطير قالَ على سبيل الرعب والمخافة إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ خائفون إذ هم قد جاءوا بغتة ودخلوا عليه هفوة بلا اذن واستيذان على عادة المسافرين ومع ذلك لا يظهر عليهم اثر السفر أصلا
قالُوا تأمينا له وتسكينا لخوفه واضطرابه لا تَوْجَلْ منا ولا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ من عند ربك بِغُلامٍ عَلِيمٍ قابل للنبوة والرسالة والحكمة الكاملة
قالَ ابراهيم عليه السّلام بعد ما سمع منهم ما سمع متأوها آيسا مستفهما على سبيل الاستبعاد أَبَشَّرْتُمُونِي بالولد ايها المبشرون في زمان قد انقطع الرجاء فيه عادة بناء عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ المانع من الإيلاد والأمناء العادي إذ هو في سن قد انقطعت الشهوة عنه وعن زوجته ايضا إذ كلاهما في سن الهرم والكهولة وبعد ما كان حالي وحال زوجتي هكذا
فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قالُوا قد بَشَّرْناكَ ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع باذن الحق وبمقتضى قدرته الكاملة بإيجاد شيء وابداعه بلا سبق سبب عادى له وبالجملة فَلا تَكُنْ أنت ايها النبي المتمكن في مقام الخلافة والخلة مع الله المستمسك بحبل الرضا والتسليم المسند المفوض عموم الحوادث الكائنة في عالم الكون والفساد الى الفاعل المختار بلا اعتبار الوسائل والأسباب العادية مِنَ الْقانِطِينَ الجازمين بفقدان الشيء عند فقدان أسبابه العادية مع ان القنوط لا يليق برتبتك
قالَ الخليل الجليل بعد ما سمع منهم ما سمع مستبعدا مستوحشا مستنزها نفسه عن أمثاله وَمَنْ يَقْنَطُ وييأس مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ التي قد وسعت كل شيء بمقتضى جوده تفضلا وإحسانا بلا سبق استحقاق واعداد اسباب إِلَّا القوم الضَّالُّونَ المقيدون بسلاسل الأسباب الطبيعية وأغلال الوسائل الهيولانية ونحن معاشر الأنبياء لا نقول بأمثال هذه الأباطيل الزائغة
ثم لما جرى بينهم ما جرى(1/415)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
قالَ ابراهيم عليه السّلام حسب تفرسه منهم فَما خَطْبُكُمْ وأمركم العظيم الذي قد جئتم لأجله أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ المهيبون المنكرون
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى إهلاك قَوْمٍ مُجْرِمِينَ خارجين عن مقتضى العقل والشرع والطبع والمروءة إذ فعلتهم الشنيعة الفاحشة مما يستقبحه ويستكرهه العقل والطبع مطلقا فكيف الشرع والمروءة فنهلكهم اليوم بالمرة بمقتضى امر الله وقهره
إِلَّا آلَ لُوطٍ واهل بيته ومن آمن له إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ لكونهم معصومين مطيعين مؤمنين
إِلَّا امْرَأَتَهُ المجرمة العاصية قد قَدَّرْنا بإعلام الله إيانا واذنه علينا إِنَّها ايضا لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين مع الكفرة الهالكين لكونها باقية على اعتقادهم الفاسد وعنادهم المستمر بلا اقرار ولا ايمان
فَلَمَّا جاءَ ودخل على عادة المسافرين السياحين آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ المرد الصباح الملاح
قالَ لهم لوط إِنَّكُمْ ايها المسافرون قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قد أخاف عليكم من قومي ومن سوء فعالهم وقبح ديدنتهم وخصالهم مع انى أخاف ايضا من جيئتكم على هذا الوجه حيث لا ارى عليكم امارات البشر وعلامات الإنسان
قالُوا بعد ما تفرسوا منه الرعب لا تخف لا علينا ولا منا إذ نحن ما جئناك لنخوفك ونوحشك بَلْ قد جِئْناكَ لنسرك ونؤيدك وننصرك على أعدائك بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ اى بإثبات ما يشكون فيه ويترددون بل يكذبونك فيه مراء الا وهو العذاب الذي قد ادعيت أنت نزوله عليهم بشؤم فعالهم وقبح خصالهم وهم يشكون فيه بل ينكرونه
وَنحن رسل الله قد أَتَيْناكَ تأييدا لك ونصرا عليك ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما قلنا لك والآن قد حان وقت انجاز ما وعد الله لك من إنزال العذاب عليهم
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ واذهب أنت معهم بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وطائفة من آناته وساعاته فقدمهم امامك وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وأثرهم والعذاب ينزل على قومك عقيب خروجك من بينهم بلا تراخ ومهلة وان كانوا خلفك قد اصابتهم منه وَبعد ما خرجتم من بينهم لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ خلفه ولا ينظر الى ما وراءه حتى لا يصيبه ما أصابهم ولا يهوله ولا يفزعه وَبالجملة امْضُوا واذهبوا ايها المأمورون حَيْثُ تُؤْمَرُونَ
بالجملة قد وَقَضَيْنا إِلَيْهِ وحكمنا على لوط بالوحي والإلهام ذلِكَ الْأَمْرَ الفظيع الهائل وهو أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ يعنى ان عواقب هؤلاء المسرفين المفرطين مقطوعة مستأصلة بالمرة حال كونهم مُصْبِحِينَ اى حين دخولهم في الصبح وظهوره عليهم
وَبعد ما قد بلغ الرسل الى لوط عليه السّلام سبب ما جاءوا به من قبل الحق قد جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وهي سدوم يَسْتَبْشِرُونَ باضياف لوط ويستحسنونهم طامعين وقاعهم مهرعين مسرعين حول بيته
قالَ لهم لوط بمقتضى شفقة النبوة وان كان الأمر عنده مقضيا حتما بلا تردد إِنَّ هؤُلاءِ المسافرين ضَيْفِي قد نزلوا في بيتي فَلا تَفْضَحُونِ باساءتهم لان إساءتهم وتفضيحهم عين إساءتي وتفضيحى
وَاتَّقُوا اللَّهَ عن ارتكاب محظوراته والركون الى محرماته وَلا تُخْزُونِ ولا تخجلوني منهم إذ فعلتكم هذه معهم مسقطة للمروءة بالمرة
قالُوا في جوابه أَتنهانا اليوم أنت كما نهيتنا عن أمثالهم فيما مضى وَلَمْ نَنْهَكَ من قبل ان تمنعنا أنت يا لوط عَنِ الْعالَمِينَ وكن أنت في نفسك زكيا صفيا مهذبا طاهرا مالك معنا وخبثنا اتركنا مع خبثنا وانصرف عنا والزم على طهارتك
ثم لما بالغوا في الإصرار والعناد قالَ لهم لوط هؤُلاءِ النسوان بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ فهن اولى بكم واطهر لقضاء وطركم
لَعَمْرُكَ يا أكمل الرسل(1/416)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ المنبعثة عن شهوتهم المفرطة المحيرة المدهشة لعقولهم يَعْمَهُونَ ويهيمون الى حيث لا يسمعون نصحه فكيف يقبلونه ويفهمون
وبالجملة لما لم يتركوا الفضيحة ولم يقبلوا النصيحة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الهائلة المهلكة وقت الصبيحة بعد ما خرج لوط من بينهم مع اتباعه حال كونهم مُشْرِقِينَ داخلين وقت شروق الشمس
فَجَعَلْنا بالزلزلة الشديدة عالِيَها اى عالى المدينة سافِلَها وسافلها عاليها يعنى قد قلبنا دورهم عليهم وَمع ذلك قد أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً منعقدة منضمة مركبة مِنْ سِجِّيلٍ وهو معرب سنك وكل
وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك والتقليب والأمطار لَآياتٍ علامات وعبر لِلْمُتَوَسِّمِينَ المتأملين المتفرسين المتعمقين في انية الأشياء الكائنة حتى ينكشف عليهم أمرها ولميتها وسمتها
وَبالجملة لا تترددوا ولا تشكوا ايها السامعون المعتبرون في انقلاب تلك المدينة وتخريبها إِنَّها اى المدينة المذكورة لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ وجادة ثابتة يطرقها الناس ويرون منها آثارها واطلالها
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من قصة إهلاك أولئك الطغاة الهالكين في تيه الغفلة والشهوات لَآيَةً اى عبرة وعظة لِلْمُؤْمِنِينَ الخاشعين الخائفين من قهر الله وغضبه الراجين من عفوه ورحمته
وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين المعتبرين ايضا قصة قوم شعيب عليه السّلام إِنْ كانَ اى انه قد كان أَصْحابُ الْأَيْكَةِ والغيضة وهم يسكنون فيها لَظالِمِينَ خارجين عن حدود الله الموضوعة للعدالة بين عباده ببخس المكيال والميزان ونقصهما وبعد ما بالغوا فيه بعثنا إليهم شعيبا عليه السّلام فكذبوه واستهزؤا به وقصدوا مقته
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ مثل ما انتقمنا من قوم لوط وَإِنَّهُما اى اصحاب السدوم والايكة لَبِإِمامٍ مُبِينٍ اى ملتبسين ملتصقين بسبيل واضح وطريق مستقيم مستبين ظاهر لائح قد جاء نبي لكل منهما فكذبوه عتوا وعنادا فأخذوا بما أخذوا
وَلَقَدْ كَذَّبَ ايضا مثل تكذيبهما أَصْحابُ الْحِجْرِ وهو واد بين المدينة والشأم يسكن فيه ثمود الْمُرْسَلِينَ يعنى صالحا القائم مقام جميع الأنبياء باعتبار اتحاد المرسل والمرسل به الا وهو الدعوة الى توحيد الحق
وَذلك حين بعثنا إليهم بعد ما خرجوا عن حدود الله وانحرفوا عن جادة توحيده وأيدنا امره بان قد آتَيْناهُمْ معه آياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا فَكانُوا من نهاية عتوهم وعنادهم عَنْها مُعْرِضِينَ بحيث لا يقبلونها أصلا
وَمن عادتهم المستمرة بينهم انهم قد كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً يسكنون فيها آمِنِينَ من اللص وانواع المؤذيات والحشرات ولما لم يبالوا بالآيات والرسول وتمادوا على غيهم وضلالهم الذي قد كانوا عليه انتقمنا منهم
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الشديدة الهائلة وهم كانوا حينئذ مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح كقوم لوط فاهلكوا بالمرة
فَما أَغْنى وادفع عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأموال والامتعة والعدد الكثيرة والحصون المنيعة والابنية الوثيقة المشيدة شيأ من عذاب الله ونكاله. ثم قال سبحانه قولا دالا على كمال قدرته ومشيته ولطفه وقهره وانعامه وانتقامه تنبيها على ذوى البصائر واولى الاعتبار المتفكرين في خلق الله وإيجاده واعدامه واستقلاله في تصرفاته في ملكه وملكوته
وَبالجملة ما خَلَقْنَا وما قدرنا السَّماواتِ وما فيها من الآثار والمؤثرات العلوية وَالْأَرْضَ وما عليها من المتأثرات السفلية وَما بَيْنَهُما من الكائنات والفاسدات الحادثة في الجو باطلا عبثا بلا طائل لا عبرة لها ولا اعتبار لإظهارها وظهورها أصلا بل ما خلقنا عموم(1/417)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
ما خلقنا إِلَّا ملتبسا بِالْحَقِّ المثبت لأصحاب الدلائل والبراهين توحيد الحق الثابت المحقق ازلا وابدا عند ارباب الكشف واليقين وَاعلموا ايها العقلاء المكلفون المعتبرون إِنَّ السَّاعَةَ الموعودة لانقهار التعينات مطلقا واضمحلال التشكلات رأسا لَآتِيَةٌ جزما بلا تردد وشبهة فيجازى فيها كل على مقتضى ما كسب في عالم التعينات والتطورات وإذا كان الكل مجازون مجزيين بأعمالهم مسئولين عنها فَاصْفَحِ أنت يا أكمل الرسل واعرض عن انتقام من يؤذيك ويرديك الصَّفْحَ الْجَمِيلَ والاعراض المستحسن عند الطباع السليمة واحلم معهم والطف عليهم
إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع اللطف والكرم واصطفاك من بينهم بأصناف الفضائل والكمالات هُوَ الْخَلَّاقُ لهم ولاعمالهم الْعَلِيمُ المميز المبالغ في التمييز بين صالحها وفاسدها يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته
وَبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية ولا تحزن على أذاهم فانا من مقام فضلنا وجودنا لَقَدْ آتَيْناكَ وأعطيناك تتميما لتكريمك وتعظيمك سَبْعاً اى سبع آيات مِنَ الْمَثانِي اى الفاتحة التي قد ثنى نزولها تارة بمكة وتارة بالمدينة على عدد الصفات السبع الإلهية ليكون لك حظ كامل من جميعها والسبع الطباق الفلكية والكواكب السبعة التي فيها والأقاليم السبعة الارضية والمشتهيات السبعة الدنياوية المذكورة في كريمة زين للناس حب الشهوات الآية لتكون عوضا عنها والأودية السبعة الجهنمية لتكون منجية لك منها فيكون الفاتحة حينئذ أعظم واولى من الدنيا وما فيها وَمع ذلك لا نقتصر انعامنا عليك بل قد آتيناك الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الجامع لفوائد جميع ما في الكتب السالفة الناسخ لها المعجز لعموم من اتى بمعارضته ومقابلته
فعليك بعد ما اصطفيناك يا أكمل الرسل من بين سائر الأنبياء بأمثال هذه الكرامات ان لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ نحوهم لا تنظرن إليهم نظر متحسر راغب بل نظر معتبر كاره إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من الزخارف أَزْواجاً مِنْهُمْ وأصنافا من الامتعة معطاة للكفرة ابتلاء لهم بحيث قد صاروا بها مفتخرين بطرين بين الناس وَلا تَحْزَنْ ايضا عَلَيْهِمْ بعدم اتباعهم لك وايمانهم بك إذ هذه المزخرفات الدنية الدنياوية تحجبهم عن الايمان وتعوقهم عن العرفان وهم دائما مفتنون بها وَبالجملة اخْفِضْ جَناحَكَ وابسطها كل البسط لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يتبعونك عن خلاء القلب وصفاء القريحة بلا شوب الرياء والسمعة وشين الاهوية الفاسدة
وَقُلْ للمعاندين المنكرين إِنِّي باذن ربي ووحيه على أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ والمنذر المبين أنذركم ببيان واضح وبرهان لائح نازل على من ربي ان العذاب والعقاب سينزل على من لم يؤمن بالله وبوحدة ذاته وصفات كماله
كَما أَنْزَلْنا اى مثل العذاب الذي قد أنزلناه من قبل عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وهم الرهط الذين قد تقاسموا ان يبيتوا صالحا عليه السّلام
والمقتسمون اليوم هم الَّذِينَ قد جَعَلُوا الْقُرْآنَ المعجز لفظا ومعنى نصا ودلالة اقتضاء حدا ومطلعا عِضِينَ اى ذي أجزاء مختلفة بعضها حق لأنه مطابق للكتب السالفة وبعضها باطل إذ هو مخالف لها وبعضها شعر وبعضها كهانة مع ان الكل هداية لإضلال فيها أصلا تعالى شأنه وكتابه عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فَوَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وبعزته وجلاله لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وعن جميعهم على التفصيل
عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ يقدحون ويطعنون في القرآن وينسبون اليه من المفترات التي هو بريء منها بعيد عنها بمراحل وإذا كان نزول القرآن للهداية العامة والإرشاد الشامل الكامل
فَاصْدَعْ أنت واظهر بِما تُؤْمَرُ واجهر به(1/418)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
يا أكمل الرسل وافرق بين الحق والباطل على الوجه المأمور فيه وبين الهداية والضلال وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ واتركهم وأنفسهم ولا تلتفت إليهم ولا تتعرض لدفعهم ومنعهم ان استهزؤا بك
إِنَّا كَفَيْناكَ أذى الْمُسْتَهْزِئِينَ عنك وانتقمنا لأجلك منهم بأضعاف ما قصدوا بك من الاستهانة والاستهزاء وكيف لا ننتقم عنهم إذ هم المشركون المسرفون المفرطون
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد المتوحد في ذاته وأوصافه وأفعاله إِلهاً آخَرَ مستحقا للعبادة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عند انكشاف الحجب والأستار قبح ما يفترون وينسبون الى الله مراء وافتراء
وَبالجملة لَقَدْ نَعْلَمُ منك يا أكمل الرسل أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ من كظم غيظك ويقل صبرك على تحمل إذا هم سيما بِما يَقُولُونَ مما لا يليق بجنابنا من القدح والطعن في كلامنا ومن اثبات الشركاء لنا مع وحدة ذاتنا وبجنابك من استهزائهم بك وبمن تبعك من المؤمنين فعليك ان لا تلتفت إليهم ولا تسمع هذياناتهم هذه مطلقا وانما عليك الصبر والعظة منهم وتنزيهنا وتقديسنا عن مقالاتهم وهذياناتهم المفرطة
فَسَبِّحْ أنت بِحَمْدِ رَبِّكَ إذ تسبيحك وتحميدك إيانا خير لك من استماع ما قد تفوهوا به مراء وافتراء وَبالجملة كُنْ أنت في نفسك في عموم أوقاتك وحالاتك مِنَ السَّاجِدِينَ الواضعين جباهم على تراب المذلة والهوان تعظيما لنا وتكريما إيانا
وَاعْبُدْ رَبَّكَ واجتهد في سلوك طريق المعرفة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ويحصل لك مرتبة الكشف والشهود ويرتفع عن بصرك وبصيرتك حجب الأنانية والوجود جعلنا الله من الموقنين المنكشفين بمنه وجوده
خاتمة سورة الحجر
عليك ايها السالك القاصد لسلوك طريق التوحيد انحج الله آمالك ان تبتدئ أولا بعد ما هذبت ظاهرك بالشرائع النبوية وباطنك بالخلاء عن الموانع بذكر الله الواحد الأحد الفرد الصمد المتصف بجميع أوصاف الكمال الى ان يؤدى ذكرك الى الفكر المورث للمجاهدة والانزعاج والشوق والابتهاج أحيانا وواظب عليه الى ان يستوعب عموم أوقاتك وحالاتك وحينئذ قد ظهرت ولاحت على قلبك مقدمات المحبة والمودة والعشق المزعج المفنى وصرت عليها زمانا الى ان اشتاق وتعطش قلبك الى فنائك وانقهارك واضمحلالك في محبوبك وفي تلك الحالة قد عرضت عليك الحيرة والحسرة والوحشة والقلق والاضطراب والخوف والرجاء واللذة والألم وصرت حينئذ بين بين واين اين وكيف كيف وبالجملة قد كنت حينئذ في تلوين وتكوين واطلاق وتقييد وما هي الا سكراتك عند موتك الإرادي واضطراباتك دونه وحينئذ لا يسع لك الا الرضاء والتسليم والتوكل والتفويض الى ان جذبك الحق منك نفسك وافناك عنك ووفقك بالتمكين والتسكين وأطلقك عن التقييد والتعيين وبالجملة افناك عنك وابقاك بذاته وفزت بما فزت وتكون حينئذ من الساجدين فحينئذ قد أتيك اليقين والتمكين وأخلصك عن التردد والتلوين هب لنا من لدنك رحمة توصلنا الى مرتبة حق اليقين
[سورة النحل]
فاتحة سورة النحل
لا يخفى على ذوى التمكين والتوطين من ارباب المحبة والولاء الواصلين الى مقر التوحيد الناجين(1/419)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
المخلصين عن ربقة التلوين والتقليد باستيلاء سلطان الإطلاق المفنى للاغيار مطلقا ان الأمور الإلهية الجارية على حسب الأوصاف الذاتية مرهونة بأوقات مقدرة وآجال معينة مخصوصة من عنده سبحانه بحيث لا تتقدم عليها ولا تتأخر عنها بل إذا وصل وقتها فقد وقعت فيه حتما حكما مبرما جزما لا تتخلف عنها أصلا الا إذا علق تقديمها او تأخيرها ووقتها في حضرة علمه القديم على امر من الأمور لذلك امر عباده بالدعاء والمناجاة معه ربما اتفق عليه ووافق له فالاستخبار والاستعجال انما هو من شيم اهل الزيغ والضلال المقيدين بسلاسل الأسباب وأغلال الوسائل واما ارباب الإطلاق المتحيرون في بيداء الألوهية الوالهون في فضاء الربوبية لا يستقدمون ولا يستأخرون في عموم الأمور الحادثة بل جريان الأمور كلها عندهم على سبيل التجدد الابداعى وعلقة الأسباب والوسائل العادية والروابط الرسمية ما هي عندهم الا توهمات باطلة وتخيلات عاطلة تنشأ من الإضافات العدمية والاعتبارات الوهمية الحاصلة من توهم الزمان والمكان المتفرعين عن الجهات العدمية بالنسبة الى المحبوسين في مضيق الأزل والأبد والاول والآخر والمبدأ والمنتهى لذلك اخبر سبحانه عباده بجريان امره على مقتضى مراده حسب تجلياته وتطوراته وقت تعلق ارادته ومشيته بإظهاره وإيجاده فقال متيمنا باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي قد تجلى بأسمائه الحسنى وأوصافه العليا على عموم ما تجلى من مظاهره ومصنوعاته بلا سبق زمان ومكان الرَّحْمنِ الذي قد دبر امور عباده على مقتضى مراده بأحسن التدبير في مبدأهم ومعادهم بلا مشاركة ظهير ومشير الرَّحِيمِ الذي قد هداهم الى سبيل توحيده بالإنذار والتبشير وأرسل إليهم الأنبياء ليبينوا لهم طريق الرشد ويجنبوهم عن سبيل الغي والضلال وانزل عليهم الكتب المبينة الفارقة بين الحق والباطل والحرام والحلال وأخبرهم فيها عن يوم الحشر والعرض الموعود للجزاء والسؤال عما جرى عليهم في النشأة الاولى من الأحوال فلهم ان يصدقوه ويؤمنوا له ولا يسئلوا عن وقت قيامه بل يهيئوا الزاد لأجله ويشمروا الذيل لوقوعه تعبدا وانقيادا لذلك اخبر سبحانه عن إتيانه ووقوعه بالجملة الفعلية الماضوية تنبيها على تحقق وقوعه
[الآيات]
فقال قد أَتى أَمْرُ اللَّهِ وقام يومه الموعود الذي قد انكشفت فيه السدول ولاحت الأسرار وارتفعت فيه حجب التعينات وعموم الأستار واضمحلت دونه مطلق السوى والأغيار ونودي من وراء سرادقات العز والجلال بعد انقهار الكل لمن الملك اليوم وأجيب ايضا من ورائها لله الواحد القهار وبالجملة فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ولا تطلبوا وقوعه بالفور ايها المترددون الشاكون في امره ولا تشركوا به شيأ ولا تشاركوه في حكمه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من الآلهة الباطلة ويدعون شفاعتها لهم عند الله لدى الحاجة بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ المقربين عنده بِالرُّوحِ اى بالوحي النازل الناشئ مِنْ أَمْرِهِ توفيقا وتأييدا عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ خلص عِبادِهِ الا وهم الأنبياء والمرسلون المأمورون عليهم أَنْ أَنْذِرُوا وخوفوا عباد الله المنحرفين عن استقامة صراطه وجادة توحيده من بطشه وانتقامه إياهم وقولوا لهم نيابة عن الله أَنَّهُ لا إِلهَ يعبد بالحق إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ عن مخالفة امرى وحكمى وكيف تشركون ايها المشركون ما لا يقدر على خلق احقر شيء من الأشياء
وأضعفها للقادر القاهر المقتدر الحكيم العليم الذي قد خَلَقَ وأوجد السَّماواتِ مع كمال عظمتها ورفعتها وَالْأَرْضَ بكمال بسطتها وبالجملة ما خلق عموم ما خلق واظهر جميع ما اظهر الا ملتبسا بِالْحَقِّ بانبساط نور وجوده الكائن الثابت في نفسه(1/420)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
ازلا وابدا وبامتداد اظلال أوصافه وأسمائه عليهما ورش رشحات نور وجوده إياهما مع انه سبحانه باق على صرافة وحدته الذاتية وهما على عدميتهما الاصلية تَعالى وتقدس عَمَّا يُشْرِكُونَ له شيأ لا وجود له ولا تحقق سوى الظلية والعكسية
وكيف يشركون ويثبتون أولئك الحمقى الضالون الجاهلون شريكا للقادر الحكيم العليم الذي قد خَلَقَ وقدر الْإِنْسانَ خاصة وأوجده على احسن صورة واعدل تقويم مِنْ نُطْفَةٍ دنية مهينة لا تمييز لها أصلا ولا شعور ورباها الى ان صار ذا رشد تام وتمييز كامل وكمال ادراك ودراية وبعد ما تم تسويته وتعديله فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مجادل مبالغ في تمييز الحق من الباطل والهداية من الضلال مُبِينٌ ظاهر البيان بإقامة الدلائل والبراهين القاطعة وما هي الا من تربية مبدعه وخالقه القادر المقتدر بالإرادة والاختيار
وَالْأَنْعامَ ايضا قد خَلَقَها وأوجدها طفيلا لَكُمْ ايها المجبولون على الكرامة الفطرية فِيها اى في الانعام دِفْءٌ لكم تستدفئون به من الألبسة والاكسية والاغطية المتخذة من أصوافها واشعارها واوبارها لدفع الحر والبرد وَمَنافِعُ غير ذلك من الخباء والعباء والكساء وغيرها وَايضا مِنْها تَأْكُلُونَ لتقويم امزجتكم وتعديلها من لحومها وشحومها وألبانها
وَايضا قد يسر لَكُمْ فِيها جَمالٌ جلال وعظمة وجاه وزينة بين أظهركم وذلك حِينَ تُرِيحُونَ وتجمعونها في المراح من المرعى وقت الرواح مملوة الضروع والبطون وَحِينَ تَسْرَحُونَ وترسلونها نحو المرعى وقت الصباح
وَمن معظم فوائدها انها تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ واحمالكم التي أنتم تستثقلونها إِلى بَلَدٍ بعيد لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ ولم يحصل بلوغكم اليه وابلاغكم إياها لولاها إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ اى بالمشقة التامة والعسر المفرط فخلقها سبحانه تيسيرا لكم وتسهيلا لشأنكم تتميما لتربيتكم وتكرمتكم وبالجملة إِنَّ رَبَّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم لَرَؤُفٌ عطوف مشفق لكم يسهل عليكم كل عسير رَحِيمٌ لكم يوفقكم ويهيئ أسبابكم لتواظبوا على أداء ما افترض عليكم من الطاعات والعبادات وتلازموا على تحصيل ما قدر لكم من اقتراف المعارف والحقائق الرافعة لكم الى ارفع المنازل وأعلى المراتب.
ثم أشار سبحانه ايضا الى ما يعزكم ويدفع اذاكم ويرفع جاهكم ومكانتكم تتميما لتعظيمكم وتربيتكم فقال وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ انما خلقها وأظهرها سبحانه لِتَرْكَبُوها وَتجعلوها زِينَةً وحلية لأنفسكم بين بنى نوعكم وَبالجملة يَخْلُقُ لكم ربكم بمقتضى علمه بحوائجكم ومزيناتكم ما لا تَعْلَمُونَ ولا تأملون أنتم لأنفسكم مما يعنيكم ويعينكم في النشأة الاولى والاخرى
وَكما يدبر سبحانه امور معاش عباده على الوجه الأحسن الأليق بحالهم كذلك له سبحانه ان يدبر لهم امور معادهم بل هي اولى بالتدبير لذلك عَلَى اللَّهِ المصلح لأحوال عباده قَصْدُ السَّبِيلِ اى إرشادهم وهدايتهم الى طريق مستقيم موصل الى توحيده ليصلوا اليه ويفوزوا بما وعدوا من عنده وَكيف لا يرشدهم سبحانه الى سواء السبيل إذ مِنْها اى بعض من السبيل جائِرٌ مائل منصرف منحرف عن طريق الحق وسبيل توحيده بمقتضى غلبة أوصافه الجلالية المذلة المضلة تتميما للقدرة الكاملة الغالبة والسلطنة العامة الشاملة لكلا طرفي اللطف والقهر والجمال والجلال وَلَوْ شاءَ وأراد سبحانه هدايتكم جميعا لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ على مقتضى تجليات الأوصاف اللطفية الجمالية المثمرة للذة الدائمة والسرور المستمر الغير المنقطع لكن قد اقتضى حكمته المتقنة البالغة ان يكون جنابه رفيعا(1/421)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
وبابه منيعا متعاليا عن ان يطلع عليه واحد بعد واحد ويرد حول حمى قدسه وارد غب وارد لذلك قد تجلى على بعض المظاهر حسب الأوصاف القهرية الجلالية المورثة للحزن الدائم والألم المخلد وكيف لا يدبر سبحانه امور عباده
مع انه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ وأفاض مِنَ السَّماءِ ماءً محييا موات الأرض مثل احياء الروح وراضى الأجساد ليحصل لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ تشربون منه او تعصرون من القصب والفواكه الحاصلة به أنواعا من الأشربة وَايضا يحصل مِنْهُ شَجَرٌ وانواع النباتات الخارجة من الأرض لرعى مواشيكم إذ فِيهِ تُسِيمُونَ وتسرحون دوابكم للرعي الى ان يسمن فيؤكل وايضا
يُنْبِتُ لَكُمْ لتقويتكم وتقويم امزجتكم وتقويتها بِهِ الزَّرْعَ بأنواعه واصنافه لتتخذوا منه اخبازا واقراصا وَالزَّيْتُونَ للادام وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ للتفكه والتقوت ايضا وَبالجملة يخرج لكم به مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ تتميما لأمور معاشكم وتقويما لأمزجتكم كل ذلك لتتفكروا في آلائه ونعمائه وتتذكروا ذاته كي تفوزوا بمعرفته وتوحيده إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من انعام هذه النعم العظام لَآيَةً عظيمة وبينة واضحة موضحة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويستعملون عقولهم في تفكر آلاء الله ونعمائه ليواظبوا على أداء شكرها
وَمن جملة آياته سبحانه المتعلقة لتدبير أحوالكم انه قد سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ لتسكنوا فيه وتستريحوا وَالنَّهارَ لتعيشوا فيه وتكسبوا وَايضا قد سخر لكم الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لإنضاج ما تتقوتون وإصلاح ما تتفكهون وَقد سخر لكم النُّجُومُ ايضا لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر حال كون كل منها مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ تابعات لحكمه وتقديره على تقدير قراءة النصب او مع ان الكل مسخرات في قبضة قضائه يصرفها حسب ارادته ومشيته على تقدير الرفع إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير والتسهيل المذكور لَآياتٍ اى في كل منها دليل واضح وبرهان لائح قاطع لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستدلون من الآثار الى المؤثر ومن المصنوعات الى الصانع القديم الفرد
وَايضا قد سخر لكم ما ذَرَأَ وبرأ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ واشكاله وطبعه وذوقه بمقتضى اهويتكم وامزجتكم من الحوائج المتعلقة لحظوظكم وترفهكم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يتعظون ويتفطنون منها الى كرامة الإنسان من بين سائر الأكوان والى خلافته ونيابته عن الله
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لكم الْبَحْرَ من كمال لطفه وتكريمه إياكم لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وهو السمك وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً وزينة من الجواهر النفيسة تَلْبَسُونَها وتتزينون بها ترفها وتنعما وَتَرَى ايها الرائي الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ جواري في خلاله مشققات للبحر مسيرات لمن فيها على الماء وَما كل ذلك الا لِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ وجوده ما يعنيكم ويليق بكم من الحوائج والأرباح وغيرها وَانما سخر لكم سبحانه ما سخر لكم من البر والبحر لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تواظبوا وتداوموا على شكر نعمه وتصرفوها الى ما خلق لأجله طلبا لمرضاته
وَمن كمال لطفه ورحمته ايضا انه قد أَلْقى فِي الْأَرْضِ التي هي مستقركم ومنشأكم رَواسِيَ شامخات مخافة أَنْ تَمِيدَ وتتحرك بِكُمْ ولا يمكن استقراركم عليها لاضطرابها وتزلزلها إذ هي في طبعها كرة حقيقية ملقاة على الماء محفوفة به مغمورة فيه وانما القى سبحانه عناية منه رواسى ثقالا عليها حتى صارت متفاوتة الأطراف في الثقل فاستقرت حينئذ وثبتت وَايضا قد اجرى لكم سبحانه عليها أَنْهاراً ليمكنكم الاستقاء منها لدى الحاجة وَكذا قد عين وسهل لكم بين الجبال سُبُلًا نافذات(1/422)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الى ما ترومون من البلاد البعيدة
وَقد نصب لكم ايضا عَلاماتٍ دالة على مطالبكم ومقاصدكم في البوادي والبراري بالتلال والوهاد وَفي البحار بِالنَّجْمِ اى بالنجوم المتعارفة عند البحارين إذ هُمْ يَهْتَدُونَ بها حين وقوعهم في لجج البحار. وبالجملة كل ذلك من الدلائل الدالة على وحدة الفاعل المختار المتصف بعموم أوصاف الكمال المنزه عن مشاركة الاضداد والأمثال مبدع المكونات من كتم العدم بلا سبق مادة وزمان ومخترع عموم الموجودات بلا علل وأغراض على سبيل الفضل والإحسان
أَتشركون مع الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شيء في الوجود سواه ولا اله الا هو يخلق ما يشاء بمقتضى رحمته وجوده من لا يخلق شيأ بل هو في نفسه من أدون المخلوقات فَمَنْ يَخْلُقُ ايها الحمقى العمى كَمَنْ لا يَخْلُقُ في المرتبة والمكانة واستحقاق العبادة ما عرض لكم ولحق بكم ايها المجبولون على فطرة الدراية والشهود لم تتفطنوا بالفرق الظاهر بينهما مع كمال جلائه وظهوره مع انكم من زمرة العقلاء المميزين أَفَلا تَذَكَّرُونَ فطرتكم المجبولة على العلم والتمييز
وَكيف تشركون مع الله المنعم المفضل عليكم بأنواع النعم واصناف الكرم مع انكم إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الفائضة عليكم وآلاءه الواصلة إليكم لا تُحْصُوها من غاية كثرتها ووفورها ومع ذلك قد أشركتم معه غيره وكفرتم بنعمه مع ان المناسب لكم الرجوع اليه والانابة نحوه إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لَغَفُورٌ لمن تاب وآمن وعمل عملا صالحا رَحِيمٌ يقبل توبتهم ويتجاوز عن سيئاتهم لو أخلصوا
وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده يَعْلَمُ منكم ما تُسِرُّونَ في قلوبكم بلا موافقة ألسنتكم وَما تُعْلِنُونَ بألسنتكم بلا مطابقة قلوبكم فعليكم ايها المؤمنون المنيبون ان تنيبوا وتتوجهوا نحو الحق سرا وعلانية حتى لا تكونوا من زمرة المنافقين المخادعين مع الله
وَاعلموا ايها المشركون المكابرون ان الشركاء الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المعبود بالحق الآلهة وتعبدونها إفكا كعبادته سبحانه مع انهم في أنفسهم تماثيل عاطلة لا يستحقون الألوهية إذ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً حقيرا وَكيف بالعظيم والكبير بل هُمْ يُخْلَقُونَ مخلوقون بل هم من أدون المخلوقات
إذ هم أَمْواتٌ جمادات لا شعور لها أصلا وهم غَيْرُ أَحْياءٍ ولا ذوو حس وحركة ارادية وَلذلك ما يَشْعُرُونَ شعور الحيوانات أَيَّانَ يُبْعَثُونَ والى اين يحشرون ويساقون من المرعى وبالجملة هم في أنفسهم ادنى واخس من الحيوانات العجم فكيف يتأتى منهم الألوهية المستلزمة للاطلاع على عموم المغيبات الجارية في العوالم كلها اطلاع حضور وشهود
بل إِلهُكُمْ الذي أوجدكم من كتم العدم وأظهركم في فضاء الوجود ما هو الا إِلهٌ واحِدٌ احد فرد صمد لم يكن له كفو ولا شريك ليس كمثله شيء وليس هو مثل شيء وما يظهر وما ينكشف توحيده سبحانه الا لأولى العزائم والنهى من ارباب المحبة والولاء في النشأة الاولى والاخرى فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ المعدة لشرف اللقاء قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ بها وبلقاء الله فيها وَهُمْ من شدة شكيمتهم وكثافة حجبهم سيما مع إنزال الكتب المبينة لأحوالها وأهوالها وإرسال الرسل المنبهين لهم عليها مُسْتَكْبِرُونَ متمردون عتوا وعنادا
لذلك لا جَرَمَ وحقا قد ثبت على الله حتما ان يعذبهم جزما مع أَنَّ اللَّهَ المطلع لسرائرهم وضمائرهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ من الكفر والضلال فيجازيهم حسب علمه بحالهم ولا يحسن سبحانه إليهم بدل إساءتهم إذ هم مستكبرون إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ(1/423)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
الْمُسْتَكْبِرِينَ لاشتراكهم معه سبحانه في أخص أوصافه إذ الكبرياء مخصوصة به سبحانه لا يسع لاحد ان يشارك معه فيه
وَمن غاية عتوهم واستكبارهم إِذا قِيلَ لَهُمْ على طريقة الاستفسار ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على نبيكم قالُوا متهكمين مستهزئين ليس ما انزل له ربه الا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى الأكاذيب الأراجيف التي قد سطرها الأولون فيما مضى من تلقاء نفوسهم. وبالجملة انما قالوا ذلك وأذاعوه بين الأنام
لِيَحْمِلُوا ويقترفوا أَوْزارَهُمْ وآثامهم كامِلَةً بلا تخفيف شيء منها ولا نقصانه ليؤاخذوا عليها يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيحملوا ايضا مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ من ضعفاء الناس بقولهم هذا لهم والقائهم إليهم مع انهم هم خالوا الأذهان بِغَيْرِ عِلْمٍ يتعلق منهم بالقرآن واعجازه ومع ذلك لا يعذرون لعدم التفاتهم الى التأمل والتدبر حتى يظهر عندهم حقيته وبطلان قولهم أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ويعملون المضلون باضلالهم والضالون بضلالهم وعدم تأملهم وتدبرهم مع انهم مجبولون على التأمل والتدبر. وبالجملة ليس هذا التكذيب والإضلال والتهكم والاستهزاء من الأمور الحادثة بين أولئك الهالكين في تيه الشرك والطغيان بل هي من سنة الكفرة السالفة ومن ديدنتهم القديمة وعادتهم المستمرة
إذ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ واحتالوا لإضلال العوام الى حيث قد بنوا ابنية رفعية للصعود الى السماء والمقاتلة مع سكانها والهها ثم لما تم بنيانهم وقصورهم فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ اى قد اتى امره سبحانه باهلاكهم وتعذيبهم بهدم بنيانهم مِنَ الْقَواعِدِ والأعمدة والأساس التي قد بنى عليها البناء فتضعضعت وتحركت الدعائم فَخَرَّ وسقط عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وهم تحته متمكنون مترفهون فهلكوا وَبالجملة قد أَتاهُمُ الْعَذابُ بغتة مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ اماراتها قبل نزوله
ثُمَّ بعد تعذيبهم في النشأة الاولى يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ الله ويرديهم ويخذلهم بتكذيبهم كلام الله وكلام رسوله وَيَقُولُ لهم سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ ايها الضالون المضلون المنهمكون في الغي والضلال تُشَاقُّونَ وتعادون فِيهِمْ وفي حقهم وشأنهم المؤمنين وتعارضون معهم بادعاء الألوهية لأولئك التماثيل العاطلة الباطلة ادعوهم لينجوكم ويخلصوكم عن عذابي وبطشى قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الأنبياء والرسل وخلفائهم الذين دعوهم الى الايمان فلم يؤمنوا بل يكذبونهم وينكرون عليهم وعلى دينهم ونبيهم حين أبصروا أخذ الله إياهم شامتين لهم متهكمين عليهم إِنَّ الْخِزْيَ اى الذلة والصغار الْيَوْمَ وَالسُّوءَ المفرط المجاوز عن الحد واقع نازل عَلَى الْكافِرِينَ المستكبرين الذين كذبوا الرسل وأنكروا الكتب واستهزؤا بهم مكابرة وعنادا
وهم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الموكلون عليهم حين معارضتهم بالقرآن وتكذيبهم إياه وبمن انزل اليه مع كونهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ومعرضيها على العذاب الأبدي ثم لما عاينوا في النشأة الاخرى بحقيته وصدقه ومطابقته للواقع فَأَلْقَوُا السَّلَمَ اى الانقياد والتسلم اليه مبرئين نفوسهم عن التكذيب والإساءة مع القرآن قائلين ما كُنَّا في النشأة الاولى نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وما نريد وما نقصد الإساءة في حقه فيقول الملائكة لهم على سبيل التهكم بَلى قد كنتم أنتم لا تسيئون الأدب مع الرسول والقرآن إِنَّ اللَّهَ المطلع بجميع ما كان وما يكون عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الرد والإنكار والتكذيب والإصرار فيجازيكم على مقتضى علمه
ثم قيل لهم زجرا وقهرا فَادْخُلُوا ايها المشركون المستكبرون المعاندون المعادون المكابرون مع الله ورسوله أَبْوابَ(1/424)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
جَهَنَّمَ كل فرقة منكم من باب منها على تفاوت طبقاتكم في موجباتها واسبابها وادخلوا انواع عذابها ونكالها حال كونكم خالِدِينَ فِيها مخلدين مؤبدين فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ جهنم البعد والخذلان التي هي مطرح اصحاب الطرد والحرمان
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عن محارم الله وحفظوا نفوسهم عن العرض على المهالك الموجبة لسخط الله وغضبه ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على نبيكم لتربية دينكم وتصفية مشربكم عن إكدار التقليدات والتخمينات قالُوا فرحين مسرورين قد انزل ربنا على رسولنا خَيْراً محضا في النشأة الاولى والاخرى اما في الاولى ف لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اى للمؤمنين الممتثلين بأوامر القرآن والمجتنبين عن نواهيه فِي هذِهِ الدُّنْيا وعملوا الصالحات المقربة الى الله المؤكدة لإيمانهم وإحسانهم حَسَنَةٌ كاملة من العلوم اللدنية والمعارف المثمرة للمكاشفات والمشاهدات وَاما في الاخرى ف لَدارُ الْآخِرَةِ المعدة للفوز بشرف اللقيا والوصول الى سدرة المنتهى خَيْرٌ لهم من جميع الكمالات القصوى والدرجات العليا وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن الالتفات الى ما سوى الحق دار الآخرة
التي هي جَنَّاتُ عَدْنٍ متنزهات وحدة لاهوتية ومستقرات وجوب مصونة عن امارات الكثرة الامكانية المشعرة للاثنينية مطلقا يَدْخُلُونَها مجردين عن جلباب التعينات العدمية الناسوتية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة من العلوم اللدنية المترشحة من بحر الجود المنتشئ من التجليات المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية وبالجملة لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من مقتضيات الأوصاف اللطفية الحبية الجمالية كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ ذو الفضل والقوة المتين عموم الْمُتَّقِينَ المائلين عن غير الله المعرضين عما سواه مطلقا الباذلين مهجهم في سبيله طوعا المنخلعين عن مقتضيات أوصاف بشريتهم رغبة وارادة واختيارا الصابرين على عموم ما جرى عليهم من القضاء تسليما ورضا
وهم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الموكلون عليهم في نشأتهم الاولى حال كونهم طَيِّبِينَ طاهرين عن خبائث الإمكان ورذائل الخذلان والخسران الناشئة من ظلمات الطبائع والأركان يَقُولُونَ اى الملائكة المأمورون لقبض أرواحهم عند قبضها سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها الصابرون في البلوى السائرون الى المولى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي هي خير المنقلب والمثوى وفوزوا بشرف اللقيا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في النشأة الاولى من الاعراض عن مقتضيات الهوى ومن الرضا بالقضاء ومن الصبر على العناء والشوق الى الفناء والفوز بشرف البقاء واللقاء.
ثم قال سبحانه توبيخا وتقريعا على المشركين لْ يَنْظُرُونَ
وما ينتظرون أولئك التائهون في تيه الغفلة والغرورلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
المأمورون لقبض أرواحهم الخبيثةوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
يا أكمل الرسل اى يوم القيمة المعد لتعذيبهم وانتقامهم ذلِكَ
اى مثل إهمال هؤلاء الهالكين في امر الايمان قدعَلَ الَّذِينَ
مضوانْ قَبْلِهِمْ
في زمن الأنبياء الماضين
بالجملةا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
المجازى لهم على مقتضى إساءتهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اى يظلمون أنفسهم بعرضها على المهالك الموجبة لانواع العذاب والعقاب من تكذيب الرسل وانكار الكتب وترك المأمورات وارتكاب المنهيات
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا عتوا وعنادا وَحاقَ وأحاط بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ استكبارا واستنكارا
وَكيف لا قد قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا من غاية انهماكهم في الغي والضلال وشدة انكارهم وشكيمتهم متهكمين على وجه الاحتجاج لَوْ شاءَ اللَّهُ الواحد الأحد المستقل في عموم الأفعال بالإرادة والاختيار على زعمكم عدم عبادتنا(1/425)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
لآلهتنا وأصنامنا ما عَبَدْنا البتة مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ لا نَحْنُ وَلا آباؤُنا إذ مراده مقضي حتما وحكمه مبرم جزما وَايضا لا حَرَّمْنا نحن ولا آباؤنا من البحائر وغيرها مِنْ دُونِهِ وبلا رضاه وبدون اذنه ومشيته مِنْ شَيْءٍ إذ لا يعارض فعله وحكمه هذا صورة احتجاجهم واستدلالهم على سبيل التهكم والاستهزاء والمراء كَذلِكَ اى مثل استدلال هؤلاء الطغاة الغواة الهالكين في تيه الغفلة والعناد قد فَعَلَ الَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِهِمْ هكذا متهكمين مستهزئين فأرسل الله عليهم رسلا فكذبوهم وأنكروا عليهم فاخذهم الله بذنوبهم فاهلكهم بأنواع العذاب والعقاب لان ارادة الله لم يتعلق بايمانهم وهدايتهم فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ وما عليهم وليس لهم إِلَّا الْبَلاغُ وتبليغ ما أرسلوا به الْمُبِينُ على وجه الوضوح والتبيين لئلا يبقى لهم شك وتردد في سماعه واما قبولهم واتصافهم به وهدايتهم بسببه فأمر قد استأثر الله به ليس لهم ان يخوضوا فيه إذ هو خارج عن وسعهم متعال عن طاقتهم
ثم فصل سبحانه ما أجمل بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الهالكة السالفة حين اختل امور دينهم رَسُولًا منهم قائلا لهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ المتصف بالوحدانية والفردانية المستقل بالوجود والآثار المترتبة عليه المنزه عن الشريك والأشباه والأمثال مطلقا وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ اى الالهة المضلة التي أنتم تتخذونها من تلقاء انفسكم ظلما وزورا وتعبدونها كعبادة الله عنادا واستكبارا ثم لما بلغهم الرسول جميع ما جاء به من عندنا فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ بان أراد هدايته فهداه وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ قد استمرت وثبتت عَلَيْهِ الضَّلالَةُ وتمرنت بقلبه لتعلق مشية الله بغوايته وضلاله وان ترددتم فيه فَسِيرُوا ايها الشاكون المترددون فِي الْأَرْضِ التي هي مساكنهم ومنازلهم فَانْظُرُوا واعتبروا من آثارهم واطلالهم وتفرسوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ المستهزئين للرسل والكتب
إِنْ تَحْرِصْ يا أكمل الرسل أنت عَلى هُداهُمْ وتريد هدايتهم مبالغة مع انك لا تهدى من أحببت فَإِنَّ اللَّهَ الهادي الحكيم لعباده بمقتضى علمه باستعداداتهم لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ اى لا يريد هداية من أراد ضلاله في سابق علمه ولوح قضائه وَما لَهُمْ بعد ما أراد الله ضلالهم مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم على الهداية ويشفعون لهم حتى ينقذوهم عن الضلال فأنت ايضا يا أكمل الرسل لا تتعب نفسك عليهم حسرات
وَمن خبث طينتهم وشدة بغضهم وضغينتهم قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ واغلظوا فيها قائلين مؤكدين مغلظين لا يَبْعَثُ اللَّهُ ولا يحيي مرة اخرى مَنْ يَمُوتُ ويزول الروح الحيواني عنهم.
ثم قال سبحانه ردا لهم وتخطئة على ابلغ وجه وآكده ايضا بَلى يبعثون إذ قد وعد الله البعث والحشر وَعْداً صدقا لازما عَلَيْهِ سبحانه انجاز عموم ما وعد حَقًّا حتما جزما ووفاء لوعده وإيفاء لحكمه مع انه القادر المقتدر بالقدرة الكاملة على كل ما دخل تحت حيطة ارادته ومشيته وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حق قدره سبحانه وقدر قدرته وسطوته وبسطته
وانما ينجز سبحانه الوعد الموعود لِيُبَيِّنَ ويوضح لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ بل يستبعدونه ويستحيلونه وَايضا لِيَعْلَمَ وليميز المفسدون المسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا له وأنكروا عليه عنادا ومكابرة أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في إصرار عدم وقوعه وتكذيبه وكيف تستبعدون ايها المنكرون أمثال هذا عن كمال قدرتنا ووفور علمنا وارادتنا
مع انا إِنَّما قَوْلُنا وحكمنا حين تعلق ارادتنا لِشَيْءٍ اى لإظهار شيء من الأشياء(1/426)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
المثبتة في الأعيان الثابتة والمسطورة المرقومة في لوح قضائنا وحضرة علمنا اى شيء كان عظيما او حقيرا إِذا أَرَدْناهُ ان يوجد ويتحقق في عالم الشهادة أَنْ نَقُولَ لَهُ بمقتضى صفتنا القديمة التي هي الكلام الحامل لحكمنا المؤدى النافذ لأمرنا فارضين مقدرين وجوده وتحققه إذ هو عدم صرف في نفسه ولا شيء محض في حد ذاته كُنْ كالمكونات الاخر فَيَكُونُ بلا تراخ ومهلة وبلا امتداد ساعة ولحظة وآن وطرفة بل التلفظ بحرف التعقيب بين الأمر الوجوبي الإلهي وحصول المأمور المراد له سبحانه انما هو من ضيق العطن وضرورة التعبير والا فلا ترتب بينهما الا وهما إذا الترتب انما يحصل من توهم الزمان والآن وعنده سبحانه لا زمان ولا آن ولا شأن لا يسع في زمان ومكان.
ثم أشار سبحانه الى علو درجات المؤمنين وارتفاع شأنهم ورفعة قدرهم ومكانهم فقال وَالَّذِينَ هاجَرُوا عن بقعة الإمكان حال كونهم سائرين فِي اللَّهِ بعد ما حصل لهم مرتبة التمكن والاطمئنان سيما مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بتسلط الامارة عليهم زمانا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ولنمكننهم فِي الدُّنْيا اى في نشأتهم الاولى حَسَنَةً اى حصة كاملة وحظا وافرا من المعارف والحقائق بحيث انخلعوا عن لوازم البشرية بالمرة وماتوا عن الأوصاف البهيمية مطلقا ارادة واختيارا وَمع ذلك لَأَجْرُ الْآخِرَةِ المعدة لرفع الحجب وكشف الغطاء والسدل أَكْبَرُ قدرا وأعظم شأنا وأتم لذة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويفهمون ويذوقون لذته بالذوق والوجدان لمالوا اليه البتة زيادة ميل واجتهدوا نحوه زيادة اجتهاد رزقنا الله الوصول اليه والحصول دونه واذاقنا حلاوة لذته
وبالجملة هم الَّذِينَ صَبَرُوا على ما اصبهم من المصيبات والبليات راجعين مسترجعين الى الله في جميع الحالات وَعَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُونَ في عموم شئونهم وتطوراتهم
وَكيف يستبعدون رسالتك يا أكمل الرسل أولئك المشركون المعاندون إذ ما أَرْسَلْنا للرسالة العامة رسلا مِنْ قَبْلِكَ مبشرين ومنذرين إِلَّا رِجالًا امثالك نُوحِي إِلَيْهِمْ شعائر الدين والايمان وننزل عليهم الكتب المبينة لأحكامها فان لم يقبلوا منك هذا ولم يعتقدوا صدقك فيه فقل لهم فَسْئَلُوا ايها المكابرون المعاندون الجاهلون بحال من مضى من الأنبياء أَهْلَ الذِّكْرِ والعلم منكم وهم الأحبار والقسيسون إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ صدقه ومطابقته للواقع وكما أيدنا الرسل والأنبياء الماضين
بِالْبَيِّناتِ الواضحة وَالزُّبُرِ اللائحة ترويجا لما جاءوا به وأرسلوا معه ليبينوا ويوضحوا بها احكام اديانهم وَمثل ذلك ايضا قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الذِّكْرَ اى الكتاب المعجز المشتمل على شعائر الإسلام وأحكامه لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ المتوغلين في الغفلة والنسيان عموم ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من عند ربهم على مقتضى أزمانهم وأطوارهم من الأوامر والنواهي والآداب والأخلاق وَلَعَلَّهُمْ بعد تبليغك إياهم وتبيينك لهم يَتَفَكَّرُونَ في آياته وأحكامه ويتأملون في حكمه ومرموزاته كي يتفطنوا الى معارفه وحقائقه وكشوفاته وشهوداته المودعة فيه
ثم قال سبحانه تهديدا على اهل الزيغ والضلال المنحرفين عن طريق الحق عتوا وعنادا أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ واحتالوا لإهلاك الأنبياء سيما معك يا أكمل الرسل ولم يخافوا أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ القادر الغالب على وجوه الانتقام بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسفها على قارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ بغتة حال كونهم بائتين في مراقدهم مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ اماراته ومقدماته أصلا
أَوْ يَأْخُذَهُمْ العذاب وهم فِي تَقَلُّبِهِمْ وتحركهم جائلين دائرين مترددين(1/427)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
فَما هُمْ حين اخذه وبطشه بِمُعْجِزِينَ مقاومين قادرين على دفع قهر الله وعذابه
أَوْ يَأْخُذَهُمْ العذاب عَلى تَخَوُّفٍ وتنقص من أموالهم وأولادهم على سبيل التدريج الى ان يستأصلهم بالمرة فَإِنَّ رَبَّكُمْ ايها المجترئون على الله ورسوله المسيئون الأدب معهما لَرَؤُفٌ عطوف مشفق لا يعاجلكم بالعذاب رَحِيمٌ يمهلكم ويؤخر انتقامكم رجاء ان تتذكروا وتتعظوا
أَيصرون ويستمرون أولئك المشركون المسرفون على الشرك والنفاق وَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا نظر عبرة واستبصار إِلى انقياد جميع ما خَلَقَ اللَّهُ وأظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا لحكمه وامره مِنْ شَيْءٍ من الأشياء يَتَفَيَّؤُا يميل وينقلب ظِلالُهُ بانقلاب الشمس وحركتها عَنِ الْيَمِينِ مرة وَالشَّمائِلِ اخرى على مقتضى اختلاف أوضاع الشمس حال كونهم سُجَّداً ساجدين متذللين واضعين جباحهم على تراب المذلة اطاعة وانقيادا لِلَّهِ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبية وَهُمْ في جميع حالاتهم وتقلباتهم داخِرُونَ صاغرون ذليلون خائفون من جلال الله وكبريائه مستوحشون عن سطوة قهره وبلائه وصولة استيلائه
وَكيف يستكبرون أولئك المشركون المسرفون عن انقياد الله وأطاعته إذ لِلَّهِ لا لغيره من الاظلال الهالكة والتماثيل الباطلة يَسْجُدُ ويتذلل طوعا وطبعا عموم ما فِي السَّماواتِ وَكذا عموم ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ تتحرك وتخرج من العدم نحو الوجود بامتداد اظلال الأوصاف الإلهية وبرش رشحات زلال جود وجوده عليها وَلا سيما الْمَلائِكَةُ المهيمون المستغرقون في مطالعة جمال الله وجلاله وَهُمْ مع غاية قربهم وتنزههم عن العلائق المبعدة عن الله ونهاية تجردهم عن أوصاف الإمكان مطلقا لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادة الله وعن التذلل نحوه فكيف أنتم ايها الهلكى الغرقى المنغمسون في بحر الغفلة والضلال
وانما يسجدون أولئك الساجدون المتذللون لأنهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام من ان يرسل عليهم عذابا مِنْ فَوْقِهِمْ إذ هم مقهورون تحت قبضة قدرته وَلذلك يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ويجتنبون عما ينهون
وَكيف لا تمتنعون عن اثبات الشركاء لله الواحد الأحد الفرد الصمد ايها المشركون المعاندون سيما بعد ما قالَ اللَّهُ عز شأنه وجل برهانه لا تَتَّخِذُوا ايها المكلفون بالإيمان والعرفان إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ مستحقين للعبادة والانقياد فكيف الزيادة بل إِنَّما هُوَ اى ليس في الوجود والشهود الا إِلهٌ واحِدٌ يعبد بالحق ويرجع نحوه في مطلق الوقائع والخطوب ويفوض اليه الأمور كلها وما هو الا انا المتصف بعموم أوصاف الكمال ونعوت الجلال والجمال فَإِيَّايَ لا الى غيرى من مخلوقاتي ومصنوعاتى الحاصلة من اظلال أسمائي وصفاتي فَارْهَبُونِ وخصوني بالخوف والرجاء وارجعوا نحوي عند هجوم البلاء وحلول القضاء إذ لا راد لقضائي الا فضلي وعطائي
وَكيف لا يرجع اليه سبحانه ولا يستغاث منه مع ان لَهُ ملكا وتصرفا ومنه إبداء وإنشاء عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات التي هي فواعل العلويات المفيضات المؤثرات وَكذا عموم ما في الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة من الاستعدادات التي هي قوابل السفليات المتأثرات من العلويات وَايضا لَهُ لا لغيره من الأسباب والوسائل العادية الدِّينُ اى الإطاعة والانقياد والتوجه والرجوع واصِباً دائما حتما لازما جزما أَفَغَيْرَ اللَّهِ المحيط للكل احاطة شهود وحضور تَتَّقُونَ وتحذرون ايها الجاهلون بحق قدره مع انه لا ضار سواه ولا نافع غيره
وَ(1/428)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
اعلموا ايها المجبولون على فطرة التكليف ان ما بِكُمْ وما وهب لكم ونسب إليكم مِنْ نِعْمَةٍ واصلة لكم نافعة لنفوسكم مسرة لقلوبكم فَمِنَ اللَّهِ المصلح لأحوالكم قد وصلت إليكم امتنانا عليكم وتفضلا إذ لا نافع الا هو ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ المشوش لنفوسكم القاسي لقلوبكم فَإِلَيْهِ ايضا لا الى غيره من الوسائل العادية تَجْئَرُونَ تتضرعون وتستغيثون ليدفع عنكم أذاكم إذ لا ضار ايضا الا هو
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ بعد استغاثتكم واستعانتكم ورجوعكم نحوه مع انه لا كاشف سواه إِذا فَرِيقٌ اى فاجاءت طائفة مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ الذي يدفع أذاهم ويكشف ضرهم يُشْرِكُونَ له غيره سيما من الأصنام والتماثيل العاطلة التي لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف لغيرهم وانما فعلوا ذلك وأشركوا
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعم ولم يقوموا بشكرها عنادا ومكابرة بل أسندوها الى ما لا شعور له أصلا ظلما وزورا وبالجملة فَتَمَتَّعُوا ايها المشركون بنا الكافرون لنعمنا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما تكسبون لأنفسكم من العذاب المخلد والعقاب المؤبد والعجب كل العجب ينكرون بنا مع انا متصفون بجميع أوصاف الكمال منعمون عليهم بالنعم الجليلة الجزيلة
وَيَجْعَلُونَ ويسندون نعمنا وانعامنا لِما لا يَعْلَمُونَ أولئك الحمقى اى لآلتهم العاطلة التي لا يعلمون ولا يفهمون منها حصول الفائدة لهم وجلب النفع إليهم أصلا إذ هي جمادات قد نحتوها بأيديهم نَصِيباً اى حظا كاملا مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقنا نحوهم جهلا وعنادا ومع ذلك خيلوا انهم لا يسألون عنه ولا يؤاخذون عليه بل يثابون به على زعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ ايها المسرفون المفسدون عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ علينا بإثبات الشركاء إيانا واسناد نعمنا إليهم افتراء ومراء
وَمن جملة مفترياتهم بالله المنزه عن الأشباه والأولاد انهم يَجْعَلُونَ ويثبتون لِلَّهِ الْبَناتِ حيث يقولون الملائكة بنات الله مع انهم يكرهونها لأنفسهم هذه سُبْحانَهُ قد تنزه ذاته وتعالى شأنه عما يقولون علوا كبيرا وَلَهُمْ اى يثبتون لأنفسهم ما يَشْتَهُونَ من البنين
وَالحال انهم إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى وبولادتها له قد ظَلَّ صار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا اى اسود فاحما من غاية الحزن والكراهة وَهُوَ حينئذ كَظِيمٌ مملو من الغيظ والبغض على الزوجة والوليدة بل على الله ايضا
وصار من شدة الغم والهمّ بحيث يَتَوارى ويستتر مِنَ الْقَوْمِ استحياء مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ اى بالوليدة المبشر بها ويتردد في أمرها أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ اى هوان ومذلة أَمْ يَدُسُّهُ ويخفيه فِي التُّرابِ غيرة وحمية أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ لأنفسهم ما يشتهون ولله المنزه عن الولد ما يكرهون
ثم قال سبحانه لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ المعدة لعرض الأعمال على الله والجزاء منه على مقتضاها مَثَلُ السَّوْءِ في حق الله المنزه عن الأهل والولد سيما نسبتهم اليه ما يستقبحه نفوسهم من اثبات البنات له تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا بل وَلِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية المتفرد بالوجود القيومية الْمَثَلُ الْأَعْلى الذي هو الغنى عن العالم وما فيه فكيف الزواج والإيلاد اللذين هما من أقوى اسباب الإمكان المنافى للوجوب الذاتي الذي هو من لوازم الألوهية والربوبية كيف وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب المتفرد المنيع ساحة عزه عن الاحتياج الى غيره مطلقا فكيف الى الزوجة والولد الْحَكِيمُ المتصف بكمال الحكمة المتقنة البالغة كيف يختار لذاته ما لا يخلو عن وصمة النقصان.
ثم قال سبحانه وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله النَّاسَ الناسين عهود العبودية بمقتضى(1/429)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
عدله وانتقامه بِظُلْمِهِمْ ومعاصيهم الصادرة عنهم دائما ما تَرَكَ عَلَيْها اى على وجه الأرض مِنْ دَابَّةٍ ذي حركة تتحرك عليها إذ ما من متحرك الا وينحرف عن جادة العدالة كثيرا وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ ويمهلهم على مقتضى فضله ولطفه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد سماه الله اى قدره وعينه في حضرة علمه لموتهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المسمى المبرم المقضى به لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ اى لا يسع لهم الاستقدام والاستئخار بل لا بدّ وان يموتوا فيه حتما مقضيا
وَايضا من خبث بواطنهم وقسوة قلوبهم يَجْعَلُونَ وينسبون لِلَّهِ المنزه عن الأنداد والأولاد ما يَكْرَهُونَ ويستقبحون لنفوسهم وهو اثبات البنات له سبحانه وَمع ذلك تَصِفُ وتقول أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ تصريحا وتنصيصا أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى اى بان لهم المثوبة العظمى والدرجة العليا عند الله بل لا جَرَمَ اى حقا عليهم جزما حتما من أَنَّ لَهُمُ النَّارَ اى جزاءهم مقصور على النار وهم مخلدون فيها ابدا وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ في العذاب مقدمون على عموم العصاة الطغاة الداخلين في النار المجزيين بها لاستكبارهم على الله ورسله
تَاللَّهِ يا أكمل الرسل لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا إِلى أُمَمٍ قد مضوا مِنْ قَبْلِكَ حين نشأ الجدال والمراء بينهم فانحرفوا عن جادة الاعتدال وقد أيدنا الرسل بالكتب المبينة لطريق العدالة والاستقامة فبينوا لهم على ابلغ وجه فَزَيَّنَ وحسن لَهُمُ الشَّيْطانُ المضل المغوى أَعْمالَهُمْ التي قد كانوا عليها فاصروا على أعمالهم فلم يقبلوا قول الأنبياء فكذبوهم وأنكروا عليهم لذلك نزل عليهم من العذاب ما نزل في الدنيا وسينزل في الآخرة بأضعافه وآلافه فَهُوَ اى الشيطان وَلِيُّهُمُ ومتولى أمورهم اى لهؤلاء المستخلفين عنه الْيَوْمَ لذلك لم يقبلوا قولك ولم يسمعوا بيانك بل قد أصروا واستمروا على ما عليه أسلافهم من الغواية والضلال وَلَهُمْ ايضا مثل أسلافهم بل أشد منهم عَذابٌ في النشأة الاولى والاخرى أَلِيمٌ مؤلم أشد إيلام إذ أنت أفضل من الأنبياء الماضين وبيانك وتبليغك أكمل من بيان سائر الأنبياء وتبليغهم
وَما أَنْزَلْنا من مقام فضلنا وجودنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الجامع لما في الكتب السالفة مع زيادات قد خلت عنها تلك الكتب إِلَّا لِتُبَيِّنَ وتوضح لَهُمُ اى للناس الأمر الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ألا وهو التوحيد الذاتي واحوال النشأة الاخرى والمكاشفات والمشاهدات الواقعة فيها وَقد أنزلناه ايضا هُدىً هاديا يهديهم الى التوحيد ببيان براهينه وحججه الموصلة اليه بالنسبة الى ارباب المعاملات والمجاهدات من الأبرار السائرين الى الله بارتكاب الرياضات القالعة لدرك الإمكان ورين التعلقات وَرَحْمَةً اى كشفا وشهودا بالنسبة الى المجذوبين المنجذبين نحو الحق المنخلعين عن جلباب ناسوتهم بغتة بلا صنع صدر عنهم وامر ظهر منهم بل قد جذبهم الحق عن بشريتهم وبدلهم تبديلا كل ذلك لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويوقنون بتوحيد الله وبصفاته الذاتية ويتأملون في آثاره ومصنوعاته تأملا صادقا ويعتبرون منها اعتبارا حقا الى ان ينكشفوا ويفوزوا بما يفوزوا وينالوا بما ينالوا وليس وراء الله مرمى ومنتهى
وَاللَّهُ الهادي لعباده الى زلال وحدته قد أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ اى من عالم الأوصاف والأسماء ماءً اى معارف وحقائق وعلوما لدنية فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ اى الطبيعة الهيولانية بَعْدَ مَوْتِها اى بعد كونها عدما صرفا ولا شيأ محضا فاتصفت هي أولا بالعلوم والإدراكات الجزئية وترقت منها متدرجة الى ان وصلت الى مرتبة التوحيد المسقط للاضافات مطلقا إِنَّ فِي ذلِكَ التبيين والتذكير لَآيَةً دلائل وشواهد(1/430)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
قاطعة دالة على توحيد الحق لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سمع قبول وتأمل وتدبر
وَإِنَّ لَكُمْ ايضا ايها المتأملون المتدبرون فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً واعتبارا لو تعتبرون بها وتتفكرون فيها حق التفكر والتدبر لانكشفتم بعجائب صنعتنا وكمال قدرتنا ومتانة حكمتنا وحيطة علمنا وارادتنا إذ نُسْقِيكُمْ ونشربكم مِمَّا فِي بُطُونِهِ اى في بطون بعض الانعام مستخرجا مستحدثا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ اى اخلاط وفضلات متكونة في كرشها وَدَمٍ نجس سار سائل في الشرايين والعروق لَبَناً طاهرا خالِصاً صافيا عن كدورات كلا الطرفين بحيث لا يشوبه شيء منهما لا من لون الدم ولا من ريح الفرث سائِغاً سهل المرور والانحدار هنيئا مريئا لِلشَّارِبِينَ بلا تعسر لهم في شربه وبلا كلفة في سوغه وانحداره
وَنسقيكم ايضا ايها المعتبرون مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ بحيث تَتَّخِذُونَ مِنْهُ اى من عصير كل منهما سَكَراً خمرا يترتب على شربه السكر وهو وان كان حراما شرعا الا انه تدل على عجائب صنع الله وغرائب مبدعاته ومخترعاته وَايضا تتخذون من كل منهما رِزْقاً حَسَناً كالتمر والزبيب والدبس والخل وانواع الأدم إِنَّ فِي ذلِكَ الاتخاذ لَآيَةً دالة على كمال قدرة الله وحكمته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالنظر والتفكر في عجائب آلاء الله وغرائب نعمائه كي يتفطنوا الى وحدة ذاته
وَمن جملة المبدعات والمخترعات التي تجب العبرة والاعتبار عنها انه قد أَوْحى والهم رَبُّكَ يا أكمل الرسل إِلَى النَّحْلِ الضعيف المنحول المستحقر إظهارا لكمال قدرته وحكمته أَنِ اتَّخِذِي اى بان اتخذى. أنثها باعتبار المعنى وان كان لفظ النحل مذكرا مِنَ شقوق الْجِبالِ بُيُوتاً تأوين إليها وَكذا مِنَ شقوق الشَّجَرِ في الآجام وَكذا مِمَّا يَعْرِشُونَ ويبنون لك من الابنية والأماكن واصنعي فيها بالهام الله إياك بيوتات من الشمعة المتخذة من انواع الأزاهير والنباتات التي لا علم لاحد بتعديدها وإحصائها ونضدها ونظمها وتأليفها واجزائها الا لعلام الغيوب كلها مسدسات متساويات الأضلاع والزوايا بحيث لا تفاوت بين أضلاعها وزواياها أصلا فأخذها ورتبها ترتيبا انيقا بحيث قد عجز عن تصويرها حذاق المهندسين فكيف عن لميتها وكنهها
ثُمَّ بعد ما تم بناؤك كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ التي قد الهمناك بأكلها فَاسْلُكِي في اتخاذ العسل منها سُبُلَ رَبِّكِ اى السبل التي قد ألهمك وعلمك ربك بسلوكها على وجهها بلا انحراف واعوجاج ذُلُلًا حال كونك مسخرة في حكمه بلا تصرف صدر عنك ثم لما عملت بمقتضى ما اوحيت وألهمت يَخْرُجُ لكم ايها المكلفون بالإيمان والعرفان مِنْ بُطُونِها اى من بطون تلك البيوتات المسدسة شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ابيض واسود واخضر واصفر فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ عن الأمراض البلغمية بالأصالة وعن غيرها بالتبعية إِنَّ فِي ذلِكَ الإلهام والوحى والخطاب على النحل المنحول الضعيف بأوامر قد عجزت عنها فحول العقلاء الكاملين في القوة النظرية والعملية وامتثالها وصنعها على الوجه المأمور بلا فوت شيء منها لَآيَةً اى دليلا واضحا وبرهانا قاطعا لائحا على قدرة القادر العليم والصانع الحكيم الذي قد ألهمها ما ألهمها وأوحاها ما أوحاها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتدبرون في الأمور ويتعمقون فيها متدبرين في إنيتها كي تصلوا الى لميتها.
ثم قال سبحانه وَاللَّهُ القادر المقتدر للإحياء والاماتة خَلَقَكُمْ وأظهركم من كتم العدم حسب لطفه وجماله إظهارا إبداعيا وإيجادا اختراعيا مقدرا مدة معينة لبقائكم في النشأة الاولى ثُمَّ بعد(1/431)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
انقضاء المدة المقدرة يَتَوَفَّاكُمْ يميتكم ويفنيكم حسب قهره وجلاله وَمِنْكُمْ مَنْ يقدر لبقائه في هذه النشأة مدة متطاولة بحيث يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وأسوئه واخسه ويصل الى مرتبة الخرف لِكَيْ لا يَعْلَمَ ويفهم سيما بَعْدَ تعلق عِلْمٍ منه بمعلوم مخصوص معين شَيْئاً من احوال ذلك المعلوم المعين يعنى يرجع الى رتبة الطفولية بعد كمال العقل وانما رده سبحانه الى تلك الحالة إظهارا للقدرة الكاملة وتذكيرا وعظة وعبرة للناس وتخويفا لهم لئلا يطلبوا من الله طول الاعمار وبعد الآجال ومع ذلك يطلبون ويقترحون وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده عَلِيمٌ بمصالحهم ومفاسدهم قَدِيرٌ مقتدر مقدر للاصلح لهم تفضلا عليهم وامتنانا
وَاللَّهُ المقدر لمصالحكم ايها المكلفون قد فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ بان قدر للبعض غنى وللبعض فقرا وللبعض كفاية حسب تفاوت مراتبهم واستعداداتهم في علم الله ولوح قضائه ومن موائد كرمه ايضا قدر البعض مالكا للبعض والبعض مملوكا له فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بسعة الرزق والبسطة من الموالي والملاك بِرَادِّي رِزْقِهِمْ اى بعض ما رزقهم الله عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من المماليك بحيث لا يقدر للمماليك في قسمة الله رزقهم بل فَهُمْ اى المماليك والموالي فِيهِ اى في تقدير الرزق وقسمته سَواءٌ اى كما قدر سبحانه للملاك قدر للمماليك ايضا غاية ما في الباب ان الرزق المقدر للمماليك انما يصل إليهم من يد الموالي والملاك وبإقامتهم واخلافهم أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ينكرون ويكفرون باسناد أرزاق المماليك الى الموالي لا الى الله الرازق لجميع العباد
وَاللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده قد جَعَلَ لَكُمْ تفضلا عليكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى من جنسكم وبنى نوعكم أَزْواجاً نساء تستأنسون بهن وتستنسلون منهن وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ ليخلفوا منكم ويحيوا اساميكم وَايضا جعل لكم من أبناءكم وبناتكم حَفَدَةً يسرعون الى خدمتكم وطاعتكم وَبالجملة قد رَزَقَكُمْ الله تفضلا عليكم وامتنانا مِنَ الطَّيِّباتِ المقوية المقومة لأمزجتكم وأبنيتكم لتواظبوا على طاعة الله وتداوموا الميل الى جنابه وتلازموا حول بابه شاكرين على نعمه أَتتركون متابعة الحق الحقيق بالتبعية الا وهو القرآن المعجز والرسول المبين له فَبِالْباطِلِ الذي هو الأصنام والأوثان يُؤْمِنُونَ يصدقون ويعبدون وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ المنعم المكرم بأنواع النعم والكرم هُمْ يَكْفُرُونَ حيث صرفوها الى خلاف ما أمروا بصرفها إذ إعطاء النعم إياهم انما هو لتقوية طاعة الله وكسب معارفه وحقائقه لا لعبادة الأصنام والأوثان الباطلة
وَهم من خباثة بواطنهم وكفرانهم نعم الله يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المالك لازمة الأمور الجارية في خلال الأزمان والدهور ما اى أصناما وأوثانا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً لا معنويا روحانيا فائضا مِنَ السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات بمقتضى الجود الإلهي وَلا رزقا صوريا جسمانيا مقويا مقوما لاكتساب المعارف الروحانية مستخرجا من الْأَرْضِ اى عالم الهيولى والطبيعة شَيْئاً وَكيف هم لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يملكون لأنفسهم شيئا فكيف لغيرهم
فَلا تَضْرِبُوا ايها الجاهلون بقدر الله وعلو شأنه لِلَّهِ المنزه عن الأنداد والأشباه مطلقا الْأَمْثالَ إذ لا مثل له يماثله ولا شبه له يشابهه ولا كفو له يكافي معه فكيف يشاركون له دونه إِنَّ اللَّهَ المطلع لعموم الكوائن والفواسد يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع أحوالكم واحوال معبوداتكم وعموم ما جرى عليكم وعليهم وَأَنْتُمْ(1/432)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
ايها الغافلون الجاهلون بحق قدره لا تَعْلَمُونَ منه شيأ فكيف تضربون له مثلا
بل قد ضَرَبَ اللَّهُ العالم بعموم السرائر والخفايا مَثَلًا لنفسه ولمن اثبت المشركون له سبحانه شريكا من الأصنام والأوثان حيث مثل سبحانه شركاءهم عَبْداً مَمْلُوكاً رقيقا لا مكاتبا بحيث لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التصرف في مكاسبه بغير اذن مولاه وَمثل نفسه سبحانه مَنْ رَزَقْناهُ اى بمن قد رزقناه مِنَّا يعنى بالاحرار المحسنين لأرقائهم من أموالهم التي وهبها الله لهم تفضلا وإحسانا رِزْقاً حَسَناً حلالا وافرا فَهُوَ يُنْفِقُ ويتصرف مِنْهُ اى من رزقه وكسبه سِرًّا بحيث لا يطلع لإنفاقه احد حتى الفقراء المعطون المستحقون وَجَهْراً على رؤس الملأ هَلْ يَسْتَوُونَ هؤلاء الأحرار المتصرفون في أموالهم بالاستقلال والاختيار وأولئك العبيد المعزولون عن التصرف رأسا الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أعطانا عقلا نجزم به عدم المساواة بين الفريقين ونميز به الحق عن الباطل والهداية عن الضلال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لانهماكهم في الغي والضلال لا يَعْلَمُونَ الفرق بين كلا الفريقين لعدم صرفهم نعمة العقل المفاض لهم الى ما خلق لأجله الا وهو العلم بالامتياز المذكور
وَضَرَبَ اللَّهُ ايضا مَثَلًا لنفسه ولتلك المعبودات الباطلة فقال مثلنا ومثلهم مثل رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ اخرس وأصم في اصل الخلقة بحيث لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التفهم والتفهيم لا لنفسه ولا لغيره وَكيف يقدر على النفع للغير إذ هُوَ في نفسه كَلٌّ ثقل وعيال عَلى مَوْلاهُ حافظه ومتولى أموره ساقط عن خدمته معطل عن المعاونة والمظاهرة مطلقا بحيث أَيْنَما يُوَجِّهْهُ يصرفه ويرسله لطلب المهام لا يَأْتِ بِخَيْرٍ نجح ونيل وهذا مثل الأصنام العاطلة الكليلة التي لا خير فيها أصلا وبالجملة هَلْ يَسْتَوِي ايها العقلاء المميزون هُوَ اى هذا الموصوف بالأوصاف المذكورة وَمَنْ هو منطيق فصيح معرب يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وينال بالخير والحسنى أينما توجه بنفسه او يوجهه الآخر وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مائل عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المذمومين وهذا مثل لله الواحد الأحد الفرد الصمد المتصرف المطلق المستقل في ملكه بالإرادة والاختيار. ثم أشار سبحانه الى علو شأنه وسمو برهانه وتخصصه باطلاع المغيبات التي لا اطلاع لاحد من عباده عليها الا باطلاعه
فقال وَلِلَّهِ خاصة واستقلالا غَيْبُ السَّماواتِ وما فيها من جنود الحق ومصنوعاته وَكذا غيب الْأَرْضِ وما عليها ايضا من جنود لا اطلاع لاحد منا عليها وَاعلموا ايها المكلفون المترددون في قيام الساعة ما أَمْرُ السَّاعَةِ الموعودة وما قصة وقوعها وقيامها بالنسبة الى قبضة قدرته الغالبة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اى مثل رجع الطرف من أعلى الحدقة الى أسفلها في الدنوّ والقرب أَوْ هُوَ أَقْرَبُ بل هو ادنى واقرب من رجع الطرف إذ فيه الآن متحقق وفي سرعة نفوذ القضاء الإلهي بعد تعلق ارادته الآن موهوم مخيل إذ لا تراخى بين الأمر الإلهي ووقوع المأمور المراد له الا وهما كما مر في تفسير قوله كن فيكون وبالجملة لا تستبعدوا عن الله أمثال هذا إِنَّ اللَّهَ المتصف بجميع أوصاف الكمال عَلى كُلِّ شَيْءٍ داخل في حيطة حضرة علمه وقدرته قَدِيرٌ لا ينتهى قدرته دون مقدور أصلا
وَكيف ينتهى قدرته سبحانه عن مقدوره إذ اللَّهُ المبدئ المبدع قد أَخْرَجَكُمْ وأظهركم أولا مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ وأنتم حينئذ خالون عن مطلق الإدراك بحيث لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً من المعلومات أصلا وَجَعَلَ وهيأ لشعوركم ودرككم أسبابا وأدوات تعلمون بها أنواعا من العلوم حيث هيأ لَكُمُ السَّمْعَ(1/433)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
لإدراك المسموعات الجزئية وَالْأَبْصارَ لإدراك المبصرات الجزئية وَالْأَفْئِدَةَ لإدراك الكليات والجزئيات والمناسبات والمباينات الواقعة بين العلوم والإدراكات كل ذلك قد صدر عنه سبحانه بمقتضى القدرة والارادة الإلهية لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تشكروا وتعدوا نعم منعمكم عليكم في شئونكم وتطوراتكم وتواظبوا على شكرها كي تعرفوا ذاته سبحانه وتتوجهوا نحوه
أَلَمْ يَرَوْا وينظروا إِلَى جنس الطَّيْرِ كيف صارت مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران والسيران بريشات واجنحة منتشرة فِي جَوِّ السَّماءِ في الهواء المتباعد عن الأرض ما يُمْسِكُهُنَّ بلا علاقة ودعامة إِلَّا اللَّهُ المتفرد بالقدرة التامة الكاملة الباعثة عن صدور أمثال هذه المقدورات وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإمساك العجيب والشأن الغريب لَآياتٍ ودلائل قاطعات على كمال علم الله ومتانة قدرته وارادته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بوحدة الحق ويعتقدون اتصافه بعموم أوصاف الكمال
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ اى من جملة مقدوراته المتعلقة بأمور معاشكم انه قد جعل لكم مِنْ بُيُوتِكُمْ التي أنتم قد بنيتم بأيديكم باقدار الله وتمكينه وتعليمه إياكم سَكَناً ومسكنا تسكنون أنتم فيه كالبيوت المتخذة من الحجر والمدر والآجر والخشب وَجَعَلَ لَكُمْ ايضا مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها تحملونها وتنقلونها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ سفركم وترحالكم من مكان الى مكان وَكذا يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وحضركم وَقد جعل لكم ايضا مِنْ أَصْوافِها هي للضأن والغنم وَأَوْبارِها هي للإبل وَأَشْعارِها هي للمعز أَثاثاً اى ما يلبس ويفرش وَصار ذلك مَتاعاً وتمتيعا لكم تتمتعون به إِلى حِينٍ ومدة متطاولة من الزمان
وَاللَّهُ قد جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الابنية والأشجار ظِلالًا تتفيئون وتستظلون بها من حر الشمس وَجَعَلَ لَكُمْ ايضا مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً كهوفا وثقوبا تسكنون أنتم فيها لدفع البرد والحر وَقد جَعَلَ لَكُمْ ايضا سَرابِيلَ أثوابا واكسية متخذة من الصوف والقطن والكتان والحرير وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ اى تحفظكم من شدة الحرارة وَسَرابِيلَ اى الدروع والجواشن والسربالات تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ عند الحرب والقتال كَذلِكَ اى مثل ما ذكر من انواع النعم يُتِمُّ نِعْمَتَهُ الفائضة عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ تنقادون وتطيعون وتسلمون أموركم كلها اليه سبحانه وتتخذونه وكيلا كفيلا
فَإِنْ تَوَلَّوْا انصرفوا واعرضوا عن حكم الله بعد ما قد تلوت عليهم يا أكمل الرسل ما تلوت من أوامر الله وحكمه وأحكامه ولم تقبلوا منك كلمة الحق لا تبال بهم وباعراضهم فَإِنَّما عَلَيْكَ وما أمرك وليس في وسعك وطاقتك الا الْبَلاغُ الْمُبِينُ والتبليغ الواضح فقد بلغت وأوضحت وعلينا الحساب والجزاء بالعذاب والعقاب
وكيف لا يحاسبون ولا يعاقبون أولئك المشركون المكابرون إذ هم يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ التي قد عددها وهيأها لهم ثُمَّ يُنْكِرُونَها من خبث بواطنهم بحيث أسندوها الى شركائهم وشفعائهم وَبالجملة أَكْثَرُهُمُ اى عرفاؤهم وعقلاؤهم الذين يعرفون النعمة والمنعم ثم ينكرون انعامه ويسندونها الى شركائهم وكذا اتباعهم وضعفاؤهم في العقل والتمييز كلهم أصلا وفرعا تابعا ومتبوعا هم الْكافِرُونَ الجاحدون المنكرون الله وانعامه المقصورون على الكفر والشقاق يجازون على مقتضى جحودهم وانكارهم
وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً الا وهو نبيهم القائم بأمرهم المشرف الناظر بحالهم من قبل الحق ليشهد لهم او عليهم بالإيمان او الكفر يوم العرض والجزاء(1/434)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
ثُمَّ اى بعد شهادة شهدائهم لهم او عليهم لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعنى لا يمهلون يومئذ لاعتذار ولا يقبل منهم الاعذار ان اعتذروا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ من العتبى وهي الرضا بالعتاب ليبثوا به ويبسطوه يعنى لا يسمع منهم الاعتذار مطلقا ولا يرضى منهم بالاعتاب «1» أصلا بل يعذبون حتما
وَاذكر يا أكمل الرسل إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالعرض على المهالك بالخروج عن حدود الله الموضوعة فيهم الْعَذابَ الموعود لهم بالسنة الرسل والكتب فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ يعنى تيقنوا وتحققوا حينئذ ان لا مخلص لهم منه ولا يخفف عنهم ايضا بشفاعة احد وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ويمهلون ليتداركوا ما فوتوا من الايمان والإطاعة مع انقضاء زمان التدارك والتلافي
وَاذكر يا أكمل الرسل ايضا وقت إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ حين أيسوا وقنطوا من شفاعتهم ومعاونتهم وقد عاينوا انهم هلكى أمثالهم قالُوا حينئذ متضرعين الى الله نادمين رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم فكفرنا بك وبنعمك وأنكرنا بأوامرك ونواهيك الجارية على السنة كتبك ورسلك هؤُلاءِ الهلكى الغاوون شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ عنادا ومكابرة وبواسطة هؤلاء الضلال الحمقى قد رددنا قول أنبيائك ورسلك وكتبك ثم لما سمع شركاؤهم منهم قولهم هذا فَأَلْقَوْا وأجابوا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ما تدعون وما تعبدون ايها الضالون الظالمون المغرورون الا اهويتكم وأمانيكم إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ مقصورون على الكذب والزور في دعوى اطاعتنا وعبادتنا
وَحين اضطر أولئك المشركون الضالون أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ اى أظهروا الاستسلام والانقياد وما ينفعهم حينئذ انقيادهم وتسليمهم سيما بعد تعنتهم واستكبارهم في النشأة الاولى والحال انه قد انقضى وقت التدارك والتلافي وَضَلَّ عَنْهُمْ وخفى عليهم واضمحل عن قلوبهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ لشركائهم من الشفاعة لدى الحاجة حين تبرؤا منهم وكذبوهم.
ثم قال سبحانه الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن الحق بأنفسهم وَمع ذلك قد صَدُّوا ومنعوا ضعفاء الأنام عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموصل الى توحيده ألا وهو الشرع الضريف المصطفى لذلك زِدْناهُمْ في النشأة الاخرى بسبب ضلالهم واضلالهم عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ في أنفسهم ويأمرون غيرهم ايضا بالفساد
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وبنى نوعهم وهو نبيهم ورسولهم الذي أرسل إليهم من لدنا وَجِئْنا بِكَ يا أكمل الرسل حينئذ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ الغواة البغاة الطغاة المنهمكين في بحر الاعراض والإضلال وَالحال انا قد نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ المشتمل لفوائد جميع الملل والأديان والكتب والصحف وجعلناه تِبْياناً موضحا مفصلا لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج اليه في امور الدين من الشعائر والأركان والاحكام والآداب والأخلاق والمندوبات والمحظورات والمواعظ والتذكيرات والقصص التي يعتبر منها المعتبرون المسترشدون هذا بالنسبة الى عوام المؤمنين وَقد جعلناه ايضا هُدىً هاديا الى معارف وحقائق يهديهم الى طريق التوحيد المنجى عن غياهب التقليدات والتخمينات بالنسبة الى خواصهم وَقد جعلناه ايضا رَحْمَةً اى كشفا وشهودا مترتبا على الجذبة والخطفة والخطرة بالنسبة الى خواص الخواص وَبالجملة ما هو في نفسه الا بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لله بسرائرهم وظواهرهم مفوضين أمورهم كلها اليه بلا تلعثم وتذبذب وكيف لا يسلمون ولا يفوضون
إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده يَأْمُرُ عباده أولا بِالْعَدْلِ اى بالقسط والاعتدال في عموم الأفعال والأقوال
__________
(1) الاستعتاب طلب العتبى وهو اسم بمعنى الاعتاب الذي هو ازالة العتب ولا هم يستعتبون معناه لا يطلب منهم الاعتاب «شيخزاده»(1/435)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
والشئون والأطوار وَالْإِحْسانِ ثانيا لأنهم ما لم يعتدلوا ولم يستقيموا لم يتأت لهم التخلق بأخلاق الله التي هي كمال الإحسان والعرفان وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ثالثا اى إيصال ما حصل لهم من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات الى مستحقيهم من ذوى القربى من جهة الدين المتوجهين نحو الحق عن ظهر القلب الراغبين اليه بمحض المحبة والوداد المتعطشين الى زلال توحيده لأنهم ما لم يتمكنوا ولم يتقرروا في مرتبة الإحسان لم يتأت منهم الاستكمال والاسترشاد وكما يرغب سبحانه عباده بموجبات الايمان والتوحيد ومعظمات أصوله وأركانه ينفرهم ايضا عن غوائله ومهلكاته ومغوياته فقال وَيَنْهى أولا عَنِ الْفَحْشاءِ اى افراط القوة الشهوية الموجبة لرذالة النفس وسقوطها عن جادة المروءة والعدالة المقتضية للتخلق بالأخلاق المرضية الإلهية وخروجها عن الحدود الشرعية الموضوعة لحفظ حكمة الزواج والتناسل بمتابعة القوى البهيمية الناشئة من طغيان الطبيعة الهيولانية الناسوتية المنافية لصفاء القوى الروحانية اللاهوتية وَعن الْمُنْكَرِ ثانيا إذ كل من ركب على جموح القوة الغضبية وأخذ سيف الهذيانات المثيرة لانواع الفتن والبليات بيده وعمل بمقتضاها ونبذ الحلم والترحم وراء ظهره فهو بمراحل عن رتبة الإحسان بل لا يرجى منه سوى الخذلان والخسران وَعن الْبَغْيِ ثالثا إذ كل من تمكن وتمادى بمقتضى كلتا القوتين الشهوية والغضبية فقد سقط عنه المروة والعدالة اللتين هما من أقوى اسباب الكمال المستلزم للإرشاد والتكميل وبعد ما سقطتا عنه فقد استكبر على خلق الله وتجبر وبغى وظلم فقد استحق اللعن والطرد الا لعنة الله على الظالمين وبالجملة انما يَعِظُكُمْ الله المصلح لأحوالكم بما يعظكم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ رجاء ان تتعظوا وتمتثلوا بما أمرتم وتجتنبوا عما نهيتم كي تصلوا الى صفاء مشرب التوحيد المسقط لعموم المنافرات المترتبة على مطلق الإضافات
وَمن علامة اتعاظكم وتذكركم الوفاء بالعهود والمواثيق أَوْفُوا ايها المجبولون على فطرة العدالة بِعَهْدِ اللَّهِ وميثاقه الذي قد عهدتم مع الله بالسنة استعداداتكم في مبدأ فطرتكم وايضا بمطلق العهود والمواثيق إِذا عاهَدْتُمْ مع إخوانكم وبنى نوعكم وَكذا لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ الجارية على السنتكم في الوقائع والخطوب سيما بَعْدَ تَوْكِيدِها وتغليظها وَكيف تنقضونها إذ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ المراقب عَلَيْكُمْ كَفِيلًا وكيلا ضمينا لتلك البيعة والعهد بذكر اسمه فيها إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائركم ومخايلكم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما تَفْعَلُونَ من نقض الايمان والمواثيق واماراتها الدالة على نقضها
وَبعد ما قد علم الله منكم جميع ما فعلتم ونقضتم من الايمان والعهود عليكم ان لا تَكُونُوا في النقض وعدم الوثوق كَالَّتِي اى كالمراة التي قد نَقَضَتْ وفتت غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ اى بعد ما غزلتها وفتلتها قوية محكمة ثم نقضتها أَنْكاثاً وفتتها تفتيتا بلا غرض يترتب على نقضها سوى الجنون والخرق فأنتم كذلك في نقضكم الايمان الوثيقة بذكر الله بلا غرض يتعلق بنقضها سوى انكم تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ ونقضها دَخَلًا خديعة ومكيدة واقعة بَيْنَكُمْ محفوظة عندكم الى أَنْ تَكُونَ وتقع أُمَّةٌ قوية هِيَ أَرْبى أقوى وأزيد عدد او عددا مِنْ أُمَّةٍ اخرى ضعيفة أنتم تحلفون معهم فتنقضون حلف الامة الضعيفة وتتبعون القوية بعد نقض العهد واليمين وما هذا الا مكر وخديعة مع الله ومع عباده وبالجملة إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ ويختبركم بِهِ اى بازدياد الامة القوية كي يظهر أتمسكون ايمانكم أم تنفضونها وَلَيُبَيِّنَنَّ ويوضحن لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيثيبكم الله يومئذ بالوفاء والإيفاء او يفضحكم ويعاقبكم بالنقض
وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ الحكيم العليم القدير على عموم المقدورات(1/436)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
والمرادات هدايتكم جميعا لَجَعَلَكُمْ وخلقكم أُمَّةً واحِدَةً مقتصدة متفقة على الهداية والرشد وَلكِنْ حكمته تعالى تقتضي خلاف ذلك ولهذا يُضِلُّ عن جادة هدايته مَنْ يَشاءُ من عباده بمقتضى قهره وجلاله وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ منهم حسب لطفه وجماله وَبالجملة لَتُسْئَلُنَّ أنتم ولتحاسبن كل منكم يوم العرض والجزاء عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى عن عموم أعمالكم خيرا كان او شرا
وَبعد ما أشار سبحانه الى قبح المكر والخديعة سيما بعد التوكيد باليمين والحلف ترويجا لما في أنفسهم من الظلم والعدوان صرح بالنهى تأكيدا ومبالغة ليحترز المؤمنون عن أمثاله فقال لا تَتَّخِذُوا ايها المؤمنون أَيْمانَكُمْ ومواثيقكم دَخَلًا مفسدة مبطنة مخفية بَيْنَكُمْ ترويجا لكذبكم فَتَزِلَّ قَدَمٌ اى ان فعلتم كذلك واتصفتم بهذه الخصلة المذمومة قد تزل وتزلق قدم كل منكم عن شعائر الدين وجادة الايمان والتوحيد سيما بَعْدَ ثُبُوتِها واستقرارها فيها وَتَذُوقُوا السُّوءَ والعذاب في النشأة الاولى بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اى بسبب ميلكم وانحرافكم عن طريق الحق الذي هو الوفاء بالعهود والمواثيق وَلَكُمْ بسبب ارتكاب هذا المنهي عَذابٌ عَظِيمٌ في النشأة الاخرى بأضعاف ما في الاولى وآلافه
وَايضا لا تَشْتَرُوا ولا تستبدلوا ولا تأخذوا ايها المؤمنون بِعَهْدِ اللَّهِ اى بنقض عهده والارتداد عن دينه ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا على سبيل الرشى إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ لوفائكم بعهده وثباتكم على دينه من اجر عظيم اخروى هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وانفع لبقائه وعدم زواله ودوام لذته إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ خيريته لاخترتموه البتة
وكيف لا يكون ما عند الله خيرا لكم إذ ما عِنْدَكُمْ من حطام الدنيا ومزخرفاتها يَنْفَدُ يزول ويضمحل وَما عِنْدَ اللَّهِ من اللذات الاخروية والمعارف اليقينية باقٍ لا يزال بقاء ابديا سرمديا الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله. ثم قال سبحانه وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على ما فوتوا من الامتعة الفانية والاعراض الدنية الدنياوية بسبب ثباتهم وتقررهم على الأمور الأخروية ولم ينقضوا العهود والمواثيق المتعلقة بالدين القويم وبالجملة لم يستبدلوا الأعلى الباقي بالأدنى الفاني والآجل الدائم بالعاجل الزائل الزائغ وقد لحقهم بسبب ذلك ما لحقهم من المحن والشدائد العاجلة وضاع عنهم ما ضاع من لذاتها وشهواتها فصبروا على جميعها ولأعطيناهم أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى لنجزينهم ونثيبنهم بجزاء احسن وأوفر من مقتضى عملهم لوفائهم على عهودنا ومواثيقنا وجريهم بمقتضى أمرنا ونهينا
وبالجملة مَنْ عَمِلَ منكم عملا صالِحاً لقبولنا ناشئا مِنْ ذَكَرٍ منكم أَوْ أُنْثى وَالحال انه هُوَ في حين العمل مُؤْمِنٌ موحد بالله مصدق للرسل والكتب المنزلة إليهم ممتثل بجميع ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم طالب للترقي من العلم الى العين ثم الى الحق فَلَنُحْيِيَنَّهُ بعد فنائه عن لوازم بشريته بموته الإرادي وبانخلاعه طوعا عن مقتضيات أوصاف بهيميته بإرادته واختياره حَياةً طَيِّبَةً معنوية خالصة عن وصمة الموت والفوت مطلقا خالية عن شوب الزوال والانقضاء صافية عن مطلق الكدورات المتعلقة للحياة الصورية وَبالجملة لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ اى اجر عملهم وصبرهم عن مقتضيات القوى البشرية والحيوة الصورية بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى احسن وأوفر من جزاء عملهم الذي قد جاءوا به حين كانوا سائرين إلينا طالبين الوصول الى صفاء توحيدنا ومن جملة الأعمال الصالحة المثمرة للحياة الطيبة المعنوية بل من أجلتها قراءة القرآن المشتمل على جميع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المترتبة على سلوك طريق التوحيد والعرفان
فَإِذا(1/437)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ قصدت قراءته ايها القارئ الطالب لاستكشاف غوامض مرموزاته ومعضلات إشاراته فَاسْتَعِذْ والتجئ أولا بِاللَّهِ المتجلى بصفة الكلام المعجز لقاطبة الأنام الحفيظ لخلص عباده من عموم ما لا يعنيهم من المعاصي والآثام مِنَ وساوس الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المطرود المبعد عن ساحة عز الحضور برجوم آثار الأوصاف القهرية الإلهية ومن غوائله وتسويلاته التي هي عبارة عن جنود الهوى والغفلات والتخيلات الباطلة والتوهمات المثيرة لانواع الأماني والشهوات
إِنَّهُ اى الأمر والشأن لَيْسَ لَهُ اى للشيطان وجنوده سُلْطانٌ اى استيلاء وغلبة عَلَى الموقنين الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله وأيقنوا لحقية كتبه ورسله وباليوم الموعود وعموم ما فيه من العرض والجزاء وَمع ذلك هم عَلى رَبِّهِمْ ومربيهم لا على غيره من الأسباب والوسائل العادية يَتَوَكَّلُونَ يسلمون ويسندون عموم أمورهم اليه اصالة وكيف يكون للشيطان استيلاء على المؤمنين الموقنين إذ هم يعادونه عداوة شديدة ويخاصمون معه خصومة مستمرة ازلية ابدية
إِنَّما سُلْطانُهُ واستيلاؤه عَلَى المبطلين المدبرين الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ويحبونه ويقبلون منه قوله ويستمعون إغواءه ويطيعون امره واغراءه وَكذا على الَّذِينَ هُمْ بِهِ اى بسبب اغوائه واغرائه ووسوسته مُشْرِكُونَ بالله الواحد الأحد المنزه عن الشريك والولد مطلقا.
ثم قال سبحانه وَمن كمال قدرتنا ووفور حكمتنا نسخ بعض آياتنا وتبديله بالآيات الاخر بالنسبة الى بعض الأعصار والأزمان فانا إِذا بَدَّلْنا آيَةً ناسخة مَكانَ آيَةٍ منسوخة لحكمة ظهرت علينا ومصلحة لاحت لدينا حسب ما جرى في حضرة علمنا وثبت في لوح قضائنا فلا بد ان لا نسأل عن نسخنا وتبديلنا بل عن عموم أفعالنا مطلقا ولا يسند فعلنا الى غيرنا وَكيف يسند فعله سبحانه لغيره إذ اللَّهُ المطلع لعموم ما كان ويكون اطلاع حضور وشهود أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ حسب الأوقات والأزمان فله نسخ ما ثبت واثبات ما نسخ بالإرادة والاختيار ولهذا قالُوا اى المشركون المعاندون حين ظهر في القرآن نسخ بعض الآيات المثبتة فيه واثبات بعض المنسوخات القديمة متهكمين طاعنين إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ اى ما أنت ايها المدعى للرسالة والوحى الا مفتر كذاب قد قلت بقول من تلقاء نفسك ثم ظهر لك ما فيه من السماجة بدلته بأخرى بمقتضى اهويتك وأمانيك ونسبته الى ربك افتراء ومراء مع انك قد أخبرت ان ربك يقول ما يبدل القول لدى وبالجملة كل ذلك اى النسخ والتبديل والإنزال والإرسال من عندنا لحكمة ظهرت علينا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حكمة النسخ والتبديل في الاحكام لذلك ينكرونه
قُلْ لهم يا أكمل الرسل ما انا مفتر في هذا النسخ والتبديل بل قد نَزَّلَهُ اى القرآن رُوحُ الْقُدُسِ يعنى جبرائيل عليه السّلام على هكذا وهو منزه عن جميع النقائص فكيف عن الافتراء وأوصاني انه منزل مِنْ رَبِّكَ الذي رباك بأنواع التربية إليك وقد ايدك بهذا الكلام المعجز ملتبسا بِالْحَقِّ وبالصدق المطابق للواقع بلا شائبة شك وتردد فيه وانما أنزله سبحانه لِيُثَبِّتَ ويقرر بامتثال ما فيه من الحكم والاحكام قلوب الَّذِينَ آمَنُوا تثبيتا شديدا وتقريرا بليغا في مرتبة اليقين العلمي وَليكون ايضا هُدىً اى هداية ورشدا للعارفين المتحققين المتمكنين في مرتبة اليقين العيني وَليكون ايضا بُشْرى اى بشارة وتمكينا وتشريفا وتوطينا لأرباب الكشف والشهود في مرتبة اليقين الحقي كل ذلك لِلْمُسْلِمِينَ المسلمين أمورهم كلها الى الله طوعا ورغبة
ثم اخبر سبحانه عن مطاعن المشركين في حق القرآن والرسول فقال وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ(1/438)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
لا يسلمون نزول القرآن منا وحيا وإلهاما بل يكذبونك يا أكمل الرسل في نسبتك انزاله إلينا تكذيبا شديدا بل يَقُولُونَ لك ما هو الا مفتر بل إِنَّما يُعَلِّمُهُ هذا بَشَرٌ اى عبد رومي او رجل آخر من العجم او رجال أخر على ما قالوا وكيف يقولون وينسبون أولئك المعاندون المكابرون هذا إليك والى كتابك مع ان الشأن والأمر لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ اى يميلون وينسبون إِلَيْهِ هكذا عنادا ومكابرة أَعْجَمِيٌّ مغلق غير بين وأنت عرب لا تفهم لغتهم قط وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ فصيح مُبِينٌ ظاهر واضح بليغ في أعلى مراتب البلاغة بحيث قد عجزت عن معارضته مصاقع الخطباء مع وفور معارضتهم وتحديهم ومع ظهور اعجازه واعتراف الكل بانه معجز لم يقبلوا حقيته ولم يصدقوا انه كلام الله
وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على وحدة ذاته وكمالات أوصافه وأسمائه قد طبع الله على قلوبهم وختمها بحيث لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ المضل المذل الى حقية كتابه ورسوله الذي انزل اليه بل وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في النشأة الاولى والاخرى
ثم قلب سبحانه ما افتروا برسول الله وإعادة عليهم فقال إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ على الله بنسبة كلامه الى غيره الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بِآياتِ اللَّهِ الدالة على كمال توحيده وَأُولئِكَ المفترون المسرفون هُمُ الْكاذِبُونَ المقصورون على الكذب والافتراء وكمال المراء من شدة قساوتهم وخباثة بواطنهم
وبالجملة مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ المستحق للايمان والعبودية سيما قد ارتد مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ اى من بعد ما قد آمن له العياذ بالله فقد استحق المقت والغضب الإلهي إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على الكفر وهدد بالقتل وانواع العقوبات حين العجز فأجرى كلمة الكفر على لسانه وَلكن قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ متمكن فيه راسخ في الاتصال غير متزلزل بلا مطابقة ولا موافقة بلسانه فهو باق على إيمانه فلا غضب عليه ولا عذاب بل له الأجر الجزيل والجزاء الجميل إذ العبرة في الايمان والكفر انما هي بالقلب إذ هما فعلان له اصالة وَلكِنْ من المغضوبين الملعونين مَنْ شَرَحَ وملأ بِالْكُفْرِ صَدْراً اعتقادا ورضا مستحسنا له مستطيبا إياه فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وقهر نازل مِنَ اللَّهِ المنتقم الغيور وَلَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جرمهم الذي هو ارتدادهم العياذ بالله
وما ذلِكَ اى تحسينهم الكفر واستطابتهم به الا بِأَنَّهُمُ قد اسْتَحَبُّوا واستطابوا الْحَياةَ الدُّنْيا اى الحيوة الصورية المستعارة الزائلة عَلَى حيوة الْآخِرَةِ التي هي الحيوة المعنوية الحقيقية السرمدية التي لا زوال لها أصلا وَايضا بسبب أَنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده لا يَهْدِي الى الايمان والتوحيد ولا يوفق على جادة المعرفة واليقين الْقَوْمَ الْكافِرِينَ المجبولين على الكفر والعناد بحسب اصل فطرتهم واستعدادهم
وبالجملة أُولئِكَ المجبولون على الكفر والعناد هم الَّذِينَ قد طَبَعَ اللَّهُ المنتقم الغيور وختم عَلى قُلُوبِهِمْ بحيث لا يفهمون ولا يتفطنون بسرائر الايمان والتوحيد أصلا ولا يتلذذون بلذاتها مطلقا لغلظ حجبهم وكثافتها وَقد طبع ايضا على سَمْعِهِمْ الى حيث لا يسمعون ولا يقبلون دلائل التوحيد واماراتها من ارباب الكشف واليقين وَعلى أَبْصارِهِمْ ايضا الى حيث لا ينظرون نظر عبرة وبصارة نحو المظاهر والآثار المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية وَبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز الحضور هُمُ الْغافِلُونَ المقصورون على الغفلة المؤبدة والنسيان التائهون في تيه الضلال والطغيان
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ بسبب طردهم(1/439)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
وخذلانهم فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والحرمان السرمدي
ثُمَّ بعد ما سمعت احوال أولئك المقهورين المطرودين إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل بأنواع الكرامات وأوصلك الى أعلى المقامات يجزى خير الجزاء تفضلا وإحسانا لِلَّذِينَ هاجَرُوا عن بقعة الإمكان سيما بعد ما كوشفوا بما فيها من الخذلان والخسران وانواع الرذائل والحرمان وذلك مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا بأنواع الفتن والمحن باستيلاء جنود الامارة عليهم ثُمَّ جاهَدُوا معها بترك مألوفاتها وقطع تعلقاتها وبصرفها عن مشتهياتها ومستلذاتها وَصَبَرُوا على متاعب الرياضات ومشاق المجاهدات الى ان صارت امارتهم مطمئنة راضية مرضية وبعد قطع مسالك السلوك ومنازل التزلزل والتلوين إِنَّ رَبَّكَ المفضل المحسن إليك يا أكمل الرسل والى من تبعك من خيار المؤمنين مِنْ بَعْدِها اى بعد ارتكاب المجاهدات والرياضات لَغَفُورٌ لهم يستر انانيتهم ويفنيهم عن هوياتهم مطلقا رَحِيمٌ لهم يمكنهم في مقام الرضا والتسليم مطمئنين مرضيين هب لنا من لدنك رحمة تنجينا عن التلوين وتوصلنا الى مكان التمكين بحولك وقوتك يا ذا القوة المتين.
واذكر يا أكمل الرسل المبعوث الى كافة الأنام يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ عاصية ومطيعة تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وذاتها وتهتم بشأنها بلا التفات منها الى شفاعة غيرها إذ هي يومئذ رهينة بما كسبت من خير وشر وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ طاعة او معصية وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ في جزائهم وأجورهم لا زيادة ولا نقصانا بمقتضى العدل الإلهي
وَبعد ما أراد سبحانه ان ينبه على اهل النعمة وارباب الرخاء والرفاهية ان لا يبطروا ولا يباهوا بما في أيديهم من النعم بل يقيموا ويديموا على شكرها وأداء حقها خوفا من زوالها وفنائها وانقلابها شدة ونقمة ضَرَبَ اللَّهُ المدبر لأمورهم مَثَلًا يعتبرون منه ويتعظون به قَرْيَةً هي مكة اوايلة قد كانَتْ نفوس أهلها آمِنَةً عن الخوف من العدو والجوع من نقصان الغلات والأثمار مُطْمَئِنَّةً بما عندهم من الحوائج بلا تردد ومشقة إذ يَأْتِيها رِزْقُها على الترادف والتوالي رَغَداً واسعا وافرا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من البلاد التي في حواليها ونواحيها وهم صاروا مترفهين متنعمين فيها الى ان بطروا وباهوا فَكَفَرَتْ أهلها بِأَنْعُمِ اللَّهِ الواصلة إليهم وأسندوها الى غير الله عنادا ومكابرة وخرجوا على رسول الله وطعنوا بكتاب الله المنزل عليه ونسبوه الى ما لا يليق بشأنه مكابرة فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بعد نزع خلعة الأمن والاطمئنان يعنى قد سار اثر الجوع والخوف في سائر أعضائهم وجوارحهم سريان اثر المذوقات في جميع أجزاء الجسد استعير لها اللبس لإحاطتها وشمولها والذوق لسريانها ونفوذها بحيث لا يخلو عن اثرهما جزء من أجزاء البدن كل ذلك بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بشؤم ما صنعوا من الكفر والكفران والتكذيب والطعن والعناد والاستكبار على العباد
وَكيف لا يأخذهم ولا يذيقهم لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ أفضل وأكمل من جميع الرسل الماضين مصحوبا مع كتاب كامل شامل أكمل واشمل من سائر الكتب السالفة فَكَذَّبُوهُ أشد تكذيب وأنكروا له افحش انكار فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ العاجل وهو الجدب الواقع بينهم او وقعة بدر وَالحال انه في تلك الحالة هُمْ ظالِمُونَ خارجون عن مقتضيات الحدود الإلهية منكرون مكذبون على الله وعلى رسوله وعلى العذاب الآجل مطلقا وسيأخذهم ويلحقهم في النشأة الاخرى بأضعاف ما في النشأة الاولى وآلافه وإذا سمعتم ايها المؤمنون المعتبرون نبذا من أوصاف أولئك الأشقياء المغمورين(1/440)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
في بحر الغفلة والغرور البطرين بما معهم من اللذة والشرور وسمعتم ايضا أحوالهم واهوالهم عاجلا وآجلا بسبب كفرانهم وطغيانهم
فَكُلُوا أنتم مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ المصلح لأحوالكم حَلالًا مباحا بحسب الشرع طَيِّباً مما كسبتم بيمينكم على مقتضى سنة الله وحكمته وجرى عادته من خلق الأيدي والأرجل للمكاسب او مما اتجرتم وربحتم وهو ايضا معدود من الكسب وَبالجملة اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الذي قد أقدركم ومكنكم على الكسب إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ اى تطيعون وتقصدون عبادته برفع الوسائل والأسباب العادية عن البين
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ اى اعلموا ان ربكم ما حرم عليكم في دينكم هذا الا الميتة المائتة حتف انفه بلا تذكية وتسمية وَايضا قد حرم الدَّمَ المسفوح السائل من الحيوانات وَقد حرم ايضا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَكذا ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وسمى عليه حين الذبح من اسماء الأصنام والأوثان وسائر المعبودات الباطلة فَمَنِ اضْطُرَّ منكم ايها المؤمنون الى أكل هذه المحرمات حال كونه غَيْرَ باغٍ خارج على السلطان العادل المقيم المقوم لأصول الشرائع ومعالم الدين وَلا عادٍ مجاوز عن الحدود الشرعية لغرض فاسد من انواع المعاصي وقطع الطريق والإباق وغيرها فَإِنَّ اللَّهَ المطلع على سرائر عباده وضمائرهم غَفُورٌ يستر عليهم زلتهم الاضطرارية رَحِيمٌ يقبل توبتهم عنها
ثم نهاهم سبحانه عن التقاول بالأقوال الفاسدة من تلقاء أنفسهم ومقتضى اهوائهم كما يقوله المشركون المسرفون فقال وَلا تَقُولُوا ايها المتدينون بدين الإسلام المنزل على خير الأنام لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ اى لشيء تصف السنتكم إياه الوصف الكذب يعنى قد ظهر انه كاذب بلا ورود وحى واذن شرع بل من تلقاء انفسكم افتراء ومراء بان تقولوا هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ وتنسبوه الى الله لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ تزيينا لقولكم الباطل وترويجا له كما قالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا الآية إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ وينسبون عَلَى اللَّهِ المنزه عن مطلق الأباطيل الْكَذِبَ ظلما وزورا لا يُفْلِحُونَ ولا يفوزون بخير الدارين إذ نفعهم فيما يفترون ويكذبون
مَتاعٌ قَلِيلٌ ومنفعة حقيرة لا اعتداد بها وَلَهُمْ بسبب ذلك في النشأة الاخرى عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مؤبد لا نجاة لهم منه أصلا
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا قد حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل مِنْ قَبْلُ في سورة الانعام حيث قلنا وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية وَبالجملة ما ظَلَمْناهُمْ في تحريم ما حرمنا عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى هم ما يظلمون الا أنفسهم بارتكاب المعاصي والمناهي وترك المأمورات ورفض المندوبات لذلك عوقبوا وأخذوا بما أخذوا
ثُمَّ بشر سبحانه على عموم اصحاب المعاصي والآثام بالعفو والمغفرة والشفقة عليهم بعد ما تابوا وأنابوا الى الله وندموا عماهم عليه مخلصين فقال مخاطبا لحبيبه إِنَّ رَبَّكَ الذي بعثك يا أكمل الرسل الى كافة البرايا بشيرا ونذيرا يحسن ويرحم لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ والفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة المذمومة في الشرع مع كونهم في حين ارتكابها ملتبسين متصفين بِجَهالَةٍ ناشئة من عدم التدبر والتأمل بوخامة عواقبها شرعا مع تدينهم وقبولهم احكام الشريعة او كانوا ممن لا يؤمن ولا يقبل ما ورد به الشرع ثُمَّ تابُوا وندموا مِنْ بَعْدِ ما ارتكبوا ذلِكَ السوء وَأَصْلَحُوا حينئذ بالتوبة والاستغفار ما أفسدوا على نفوسهم بالفسق والإصرار إِنَّ رَبَّكَ المحسن المفضل على التائب المخلص مِنْ بَعْدِها اى بعد التوبة(1/441)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
والندم لَغَفُورٌ يستر عنهم زلتهم رَحِيمٌ يقبل منهم توبتهم
ثم أشار سبحانه الى فضائل خليله صلوات الرّحمن عليه وسلامه وكمال كرامته ونجابة فطرته وطهارة أصله وطينته وعلو شانه ورتبته وارتفاع قدره ومنزلته فقال إِنَّ جدك يا أكمل الرسل إِبْراهِيمَ الخليل الجليل الذي اختاره سبحانه لخلته واصطفاه لرسالته قد كانَ أُمَّةً قدوة واماما مقتدى به حقيقا لائقا للاقتداء به في الأمور الدينية إذ كان قانِتاً مطيعا لِلَّهِ راغبا الى امتثال مأموراته طوعا مجتنبا عن منهياته رغبة حَنِيفاً مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مطلقا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في حال من الأحوال بل هو رأس الموحدين ورئيس ارباب التحقيق واليقين
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ سبحانه صارفا لها الى ما قد جبلها الحق لأجله على الوجه الأعدل الا قوم المأمور من عنده سبحانه بلا تبذير ولا تقتير طالبا في صرفه وإنفاقه رضا الله بلا شوب شائبة من الرياء والسمعة لذلك قد اجْتَباهُ واختاره ربه لخلته واصطفاه لرسالته وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى زلال وحدته بلا عوج وانحراف
وَمن كمال خلتنا ومحبتنا إياه قد آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا من لدنا تفضلا عليه وإحسانا حَسَنَةً صورية بحيث لا ينقطع ولا ينفد آثار كرمه وجوده الى يوم القيمة وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لقبولنا الواصلين الى صفاء وحدتنا
ثُمَّ بعد ما ذكرنا لك يا أكمل الرسل نبذا من كمال استحقاقه ولياقته للمتابعة والاقتداء به قد أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تعظيما لشأنك ولشأنه عليه السّلام أَنِ اتَّبِعْ في إيصال الدعوة وتبليغ الرسالة واظهار الدين والاحكام وكذا في الرفق والتليين مع الأنام والحلم والتواضع معهم على ابلغ وجه ونظام مِلَّةَ إِبْراهِيمَ اى خصلة جدك الخليل الجليل عليك وعليه الصلاة والسّلام إذ قد كان هو في نفسه وملته ايضا بحسب حَنِيفاً مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط في عموم الأطوار والأخلاق والأفعال والأقوال وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المستكبرين لا في خلق من الأخلاق ولا في وصف من الأوصاف بل قد كان دائما مستويا على جادة التوحيد وعدالة اليقين والتحقيق لذلك صار اماما للأنام وقدوة لهم الى يوم القيام.
ثم قال سبحانه تعييرا على المشركين وتقريعا إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ اى ما قدر وفرض لحوق وبال يوم السبت وانواع العقوبات والمسخ عن لوازم الانسانية الا عَلَى المشركين الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وجادلوا مع نبيهم في تعيينه واختياره إذ قد أمرهم موسى عليه السّلام بتعظيم يوم الجمعة واتخاذها عيدا فأبوا معللين ان الله قد فرغ من خلق السموات والأرض في يوم السبت فنحن نوافقه ونتخذه عيدا فألزمهم الله تعظيم السبت وتحريم الصيد فيه فاحتالوا للاصطياد فيه فاصطادوا بالمكر فمسخهم الله ولحقهم من الوبال ما لحقهم في النشأة الاولى وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ويجادلون مع الرسل فيجازيهم ويعاقبهم على مقتضى ما صدر عنهم من الجرائم والآثام ثم أشار سبحانه الى تتميم تكريم حبيبه وتعظيم رتبته وتهذيب أخلاقه وتكميل حكمته في رسالته وتعميم رأفته ورحمته الى عموم البرية وكافة الخليقة إذ هو مبعوث على الكل بالرحمة العامة وهو خاتم الرسالة والنبوة ومكمل امر التشريع والتكميل إذ العلة الغائية والمصلحة العلية في عموم الشرائع والأديان وفي مطلق الإنزال والإرسال ما هي الا ظهور مرتبته ومكانته التي هي الدعوة الى التوحيد الذاتي ومتى ظهرت فقد كملت وتمت لذلك نزل في شأنه عليه السّلام كريمة اليوم أكملت لكم دينكم الآية وهي آخر آية نزلت من القرآن وقال ايضا صلّى الله عليه وسلّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فقال(1/442)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
سبحانه مخاطبا له عليه السّلام خطاب تمكين وتكريم إرشادا له وتعليما
ادْعُ يا أكمل الرسل إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ اى الى طريق توحيد مربيك الذي قد أرشدك الى معارج عنايته وهداك الى كمال كرامته كافة البرايا وعامة العباد بِالْحِكْمَةِ المتقنة البالغة الملينة لقلوبهم عن صلابة التقليدات الراسخة الموروثة لهم عن آبائهم وأسلافهم المصفية لنفوسهم عن الحمية الجاهلية المتمكنة فيها الخالية عن توهم السطوة والصولة والاستيلاء المثيرة لانواع الاعراض النفسانية المترتبة على القوى البشرية المزيلة لانواع الشبه والتخيلات الناشئة من الوسائل والأسباب العادية المقنعة لنفوسهم الى ان أخذوها دلائل مشيرة الى شواهد وتنبيهات متناسبة ملائمة للفطرة الاصلية التي فطر الناس عليها رجاء ان يتفطنوا ويتنبهوا بمقتضى جبلتهم وحسب فطرتهم الاصلية وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ المورثة لهم يقظة وانتباها من سنة الغفلة ورقود النسيان المحصلة لهم شوقا وسرورا الى مبدئهم ومنشئهم المرغبة لهم الى اللذات الروحانية الدائمة الباقية المستمرة ازلا وابدا بلا ورود زوال وانقضاء المنفرة عماهم عليه من العوائق والعلائق الناسوتية العائقة من اللذات الوهمية المقتضية المنقطعة المورثة لانواع المحن والأحزان وَان افتقرت يا أكمل الرسل في دعوتهم الى المجادلة معهم ومكالمتهم أحيانا جادِلْهُمْ بِالَّتِي اى بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق وأسلمها واعدلها من المقدمات المعتدلة الدالة على المساواة من كلا الجانبين برفق تام وتليين كامل ومسكنة وإرخاء عنان خال عن السطوة والتهور والغضب والتكبر والتجبر وعن الضحك والتمسخر والاستهزاء والتجهيل والتسفيه والتشنيع الشنيع كما يفعله عوام العلماء في مباحثاتهم ومحاوراتهم إذ هي بعيدة عن الحكمة بمراحل مثيرة لانواع الفتن والخصومات واصناف الأغراض النفسانية والأمراض الهيولانية ولك ايضا ان لا تبالغ في هدايتهم وايمانهم ولا تتشوش من ضلالهم وطغيانهم إذ ما عليك الا تبليغ ما أرسلت به واما حصول الهداية او الضلالة فيهم فأمر خارج عن وسعك وطاقتك إِنَّ رَبَّكَ المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم هُوَ أَعْلَمُ منك بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الموصل الى وحدة ذاته وَهُوَ أَعْلَمُ ايضا بِالْمُهْتَدِينَ منهم إذ قد قدر في سابق قضائه وحضرة علمه هدايتهم وضلالهم وكذا جميع ما جرى وسيجرى عليهم من شئونهم وتطوراتهم على التفصيل بحيث لا يشذ عن حيطة حضرة علمه شيء منها وبعد ما امر سبحانه حبيبه بما امر من آداب الدعوة واخلاق الرسالة والنبوة ومراعاة حقوق الأنام والمداراة معهم أشار الى المجاراة والمجازاة والقصاص والعقوبات الواقعة في امر الرسالة ووضع التشريع والتبليغ إذ هي مبنى على الأمر بترك المألوفات ورفض العادات والاعتقادات وترك التقليدات والتخمينات لذلك لا يخلو عن المنازعات والمخاصمات المؤدية الى انواع الجنايات فقال سبحانه مخاطبا له ولمن تبعه من المؤمنين
وَإِنْ عاقَبْتُمْ ايها المؤمنون منتقمين عنهم فَعاقِبُوا اى فعليكم ان تعاقبوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ لا أزيد منه إذ الزيادة منافية لاعتدال الايمان والتوحيد وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ايها المؤمنون على ما أصابكم من العقوبات وأعرضتم عن الانتقام صفحا وكظمتم الغيظ كظما لَهُوَ اى العفو والكظم خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ الذين صبروا على ما أصابهم من المكاره المسترجعين الى الله مسندين انزاله اليه سبحانه بلا رؤية الوسائل في البين بل هم يعدون العناء عطاء والترح فرحا والنقمة نعمة والمحنة منحة لصدور الكل من الله سبحانه بلا رؤية الأسباب العادية في البين وبعد ما قد خاطب واوصى سبحانه للمؤمنين بالصبر والعفو على وجه العموم وترك الانتقام خص رسوله صلّى الله عليه وسلّم من بينهم بهذا الخطاب(1/443)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
المستطاب لكونه أحق واولى بامتثال أمثاله إذ هو جامع جميع مراتب الكمال بالاستحقاق والاستقلال
فقال وَاصْبِرْ ايها المتحقق المتمكن في مقر التوحيد المسقط لجميع الإضافات على عموم ما جرى عليك من الأذيات المترتبة على بشريتك وناسوتك وَاعلم يقينا انه ما صَبْرُكَ وكظمك بعد فنائك عن لوازم بشريتك إِلَّا بِاللَّهِ المتجلى عليك بكمال الإطلاق الى ان قد اخلع عنك لوازم ناسوتك بالمرة وما بقيت فيك الا لوازم لاهوتك وظاهر انه لا يجرى فيها المنكر والمكروه والجناية والقصاص والخطاب والعتاب وَايضا لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ اى مما جرى على المؤمنين من الأمور المشوشة لهم والمنافرة وَبالجملة لا تَكُ بعد انشراح صدرك بالتوحيد الذاتي فِي ضَيْقٍ اى ضيق صدر وكآبة وحزن مِمَّا يَمْكُرُونَ أولئك المحجوبون الماكرون المعاندون المكابرون معك ومع من تبعك من المؤمنين
إِنَّ اللَّهَ المختبر لرسله وأنبيائه وأوليائه وخواص عباده بأنواع الأذى والمحن الجسمانية مَعَ الصابرين الَّذِينَ اتَّقَوْا وحفظوا أنفسهم عن المبادرة الى المعاداة وحذروها عن مطلق الانتقام سيما وقت القدرة طلبا لمرضاة الله وجريا على مقتضى توحيده وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ سيما على من أساء إليهم رفقا لهم وتلطفا معهم ابتغاء لمرضاة الله وتثبيتا في طريق توحيده. أذقنا حلاوة توحيدك وصبرنا على عموم ما جرى علينا من المحن والعناء طلبا لمرضاتك انك على ما تشاء قدير
خاتمة سورة النحل
عليك ايها المسترشد البصير والمستبصر الخبير أرشدك الله الى امتثال ما سمعت في هذه السورة من الأخلاق والمواعظ سيما في الكريمة المذكورة آنفا ورزقك الاتصاف بما فيها من الحكم والآداب والأخلاق المرضية والسجايا الفاضلة ان تتأمل وتتعمق فيها حق التأمل والتعمق حال كونك خاليا عن مطلق الكدورات العارضة لك من طغيان القوى البهيمية والحمية الجاهلية تاركا عموم ما غرض عليك من الاعراض النفسانية المترتبة على الأمور العادية المستلزمة لانواع الضلال والفساد من التفوق على الأقران والترفع على الاخوان والتكبر على ضعفاء الأنام والتلذذ بالسمعة والريا المثيرة لأصناف الأهواء الفاسدة والآراء الباطلة التي لا يمكن قلعها وقمعها أصلا سيما قد تمرنت ورسخت فلك ان تراجع وجدانك لتتنبه وتتذكر باى شيء أردت الترفع وقصدت التفوق والتفضل اما ترى ايها الأحمق ان منشأك ماذا اما استحييت التفوه من ذا وهذا واما قصة كرامتك وخلافتك التي هي من المواهب الإلهية والعطايا الغيبية فإنما هي مبنية على محض التذلل والتواضع والخضوع والانكسار مع كل ذرة من ذرائر الكائنات إذ مبناه على الحكمة المتقنة المنشعبة من اسرار الرسالة والنبوة وهي عبارة عن اعتدال جميع الأوصاف والأطوار وتزكية النفس عن عموم الرذائل والأخلاق الرديئة بل هي مبنية على افناء مقتضيات الأوصاف البشرية رأسا والانخلاع عن البسة الناسوت مطلقا ارادة واختيارا وبالجملة من أنصف على نفسه أدرك ان جميع ما في نفسه سوى التذلل والانكسار والمسكنة والافتقار حال كونه خاليا عن شوب الريا والسمعة والعجب والجربزة ما هي إلا رعونات صدرت عن طغيان القوى البهيمية المؤيدة بالعقل المستعار المموه بتمويهات الأوهام الباطلة وتزيينات الخيالات الكاذبة العاطلة هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن ظلمة انانيتنا ولذة تلجئنا الى سلوك طريق الفناء الموصل الى شرف البقاء واللقاء انك أنت الوهاب(1/444)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
[سورة الإسراء]
فاتحة سورة الإسراء
لا يخفى على من سلك نحو توحيد الحق سلوكا تدريجيا طالبا الترقي من مرتبة الى مرتبة أعلى منها وارفع رتبة ومكانة ان لكل واحد من ارباب الولاء الطالبين للعروج الى معارج التوحيد معراجا مخصوصا ومقصدا معينا ومشربا خاصا مقدرا عند الله مثبتا في لوح قضائه وحضرة علمه وان كان مقصدا لكل بحسب الذات واحدا الا انه قد وقع التفاضل والتفاوت في المعارج لحكم ومصالح لا يعلمها الا هو فلا بد للسالك المسترشد ان يستكمل ويسترشد الى ان يصل الى معراجه المعين المقدر له من عنده سبحانه فإذا وصل اليه وحصل دونه فقد أدرك معراجه ونال مقره ومقصده من التوحيد وعند ذلك انقطع سيره وتم سلوكه وبعد ذلك سار وسلك فيه لا به واليه الى ان حار وفنى وليس وراء الله مرمى ومنتهى واشرف المعارج وأكملها وأتم المراقي وأعلاها وأشملها معراج نبينا صلّى الله عليه وسلّم إذ قد انكشف له التوحيد الذاتي الى حيث قد شهد الحق شهودا عينيا حقيا وتكلم معه كلاما تفصيليا بلا كيف واين وبلا وضع وجهة لا مقابلة ولا مقارنة ولا قرب ولا بعد بل حضور وسرور وحصول ووصول لا يفهمها الا ذوو الأذواق الصحيحة والمشارب الصافية من ارباب العناية الفائزين بالفوز العظيم بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم وذلك بعد انخلاعه عن جلباب ناسوته وتشرفه بخلعته اللاهوتية لذلك أسند سبحانه اسراءه صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج الى نفسه تفضلا عليه وتكريما فقال متيمنا باسمه العظيم بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى لحبيبه بمقتضى ذاته المستجمع لجميع أوصافه لذلك قد صارت مرتبته جامعة لجميع المراتب وغاية لعموم شئون الحق وتطوراته الرَّحْمنِ له يوصله الى ذروة معارج عنايته ظاهرا الرَّحِيمِ له يخرجه عن بقعة الإمكان ويهديه الى فضاء الوجوب باطنا
[الآيات]
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى نزه سبحانه ذاته مما يجب تنزهه عنه في حضرة علمه وأبهم اسمه حسب تعاليه وترفعه في ذاته عن افهام عباده وأوصله بالاسراء الحقيقي الذي هو عبارة عن إخراج العبد من ظلمة الإمكان الذي هو الليل الحقيقي الى نور الوجوب الذي هو النهار الحقيقي بِعَبْدِهِ يعنى حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعد ما قد اخلع عنه كسوة ناسوته بالمرة والبسه خلعة من خلع لاهوته بحيث قد تجرد عن مقتضيات بشريته مطلقا وارتفعت عنه حجب تعيناته جملة وانكشفت دونه سدول الغفلات وأستار الغشاوات عن بصر بصيرته رأسا وحينئذ قد انطوت المسافات مطلقا لَيْلًا اى في قطعة منه صرح به وان كان الإسراء في اللغة عبارة عن السير في الليل ليعلم ان ابتداءه وانتهاءه كان فيه مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرم عنده ما أبيح في الأماكن الاخر من الصيد وغيره الا وهو عبارة عن قلب الإنسان الكامل الذي هو بيت الله الأعظم حقيقة وقد حرم فيه التوجه الى الغير والسوى مطلقا وان كان مبنيا في بقعة جسدانية امكانية إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ وكثرنا الخير والبركة على زوارها وساكنيها الا وهو البيت المعمور الأبدي الأزلي الذي هو الوجود المطلق المفيض المنبسط على كافة المظاهر وحوله اى حواليه كناية عن مقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية وزوارها عبارة عن استعدادات المظاهر وقابلياتها المستفيدة منها الناشئة عن اظلال أوصافها وانما اسريناه هكذا لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا ووفور جودنا وكرامتنا إِنَّهُ اى الشأن انه صلّى الله عليه وسلّم بعد تجرده عن جلباب تعينه وهويته الناسوتية هُوَ السَّمِيعُ بسمعنا فيسمع بنا منا الْبَصِيرُ ببصرنا(1/445)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
فيبصر ببصرنا عجائب صنعنا وغرائب مبدعاتنا
وَكما أيدنا حبيبنا بما أيدناه من الإسراء به واراءة عجائب صنعتنا وقدرتنا إياه بان سيرناه من مكة في ساعة وآن الى البيت المقدس ثم منها الى فوق السموات السبع وقد مثلنا له فيها أرواح الأنبياء والأولياء فتكلم معهم ثم منها الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله وقد اخبر عنه سبحانه وعن قربه وصوله صلّى الله عليه وسلّم اليه بقوله دنى فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى فسمع كلاما بلا كيف لا من جنس الأصوات والحروف كذلك قد آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تأييدا له وتنفيذا لأمرنا إياه الى ان خصصناه بتكلمنا معه بلا كيف وكرمناه بأنواع الكرامات وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ هاديا لهم يهديهم الى توحيدنا وتقديس ذاتنا عن الأشباه والأنداد مطلقا وامرناهم فيه أَلَّا تَتَّخِذُوا ايها المتحيرون في الخطوب والوقائع مِنْ دُونِي وَكِيلًا وشريكا لي وكفوا تتكلون اليه في أموركم غيرى إذ ليس في الوجود سواي فعليكم ان تتخذونى وكيلا وتفوضوا أموركم كلها الى وتأخذونى كفيلا إذ لا معبود لكم غيرى ولا مرجع لكم سواي
يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا بمقتضى جودنا مَعَ نُوحٍ حين استولى الطوفان على وجه الأرض فهلك كل من عليها الا من آمن لنوح وحملناهم معه في السفينة فأنجيناه اصالة ومن معه تبعا له من المؤمنين إِنَّهُ يعنى نوحا قد كانَ عَبْداً شَكُوراً مبالغا في أداء الشكر مواظبا عليه على وجه الخضوع والخشوع فلكم ان تقتفوا اثر اسلافكم الذين هم اصحاب سفينة نوح عليه السّلام وهم مؤمنون مصدقون له فلكم ان تؤمنوا بمن أرسل إليكم لإصلاح أحوالكم وتصدقوا كتابه
وَاعلموا انا قد قَضَيْنا وأوحينا مقسما إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ المنزل عليهم على وجه الإيذان والأعلام تنبيها وتذكيرا والله لَتُفْسِدُنَّ أنتم فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ مرة بمخالفة احكام التورية وقتل شعيا ومرة بقتل يحيى وزكريا وبقصد قتل عيسى عليهم السّلام كل ذلك من أعظم الجرائم عند الله وَمع ذلك لَتَعْلُنَّ ولتستكبرن عتوا وعنادا على الأنبياء استيهانة واستخفافا وسخرية واستهزاء عُلُوًّا كَبِيراً بحيث لا تبالون لهم ولا تعدونهم من العقلاء بل تسفهونهم تارة وتكذبونهم اخرى فاعلموا ايها المسرفون انا ننتقم منكم في النشأة الاولى لكل جريمة صدرت عنكم من الجريمتين العظيمتين
فَإِذا جاءَ وَعْدُ انتقام أُولاهُما اى اولى الجريمتين بَعَثْنا وسلطنا عَلَيْكُمْ حين أردنا الانتقام منكم والأخذ عليها عِباداً لَنا منتقمين عنكم من قبلنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وشوكة عظيمة وصولة قوية قاهرة وهم إذا دخلوا عليكم فَجاسُوا اى تجسسوا وترددوا لطلبكم خِلالَ الدِّيارِ ووسطها للقتل والاستئصال وَقد كانَ ما ذكر من الانتقام وَعْداً من الله مَفْعُولًا حقا عليه سبحانه إنجازه وإيقاعه وذلك حين استولى بختنصر عليهم فقتل كبارهم وسبى صغارهم ونهب أموالهم وخرب بلدانهم وخرق التورية وخرب الأقصى
ثُمَّ بعد ما ضعفناكم واخذناكم قد رَدَدْنا وأعددنا لَكُمُ الْكَرَّةَ اى الدولة والصولة والغلبة عَلَيْهِمْ اى على أعدائكم وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ عظام وَبَنِينَ معاونين ناصرين وَجَعَلْناكُمْ في الكرة الثانية أَكْثَرَ نَفِيراً من الكرة الاولى واكثر عسكرا وجنودا منها
وبالجملة إِنْ أَحْسَنْتُمْ لبنى نوعكم خالصا لوجه الله وآمنتم بالله لتزكية نفوسكم أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ إذ فوائد الايمان والإحسان انما هي عائدة إليكم وَإِنْ أَسَأْتُمْ لهؤلاء وكفرتم بالله ورسله فَلَها اى وبال اساءتكم ايضا عائد عليها إذ الله في ذاته غنى عن احسان المحسن واساءة(1/446)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
المسيء مطلقا فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ اى وقت انتقام الجريمة الاخيرة بعثنا عليكم ايضا عبادا لنا اولى بأس شديد وبسطة قوية وبطش محكم متناه في الصولة والسطوة هو ططوس الرومي وقيل ملك الفرس اسمه جودرز وقيل حردوس وانما بعثناهم عليكم لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ اى ليسؤا معكم بحيث قد ظهرت آثار أساءتهم وإذلالهم إياكم من وجوهكم وَلِيَدْخُلُوا هؤلاء ايضا الْمَسْجِدَ الأقصى وخربوه كَما دَخَلُوهُ وخربوه أَوَّلَ مَرَّةٍ في استيلاء بختنصر واحرق هؤلاء الكتب ايضا كما احرقوا وَلِيُتَبِّرُوا وليهلكوا ما عَلَوْا وما قدروا عليه وغلبوا تَتْبِيراً هلاكا كليا بحيث لا ينجو منهم احد قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلى فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال ما هو الا كذب فقتل منهم الوفا عليه ثم قال ان لم تصدقوني ولم تبينونى دم من هو هذا ما تركت منكم أحدا فلما اضطروا قالوا انه دم يحيى النبي عليه السّلام قد قتلناه ظلما فقال لمثل هذا ينتقم الله المنتقم الغيور عنكم ثم قال ملتفتا الى الدم يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاسكن من الغلى قبل ان لا أبقى أحدا منهم فسكن ولم يقتل بعد هذا.
ثم قال سبحانه عَسى رَبُّكُمْ يا بنى إسرائيل وقرب أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الثانية ان تبتم عن جرائمكم ومعاصيكم وَإِنْ عُدْتُمْ إليها ثالثا عُدْنا الى الانتقام والعذاب ثالثا وهكذا رابعا وخامسا وقد عادوا في النوبة الثالثة بتكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم وقصدوا قتله فأعاد الله عليهم الخزي بان سلط المسلمين عليهم فقتلوهم واسروهم وضربوا الجزية على ما بقي منهم وبالجملة قد صاروا مهانين أذلاء صاغرين الى قيام الساعة هذا في النشأة الاولى وَفي النشأة الاخرى جَعَلْنا جَهَنَّمَ البعد والخذلان وسعير الطرد والحرمان لِلْكافِرِينَ حَصِيراً محبسا ومضيقا بحيث لا ينجون منها ابد الآباد ومن أراد نجاة الدارين وخير النشأتين فعليه الامتثال والانقياد بعموم الاحكام الموردة في القرآن المنزل على خير الأنام
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الفارق بين الهداية والضلال والحق والباطل والحرام والحلال يَهْدِي ويرشد لِلَّتِي للطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ الطرق واعدلها وأوضح السبل وأبينها الى التوحيد المنجى عن ظلمات النشأتين وَيُبَشِّرُ ايضا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ المأمورة فيه المقربة الى التوحيد الذاتي أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً الا وهو الفوز بشرف اللقاء والتحقق عند سدرة المنتهى
وَيخبر القرآن ايضا أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولم يصدقوا ما فيها من الحساب والعقاب والصراط والسؤال وجميع ما فيها قد أَعْتَدْنا وهيأنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما مخزنا لرؤيتهم المؤمنين مترفين متنعمين في الجنة مترفهين وهم في النار مهانون صاغرون
وَمن جملة الأخلاق المذمومة والديدنة القبيحة المستهجنة يَدْعُ الْإِنْسانُ مسرعا مستعجلا بِالشَّرِّ الملحق له من غير علم بشريته ووخامة عاقبته دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ اى مثل دعائه بالخير في السرعة والاستعجال وَبالجملة قد كانَ الْإِنْسانُ خلق في جبلته واصل فطرته عَجُولًا مسرعا مستعجلا على كل ما يميل اليه وان كان مضر اله
وَمن كمال رحمتنا واشفاقنا لعموم عبادنا قد جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ دالتين على قدرة القادر العليم الحكيم بتواليهما على نسق واحد مع إمكان غيره فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ باشراق النهار وإضاءته وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ذا نور واضاءة لِتَبْتَغُوا وتطلبوا فَضْلًا وعطايا ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ لتعيشوا بها وتقوموا امزجتكم منها وَلِتَعْلَمُوا بتجدد الملوين وتكرر الجديدين عَدَدَ السِّنِينَ(1/447)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
وَالْحِسابَ المتداولة بينكم في معاملاتكم وحراثتكم وتجاراتكم وَبالجملة كُلَّ شَيْءٍ تحتاجون اليه في امور معاشكم ومعادكم قد فَصَّلْناهُ بيناه وأوضحناه لكم وعلمنا طريق وصولكم ونيلكم اليه تَفْصِيلًا وتبيينا واضحا لائحا فعليكم ان تتخذونى وكيلا في عموم حوائجكم الدنيوية والاخروية
وَاعلموا ان كُلَّ إِنسانٍ يعنى كل فرد فرد من نوع الإنسان قد أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ يعنى بعد ما رتبنا امور معاش الإنسان ومعاده على ما ينبغي ويليق بحاله كتبنا جميع ما صدر عنه من الأعمال الصالحة والفاسدة في مكتوب جامع لها محيط بها وعلقناه في عنقه تعليقا لازما شبه الأعمال بالطائر لان الإنسان يطير ويميل نحو السعادة والشقاوة بما صدر عنه من الأعمال كأن الأعمال جناح له وَبعد انقضاء النشأة الاولى المعدة للاختبار والاعتبار نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً حاويا لعموم ما صدر عنه في دار الابتلاء يَلْقاهُ وينال اليه مَنْشُوراً على رؤس الملأ والاشهاد تعظيما وتكريما او تفضيحا وتقريعا
وحين لقياه بكتابه يقال له اقْرَأْ ايها المكلف في دار الابتلاء بأنواع التكاليف والمأمور فيها بامتثال الأوامر وترك المناهي كِتابَكَ هذا اى صحيفتك المشتملة على عموم ما صدر عنك إذ قد كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ اى كفى نفسك اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً محاسبا كافيا وشهيدا شاهدا بلا احتياج لك الى محاسب آخر سواك
وبالجملة مَنِ اهْتَدى في النشأة الاولى بمتابعة ما امر ونهى فَإِنَّما يَهْتَدِي وما يفيد الا لِنَفْسِهِ إذ نفع الهداية انما هو الوصول الى مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية التي قد جبل الإنسان عليها وهذا عائد الى نفس الموحد بلا سراية الى غيره الا على وجه الإرشاد والتنبيه وَكذا مَنْ ضَلَّ عن طريق الحق وانحرف عن مسلك التوحيد بترك المأمورات وارتكاب المنهيات فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها اى ما يعود وما يرجع وبال ضلالها الا على نفسها بلا سراية الى غيرها الا تسببا واضلالا وَبالجملة لا تَزِرُ ولا تحمل نفس وازِرَةٌ عاصية آثمة وِزْرَ نفس أُخْرى مثلها بل كل نفس رهينة بما كسبت سواء كان خيرا او شرا وبعد ما قد قرر سبحانه ان الهداية والضلال لا تسرى الى الغير أراد ان يبين سبحانه ان الأخذ والانتقام على الضلال انما هو بعد الإرشاد والتنبيه فقال وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ لأهل الغفلة والضلال حَتَّى نَبْعَثَ ونرسل إليهم رَسُولًا منهم حين ظهر عنهم ولاح عليهم علامات الفسوق والعصيان وامارات الضلال والطغيان ليبين لهم أولا طريق الهداية ويرغبهم نحوها ويجنبهم عن الضلال وينفرهم عنه وبعد ما بعثنا عليهم وأرسلنا إليهم رسلا ان لم يقبلوا قول الرسل ولم يمتثلو بما أمروا على ألسنتهم ونهوا قد أصروا على ما هم عليه من الضلال أخذوا وعذبوا
وَ
بذلك قد جرت سنتنا المستمرة انا إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ
ونستأصل قَرْيَةً
مستحقة للاهلاك والاستئصال أَمَرْنا
أولا مُتْرَفِيها
ومتنعميها بالاطاعة والانقياد لنبي أرسل إليهم من لدنا فَفَسَقُوا فِيها
وخرجوا عن مقتضى ما أمروا ونهوا على لسان نبيهم ولم يبالوا به فَحَقَ
فقد ثبت واستقر عَلَيْهَا الْقَوْلُ
اى على اهل القرية العذاب الموعود المعهود حقا حتما واستحقوا بحلوله جزما فَدَمَّرْناها
وأهلكنا أهلها بسبب فسقهم وخروجهم عن الإطاعة والامتثال بالمأمور تَدْمِيراً
اى إهلاكا كليا واستئصالا حقيقيا الى حيث لم يبق منهم ومن عمرانهم ودورهم ومنازلهم واطلالهم شيء
وَليس أمثال هذا الإهلاك ببدع منا بل كَمْ اى كثيرا قد أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ الماضية مِنْ بَعْدِ إهلاك قوم نُوحٍ كعاد(1/448)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
وثمود لعتوهم وعنادهم مع رسل الله وَلا يحتاج في اثبات ضلال أولئك الضالين المضلين الى شاهد ومبين بل كَفى بِرَبِّكَ اى كفى ربك يا أكمل الرسل بِذُنُوبِ عِبادِهِ وخروجهم عن أطاعته وانقياده خَبِيراً إذ هو سبحانه عالم بعموم ما في سرائر عباده وبما في ضمائرهم بل بما في استعداداتهم وقابلياتهم بَصِيراً بما في علنهم وظواهرهم
وبالجملة مَنْ كانَ منهم يُرِيدُ اللذات الْعاجِلَةَ والشهوات الفانية الزائلة عَجَّلْنا وأعطينا لَهُ فِيها اى في النشأة الاولى ابتلاء له واختبارا وتلبيسا عليه واغترارا ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ لأنا مطلعون على ما في سره وضميره ثُمَّ جَعَلْنا وهيأنا في النشأة الاخرى لَهُ جَهَنَّمَ منزل الطرد والحرمان حال كونه يَصْلاها ويطرح فيها مَذْمُوماً مشؤما محروما مَدْحُوراً مطرودا مقهورا
وَمَنْ أَرادَ منهم بامتثال الأوامر المتعلقة بمصالح الدين وباجتناب نواهيه المخلة له الْآخِرَةَ اى اللذات الاخروية الابدية وَسَعى لَها سَعْيَها واجتهد فيها بمقتضى الأمر الإلهي وَالحال انه هُوَ في حال السعى والاجتهاد مُؤْمِنٌ موقن مصدق بوحدانية الله وبعموم ما نزل من عنده على رسله بلا شوب تزلزل وتردد فَأُولئِكَ السعداء المقبولون قد كانَ سَعْيُهُمْ واجتهادهم في امتثال الأوامر واجتناب النواهي مَشْكُوراً مقبولا مستحسنا وعملهم مبرورا وجزاؤهم موفورا وهم كانوا في دار الجزاء مغفورين مسرورين
كُلًّا نُمِدُّ اى كل واحد من الفريقين المطيع والعاصي نيسر ونوفق له بمقتضى ما يهوى ويريد هؤُلاءِ المؤمنين المطيعين نوفقهم على الطاعات ونجنبهم عن المعاصي وَهَؤُلاءِ الكافرين العاصين نيسر لهم ما يميل اليه نفوسهم من الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة إذ كل ميسر لما خلق له وبالجملة كل ذلك مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يا أكمل الرسل الذي رباك وعموم عباده بأنواع اللطف والكرم وَكيف لا ييسرهم سبحانه ولا يوفقهم الى ما يعنيه نفوسهم إذ لا رازق لهم سواه ولا معطى لهم غيره لذلك ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ممنوعا عن الكافر لكفره وعصيانه موفورا على المؤمنين لإيمانه بل لا يعلل فعله بالإعراض والأعواض مطلقا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ارادة واختيارا والتفاوت الجاري بين عباده انما هو لحكمة ومصلحة قد استأثر الله به في غيبه لا اطلاع لاحد عليه
لذلك قال سبحانه انْظُرْ ايها الناظر المعتبر كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ في النشأة الاولى بالمال والجاه والثروة والرياسة عَلى بَعْضٍ مبتلى بالفقر والمسكنة وانواع المذلة والهوان وَلَلْآخِرَةُ المعدة للذات الروحانية ولانواع الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات أَكْبَرُ دَرَجاتٍ لبقاء لذاتها ابد الآباد وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا من الفضل المستعار الفاني الزائل بسرعة ومتى اعتبرت ايها المعتبر وتأملت ما فيه من العبر
لا تَجْعَلْ ولا تتخذ مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المتعزز برداء الفردانية إِلهاً آخَرَ كفوا له يعبد بالحق مثله وكيف تجعل وتأخذ ربا سواه والحال انه ليس في الوجود الا هو مع انك ان جعلت معه وأخذت الها سواه فَتَقْعُدَ أنت بعد جعلك واتخاذك ظلما وزورا خائبا خاسرا بل مَذْمُوماً عند الملائكة وعموم المؤمنين مَخْذُولًا عند الله يوم العرض الأكبر
وَكيف يتخذ ويثبت اله سواه مع انه قد قَضى رَبُّكَ يا أكمل الرسل وحكم حكما محكما مقطوعا مبرما أَلَّا تَعْبُدُوا اى بان لا تعبدوا ايها البالغون حد التكليف القابلون للعبادة والانقياد إِلَّا إِيَّاهُ إذ لا مستحق للعبادة والانقياد سواه وكيف لا هو المستقل بايجادكم واظهاركم بلا(1/449)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
مشاركة ولا مظاهرة فعليكم ان تعظموه وتوقروه وانقادوا له وتذللوا عنده غاية التذلل والخضوع وَبأن تحسنوا بِالْوالِدَيْنِ اللذين هما السببان الظاهريان لتربيتكم وظهوركم إِحْساناً سلسا طلقا فرحانا ضحكا على وجوههم بلا شوب المن والأذى سيما إِمَّا يَبْلُغَنَّ اى ان يبلغن عِنْدَكَ ايها الولد الْكِبَرَ اى سن الكهولة بحيث يعجز عن خدمة نفسه أَحَدُهُما اى احد الوالدين أَوْ كِلاهُما معا وبالجملة فَلا تَقُلْ لَهُما في عموم الأحوال سيما عند الكبر والكهولة أُفٍّ اى صوتا شديدا دالا على زجرهما وضجرهما وردعهما وَان خرجا عن مقتضى العقل وفعلا فعلا يجب لك صرفهما عنه لا تَنْهَرْهُما ولا تقهرهما كذلك زجرا عليهما بل وَقُلْ لَهُما ولصرفهما عما كانا عليه وذبهما عنه قَوْلًا كَرِيماً هينا لينا بلا غلظة وتشدد
وَبالجملة اخْفِضْ وابسط لَهُما جَناحَ الذُّلِّ والمسكنة والتواضع الناشئة مِنَ كمال الرَّحْمَةِ والشفقة عليهما وَلا تقتصر على الخفض والشفقة الدنياوية بل قُلْ لهما ولأجلهما مناجيا مع الله رَبِّ ارْحَمْهُما بمقتضى رحمتك الواسعة وجودك الشامل كَما رَبَّيانِي صَغِيراً اى ارحمهما حسب فضلك ورحمتك مثل رحمتهما وتربيتهما إياي في وقت صغرى وطفوليتى فعليكم ايها المكلفون ان تكونوا في دعائهما على العزيمة الصحيحة والمحبة الخالصة بحيث يكون بواطنكم موافقة لظواهركم مثل تربيتهما إياكم حالة صغركم ولا تتمنوا موتهما في قلوبكم
إذ رَبُّكُمْ المطلع على سرائركم أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من ابتغائكم موتهما او برهما وتكريمهما فالله سبحانه يعفو عنكم ويقبل توبتكم إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ مصلحين ما فوتم وأفسدتم على نفوسكم من حق تعظيمهما وتوقيرهما فَإِنَّهُ سبحانه من كمال فضله وجوده قد كانَ لِلْأَوَّابِينَ الرجاعين نحوه سبحانه النادمين عما صدر عنهم من المعاصي سيما بما يتعلق بعقوق الوالدين غَفُوراً يغفرهم ويتجاوز عنهم
وَلا تقتصر ايها الولد على تعظيم والديك فقط بل عليك تعظيم كل ما ينتمى إليك من قبلهما لذلك آتِ وأعط ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ اى حق تواضعهم وتوقيرهم ان كانوا اغنياء وأنفق عليهم ان كانوا فقراء وَآت ايضا من زكوات أموالك ومن فواضل صدقاتك الْمِسْكِينَ من الأجانب وهو الذي لا يقدر على قوته وقوت عياله وَابْنَ السَّبِيلِ ايضا الذي قد بعد بلده وليس معه مؤنة معاشه وكن في عموم انفاقك مقتصدا معتدلا وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إسرافا مفرطا خارجا عن حد الاعتدال سيما فيما لا يعنى ولا ينبغي إذ التبذير والتقتير كلاهما مذمومان عقلا وشرعا
لذلك قال سبحانه إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ المسرفين أموالهم رياء وسمعة كبرا وخيلاء قد كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أشباههم واتباعهم في صرف الأموال الموهوبة من الله غير المصرف وغير المستحق من المصارف بل قد صرفوها الى المحظورات والمكروهات باغواء الشياطين واغرائهم وَكانَ الشَّيْطانُ الغاوي الطاغي لِرَبِّهِ كَفُوراً لنعم الله فيغرى اتباعه الى الكفران ايضا.
ثم قال سبحانه وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اى ان تحقق اعراضك ومنعك عن هؤلاء المستحقين المذكورين سيما بعد ما سألوا عنك العطاء ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ اى طلب رحمة ومغفرة مرجوة مِنْ رَبِّكَ حال كونك تَرْجُوها اى الرحمة لهم لعلمك منهم بأنهم قد صرفوها الى المعاصي والقبائح فعليك ان تمنعهم وتردهم هينا لينا بلا غلظة وتشدد فَقُلْ لَهُمْ حين دفعهم ومنعهم قَوْلًا مَيْسُوراً سهلا سلسا بحيث لا ييأسوا ولا يحزنوا مثل ان تقول سهل الله علينا وعليكم ويسر لنا ولكم من فضله وجوده(1/450)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
وبعد ما نهى سبحانه عن التبذير صريحا والاعراض عمن صرف النعمة الى المعصية نهى سبحانه عن مطلق البخل والتبذير المذمومين تأكيدا ومبالغة
فقال وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً معقودة إِلى عُنُقِكَ بحيث لا يسع لك إعطاء شيء مما رزق الله لك على مستحقيه شحا وبخلا إذ هو افراط وتقتير وَايضا لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ بحيث لا ثبات ولا قرار عندك وفي يدك للأموال والأرزاق المسوقة نحوك لمصلحة الخيرات وبناء الخانات والرباطات وسائر مصالح العباد أصلا فهذا تفريط وتبذير وكلاهما مذمومان شرعا وعقلا فعليك بالاقتصاد الذي هو عبارة عن الكرم والجود والسماحة الممدوحة عند ارباب المروة والفتوة ألا وهو صراط الله الأعدل الأقوم فَتَقْعُدَ بعد اتصافك بالبخل والتقتير مَلُوماً عند الله وعند الملائكة والناس أجمعين وان اتصفت بالإسراف والتبذير تقعد مَحْسُوراً نادما متحسرا قلقا حائرا في نظم معاشك
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ الصوري والمعنوي ويوسعه لِمَنْ يَشاءُ من عباده بمقتضى علمه بحالهم وسعة استعدادهم وقابلية حوصلتهم وَيَقْدِرُ اى يقبض ويضيق على من يشاء منهم بمقتضى علمه بضيق صدورهم وقلة تمكنهم ووقارهم وحكمتهم واعتدالهم إذ الله العليم الحكيم المتقن في أفعاله لا يتجاوز عن مقتضى حكمته وكيف يتجاوز إِنَّهُ سبحانه قد كانَ بِعِبادِهِ عليما خَبِيراً عن بواطنهم وضمائرهم وما يئول اليه أمورهم بَصِيراً بظواهر أحوالهم وتقلباتهم في شئونهم وتطوراتهم
وَلا تَقْتُلُوا ايها البالغون لرتبة التكليف الإلهي أَوْلادَكُمْ الحاصلة لكم من أصلابكم سواء كانوا بنين او بنات بلا رخصة شرعية سيما خَشْيَةَ إِمْلاقٍ اى من خوف فقر وفاقة إذ نَحْنُ من سعة جودنا ووفور رحمتنا نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إذ لا رازق لكم ولهم سوانا وبالجملة إِنَّ قَتْلَهُمْ ان صدر عنكم كانَ خِطْأً كَبِيراً وذنبا عظيما عند الله
وَعليكم ايها المؤمنون المتدرجون في مسالك التحقيق ان لا تَقْرَبُوا الزِّنى بترتيب مقدمات تترتب عليها تلك العفلة القبيحة فكيف الإتيان بها العياذ بالله إِنَّهُ اى الزنا قد كانَ فاحِشَةً مسقطة للعدالة مزيلة للمروءة مبطلة لحكمة التناسل التي هي المعرفة الإلهية إذ ولد الزنا لا يبلغ مرتبة الولاية ودرجة العرفان أصلا وَساءَ سَبِيلًا الزنا لقضاء الشهوة المعدة لسر الظهور والإظهار من لدن حكيم عليم
وَعليكم ايضا ايها الموحدون القاصدون الى معارج التوحيد ان لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إذ هي بيت الله وتخريب بيته من أعظم الكبائر إِلَّا بِالْحَقِّ اى برخصة شرعية من قصاص وحد وردة الى غير ذلك من الرخص التي قد عينها الشرع وَبالجملة مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بلا رخصة شرعية فَقَدْ جَعَلْنا بمقتضى عدلنا لِوَلِيِّهِ اى لمن يلي امر المقتول بعده سُلْطاناً سطوة وغلبة على القاتل الظالم مع معاونة الحكام له فَلا يُسْرِفْ اى الولي المنتقم فِي الْقَتْلِ لقصاص المقتول المظلوم بان يقتل غير القائل بدله او يقتله مع غيره وكيف لا يقتل القائل الظالم بدل المقتول المظلوم إِنَّهُ قد كانَ اى المظلوم مَنْصُوراً مرحوما عند الله وعند عموم الخلائق
وَعليكم ايضا ايها المتوجهون نحو الحق بالعزيمة الصحيحة والقصد الخالص ان لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ الذي لا متعهد له من الأبوين إِلَّا بِالَّتِي اى بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق بحالهم من ازدياد أموالهم وتنميتها وحفظها وتعميرها على وجه العدالة والمروة حَتَّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ اى رشده وإذا بلغ الى سن التمييز والتصرف فلكم ايها الأوصياء المتعهدون لأموال اليتامى ردها حينئذ إليهم بعد اختبارهم وامتحان(1/451)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
رشدهم وكفايتهم مرارا وَلكم ايها المؤمنون الموحدون الإيفاء والوفاء بمطلق العهود والمواثيق مطلقا سواء كانت مما بينكم وبين الله او بين عباده أَوْفُوا بِالْعَهْدِ والميثاق مطلقا إِنَّ الْعَهْدَ والميثاق قد كانَ مَسْؤُلًا في النشأة الاخرى وناقضه مؤاخذا وموفيه مأجورا
وَايضا أَوْفُوا الْكَيْلَ اى عليكم إيفاء الكيل إِذا كِلْتُمْ لغيركم وَزِنُوا ايضا إذا وزنتم بِالْقِسْطاسِ اى الميزان وهو لفظ سرياني الْمُسْتَقِيمِ الذي لا ميل له الى جانب بل قد صار كفتاه على السوية بلا ميل ذلِكَ اى ايفاؤكم ووفاؤكم واستقامتكم في المكيال والميزان خَيْرٌ جالب لانواع الخيرات في الدنيا وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا اى عاقبة ومآلا في العقبى
وَلا تَقْفُ اى لا تتبع ايها المؤمن الموقن الموفق الطالب للوصول الى مرتبة التوحيد ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ اى ما لم يتعلق علمك به تقليدا او تخمينا إذ أنت في يوم الجزاء مسئول عما رمته بلا علم وقصدت نحوه وأقدمت عليه باى عضو وجارحة وكذا عما قلته بلسانك رجما بالغيب بلا فكر وروية إِنَّ السَّمْعَ قدمه إذ قد نسبت اليه اكثر الكواذب والمفتريات وَالْبَصَرَ لان النفس تقع في اكثر الفتن والمهالك برؤية البصر وَالْفُؤادَ الذي هو اصل في إنشاء الكواذب والمزورات كُلُّ أُولئِكَ اى كل واحد واحد من القوى الثلاثة قد كانَ يوم القيمة عَنْهُ مَسْؤُلًا فتقر وتشهد تلك القوى بعد ما سئل عنها عن جميع ما صدر منها من المعاصي فيفتضح صاحبها على رؤس الاشهاد
وَبالجملة لا تَمْشِ ايها الطالب لعدالة التوحيد والعرفان فِي الْأَرْضِ التي قد أعدت للتذلل والانكسار والتواضع والخشوع مَرَحاً ذا كبر وخيلاء وكيف تختال وتتكبر عليها ايها المهان المخلوق من المهين إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ بشدة قوتك ووطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ باستعلائك واستكبارك طُولًا اى من جهة الطول والعلو ولن تبقى مرة متطاولة عليها حتى تستعلى أنت بها على من دونك وبالجملة لا تتكبر ولا تتجبر ايها العاجز الضعيف مع ضعفك وقصر عمرك ودناءة مادتك
وبالجملة كُلُّ ذلِكَ من النواهي المذكورة من قوله لا تجعل مع الله الها آخر الى هنا قد كانَ سَيِّئُهُ اى ثبت وتحقق كون كل واحدة منها سيئة وإثما عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل لذلك قد كان مَكْرُوهاً منهيا عنه مبغوضا عليه من لدنه سبحانه
ذلِكَ المذكور من الاحكام المتقدمة من أول السورة الى هنا مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل تربية لك وتأييدا لأمرك مِنَ الْحِكْمَةِ المتقنة التي يجب الامتثال والاتصاف بها على من أراد سلوك سبيل التوحيد المبنى على عدالة الأخلاق والأطوار والشئون وَاعلموا ان معظم المنهيات والمحظورات الشرك بالله العياذ به منه لذلك كرره سبحانه تأكيدا ومبالغة وبالغ في الاحتراز عنه حيث قال لا تَجْعَلْ ولا تتخذ مَعَ اللَّهِ المتوحد المتفرد في ذاته المعبود بالحق والاستحقاق إِلهاً آخَرَ يعبد له كعبادته وان اتخذت الها سواه فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان حال كونك مَلُوماً تلوم أنت نفسك بأنواع الملامات بما ضاع عنك من التوحيد المنجى عن عموم المضايقة والمهالك مَدْحُوراً مبعدا عن رحمة الله وسعة فضله وإحسانه
أَتزعمون ايها المشركون المستكبرون ان الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء قد فضلكم على نفسه فَأَصْفاكُمْ واصطفاكم على ذاته بحيث قد خصصكم واجتباكم رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ الذين هم أكرم الأولاد وأشرفها وَاتَّخَذَ وأخذ لنفسه اولادا مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً نواقص عقلا ودينا إِنَّكُمْ ايها المسرفون باقدامكم واجترائكم على الله وعلى ملائكته الذين هم اشرف(1/452)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
مخلوقاته بأمثال هذه الهذيانات الباطلة لَتَقُولُونَ في حق الله وفي حق أولئك الأصفياء الأمناء قَوْلًا عَظِيماً بهتانا وزورا تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا إذ نسبة الأولاد الى الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن مطلق الأشباه والأنداد في نهاية الشناعة والفساد واشنع منه نسبة الإناث اليه ثم نسبة الملائكة الذين هم من أفضل عباد الله وأشرفهم الى الأنوثة المستحقرة المذمومة شرعا وعقلا هذا مع غاية الإفراط في حق الله والتفريط في حق خلص عباده لذلك وصف سبحانه هذا القول الشنيع بالعظمة
ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتقريعا واشارة الى تناهيهم في الضلال والطغيان وَلَقَدْ صَرَّفْنا وكررنا مرارا شناعة هذا القول اى نسبة الولد الى الله الصمد المنزه في ذاته عن الأهل والولد وكذا أمثاله وأضرابه من الهذيانات التي لا يليق بجنابه فِي هذَا الْقُرْآنِ المنزل لهداية اهل الغي والضلال لِيَذَّكَّرُوا اى ليتذكروا ويتعظوا ويتفطنوا الى وخامة عواقبه ومآله ومع ذلك لم يتذكروا ولم يتفطنوا بل وَما يَزِيدُهُمْ ذلك التكرار والمبالغة إِلَّا نُفُوراً اعراضا عن الحق وإصرارا على ما هم عليه من الباطل
قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا لَوْ كانَ مَعَهُ سبحانه آلِهَةٌ أمثاله كَما يَقُولُونَ وتدعون أنتم ايها المشركون المدعون المعاندون انهم معبودون بالحق مستحقون للعبادة كما زعمتم إِذاً لَابْتَغَوْا ولطلبوا تلك الالهة البتة إِلى معاداة ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ليغلبوا عليه ويستولوا على ملكه كما يتخيل الولاة بعضهم بالنسبة الى بعض وإذا عجزوا عن مماراته ومقابلته لم يكونوا مثله فلم يستحقوا للعبادة المطلقة مثله
سُبْحانَهُ اى نزه سبحانه ذاته تنزيها بليغا وقدسه تقديسا متناهيا في القدس والنزاهة وَتَعالى اى ترفع وتعاظم عَمَّا يَقُولُونَ هؤلاء الظالمون المسرفون المفرطون في شانه من اثبات الشريك المماثل له والكفو المتكافئ معه عُلُوًّا كَبِيراً اى تعاليا وتباعدا في غاية البعد والاستحالة والامتناع إذ لا موجود سواه ولا اله غيره وكيف تغفلون وتذهلون عن دلائل توحيد الحق وشواهد استقلاله ايها الضالون المضلون مع انكم أنتم مجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد مخلوقون على جبلة اليقين والعرفان ومع ان عموم المظاهر ينزهون ذاته عن مطلق النقائص حالا ومقالا
إذ تُسَبِّحُ لَهُ وتقدس ذاته عن الشريك والولد والكفو والنظير السَّماواتُ السَّبْعُ المطبقة المعلقة المنضدة المنظومة على ابلغ النظام وأعجبه مع ما فيها من الكواكب المختلفة الألوان والأشكال والمنازل والحركات والآثار المترتبة عليها ومع ما فيها من عجائب المخلوقات وغرائب المبدعات والمخترعات التي لا علم لنا الا بانياتها دون لمياتها كل ذلك يدل على وحدة مظهرها وبارئها وتفرد موجدها وَالْأَرْضُ وما عليها من انواع النباتات والمعادن والحيوانات التي قد عجزت عن عدها وإحصائها ألسنة اولى البصائر والنهى المعتبرين المتأملين في مصنوعات الحق وعجائب مخترعاته وَكذا مَنْ فِيهِنَّ من الملائكة والثقلين المجبولين على عبادة الحق وعرفانه وَبالجملة إِنْ مِنْ شَيْءٍ وما من ذرة يطلق عليه اسم الشيء ويمتد عليه ظل الوجود إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ اى يقدس ذاته وينزهه عن شوب الحدوث والإمكان بعضه بلسان الحال وبعضه بلسان القال سيما عن أقوى امارات الإمكان التي هي الإيلاد والاستيلاد وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ ولا تفهمون أنتم ايها المنهمكون في الغي والضلال تَسْبِيحَهُمْ لعدم التفاتكم واشتغالكم بالتدبر والتأمل في مصنوعات الحق والتفكر في آياته بل تنكرونها وتصرون على القدح فيها عنادا ومكابرة وتشركون بالله العياذ به منه أندادا وبذلك قد استوجبتم أشد العذاب وأسوأ النكال فامهلكم الله إِنَّهُ كانَ حَلِيماً(1/453)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
لا يعجل بالانتقام والعقوبة رجاء ان تتفطنوا وترجعوا نحوه بالتوبة والندم على الإخلاص فيغفر زلتكم كلها انه كان غَفُوراً للأوابين الرجاعين نحوه بكمال الندم والإخلاص وان عظمت زلتهم وكبرت معصيتهم
وَمن كمال لطفنا معك يا أكمل الرسل وغاية حفظنا وحراستنا إياك إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ واستغرقت في لجج رموزه وإشاراته وخضت في تيار بحره الزخار لطلب فرائد فوائده وصرت من غاية استغراقك وتلذذك به وبما فيه الى ان غبت عن محافظة نفسك ومراقبة حالك إذ قد جَعَلْنا حسب حفظنا وحضانتنا لك بَيْنَكَ وَبَيْنَ القوم الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولا يوقنون بالأمور المترتبة عليها فيها حِجاباً غليظا وغشاء كثيفا مَسْتُوراً نسترك به عن أعين أعدائك القاصدين لك سوء مع انهم لا يرون الحجب ايضا روى سعيد بن جبير رضى الله عنه انه لما نزلت تبت يد ابى لهب السورة جاءت امرأة ابى لهب بحجر لترضح به رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس مع ابى بكر رضى الله عنه فسألته اين صاحبك لقد بلغني انه هجانى فقال ابو بكر ما نطق صاحبي بالشعر قط ثم قال أبو بكر ما رأتك يا رسول الله فقال عليه السّلام لم يزل ملك بيني وبين أعدائي انا أراهم وهم لا يرونني
وَكيف لا يكون الكافر محجوبا مستورا عن سرائر القرآن ومرموزاته إذ قد جَعَلْنا وغطينا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً واغطية كثيفة تمنعهم عن أَنْ يَفْقَهُوهُ ويفهموا معناه وَايضا قد جعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً صمما وثقلا يمنعهم عن استماع ألفاظه حتى لا يتأملوا ولا يتدبروا في معناه وَمن غلظ غشاوتهم وكثافة حجبهم وأكنتهم إِذا ذَكَرْتَ أنت رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ منفردا بلا ذكر آلهتهم الباطلة وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ وانصرفوا من حولك معرضين كارهين نُفُوراً متنفرين ساخطين عليك ولا تبال يا أكمل الرسل بهم وبسماعهم واستماعهم وعدمه ولا تلتفت أنت نحوهم قط
إذ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ اى بغرضهم المتعلق باستماعهم الذي هو الاستهزاء والسخرية وقت إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَكيف لا يكونون مستهزئين مستسخرين إِذْ هُمْ حين استماعهم كلامك نَجْوى اى ذو ومناجاة يضمرون في نفوسهم مقتك وهلاكك واقله الاستهزاء معك اذكر إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ منهم على سبيل العناد والمكابرة لأهل العدل والتوحيد إِنْ تَتَّبِعُونَ وما تقتفون أنتم ايها الضالون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً قد سحر به فجن فاختلط كلامه وذهب عقله وتكلم من تلقاء نفسه كلاما لا يشبه كلام العقلاء
انْظُرْ ايها الناظر بنور الله المؤيد من عنده كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ الحشوة البتراء من غاية اضطرابهم وتهالكهم مرة يقولون انك شاعر ومرة ساحر ومرة كاهن ومرة مجنون وبالجملة فَضَلُّوا عن طريق الحق في عموم ما نسبوا إليك والى ما جئت به من الكلام المعجز في أعلى مراتب الاعجاز فَلا يَسْتَطِيعُونَ الى مقتك وقدح كتابك سَبِيلًا واضحا موجها سوى هذه الهذيانات الباطلة بل قد خبطوا في جميعها خبط عشواء فضلوا عن السبيل السواء
وَمن غاية انهماكهم في الغي والضلال ونهاية انكارهم بحقية القرآن وبما فيه من احوال يوم القيمة وأهوالها وافزاعها قالُوا مستبعدين متعجبين على سبيل التهكم والاستهزاء أَإِذا كُنَّا عِظاماً يعنى انبعث ونحيي بعد ما قد صرنا عظاما بالية رميمة وَرُفاتاً غبارا مرفوتا مشتوتا تذروه الرياح أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ محشورون من قبورنا خَلْقاً آخر جَدِيداً معادا للخلق الاول لا مثلا له بل عينا بلا مغايرة له أصلا كلا وحاشا من اين يتأتى لنا(1/454)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
هذا
قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم إلزاما لهم وتبكيتا لا تستبعدوا ايها الضالون المعاندون أمثال هذا البعث والأحياء عن قدرة الله في الأشياء التي قد عهد حياتها من قبل إذ لا بعد ولا غرابة فيها بل كُونُوا حِجارَةً هي ابعد بمراحل عن قبول الحيوة أَوْ حَدِيداً هو أشد بعدا منها
أَوْ خَلْقاً آخر مثلا هو ايضا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ويستحيل في نفوسكم اتصافه بالحيوة فالله القادر المقتدر بالقدرة الغالبة الكاملة والقوة الشاملة قادر على احيائه وإيجاده ان تعلقت ارادته ومضت مشيته ونفذت حكمه وقضاؤه على تكوينه وإظهاره وبعد ما أفحموا عن سماع الحجة القوية وانحسرت عقولهم عن المقابلة معها فَسَيَقُولُونَ مستفهمين عن تعيين الحق المبدئ المعيد على سبيل الإنكار مَنْ يُعِيدُنا بعد موتنا وبعد صيرورتنا عظاما ورفاتا قُلِ يا أكمل الرسل يعيدكم الَّذِي فَطَرَكُمْ وأظهركم من كتم العدم أَوَّلَ مَرَّةٍ إظهارا إبداعيا وإيجادا اختراعيا بلا سبق مادة ومدة فاعادتكم أهون عليه من ابدائكم وابداعكم وبعد ما سمعوا منك قولك فَسَيُنْغِضُونَ ويحركون إِلَيْكَ ايها المؤيد من عند الله لإلزام أولئك الغواة الطغاة الهالكين في تيه المكابرة والعناد رُؤُسَهُمْ على وجه الاستهزاء والاستبعاد وَيَقُولُونَ حينئذ مستسخرين مَتى هُوَ مع ان الأنبياء الماضين يدعون مثلك قيامها ووقوعها فلم تقع بعد وأنت ايضا تدعى فلا تقع وبالجملة ما هي الا مجرد الدعوى منك ومنهم بلا وقوع ولا ورود قُلِ لهم يا أكمل الرسل عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يعنى بعد ما قد ختم امر الرسالة والتشريع وكمل بناء الدين وشيد أركانه وبنيانه فقد قرب وقوعها فانتظروا ايها المؤمنون المصدقون ليوم الحشر والنشر مترصدين مترقبين
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ الله للبعث والحشر فَتَسْتَجِيبُونَ له أنتم طائعين راغبين ملتبسين بِحَمْدِهِ معترفين بكمال قدرته ووفور حوله وقوته وَتذكروا من طول ذلك اليوم وشدة أهواله وافزاعه على الكافرين ومن داوم عيشه وحضوره عليكم قد تَظُنُّونَ أنتم وتعتقدون فيه حين حضوركم إِنْ لَبِثْتُمْ وما أقمتم وما سكنتم في النشأة الاولى إِلَّا قَلِيلًا يعنى تستقلون وتستقصرون مدة لبثكم في الدنيا يعنى مع كثرة شدائد يوم القيمة وأهوالها على الكفرة ودوام عيشها على المطيعين
وَقُلْ يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير وتهذيب الأخلاق وتصفية الباطن لِعِبادِي يعنى المؤمنين الموقنين بشئونى وظهوري حسب تجلياتى في الاولى والاخرى الكاملين المكملين الراشدين المرشدين إذا أرادوا هداية التائهين في بحر الغفلة والضلال يَقُولُوا كل منهم وقت تذكيرهم وتنبيههم رفقا لهم وتليينا لقلوبهم بالكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الكلمات وألينها وأتمها نفعا وأقربها للقبول لا بالتي هي أخشن واغلظ لتكون مدخلا للشيطان مثيرة للفتن والطغيان إِنَّ الشَّيْطانَ المضل المغوى يَنْزَغُ ويوقع الفتنة بَيْنَهُمْ اى بين المرشد والمسترشد ويهيجها ويثيرها الى ان ادى الأمر الى المشاجرة والمقاتلة وانواع الخصومات المخلة للحكمة المقصودة من امر النبوة والرسالة والكلمة الغليظة كثيرا ما تفضى إليها فيفوت الغرض الأصلي منها وبالجملة إِنَّ الشَّيْطانَ قد كانَ في اصل فطرته وجبلته خلق لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة مستمر الفتنة بحيث لا يرجى رفع عداوته أصلا فلكم ايها الهادون الناصحون ان لا تغلظوا ولا تخشنوا في دعوة الناس الى طريق الحق ولا تبالغوا ايضا في إرشادهم وهدايتهم إذ ما عليكم الا تبليغ ما أمرتم بتبليغه وليس في وسعكم وطاقتكم رشدهم وهدايتهم البتة إذ هو مبنى على العلم باستعداداتهم وقابلياتهم ولا علم(1/455)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
لكم ايها الناصحون عليها
بل رَبُّكُمْ الذي رباكم أَعْلَمُ بِكُمْ ايها المجبولون على فطرة المعرفة والايمان إِنْ يَشَأْ هدايتكم يَرْحَمْكُمْ بمقتضى جوده ويوفقكم على قبول الايمان وحصول العرفان عناية منه وفضلا أَوْ إِنْ يَشَأْ غوايتكم يُعَذِّبْكُمْ ويبقكم في تيه الحرمان والخذلان خاسرين خائبين بمتابعة الشيطان وَبالجملة ما أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل وأفضل البرايا مع انك لولاك لما خلقنا الأفلاك إذ كل ما في العالم من المظاهر مربوط منوط بمرتبتك المحيطة الجامعة للكل ومع ذلك ما جعلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ليكون أمورهم كلها موكولا إليك بحيث إذا أردت أنت هداية بعض وضلال آخرين فيقع مرادك بلا خلف بل ما أرسلناك الا مبلغا بشيرا ونذيرا وما عليك الا البلاغ وعلينا الإصلاح او الإفساد إذ نحن بكمال استغنائنا عن مطلق مظاهرنا ومصنوعاتنا مستقلون في تدبيرات امور ملكنا وملكوتنا وشهادتنا وغيبنا وجبروتنا وناسوتنا ولاهوتنا
وَبالجملة رَبُّكَ يا أكمل الرسل أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى باستعدادات الملائكة السماويين والارضيين وقابليات الثقلين السفليين وَلعلمنا باستعدادات عموم عبادنا لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بسنة سنية وخصلة حميدة مثل تفضيلنا ابراهيم بالخلة وكمال الحلم ولوقار ونهاية الخشية والطمأنينة وموسى بالتكليم وسائر المعجزات وعيسى بأنواع الارهاصات والكرامات والمعجزات من الارتقاء نحو السماء والتكلم في غير أوانه ووجوده بلا أب وسليمان بالملك العظيم وقد فضلناك يا أكمل الرسل بخصائص ما أعطينا الأنبياء الماضين ولا أحدا من العالمين من شق القمر والمعراج الصوري والمعنوي وغير ذلك من الكمالات العلية والكرامات السنية التي لا تكاد تحصى وَمن جملة تفضيلنا إياهم ايضا انا قد آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً مشتملا على انواع الحكم وفصل الخطاب سيما على القاب خاتم الرسالة ومتمم مكارم الأخلاق صلّى الله عليه وسلّم وعلى نسخ دينه عموم الأديان وكتابه جميع الكتب وكون أمته اشرف الأمم ودينه أكمل الأديان
قُلِ يا أكمل الرسل للمشركين الذين يدعون آلهة غير الله ويعبدونهم كعبادته على سبيل التعجيز والتقريع ادْعُوا عند نزول البلاء وهجوم المحن والعناء عليكم شركاءكم الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنتم آلهة مِنْ دُونِهِ اى من دون الله سبحانه حتى ينقذوكم من الشدة والبأس وأنتم وان بالغتم في الدعاء والتوجه نحوهم والالتجاء إليهم فَلا يَمْلِكُونَ اى فهم لا يملكون ولا يقدرون يعنى آلهتكم كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ فكيف عنكم بل عن أنفسهم وَلا تَحْوِيلًا دفعا وترديدا منكم الى غيركم
إذ أُولئِكَ الفقراء الضعفاء الَّذِينَ يَدْعُونَ إليهم ويدعونهم آلهة كالملائكة وعيسى وعزير عليهم السّلام يَبْتَغُونَ ويطلبون من شدة احتياجهم إِلى رَبِّهِمُ الذي أوجدهم وأظهرهم من كتم العدم الْوَسِيلَةَ المقربة لهم اليه سبحانه من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية المقبولة عند الله ليظهر لهم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ اليه واقبل عنده وَمع ذلك يَرْجُونَ في مناجاتهم وكذا خلال خلواتهم وصلواتهم مع ربهم رَحْمَتَهُ بمقتضى فضله ولطفه وَيَخافُونَ عَذابَهُ بمقتضى قهره وعدله إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل قد كانَ مَحْذُوراً واجب الحذر لكل من دخل تحت حيطة التكليف الإلهي سواء كان نبيا او وليا.
ثم قال سبحانه وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ اى ما من قرية من القرى الهالكة إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها بالخسف او الكسف او الزلزلة او الطاعون او غير ذلك قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كالقتل والنهب والأسر وانواع البلايا والمصيبات قد كانَ ذلِكَ الإهلاك(1/456)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
والتعذيب فِي الْكِتابِ الذي هو عبارة عن حضرة علمنا ولوح قضائنا مَسْطُوراً على التفصيل الذي وقع ويقع بلا مخالفة أصلا
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة عنك يا أكمل الرسل وعن الإتيان بها إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا وبأمثالها الْأَوَّلُونَ اى الأمم الماضون بعد إتيان ما اقترحوا عتوا وعنادا فاستأصلناهم بتكذيبهم وعنادهم إذ من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة استئصال المقترحين المكذبين على انبيائنا سيما بعد إتياننا إياهم بمقترحاتهم فلو حصل مقترحات هؤلاء المقترحين ايضا ليكذبونك البتة فلزم حينئذ إهلاكهم واستئصالهم على مقتضى سنتنا المستمرة لكن قد مضى حكمنا على ان لا ننتقم من مكذبيك في النشأة الاولى لان منهم من يؤمن ومنهم من يولد مؤمنا لذلك ما جئنا بمقترحاتهم وَاذكر لهم يا أكمل الرسل ان كانوا شاكين مترددين فيما ذكرنا بعض قصص الأمم الماضية المشهورة في الآفاق وذكرهم كيف آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ المقترحة حين اقترحوا على نبينا صالح عليه السّلام بإخراجها من الحجر المعين فأخرجها منه باذن الله وبكمال قدرته حال كون أعينهم مُبْصِرَةً خروجها منه ومع ذلك فَظَلَمُوا بِها اى بالناقة بعد ما أمرهم سبحانه بمحافظتها ورعايتها على لسان صالح عليه السّلام فكذبوه فعقروها واستأصلناهم لأجلها وبالجملة أمثالهم من الأمم الهالكة بتكذيبهم بعد إتيان ما اقترحوا اكثر من ان تحصى وَبالجملة ما نُرْسِلُ وما نأتى بِالْآياتِ المقترحة حين نأتى بها إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب المهلك المستأصل على المقترحين
وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين وقت إِذْ قُلْنا موحيا لَكَ مسليا عليك لا تحزن من كثرة عدد عدوك وعددهم ولا تخف من شوكتهم وصولتهم إِنَّ رَبَّكَ الذي اصطفاك من بين البرية للرسالة العامة قد أَحاطَ بِالنَّاسِ احاطة ذوات الظل بأظلالها وذوات الصورة بعكوسها فهم مقهورون تحت قبضة قدرته يفعل بهم حسب ارادته ومشيئته فامض أنت يا أكمل الرسل على ما أمرت بلا خوف وتردد فلك الاستيلاء والغلبة عليهم وَايضا ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي قد أَرَيْناكَ حين نزولك ماء بدر وأصبحت تقول مشيرا بإصبعك هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فأخبرت قريش بقولك واشارتك الى مصارعهم فاستهزءوا بك واستبعد بعض المؤمنين ايضا ذلك إِلَّا فِتْنَةً واختبارا لِلنَّاسِ هل يؤمنون بك ويصدقون قولك أم يكذبونك ينكرون بك ثم لما وقع الأمر على الوجه الذي اريتك في منامك اطمأن المؤمنون وازدادوا يقينا وإخلاصا وجحد الكافرون وازدادوا شقاقا ونفاقا ونسبوا أمرك هذا بعد ما وقع جزما الى السحر والكهانة والرجم بالغيب عنادا ومكابرة وَايضا ما جعلنا الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ المكروهة التي يلعنها كل من يذوقها ويطعمها الا وهي الزقوم المنبت على شفير الجحيم لذلك قد لعنت فِي الْقُرْآنِ حتى يحترز المؤمنون عن الأعمال المقربة إليها الموجبة لاكلها الا فتنة للناس وابتلاء لذلك لما سمعت قريش بشجرة الزقوم جعلوها منشأ الهزل والسخرية مع الرسول عليه السّلام حتى قال ابو جهل ان محمدا يخوفنا عن نار تحرق الحجارة ويزعم انها تنبت الشجرة وقد علمتم ان النار تحرق الشجر وما هي الا فرية بلا مرية. ثم اعلم ان الأمور الدينية سيما المعتقدات الاخروية كلها تعبدية فلو ظهر لها وجه عقلي فبها ولو لم يظهر لزم الإطاعة والانقياد بها على سبيل التعبد والتسليم من الصادق الصدوق مع ان نبت الشجر في النار مما لا يمتنع عقلا ايضا إذ وجود الحيوان في النار ابعد من وجود النبات فيها وحكاية الدويبة المعروفة التي يقال لها سمندر وعيشها في النار كالسمك في الماء متى خرج منها مات واتخاذ الناس من شعرها(1/457)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
منديلا متى اتسخت وتكدرت طرحت على النار فاحترقت اوساخها وأخرجت سالمة نظيفة منها مشهور معروف لا شك في وقوعها واعجب من ذلك ابتلاع النعامة الجمر والجذوة والحديد المحماة المحمرة بالنار ولا تضرها أصلا وَمن قساوة قلوب أولئك الغواة وغلظ حجبهم نُخَوِّفُهُمْ بأنواع المخاوف الدنيوية والاخروية فَما يَزِيدُهُمْ تلك التخويفات الهائلة إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً متجاوزا عن الحد غاية التجاوز لشدة عمههم وعتوهم
وَليس طغيانهم وإصرارهم عليه الا بتسويلات الشياطين وتغريراتهم بمقتضى العداوة القديمة والخصومة المستمرة بين الشيطان وبنى آدم اذكر وقت إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ بأجمعهم بعد ما جاءوا بما جاءوا من الحجج والدلائل الدالة على عدم لياقة آدم بالخلافة والنيابة الى ان أفحموا والزموا اسْجُدُوا لِآدَمَ وتذللوا عنده ولا تجادلوا في حقه انا قد اخترناه لخلافتنا ونيابتنا فَسَجَدُوا سجود تواضع وتكريم امتثالا للأمر الوجوبي بعد ما تمادوا في إيراد الحجج والمناقضات استحياء منه سبحانه ورهبة من سطوة قهره بالإعراض عن امره وما خالف امر الله منهم إِلَّا إِبْلِيسَ فانه أصر على الإنكار ولم يرغب بامتثال المأمور بل قد زاد على الجدال والنزاع حيث قالَ مستبعدا مستنكرا أَأَسْجُدُ وأتذلل مع نجابة أصلي وشرف عنصري لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً اى لمن انشأته وصورته من طين منتن مذموم مرذول لا شرف له ولا نجابة وبالجملة ما هي الا تفضيل المفضول وتكريم المهان المرذول ثم لما طرده الحق عن ساحة عز الحضور وأخرجه من بين الملائكة ولعنه لعنة مؤبدة الى ان ايس عن القبول مطلقا
قالَ إبليس معترضا على الله مسيأ الأدب معه سبحانه مستفهما على سبيل الاستبعاد والاستنكار أَرَأَيْتَكَ اى أخبرني يا مولاي عن وجه كرامة هذَا القالب المستحقر المسترذل الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ وأمرتني بسجوده وطردتني لأجله طردا مخلدا بناء على انه يعبدك ويعرفك ويوحدك حق توحيدك ويقدسك حق تقديسك وتنزيهك وبالجملة هو يتفطن على حق قدرك وقدر حقيتك والله بحق عظمتك وجلالك لَئِنْ أَخَّرْتَنِ وأبقيتني فيما بينهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ المعدة لتنقيد الأعمال وعرضها على جنابك لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ولأضلنهم ولأغوينهم بأنواع الإغواء والإغراء بحيث امحون أسماءهم عن دفتر المؤمنين فكيف عن زمرة العارفين المكاشفين المشاهدين لان تركيبهم وبنيتهم هذه تقتضي انواع الفسادات واصناف العصيان والضلالات ولى فيهم مداخل كثيرة اوسوسهم واغريهم الى حيث أضلهم واغويهم عن منهج الرشد ومسلك السداد إِلَّا قَلِيلًا منهم فإنهم قد ثبتوا على ما جبلوا له بلا قدرة منى على اغوائهم لكونهم مؤيدين من عندك موفقين من لدنك
ثم لما سمع سبحانه منه ما سمع قالَ سبحانه ساخطا عليه مغاضبا طاردا له أشد طرد وتبعيد اذْهَبْ يا ملعون فقد امهلناك فيما بينهم الى قيام الساعة فلك ان تفعل بهم ما تفعل فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ بعد ما قد جبلناهم على فطرة التوحيد والمعرفة ومع ذلك قد أرسلنا عليهم الرسل المنبهين المرشدين لهم طريق الهداية والرشد وأنزلنا عليهم من لدنا الكتب المبينة لهم احوال المبدأ والمعاد ومع ذلك يتركون متابعة الكتب والرسل ويتبعون لك ويقتفون اثرك فهم حينئذ خارجون عن زمرة عبادنا الصالحين لاحقون بك مستحقون بما استحققت به أنت وأعوانك من الجزاء فَإِنَّ جَهَنَّمَ الطرد والحرمان وانواع المذلة والخذلان حينئذ جَزاؤُكُمْ تابعا ومتبوعا ضالا ومضلا جَزاءً مَوْفُوراً مستوفى وافرا وافيا لا مزيد عليه مؤبدا مخلدا لا نجاة لكم منها
وَبعد ما قد سمعت(1/458)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
جزاءك وجزاء من تبعك منهم اسْتَفْزِزْ ايها المطرود الملعون وحرك عن مواضع الثبوت والقرار وزلزل عن جادة التوحيد والمعرفة مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ وتمكنت على اضلالهم عن طريق الحق بِصَوْتِكَ اى بمجرد ان تصوت عليهم فتنحرفوا من غاية ضعفهم في الايمان وَان لم تقدر ولم تظفر عليهم بمجرد صوتك لرسوخهم وتمكنهم في الجملة أَجْلِبْ اى صح وصوّت عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ اى بركبان أعوانك وجنودك وَرَجِلِكَ اى بمشاتهم ورجالهم وَبالجملة تمم وأوفر جميع حيلك ومكرك مهما أمكنك حتى تستفزهم وتضعضعهم من مقر الايمان والعرفان وان شئت اتحادهم واخاءهم شارِكْهُمْ فِي جميع الْأَمْوالِ اى علمهم السرقة والغصب وقطع الطريق والربوا والحيل المشهورة المعروفة في هذا الزمان بالحيل الشرعية التي قد وضعها المتفقهة المتفسقة خذلهم الله من تلقاء أنفسهم الخبيثة الدنية ونسبوها الى الشريعة البيضاء المصطفية والملة الزهراء الزكية الخليلية وَشاركهم ايضا في الْأَوْلادِ اى علمهم طريق الاباحة والاستباحة وتحليل المحرمات المؤدية الى تخليط الأنساب وامتزاج المياه كما ابتدعها اهل التلبيس والتدليس من المتشيخة الذين هم من جنودك يا ملعون اهلكهم الله وقهر عليهم مثل ما لعنك وقهر عليك وَان شئت عِدْهُمْ بالمواعيد الكاذبة التي قد مالت إليها نفوسهم واقتضت شهواتهم من ترك التكاليف والأعمال الشاقة من الفرائض والسنن والآداب الشرعية والنوافل المقربة نحو الحق والإنكار على النشأة الآخرة وما يترتب عليها من الأمور المسئولة عنها والمؤاخذة عليها وكذا بإنكار الجنة والنار وغيرها وَبالجملة ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ المضل المغوى وما يزين ويحسن لهم إِلَّا غُرُوراً تزيينا وتحسينا للباطل بصورة الحق وادعاء الحقية والحقيقة له ليغريهم بها ويضلهم بسببها عن طريق الحق وبالجملة افعل بهم ايها الحريص على اضلالهم ما شئت من المكر والحيل وانواع الخداع وهم ان كانوا من زمرة ارباب الإيقان والاطمئنان المقررين في مقر التوحيد والعرفان الموفقين عليه من لدنا لا يتبعونك البتة ولا يقبلون منك وسوستك وهذياناتك وبالجملة ليس لك عليهم سلطان أصلا وان كانوا من المطبوعين المختومين من عندنا المجبولين على الضلالة والغواية من لدنا فيتبعونك ويقتفون اثرك فلحقهم ما لحق بك وهم من جنودك واتباعك فلا نبالى بهم وبخروجهم عن زمرة عبادنا المخلصين وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فماله من نور.
ثم قال سبحانه إِنَّ خلص عِبادِي أضافهم سبحانه الى نفسه لكمال إخلاصهم واختصاصهم لَيْسَ لَكَ ايها المضل المغوى عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ اى حجة واستيلاء تغلبهم بها عليهم سيما الذين اتخذوني خليلا وأخذوني حسيبا وكفيلا وَبالجملة كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يعنى كفى ربك كفيلا حفيظا يتوكلون عليه مخلصين ويستعيذون نحوه من اغوائك واغرائك ايها الطاغي ملتجئين اليه وكيف لا يحفظكم ولا يعيذكم ايها المؤمنون المخلصون عما يؤذيكم ويقصد مقتكم
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي اى يسرى ويجرى لَكُمُ الْفُلْكَ الجارية فِي الْبَحْرِ بتيسيره وتسهيله عناية منه إياكم لِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ ما يوسع لكم طريق المعاش من انواع التجارات والأرباح واستخراج اصناف الجواهر منه وغير ذلك إِنَّهُ سبحانه من كمال جوده وسعة رحمته كانَ بِكُمْ رَحِيماً مشفقا عطوفا سيما بعد اتكالكم عليه سبحانه على وجه الإخلاص
وَمما ارتكز في نفوسكم ورسخ في قلوبكم انكم إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ بان عرض لمركبكم ما يوجب كسرها وغرقها وصرتم فيها حيارى سكارى بحيث ضَلَّ وغاب عنكم(1/459)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
جميع مَنْ تَدْعُونَ وتستغيثون منه لو كنتم في البر وما بقي معكم من الامتعة والبضاعات التي تتوسلون بها لإنقاذكم حال كونكم في البر إِلَّا استعانتكم واستغاثتكم إِيَّاهُ سبحانه فانه بذاته لا يغيب عنكم ولا يفارقكم بحال من الأحوال إذ هو اقرب إليكم من حبل وريدكم فما تستغيثون ولا تستعينون إلا منه إذ لا مغيث لكم سواه حينئذ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ وخلصكم سبحانه عن تلك المضايق الهائلة وأوصلكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عنه سبحانه وصرتم متعلقين بما معكم من الامتعة والاعراض وَبالجملة قد كانَ الْإِنْسانُ في اصل فطرته خلق كَفُوراً لأنعم الله هلوعا إذ امسه الشر جزوعا نحو الحق وإذ امسه الخير كفورا منوعا معرضا عنه منكرا له
أَأعرضتم عنه سبحانه سيما بعد انجائه وإنقاذه إياكم فَأَمِنْتُمْ عن قهره وسخطه حين وصلتم الى البر مع انه سبحانه قادر على إهلاككم في البر ايضا اما تخافون أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ اى يقلب عليكم الأرض كما خسفها على قارون أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ ريحا شديدا حاصِباً فيها حصباء نرميكم ونرجمكم بها كما رجمنا قوم لوط ثُمَّ بعد ما اخذناكم في البر بأمثال هذه البليات لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا حفيظا يحفظكم عن أمثال هذه المصيبات او يشفع لكم بتخفيفها وكشفها سوى الله الواحد الأحد القادر المقتدر القيوم المطلق
أَمْ أَمِنْتُمْ ايها القاصرون عن ادراك قدر الله وكمال قدرته عن أَنْ يُعِيدَكُمْ ويلجئكم الى الرجوع فِيهِ اى في البحر تارَةً أُخْرى بأسباب ووسائل لا تخطر ببالكم فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ في الكرة الاخرى لاخذكم وانتقامكم قاصِفاً كاسرا مِنَ الرِّيحِ لتكسر مركبكم فَيُغْرِقَكُمْ فيه بِما كَفَرْتُمْ عند النجاة عن مثله في الكرة الاولى ثُمَّ بعد ارجاعنا الى البحر واغراقنا فيه على نحو انعامنا وانجائنا من قبل لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً اى لا تجدوا ناصرا ومعينا لكم يظهر علينا ويجترئ باخذنا إياكم وانتقامنا عنكم ويطالب عنا قصاص ما فعلنا بكم إذ لا راد لفعلنا ولا معقب لحكمنا ولا معين ولا مستعان لكم سوانا نفعل ما نشاء ونحكم ما نريد.
ثم قال سبحانه على سبيل الانعام والامتنان وَلَقَدْ كَرَّمْنا وفضلنا بَنِي آدَمَ بأنواع الكرامة والتفضيل على سائر المخلوقات من حسن الصورة والسيرة واعتدال المزاج واستواء القامة والعقل المفاض المنشعب من العقل الكل الذي هو حضرة العلم الحضوري الإلهي وكذا بالقدرة والارادة وسائر الصفات المترتبة على الصفات الذاتية الإلهية ليشعر بخلافته ونيابته وَمع ذلك قد حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ بركوب النجائب من الخيل والبغال والبعير وغير ذلك وَفي الْبَحْرِ بركوب الجواري والسفن وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى الأطائب التي يكسبونها بأيديهم بمقتضى اقدارنا إياهم واعدادنا لهم اسباب مكاسبهم وابحنا لهم ما تستلذ به نفوسهم وتشتهي قلوبهم على وفق ما نطق به السنة رسلهم وكتبهم وَبالجملة قد فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا والقليل المستثنى هم الملائكة المقربون المهيمون المستغرقون بمطالعة جمال الله وجلاله وان كان الوالهون الهائمون من افراد الإنسان في ولاء الله ومحبته المكاشفون بسر الخلافة والنيابة التي اخبر بها الحق الواصلون الى مرتبة الفناء الذاتي بالموت الإرادي أفضل منهم ايضا وارفع رتبة ومكانة وانما كرمناهم وفضلناهم بما فضلناهم لحكم ومصالح تقتضيها ذاتنا وهي انا أردنا ان نطالع ذاتنا المتصفة بعموم أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال في مظهر تام كامل لائق لمرآتيتنا وخلافتنا فاظهرناهم وكرمناهم لأجل هذه الحكمة العزيزة والمصلحة الشريفة فمن لم يبلغ منهم الى هذه المرتبة العلية والدرجة السنية بسلوكه الذي قد ارشدناه اليه(1/460)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
وعلمناه بإرسال الرسل وإنزال الكتب إياه فهو نازل كل التنازل عن درجة الاعتبار ساقط عن رتبة ذوى الألباب والأبصار بل أولئك البعداء الضالون عن منهج الرشد كالأنعام بلا شعور الى ما جبلوا لأجله بل أضل سبيلا منها وأسوأ حالا ومآلا ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور اذكر يا أكمل الرسل للمفضلين المكرمين على سائر المخلوقات
يَوْمَ نَدْعُوا ونحشر كُلَّ أُناسٍ منهم لنسألهم ونطلب عنهم ما كسبوا وما حصلوا من المعارف والحقائق والأعمال المقربة إلينا باقتدائهم بِإِمامِهِمْ الذي قد أرسل إليهم وانزل عليهم من الرسل والكتب لإرشادهم وهدايتهم مع انا قد كتبنا خيرهم وشرهم اللذين قد جاء كل منهم بهما في صحيفة ونعطيهم اليوم صحائف أعمالهم بأيديهم فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ منهم بِيَمِينِهِ فهو دليل خيرية اعماله وطيب أحواله فَأُولئِكَ السعداء المقبولون اصحاب اليمين يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ فرحين بما فيه مسرورين فيجازون بمقتضى ما كتب بل بأضعافها وآلافها عناية منا وفضلا وَهم لا يُظْلَمُونَ ولا ينقصون من أجور أعمالهم فَتِيلًا مقدار ما في ظهر النواة من الخط الأسود او بين الأصابع من الوسخ المفتولة
وَمن اوتى كتابه بشماله فهو علامة شرية اعماله ووخامة أحواله ومآله فأولئك الأشقياء المردودون اصحاب الشمال والشآمة ينظرون الى كتابهم فيجدون ما فيه من انواع المعاصي والآثام فيغمضون عيونهم عن قراءتها آيسين محزونين فيجازون بمقتضى ما كتب مثلا بمثل عدلا منه سبحانه إذ مَنْ كانَ فِي هذِهِ النشأة أَعْمى عن مطالعة آثار الأوصاف الذاتية الإلهية وملاحظة عجائب صنعه وغرائب حكمته وبدائع تجلياته وتطوراته المتجددة آنا فآنا لحظة فلحظة فَهُوَ فِي النشأة الْآخِرَةِ ايضا أَعْمى إذ النشأة الاولى مزرعة لعموم الخيرات والاخرى وقت الحصاد فمن لم يزرع فيها فهو في وقت الحصاد مغبون أعمى عن وجدان الخيرات وَأَضَلُّ سَبِيلًا لفوات اسباب التدارك والتلافي عنه فيبقى متحيرا مدهوشا قلقا حائرا ضالا مستوحشا. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على وجه التأديب والتنبيه بعد ما ظهر عليه مخايل الميل والركون عن الحق بمخادعة اهل الكفر والنفاق
وَإِنْ كادُوا اى ان الشأن ان الكفرة الضالين المسرفين قد قاربوا لَيَفْتِنُونَكَ يا أكمل الرسل ويوقعونك في الفتنة الشديدة بالميل والانصراف عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وأنزلنا في كتابك من الأوامر والنواهي والاحكام المتعلقة بتهذيب الظاهر والباطن ويرغبونك لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ اى غير ما أوحينا إليك وَإِذاً اى حين افترائك وانتسابك إلينا غير ما أوحينا لك من الأمور التي تشتهيها أنفسهم وترتضيها قلوبهم لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وآمنوا بك بواسطة انتسابك هذا إلينا واتفاقك معهم في ذلك الافتراء والمراء نزلت في ثقيف حين قالوا لا نؤمن بك حتى تخصنا بخصال نفتخر ونباهى بها على سائر العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في صلاتنا وكل ربوا لنا فهو لنا وكل ربوا علينا فهو موضوع عنا وان تمتعنا باللات سنة وان تحرم وادينا كما حرمت مكة فان قالت العرب لم فعلت معهم هذا ولم خصصتهم بتلك الكرامات فقل ان الله قد أمرني وأوصاني بها وانتظر ان تنزل آية فيها فان فعلت بنا هذه نؤمن بك ونصدقك ونتخذك خليلا فتردد صلّى الله عليه وسلّم وقرب ان يميل ويركن لشدة ميله الى ايمانهم واتباعهم فجاءه جبريل عليه السّلام ومنعه عن هذا الرأى
لذلك قال سبحانه وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ اى ولولا اثباتنا وثثبيتنا إياك يا أكمل الرسل في مقر صدقك وتمكينك لَقَدْ كِدْتَ وقاربت أنت تَرْكَنُ وتميل إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا اى قد صرت في صدد(1/461)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
الميل والركون الى انجاز ما أرادوا وإنجاح ما قصدوا
وبالجملة إِذاً اى حين انجاحك مسئولهم ومأمولهم وفعلت معهم ما طلبوا منك لَأَذَقْناكَ في نشأتك هذه ضِعْفَ الْحَياةِ اى ضعف عذاب من جاء بمثله في النشأة الاولى وَكذا ضِعْفَ الْمَماتِ اى قد أذقناك ايضا ضعف عذاب من جاء به في النشأة الاخرى يعنى نعذبك في الدنيا والآخرة بضعف عذاب من جاء به من سائر الناس لان جزاء الأبرار لو أتوا بالمعاصي والآثام ضعف جزاء الأشرار بل اكثر إذ لا يتوقع منهم الانحراف عن منهج الرشد أصلا ولو انصرفوا أخذوا بضعف من يتوقع منهم الانحراف والانصراف ثُمَّ بعد أخذنا إياك وانتقامنا عنك بكذا لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً اى لا تجد أنت لك نصيرا يظهر علينا بنصرتك ويطالبنا بانقاذك عن عذابنا
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ اى وان قاربوا ليحركونك ويضطرونك بالنقل والجلاء مِنَ الْأَرْضِ التي قد استقررت أنت عليها وتمكنت فيها يعنى مكة لِيُخْرِجُوكَ مِنْها معللين بان الأنبياء والرسل انما بعثوا في ارض الشأم والأرض المقدسة خصوصا أجدادك ابراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب وأولادهم واسباطهم صلوات الله عليهم كلهم قد بعثوا فيها فلك ان تخرج إليها حتى نؤمن لك ونصدق برسالتك وما ذلك الا حيلة وخديعة معك قصدوا ليخرجوك بها من مكة حتى تبقى الرياسة لهم وَلا تغتم يا أكمل الرسل ولا تحزن بالخروج منها فإنك إِذاً لو خرجت أنت منها وهم ايضا لا يَلْبَثُونَ ولا يقيمون اى أولئك الضالون المفسدون المسرفون فيها خِلافَكَ وبعد خروجك إِلَّا زمانا قَلِيلًا وقد جرى الأمر على مقتضى وعد الله سبحانه إياه صلّى الله عليه وسلّم فإنهم بعد ما هاجر عليه السّلام قتلوا ببدر بعد مدة يسيرة وليس اخراجك يا أكمل الرسل عن مكة وإهلاكهم بعد خروجك منها ببدع منا مستحدث بل من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة إهلاك الأمم الذين اخرجوا نبيهم المبعوث إليهم من بين أظهرهم عنادا بل قد صار ذلك
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا المبعوثين الى الأمم الماضية اى من سنتنا القديمة الموضوعة فيهم بالنسبة الى اقوامهم فكذلك حالك مع هؤلاء المعاندين المكذبين وَبعد ما قد استمرت منا هذه السنة السنية لا تَجِدُ أنت ولا غيرك ايضا لِسُنَّتِنا المنبعثة من كمال حكمتنا تَحْوِيلًا تغييرا وتبديلا أذلنا فيها حكم ومصالح مخفية قد استأثرنا بها لا اطلاع لك عليها وانما عليك التوجه والتقرب إلينا في عموم أوقاتك وحالاتك سيما في الأوقات المكتوبة المحفوظة
أَقِمِ الصَّلاةَ وأدم الميل والتوجه نحونا لِدُلُوكِ الشَّمْسِ اى حين زوالها من الاستواء إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ اى ظلمته بغروبها الى حيث لم يبق من بقية آثار ضوءها شيء أصلا فيسع في المحدود المذكور الظهر والعصر والمغرب والعشاء على ما عين الشرع لكل منها وقتا معينا وَطول قُرْآنَ صلاة الْفَجْرِ وأطل القيام فيها مع القراءة إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ الذي هو وقت الانكشاف وأوان الانجلاء الصوري المنبئ عن الانكشاف المعنوي والانجلاء الحقيقي الذي هو عبارة عن اشراق نور الوجود واضمحلال الاظلال والعكوس المشعرة بالكثرة والغيرية لذلك قد كانَ قراءة القرآن المبين لسرائر الوحدة الذاتية وكيفية سريانها على صفائح المكونات فيه مَشْهُوداً لخواص عباد الله من الملائكة والثقلين بل لجميع الحيوانات من الوحوش والطيور إذ الكل في وقت الفجر متوجهون نحو الحق مسبحون مهللون حالا ومقالا
وَان شئت ازدياد القرب والثواب قم واستيقظ من منامك في قطعة مِنَ اللَّيْلِ واترك النوم فيها طلبا لمرضاة الله فَتَهَجَّدْ بِهِ وصل فيها صلاة التهجد(1/462)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
بتطويل القراءة لتكون نافِلَةً زائدة لَكَ على فرائضك مزيدة لقربك وكرامتك عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ ويقيمك رَبُّكَ بسعيك واجتهادك في تهجدك مَقاماً مَحْمُوداً اى مقاما من مقامات القرب ودرجات الوصال مسمى بالمقام المحمود لان كل من وصل اليه يحمد له سبحانه ويثنى عليه بإعطاء تلك الكرامة العظيمة إياه إذ لا مقام ارفع منه وأعلى رتبة ومكانة
وَبعد ما وصلت ايها السالك الناسك اليه لم يبق لك درجة الاستكمال والاسترشاد بل قد صرت كاملا رشيدا وان ألهمت وأذنت من عنده سبحانه بعد ما تحققت في تلك المرتبة للإرشاد والتكميل صرت مرشدا مكملا لأهل النقص والاستكمال شفيعا لهم عند الله باذنه لتنفذهم من لوازم الإمكان المفضى الى دركات النيران وتوصلهم الى قضاء الجنان بتوفيق الله إياك وإياهم وبعد وصولك بسعيك وجهدك وانواع تهجدك وإقامتك في خلال الليالى بتوفيق الله وتيسيره على ما وصلت من المقامات العلية والمراتب السنية قُلْ مناجيا الى ربك ملتجئا نحوه طالبا التمكن والتقرر في المقام الذي وصلت اليه بتوفيقه وتأييده رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم أَدْخِلْنِي حسب فضلك وجودك مُدْخَلَ صِدْقٍ ومنزل قرار وتمكين الا وهو مقر التوحيد المسقط لعموم الإضافات والكثرات وخلدنى فيه بلا تذبذب وتلوين وَأَخْرِجْنِي عن مقتضيات انانيتى وهويتى الى فضاء الفناء الموصل الى شرف البقاء واللقاء مُخْرَجَ صِدْقٍ بلا تلعثم وتزلزل وَاجْعَلْ لِي حين معارضة انانيتى معى واستيلاء جنود امارتى على مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً اى برهانا قاطعا وكشفا صريحا وشهودا تاما ليكون نَصِيراً لي ينصرني على أعدائي ويخلصني من أيديهم حين هجومهم على
وَقُلْ بعد ما تحققت وتمكنت في مقام الكشف والشهود قد جاءَ الْحَقُّ الصريح الثابت ولاحت شمس الذات وَزَهَقَ اى تلاشى واضمحل الْباطِلُ اى العكوس والاظلال الهالكة الباقية في عدمياتها الاصلية إِنَّ العدم الْباطِلُ الزاهق الزائل الظاهر على صورة الحق قد كانَ زَهُوقاً في نفسه مضمحلا في حد ذاته باقيا على عدمه وان أوهم وخيل انها موجودات متأصلات في الوجود الا انها ما شمت رائحة منه سوى ان اشعة التجليات الوجودية الإلهية قد لاحت عليها وانبسطت إياها فيتراءى ما يتراءى فظن المحجوب انها موجودات متأصلات وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
وَمتى تحققت بالمقام المحمود وفزت بما فزت من الحوض المورود الذي هو عبارة عن حضرة الوجود نُنَزِّلُ عليك تعظيما لشأنك وتأييدا لأمرك مِنَ الْقُرْآنِ المبين الموضح للمراتب العلية من التوحيد ما هُوَ شِفاءٌ لمرضى القلوب بسموم الإمكان في مضيق الحدثان ومجلس الملوان من الموفقين بشرف متابعتك وَرَحْمَةٌ نازلة لِلْمُؤْمِنِينَ بك المصدقين بدينك وكتابك ليسترشدوا ويستكشفوا بما فيه من الرموز والإشارات قدر قابلياتهم واستعدادتهم كي يتفطنوا ويتنبهوا بما فيه من السرائر المودعة المتعلقة بسلوك مسالك التوحيد والعرفان وَلا يَزِيدُ تربيتك وتعظيمك يا أكمل الرسل الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حدوده وأحكامه سبحانه استنكارا واستكبارا إِلَّا خَساراً وبوارا لا خسار أعظم منه وهو إبطالهم الحكمة التي قد جبلهم الحق لأجلها الا وهي المعرفة والتوحيد وما ينتمى إليها من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية المقبولة عند الله. ثم اخبر سبحانه عن تمايل الإنسان وتلوينه وعدم رسوخه وتمكنه بحال من الأحوال وعدم فطنته وذكائه بذاته وكيفية افتقاره واحتياجه الى الحق وعدم تأمله في مبدئه ومعاده وفي كيفية ارتباطه بالحق في النشأة الاولى والاخرى
فقال وَإِذا أَنْعَمْنا وأعطينا من كمال فضلنا وجودنا عَلَى الْإِنْسانِ المجبول(1/463)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
على الكفران والنسيان ووسعنا له طرق معاشه أَعْرَضَ عنا وانصرف عن شكر نعمنا وعن الالتجاء والارتجاء بنا عنادا واستكبارا وَصار من افراط عتوه الى حيث نَأى وتباعد بِجانِبِهِ عنا اى طوى كشحه ولوى عنقه وعطفه منا كأنه مستغن في ذاته مستقل في امره بحيث لا يخطر بباله احتياجه إلينا ولهذا تجبر واستعلى وبالغ في الجدال والمراء الى ان قال انا ربكم الأعلى وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ وأزعجه البلاء وهجم عليه الشدة والعناء وترادفت عليه الوقائع والمصيبات قد كانَ من قلة تصبره وضعف يقينه وتدبره يَؤُساً عن روح الله شديد القنوط عن سعة لطفه ورحمته والطرفان اى افراط الاستغناء والاستكبار وتفريط اليأس والقنوط كلاهما مذمومان محظوران عقلا وشرعا
قُلْ يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة منبئا عن الاستقامة والعدالة مبنيا عليهما كُلٌّ من المحق والمبطل والهادي والضال يَعْمَلُ ويقتدى عَلى شاكِلَتِهِ وطريقته التي تشاكل وتشابه حاله ووقته إياها إذ كل ميسر موفق من لدنا لما خلق له سواء كان من رشد أو غي او ضلالة او هداية ولا علم لكم يا بنى آدم على حقيقة الأمر والحال فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِمَنْ هُوَ أَهْدى منكم وأقوم سَبِيلًا وأوضح منهجا واسد طريقا فيوفقه على جهته ووجهته ومن هو على خلافه فعلى خلافه. ثم قال سبحانه تأييدا لحبيبه صلّى الله عليه وسلم وتعليما
وَيَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل فرق النصارى واليهود وجميع اهل الزيغ والضلال عَنِ الرُّوحِ المتعلق بالأجساد المحيي لها ومحركها بالإرادة والاختيار وإذا انفصل وافترق عنها ماتت ولم تتحرك وانقطع الشعور والإدراك عنها اى يسئلونك عن كميته وكيفية تعلقه وارتباطه بالأجسام وكيفية انفصاله عنها قُلِ الرُّوحُ نفسه وحقيقته وكيفية تعلقه بالأجسام وكيفية انفصاله عنها كلها صادرة ناشئة مِنْ أَمْرِ رَبِّي اى من جملة ما حصل بامره الدال على تكوين المكونات وإيجاد الموجودات وهو قول كن الدال على سرعة نفوذ قضائه سبحانه واما كمية المقضى وكيفية حصوله وانفصاله فأمر قد استأثر الله به في غيبه ولم يطلع أحدا عليه لذلك قال وَما أُوتِيتُمْ يا ابن آدم مِنَ الْعِلْمِ المتعلق بالروح إِلَّا قَلِيلًا الا وهو انيته وتحققه دون كميته وحقيقته لان اطلاع الإنسان انما هو بقدر قابليته واستعداده وليس في وسعه وطاقته ان يعلم حقيقة الخردلة وكيفية حصوله وتكونه فكيف حقيقة الروح وكيفية تعلقه بالبدن غاية ما في الباب ان المكاشفين من ارباب الأذواق ينكشفون بكيفية سريان الهوية الذاتية الإلهية التي هي منبع الروح على صفائح المكونات سريان الروح في البدن وسريان نور الشمس على مطلق الأضواء ويتفطنون منها ان ظهور الأشياء وحياتها ومنبع نشأها ونماءها انما هي تلك السراية هذا نهاية ما يمكن التكلم والتفوه عنه واما الاطلاع على كنهها فأمر لا يسعه مقدرة البشر.
ثم قال سبحانه وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ اى والله ان شئنا وأردنا اذهاب القرآن المرشد لقاطبة الأنام لحككناه من المصاحف ومحوناه من الصدور والخواطر ايضا ثُمَّ بعد اذهابنا ومحونا لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا اى لا تجد ظهيرا معينا لك يطالبنا بمجيئه
إِلَّا رَحْمَةً ناشئة مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل نازلة إليك ان سألت منه سبحانه رده يرده إليك تلطفا وعطفا إِنَّ فَضْلَهُ سبحانه قد كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً كثيرا مثل اصطفائك من بين البرية وارسالك الى كافة الخليقة وتأييدك في عموم الأوقات ونصرك على جميع الأعادي وغير ذلك ثم لما قال بعض المعاندين من الكفار الطاعنين في القرآن القاد حين به وبشأنه لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذي أنت جئت به يا محمد(1/464)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
ونسبته الى الله افتراء بانه نزل من عنده
قُلْ لهم يا أكمل الرسل في جوابهم مقسما مؤكدا والله لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ واتفقوا معاونين متعاضدين عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ الجامع لأحوال النشأتين الواقع في أعلى مرتبة البلاغة والفصاحة لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولما حصل لهم الإتيان به مطلقا وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً اى ولو كانوا متظاهرين متعاضدين في إتيانه لم يتأت منهم الإتيان لكونه خارجا عن طوق البشر
وَالله لَقَدْ صَرَّفْنا وكررنا لِلنَّاسِ فِي حق هذَا الْقُرْآنِ المعجز لفظا ومعنى مِنْ كُلِّ مَثَلٍ موضح لهم اعجازه وخروجه عن معرض معارضة البشر معه وارتفاع شانه عن القدح والطعن فيه فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ وامتنعوا عن قبوله ولم يتفطنوا لاعجازه وبالجملة ما يزيدوا في حقه مع ظهور الدلائل والشواهد المكررة إِلَّا كُفُوراً جحودا وإنكارا بدل القبول واليقين بحقيته
وَمع ظهور هذا المعجز المشتمل لما في العالم غيبا وشهادة اجمالا وتفصيلا قالُوا تعنتا واقتراحا ومبالغة وإلحاحا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ولن نصدق بكتابك ودينك حَتَّى تَفْجُرَ وتشقق أنت لَنا مِنَ الْأَرْضِ اى ارض مكة شرفها الله يَنْبُوعاً اى عينا جارية نشرب منها ونزرع بها ونغرس على وجه العموم
أَوْ تَكُونَ لَكَ عليها على وجه الخصوص جَنَّةٌ وبستان مغروسة مملوة مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ سهل السقي فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها وأوسطها تَفْجِيراً سهلا يسيرا بحيث لا تكلف في سقيها ولا عسر أصلا
أَوْ تأتى بآية ملجئة لنا الى الايمان بان تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ ونسبت الى ربك بقوله ان نشأ نخسف بهم الأرض او نسقط عليهم كسفا من السماء عَلَيْنا كِسَفاً اى قطعة بعد قطعة حتى نؤمن لك أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ الذي ادعيت الرسالة والنبوة من عنده جهرة ظاهرة تعالى عن ذلك وَالْمَلائِكَةِ اى تأتى بالملائكة الذين ادعيت أنت وساطتهم ورسالتهم بينك وبين ربك قَبِيلًا اى تأتى بهم مقابلا عيانا مشاهدا محسوسا لنا بحيث نريهم صورهم وأشباحهم
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ متخذ مِنْ زُخْرُفٍ اى ذهب وفضة مكللة بجواهر نفيسة أَوْ تَرْقى وتصعد أنت بنفسك على رؤس الاشهاد فِي السَّماءِ بلا اسباب ووسائل وَبعد صعودك وعروجك إليها لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ اى لن نؤمن ونصدق بك بمجرد رقيك وعروجك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً مكتوبا من عند ربك مشتملا على اسامينا وعلى دعوتك إيانا الى الايمان وتصديقنا بك بحيث نَقْرَؤُهُ بين أظهرنا ونؤمن بك بأجمعنا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما سمعت منهم هذه المقترحات التي ليس في وسعك وطاقتك متعجبا منزها مستبعدا سُبْحانَ رَبِّي وتعالى شأنه من ان يشارك في قدرته فان أمثال هذه المقترحات انما تصدر عنه سبحانه اصالة او أظهرها سبحانه بدعاء بعض عباده ان تعلق ارادته ومشيته ولم يظهر سبحانه على أمثال هذا بل هَلْ كُنْتُ وما صرت إِلَّا بَشَراً ضعيفا كسائر الناس غاية ما في الباب انى بوحي الله الى والهامه على قد كنت رَسُولًا من لدنه كسائر الرسل وقد كانوا ايضا لا يتأتى منهم كل ما اقترح عنهم اقوامهم بل ما يصدر عنهم الا ما يسر الله لهم ومكنهم عليه ومالي ايضا الا ما يسر الله لي وقدره على.
ثم قال سبحانه وَما مَنَعَ وصرف النَّاسَ عن أَنْ يُؤْمِنُوا ويهتدوا وقت إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى اى الرسول الهادي المرشد الرشيد إياهم ليرشدهم الى طريق التوحيد والعرفان إِلَّا أَنْ قالُوا اى الا قولهم هذا على سبيل الاستبعاد والاستنكار أَبَعَثَ اللَّهُ العليم الحكيم المتقن في أفعاله بَشَراً(1/465)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
متصفا بأنواع الجهالات منغمسا بأصناف الكدورات رَسُولًا الى بشر مثله ليهديهم الى الكمال ويهذبهم عن النقصان كلا وحاشا بل ان أرسل الله رسولا الى هداية عباده فالمناسب إرسال الملك لكونه صافيا عن الكدورات الجسمانية مطلقا
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا لا بد بين المفيد والمستفيد من المناسبة والملائمة المصححة لأمر الإفادة والاستفادة لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ سماويون نازلون منها إليها لمصلحة وهم يَمْشُونَ عليها مُطْمَئِنِّينَ متمكنين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ حين احتياجهم الى الإرشاد والتكميل مِنَ السَّماءِ مَلَكاً كذلك مجانسا لهم رَسُولًا إليهم يرشدهم ويهديهم حسب مجانستهم ومناسبتهم
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما ايست عن ايمانهم وصلاحهم كَفى بِاللَّهِ اى كفى الله شَهِيداً مثبتا لرسالتي عليكم بإظهار انواع المعجزات على يدي قاطعا للنزاع الواقع بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ سبحانه بذاته وبحضرة علمه قد كانَ بِعِبادِهِ وبجميع ما صدر عنهم من الأعمال على التفصيل خَبِيراً بَصِيراً ذا خبرة وبصارة كاملة شاملة بحيث لا يشذ من أحوالهم شيء من علمه وخبرته فيجازيهم بكمال قدرته حسب علمه بهم
وَبعد ما ثبت ان أمرهم موكول الى الله وحالهم محفوظ عنده مَنْ يَهْدِ اللَّهُ الهادي وتعلق ارادته بهدايته فَهُوَ الْمُهْتَدِ اى هو مقصور على الهداية لا يتعداها أصلا وَمَنْ يُضْلِلْ الله وتعلق مشيته بضلاله فَلَنْ تَجِدَ يا أكمل الرسل لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ اى من دون الله يوالونهم ويظاهرون عليهم وينقذونهم من بأس الله وبطشه بعد ما اخذتهم العزة باثمهم وَلذلك نَحْشُرُهُمْ ونبعثهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بعد تنقيد أعمالهم ونجزهم نحو النار مكبين عَلى وُجُوهِهِمْ منكوسين تنفيذا لأحكامنا يعنى يسحبون ويجرون نحو جهنم البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان عُمْياً لكونهم في النشأة الاولى أعمى عن رؤية الحق في اعيان المظاهر وصفحات المجالى وَبُكْماً لكونهم صامتين ساكتين عما ظهر لهم من دلائل التوحيد عنادا ومكابرة وَصُمًّا لكونهم أصمين عن استماع كلمة الحق عن السنة الرسل ووراثهم اى العلماء لذلك صار مَأْواهُمْ ومنزلهم جَهَنَّمُ الطرد والحرمان المسعر بنيران الخسران والخذلان وقد صارت من شدة تسعرها الى حيث كُلَّما خَبَتْ وسكنت لهب نارها بعد ما أكلت جلودهم ولحومهم زِدْناهُمْ جلودا ولحوما مثل جلودهم ولحومهم بل عينها يعنى كلما اضمحلت جلودهم ولحومهم نعيدهم على ما كانوا عليه لتصير سَعِيراً ذا شرر والتهاب مفرط بعد ما جدد ما تأكل والسبب في تكرارها وإعادتها كذلك انكارهم للحشر واعادة المعدوم بعينه
ذلِكَ الذي سمعت من العذاب جَزاؤُهُمْ اى جزاء المنكرين الكافرين وانما عذبناهم بها بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم قد كَفَرُوا بِآياتِنا الدالة على الحشر الجسماني وَقالُوا منكرين مستبعدين أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَصرنا رُفاتاً هباء غبارا منبثا مثارا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً اى مخلوقا موجودا جَدِيداً مثل المخلوق الاول كلا وحاشا
أَينكرون الحشر واعادة المعدوم بعينه ويصرون على الإنكار أولئك المعاندون وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ خلقا إبداعيا اختراعيا بلا سبق مادة وزمان قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بعد موتهم واعدامهم مع ان الإعادة أسهل وأيسر من الإنشاء والإبداء وَلم يعلموا كيف جَعَلَ اى صير وقدر سبحانه لَهُمْ أَجَلًا معينا لا رَيْبَ فِيهِ حتى وصلوا اليه ماتوا بحيث لا يسع لهم طلب التقديم والتأخير أصلا ومع وضوح هذه الدلائل(1/466)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
والشواهد فَأَبَى وامتنع الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العقل والنقل عن قبول الحق المطابق للواقع وبالجملة ما يزيدهم وروده ووضوحه إِلَّا كُفُوراً جحودا وإنكارا للحق لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم متوهمين نفاد قدرة الله عند مراده وانقضاء تمكنه واقتداره لدى المقدور
قُلْ للمنكرين المتوهمين نفاد قدرة الله وانصرام حوله وقوته عن مراده لا تقيسوا الغائب على الشاهد ولا تتوهموا الشح والبخل والعجز والاضطرار في حق الله بل الكل انما هو من اوصافكم وخواصكم إذ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي مع سعتها وفسحتها وعدم نفادها وتناهيها أصلا إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ وبخلتم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ ومحافة النفاد بالإنفاق سيما بلا وضع شيء بدل ما ينفق وَبالجملة قد كانَ الْإِنْسانُ خلق في اصل فطرته قَتُوراً ممسكا لازدحام لوازم الإمكان واسباب الافتقار فيه إذ هو أحوج المظاهر وابعدهم عن الوحدة الذاتية إذ الإنسان آخر نقطة قوس الإمكان وهي نهاية الكثرة ويصير هو ايضا بعينه أول نقطة قوس الوجوب ان انخلع عن ملابس الإمكان وتجرد عنها بالمرة وترقى الى مدارج معارجه بلا شوب شين ونقصان
وَمن جملة كفورية الإنسان وقتوريته انا لَقَدْ آتَيْنا من سعة رحمتنا وكمال حولنا وقدرتنا مُوسى المؤيد من عندنا تِسْعَ آياتٍ ومعجزات بَيِّناتٍ واضحات دالة على صدقه في رسالته وحقيته في نبوته ألا وهي العصا واليد البيضاء والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الجبل فوقهم وان شئت يا أكمل الرسل زيادة إيضاح والزام لمشركي اليهود فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ اى بقية أحبارهم ليخبروك وقت إِذْ جاءَهُمْ موسى من قبل مدعيا النبوة ومظهرا المعجزات المذكورة يعنى سلهم عما مضى بينه وبين فرعون وبينه وبين قومه ايضا فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ بعد ما رأى منه ما رأى من الخوارق بدل الايمان والإطاعة إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى بعد ما جئت بسحر عظيم وكيد كبير وهو وان كان من كمال العقل والدراية الكاملة انا اعتقدك مَسْحُوراً مجنونا مخبطا مختل العقل والرأى بادعائك الرسالة والنبوة من خالق السماء وبنزول الملك والصحف إليك من لدنه مع انسداد الطرق وانعدام السبل ثم لما سمع موسى من فرعون ما سمع ايس من إيمانه وقنط وحينئذ
قالَ موبخا عليه مقرعا والله لَقَدْ عَلِمْتَ يقينا ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات القاهرة الباهرة الى إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إذ هي خارجة عن وسع غيره مطلقا وعلمت ايضا انه ما أنزلها الا بَصائِرَ اى بينات وشواهد دالة على صدقى في دعواي لأبصرك وأوقظك عن منام غفلتك وتتفطن أنت بها لأصل فطرتك وجبلتك وَإِنِّي بعد ما قد بالغت في تبليغ ما جئت به من الهداية والإرشاد فلم تصدقني ولم تقبل منى ولم تؤمن على لَأَظُنُّكَ واعتقدك يا فِرْعَوْنُ المتناهي في الغفلة والغرور مَثْبُوراً مصروفا عن الخير كله مطرودا عن ساحة عز الحضور مجبولا على الشر ودواعيه مطلقا وبعد ما رأى فرعون من موسى ما رأى من المعجزات الواضحة خاف ان يميل اليه قومه ويؤمنوا له
فَأَرادَ وقصد فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ اى بنى إسرائيل ويستأصلهم بان يحركهم أولا مِنَ الْأَرْضِ اى ارض مصر ويفرقهم بحيث لا يتأتى منهم المقاومة معه أصلا ثم يأمر بقتل كل فرقة فرقة منهم مكرا منه وكيدا فمكرنا له قبل مكره إياهم فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ كانوا متفقين مَعَهُ في مكره وكيده جَمِيعاً حين أمرنا موسى ومن معه بالفرار ليلا فأخبر هو واتبع اثره فلقى موسى البحر وهو على عقبه فامرتا موسى حينئذ بضرب البحر بالعصا فضربه(1/467)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
فانفلق البحر وافترق فرقا وتشعب شعبا كثيرة فمر موسى وأصحابه سالمين فلقى فرعون على الفور فرآى البحر مفترقا فاقتحموا مغرورين فأغرقناهم أجمعين بعد ما قد أمرنا البحر بالخلط والاجتماع على ما كان عليه
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد انقراض فرعون وانقضائه لِبَنِي إِسْرائِيلَ على سبيل التوصية والتذكير في كتابنا المنزل عليهم وهو التوراة اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد فرعون ان يستفزكم منها بالقهر والغلبة آمنين مؤمنين صالحين مصلحين عموم مفاسدكم بما أرسل إليكم وانزل عليكم عاملين حسب أوامرنا ونواهينا المنزلة إليكم في كتابكم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وقيام الساعة قد جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ملتفين مختلطين سعداءكم مع أشقيائكم فنميز بينكم وندخلكم منزل الشقاوة والسعادة المعد لكلا الفريقين.
ثم قال سبحانه في حق القرآن ونزوله وعظم قدر من انزل اليه وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ اى ما أنزلنا القرآن الا ملتبسا بالحق المطابق للواقع بلا عروض الباطل عليه أصلا وَكذا بِالْحَقِّ نَزَلَ
اى عموم ما نزل فيه من الاحكام والأوامر والنواهي والعبر والأمثال والرموز والإشارات والمعارف والحقائق كلها قد نزل بالحق الصريح الثابت الخالص عن توهم الباطل مطلقا وَايضا ما أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل على كافة البرايا وعامة الأمم إِلَّا مُبَشِّراً بالحق للمؤمن المطيع بأنواع الخيرات واللذات الروحانية المعنوية وَنَذِيراً ايضا بالحق للكافر الجاحد عن انواع العذاب والعقاب الجسمانية والروحانية
وَبالجملة ما أرسلناك عليهم الا لتكون داعيا لهم الى التوحيد والعرفان تاليا لهم قارئا عليهم قُرْآناً فرقانا بين الحق والباطل والهداية والضلال لذلك فَرَقْناهُ اى قد فرقنا انزاله عليك حيث أنزلناه إليك مفرقا منجما لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ لدى الحاجة عَلى مُكْثٍ مهل وتؤدة فإنها أسهل وأيسر للحفظ والفهم من سائر الكتب الإلهية وَايضا قد نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا تدريجيا على حسب الوقائع ومقتضى الازمنة والموارد في عرض عشرين سنة
قُلْ يا أكمل الرسل للطاعنين في القرآن المائلين عن حقيته وصدقه جهلا وعنادا على سبيل التهديد والتوبيخ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا اى سواء منكم الايمان بالقرآن وعدم الايمان به لأنكم جهلاء عما فيه من الحقائق والمعارف غفلاء عن الرموز والإشارات المودعة فيه فتصديقكم وتكذيبكم إياه لا يجدي له نفعا ولا يورث ضرا وانما العبرة لذوي الخبرة إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من لدن حكيم عليم بحقية القرآن وبحقية ما فيه وكذا بما في عموم الكتب الإلهية ألا وهم الأنبياء والأولياء المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان قد كانوا يؤمنون ويصدقون به مِنْ قَبْلِهِ اى قبل نزوله وبعد نزوله لذلك إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ويقرأ عندهم يَخِرُّونَ ويسقطون لِلْأَذْقانِ سُجَّداً متذللين واضعين جباههم وأذقانهم على تراب المذلة والهوان تعظيما لأمر الله وشكرا له لإنجاز وعده
وَيَقُولُونَ في حين سجوده منزهين مسبحين سُبْحانَ رَبِّنا وتعالى من ان يأتى منه الخلف فيما عهد علينا او عن ان يعجز عن إتيان ما وعدنا واوعدنا به إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا اى انه قد كان وعد ربنا الذي وعدنا به في الكتب السالفة من إرسال رسول متصف بأوصاف مخصوصة معه كتاب جامع لما في الكتب السالفة ناسخ لها خاتم للرسالة العامة والتشريع الشامل لذلك صار دينه ناسخا لجميع الأديان فقد أنجز سبحانه وعده بإرسال هذا النبي الأمي الموعود
وَيَخِرُّونَ ايضا العالمون العارفون بحقانية القرآن بعد تأملهم وتوغلهم في حكمه وأحكامه وحقائقه ومعارفه لِلْأَذْقانِ حال كونهم يَبْكُونَ من خشية الله وَبالجملة ما(1/468)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
يَزِيدُهُمْ التأمل والتدبر فيه على وجه التدقيق والتعمق مرارا وتكرارا الا خُشُوعاً وخضوعا لاطلاعهم منه في كل مرة على سرائر قد شهدت بها اذواقهم وذاق حلاوتها وجدانهم ومذاقهم
قُلِ يا أكمل الرسل للمحجوبين الغافلين عن سرسريان الوحدة الذاتية الإلهية في المظاهر كلها والمجالى برمتها ادْعُوا اللَّهَ اى سموا الذات الاحدية التي هي ينبوع بحر الوجود ومنشأ عموم المظاهر والموجود باسم الله المستجمع لجميع الأسماء والصفات اجمالا أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ اى سموه باسم الصفات التي قد اتصفت بها الذات الاحدية تفصيلا أَيًّا ما تَدْعُوا وتسموا من اسماء الذات والصفات فَلَهُ اى لله المنزه عن سمة الكثرة والحدوث مطلقا المقدس عن وصمة الشركة والتعدد رأسا الْأَسْماءُ الْحُسْنى الكاملة الدالة على احدية ذاته غاية ما في الباب انها باعتبار شئونه وتجلياته قد يتعدد أسماؤه وصفاته وبالجملة الاسم والمسمى كلاهما متحدان عند سقوط الإضافات ورفع التعينات واطراح الاعتبارات إذ لا يتصور التعدد دون جنابه الا وهما واعتبارا وَإذا كان الكل من الأسماء والمسميات راجعا الى الذات الاحدية بعد رفع التعينات وسقوط الإضافات لا تَجْهَرْ أنت ايها العارف المتمكن في مقام التوحيد الراسخ فيه بلا تلوين وتقليد ولا تعلن بِصَلاتِكَ وميلك نحو الحق بوحا وشطحا ولا تقل في حال صحوك وافاقتك كلام ارباب السكر والحيرة وَلا تُخافِتْ بِها ايضا ضنا وشحا على ذوى الاستعداد والاسترشاد وَابْتَغِ واختر يا صاحب التمكن والتمكين بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا مقتصدا معتدلا مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط إذ الخير في كل الأمور أوسطها إذ هو اعدلها
وَقُلِ بعد ما تحققت وتمكنت في مقر التوحيد شكرا لما أنعمك الحق الوصول اليه وأمكنك التحقق دونه والورود عليه الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قد توحد بذاته وتقدس بأسمائه وصفاته وتفرد بألوهيته واستقل بوجوب وجوده وربوبيته بحيث لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً يخلف عنه لكونه صمدا قيوما أزليا ابديا سرمديا بحيث لا يعرضه الفناء مطلقا ولا يعتريه الانصرام والانقضاء ابدا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ والملكوت يظاهره او يزاحمه ويخاصمه إذ لا شيء في الوجود سواه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ يواليه ويتولى امره ويعين عليه حين ما لحقه مِنَ الذُّلِّ المسقط لعزه الأصلي وعظمه الحقيقي الأزلي إذ لا تغير ولا تبدل في ذاته ولا تحول ولا انتقال في شأنه أصلا وَبالجملة كَبِّرْهُ تَكْبِيراً ذاتيا حقيقيا وعظمه تعظيما صوريا ومعنويا وكيف لا إذ لا وجود للغير معه حتى يتصور هناك النسبة والاضافة بل هو أجل واكبر لذاته بلا توهم الاضافة فبه اهدنا بفضلك سواء سبيلك الى توحيدك واجعلنا من زمرة ارباب تكبيرك وتمجيدك
خاتمة سورة الإسراء
عليك ايها الموحد المتحقق بمقام تمجيد الحق وتحميده مكنك الله بما أوصلك اليه وقررك دونه ان تعظم الحق غاية التعظيم وتكبره كمال التكبير والتكريم واعلم ان تعظيم الحق انما هو بتعظيم مظاهره ومجاليه إذ ما من ذرة من ذرائر الكائنات الا وقد ظهر الحق فيه وتجلى عليه بأسمائه الحسنى وأوصافه العليا فلك ان تتواضع وتتذلل عند كل ذرة من ذرائر المظاهر طوعا ورغبة ولا تتكبر عليها ولا تتعظم دونها إذ التكبر والتفوق على ذرة حقيرة من اى جنس وصنف كانت من امارات عدم الوصول الى مرتبة اليقين الحقي ومقر التوحيد الحقيقي وذلك انما يحصل لك بعد رفع مقتضيات(1/469)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
اوصافك البشرية بموتك الإرادي الاختياري وهو انما يحصل بالرياضات الشاقة القالعة لدرن الهوى والغفلات وبترك الرسوم والعادات الراسخة في نفوس اصحاب الجهالات وبالركون الى العزلة والخمول والخلوات والانقطاع عن رسوم اصحاب التخمينات والتقليدات والتبتل نحو الحق في عموم الأوقات والحالات. وفقنا الله وإياكم بسلوك طريق التوحيد ورزقنا الوصول الى منزل التجريد والتفريد وجعلنا من زمرة اهل المحبة والولاء الوالهين في مقام التمجيد والتحميد انه سبحانه قريب مجيب حميد مجيد
[سورة الكهف]
فاتحة سورة الكهف
لا يخفى على المحققين المحمديين المتحققين بمقام المعرفة والتوحيد بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم المسترشدين من القرآن المجيد المنزل عليه المفصل لمرتبته صلّى الله عليه وسلّم الموضح لشأنه في المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المبين لعروجه الى معارج العنايات الإلهية وسلوكه في مسالك توحيده على الاستقامة والاعتدال بلا عوج وانحراف ان من وفق من عند الله على سلوك طريق التوحيد من ارباب العناية قد ظهر عليه ولاح دونه استقامة القرآن المنزل على العدالة والقسط الإلهي وبراءته عن العوج والانحراف وكذا اعتدال اخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم ومقابلته ومطابقته إياه في الاستقامة والاستواء إذ هو منزل من عنده سبحانه بمقتضى استعداده صلّى الله عليه وسلّم على وفق مرتبته الجامعة لجميع مراتب الأنبياء والرسل الهادين المهديين إذ هي مبدأ جميع المراتب ومنتهاها ايضا لذلك كمل ببعثته وإرساله صلّى الله عليه وسلّم امر الدين وختم بإقامته صلّى الله عليه وسلم باب الرسالة والتشريع وقد سد بانزال القرآن عليه باب التنزيل والتبيين مطلقا لذلك قد وجبت له صلّى الله عليه وسلّم ولجميع من آمن له واقتفى اثره مواظبة حمد الله والاقامة بأداء شكره على انعام هذه النعمة الجليلة التي هي نعمة القرآن الفارق بين ارباب اليقين والعرفان وبين اصحاب الزيغ والطغيان لذلك اخبر سبحانه بالحمد على نفسه تعليما له صلّى الله عليه وسلّم وإرشادا لامته فقال سبحانه متيمنا باسمه العلى العظيم بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى بذاته باعتبار اتصافه بعموم أوصاف الكمال لعبده الذي قد انتخبه واصطفاه من بين عباده بمقتضى الكرم والإفضال الرَّحْمنِ على عموم عباده بإرسال هذا العبد رسولا إليهم هاديا لهم الى درجات الكمال الرَّحِيمِ لهم يوصلهم بإرشاد حبيبه عليه الصلاة والسّلام الى زلال الوصال
[الآيات]
الْحَمْدُ المشتمل المتضمن على عموم الاثنية والتوصيف بالأوصاف الجميلة والنعوت الجليلة مطلقا حقيق لائق لِلَّهِ اى للذات المستجمع لجميع أوصاف الكمال المستحق لعموم المحامد استحقاقا ذاتيا ووصفيا الجميل الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ المستجمع لجميع مراتب الكمال المستظل بظل الألوهية المستحق لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحانه بالأصالة يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابَ الجامع لجميع أوصاف الكمال اجمالا وتفصيلا المشتمل على عموم الاحكام والأخلاق المتعلقة لها المترتبة عليها في النشأة الاولى والأخرى مع كونه محتويا على عموم ما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي مع زيادات قد خلت عنها تلك الكتب من الرموز والإشارات المتعلقة بالتوحيد الذاتي المسقط لعرق الإضافات والكثرات مطلقا وَبين لهم فيه طريق التوحيد الذاتي على الوجه الأعدل الأبلغ الأتم الأقوم بحيث لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً وانحرافا في تبيينه
بل قد جعله قَيِّماً مستقيما معتدلا بين طرفي(1/470)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
الإفراط والتفريط المذمومين عقلا وشرعا وانما أنزله على عبده وحبيبه صلّى الله عليه وسلّم لِيُنْذِرَ هو صلّى الله عليه وسلّم بانذاراته الكافرين الذين كفروا بالله وجحدوا في توحيده وعملوا السيئات المبعدة لهم عن طريق النجاة بَأْساً شَدِيداً وعذابا أليما عظيما صادرا مِنْ لَدُنْهُ اى من عند الله العزيز المنتقم بطشا لهم وانتقاما منهم وَيُبَشِّرَ ايضا بتبشيراته الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى مرتبة التوحيد الصادرة عنهم بمقتضى يقينهم وعرفانهم أَنَّ لَهُمْ اى بان لهم أَجْراً حَسَناً هو التحقق بشرف اللقاء والفوز بمطالعة جمال الله والاستغراق عند وجهه الكريم
ماكِثِينَ فِيهِ اى في الأجر الحسن دائمين أَبَداً مؤبدا مخلدا بلا تبديل وتغيير مزيدين المحبة واللذة والشوق والارادة متعطشين الى زلال التفريد بلا رواء أصلا كما اخبر سبحانه عن حال أولئك الوالهين بقوله إلا طال شوق الأبرار الى لقائي
وَيُنْذِرَ ايضا أشد إنذار بأسوء عذاب ووبال الَّذِينَ قالُوا من فرط إسرافهم في الشرك والجحود وهم اليهود والنصارى قد اتَّخَذَ اللَّهُ الواحد الأحد الصمد المنزه عن الأهل والولد وَلَداً حيث قالت اليهود عزير ابن الله والنصارى المسيح ابن الله
مع انه ما لَهُمْ بِهِ بالله وباتخاذه ولدا مِنْ عِلْمٍ يقين او ظن متعلق منهم به وبمعناه وبما يترتب عليه من النقص المنافى لوجوب وجوده إذ اتخاذه انما هو للاخلاف او المظاهرة والتزين وكلاهما محالان على الله لا يليقان بجنابه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وَلا لِآبائِهِمْ يعنى وان ادعوا اثبات الولد لله تقليدا للاباء والاسلاف فليس لهم ايضا علم بنقصه وعدم لياقته بجناب الحق المنزه المقدس في ذاته عن امارات النقصان وعلامات الإمكان مطلقا وبالجملة قد كَبُرَتْ اى جلت وعظمت في الكفر والجحود وسوء الأدب مع الله كَلِمَةً اى مقالتهم هذه مع انها تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ هفوة بلا علم وتأمل بل إِنْ يَقُولُونَ وما يقصدون بقولهم هذا إِلَّا كَذِباً مينا وافتراء يفترونه على الله وينسبونه الى كتابهم ظلما وزورا وبعد ما كان حالهم في الافتراء والمراء على هذا المنوال وشدة غيظهم وشكيمتهم مع الله على هذا المثال
فَلَعَلَّكَ يا أكمل الرسل بمجرد محبتك إياهم وبميلك الى ايمانهم وبرجائك وتحننك الى متابعتهم وبيعتهم معك باخِعٌ نَفْسَكَ اى قاتلها ومهلكها عَلى آثارِهِمْ بعد ما انصرفوا عنك وذهبوا من عندك إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا اى انهم لم يؤمنوا ولم يصدقوا بِهذَا الْحَدِيثِ اى القرآن أَسَفاً يعنى أهلكت نفسك بكثرة التأسف والتحزن على ذهابهم وانصرافهم عنك وعدم ايمانهم وانقيادهم بك وان حداك وبعثك الى ايمانهم واتباعهم غناؤهم ورئاستهم وترفههم وجاههم وثروتهم وسيادتهم بين الناس فاعلم انها لا اعتداد لها ولا اعتبار لما يترتب عليها
إِنَّا ما قد جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأصول الثلاثة التي هي الحيوان والنبات والمعدن وما يتفرع عليها ويتخذ منها من انواع اللذات والشهوات الجسمانية الوهمية وما أظهرناها الا زِينَةً لَها وزخرفة عليها لِنَبْلُوَهُمْ ونختبرهم اى ارباب التكاليف والتدابير المجبولين على فطرة المعرفة والتوحيد أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأتم رشدا وعقلا في الاعراض عنها وعدم الالتفات إليها والاجتناب عن لذاتها الوهمية التي هي دائرة على التقضي والانصرام وشهواتها المورثة لانواع الحزن والآلام وأمانيها المستلزمة لأصناف الجرائم والآثام مع ان الضروري منها في نفس الأمر ما هو الاكن حجرة ولبس خرقة وسد جوعة وباقيها حطام ليس لها دوام مورث لاسقام وآلام
وَمتى علمت ان ما على(1/471)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
الأرض ليس الا زينة وزخرفة ستفنى وتفوت عن قريب بل هي زائلة حين ثقاتها فانية وقت وجودها وبقائها فاعلم يقينا إِنَّا بشدة حولنا وقوتنا وكمال قدرتنا لَجاعِلُونَ مصيرون مبدلون جميع ما عَلَيْها من الزخارف والذخائر صَعِيداً ترابا مرتفعة أملس جُرُزاً خالية منقطعة عن النبات بحيث لا تنبت أصلا أعجبت واستبعدت عن كمال قوتنا وقدرتنا بجعل ما على الأرض صعيدا جرزا لذلك
أَمْ حَسِبْتَ وشككت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ اى قصتهم وشانهم والكهف هو الغار الواسع في الجبل وَالرَّقِيمِ هو اسم الجبل الذي فيه الغار او اسم الوادي الذي فيه الكهف او اسم قريتهم او كلبهم او لوح رصاصى او حجري قد رقم فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف او اصحاب الرقيم هم قوم آخرون على اختلاف الأقوال والروايات وبالجملة قد كانُوا مِنْ آياتِنا الدالة على كمال قوتنا وقدرتنا عَجَباً اى آية يتعجب منها الناس ويستبعدون وقوعها مع انه لا شك في وقوعها إذ قد بلغت من التواتر حدا لا يتوهم فيها الكذب قطعا إذ أمثال هذا في جنب قدرتنا الكاملة سهل يسير ولو رفعت ايها المعتبر المتأمل الالف والعادة عن البين وطرحت تكرر المشاهدة والمؤانسة عن العين لكان ظهور كل ذرة من ذرائر العالم في التعجب والاستبعاد وكمال الغرابة والبداعة مثل هذا بل اغرب واعجب من هذا فلك ان تراجع وجدانك وتتأمل أمرك وشانك حتى تجد في نفسك عجائب وغرائب يدهش منها عقلك وينحسر حسك وفهمك وتكل ادراكاتك وآلاتك وبالجملة قد تحيرت وصرت مستغرقا في بحر الحيرة والدهشة من نفسك فكيف من غيرك. أذقنا بلطفك حلاوة مطالعة مبدعاتك ومشاهدة مخترعاتك بنظر العبرة والحضور
اذكر يا أكمل الرسل قصة اصحاب الكهف وقت إِذْ أَوَى اى التجأ ورجع الْفِتْيَةُ الخمسة او السبعة او الثمانية من اشراف الروم ورؤسائهم حين دعاهم ملكهم دقيانوس الى الشرك وهم موحدون في أنفسهم فأبوا منه وهربوا إِلَى الْكَهْفِ ملتجئين إلينا فَقالُوا مناجين مستغيثين من الله رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم ووفقنا بشرف توحيدك وتقديسك آتِنا بفضلك وجودك مِنْ لَدُنْكَ لا بسبب أعمالنا ومقتضياتها رَحْمَةً تنجينا عن يد عدونا وعذابه وعن وبال ما دعانا اليه من الكفر والعصيان وَهَيِّئْ لَنا اسباب معاشنا حين كنا فارين من العدو ملتجئين إليك مستعيذين بكنفك وجوارك ووفق علينا مِنْ أَمْرِنا الذي نعمل لمرضاتك ولوجهك الكريم رَشَداً وهداية توصلنا الى زلال توحيدك آمنين فائزين بلا خوف وخطر فاستجبنا لهم وأجبنا مناجاتهم وأعطينا حاجاتهم وبعد ما دخلوا الكهف ملتجئين بنا متضرعين إلينا
فَضَرَبْنا وختمنا عَلَى آذانِهِمْ حين كانوا راقدين فِي الْكَهْفِ حجابا غليظا يمنعهم سماع الأصوات مطلقا وأنمناهم على هذا الوجه سِنِينَ عَدَداً بلا طعام ولا شراب وبلا شيء من اسباب المعاش وبالجملة هم احياء في صور الأموات منقطعين عن لوازم الحياة الصورية مطلقا سوى ان أنفاسهم تجئ وتذهب
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ وأيقظناهم من منامهم بعث الموتى للحشر لِنَعْلَمَ اى نجرب ونميز أَيُّ الْحِزْبَيْنِ المختلفين بعد ما اختلفوا في مدة لبثهم أَحْصى اى اضبط واحفظ لِما لَبِثُوا من المدة أَمَداً يعنى أيهم احفظ ضبطا لمدة رقودهم في الكهف فكلا الفريقين اى اليهود والنصارى لا يعلمان مدة لبثهم حقا مطابقا للواقع
بل نَحْنُ نَقُصُّ من مقام فضلنا وجودنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل نَبَأَهُمْ اى خبر مدة لبثهم ملتبسا بِالْحَقِّ الثابت الصحيح المطابق للواقع إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ اى شبان من ارباب الفتوة والمروة وفقوا من عند الله(1/472)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
بالعقل الكامل والرشد التام الى ان آمَنُوا وأذعنوا بِرَبِّهِمْ اى بوحدة مربيهم باستعمالهم عقولهم الموهوبة لهم الى دلائل توحيده وَزِدْناهُمْ من لدنا بعد ما أخذوا بالتأمل والتدبر في آياتنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا هُدىً وزيادة رشد تفضلا وامتنانا
وَاثبتناهم في جادة الهداية والتوفيق بان رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ محبة الايمان والعرفان اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قامُوا بين يدي دقيانوس الظالم الطاغي حين دعاهم الى الشرك والكفر على رؤس الملأ وهم بعد ما سمعوا منه دعوته قاموا من مجلسه منكرين فَقالُوا بلا مبالاة له ولسطوته وشوكته رَبُّنا اى الذي أظهرنا من كتم العدم وأوجدنا في فضاء الوجود ألا وهو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى هو مربى العلويات والسفليات والغيوب والشهادات والظاهر والباطن قد أوجد الكل بوحدته واستقلاله في التصرف والاستيلاء بلا مشاركة مشير ومظاهرة ظهير ووزير وهو المستحق للالوهية والربوبية لَنْ نَدْعُوَا ولن نعبد مِنْ دُونِهِ سبحانه إِلهاً باطلا إذ لا مستحق للعبادة الا هو والله لئن دعونا وعبدنا الها سواه لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً اى قولا باطلا بعيدا عن الحق والتحقيق بمراحل وصرنا حينئذ مغمورين في الشرك والكفر وانواع الضلال والطغيان عصمنا الله منها
ثم قالوا على سبيل التعريض والتسفيه هؤُلاءِ الضالون من منهج الرشد ومسلك السداد قَوْمُنَا اتَّخَذُوا من شدة غوايتهم وضلالهم مِنْ دُونِهِ سبحانه آلِهَةً باطلة اى أصناما وأوثانا يعبدونها كعبادة الله لَوْلا وهلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ اى بحجة واضحة وبينة لائحة معجزة صادقة باهرة صادرة من قبلهم دالة على لياقتهم الألوهية والربوبية فان لم يأتوا فما هم الا مفترون على الله بإثبات الشريك له فَمَنْ أَظْلَمُ واطغى وأضل واغوى مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الواحد الأحد المستقل بالالوهية باتخاذ الشريك سيما أمثال هذه التماثيل العاطلة كَذِباً مخالفا للواقع غير مطابق له بلا مستند عقلي او نقلي بل ظلما وزورا وبعد ما قد جرى بينهم وبين دقيانوس ما جرى قال بعض الفتية لبعضهم قد وجب اليوم علينا الاعتزال منهم
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ايها الموحدون وهجرتموهم وَكذا ما يَعْبُدُونَ اى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان التي هم يعتقدونها آلهة شركاء مع الله يعبدونها كعبادته وما تعبدون أنتم حينئذ إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الحق الحقيق بالعبادة وتخلصون العبادة له سبحانه بلا خوف منهم ودهشة من مكرهم ومكائدهم وان فعلتم هكذا لكان اولى وأليق بحالكم وبالجملة اتفقوا على الاعتزال واختيار الغربة والفرار من بينهم فاعتزلوا منهم واخرجوا من أظهرهم فارين فَأْوُوا وانصرفوا إِلَى الْكَهْفِ المعهود ملتجئين الى ربكم من خوف عدوكم متوكلين عليه في رزقكم ومعاشكم وان انصرفتم ورجعتم كذلك يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ بعد ما اخلصتم العمل إياه وفررتم نحوه موائد إحسانه ويبسط عليكم مِنْ سعة رَحْمَتِهِ وجوده ما تعيشون به وتبقون بسببه ان تعلق مشيته سبحانه لإبقائكم وَبعد ما التجأتم الى الله وتوكلتم عليه مفوضين أموركم كلها اليه يُهَيِّئْ لَكُمْ البتة ويسهل عليكم مِنْ أَمْرِكُمْ الذي اخترتم لرضاء الله ورعاية جانبه مِرفَقاً اى ما ترتفقون وتنتفعون به من اللذات الروحانية بدل ما فوتم لأنفسكم من اللذات الجسمانية
وَمن كمال رفق الله إياهم ورأفته معهم تَرَى الشَّمْسَ ايها الرائي إِذا طَلَعَتْ من مشرقها في مدة الصيف حين ازدياد حرارتها تَتَزاوَرُ اى تتقلب وتميل عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ اى جانب يمين الغار لئلا تؤذيهم بشعاعها وحرارتها وَإِذا غَرَبَتْ(1/473)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
اى زالت ومالت عن الاستواء نحو المغرب تَقْرِضُهُمْ وتقطعهم وتنصرف عنهم ذاتَ الشِّمالِ اى جانب يسار الغار لحفظهم وحضانتهم عن حرها وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ اى والحال انه هم في متسع الغار ووسطه لا في زواياه بحيث لو لم يكن رعاية الله وحفظه إياهم وصرف شعاع الشمس عنهم لكانت متشعشعة عليهم الى وقت الغروب ذلِكَ اى نشر الرحمة وتهيئة الرفق والرأفة وصرف أذى الشمس وكذا صرف جميع المؤذيات عنهم مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على قبوله سبحانه إياهم ورضاه عنهم لكونهم مهتدين الى زلال توحيده موفقين من عنده مبتغين لرضاه متوكلين عليه في جميع الأمور راضين بقضائه في كل الأحوال مخلصين له في عموم الأعمال مَنْ يَهْدِ اللَّهُ وأراد هدايته في سابق علمه وقضائه ومضى عليه حكمه ورضاؤه فَهُوَ الْمُهْتَدِ الموفق على الهداية والفوز بالفلاح المقصور عليها وان لم يصدر ولم يسبق منه الأعمال الصالحة تفضلا من الله إياه وامتنانا له من لدنه وَمَنْ يُضْلِلْ الله وتعلق مشيته بضلاله في سابق قضائه فهو الضال المقصور على الضلالة وان صدرت عنه الأعمال الصالحة لا يتبدل ضلالها أصلا وبعد ما أراد الحق ضلاله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا يتولى امره بالشفاعة لينقذه من الضلال الفطري ويخرجه عن الوبال الجبلي مُرْشِداً يهديه ويرشده الى طريق الرشد ومنهج السداد
وَمن كمال لطف الله إياهم ووفور رأفته معهم لو رأيتهم ايها الرائي في مضاجعهم ومراقدهم تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً متيقظين لانفتاح عيونهم وورود أنفاسهم وعدم نتنهم وانفساخهم وَهُمْ في أنفسهم رُقُودٌ نائمون مستريحون وَنُقَلِّبُهُمْ عناية منا إياهم وقت احتياجهم الى التقلب ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ كي لا تؤثر الأرض باضلاعهم وجوانبهم وَكَلْبُهُمْ هو كلب قد مروا عليه حين اوائهم ورجوعهم نحو الغار معتزلين فلحقهم فطردوه مرارا فلم يطرد فانطقه الله تعالى فقال انا أحب اولياء الله وأحباءه دعوني اقتفى اثركم فتركوه فتبعهم وقيل هو كلب راع قد مضوا عليه فأطعمهم وحكوا عليه حالهم فتبعهم وتبعه كلبه وقراءة من قرأ وكالبهم يؤيد هذا باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ اى بالباب او العتبة او الفناء وبالجملة لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ايها الرائي ورأيت هيئة رقودهم في تلك الغار المهيب لَوَلَّيْتَ اى استدبرت ورجعت قهقرى هربا وهولا مِنْهُمْ فِراراً من هيبتهم وهيئتهم وَلَمُلِئْتَ واملأت صدرك مِنْهُمْ رُعْباً خوفا ومهابة من رقودهم منفتحة العيون عظيمة الأجسام في غار مهيب في خلال جبال عوال طوال بعيد عن العمران
وَكما ارقدناهم وأنمناهم على هذا الوجه العجيب والطرز الغريب كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ وأيقظناهم لِيَتَسائَلُوا ويتقاولوا بَيْنَهُمْ حتى يستشعروا عن مدة رقودهم ولبثهم في الغار ليطلعوا على كمال قدرة الله ووفور جوده ورحمته عليهم ليزدادوا ايمانا يقينا واطمئنانا واعتمادا ووثوقا على كرم الله وفضله وغاية لطفه وبعد ما قاموا من هجعتهم قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ راقدين في هذا الغار قالُوا على سبيل الظن والتخمين إذ النائم لاطلاع له على مدة نومه لَبِثْنا يَوْماً تاما أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم قد دخلوا الغار غدوة وانتبهوا في الظهيرة فظنوا انهم في يومهم او الذي بعده ثم لما شاهدوا طول اظفارهم واشعارهم قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ إذ هو قائم حاضر في كل حال بلا تبدل واختلال ونحن قد كنا نائمين لا شعور لنا بمدة رقودنا ايضا ولا يهم لنا تعيينها بل أهم أمورنا الآن الطعام إذ نحن جيعان فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ نحو المدينة مصحوبا بِوَرِقِكُمْ اى بعينكم ونقدكم المضروبة المسكوكة والورق في اللغة الفضة سواء كانت مضروبة أم لا والمراد هنا المضروبة هذِهِ(1/474)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
اشارة الى ما في يد القائل من النقد إِلَى الْمَدِينَةِ وهي طرسوس التي فروا منها من دقيانوس فَلْيَنْظُرْ الذاهب المرسل منا وليتأمل أَيُّها اى اى طبيخة طباخ أَزْكى أنظف وألذ طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ حتى نطعم ونحن جيعان وَلْيَتَلَطَّفْ الذاهب مع اهل السوق وليجامل معهم في المعاملة وَليخرج منها سريعا حتى لا يُشْعِرَنَّ ولا يطلعن القاصد بِكُمْ اى بحالكم ومكانكم أَحَداً من اهل البلد
إِنَّهُمْ بعد اطلاعهم وشعورهم إِنْ يَظْهَرُوا ويغلبوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ويقتلوكم بضرب الأحجار البتة أَوْ يُعِيدُوكُمْ ويرجعوكم مرتدين فِي مِلَّتِهِمْ التي قد كنتم عليها قبل انكشافكم بالتوحيد وَلَنْ تُفْلِحُوا ولن تفوزوا بالفلاح والصلاح إِذاً اى حين عودكم وارتدادكم إليها أَبَداً اى لا يرجى فلاحكم بعد ارتدادكم أصلا ثم لما أرسلوا واحدا منهم الى البلدة فدخل على السوق ودار حول الطباخين واختار طبيخة زكية واخرج الدرهم ليشتري الطعام وكان عليه اسم دقيانوس فاتهموه بانه وجد كنزا فذهبوا به الى الملك وكان الملك نصرانيا موحدا فقص عليه القصة عن آخرها فقال بعض الحضار ان أبانا قد أخبرونا ان فتية قد فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء فانطلق الملك وجميع اهل المدينة مؤمنهم وكافرهم فابصروهم وكلموا معهم ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك من شر الجن والانس ثم رجعوا الى مضاجعهم وباتوا فماتوا فدفنهم الملك وبنى عليهم مسجدا
وَكما أنمناهم نوما طويلا شبيها بالموت ورحمناهم حيث نقلبهم من جانب الى جانب وحفظناهم من حر الشمس وانواع المؤذيات وبعثناهم من نومهم بعث الموتى للحشر ليزدادوا ثقة وبصيرة على الله كَذلِكَ أَعْثَرْنا واطلعنا عَلَيْهِمْ وعلى من شاهد حالهم وسمع قصتهم من المؤمنين لِيَعْلَمُوا ويتيقنوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة لكل ما أراد وشاء حَقٌّ ثابت لائق له ان ينجزه بلا خلفه وَيتيقنوا خصوصا أَنَّ السَّاعَةَ اى الموعودة التي قد وعدها الحق بألسنة جميع الأنبياء ورسله آتية لا رَيْبَ فِيها وارتفع نزاع الناس فيها ببعثة هؤلاء الفتية بعد ثلاثمائة وتسع سنين اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ المتعلق بدينهم في الحشر والمعاد الجسماني إذ القادر على حفظهم ورعايتهم في المدة المذكورة وبعثهم بعدها قادر على احياء جميع الموتى من قبورهم واعادة الروح الى أجسامهم إذ أمثال هذا أسهل يسير في جنب قدرة الله وارادته وبعد ما بعثناهم من مراقدهم واطلعنا الناس عليهم فمضوا وتكلموا معهم وحكوا ما حكوا واخبر القوم لهم بمدة رقودهم واستودعوا مع القوم ورجعوا نحو المراقد وباتوا فماتوا وانقرضوا فاختلف الناس في أمرهم وشأنهم فقال المسلمون هم منا لأنهم موحدون وقال الكافرون لا بل هم منا إذ هم أولاد الكفار وبالجملة فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً قال المسلمون نحن نبنى عليهم مسجدا وقال الكافرون نحن نبنى عليهم كنيسة وكلا الفريقين ليسوا عالمين لا بكفرهم ولا بايمانهم بل رَبُّهُمْ الذي رباهم بأنواع التربية ورحمهم بأنواع الرحمة أَعْلَمُ بِهِمْ وبحالهم فأمرهم موكول الى الله مفوض اليه سبحانه ثم لما تمادى النزاع بينهم وتطاول جدالهم قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ بالقوة والحجة وهم الموحدون المسلمون لَنَتَّخِذَنَّ ولنبنين عَلَيْهِمْ مَسْجِداً نتوجه فيه لله ونتبرك بهم ونجعله محل الحاجات وقضاء المناجاة فاتخذوا مسجدا وجعلوه مرجعا يرجع نحوه الأقاصي والأداني ثم لما اختلف الخائضون في قصتهم في عددهم ذكر سبحانه أقوالهم أولا
ثم بين ما هو اولى وأحق وأوفق للواقع فقال سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ اى مصيرهم اربعة كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ(1/475)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
اى مصيرهم ستة كَلْبُهُمْ كلا القولين الاول قول اليهود والثاني قول النصارى قد صدر عنهم رَجْماً ورميا بِالْغَيْبِ إذ لا مستند لهم لا من التواريخ ولا من اقوال الرسل والكتب وَيَقُولُونَ هم سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ اى مصيرهم ثمانية كَلْبُهُمْ والواو وان كان مقحما أفاد توكيد لصوق الصفة بالموصوف وشدة اتصاله به ليدل على صدقه ومطابقته للواقع ومثله في القرآن كثير منه قوله تعالى وما أهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم وغير ذلك وهي مثل الواو في قولهم جاءني زيد ومعه ثوب هذا قول المؤمنين قد أخذوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو من جبرائيل عليه السّلام وجبرائيل من الله العزيز العليم فان شكوا فيه ايضا ونسبوه الى الرمي والتخمين قُلْ لهم يا أكمل الرسل رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إذ لا يعزب عن علمه شيء من أحوالهم من أول أمرهم الى آخره إذ علمه سبحانه بعموم معلوماته حضورى لا يعزب عن حضوره شيء أصلا وهم ما يَعْلَمُهُمْ عن أحوالهم إِلَّا قَلِيلٌ بالاخبار والتواريخ وأكثرها غير مطابق للواقع ولما كان قولهم وعلمهم راجعا الى الرجم والرمي بلا مستند فَلا تُمارِ ولا تجادل يا أكمل الرسل فِيهِمْ اى في حق الفتية إِلَّا مِراءً ظاهِراً اى جدالا خفيفا مقتصرا على ما قد أوحينا إليك لا متعمقا غليظا بان تجهلهم وتسفههم وتضحك أنت من قولهم وتنسبهم الى الخرافة والخرق وَلا تَسْتَفْتِ ايضا ولا تسأل فِيهِمْ اى في حق الفتية وشأنهم مِنْهُمْ اى من اهل الكتاب أَحَداً ايدا يعنى لا تستفت أنت يا أكمل الرسل أحدا منهم عن قصتهم وشأنهم بعد ما قد ظهر عندك أمرهم بالوحي والإلهام الإلهي إذ استفتاؤك بعد الوحى اما سؤال تعنت وامتحان فهو لا يليق برتبة النبوة والرسالة بعيد بمراحل عن مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم اللازمة لمرتبة البنوة واما سؤال استعلام واسترشاد فهم قاصرون عاجزون عنها مع انه لا معنى للسؤال بعد الوحى ثم لما امر اليهود للقريش ان يسألوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سؤال تعنت وامتحان عن الروح وذي القرنين واصحاب الكهف فسألوا فقال صلّى الله عليه وسلم ائتوني غدا أخبركم عنها قاله هكذا بلا استثناء وتعليق بمشية الله تعالى تبركا اى لم يقل ان شاء الله فانسد عليه صلّى الله عليه وسلّم باب الوحى بضعة عشر يوما فشق الأمر عليه صلّى الله عليه وسلم وكذبته القريش فتحزن حزنا شديدا فنهاه سبحانه نهيا مؤكدا وأدبه تأديبا بليغا لئلا يترك الاستثناء في مطلق الأمور أصلا
فقال وَلا تَقُولَنَّ أنت يا أكمل الرسل البتة لِشَيْءٍ قد عزمت عليه وأردت ان تفعله إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً على سبيل البت والمبالغة
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اى الا ان تذكر وتجئ بالاستثناء بعد عزمك بقولك ان شاء الله وَبالجملة اذْكُرْ رَبَّكَ يا أكمل الرسل إِذا نَسِيتَ وتركت ذكر الاستثناء والتعليق على مشية الله في خلال الأمور حين القصد والعزيمة والقول بالاصدار بعد ما تذكرت نسيانك تلافيا لما نسيت وتداركا لما تركت ولو بعد حين بل سنة فقل ان شاء الله متذكرا الأمر الذي قد تركت التعليق فيه قضاء لما فات وَقُلْ بعد ما قد كشفنا عليك جوابهم هذا شكرا له وابتهاجا عليه وطلبا للمزيد منه سبحانه عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي وأرجو من فضله وجوده ان يرشدني ويدلني لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً اى لأمر هو اقرب دلالة من امر اصحاب الكهف وقصتهم الى الهداية والرشد وأوضح إيصالا الى مسلك الصواب والسداد تأييدا لنبوتي وتشييدا لرسالتي وقد هداه وأرشده بأعظم من ذلك كالاخبار عن بعض الغيوب وقصص الأنبياء المتباعد عهدهم وزمانهم(1/476)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
وامارات الساعة وأشراطها وإنزال القرآن المشتمل على الرطب واليابس الحادثين في العالمين الجاريين في النشأتين
وَكما اختلف اهل الكتاب في عدد الفتية اختلفوا ايضا في مدة لبثهم في النار راقدين نائمين قال بعضهم قد لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ بالسنة الشمسية على ما هو المشهور وَبعضهم قد ازْدَادُوا عليها تِسْعاً من تلك السنة ايضا وان كان المراد بالسنة الاولى شمسية والثانية قمرية كان كلا القولين واحدا موافقا لان التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين فيكون الزيادة في ثلاث مائة تسع سنين قمرية
قُلِ يا أكمل الرسل بعد ما لم يوجد شيء يوثق به ويعتمد عليه في تعيين مدة لبثهم في الغار سوى التخمين والحسبان اللَّهُ المطلع لجميع السرائر والخفايا أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا اى بمدة لبثهم في كهفهم راقدين إذ لَهُ سبحانه لا لغيره من مظاهره واظلاله غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى الاطلاع على المغيبات الواقعة في العلويات والسفليات اطلاعا حضوريا شهوديا بحيث لا يجرى في مبصراته ومسموعاته سبحانه من كمال انكشافه وانجلائه عنده ان يقال له أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ كما يجرى في مبصراتنا ومسموعاتنا لاستغنائه وتنزهه سبحانه عن الالتفات والإصغاء بل عموم المغيبات والمحسوسات في جنب حضوره وحضرة علمه على السواء بلا تفاوت أصلا. ثم قال سبحانه ما لَهُمْ اى لأهل السموات والأرض مِنْ دُونِهِ اى من دون الله المراقب مِنْ وَلِيٍّ يتوليهم ويلي أمورهم إذ هو سبحانه مستقل بالوجود والتصرف في ملكه وملكوته بلا مظاهرة احد ومعاونته وَلا يُشْرِكُ بمقتضى تعززه وكبريائه وسطوته واستيلائه فِي حُكْمِهِ السابق في قضائه اجمالا واللاحق في قدره تفصيلا أَحَداً من مظاهره ومصنوعاته بل له الإيجاد والاعدام والأحياء والاماتة والتخليق والترزيق وجميع ما ظهر من الآثار المترتبة على الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية وكذا جميع ما حدث من الحوادث الجارية الكائنة في الأنفس والآفاق كلها مستندة اليه تعالى أولا وبالذات بلا تخلل الوسائل والوسائط العادية الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة بالنسبة الى اولى الأحلام السخيفة وذوى الحجب الكثيفة المنافية لرؤية الحق وانجلائه في المظاهر كلها واما ارباب الوصول والشهود وهم الذين قد رتقوا حجب الخيالات وسدل الأوهام والعادات فلا يرون في الوجود سواه ولا اله عندهم في الشهود الا هو لذلك لم يسندوا شيأ من الحوادث الكائنة بمقتضى التجليات والشئون الإلهية الا له سبحانه إذ ليس وراء الله عندهم مرمى ومنتهى
وَإذا كان مفاتيح جميع المغيبات ومقاليد عموم العلوم والإدراكات وكذا جميع ما في العالم من المحسوسات والمشاهدات كلها مستندة اليه سبحانه اصالة ناشئة من لدنه حقيقة اتْلُ يا أكمل الرسل على من تبعك من المؤمنين ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ على الوجه الذي انزل إليك بلا تبديل ولا تحريف إذ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ولا متصرف في كلامه سواه ولا تسمع قول المشركين ائت بقرآن غير هذا او بدله إذ لا يسع لاحد ان يبدله ويحرفه وَان هممت أنت الى تبديله من تلقاء نفسك لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ سبحانه مُلْتَحَداً ملاذا وملجأ تلتجئ اليه عند نزول عذاب الله وحلول غضبه وانتقامه على تبديلك وتغييرك كلامه ثم لما طلب صناديد القريش من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابعاد فقراء المؤمنين وطردهم عن مجلسه مثل ابن أم مكتوم وابى ذر وسائر فقراء أصحابه لرثاثة حالهم وشمول الفاقة عليهم ليصاحبوه صلّى الله عليه وسلّم ويجالسوا معه فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على إنجاح ما أرادوا حيث امر صلّى الله عليه وسلّم بالفقراء ان لا يحضروا(1/477)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
معهم في مجلسه رد الله سبحانه على رسوله ردا بليغا ونهاه عنه نهيا شديدا حيث قال سبحانه مؤدبا له صلّى الله عليه وسلّم بل مقرعا عليه
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ اى ان التمست القريش منك ابعاد الفقراء وبالغوا في طردهم وذبهم عن صحبتك لا تجبهم أنت ولا تنجح مطلوبهم بل اصبر ووطن نفسك المائلة الى غناهم وصفاء زيهم ولباسهم مَعَ الفقراء الَّذِينَ شأنهم انهم يَدْعُونَ ويعبدون رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ اى طرفي النهار وما بينهما يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ويتوجهون نحوه مخلصين بلا ميل عنهم الى الهوى ومزخرفات الدنيا مع غاية فقرهم وفاقتهم وَلا تَعْدُ اى لا تمل ولا تصرف عَيْناكَ عَنْهُمْ لرثاثة حالهم وخلق ثيابهم الى الأغنياء وزيهم البهي حال كونك تُرِيدُ وتقصد زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا بالالتفات إليهم والميل الى مصاحبتهم ومجالستهم والركون الى جاههم وثروتهم وَلا تُطِعْ ولا تتفق معهم في طرد الفقراء والاعراض عنهم بمجرد ميلك الى ايمان أولئك الأغنياء البعداء عن روح الله ورحمته ولا تلتفت التفات متحنن متشوق الى مَنْ قد أَغْفَلْنا قَلْبَهُ وختمنا عليه بالإعراض عَنْ ذِكْرِنا ختما لا يرتفع عنه أصلا وَلذا قد صار من العتو والعناد الى ان اتَّبَعَ هَواهُ واتخذه الها واجتنب عن مولاه ونبذه وراءه وَبالجملة قد كانَ أَمْرُهُ وشأنه في هذا الاتباع والاتخاذ فُرُطاً ميلا وتقدما نحو الباطل افراطا وتفريطا اعراضا عن الحق ونبذا له وراءه ظهريا
وَقُلِ على سبيل الإرشاد والتبليغ بلا مراعاة ومداهنة الْحَقُّ الصريح الثابت ما قد نزل ونشأ مِنْ رَبِّكُمْ الذي قد انشأكم وأظهركم من كتم العدم وأصلح أحوالكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبلغ جميع ما اوحى إليك إياهم بلا تبديل ولا تغيير إذ ما عليك الا البلاغ والتبليغ فَمَنْ شاءَ منهم الفوز والفلاح فَلْيُؤْمِنْ بالله وكتبه ورسله حسب ما بلغت وَمَنْ شاءَ منهم الوبال والنكال في الدارين فَلْيَكْفُرْ واعلم انه سبحانه لا يبالى بكفرهم ولا بايمانهم إذ هو منزه بذاته عن ايمان عباده وكفرهم. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والتنبيه إِنَّا من مقام عدلنا وقهرنا سيما على من اعرض عنا من عبادنا وانصرف عن مقتضى أوامرنا ونواهينا أَعْتَدْنا وهيأنا سيما لِلظَّالِمِينَ منهم الخارجين عن مقتضيات حدودنا وأحكامنا الموضوعة فيما بينهم لإصلاحهم ناراً ذات التهاب ومهيب واشتعال عال بحيث قد أَحاطَ اى احتوى واشتمل بِهِمْ سُرادِقُها اى لهبها التي هي كالفسطاط في الاحاطة والشمول والفسطاط البيت المتخذ من الشعر وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من شدة العطش ونهاية حرقة الكبد والزفرة المفرطة يُغاثُوا ويجابوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ في اللون وهو الحديد المذاب وفي الحرارة الى حيث يَشْوِي الْوُجُوهَ ويحرقها وقت تقريبه الى الفم للشرب وبالجملة بِئْسَ الشَّرابُ شراب المهل وَساءَتْ جهنم وأوديتها المملوة بنيران الحرمان والخذلان مُرْتَفَقاً منزلا ومسكنا يسكنون فيها ابدا مخلدا
ثم اتبع سبحانه الوعيد بالوعد بمقتضى سنته السنية المستمرة في كتابه هذا فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاتنا وبكمالات اوصافنا وأسمائنا وصدقوا إرسال الرسل وإنزال الكتب المبينة الموضحة لأحكامنا الصادرة منا على مقتضى الأزمان والأدوار وَمع الايمان والإذعان قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم في الكتب والسنة الرسل واجتنبوا ايضا عما نهيناهم عنها فجزاؤهم علينا نجازيهم ونضاعف لهم بأضعاف ما يستحقون بأعمالهم الحسنة وإخلاصهم فيها إِنَّا من مقام عظيم فضلنا وجودنا لا نُضِيعُ ولا نهمل أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وأخلص نية وأتم قصدا(1/478)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
وأكمل عزيمة
أُولئِكَ السعداء المحسنون المخلصون لَهُمْ في النشأة الاخرى جَنَّاتُ عَدْنٍ اى متنزهات اقامة وخلود من مراتب العلم والعين والحق ومع ذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المتجددة بتجددات التجليات الإلهية والنفسات الرحمانية المترشحة من رشحات رشاشات بحر الذات الازلية الابدية ومع ذلك يُحَلَّوْنَ ويزينون فِيها مِنْ أَساوِرَ وخلاخل متخذة مِنْ ذَهَبٍ جزاء ما قد هذبوا أخلاقهم وجوارحهم بمقتضى الأوامر الإلهية في النشأة الاولى وَيَلْبَسُونَ فيها ثِياباً خُضْراً مصنوعة مِنْ سُنْدُسٍ وهو ما رق من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ هو ما غلظ منه جزاء ما اتصفوا في النشأة الاولى بزي التقوى ولباس الصلاح ومن كمال تنعمهم وترفههم يكونون مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ والسرر متمكنين عليها جزاء ما قد حملوا من المتاعب والمشاق في مواظبة الطاعات وملازمة العبادات وبالجملة نِعْمَ الثَّوابُ ونعم الجزاء جزاء اهل الجنة وثوابهم وَحَسُنَتْ المتنزهات الثلاث مُرْتَفَقاً لهم يرتفقون وينتفعون فيها مع اهل الكشف والشهود بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثم امر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بضرب المثل لتوضيح حال المؤمن والكافر ومآل أمرهما وشأنهما فقال وَاضْرِبْ لَهُمْ يا أكمل الرسل مَثَلًا مبينا موضحا وهو ان رَجُلَيْنِ من بنى إسرائيل كانا أخوين أحدهما مؤمن موحد والآخر كافر مشرك مات أبوهما وورثا منه أموالا عظاما فاقتسما فصرف المؤمن ماله في سبيل الله وأنفق للفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل واشترى الكافر مكاسب ومزارع وكثر ماله الى ان جَعَلْنا لِأَحَدِهِما اى للكافر ابتلاء له واختبارا جَنَّتَيْنِ بستانين مملوين مِنْ أَعْنابٍ وكروم وَحَفَفْناهُما اى احطنا كلا منهما بِنَخْلٍ لتزيدا حسنا وبهاء وَجَعَلْنا بَيْنَهُما اى بين الجنتين زَرْعاً مزرعة ومحرثة للحبوب والأقوات من الحنطة والشعير وغيرهما
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ قد تمتا وكملتا الى ان آتَتْ واثمرت كل منهما أُكُلَها وثمرتها كاملة وافرة في كل سنة وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً اى لم تنقص من ثمرتهما وحاصلهما شيأ من النقصان كما هو المعهود في سائر البساتين فان ثمرها يتوفر في عام وينقص في اخرى وَمع ذلك قد فَجَّرْنا وأجرينا خِلالَهُما اى في اوساط الجنتين المذكورتين نَهَراً ليدوم سقيهما
وَمع تينك الجنتين واثمارهما قد كانَ لَهُ ثَمَرٌ اى اموال عظام وامتعة كثيرة من انواع الأجناس والنقود والجواهر والعبيد وغير ذلك فَقالَ الأخ الكافر يوما على سبيل البطر والمباهاة لِصاحِبِهِ اى للأخ المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ ويخاطبه مفتخرا مباهيا بعرض الأموال والزخارف عليه ويشنعه ويعيره ضمنا ويقرعه تقريعا خفيا الى ان قال بطرا أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وبالأموال تقتنص عموم الأماني والآمال وتنال بجميع اللذائذ والشهوات وَأَعَزُّ نَفَراً أبناء وعشائر واحشاما وخدمة يظاهرون ويعاونون على لدى الحاجة ويصاحبون معى في الحضر والسفر
وَمن شدة بطره وخيلائه دَخَلَ يوما جَنَّتَهُ التي ذكر وصفها وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بعرضها على عذاب الله وانواع عقابه بكفره بالله وجحوده بأوصافه وأسمائه وبطره بحطام الدنيا وإعجابه على نفسه اتكالا على ثروته وجاهه وكثرة أعوانه وانصاره قالَ من طول أمله وحرصه وشدة غروره وغفلته ما أَظُنُّ بل ما اشكّ وأوهم أَنْ تَبِيدَ اى تنهدم وتنعدم هذِهِ الجنة أَبَداً بل هي على هذا القرار والنضارة والنزاهة دائما
وَايضا ما أَظُنُّ واعتقد السَّاعَةَ(1/479)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
الموعودة التي اخبر بها اصحاب الدعاوى من الأنبياء والرسل قائِمَةً آتية كائنة البتة بلا تردد وشك حتى تنهدم وتنعدم هذه بانعدام العالم وانقراضها وَلَئِنْ رُدِدْتُ يعنى ان فرض وقدر قيام الساعة وانقضاء النشأة الدنياوية على ما زعموا وبعثت من قبري على الوجه الذي ادعوا ورددت إِلى رَبِّي للحساب والجزاء وعرض الأعمال وتنقيدها لَأَجِدَنَّ البتة جنة في العقبى خَيْراً مِنْها اى من هذه الجنة الدنياوية فأخذها واختارها يومئذ مُنْقَلَباً مرجعا ومنزلا كما أخذت هذه في الدنيا وانما يقول ذلك على سبيل الاستهزاء والاستخفاف وبالجملة انى حقيق حرى بذلك في الدنيا والآخرة ايضا ان فرض وجودها ثم لما تمادى في المباهاة والمفاخرة وتطاول كلامه في الغفلة والغرور والإنكار على الله وعلى كمال قدرته وقوته وسرعة نفوذ قضائه وحكمه المبرم متى تعلقت ارادته
قالَ لَهُ صاحِبُهُ اى المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ على سبيل العظة والتذكير وانواع التسفيه والتعيير أَكَفَرْتَ وأنكرت ايها المفسد الطاغي بِالَّذِي خَلَقَكَ اى بالخالق الذي قد قدر أولا مادتك مِنْ تُرابٍ خسيس مرذول الى ان قد صارت من كثرة التبدلات والتغيرات عليها نطفة مهينة ثُمَّ قدرها ثانيا مِنْ نُطْفَةٍ دنية يستحقرها بل يستخبثها جميع الطباع لخروجها من مجرى البول ثُمَّ سَوَّاكَ منها وعدلك شخصا سويا سالما ورباك بأنواع اللطف والكرم الى ان صرت رَجُلًا رشيدا عاقلا بالغا كافلا للأمور والوقائع كافيا لإحداث الغرائب والبدائع وافيا في جميع المضار والمنافع ثم كلفك بالإيمان والمعرفة والإتيان بالأعمال الصالحة والإذعان بالنشأة الاخرى وما يترتب عليها من العرض والحساب والسؤال والجزاء وجميع المعتقدات الاخروية التي هي علة ايجادك ومصلحة إظهارك ووجودك فاستكبرت أنت جهلا واستنكرت الى ان قد كفرت عنادا ومكابرة فستعرف حالك فيها ايها الطاغي الباغي المستحق لانواع العذاب والعقاب
لكِنَّا اى لكن انا لا اكفر ولا أنكر مثلك ربي الذي أظهرني من كتم العدم ولم أك شيأ مذكورا وقدر مادتي من التراب الأدنى الأرذل ثم من المنى الاخبث الأنزل ثم عدلنى وسوانى رجلا رشيدا كاملا في العقل والرشد لأعرف ذاته فاعبده واشكر نعمه وأؤدي حقوق كرمه على وأتوجه نحوه وأتضرع اليه واصدق رسله وكتبه وجميع ما فيها من الأوامر والنواهي وعموم المعتقدات التي قد وجب الاعتقاد بها من الأمور المتعلقة بالنشأة الاولى والاخرى فكيف أنكره واكفر نعمه وانسى حقوق لطفه وكرمه إذ هُوَ اللَّهُ رَبِّي ورب جميع من في حيطة الوجود من الاظلال والعكوس وهو المستقل في الوجود والألوهية والربوبية وهو المتوحد المتفرد بالقيومية والديمومية وَبالجملة لا أُشْرِكُ بِرَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم أَحَداً سواه إذ لا شيء في الوجود الا هو
وَلَوْلا وهلا وقت إِذْ دَخَلْتَ ايها المدبر الغافل جَنَّتَكَ التي افتخرت بها قُلْتَ بدل قولك ما أظن ان تبيد ما شاءَ اللَّهُ اى ما شاء وأراد دوامها وثباتها يتأبد وما لم يشأ لم يتأبد إذ لا قُوَّةَ ولا قدرة للتأبيد والتخريب إِلَّا بِاللَّهِ اصالة وحقيقة وأنت ايها الكافر المفرط المسرف المنكر إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فعيرتنى وعرضت على أولادك وضياعك وزخارفك بطرا وبوحا مع انى اكثر منك ايمانا وعرفانا وثقة على الله واتكالا عليه
فَعَسى رَبِّي وأرجو من كمال فضله وجوده أَنْ يُؤْتِيَنِ ويعطيني في الدنيا والعقبى جنة خَيْراً ى أزيد حسنا وبهاء ونضارة وصفاء مِنْ جَنَّتِكَ التي أنت تتفوق وتتفضل بها على إذ هو القادر على كل ما أراد وشاء وَايضا عسى ان يُرْسِلَ(1/480)
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
بغتة عَلَيْها اى على جنتك هذه حُسْباناً اى صواعق نازلة ليلا مِنَ السَّماءِ فحرقتها وخربتها واستأصلتها فَتُصْبِحَ أنت وترى صَعِيداً ترابا زَلَقاً ملساء لا تثبت فيها قدم ولا تنبت فيها نبات
أَوْ يُصْبِحَ ويصير ماؤُها الجاري في خلالها غَوْراً غائرا عميقا بحيث لا يمكن سقيها منه أصلا لبعد غوره وعمقه فَلَنْ تَسْتَطِيعَ أنت ولن تقدر لَهُ طَلَباً بالحفر والحيل وانواع التدابير وقد اعطى سبحانه من فضله وسعة جوده الأخ المؤمن ما أمله تفضلا عليه وامتنانا
وَأرسل على بستان الأخ الكافر صواعق نازلة من السماء كثيرة الى حيث أُحِيطَ بِثَمَرِهِ وعمت جميع ما فيها من الثمار فلم يبق الانتفاع بها أصلا وبالجملة قد غار ماؤها وذهب رواؤها واضمحلت نضارتها ولم يبق صفاؤها فَأَصْبَحَ الكافر يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهرا وبطنا تلهفا وتحزنا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وفي انشائها وتعميرها من الأموال العظام وَالحال انه هِيَ اى الجنة خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها اى عروشها قد سقطت على الأرض والكروم عليها محرقا جميعها وَيَقُولُ الكافر حينئذ بعد ما أفاق عن سكر الغرور والغفلة وتفطن على منشأ تلك الصدمة والصولة الإلهية نادما متحسرا متمنيا يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً تعنتا واستكبارا حتى لا يلحق على ما لحقني من البوار والخسار
وَبالجملة لَمْ تَكُنْ لَهُ حينئذ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ حسب مباهاته ومفاخرته بالأعوان والأنصار من بأس الله واخذه بل لا ناصر له مِنْ دُونِ اللَّهِ ولا مغيث له سواه وبالجملة ان استنصر منه سبحانه واستغفر له نادما عما صدر عنه من الجرءة والجرائم فقد نصره سبحانه وعفا عنه وان عظمت زلته وَما كانَ ايضا بنفسه على مقتضى استبداده وثروته مُنْتَصِراً مخلصا منجيا نفسه عن أمثال هذه النكبات
بل هُنالِكَ وفي أمثال تلك الحالة والواقعة الْوَلايَةُ والنصرة والغلبة والاستعلاء والاستيلاء والعظمة والكبرياء والتعزز والاستغناء ليست الا لِلَّهِ الْحَقِّ الثابت القيوم المطلق الحقيق بالحقية والقيومية الجدير بالبسطة والديمومية ابدا ولذلك هُوَ سبحانه بذاته وبمقتضى ألوهيته وربوبيته خَيْرٌ ثَواباً في النشأة الاخرى لأوليائه وهو أكرم عطاء لأحبائه وامنائه فيها وَخَيْرٌ عُقْباً لانتقام أعدائه انتصارا لأوليائه
وَاضْرِبْ لَهُمْ اى اذكر يا أكمل الرسل للمائلين الى الدنيا ومزخرفاتها ومستلذاتها الفانية الغير القارة المستتبعة المستعقبة لانواع الآثام والعصيان المستلزمة المستجلبة لغضب الله وسخطه ومثل لهم مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا وانقضائها وفنائها سريعا كَماءٍ اى مثلها مثل ماء قد أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ إظهارا لكمال قدرتنا وعجائب صنعتنا وبدائع حكمتنا فَاخْتَلَطَ بِهِ اى بالماء الاجزاء الارضية بحيث تكاثف وغلظ بسببها فنبت منه نَباتُ الْأَرْضِ وصار في كمال الطراوة والنضارة والحسن والبهاء الى حيث تعجب منها ابصار اولى الألباب والاعتبار ثم يبس من حر الشمس وبرد الهواء فَأَصْبَحَ هَشِيماً وصار مهشوما متفرق الأوراق متفتت الاجزاء بحيث تَذْرُوهُ اى تثيره وتطيره الرِّياحُ كيف تشاء وَكانَ اللَّهُ العزيز الغالب عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته مُقْتَدِراً كاملا بحيث لا ينتهى قدرته لدى المراد بل له التصرف فيه الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله ومتى سمعت وعلمت حال حيوة الدنيا ومآل أمرها وعاقبتها وانكشفت بعدم ثباتها وقرارها
فاعلم ان معظم ما يتفرع عليها الْمالُ وَالْبَنُونَ إذ هما زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا الفانية حاصلان منها عارضان عليها ومتى لم يكن للمعروض دوام وبقاء فللعارض بالطريق الاولى وَالْباقِياتُ التي(1/481)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
تبقى معك في أولاك وأخراك الأعمال الصَّالِحاتُ المقربة لك الى الله المقبولة عنده المترتبة عليها النجاة من العذاب والنيل الى الفوز والفلاح وهي خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً اجرا وجزاء حسنا من اللذات الروحانية الموعودة لأرباب القبول والقلوب وَخَيْرٌ أَمَلًا اى عاقبة ومآلا إذ بها ينال المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات الموعودة لأرباب العناية والقبول من اصحاب القلوب الصافية المؤملين في عموم أوقاتهم وحالاتهم شرف لقاء الله والفوز بمطالعة وجهه الكريم
وَاذكر يا أكمل الرسل للناس الناسين عهود الله ومواثيقه الوثيقة يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ ونحركها بالقدرة الكاملة والسطوة الهائلة الغالبة تحريكا شديدا بحيث نفتت اجزاءها ونحلل تراكيبها ونشتتها الى ان صارت دكاء وَتَرَى ايها المعتبر الرائي يومئذ الْأَرْضَ المملوة بالجبال الرواسي الحاجبة عما وراءها بارِزَةً ظاهرة ملساء مسوى بحيث لا ارتفاع لبعض اجزائها على بعض مظهرة لما فيها من الدفائن والخزائن والأموات المقبورة فيها وَبعد ظهورهم منها وبروزهم عليها قد حَشَرْناهُمْ وجمعناهم بأجمعهم حفاة عراة نحو الموقف والموعد المعد للعرض والجزاء فَلَمْ نُغادِرْ يومئذ ولم نترك مِنْهُمْ أَحَداً لا نسوقه الى المحشر
بعد جمعهم واجتماعهم في المحشر جميعارِضُوا عَلى رَبِّكَ
يا أكمل الرسل عرض العسكر على السلطان الصوري فًّا
صافين على الاستواء بحيث لا يحجب احد أحدا بل كل واحد واحد بمرائى ومشاهد بلا سترة وحجاب ثم يقال لهم من قبل الحق على سبيل السطوة والاستيلاء واظهار الهيبة القاهرة والسلطنة الغالبةقَدْ جِئْتُمُونا
اليوم حفاة وعراةما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
كذلك اى في بدء وجودكم وظهوركم لْ
قد كنتم عَمْتُمْ
وظننتم فيما مضى من شدة بطركم وغفلتكم لَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
اى انا لن نقدر على انجاز ما وعدناكم بالسنة رسلنا من البعث والحشر والعرض والجزاء بل قد كذبتم الرسل وانكرتم الوعد والموعود جميعا فالآن قد ظهر الحق الذي كنتم تمترون فيه
وَبعد ما عرضوا صافين على الوجه المذكور وُضِعَ الْكِتابُ المشتمل على تفاصيل أعمالهم وجميع أحوالهم وأطوارهم من بدء فطرتهم الى انقراضهم من النشأة الاولى المعدة لكسب الزاد للنشأة الاخرى بين يدي الله على رؤس الاشهاد فَتَرَى ايها الرائي الْمُجْرِمِينَ حينئذ مُشْفِقِينَ خائفين مرعوبين مِمَّا فِيهِ اى في الكتاب قبل القراءة عليهم وَبعد ما قرئ عليهم وسمعوا جميع ما صدر عنهم كائنة مكتوبة فيه على التفصيل الذي صدر عنهم بلا فوت شيء يَقُولُونَ متحسرين متمنين الموت مناجين في نفوسهم منادين يا وَيْلَتَنا وهلكتنا ادركينا فهذا وقت حلولك ونزولك مالِ هذَا الْكِتابِ العجيب الشان الجامع لجميع فضائحنا وقبائحنا بحيث لا يُغادِرُ ولا يترك فضيحة صَغِيرَةً صادرة منا وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها فصلها وعدها بلا فوت خصلة منها. روى عن ابن مسعود رضى الله عنه الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة وَبالجملة قد وَجَدُوا عموم ما عَمِلُوا من الخير والشر والحميدة والذميمة حاضِراً فيه ثابتا مكتوبا على وجهها بلا نقصان شيء منها ولا زيادة عليها وَكيف لا يكون كذلك إذ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ يا أكمل الرسل أَحَداً من عباده لا بالزيادة ولا بالنقصان ولو قدر نقير ثم لما كان منشأ جميع الشرور والغرور وانواع عموم الفتن والغفلات واصناف الشرك والكفر والضلالات إبليس عليه اللعنة كرر سبحانه في كتابه قصة استكباره واستنكاره مرارا وأورده تكرارا تذكيرا للمتعظين المتيقظين وتنبيها على الغافلين المغرورين ليكونوا على ذكر منه ومن غوائله(1/482)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
وتسويلاته ليتيسر لهم الحذر عن وساوس أعوانه وانصاره الذين هم جنود الأوهام والخيالات الباطلة والأماني الكاذبة الناشئة من صولة الامارة المكارة الامكانية المستولية على القوى الوجوبية الروحانية
فقال وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اى اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إذ قلنا للملائكة المعترضين لنا على اصطفائنا آدم للخلافة والنيابة بعد افحامنا والزامنا إياهم بما الزمناهم اسْجُدُوا تواضعوا وتذللوا على وجه الخضوع والانكسار تكريما وتعظيما لِآدَمَ النائب المستخلف عنا بعد ما ظهر عندكم وعليكم فضله وشرفه واستحقاقه ورجحانه لأمر الخلافة فَسَجَدُوا بعد ما سمعوا متذللين امتثالا للأمر الوجوبي إِلَّا إِبْلِيسَ منهم قد ابى واستكبر ولم يسجد له بل قد علل بأنواع العلل العاطلة وجادل بأصناف المجادلات الباطلة الناشئة من خباثة فطرته وفطنته على ما سمعت غير مرة وانما امتنع وابى لأنه قد كانَ مِنَ الْجِنِّ في اصل خلقته فلحق بالملائكة لحكمة سابقة فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ حسب خلقته الاصلية وجبلته الفطرية أَفَتَتَّخِذُونَهُ وتأخذونه ايها المغرورون بتغريراته والمائلون الى تلبيساته وتزويراته سيما بعد ظهور هذه العداوة الظاهرة وَتتخذون ايضا ذُرِّيَّتَهُ المختلطة معكم المرتكزة في نفوسكم وقواكم اللاتي هي أعدى أعاديكم يترددون بين جنوبكم ويحومون حول قلوبكم أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي حيث تفوضون أموركم إليهم ليوالوا لكم وَالحال انه هُمْ أصلهم وفرعهم لَكُمْ عَدُوٌّ قديم مستمر وبالجملة بِئْسَ الشيطان وذريته وايضا بئس ولايتهما لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامرنا ونواهينا بَدَلًا عنا وعن ولايتنا إياهم. عن يحيى بن معاذ رضى الله عنه لا يكون من اولياء الله ولا يبلغ مقام الولاية من نظر الى شيء دونه واعتمد على سواه ولم يميز بين معاديه ومواليه ولم يعلم حال إقباله من حال إدباره انتهى فكيف تتخذون ايها الحمقى المسرفون إبليس وذريته أولياء من دوني
مع انى ما أَشْهَدْتُهُمْ واحضرتهم اى إبليس وجنوده خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى وقت خلقهما وايجادهما ليعاونوا ويظاهروا على حتى تتخذوهم اولياء غيرى شركاء معى سيما في استحقاق العبادة وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ايضا اى لا احضر بعضهم عند خلق بعض منهم وَبالجملة انا مستقل بالخلق والإيجاد بل في الوجود ولذلك ما كُنْتُ في خلق الأشياء وإيجادها وإظهارها محتاجا الى المعين والظهير أصلا فكيف قد كنت مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ الضالين عن ساحة عز الحضور عَضُداً أعوانا وأنصارا اعتضد وانتصر بهم حتى تشاركوهم أنتم بي سيما في استحقاق العبادة والإطاعة بل ترجحونهم على بالمحبة والولاية
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يَقُولُ الله على سبيل التعبير والتقريع للكفار والمشركين نادُوا وادعوا ايها المنهمكون في الغي والضلال شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ انهم شفعاؤكم اليوم لذلك قد عبدتم لهم مثل عبادتي بل احسن منها حتى ينقذوكم من عذابي ويشفعوا لكم عندي فَدَعَوْهُمْ حينئذ صارخين مستغيثين فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ولم يجيبوا عنهم إذ هم حينئذ مشغولون بحالهم عنهم مأخوذون بوبالهم وَمع ذلك قد جَعَلْنا بَيْنَهُمْ اى بين العابدين ومعبوديهم مَوْبِقاً مهلكا عظيما واديا هائلا غائرا عميقا من اودية جهنم مملوة بالنار بحيث لا يمكن وصولهم أصلا
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ يعنى بعد ما عرضوا وحوسبوا وسيقوا نحو جهنم ليعذب فيها كل بمقتضى ما كسب من المعاصي والآثام الموجبة للاخذ والانتقام فَظَنُّوا بل تيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ملاصقوها وداخلوها البتة وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً معدلا ومنصرفا سواها لينصرفوا(1/483)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
اليه مع ان الموكلين يسوقونهم ويدخلونهم فيها زجرا وقهرا
وَكيف يجدون مصرفا سواها ومن اين يتأتى لهم الانصراف اليوم إذ هم قد فوتوا على أنفسهم المنصرف وسبب الانصراف في النشأة الاولى مع انا لَقَدْ صَرَّفْنا وكررنا فِي هذَا الْقُرْآنِ المرشد الى الهداية الصارف عن مطلق الضلال والغواية لِلنَّاسِ المنهمكين في الغفلة والنسيان مِنْ كُلِّ مَثَلٍ اى من كل شيء مثلا موضحا ينبههم الى الهدى ويجنبهم عن الغفلة والهوى فلم يتنبهوا ولم يتفطنوا بل قابلوا الباطل بالحق معارضين وجادلوا مع اهل الحق معاندين مكابرين وَبالجملة كانَ الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا اى جداله ومكابرته اكثر من جدال سائر المخلوقات وان كان رشده وإيمانه ايضا اكثر منها.
ثم قال سبحانه وَما مَنَعَ النَّاسَ عن قبول الايمان وما صرفهم عن أَنْ يُؤْمِنُوا يوقنوا ويصدقوا بالمعتقدات الدينية سيما إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى اى النبي الهادي المؤيد بالكتاب المعجز المرشد وَما صرفهم ايضا عن ان يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ويتوبوا نحوه عن ظهر القلب عقيب كل معصية صادرة عنهم نادمين عنها بلا إصرار وإدمان ليسقط عنهم الأخذ والانتقام الأخروي إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ وتحيط بهم سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وما جرى عليهم من الإهلاك والاستئصال بغتة أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا اى أنواعا وأصنافا منه مترادفة متوالية كالكسف والخسف والمسخ وغير ذلك فيهلكهم على سبيل التدريج
وَبالجملة ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بأنواع الفتوحات والفيوضات الروحانية والكشوفات والشهودات اللدنية النورانية وَمُنْذِرِينَ عن انواع العذاب والعقاب والنكبات والبليات المورثة لانواع الخذلان والخسران والطرد والحرمان والخلود في النيران وبالجملة ما نرسلهم الا إصلاحا لأحوال الأنام وإرشادا لهم الى سبل السّلام وحثا لهم الى سلوك طريق التوحيد المنجى عن ظلمات الشكوك والأوهام وَمع ذلك يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله مع رسل الله ويخاصمون معهم متشبثين بِالْباطِلِ الزائغ الزائل لِيُدْحِضُوا ويزيلوا بِهِ ويزلقوا بتمويهاتهم وأباطيلهم الْحَقَّ الحقيق الثابت المستقر المطابق للواقع عن مقره وَكذلك قد اتَّخَذُوا وأخذوا آياتِي الدالة على عظمة ذاتى ووفور حكمتى وكمال قدرتي وقوتي وَكذا عموم ما أُنْذِرُوا اى قد اتخذوا جميع ما اشتملت عليه الآيات من الإنذارات والتخويفات وانواع الوعيدات هُزُواً اى موضع استهزاء وسخرية ومحل هزل وضحك لذلك قد نسبوها الى ما لا يليق بشأنها من الشعر والسحر والأساطير الكاذبة وغير ذلك من الهذيانات الباطلة والأباطيل الزائغة افتراء ومراء
وَمَنْ أَظْلَمُ على الله وأسوأ أدبا بالنسبة اليه سبحانه مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ليتعظ بها ويصلح بسببها فَأَعْرَضَ عَنْها وانصرف عن سماعها فكيف عن قبولها وامتثالها استنكارا واستكبارا وَمع ذلك قد نَسِيَ ما قَدَّمَتْ اقترفت وكسبت يَداهُ من الجرائم والآثام وانواع الكفر والشرك والطغيان ولو اتعظوا بها وعملوا بمقتضاها لذهبت سيئاتهم وتضاعفت حسناتهم عناية من الله إياهم وكيف يتذكرون بها ولا يمكنهم التذكر إِنَّا بمقتضى قهرنا وسخطنا عليهم قد جَعَلْنا طبعنا وختمنا عَلى قُلُوبِهِمْ التي هي وعاء التذكر والقبول أَكِنَّةً حجبا غليظة كثيفة مانعة عن أَنْ يَفْقَهُوهُ اى القرآن ويفهموا معانيه ومقاصده فكيف غوامض رموزه وإشاراته وَقد طبعنا ايضا فِي آذانِهِمْ وَقْراً ثقلا وصمما يمنعهم عن الاستماع والإصغاء اليه فكيف عن فهمه والعمل به والامتثال بما فيه من الأوامر والنواهي وَ(1/484)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
من غلظ غشاوتهم وشدد ضممهم وقساوتهم إِنْ تَدْعُهُمْ يا أكمل الرسل إِلَى الْهُدى وترشدهم الى الفوز بالفلاح والنجاح فَلَنْ يَهْتَدُوا ولن يفوزوا إِذاً أَبَداً في حال من الأحوال وحين من الأحيان لقساوة قلوبهم وصمم صماخهم بختمنا وطبعنا إذ لا يبدل قولنا ولا يعارض فعلنا الا باذن منا وتوفيق من لدنا
وَان كان تكذيبهم الرسل والكتب وإصرارهم على الشرك والجحود يستدعى نزول العذاب عليهم فجاءة لاستحقاقهم بحلوله الا انه يمهلهم رَبُّكَ الْغَفُورُ المبالغ في ستر ذنوب عباده وعفو عيوبهم يا أكمل الرسل إذ هو سبحانه ذُو الرَّحْمَةِ الواسعة والحكمة الكاملة لعلهم يتنبهون بقبح صنيعهم ويتأملون في وخامة عواقبهم فينصرفون عماهم عليه نادمين إذ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ سبحانه بِما كَسَبُوا وبشؤم عموم ما اقترفوا من الجرائم والآثام لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ على الفور حسب عدله وقهره لكن قد امهلهم بمقتضى رحمته وحكمته زمانا لا دواما رجاء ان يتوبوا ويرجعوا نحوه تائبين آئبين بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ولهلاكهم وقت لا يسع فيه التلافي ولا ينفع التوبة والندم قط الا وهو يوم الحشر والجزاء وقيل يوم بدر بحيث لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ اى من دون ذلك الموعد مَوْئِلًا منجى ومخلصا بل يعذبون ويهلكون فيه حتما جزما بحيث لا يسع لهم التقدم والتأخر أصلا
وَبالجملة تِلْكَ الْقُرى التي في مرآك اطلالها وآثار منازلهم ومزارعهم قد أَهْلَكْناهُمْ واستأصلنا أهلها لَمَّا ظَلَمُوا وحين خرجوا واستنكفوا عن مقتضيات أوامرنا ونواهينا المنزلة في كتبنا لرسلنا وكذبوهم وأنكروا عليهم فأخذناهم واستأصلناهم كذلك وَمن سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة انا متى أردنا إهلاك اهل قرية من المستوجبين للمقت والهلاك قد جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ ولهلاكهم وإهلاكهم مَوْعِداً وقتا معينا وحينا محفوظا متى وصلوا اليه وحصلوا دونه هلكوا فيه حتما مقضيا إذ لا مرد لقضائنا المبرم ولا معقب لحكمنا المحكم
وَاذكر يا أكمل الرسل قصة أخيك موسى الكليم عليه السّلام وقصة إعجابه لنفسه حين خطب على المنبر بعد هلاك القبط ودخوله ملك مصر خطبة عجيبة بليغة الى حيث قد رقت القلوب وذرفت العيون فقيل له حينئذ من في الأرض اعلم منك يا نبي الله قال لا فعتب عليه سبحانه لإعجابه فقال سبحانه ان لنا عبدا في مجمع البحرين هو اعلم منك فقال موسى عليه السّلام دلني عليه يا ربي لأخدمه وأتعلم منه واستفيد من فتوحات أنفاسه الشريفة فقال له سبحانه خذ حوتا مملوحا ليكون لك زادا واطلبه فحيث فقدت الحوت وجدته ثمة فأخذ ومضى على الوجه المأمور اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ وهو يوشع بن نون وكان خادمه لا أَبْرَحُ ولا استريح واقعد من السفر حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ اى ملتقى بحرى فارس والروم وأجد عنده عبدا قد دلني الله عليه أَوْ أَمْضِيَ وأسير حُقُباً زمانا طويلا ومدة مديدة ان لم أجده هناك حتى أجده واستفيد منه فرمى الحوت المشوى المملوح في مكتل وحمله يوشع فذهبا واوصى موسى لفتاه متى فقدت الحوت أخبرني
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما اى بين البحرين نَسِيا عند المجمع حُوتَهُما يعنى قد نسى موسى التفقد والاستخبار من يوشع عنه ونسى يوشع ايضا ان يذكر لموسى ما رأى من امر الحوت وحياته ووقوعه في الماء وذلك انه قد عزم يوشع على التوضئ عند المجمع وكان على شاطئ البحر صخرة فتمكن يوشع عليها للتوضؤ فانتضح الماء على مكتله فترشح على الحوت فوثب من المكتل فرمى نفسه في البحر فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً اى صار الماء كالطاق يسرى الحوت تحته(1/485)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
بسهولة فتعجب يوشع من حياتها ووثبتها في الماء وسلوكها فيه كسائر الحيتان فارتحلا متجاوزين من البحر تلك الليلة والغد الى الظهر فنسي يوشع ذكر ما رأى لموسى
فَلَمَّا جاوَزا من الصخرة يوما وليلة عييا وجاعا قالَ موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا اى الذي سرنا بعد ما جاوزنا من الصخرة نَصَباً عناء وتعبا ما كنا قبل ذلك كذلك
قالَ يوشع متذكرا متعجبا أَرَأَيْتَ يا سيدي وقت إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ ورقدت عندها للاستراحة وانا أهم لا توضأ وأتمكن عليها للتوضؤ فانتضح الماء الى المكتل فوثب الحوت نحو البحر فاتخذ سبيله سربا فَإِنِّي بعد تيقظك من منامك نَسِيتُ الْحُوتَ وقصته مع كمال غرابتها وندرتها وكونها خارقة للعادة وَبالجملة ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ اى اذكر قصته البديعة عندك وَكيف اتَّخَذَ سَبِيلَهُ حين رمى نفسه فِي الْبَحْرِ عَجَباً على وجه يتعجب من جريه الرائي ولما سمع موسى من يوشع ما سمع من فقد الحوت على هذا الوجه سر وفرح
قالَ على سبيل الفرح والسرور ذلِكَ الأمر الذي قد وقع ما كُنَّا نَبْغِ ونطلب من سفرنا هذا إذ هو علامة وجدان المطلوب وامارة حصول الارب فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما على الفور فأخذا يقصان قَصَصاً لازالة شدة السفر فمضيا الى ان وصلا الصخرة المعهودة
فَوَجَدا عندها عَبْداً كاملا في العبودية والعرفان إذ هو مِنْ خلص عِبادِنا وخيارهم لأنا من وفور جودنا وانعامنا عليه قد آتَيْناهُ وأعطيناه رَحْمَةً كشفا وشهودا تاما موهوبا له مِنْ عِنْدِنا تفضلا وإحسانا بلا عمل له في مقابلتها يقتضى ذلك وَمع ذلك قد عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا بلا وسائل الكسب والتعلم والطلب والاستفادة بل بمجرد توفيقنا وفضلنا إياه امتنانا له وإحسانا عِلْماً متعلقا بالغيوب حيث اخبر ويخبر بما وقع وسيقع
فلما وصلا اليه وتشرفا بشرف حضوره وصحبته قالَ لَهُ مُوسى على وجه الاستجازة والاسترشاد وحسن الأدب هَلْ أَتَّبِعُكَ ايها المؤيد الكامل المتحقق بمراتب اليقين بتمامها الواصل الى بحر الوحدة الخائض في لججها عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ وتفيد لي مِمَّا عُلِّمْتَ وألهمت من سرائر المغيبات سوابقها ولواحقها رُشْداً ترشدني نحوها مقدار استعدادي وقدر قابليتي وطاقتي قال يا موسى كفى بالتورية علما وببني إسرائيل شغلا قال موسى في جوابه ان الله قد أمرني بالاستفادة والاسترشاد منك فلا تمنعني وبعد ما قد ألح موسى واقترح
قالَ إِنَّكَ يا موسى مع كمال حذاقتك في ظواهر العلوم المتعلقة بوضع القواعد الدينية ونصب المعالم الشرعية وانتصاف الظالم من المظلوم وانتقامه لأجله الى غير ذلك من الأمور المتعلقة بسياسة البلد وتدبير المدن والمنزل لَنْ تَسْتَطِيعَ ولن تقدر مَعِيَ صَبْراً بل لا بد لك متى اطلعت على امر وشيء يخالف الشرعية والوضع المخصوص الذي أنت جئت به من عند ربك ونزلت التورية على مقتضاه لزم عليك ان تمنعه وتعترض عليه بمقتضى نبوتك ورسالتك على سبيل الوجوب والذي انا عليه من العلوم المتعلقة بالسرائر والغيوب قد يخالف أصلك وقواعدك فلن تستطيع حينئذ معى صبرا
ثم اعتذر وبسط العذر معللا حيث قال وَكَيْفَ تَصْبِرُ أنت يا موسى عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً اطلاعا على سره ومآله ومع ذلك لم ينزل عليك وحى من عند ربك متعلق بأمثاله
قالَ موسى ملحا عليه مقترحا مبالغا سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ وتعلقت ارادته بصبري صابِراً على عموم ما قد جئت به من المغيبات الخارقة للعادات التي لم افز بسرائرها وهي مخالفة لظواهر الشرائع والاحكام وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً اى في امر من الأمور(1/486)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
وشيء من الأشياء وبعد ما اضطره موسى على القبول
قالَ له الخضر عليه السّلام على سبيل التوصية والتوطئة فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي بعد ما بالغت فَلا تَسْئَلْنِي يعنى عليك ان لا تفاتحنى بالسؤال عَنْ شَيْءٍ قد أنكرته منى ووجدته مخالفا لظاهر الشرع حَتَّى أُحْدِثَ وأبين لَكَ مِنْهُ ذِكْراً بيانا واضحا كاشفا عن إشكالك ودغدغتك بلا سبق سؤال منك
ثم لما تعاهدا على هذا فَانْطَلَقا يمشيان على ساحل البحر لطلب السفينة فمرا على سفينة فاستحملا من أهلها فقبلوا ان يحملوهما فقربوها الى الساحل فحملوهما بلا نول حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ على شاطئ البحر فجرت فلما بلغت اللجة خَرَقَها الخضر عليه السّلام بان أخذ فأسا فقلع منها لوحا او لوحين فلما رأى موسى منه ما رأى أخذ يشد خرقها بثيابه قالَ له حينئذ على سبيل نهى المنكر أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ بخرقها أَهْلَها وساكنيها إذ من خرقها قد يدخل الماء فيها فيغرقها وأهلها والله لَقَدْ جِئْتَ بفعلك هذا شَيْئاً إِمْراً اى منكرا عظيما هو قصد إهلاك جماعة بلا موجب شرعي
قالَ له الحضر على سبيل التذكير والتشنيع أَلَمْ أَقُلْ لك يا موسى من أول الأمر إِنَّكَ باعتبارك بظواهر العلوم
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ موسى معتذرا متذكرا لعهده لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ اى نسياني وغفلتي عن وصيتك وعهدي معك وَلا تُرْهِقْنِي اى لا تغشني ولا تحجبني مِنْ أَمْرِي الذي قد بعثني على متابعتك وهو الاطلاع على سرائر الأمور ومغيباتها عُسْراً اى لا تحجبني عن مطلوبي بالمؤاخذة على النسيان عسرا يلجئنى الى ترك متابعتك فيفوت غرضي منك ومطلوبي من متابعتك وبعد ما قد ألح موسى واقترح معتذرا قبل الحضر عليه السّلام عذره بالضرورة
ثم لما نزلا من السفينة فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً صبيا صبيحا لم يبلغ الحلم يلعب مع الصبيان فَقَتَلَهُ الخضر عليه السّلام على الفور بلا صدور ذنب منه وجريمة حيث أخذ رأسه وضربه الى الجدار حتى مات فاشتد الأمر على موسى فامتلأ من الغيظ ولم يقدر على كظمها وهضمها قالَ موبخا مقرعا أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً معصومة برية عن جميع الآثام بِغَيْرِ إهلاك نَفْسٍ صدر منه قصدا ليكون قتله قصاصا عنه شرعا مع انه لا ولاية لك حينئذ على قتله وان صدر عنه القتل عمدا والله لَقَدْ جِئْتَ باتيانك هذا شَيْئاً نُكْراً منكرا مكروها في غاية النكارة والكراهة إذ قتل النفس من أعظم الكبائر سيما النفس المعصومة المنزهة عن عموم المعاصي سيما لم تكن لك ولاية قتله شرعا بلا جريمة أصلا وبعد ما سمع الخضر منه إنكاره
قالَ له على وجه التشدد والغلظة أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ولن تطيق ابدا مَعِيَ صَبْراً إذ لا مناسبة بيني وبينك ولا موافقة لعلمي مع علمك فخلني على حالي ولا تشوشنى وانصرف عنى وامض حيث شئت فقد بلغت الطاقة ثم لما رأى منه موسى ما رأى من الغيظ والغلظة والحرارة المفرطة أخذ بالرفق والمداراة واظهار المسكنة والاستحياء
حيث قالَ معتذرا مستحييا لا تحرمني عن صحبتك بما صدر عنى من نقض العهد وسوء الأدب ولا تودعنى يا سيدي عن صحبتك زجرا وقهرا وبالجملة إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي ولا تجعلني رفيقك وصاحبك لأنك قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي ومن قبلي عُذْراً فلا اعتذر لك بعد هذا بل أفارق ان وقع عنى ما يشوشك. عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انه قال رحم الله أخي موسى قد استحى فقال ذلك ولو لبث مع صاحبه لا بصر اعجب الأعاجيب
وبعد ما تقاولا في امر الغلام ما تقاولا فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ هي انطاكية اوايلة اسْتَطْعَما أَهْلَها من شدة جوعهما واحتياجهما الى الطعام فَأَبَوْا وامتنعوا أَنْ يُضَيِّفُوهُما(1/487)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
ويطعموهما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ اى يميل ويشرف أَنْ يَنْقَضَّ اى يسقط وينهدم فَأَقامَهُ الخضر عليه السّلام وعدله وسواه بالعموم او اسقطه واحكم بنيانه وبناه جديدا ثم لما رأى موسى منه امرا مستغربا مستبدعا وهو انهما على جناح السفر ولم يكن بهما شغل وغرض متعلق بتعمير الجدار وإقامته قالَ على سبيل التعريض لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وأخذت جعلا واكتسبت للتقوت والتزود بعد ما أبوا عن الضيافة
ثم لما سمع الخضر من موسى ما سمع قالَ هذا اى سؤالك وتعريضك فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ويوجب مفارقتي عنك لكن لا أفارقك في الحال بل سَأُنَبِّئُكَ وأخبرك بِتَأْوِيلِ ما اى الأمور التي قد أنكرت عليها واعترضت مفتتحا مستعجلا بحيث لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً حتى أحدثك وابينك سرائرها
مع انى أوصيتك ببيانها لك أولا ثم فصلها فقال أَمَّا السَّفِينَةُ التي قد خرقتها بالهام الله إياي والقائه على قلبي فَكانَتْ لِمَساكِينَ وضعفاء لا مكسب لهم سواها يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ بها ويعيشون من نولها فَأَرَدْتُ باذن الله ووحيه أَنْ أَعِيبَها واجعلها ذات عيب وَقد كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ ظالم مستمر عليه وهو يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صحيحة غير معيبة غَصْباً ظلما وزورا بلا فدية فجعلتها ذات عيب حتى تبقى لهم وذلك باذن الله عناية منه سبحانه لضعفاء عباده ورعاية لحالهم في مصلحتهم
وَأَمَّا الْغُلامُ الذي قد قتلته على الفور فهو غلام قد جبله الحق على الكفر والعصيان وانواع الشرك والطغيان فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ موحدين فَخَشِينا عليهما من سوء فعاله وقبح حاله وخصاله أَنْ يُرْهِقَهُما ان يغشيهما وينطيهما طُغْياناً وَكُفْراً من غاية حبهما له وتحننهما إياه
فَأَرَدْنا واحببنا بقتله وهلاكه أَنْ يُبْدِلَهُما ويهب لهما بدله رَبُّهُما الذي رباهما بنعمة التوحيد والايمان وكرامة العصمة والعفاف ولدا خَيْراً مِنْهُ زَكاةً يعنى طاهرا مطهرا عن خبائث الكفر والآثام متصفا بحلية الايمان والإسلام وَأَقْرَبَ رُحْماً مرحمة وعطفا وبرا على الوالدين ولطفا. قيل قد ولدت لهما جارية بدل الغلام فتزوجها نبي من أنبياء الله فولدت نبيا قد هدى الله به امة من الأمم
وَأَمَّا الْجِدارُ الذي قد أردت إقامته وقصدت تعميره بالهام الله إياي ووحيه فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ولم يبلغا الحلم وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما مدفون مخزون من ذهب وفضة قد دفن لهما أبوهما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً موحدا مسلما متوجها نحو الحق دائما فَأَرادَ رَبُّكَ يا موسى من كمال لطفه وعطفه لليتيمين ورعايته للأب الصالح أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما ويدخلا رشدهما ويخرجا عن يتمهما إذ لا يتم بعد البلوغ ويصيرا ذوى رأى رزين وفكر متين وَيَسْتَخْرِجا بعد ذلك كَنزَهُما وانما أمرني الله سبحانه بإقامة الجدار واحكام المخزن رَحْمَةً عطفا ومرحمة ناشئة مِنْ رَبِّكَ يا موسى شاملة عليهما تتميما لتربيتهما وتقويتهما وَبالجملة ما فَعَلْتُهُ انا وما أنكرت أنت عليه وما اعترضت وتعرضت فيه وبه يا موسى ليس صادرا عَنْ أَمْرِي ورأيى ناشئا عن تدبير عقلي وفكرى بل مما الهمنى الله به وجرأني عليه وأمرني بفعله فانا مأمور بل مجبور والمأمور معذور ذلِكَ المذكور على التفصيل تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ أنت ولم تطق عَلَيْهِ صَبْراً حتى ظهر لك سره ومما جرى بينهما صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما يتفطن العارف اللبيب والطالب الأديب ان شرط الاستفادة والاسترشاد ومناط الاستكمال وطلب الرشد هو ان يميت المريد المسترشد نفسه عن المرشد الكامل المكمل بالموت الإرادي بحيث لا يتأتى منه المعارضة والمقابلة أصلا فكيف(1/488)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
الممانعة والمماراة وان جزم ان فعل مرشده خارج عن مقتضى العقل والشرع على زعمه بل حمل عموم أفعاله على المحمل الأحسن الأصوب وسكت عن مطلق المراء والمجادلة إذ المريد بعد ما فوض أموره كلها الى مرشده واتخذه وكيلا واخذه ضمينا وكفيلا فقد فنى فيه وبقي ببقائه فلم يبق له التصرف أصلا بمقتضيات قواه وجوارحه ومداركه. هب لنا ربنا من لدنك رحمة تنجينا بها من تسويلات نفوسنا.
ثم قال سبحانه على وجه التنبيه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وَيَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل اى اليهود المردودون والنصارى المنحوسون المطرودون سؤال اقتراح وامتحان مثل سؤال اصحاب الكهف والروح عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وأطواره وكيفية سيره وطوافه حول العالم قُلْ سَأَتْلُوا واقرأ واذكر ان شاء الله عَلَيْكُمْ مِنْهُ اى من ذي القرنين وقصته ذِكْراً قد أخبرني به سبحانه بالوحي في كتابه المعجز. وذو القرنين هو الإسكندر الأكبر الرومي بن فيلقوس الرومي سمى بذي القرنين لأنه طاف قرني الدنيا اى المشرق والمغرب قد اختلف في ولايته ونبوته
اخبر عنه سبحانه بقوله إِنَّا من مقام عظيم جودنا وفضلنا قد مَكَّنَّا وقدرنا لَهُ فِي الْأَرْضِ تمكنا تاما وقدرة كاملة وَذلك انا قد آتَيْناهُ أعطيناه تأييدا له وتعضيدا إياه مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً موصلا له الى مبتغاه وجميع ما أمله يعنى قد وفقناه على اسباب الوصول الى كل مطلوب قصده وأراد الوصول اليه
فَأَتْبَعَ سَبَباً متى ارتكب امرا لوثوقه واتكاله علينا وبانجاحنا إياه الى مبتغاه
ثم لما أراد ان يسير نحو المشرق فاتبع سببه وسار حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ اى موضعا تغيب فيه يعنى بلغ نهاية العمارة من جانب المغرب وَجَدَها اى الشمس تَغْرُبُ وتغيب فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ اى ذات حمأة وهي الطين والماء وقرئ حامية اى حارة ويجوز ان يكون عينا ذات حمأة وحرارة وبالجملة غروبها في رأى العين على عين صفتها هذه والا فلا تسع الشمس في جميع كرة الأرض فكيف بجزء منها إذ نسبة كرة الأرض الى عظم جرم الشمس عند اهل الرصد كنسبة جزء من مائة وست وستين جزأ على التقريب فكيف تغيب وتستتر هي بجزء منها وَوَجَدَ عِنْدَها اى عند العين الموصوفة قَوْماً كفارا نافيا للصانع الحكيم لباسهم جلود الوحوش وطعامهم ما لفظ البحر بالموج من انواع الحيوانات المائية فلما وصل ذو القرنين إليهم ووجدهم كفارا خيرناه في أمرهم عناية منا إياه بان قُلْنا له وألهمنا عليه مناديا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ لك الخيار في شأن هؤلاء الكفار إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ اى تهلكهم وتستأصلهم بكفرهم بحيث لا يبقى منهم احد وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ وتصنع فِيهِمْ حُسْناً شرعا ودينا كما في سائر المؤمنين
ثم لما خير ذو القرنين في أمرهم وفوض أمرهم اليه قالَ على مقتضى العدل والإنصاف الذي قد جبله الحق عليه ادعوهم أولا الى الايمان والقن عليهم كلمة التوحيد والعرفان أَمَّا مَنْ ظَلَمَ وتولى وابى وأصر على ما عليه من الكفر والهوى فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ او نقتله حدا بعد عرض الإسلام ولم يقبل في دار الدنيا ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في يوم الجزاء فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً شديدا مجهولا غير متعارف بين اهل الدنيا شدته وفظاعته
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ منهم وَعَمِلَ على مقتضى الايمان عملا صالِحاً فنصلح حاله ونراعيه في الدنيا فَلَهُ في يوم الجزاء ووقت العطاء جَزاءً الْحُسْنى والمثوبة العظمى والدرجة العليا والمقام الأسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا الذي قد أمرناه بالتخيير في امر أولئك الهالكين في تيه الغواية يُسْراً سهلا معتدلا بين افراط القتل والاستئصال وتفريط الإبقاء على الكفر والضلال مداهنة
ثُمَّ بعد ما قد وضع الشرع بالأمر الإلهي بين اهل المغرب(1/489)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
أَتْبَعَ سَبَباً آخر يوصله الى المشرق وسار
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وموضع شروقه وإضاءته على العالم قد وَجَدَها تَطْلُعُ وتستضئ أولا عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً يعنى لم تجعل لهم حائلا كثيفا وحجابا غليظا ليكون ساترا لهم حر الشمس وقت طلوعها من الجبل والشجر وغيرهما بل كلهم غرل عراة لا لباس لهم أصلا بل هم يحفرون الأرض ويتخذون سردابا وأخاديد يدل الايتية لان ارضهم لا تمسك البناء
كَذلِكَ اى وهم ايضا كفار مثل اهل المغرب وهم أشد الناس في الحروب وأشجعهم في المعارك واجرأهم على القتال والاقتحام في الوغاء ولهم آلات واسلحة عجيبة وعدد بديعة لا كمثل سائر آلات الناس وعددهم وأيضا هم اكثر الناس عددا وَمع كثرة عددهم ووفور مكرهم وخديعتهم قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً يعنى أعلمنا اسكندر وبمن عنده من الجنود والخدمة علما بحال أعدائهم وبدفع مكرهم وحيلهم وجرأناهم على المقابلة والمقاتلة مع قلتهم وكثرة عدوهم فقاتلوا معهم وغلبوا عليهم وبعد ما قد غلب عليهم وضع بينهم ايضا شعائر الشرع ومعالم الدين كما وضع لأهل المغرب
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً آخر وسار على الأرض بين المشرق والمغرب
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ اى بين الجبلين اللذين سد بينهما ذو القرنين سدا منيعا حصينا وهما جبلا إرمينية وآذربيجان وقيل جبلان في أواخر الشمال في منقطع ارض الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج وَجَدَ مِنْ دُونِهِما وعندهما قَوْماً أعجميا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ ويفهمون قَوْلًا لغة من اللغات المتداولة
قالُوا بلسان الواسطة والترجمان يا ذَا الْقَرْنَيْنِ نحن أناس ضعفاء مظلومون نحتاج الى اعانتك واغاثتك لتنقذنا من أيادي الظلمة إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هما علمان للقبيلتين من الترك مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ اى في ارضنا هذه بأنواع الفسادات قيل قد كانوا يخرجون في الربيع فلا يتركون اخضر رطبا الا أكلوه ولا يابسا الا حملوه وقيل كانوا يأكلون الناس ايضا فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً جعلا نوزع حتى يبلغ مبلغا وافيا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بسلطنتك وسطوتك بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا منيعا محكما بحيث لا يمكنهم الخروج علينا فنأمن من شرورهم بجاهك يا مولانا
قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ اى ما خصنى وما جعلني ربي بفضله وجوده مكينا فيه من المال والملك خير مما تجمعون أنتم بتوزيعكم وتحريجكم واكثر منه ولا حاجة لنا الى أموالكم بل الى اعانتكم وسعيكم أجراء فَأَعِينُونِي في وضع هذا السد بِقُوَّةٍ عملة وصناع يأخذون منى الأجر ويعملون أَجْعَلْ بفضل الله وسعة رحمته وجوده بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً سدا حاجزا حصينا منيعا وثيقا بحيث لا يقبل التخريب الى انقراض الدنيا ان تعلق به مشيئته سبحانه
وبالجملة آتُونِي واحضروا عندي أولا زُبَرَ الْحَدِيدِ اى قطعها الكبيرة فأتوا بها فأمرهم بحفر الأرض الى ان وصل الماء فوضع الأساس من الصخر والنحاس المذاب حتى وصل الى وجه الأرض أمرهم بتنضيد قطع الحديد بأن وضعوا بين كل قطعتي الحديد فحما وحطبا وأمرهم برفعه هكذا حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ اى بين جانبي الجبلين وصار ما بينهما مساويا للطرفين في الرفعة أمرهم بوضع المنافخ العظام من كلا طرفي السد ثم قالَ لهم انْفُخُوا فنفخوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً اى جعل المنفوخ فيه مثل النار في اللون والحرارة فأحرق الفحم والحطب وذابت واتصلت الزبر وبقيت فرج صغار يعنى لم يصل الى حد الملامسة والتسوية ثم قالَ آتُونِي شيئا مايعا مذابا أُفْرِغْ عَلَيْهِ ليصير ملسا مسوى لا فرج فيها ولا يرى اوصالها أصلا وبالجملة أتونى(1/490)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
قِطْراً نحاسا مذابا فأتوه فصب عليه فاستوى فصار أملس لا فرج لها أصلا
فَمَا اسْطاعُوا وما قدر يأجوج ومأجوج أَنْ يَظْهَرُوهُ ويصعدوا عليه ويعلوا لارتفاعه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا ايضا ان يحفروا لَهُ نَقْباً لعمقه وغلظ تحصنه
ثم لما انسد واستوى على الوجه الذي قصد قالَ ذو القرنين مسترجعا الى الله شاكرا لنعمه هذا اى إتمام هذا السد المحكم على الوجه الأسد الأحكم رَحْمَةٌ نازلة على مِنْ رَبِّي إذ لولا توفيقه واقداره لما صدر عنى وبقدرتي أمثال هذا فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي وقرب قيام الساعة وظهر اماراتها وأشراطها ومن جملة اماراتها خروج يأجوج من ورائه جَعَلَهُ سبحانه هذا السد الرفيع المنيع دَكَّاءَ اى مدكوكا مسوى مفتتا اجزاؤه بحيث لم يبق له ارتفاع أصلا وهم حينئذ يخرجون على الناس وَبالجملة قد كانَ وَعْدُ رَبِّي بقيام الساعة واستواء ظهر الأرض وكونها دكاء بحيث لا عوج لها ولا امتا حَقًّا ثابتا محققا لا شبهة فيه ولا في إتيانه ووقوعه.
ثم قال سبحانه وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يعنى بعد ما قد جعلنا الأرض مبسوطا مدكوكا حسب قهرنا وجلالنا وجعلنا السد الأسد السديد الرفيع المنيع مسوى قد أخرجنا يأجوج ومأجوج باقدارنا إياهم بالخروج وتركنا حينئذ بعض الناس يموج ويزدحم ويدخل من صولتهم واستيلائهم بعضا آخر مضطربين مضطرين يعنى بعض الناس يهرب منهم ويزدحم في اماكن البعض الآخر فيضيق عليهم الأمكنة والأطعمة فاضطرب الكل من تلك التموج والازدحام وَهم في تلك الاضطراب والتشتت من استيلاء أولئك الظلمة القهارين القتالين نُفِخَ فِي الصُّورِ للحشر والجمع الى المحشر والمجمع وقامت الطامة الكبرى فَجَمَعْناهُمْ حينئذ اى جميع الخلائق للعرض والحساب جَمْعاً مجتمعين في الحشر
وَبعد جمعنا إياهم قد عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ اى يوم الحشر لِلْكافِرِينَ المعرضين المكذبين للرسل والكتب المنكرين ليوم العرض والجزاء عَرْضاً على سبيل الإلزام والتبكيت سيما للقوم
الَّذِينَ قد كانَتْ أَعْيُنُهُمْ في النشأة الاولى فِي غِطاءٍ وغشاوة كثيفة عَنْ ذِكْرِي اى عن آياتي الدالة على ذكرى المؤدية الى التفكر والتدبر في آلائي ونعمائي المؤدية الى ملاحظة ذاتى المنتهية الى المكاشفة والمشاهدة للموفقين المؤيدين من عندي المنجذبين الى وَهم قد كانُوا ايضا لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون سَمْعاً اى إصغاء والتفاتا الى استماع كلمة الحق لتعطيلهم وكفرانهم حسب خباثة فطرتهم وطينتهم نعمة الحق الموهوبة لهم لاستماع كلمة الحق وإصغاء دلائل التوحيد عن مقتضاها.
ثم قال سبحانه على سبيل التقريع والتوبيخ أَللكفرة المشركين المتخذين آلهة سوى الله من مصنوعاته ومخلوقاته فَحَسِبَ وظن القوم الَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا بسبب أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي
واعتقدوهم مثل عزير وعيسى وعموم الأوثان والأصنام مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ آلهة سواي يعبدونهم كعبادتهم إياي أنا لا نأخذهم ولا ننتقم عنهم في يوم الجزاء كلا وحاشا وكيف لا نأخذهم ولا ننتقم عنهم إِنَّا من كمال قهرنا وغضبنا على من أشرك بنا غيرنا واثبت آلها سوانا قد أَعْتَدْنا وهيئنا جَهَنَّمَ البعد والخذلان المملوة الممتلئة بنيران الحرمان لِلْكافِرِينَ المعرضين عن مقتضيات آياتنا وكتبنا ورسلنا نُزُلًا ومنزلا معدا ينزلون فيها يوم الجزاء نزول المؤمنين في جنة الوصال ومقر الآمال
قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين المتخذين أربابا من دون الله من مصنوعاته يعبدونهم مثل عبادته وينكرون توحيده ويكذبون كتبه ورسله المبينين لأحوال النشأتين عنادا ومكابرة هَلْ نُنَبِّئُكُمْ(1/491)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
نخبركم ونرشدكم ايها المنهمكون في الخسران والطغيان بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا اى العاملين الذين خسروا من جهة أعمالهم مع انهم قد زعموا الربح فيها
وهم الَّذِينَ ضَلَّ اى قد ضاع سَعْيُهُمْ الذي قد سعوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بإتيان الأعمال الصالحة والانفاق وبناء بقاع الخير وغير ذلك كالرهابنة والقسيسين وكذا عموم اهل العجب والرياء أية امة كانت وَهُمْ في النشأة الاولى يَحْسَبُونَ ويظنون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ينفعهم عند الله ويتوقعون المثوبة العظمى والدرجة العليا لأجلها مع انهم هم قد خسروا خسرانا مبينا لفقدهم ما هو مبنى للأعمال ومناط العبادات والأحوال الا وهو الايمان بتوحيد الله والتصديق بكتبه ورسله
أُولئِكَ البعداء الأشقياء المجبولون على الكفر والشقاق هم الَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا بِآياتِ رَبِّهِمْ الدالة على توحيده وتصديق رسله وكتبه وَلِقائِهِ الموعود لعباده عند انجلاء حجبهم وارتفاع استارهم فَحَبِطَتْ اى قد ضاعت واضمحلت وضلت في النشأة الاخرى عنهم أَعْمالُهُمْ التي جاءوا بها في النشأة الاولى لطلب الربح والنفع فَلا نُقِيمُ ولا نضع لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد لجزاء الأعمال وتنقيدها وَزْناً مقدارا ينتفع ويعتد بها لانحباطها وسقوطها عن درجة الاعتبار لدى الملك الجبار
بل ذلِكَ الأمر والشان المترتب على الكفر والشرك هذا وهكذا وبالجملة جَزاؤُهُمْ ونفعهم العائد لهم لأجل أعمالهم هذه في يوم الجزاء جَهَنَّمُ البعد والحرمان وسعير الطرد والخسران وما ذلك الا بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي الدالة على وحدة ذاتى وعظمة صفاتي واستقلالى في شئوني وأفعالي وعموم تطوراتى وَكذلك قد اتخذوا عموم رُسُلِي المؤيدين بآياتى المبعوثين على تبيين دلائل توحيدي بين عبادي هُزُواً محل استهزاء يستهزؤن بهما وينكرون عليهما عتوا وعنادا.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بتوحيد الذات والصفات والأفعال وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى التوحيد الذاتي الملايمة المناسبة لشعائره ومناسكه كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ وهو وسط الجنة المشرف على أطرافها لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم إذا سئلتم الله فاسئلوا الفردوس فانه وسط الجنة وهي بستان الغيب ومهبط الفتوحات الغيبية الا وهي أعلى مراتب ارباب التوحيد وأسناها وعند ذلك انتهى السير والسلوك وبعد ذلك السلوك فيه لا به واليه نُزُلًا ومنزلا ينزلون اليه ويتمكنون فيه
خالِدِينَ فِيها ولكمال صفائها ونضارتها ودوام لذاتها الروحانية لا يَبْغُونَ ولا يطلبون بالطبع والارادة عَنْها حِوَلًا اى انتقالا وتحولا لكونها مقر فطرتهم الاصلية ومنزل استعداداتهم الحقيقية إذ فوق عرش الرّحمن المفيض لجميع القوابل والاستعدادات مقتضياتها ثم لما طعنت اليهود في القرآن وأرادوا ان يثبتوا التناقض في بعض آياته مع بعض حيث قالوا أنتم تقرءون في كتابكم تارة ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا وتارة تقرءون وما أوتيتم من العلم الا قليلا وما هي الا تناقض صريح
امر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بقوله قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلا ما يسقط شبهتهم ان أنصفوا نحن لا ندعى ان من اوتى الحكمة فقد اوتى بجميع معلومات الله وعلومه وكيف ندعى هذا وهو محال في غاية الاستحالة والامتناع إذ لَوْ كانَ الْبَحْرُ اى جنس البحر وهو عبارة عن جميع كرة الماء مِداداً اى ما يمد به القلم للرقم والكتابة لِكَلِماتِ رَبِّي وثبتها وكتبها لَنَفِدَ الْبَحْرُ البتة وانتهى لتناهيه وكونه محدودا قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي لكونها غير محدودة وغير متناهية وَكيف لا لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ(1/492)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
اى بمثل جنس البحر بأضعاف أمثاله وآلافه مَدَداً لنفد وتناهى البتة إذ لا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي وان فرض أضعافا وآلافا
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بلغت لهم كثرة كلمات الله الغير المحصورة كلاما خاليا عن وصمة التفوق والتفضل المفضى الى الرعونة ناشئا عن محض الحكمة والفطنة إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قابل للعلوم والإدراكات مثلكم بمقتضى البشرية لا فرق بيني وبينكم بحسب الفطرة غاية ما في الأمر انه يُوحى إِلَيَّ ويفاض على افاضة علم وعين وحق أَنَّما إِلهُكُمْ ومعبودكم ومظهركم إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر ليس له شريك ولا نظير ولا وزير بل هو مستقل في الوجود والإيجاد والإظهار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد استقلالا ارادة واختيارا وليس امتيازى عنكم الا بهذا فَمَنْ كانَ منكم يَرْجُوا رجاء مؤمل بصير لِقاءَ رَبِّهِ مكاشفة ومشاهدة فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً قالعا لأصل انانيته وعرق هويته قامعا لمقتضيات أوصاف بشريته وبهيميته مزيلا لذمائم أخلاقه وأطواره وَمع ذلك لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً من خلقه يعنى لا يقصد من عمله وعبادته الرياء والسمعة والعجب والنخوة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء وقال تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيرى فانا منه برئ وهو للذي عمله لأجله وبالجملة يعمل على وجه يسقط الكثرة والاثنينية لا على وجه يزيدها ويكثرها بل العامل العارف لا يطلب بعمله الجزاء ايضا بل انما يعمل امتثالا لأمره سبحانه وطلبا لمرضاته ولا يخطر بباله شيء سواه جعلنا الله ممن حققه الحق بمقام التوحيد وامنه عن توهم الرياء والتقليد وحفظه من كل شيطان مريد
خاتمة سورة الكهف
عليك ايها الموحد القاصد المتحقق في مقام التمكن من التوحيد قررك الله في مقعد صدقك ويقينك في مقر ثبتك وتمكينك ان تحفظ أعمالك التي قد جئت بها متقربا للوصول الى محل القبول عن مداخل الرياء والسمعة والعجب وانواع الرعونات إذ هي كلها شباك الشيطان وعقاله يقيد بها خواص عباد الله ويلهيهم بها عماهم عليه من الرضا والتسليم ويوقعهم في فتنة عظيمة ومعصية كبيرة مستلزمة للشرك بالله العياذ بالله من غوائل الشيطان وتسويلاته وتخلصها لمحض وجهه الكريم فلك ان تلازم العزلة وتداوم الخلوة حتى لا يلحقك من الخلطة أمثال هذه الأمراض العضال وايضا لك ان تجلى خاطرك وتصفى ضميرك عن عموم هواجسك المتعلقة بأمور معاشك بين بنى نوعك فان اكثر عروض هذه الأمراض انما يحصل من الأماني واخطار اللذات الوهمية من الجاه والثروة والتفوق على الأقران وغير ذلك وان شئت ان يسهل عليك الأمر فاشغل جوارحك لكسب ضروريات معاشك في بعض الأحيان واقنع باقل المعيشة وسد الرمق واحذر عن فضول العيش فان اكثر فحول الرجال قد استرق بفضول الأماني والآمال وبالجملة نعم القرين العزلة والفرار عن تغيرات الدنيا الغدار الغرار الخداع المكار والخمول في زوايا الكهوف والاغوار والفرار عن اختلاط اصحاب الخسار والبوار فاعتبروا يا اولى الأبصار ووفقنا بفضلك وجودك بما تحب عنا وترضى(1/493)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
[سورة مريم عليها السّلام]
فاتحة سورة مريم عليها السّلام
لا يخفى على من انكشف بوحدة الوجود وتحقق دونه امتداده وسريانه على جميع الموجودات حسب اقتضاء الصفات الذاتية الإلهية فان اقتضاء بعض المظاهر الإلهية شيأ من الكمالات اللائقة له واستدعائه إياه انما هو باعتبار صفة من الصفات الإلهية المندمجة فيه باطنا سيما إذا صدر من النفوس الزكية المقدسة عن الكدورات البشرية المنزهة عن العلائق الناسوتية المتخلقة بالأخلاق الملكية المنتخبة لتحمل أعباء الرسالة المستخلفة عن الذات الإلهية النائبة عنها فيما يتعلق بالمظاهر الارضية ولا شك ان زكريا صلاة الرّحمن على نبينا وعليه من جملة المنتخبين للخلافة والنيابة المنزهين عن غوائل الشيطان وتسويلاته الغالبة في نشأة زكريا عليه السّلام وبالجملة ما حداه وما بعثه وهداه الى طلب الولد الا الصفة الإلهية التي تقتضي الظهور والنزول عن الغيب الذاتي الى عالم الشهادة ولما كان ظهوره موقوفا على طلب زكريا وتحننه لحكمة ومصلحة قد استأثر الله بها لا يطلع عليها الا من خصه بالاطلاع لذلك ناجى زكريا بوحي من الله اليه به وناداه نداء مؤمل صريع على وجه قد انكشف به تحقق مأموله وإنجاح مسئوله حين جذبه الحق عن نفسه وأخرجه عن قيود تعلقاته مطلقا مع انه كان في نفسه قنوطا عن حصول الولد منه ومن امرأته لانقضاء أوانه منها وعقرها الأصلي ثم لما كان صلى الله عليه وسلّم مبدأ جميع مراتب الأنبياء ومجمعها اخبر سبحانه له ما ناجى معه عبده زكريا من استدعاء الولد الذي يخلفه ويحيي به اسمه مع انه من غرائب صنع الله وبدائع مخترعاته التي قد صدر عنه على سبيل خرق العادة إذ لا استعداد لزكريا ولا قابلية لزوجته بحصول الولد منها لانقضاء أوان التوالد من كلا الجانبين فقال سبحانه متيمنا باسمه العلى مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم بِسْمِ اللَّهِ الذي قد تجلى على أنبيائه ورسله ببدائع الكمالات الخارقة للعادات الرَّحْمنِ لهم ان يفتح عليهم أبواب المرادات بأسباب السعادات الرَّحِيمِ لهم حيث يوصلهم الى أقصى المقامات وأعلى الدرجات بأنواع الكرامات
[الآيات]
كهيعص يا كافى مهمات مهام عموم الأنام وهاديهم الى دار السّلام بيمن العزيمة العلية وبصدق الهمة الصادقة الصافية عن الكدورات البشرية الصادرة عنك نيابة عنا هذه السورة
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ الذي رباك كافيا هاديا للمضلين ينبوعا للعلوم الصحيحة الصافية اللدنية الجارية من قلبك على لسانك بمقتضى الوحى الإلهي والهاماته الغيبية عَبْدَهُ زَكَرِيَّا المتوجه نحوه في السراء والضراء المسترجع اليه عند هجوم عموم البلاء وحلول اصناف العناء اذكر يا أكرم الرسل وقت
إِذْ نادى رَبَّهُ نداء مؤمل صريع وناجى معه مناجاة مأيوس فجيع نِداءً خَفِيًّا متمنيا متحسرا مسرا مخفيا في ندائه ليأسه وقنوطه لانقضاء مدة الحمل ووقت حصول الولد ولئلا يلام عند الناس بطلبه هذا وقت الهرم من كلا الجانبين
حيث قالَ مشتكيا الى الله باثا شكواه عنده سبحانه في فحواه رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم إِنِّي من غاية ضعفى ونهاية هزالي ونحولى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وقد ضعف دعائم جسمي وقوائم بدني وأشرفت على الانهدام والانصرام وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً اى اشتعل شيب رأسى وذهب سواده بالكلية وانقلب الى البياض المشعر بالانقضاء والزوال مثل ابيضاض النباتات وقت الخريف وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ اى لم أكن انا بدعائى إياك في كل حال يا رَبِّ شَقِيًّا خائبا خاسرا مردودا بل قد عودتني أنت بفضلك وجودك بالاجابة والإنجاح وهذا الدعاء وان كان ابعد(1/494)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
بحسب العادة من الاجابة الا انه بالنسبة الى قدرتك وجودك اقرب وبجنب حولك وقوتك أسهل وأيسر سيما أنت ألهمتني ووفقتني على إظهاره
وبالجملة وَإِنِّي يا ربي قد خِفْتُ الْمَوالِيَ من أبناء اعمامى وهم الذين يترصدون الولاية والحبورة مِنْ وَرائِي ومن بعد انقراضى وانقضائى ان يغيروها ويضيعوها ويحرفوا معالم الدين وشعائر الإسلام بين المسلمين إذ لا يرجى منهم الرشد والفلاح والخير والصلاح وأنت اعلم بهم منى يا ربي وليس لي ولد صالح لهذا الأمر يخلفني بعدي ولم يبق لي قوة الإيلاد لهرمى وضعفى وَمع ذلك قد كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً عقيما اصليا لم تلد قط فلا مرجع لي في امرى هذا سوى بدائع صنعك وغرائب قدرتك فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
بمقتضى فضلك وجودك لا على طريق جرى العادة ومقتضى الأسباب الصورية ولدا وَلِيًّا عنى يتولى امر ديني بين أمتي
بحيث يَرِثُنِي وينوب عنى به في نبوتي وحبورتى وولايتي وجميع ما أنزلت علىّ خاصة من مقتضيات إحسانك الىّ وإنعامك بي يا ربي وَيَرِثُ ايضا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وما بقي منهم من شعائر الدين ومراسم الهدى واليقين قيل كان زكريا أخا يعقوب بن اسحق وَبالجملة اجْعَلْهُ رَبِّ حسب كرمك وجودك رَضِيًّا راضيا عنك بجميع ما جرى عليه من قضائك صابرا على نزول عموم بلائك شاكرا على جميع نعمائك مرضيا عندك وعند عموم عبادك ثم لما اشتكى عليه السّلام عنده سبحانه بما اشتكى ودعا بما دعا أجاب سبحانه دعاءه واسرع اجابته مناديا له على سبيل الترحم والتفضل
يا زَكَرِيَّا المتضرع المناجى إلينا المستدعى منا خلفا يخلفك ويحيي اسمك إِنَّا من مقام عظيم جودنا إليك نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ يلد منك ومن زوجتك العجوز العقيمة العاقرة اسْمُهُ يَحْيى ليحيى مراسم شرعك ودينك وحبورتك مع انه لَمْ نَجْعَلْ لَهُ ولم نخلق مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا بهذا الاسم بل هو أول من سمى به
ثم لما سمع زكريا البشارة من قبل الحق قالَ على طريق الفرح وبسط الكلام معه سبحانه وان كان عموم أحواله حاصلا عنده سبحانه على التفصيل حاضرا لديه مستبعدا مستغربا يا رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ومن اين يحصل لي سيما في سنى هذا وضعفى ونحولى هذا وَقد كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً جبليا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ والهرم وفرط الكهولة عِتِيًّا يابسا جافا بحيث لا يبقى على رطوبة أصلا لا في مفاصلي ولا في اركان بدني وقوائم جسمي
قالَ سبحانه يا زكريا لا تستبعد من قدرتنا أمثال هذا المقدور بل كَذلِكَ ومثل ذلك قد قدرنا لك ابنا بان تكون أنت باقيا على كبرك وهرمك وزوجتك ايضا باقية على عقرها وهرمها نوجد منكما الولد إظهارا لقدرتنا الغالبة الكاملة وأمثال هذا وان عسر عادة الا انه في جنب قدرتنا سهل يسير وبالجملة كذلك قالَ رَبُّكَ يا زكريا هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ اى إخراج الولد منك ومن زوجتك على سهل يسير وفي جنب حولي وقوتي امر حقير وَكيف لا يكون هذا سهلا بالنسبة الى حولي وقوتي وكمال قدرتي انى قَدْ خَلَقْتُكَ وقدرت وجودك مِنْ قَبْلُ فيما مضى وَلَمْ تَكُ أنت بنفسك شَيْئاً ولا مسبوقا بشيء بل أوجدتك إيجادا إبداعيا وأظهرتك من كتم العدم إظهارا اختراعيا بلا سبق مادة ومدة وسبب عادى وبالجملة هذا هين بالنسبة الى ذلك
ثم لما تفطن زكريا بإنجاح مطلوبه أخذ يسئل الامارة والعلامة لحمل امرأته وحبلها حيث قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي بفضلك آيَةً وعلامة تدل على حمل امرأتى قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ولا تقدر أنت على المقاولة والمكالمة ثَلاثَ لَيالٍ مع(1/495)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
نهارها لا عن عروض عارضة ولحوق مرض وخرس بل قد كنت ح سَوِيًّا صحيحا سالما عن جميع الأسقام غير ان اشتغالك بالحق قد شغلك عن الخلق بحيث لا تطيق التكلم معهم في المدة المذكورة الا رمزا اشارة وإيماء
ثم لما دنى وقت الحمل لاحت إمارته فَخَرَجَ صبيحة يوم عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ اى الحجرة التي هو فيها من خلوته للصلاة على عادته المستمرة وقد كان من عادته انه يأمرهم في كل صبيحة خرج عليهم بالصلوة والدعاء والتوجه والخشوع فَأَوْحى اومأ وأشار إِلَيْهِمْ بلا نطق وتكلم أَنْ سَبِّحُوا ربكم ونزهوه عما لا يليق بشأنه بُكْرَةً وَعَشِيًّا اى في الصبيحة التي أنتم فيها والبكرة التي ستجيء الى العشى الآتي والى الصبيحة الآتية بعده أوصاهم كل يوم بذلك على الدوام وفي تلك المدة ما قدر على التكلم معهم لذلك أشار
ثم لما سوينا خلقة يحيي وأخرجناه من بطن امه صحيحا سويا قلنا له تربية وتكريما يا يَحْيى الموهوب من لدنا المؤيد من عندنا خُذِ الْكِتابَ اى التوراة واشرع في ضبطها وحفظها بِقُوَّةٍ اى بنية خالصة وعزيمة صحيحة صادقة وَانما أمرناه بحفظها وضبطها إذ قد آتَيْناهُ الْحُكْمَ يعنى الحكمة المندرجة فيها وأعطيناه فهمها واستنباط الاحكام منها حال كونه صَبِيًّا لم يبلغ الحلم
وَانما آتيناه وأعطيناه في حال صغره فهم التورية ليكون حَناناً ترحما وتعطفا مِنْ لَدُنَّا إياه تكريما له ولأبيه وَزَكاةً طهارة له عن مطلق الخبائث والآثام وَلهذا قد كانَ في مدة حياته من أوان صباه الى موته تَقِيًّا حذرا من عموم المناهي والمنكرات خائفا عن جملة المعاصي والمحظورات
وَ
لنجابة طينته قد ألقينا في قلبه بَرًّا
وإحسانا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ
في وقت من أوقاته وحالاته جَبَّاراً
عاقا لهما مستنكفا عن أمرهما عَصِيًّا
تاركا أمرهما وحكمهما
وَ
لسلامته عن عموم الآثام وطهارته عن جميع الخبائث والمعاصي سَلامٌ
حفظ وتسليم وتكريم نازل منا عَلَيْهِ
على الدوام يَوْمَ وُلِدَ
قد كنا نحفظه من شر الشيطان وَيَوْمَ يَمُوتُ
نحفظه من زوال الايمان وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
نصونه عن الخيبة والخسران وعن لحوق الحسرة والخذلان
وَاذْكُرْ
يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ
اى القرآن المنزل إليك سيدة النساء مَرْيَمَ
عليها السّلام اى قصتها العجيبة الشان التي هي اعجب واغرب من قصة ولد زكريا عليه السّلام اذكر وقت إِذِ انْتَبَذَتْ
اى اعتزلت وتباعدت مِنْ أَهْلِها
حين حاضت وطهرت وأرادت الاغتسال حسب طهارتها الفطرية ونجابتها الجبلية فاختارت للخلوة والستر مَكاناً شَرْقِيًّا
اى مشرق بيت المقدس ومع كونه مكانا بعيدا خاليا عن الناس
فَاتَّخَذَتْ
وأسدلت لغاية الاحتياط في التحفظ والتستر مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
يسترها ويحفظها عن أعين الناس ان وصلوا بغتة ثم لما تجردت عن لباسها واشتغلت لان تغتسل فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
وحامل وحينا وهو جبريل عليه السّلام إظهارا لكمال قدرتنا وحكمتنا وانفاذا لحكمنا الذي قد حكمنا به في سابق علمنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
شابا صبيحا امرد قططا مجعد الشعر لئلا تستوحش ومع ذلك قد استوحشت وارتهبت رهبة شديدة ومن شدة خوفها منه واضطرابها
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ
والوذ بِالرَّحْمنِ
الذي كفى لحفظ عباده من مطلق الشرور سيما مِنْكَ
اى من شرك ومن شر امثالك فادفع أنت بنفسك عنى إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
خائفا من الله حذرا عن بطشه وانتقامه ثم لما رأى جبرائيل عليه السّلام من كمال عفتها وعصمتها ما رأى
قالَ
مستحييا معتذرا من جنس الملك إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
قد أرسلني إليك يا سيدة النساء(1/496)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
لِأَهَبَ لَكِ
انا باذن الله إياي غُلاماً زَكِيًّا
طاهرا من عموم الرذائل والآثام مرتقيا في فنون الفضائل والكمالات الى أقصى الغايات مظهرا لانواع المعجزات والكرامات واصناف الارهاصات الخارقة للعادات
ثم لما سمعت عليها السّلام مقالته وتفطنت بنور الولاية انه امر الهى نازل من قبل الله قالَتْ متعجبة مشتكية أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ومن اين يحصل لي ولد وَلم يجر على أسبابه إذ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قط بالنكاح مساس مواقعة موجبة للحمل والحبل وَلَمْ أَكُ انا في مدة حياتي عاصية لله فاسقة خارجة عن مقتضى حدوده لأكون بَغِيًّا فاحشة زانية يولد منى ولد الزنا
قالَ جبرائيل عليه السّلام كَذلِكِ قد جرى حكم ربك وقد امضى عليه في سابق قضائه لا تستبعدى ولا تستعسرى إذ قد قالَ رَبُّكِ الذي رباك على العصمة والعفاف هُوَ اى إيجاد الولد لك بلا مساس البشر وسبق الأسباب العادية عَلَيَّ هَيِّنٌ سهل يسير إذ لا يعسر علينا شيء ولا يعجز قدرتنا عن مقدور بل إذا أردنا شيأ نقول له كن فيكون بلا سبق سبب وعلة وَانما نظهره ونوجده لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ دالة على كمال قدرتنا وبدائع صنعتنا وحكمتنا وَرَحْمَةً نازلة مِنَّا على كافة عبادنا سيما عليك يا مريم وَبالجملة قد كانَ خلق عيسى وظهوره بلا أب في العالم وعروجه الى السماء أَمْراً مَقْضِيًّا محكوما به كائنا مثبتا في لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي ثم لما سمعت مريم ما سمعت قد نفخ جبرائيل عليه السّلام نفخة في درعها فوصلت أثرها الى جوفها فحبلت
فَحَمَلَتْهُ وصارت حاملة بعيسى فجاءة وكبر الولد في بطنها في تلك الساعة وبعد ما ظهر عليها من امارات الطلق ما ظهر فَانْتَبَذَتْ بِهِ اعتزلت لسبب حدوث هذا الأمر وتباعدت منفردة واختارت مَكاناً قَصِيًّا بعيدا عن العمران استحياء من أهلها ومن لوم الناس إياها وتعييرهم عليها بولادتها بلا زوج
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ وظهر امارات الولادة فالجأتها لان تشبث إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ اليابسة لتعتمد عليها عند الولادة وتستتر بها عن الناس قالَتْ حينئذ من شدة حزنها وكأبتها ووفور ضجرتها من ألم الملامة والفضاحة متمنية موتها يا لَيْتَنِي مِتُّ وعدمت قَبْلَ هذا اللوم والفضيحة وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا متروكا معدوما بحيث لا التفات لاحد الى أصلا
ثم لما وضعت حملها واشتدت الآلام عليها فَناداها اى نادى الوليد امه مِنْ تَحْتِها بالهام الله إياه تسلية لامه وتنشيطا لها عليك أَلَّا تَحْزَنِي يا أمي ولا يشتد عليك الأمر بسبب ولادتي وظهوري بلا أب واعلمي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ ولدا سَرِيًّا سيدا مطيعا لله تقيا سجيا سخيا ذا إرهاصات كثيرة وكرامات كبيرة ومعجزات باهرة ظاهرة من جملتها انه قد ظهر لك من تحت رجلك نهر جار لدفع عطشك ولتطهير الفضلات عن بدنك وثيابك
وَلدفع جوعتك هُزِّي إِلَيْكِ حركي على نفسك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ التي أخذت أنت بيدك تُساقِطْ اى تتساقط منها ثمارها عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا بالغا في النضج والصلاح غايته وحان وقت اجتنائه قيل قد كانت تلك النخلة يابسة لا رأس لها والوقت وقت الشتاء فتغصنت في تلك الحالة واثمرت ونضجت ثمارها كرامة لعيسى وإرهاصا لامه صلوات الرّحمن عليهما
فَكُلِي يا أمي من النخلة وَاشْرَبِي من النهر وَقَرِّي عَيْناً اى نوري عينيك بولدك وطيبي نفسك به فَإِمَّا تَرَيِنَّ وان رأيت مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً يسألك عن حالك وولدك فَقُولِي في جوابه يعنى اشيرى اليه وافهميه إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً سكوتا وصمتا عن التكلم مدة فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا اى إنسانا والحكمة في الهام الله إياها بالصمت والسكوت(1/497)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
حتى لا تجادل مع سفهاء الأنام ولان ولدها يكفى مؤنة جوابها ثم لما ظهر امر ولادتها وشاع بين الأنام قصتها فمكثت مدة نفاسها في غار كان هناك وبعد ما انقضت وطهرت
فَأَتَتْ بِهِ اى بولدها قَوْمَها تَحْمِلُهُ اى ولدها على صدرها فلما رأوها معها أخذوا في لومها وتقريعها حيث قالُوا معيرين عليها منادين لها على سبيل التوبيخ والتلويم يا مَرْيَمُ الصالحة العفيفة المشهورة بالعصمة في بيت المقدس لَقَدْ جِئْتِ بالآخرة شَيْئاً فَرِيًّا منكرا بديعا شنيعا من غاية الشناعة والفضاحة
يا أُخْتَ هارُونَ هو رجل صالح او طالح نسبوها اليه تهكما وقيل هي من أولاد هارون أخ موسى نسبوها اليه وان تطاولت المدة بينهما ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ منسوب الى الفواحش والزنا والخروج عن الحدود وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا زانية فاجرة بل كلاهما من أصلح القوم وأزكاهم عن الفواحش والفسوق فكيف أنت ومن اين اكتسبت هذا وبعد ما تمادى تعييرهم وتشنيعهم
فَأَشارَتْ مريم إِلَيْهِ اى الى ولدها بان قل لهم في جوابهم ما يفحمون به ويسكنون بل يتحيرون ويبهتون ولما رأوا اشارتها اليه وتفويضها الجواب نحوه قالُوا على سبيل الاستهزاء كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا رضيعا لم يعهد من مثله التكلم قد خجلت أنت واستحييت أنت تدفعيننا بهذا الرضيع مع انه معصوم لا ذنب له
ثم لما رأى عيسى اشتداد اللائمين على امه بالتقريع والتشنيع واضطرار أمه واضطرابها من لومهم أخذ في الجواب بالهام الله إياه حيث قالَ مفصحا معربا على وجه الفصاحة والبلاغة الكاملة قولا مشتملا على الحكمة البالغة لا تعيروا ايها الجاهلون عن امرى وعلو شأني أمي العفيفة الكاملة المتناهية في العصمة والعفة ولا ترموها بما لا يليق بشأنها وبجلالة قدرها ومكانها عند الله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ الحكيم المتقن في أفعاله المستقل في حكمه وآثاره قد خصنى بفضله بالنبوة والرسالة وأيدني بأنواع الكرامات والمعجزات الخارقة للعادات وابدعنى من محض جوده من روحه وأرسلني نحو عباده بالهداية والإرشاد الى توحيده لذلك آتانِيَ الْكِتابَ اى الإنجيل النازل من عنده على لترويج رسالتي وإرشادي وتتميم تكميلى وهدايتي وَبالجملة قد جَعَلَنِي نَبِيًّا مثل سائر الأنبياء
وَايضا جَعَلَنِي مُبارَكاً نفاعا كثير الخير والبركة لأهل الصلاح من البرية أَيْنَ ما كُنْتُ وحيثما توطنت وجلست معهم يصل خيرى ونفعي إليهم وَمن كمال تربية الله وتزكيته إياي قد أَوْصانِي وأمرني بِالصَّلاةِ والميل التام والتوجه الكامل نحوه بعموم الجوارح والأركان وَالزَّكاةِ اى التخلية والتطهير عن جميع الرذائل والخبائث المتعلقة للنفوس البشرية المنغمسة بالعلائق الدنيوية المبعدة عن صفاء الوحدة الذاتية ما دُمْتُ حَيًّا بروح الله الذي قد ابدعنى منه خالصا صافيا عن جميع الكدورات وأوصاني بما أوصاني عناية منه لأكون باقيا على صفائى وطهارة لاهوتي بلا كدر من خبائث الناسوت
وَقد جعلني ايضا بَرًّا بارا محسنا بِوالِدَتِي ممتثلا بأمرها قائما بخدمتها خافضا جناح الذل من الرحمة إياها والحمد لوليه الذي رباني سعيدا على الطهارة الكاملة والصلاح التام وانواع الكرامة والفلاح والتذلل والتواضع مع عموم عباده وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً متكبرا متجبرا على الناس شَقِيًّا بعيدا عن روح الله مستجلبا لعذابه
وَمتى سلمني الله وطهرني عن جميع ما يعوقنى عن مقتضى صرافة الوحدة الذاتية الإلهية المعبرة عنها بروح الله قد عاد ورجع السَّلامُ عَلَيَّ اى سلام الله وحفظه دائما على من لدنه يَوْمَ وُلِدْتُ عن أمي بان حفظت عن مس الشيطان بي وَيَوْمَ أَمُوتُ سيحفظنى من شره ووسته ايضا وَيَوْمَ أُبْعَثُ للحشر(1/498)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
أكون حَيًّا بحياة الله وروحه كما كنت قبل هذا ثم لما سمعوا من عيسى عليه السّلام ما سمعوا تاهوا وتحيروا في امره وصاروا حيارى متعجبين من علو شأنه وشأن والدته وجلالة قدرهما فاختلفوا حينئذ وتفرقوا فرقا وأحزابا فرقة منهم قالت بألوهيته وفرقة قالت بابنيته لله وفرقة قالت بالأقانيم ومنهم من رماه وامه بما لا يليق بشأنهما
لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما هو الواقع في الواقع والحق الصريح فقال ذلِكَ اى القائل بهذه الكلمات والموصوف بهذه الصفات المذكورة هو عبدنا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لا ما قالته غلاة النصارى ولا ما قالته طغاة اليهود بل قَوْلَ الْحَقِّ هذا الَّذِي ذكرنا لك يا أكمل الرسل وهم فِيهِ يَمْتَرُونَ ويترددون مع انه لا ريب فيه لا ما قالته النصارى بانه ابن الله
إذ ما كانَ اى ما صح وما جاز لِلَّهِ ولا يليق بعلو شأنه سبحانه أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ وهو منزه في ذاته عن الأهل والولد إذ لا تليق بذاته المعاونة والاستظهار بهما تعالى عن ذلك بل من حكمه وشأنه انه سبحانه إِذا قَضى وأراد أَمْراً من الأمور الكائنة في عالم الأمر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ حين تعلقت ارادته بتكوينه كُنْ بلا ترتب في السمع بتقديم الكاف على النون إذ كلامه القائم بنفسه سبحانه نفسي ذاتى لا يتوهم فيه الحروف والأصوات ومقاطعها ليتصور الترتيب بالتقدم والتأخر كما يتوهم في الألفاظ الصادرة عنا بل يخلق سبحانه بقدرته الكاملة في لساننا لفظا معجزا لا من جنس الفاظنا ليسع لنا التعبير حكاية عن كلامه النفسي وقت ارادة نفوذ قضائه وهو لفظة كن وعن حصول المقضى بلفظ فَيَكُونُ ايضا بلا تراخ وتعقيب يفهم من الفاء ومن كان شأنه هكذا من اين يكون له حاجة الى الأهل والولد واحبال المرأة ووقاعها تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا بل هو سبحانه واحد احد فرد وتر صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا هذا اى من قوله ذلك عيسى ابن مريم الى هنا كلام قد وقع في البين.
ثم قال سبحانه حكاية عن عيسى من جملة ما اوصى اليه وَبعد ما بالغ عيسى في بيان طهارته وعصمة امه وتكلمه في غير أوان التكلم بكلام عجيب غريب قد علم بنور النبوة ونجابة الفطرة والفطنة ان بعضهم قد يغلون في شأنه وشأن امه ويتخذونهما الهين أورد كلاما نافيا لظنونهم وجهالاتهم دافعا لها رادعا إياها فقال إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر الذي قد أوجدني وابدعنى بلا أب هو رَبِّي الذي رباني وأمي بأنواع الكرامة وأظهرني من كتم العدم بمقتضى قدرته وَهو سبحانه رَبُّكُمْ ايضا قد أوجدكم وأظهركم مثلي إيجادا إبداعيا فَاعْبُدُوهُ ووحدوه ولا تشركوا معه شيأ من مخلوقاته وتوجهوا نحوه بالتذلل التام والانكسار المفرط إذ هو المستحق للعبادة لا معبود سواه ولا اله الا هو هذا الذي قد بينت لكم صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وطريق واضح سوى موصل الى معرفة الحق وتوحيده فاتبعوه ان كنتم مؤمنين موقنين بتوحيده وبعد ما نبههم صلوات الرّحمن عليه بالطريق الأبين الأوضح
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ اى فرق النصارى واليهود في شأنه وشأن امه اختلافا ناشئا مِنْ بَيْنِهِمْ بلا سند شرعي او عقلي فأفرطت النصارى باتخاذه الها او ابن اله وأفرطت اليهود بنسبته وامه الى ما لا يليق بشأنهما وبالجملة فاستحق كلا الفريقين باشد العذاب وأسوء العقاب فَوَيْلٌ عظيم وعذاب شديد اليم لِلَّذِينَ كَفَرُوا ستروا ما هو الحق في شأنه وعدلوا عنه الى الباطل بلا حجة وبرهان مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ اى من شهود يوم القيمة وظهوره وحضوره وهم يسحبون فيه على وجوههم نحو النار ويكبون عليها صاغرين مضطرين
أَسْمِعْ ايها المسمع بِهِمْ اى بأنينهم وحنينهم في النار(1/499)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
وَأَبْصِرْ ايها المبصر باغلالهم وسلاسلهم يَوْمَ يَأْتُونَنا للعرض والحساب مضطرين مسحوبين لكِنِ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى أوامرنا ونواهينا الْيَوْمَ اى في النشأة الاولى فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وجهل عظيم من اهوال يوم القيمة وافزاعه
وَأَنْذِرْهُمْ يا أكمل الرسل من عندك يَوْمَ الْحَسْرَةِ المعدة للجزاء بحيث لا يمكن فيها التلافي والتدارك على ما فات سوى الحسرة والندامة الغير المفيدة إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ونزل العذاب وقد مضى زمان امتثال المأمور به وَالحال انه هُمْ فِي غَفْلَةٍ وغرور عن مضيه وَبالجملة هُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بإتيان هذا اليوم الموعود على ألسنة الرسل والكتب كيف لا يصدقون هذا اليوم أولئك الكاذبون المكذبون المستغرقون في بحر الغفلة والضلال التائهون في تيه الغرور
إِنَّا من مقام قهرنا وجلالنا نَحْنُ بانفرادنا ووحدتنا نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها بعد انقهارها واضمحلال اجزائها وتشتت أركانها بمقتضى القدرة الغالبة بحيث قد صار كل من عليها فانيا ولم يبق سوى وجهنا الكريم وصفاتنا القديمة فانقلبت تجلياتنا المتشعشعة المتجددة عن هذا النمط البديع الى نمط أبدع منه وأكمل إذ نحن في كل يوم وآن في شأن ولا يشغلنا شأن عن شأن وَكيف لا نرث من على ارض الوجود وفضاء الشهود إذ الكل إِلَيْنا يُرْجَعُونَ رجوع الظل الى ذي الظل والأمواج الى البحر والأضواء والاظلال الى الشمس وبعد رجوع الكل إلينا أنادي من وراء سرادقات عزنا وجلالنا لمن الملك اليوم وأجيب ايضا من ورائها إذ لا مجيب في الوجود سوانا لله الواحد القهار للاظلال والأغيار
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ المتلو عليك المنزل إليك جدك إِبْراهِيمَ ومحامد أخلاقه ومحاسن شيمه وأطواره لتنتفع بها أنت ومن تبعك من المؤمنين وتمتثل بأخلاقه أنت وهم إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً صدوقا مبالغا في الصدق والصداقة وتصديق الحق وتوحيده نَبِيًّا من خلص الأنبياء اذكر أوان انكشافه وايقاظه من منام الغفلة التي هي عبادة الأوثان والأصنام
وقت إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
مستنكرا عليه متعجبا من امره مناديا له رجاء ان يتفطن ويتنبه بما تنبه به هو يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ
وتطيع ما لا يَسْمَعُ
اى شيأ لا يقدر على السمع وَلا يُبْصِرُ
وايضا لا يقدر على الأبصار والمعبود لا بد من ان يرى ويسمع احوال عباده ويعلم حاجاتهم ومناجاتهم
وَإذا لم يسمع ولم يبصر لا يُغْنِي
ولا يدفع عَنْكَ شَيْئاً
من مكروهاتك ولا يعينك فلا يصلح إذ للالوهية والربوبية فلم عبدت وأطعت له مع انك قد نحته بيدك وأظهرت أنت هيكله وشكله والعجب منك كل العجب انه مصنوعك وقد أخذته الها صانعا لك معبودا مستحقا للعبادة مع انك قد كنت من ذوى الرشد والعلم وهو جماد فلا شعور له أصلا
يا أَبَتِ إِنِّي وان كنت ابنك أصغر منك لكن قَدْ جاءَنِي ونزل على مِنَ الْعِلْمِ من قبل الحق مع صغر سنى ما لَمْ يَأْتِكَ مع كبرك إذ الفضل بيد الله وبمقتضى ارادته يؤتيه من يشاء فَاتَّبِعْنِي اى اتبع أنت بما نزل على من قبل ربي من خلوص الاعتقاد أَهْدِكَ انا بتوفيق الله وإرشاده صِراطاً سَوِيًّا موصلا الى المعبود بالحق وتوحيده
يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ بعبادة هذه التماثيل الباطلة والهياكل العاطلة إذ ما هي الا باغوائه وتضليله إذ هو عدو لك ولأبينا من قبلك عداوة مستمرة إِنَّ الشَّيْطانَ المغوى المضل عن طريق الحق قد كانَ من الأزل الى الأبد لِلرَّحْمنِ المفيض لأصناف الخيرات وانواع السعادات سيما الايمان والعرفان المنجى من انواع الحرمان والخذلان عند لقاء الحنان المنان عَصِيًّا قد عصى هو بنفسه وانتظر لعصيان غيره وسعى بإضلاله وتسويلاته(1/500)
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
ليضل به عموم اهل الحق عن طريقه
يا أَبَتِ إِنِّي من كمال اشفاقى وعطفي أَخافُ عليك أَنْ يَمَسَّكَ وينزل عليك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ المنتقم لأصحاب الضلال والطغيان بدل الثواب والغفران فَتَكُونَ حينئذ بشقاوتك وطغيانك لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا صديقا وللرحمن عدوا ببغيك وعصيانك له سبحانه ومتابعتك لعدوه
ثم لما تمادى مكالمة ابراهيم مع أبيه ومحاورته على سبيل النصح والتذكير قالَ له أبوه مقرعا عليه مهددا له مضللا إياه أَراغِبٌ معرض برئ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي ومعبوداتى مع ان عبادتهم اولى وأليق بحالك يا إِبْراهِيمُ ان خير الأولادان يتسع إياه في الدين سيما قد سلف أجدادك على هذا وأنت قد استنكفت عن عبادة آلهتنا انته عن اعتقادك هذا والله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ولم تمتنع عن اعتقادك لَأَرْجُمَنَّكَ واقتلنك بالأحجار على رءوس الاشهاد فمع من عندي وَاهْجُرْنِي واتركني مَلِيًّا زمانا طويلا بلا ابن وولد فان عدمك خير من وجودك بهذا الاعتقاد فان ندمت عن اعتقادك هذا ورجعت الى ما كنا عليه من قبل يعنى عبادة الأصنام فارجع إلي تائبا من هذياناتك والا فاذهب لا علاقة بيني وبينك فانا برئ منك ثم لما رأى ابراهيم عليه السّلام شدة عبه وضلاله ورسوخ جهله وطغيانه
قالَ مسترجعا الى الله مودعا عليه مسلما سَلامٌ عَلَيْكَ اى سلامى عليك يا ابى اهجرك باجازتك بي الا انى سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ينقدك من أوزار الشرك ويوصلك الى مرتبة توحيده شكرا لابوتك لي ورعاية لحضانتك على والتجئ نحو الحق والود به من الشرك الذي قد هددتنى به إِنَّهُ سبحانه قد كانَ بِي حَفِيًّا مشفقا رحيما يحفظني من شرّك ومن شر عموم من عاداني
وَمتى لم يفد لك نصحى ولم ينفع لك تذكيري ووعظي أَعْتَزِلُكُمْ اترككم على ما أنتم عليه وَايضا اترك ما تَدْعُونَ وتعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ اتبرأ منهم وَأَدْعُوا رَبِّي الذي رباني بفضله بالإيمان وأوصلني بلطفه الى فضاء التوحيد والعرفان واعبد إياه وأطيعه في عموم الأوقات والأحيان عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي والتوجه نحوه والتحنن اليه شَقِيًّا خائبا خاسرا عن رحمته ذا شقاوة جالبة لسخط الله وغضبه
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وبعد عنهم واختار الغربة والفرار من بينهم وَترك عبادة ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان والأصنام وَهَبْنا لَهُ من مقام جودنا وفضلنا إياه إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ليؤانس بهما ويدفع كربة الغربة بصحبتهما وَلنجابة طينتهما وكرامة فطرتهما كُلًّا منهما قد جَعَلْنا نَبِيًّا مهبطا للوحى والإلهام من لدنا مثل أبيهما وسائر الأنبياء
وَبالجملة قد وَهَبْنا لَهُمْ اى لإبراهيم وولديه مِنْ سعة رَحْمَتِنا ووفور جودنا للأموال والأولاد والجاه والثروة الى ان صاروا مرجع الأنام وحاكميهم في عموم الاحكام الى يوم القيمة وَايضا قد جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ اى جعلنا ثناءهم ومدحهم العائد إليهم عن ألسنة عموم البرايا ثناء صدق وتحقيق لا مجرد خطابة وتحنن كثناء سائر الملوك والجبابرة لذلك قد صار ثناؤهم عَلِيًّا مظهرا لعلو مرتبتهم وشأنهم الى انقراض النشأة الاولى كل ذلك ببركة دعاء أبيهم ابراهيم عليه السّلام وباجابة الحق له حيث قال في مناجاته مع ربه واجعل لي لسان صدق في الآخرين
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ المنزل عليك مُوسى الكليم وقصة انكشافه من الشجرة المباركة إِنَّهُ من كمال انكشافه وشهوده بوحدة الحق إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قد خلص حسب لاهوته للتوحيد وصفا عن إكدار ناسوته مطلقا وَبالجملة قد كانَ رَسُولًا مرسلا الى بنى إسرائيل للإرشاد والتكميل مؤيدا بالكتاب وانواع المعجزات نَبِيًّا ايضا(1/501)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
بالوحي والإلهام والرؤيا
وَلكمال إخلاصه ومزيد اختصاصه بنا نادَيْناهُ بعد المجاهدة الكثيرة والرياضات البليغة مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ذي اليمن والبركة وانواع السعادة والكرامة وَبعد ما انكشف بالنداء بما انكشف وشهد ما شهد قد قَرَّبْناهُ بنا الى ان صار نَجِيًّا مناجيا إلينا متكلما معنا إذ قد كنا حينئذ سمعه وبصره وجميع قواه فبنا يسمع وبنا يبصر وبنا يبطش وبنا يتكلم
وَمع ذلك قد وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا وفضلنا إياه تأييدا له وتعضيدا أَخاهُ هارُونَ ليؤيده ويقويه في تنفيذ احكام النبوة والرسالة وجعلناه نَبِيًّا ايضا ليكون على عزيمة صادقة وقصد خالص في اجراء الاحكام الإلهية
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ ايضا جدك إِسْماعِيلَ ذبيح الله الراضي من الله بجميع القضاء المرضى عنده إِنَّهُ من كمال وثوقه واعتماده على الله وتفويضه الأمور كلها اليه سبحانه قد كانَ صادِقَ الْوَعْدِ والعهد عند الله وافيا لميثاقه صابرا على مصائبه وبلائه شاكرا لآلائه ونعمائه وَقد كانَ ايضا كابيه واخوته رَسُولًا نَبِيًّا وان لم ينزل عليه الشرع المخصوص إذ بعض أولاد ابراهيم صلوات الرّحمن على نبينا وعليه وعليهم قد كانوا أنبياء مرسلين مع انهم كانوا جارين على ملة أبيه وشرعه
وَمن خصائله الجميلة انه قد كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ أولا لأنهم اولى بالإرشاد والتكميل وأحق من غيرهم بِالصَّلاةِ التي هي عبارة عن التوجه نحو الحق بعموم الجوارح والأركان والتقرب اليه عن ظهر القلب ومحض الجنان وَالزَّكاةِ التي هي عبارة عن تصفية النية وتخلية الطوية عن الميل الى مزخرفات الدنيا الدنية وحطامها الزائلة الذاهبة وَقد كانَ من كمال تنزهه عن العلائق والعوائق العائقة عن التوجه الخالص نحو الحق عِنْدَ رَبِّهِ الذي رباه على كمال الرضاء والتسليم مَرْضِيًّا لوفائه الوعد واستقامته، فيه وصبره على عموم ما جرى عليه من البلوى
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ ايضا إِدْرِيسَ صاحب دراسة التوحيد والعرفان وقالع اهوية النفس وأمانيها بارتكاب شدائد الرياضات والمجاهدات في مسالك التصديق والإيقان من كمال رشده وحكمته إِنَّهُ قد كانَ صِدِّيقاً مبالغا في الصدق والتصديق والتحقيق نَبِيًّا مبعوثا الى الناس كسائر الأنبياء للهداية والتكميل
وَلعلو شأنه وسمو برهانه وكمال تصفيته وتزكيته عن لوازم البشرية قد رَفَعْناهُ تلطفا معه وتفضلا عليه مَكاناً عَلِيًّا وهو أعلى درجات المعارف واليقين وقيل الى السماء الرابعة او السادسة
وبالجملة أُولئِكَ المذكورون من زكريا الى إدريس كلهم أنبياء الله وامناؤه في ارضه إذ هم بأجمعهم هم الَّذِينَ قد أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأنواع النعم الظاهرة والباطنة واصطفاهم من بينهم للهداية والتكميل وهم مِنَ النَّبِيِّينَ المنتشئين مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة حين ظهر الطوفان على وجه الأرض وَبعضهم مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَابنه يعقوب الملقب من عند الله إِسْرائِيلَ وَقد كان كل منهم مِمَّنْ هَدَيْنا الى توحيدنا وَاجْتَبَيْنا من بين البرايا للتكميل والتشريع ووضع الاحكام بين الأنام وكلهم من كمال يقينهم وعرفانهم وتمكنهم في مقر التوحيد قد صاروا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ ودلائل توحيده وتجريده قد خَرُّوا خرور تواضع ورهبة سُجَّداً متذللين واضعين جباهم على تراب المذلة والهوان وراجين من سعة رحمته بمقتضى لطفه وجماله وَبُكِيًّا باكين خائفين من خشيته وجلاله فان المؤمن لا بد ان يكون في عموم أحواله بين الخوف والرجاء ثم لما ظهر على الأرض التي هي محل الشرور والفتن وانواع الفسادات ما ظهر من انواع المكروهات والمنكرات وهم قد كانوا عند ظهورها واشتهارها(1/502)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
قد بذلوا غاية جهدهم في تنفيذ الاحكام الشرعية المنزلة على مقتضى زمان كل منهم فكملوا وارشدوا مقدار جهدهم وطاقتهم
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ واستعقبهم خَلْفٌ مخالف سوء بالسكون لا خلف جيد صدق بالحركة كلهم قد أَضاعُوا وأبطلوا الصَّلاةَ المقربة نحو الحق مع انها من أقوى اسباب الايمان وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ النفسانية المبعدة عنه سبحانه الجالبة لانواع العذاب والنكال وقد اباحوها لنفوسهم وأصروا على اباحتها فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ في النشأة الاخرى غَيًّا شرا وخسرانا عذابا ونيرانا يترتب على شهواتهم ولذاتهم الفانية
إِلَّا مَنْ تابَ ورجع عنها نادما ولم يرجع إليها أصلا وَآمَنَ وصدق حرمتها وَبعد التوبة والرجوع قد عَمِلَ عملا صالِحاً ليصلح ما أفسده بمتابعة الهوى فَأُولئِكَ التائبون الآئبون النادمون عن عموم ما صدر عنهم من متابعة الهوى باغواء الشيطان واغرائه يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مثل سائر المؤمنين المطيعين وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً اى لا ينقصون شيأ من درجات المؤمنين الغير العاصين ومثوباتهم، ان كانت توبتهم على وجه الإخلاص والندامة الكاملة بل لهم كسائر عباد الله
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي قد وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ تفضلا عليهم وجزاء لاعمالهم وايمانهم بِالْغَيْبِ وبلوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي يصلون إليها ويتمكنون فيها إِنَّهُ سبحانه من كمال عطفه ورحمته لعباده قد كانَ وَعْدُهُ إياهم مَأْتِيًّا حاصلا بلا ريب وتردد ومتى دخلوا في دار السلامة والسّلام
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وفضولا من الكلام إِلَّا قولا سَلاماً سلاما من كل جانب تحية وتكريما وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ الصوري والمعنوي معدا مهيئا فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا مستوعبا لجميع الأوقات إذ أكلها دائم
وبالجملة تِلْكَ الْجَنَّةُ الموصوفة الموعودة الَّتِي نُورِثُ نوطن ونمكن مِنْ عِبادِنا فيها مِنْ منهم كانَ تَقِيًّا متصفا بالتقوى محترزا عن الهوى مائلا نحو المولى
وَبعد ما قد ابطأ الوحى على رسول الله حين سئله المشركون عن قصة اصحاب الكهف وعن الروح وقصة ذي القرنين وقد وعد لهم الجواب صلّى الله عليه وسلّم ولم يستثن وانقطع الوحى خمسة عشر يوما وقيل أربعين عيروه واستهزؤا به حيث قالوا قد ودعه ربه وقلاه ثم لما نزل جبريل عليه السّلام واستبطأ صلّى الله عليه وسلّم نزوله قال جبريل عليه السّلام في جوابه نحن معاشر الملائكة وسدنة حضرة اللاهوت ما نَتَنَزَّلُ ونوحي الى احد إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وبانزاله وإرساله إذ لَهُ الحكم والتصرف في ما بَيْنَ أَيْدِينا اى عندنا وفي علتنا وَما خَلْفَنا وفي سرائرنا واستعداداتنا وعموم ما غاب عنا وخفى علينا وَكذا ما بَيْنَ ذلِكَ الطرفين المذكورين وبالجملة هو سبحانه مستوعب بنا محيط بعموم أحوالنا بلا فوت شيء وغيبته عنه بل الكل حاضر عنده غير غائب عنه مطلقا وَبالجملة ما كانَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل نَسِيًّا تعالى شأنه عن ذلك حتى ينسب إبطاء الوحى الى نسيانه
وكيف يتصور منه سبحانه هذا إذ هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما محيط بالكل شهيد عليه حاضر عنده بحيث لا يعزب عن حضرة علمه الحضوري شيء منها لمحة وإذا تحققت ما تلونا عليك يا أكمل الرسل وتأملت في معناه حق التأمل والتدبر فَاعْبُدْهُ راجيا منه العناية والتوفيق على العبادة وجزاء الخير وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ وتحمل متاعبها واثبت عليها ولا تعجل بوحي ما قصدت وأحببت نزوله ولا تقنط ايضا إذ الكل موكول اليه سبحانه مرهون بوقته موقوف على تعلق مشيئته سبحانه وبالجملة لا تعجل بالوحي(1/503)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
ولا تضطرب من استهزاء الكفرة وسخريتهم وكيف لا تصطبر ولا تصبر هَلْ تَعْلَمُ وتسمع لَهُ سَمِيًّا باسم الإله مسمى به مثلا له مستحقا للعبودية والتوجه لإنجاح المطلوب سواه سبحانه حتى ترجع أنت نحوه عند توجه الخطوب وإلمام الملمات عليك وبالجملة ما عليك الا العبادة والاصطبار وترك الاضطراب والاستعجال وتفويض عموم الأمور الى الكبير المتعال
وَمن غاية الجهل ونهاية الغفلة عن ربوبيته سبحانه يَقُولُ الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان بنعم الله وبإنكار قدرته على اعادة المعدوم وحشر الأموات أَإِذا ما مِتُّ وقد صرت عظاما ورفاتا لَسَوْفَ أُخْرَجُ من الأرض حَيًّا سويا معادا كلا وحاشا ما هذا الا محال باطل وضلال ظاهر
أَينكر المنكر على قدرتنا ويصر على الإنكار وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ المكابر المعاند أَنَّا قد خَلَقْناهُ واوجدناه إيجادا إبداعيا مِنْ قَبْلُ وَالحال انه لَمْ يَكُ شَيْئاً مما يطلق عليه اسم الشيء إذ هو معدوم صرف وعدم محض والمعدوم ليس بشيء ولا مسبوق بشيء فقدرنا على إيجاده وإظهاره من العدم الصرف ولم لم نقدر على إعادته سيما بعد سبق اجزائه وان كان الإعادة والإبداء عندنا وفي جنب قدرتنا على السواء الا ان الإعادة بالنسبة الى فهمهم أسهل وأيسر من الإبداء والإبداع عن لا شيء
فَوَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل الذي هو أعظم أسمائه وأشملها وبعزته وجلاله لَنَحْشُرَنَّهُمْ أولئك الضالين وَالشَّياطِينَ المضلين لهم معهم منخرطين في سلسلتهم ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ مقيدين مغلولين حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا باركين على الركب قائمين على أطراف الأصابع بلا تمكن لهم واطمئنان مثل الجاني الخائف عند الحاكم القاهر القادر على انواع الانتقام
ثُمَّ بعد حشرهم وإحضارهم حول النار كذلك لَنَنْزِعَنَّ ننتخبن ونخرجن مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فئة وفرقة قد شاعت منهم موجبات العذاب والنكال ونميزن منهم ايضا أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ المفيض لهم انواع الخيرات والبركات عِتِيًّا جرأة على العصيان له وعلى ترك أوامره وارتكاب نواهيه حتى يطرح أولا على قعر النار ثم الا مثل فالأمثل الى ان يطرح الكل فيها على تفاوت طبقاتهم ودرجاتهم في افتراق موجباتها قوة وضعفا
ثُمَّ بعد ما انتزعنا وانتخبنا لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى وأحق بِها اى بدخول النار صِلِيًّا اى دخولا وطرحا أوليا سابقا على الكل ألا وهم الرؤساء الضالون المضلون إذ يضاعف عذابهم بضلالهم واضلالهم. ثم قال سبحانه مخاطبا لبنى آدم بأجمعهم لا تغتروا بدنياكم وبلذاتها وشهواتها فإنها توقعكم في النار
وَإِنْ مِنْكُمْ ايها المتلذذون بزخرفة الدنيا المائلون الى أمتعتها وما احد من المتمتعين بها إِلَّا وارِدُها اى وارد النار وواقعها قد ذاق كل منكم مقدار ما تلذذ بحطام الدنيا اما المؤمنون المطيعون المتقون الذين يقنعون من الدنيا ومن أمتعتها بسد جوعة ولبس خرقة وكن ضرورة فيمرون عنها ويردون عليها وهي حينئذ خامدة منطفية وانما يردون ويوردون عليها عبرة لهم منها واعتبارا وشكرا لنعمة النجاة عنها واما المؤمنون العاصون التائبون فيذوقون من عذابها مقدار تلذذهم بالمعاصي ثم يخرجون بمقتضى عدله سبحانه واما اصحاب الكبائر من المؤمنين المصرين عليها الخارجين من الدنيا وهم عليها بلا توبة وكذا. عموم الكفرة والمشركين فهم هم الواردون المقصورون على الورود فيها الا ان المؤمنين تلحقهم الشفاعة واما الكفرة فهم الخالدون المخلدون لا نجاة لهم منها أصلا وبالجملة لا تترددوا ايها السامعون ولا تشكوا فيما ذكر من الورود المذكور إذ قد كانَ هذا من جملة الاحكام المحكمة المبرمة الإلهية التي قد وجبت عَلى رَبِّكَ يا أكمل الرسل بإيجابه على نفسه وجوبا حَتْماً مَقْضِيًّا محققا بلا(1/504)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
شبهة وتخلف إذ قد أوجبها سبحانه على نفسه لحكمة ومصالح خص بها سبحانه ولم يفش سرها على احد
ثُمَّ بعد الورود والوصول نُنَجِّي ونخلص الَّذِينَ اتَّقَوْا عن محارمنا في النشأة الاولى اتقاء من سخطنا وطلبا لمرضاتنا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات أوامرنا ونواهينا خالدين فِيها جِثِيًّا لا يمكنهم الخروج والتجاوز عنها أصلا بل صاروا مزدحمين فيها مضيقين معذبين بأنواع العذاب ابد الآباد
وَكيف لا يخلدون في النار أولئك الهالكون وهم قد كانوا من غاية غيهم وضلالهم ونهاية غفلتهم وقسوتهم إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ في نشأة الاختبار آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمال قدرتنا على الانعام والانتقام مع كونها بَيِّناتٍ واضحات في الاعجاز بلا ريب وتردد قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد ما عجزوا عن معارضتها وأفحموا عن المقابلة معها لِلَّذِينَ آمَنُوا متشبثين بما عندهم من المال والجاه والثروة والرياسة مفتخرين بها قائلين على سبيل التهكم أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أنحن الأغنياء المتلذذون بأنواع الذات المتمكنون بعموم الآمال والمرادات أم أنتم ايها الفقراء المحتاجون بما تقتاتون في يومكم هذا خَيْرٌ مَقاماً واشرف مرتبة وأعلى مكانا عند الله وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مجلسا ومنزلا عنده ولولا انا أفضل وأخير منكم عند الله لما أعطانا ولما منع عنكم ثم لما افتخروا وتفضلوا على المؤمنين بما عندهم من حطام الدنيا وزخرفتها رد عليهم سبحانه وهددهم على الوجه الأبلغ الأتم
فقال على سبيل العبرة وَكَمْ اى كثيرا أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ اهل قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ واكثر من هؤلاء المفتخرين المعاندين أَثاثاً امتعة دنياوية وما يترتب عليها من الجاه والثروة والكبر والخيلاء وَاحسن رِءْياً زينة وبهاء ثم لما لم يتذكروا بالآيات والنذر ولم يتفطنوا منها الى توحيد الحق وصفاته ولم يشكروا نعمه بل قد أصروا واستكبروا بما عندهم من المزخرفات الفانية فهلكوا واستؤصلوا
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا كلاما ناشئا عن محض الحكمة المتقنة مَنْ كانَ منكم منغمسا منهمكا فِي الضَّلالَةِ مجبولا عليها فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ وليمهله مَدًّا مهلا طويلا وليمتعهم تمتيعا كثيرا رغدا وسيما حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ على ألسنة الرسل والكتب إِمَّا الْعَذابَ العاجل لهم في النشأة الاولى بان قد غلب المسلمون عليهم فقتلوهم واسروهم وضربوا الجزية عليهم مهانين صاغرين وَإِمَّا السَّاعَةَ بان تأتيهم بغتة فَسَيَعْلَمُونَ إذا بالعيان والمشاهدة مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً درجة ومقاما عند الله وَأَضْعَفُ جُنْداً واقل ناصرا ومعينا
وَبعد ما صار مآل الكفار وبالا عليهم ومنا لهم نكالا لهم يَزِيدُ اللَّهُ الهادي لعباده المؤمنين الَّذِينَ اهْتَدَوْا الى زلال عرفانه وتوحيده هُدىً هداية ورشدا باقيا ازلا وابدا بدل ما نقص عنهم من حطام الدنيا الفانية ومتاعها الزائلة الذاهبة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ المقربة الى الله المستتبعة لانواع الفضل والثواب خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل ثَواباً عائدة وَفائدة خَيْرٌ مَرَدًّا اى منقلبا ومآبا إذ مآل المال والجاه والثروة والسيادة الى الحسرة والخسران وانواع الخيبة والخذلان. ومآل العبادة الى الجنة والغفران والرحمة والرضوان.
ثم قال سبحانه وتعالى على سبيل التوبيخ والتقريع للكافر المستكبر أَفَرَأَيْتَ ايها المعتبر الرائي الطاغي الَّذِي كَفَرَ أنكر واعرض واستكبر بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وَقالَ مقسما مبالغا على سبيل الاستهزاء والسخرية والله لَأُوتَيَنَّ أعطين في النشأة الاخرى ايضا ان فرض وجودها مالًا وَوَلَداً مثل ما أعطيت في هذه النشأة هذا من(1/505)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
غاية اغتراره وذهوله ونهاية غفلته وغروره واعتقاده كبرا وخيلاء انه حقيق بهذه المرتبة حيثما كان فرد الله سبحانه عليه على ابلغ الوجوه
وآكدها بقوله أَطَّلَعَ الْغَيْبَ اى أيدعي هذا الطاغي التائه في تيه الجهل والغفلة علم الغيب واطلاع السرائر والخفايا أَمِ اتَّخَذَ وأخذ عِنْدَ الرَّحْمنِ اى من عنده على لسان نبي من أنبيائه او ملك من ملائكته عَهْداً ليعطيه في الآخرة مالا وولدا إذ لا معنى للجزم بهذه الدعوى سيما ان يؤكد بالحلف الا بأحد هذين الطريقين
كَلَّا وحاشا ليس لهذا الجاهل الكذاب لا هذا ولا ذاك بل سَنَكْتُبُ نأمر الحفظة ان يكتبوا ما يَقُولُ هذا المسرف المغرور اغترارا بماله وجاهه وَنَمُدُّ لَهُ نزيد عليه يوم الجزاء مِنَ الْعَذابِ مَدًّا اى عذابا فوق العذاب أضعافا وآلافا بكفره وإصراره واغتراره على كفره وعتوه على اهل الايمان واستهزائه بهم
وَبعد ما نهلكه ونميته نَرِثُهُ ما يَقُولُ ويفتخر به من الأموال والأولاد وغيرها ونرث وننزعها عنه ونجرده منها بحيث لا يبقى معه شيء منها وَبالجملة يَأْتِينا يوم العرض والجزاء فَرْداً صفرا خاليا بلا اهل ولا مال ولا ايمان ولا عمل وَمن غاية جهلهم بالله ونهاية غفلتهم عن حق قدره وقدر وحدته واستيلائه واستقلاله
قد اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً من تلقاء أنفسهم وعلى مقتضى اهويتهم الفاسدة لِيَكُونُوا اى آلهتهم لَهُمْ عِزًّا اى سببا لعزهم وتوقيرهم عند الله يشفعون لهم او يخففون عنهم عذابهم
كَلَّا ردع لهم عما اعتقدوا من الفوائد العائدة لهم من عبادة الأوثان والأصنام من الوصلة والوسيلة والشفاعة والتسبب للنجاة بل سَيَكْفُرُونَ وينكرون أولئك المعبودون يومئذ بِعِبادَتِهِمْ اى بعبادة الكفرة المشركين إياهم وَكيف يشفعون لهم حينئذ بل يَكُونُونَ اى معبوداتهم عَلَيْهِمْ ضِدًّا يضادون معهم يعادون بل يريدون مقتهم وازدياد عذابهم ثم لما تعجب صلّى الله عليه وسلّم من قسوة قلوب الكفرة وشدة عمههم وسكرتهم في الغفلة ومن عدم تفطنهم وتنبههم بحقيقة آيات التوحيد مع وضوحها وسطوعها مع انهم من زمرة العقلاء المجبولين على فطرة المعرفة والإيقان سيما بعد ظهور الحق وعلو شأنه وارتفاع قدره برسالته صلّى الله عليه وسلّم ونزول القرآن له واختتام امر البعثة والتشريع بظهوره وهم بعد منكرون مكابرون معاندون أشار سبحانه الى سبب غيهم وضلالهم وتماديهم فيه على وجه يزيح تعجبه صلّى الله عليه وسلّم
فقال سبحانه مخاطبا له أَلَمْ تَرَ يا أكمل الرسل ولم تتفطن أَنَّا بمقتضى اسمنا المضل المذل قد أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ المضلين عَلَى الْكافِرِينَ الذين أردنا اضلالهم وإذلالهم في سابق علمنا ولوح قضائنا وسلطناهم عليهم بحيث تَؤُزُّهُمْ تهزهم وتحركهم وتغريهم بتسويلاتهم نحو المعاصي والآثام وتوقعهم بأنواع الفتن والاجرام وتحبب عليهم الشهوات واللذات النفسانية المستلزمة المستجلبة لانواع العقوبات المبعدة عن مطلق المثوبات وعن الفوز بعموم المرادات الاخروية أَزًّا تحريكا دائما بحيث صار قلوبهم المعدة بحسب الفطرة الاصلية للمعرفة والتوحيد مطبوعة بغشاوة عظيمة وغطاء كثيف لا يرجى انجلاؤها وصفاؤها أصلا لذلك لم يتفطنوا بظهور الحق بلوائح آياته ولوامع علاماته مع كمال وضوحها وانجلائها وشعشعتها
وبالجملة فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ يا أكمل الرسل بعد ما علمت حالهم بإهلاكنا إياهم وانتقامنا عنهم ولا تيأس من امهالنا وتأخيرنا إهلاكهم ان نمهل أخذهم وانتقامهم بل إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ بامهالنا إياهم أيام اجالهم وأوقاتها عَدًّا متى وصل وقتها وحل أخذناهم واستأصلناهم(1/506)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
بحيث قد أمنت أنت ومن معك من شرورهم وفسادهم اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ الحسرة والضجرة للكافرين وقت إذ نَحْشُرُ ونجمع فيه الْمُتَّقِينَ اى المؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عن مطلق المناهي والمحظورات الموردة في الكتب الإلهية المنزلة على الرسل المبينين لها إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وافدين فرقة بعد فرقة ليجازوا بالرحمة والمغفرة ويستغرقوا بها جزاء ايمانهم وتقويهم ويتفضلوا بالرضوان تفضلا عليهم وزيادة كرامة لهم
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ يومئذ سوق البهائم المجرمة الجانية نحو المحبس والسجن بالقهر والغضب التام والزجر المفرط إِلى جَهَنَّمَ التي هي أسوأ الأماكن واظلمها وأعمقها وِرْداً ورود البهائم الى المحابس والأودية والاغوار بزجر تام من الضرب المؤلم والتصويت الشديد وغيرها وهم في تلك الحالة حيارى مضطرين مضطربين لا ينفعهم لا أعمالهم ولا معبوداتهم الباطلة ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم من النار كما زعموا
وكيف يشفعون لهم إذ هم يومئذ لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ لأنفسهم ليخففوا العذاب عنها متى أرادوا بل لا شفاعة لهم مطلقا إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ وحصل له عِنْدَ الرَّحْمنِ اى من عنده عَهْداً إذنا بالشفاعة لمن أراد سبحانه إنقاذه بشفاعة ذلك الشفيع كشفاعة بعض الأنبياء لعصاة أممهم ان اذن لهم الرّحمن المستعان
وَكيف يحصل لهؤلاء الهالكين النجاة من نيران الحرمان والخلاص من سعير الخذلان والخسران مع جرمهم الذي هو أعظم الجرائم عند الله وأفحشها قالُوا مفرطين مفرطين في حق الله من غاية انهماكهم في الغفلة عنه وعن قدره ورتبته قد اتَّخَذَ الرَّحْمنُ المنزه عن وصمة الكثرة وشين النقصان المقدس عن سمة الحدوث والإمكان وَلَداً مع انه هو من أقوى امارات الإمكان وعلامات الاستكمال والنقصان والله ايها المفترون على الله
لَقَدْ جِئْتُمْ بإثبات الولد له سبحانه شَيْئاً إِدًّا منكرا عظيما جدا ومفترى شنيعا فظيعا
الى حيث تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ ويتشققن مع متانة قوائمها وشدة التيامها مِنْهُ اى من سماع قولكم هذا ونسبتكم هذه هولا ورهبة من صولة قهر الله وسطوة غضبه وحلول عذابه وَكذا تَنْشَقُّ الْأَرْضُ خوفا ورهبة وَكذا تَخِرُّ وتسقط الْجِبالُ خرور خشية وهول هَدًّا خرورا وسقوطا وأصلا الى حد التفتت والتشتت والاندكاك التام بالمرة بحيث اضمحلت رسومها مطلقا كل ذلك من خوف سطوة صفاته الجلالية ومقتضيات أسمائه القهرية المنبعثة من الغيرة الإلهية الناشئة منه سبحانه وما ذلك الا بواسطة
أَنْ دَعَوْا واثبتوا لِلرَّحْمنِ المقدس المبرى ذاته عن لوازم الحدوث والإمكان
وَلَداً وَما يَنْبَغِي وما يحق ولا يليق لِلرَّحْمنِ المتجلى في كل آن وشأن ولا يشغله شأن عن شأن أَنْ يَتَّخِذَ زوجة ويتسبب بها ليظهر وَلَداً يستخلفه او يستظهر به ويستعين تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
بل إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وما كل من الملائكة السماويين المهيمين المستغرقين بمطالعة جمال الله المستوحشين عن سطوة قهره وجلاله وَالْأَرْضِ اى ما كل من في عالم الطبيعة والهيولى من النفوس المتوجهة نحو مبدعها طوعا إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ الممهد الممد عليهم اظلال أسمائه وأوصافه العظمى المفيض عليهم من رشحات بحر وجوده بمقتضى فضله وجوده عَبْداً متذللا مقهورا تحت تصرفه مصروفا حسب قدرته وارادته محاطا تحت حيطة حضرة علمه ولوح قضائه
الى حيث لَقَدْ أَحْصاهُمْ وفصلهم لا يشذ شيء من أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم وجميع حالاتهم حتى اللمحة واللحظة والطرفة والخطرة من حيطة حضرة علمه وقبضة قدرته واختياره بل وَعَدَّهُمْ عَدًّا فردا(1/507)
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
فردا وشخصا شخصا مع جميع العوارض المتعلقة بكل فرد وشخص ما داموا في هذه النشأة
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً منفردا مفروزا عن عموم الأعوان والأنصار وجميع الأصحاب والخلان.
ثم قال سبحانه إِنَّ المؤمنين المنتخبين الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأيقنوا بوحدة ذاته واطاعوا لرسله المؤيدين من عنده وامتثلوا بعموم ما جاءوا به من الأوامر والنواهي المبينة في الكتب الإلهية المنزلة عليهم وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الفرائض والنوافل المقربة نحو الحق طلبا لمرضاته وابتغاء لوجهه الكريم سَيَجْعَلُ ويحدث لَهُمُ الرَّحْمنُ المتكفل لجزائهم واثابتهم حسب سعة رحمته وجوده ووفور لطفه ومرحمته وُدًّا مودة ومحبة في قلوب عموم المؤمنين حتى يحبوهم ويتخنوا نحوهم بلا سبق الوسائل والأسباب العادية الموجبة لمودة البعض للبعض من الانعام والإحسان وانواع العطية والإكرام مثل محبة عموم عباد الله للبدلاء المنسلخين عن مقتضيات اللوازم البشرية مطلقا جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم. ثم قال سبحانه امتنانا على حبيبه صلى الله عليه وسلّم واشارة الى عظم رتبة القرآن الجامع لجميع المعارف والاحكام بعد ما بين في هذه السورة من معظمات مهام الدين من العبر والتذكيرات والأخلاق والآداب
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ اى القرآن بِلِسانِكَ يا أكمل الرسل وسهلناه لك وأنزلناه على لغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم. عن مخالفة ما أمروا ونهوا عنه بشارة عظيمة عناية من الله إياهم وفضلا الا وهي تحققهم بمقام الرضاء والفوز بشرف اللقاء وَتُنْذِرَ بِهِ اى بوعيداته وبأنواع العذاب المذكورة فيه على العصاة المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية قَوْماً لُدًّا لدودا لجوجا مفرطين في اللداد والعناد مصرين على ما هم عليه من الفسق والفساد وَلا تبال يا أكرم الرسل بتماديهم في لددهم وعنادهم ولا تحزن من عتوهم وفسادهم
إذ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ اى قد أهلكنا كثيرا من الأقوام الماضية قد كانوا متمادين أمثالهم في الغي والضلال مصرين على المراء والجدال وبالجملة تأمل يا أكرم الرسل والتفت هَلْ تُحِسُّ وتشعر مِنْهُمْ اى من الأمم الهالكة مِنْ أَحَدٍ قد نجا وبقي سالما عن قبضة قدرتنا وسطوة قهرنا وغضبنا أَوْ هل تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً صوتا خفيا منهم تسمع أنت عن قبورهم ومدافنهم بل كلهم كأن لم يكونوا أصلا وبالجملة ما ذلك وأمثاله علينا بعزيز رب اختم عواقب أمورنا بالحسنى
خاتمة سورة مريم عليها السّلام
عليك ايها السالك المدبر المتأمل في الأسماء الحسنى الإلهية والمستكشف عن رموز صفاته الثبوتية والسلبية والجمالية والجلالية واللطفية والقهرية وجميع الأوصاف المتقابلة والمتماثلة الإلهية ان تتعمق وتتأمل في معنى اسم الرّحمن الذي قد كرره سبحانه في هذه السورة مرارا كثيرة وتتدبر فيه كي تصل وتنكشف الى ان مبدء عموم ما ظهر وما بطن وكان ويكون انما هو هذا الاسم المشير الى سعة رحمة الله ووفور فضله وجوده على مظاهره ومصنوعاته إذ به استوى سبحانه على عروش عموم الكوائن والفواسد وبه ظهر الجميع من كتم العدم وبالجملة ما من موجود محقق محسوس او مقدر مخطور الا وهو في حيطة هذا الاسم وتحت تربيته وتصرفه بحيث لو انقطع إمداده عن العالم طرفة عين لم يبق للعالم ظهور ووجود أصلا ومتى تحققت معنى هذا الاسم العظيم وتيقنت بشموله واحاطته بجميع المظاهر شمول عطف ولطف فزت بحقيقة قوله سبحانه ان كل من في السموات والأرض(1/508)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
الا آتى الرّحمن عبدا وذقت حلاوته وحقيقته جعلنا الله ممن تحقق بمعاني أسمائه الحسنى واستكشف عن سرائر أوصافه الأسنى بفضله وسعة رحمته وجوده
[سورة طه]
فاتحة سورة طه
لا يخفى على ذوى البصائر المستكشفين عن مراتب الوجود بفيضان الكشف والشهود بلا ملاحظة الرسوم والحدود مثل اصحاب القيود ان للوجود البحت الخالص عن جميع الاعتبارات باعتبار ظهوره في مظاهر الاعداد مراتب كثيرة يقبل بسببها الإضافات الغير المحصورة فله باعتبار ظهوره في كل مرتبة من المراتب الكلية والجزئية اسماء كلية وجزئية يظهر في كل منها بواسطة اسم خاص من الأسماء. وأعلى المراتب التي هو مصدر جميعها ومال الكل اليه ومصيره المرتبة التي طويت دونها المراتب وقصرت عن دركها العقول وكلت عن وصفها الألسن وارتجت دونها طرق الوصول واضمحلت هناك السمات والعلامات وبطلت العبارات والاعتبارات وارتفعت الجهات والإشارات وتلك المرتبة هي المرتبة الاحدية الصمدية التي لا يمكن فيها توهم الكثرة لان الكثرة انما تنشأ من الاضافة والاضافة انما تتصور بين الاثنين فصاعدا ولا اثنينية هناك أصلا وهذه هي المرتبة الجامعة المحمدية التي قد انتهت إليها المراتب كلها عروجا كما ظهرت هي منها نزولا في بدأ الأمر لذلك أشار سبحانه في أول هذه السورة الى مرتبته صلّى الله عليه وسلّم إرشادا لعباده وامتنانا لهم ليكون قبلة لكل طالب سالك الى جنابه وراغب ناسك نحو بابه وفي آخرها ايضا يشعر بان مرتبته صلّى الله عليه وسلّم بداية عموم المراتب ونهايتها إذ هناك قد اتحد قوسا الوجوب والإمكان والغيب والشهادة ولما كانت مرتبته صلّى الله عليه وسلّم مبدأ الكل ومنتهاه كان بمقتضى الرحمة العامة طالبا لهداية الكل ورجوعه إليها لذلك ناداه سبحانه على وجه يشعر بطلب هدايتهم الى مرتبته حيث قال عز وجل مخاطبا له صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم أسمائه وصفاته المترتب عليها جميع مراتب الوجود في مرتبته الجامعة المحمدية التي منها ظهور الكل وإليها رجوعه الرَّحْمنِ بإظهار الكل منها في النشأة الاولى الرَّحِيمِ بإعادتها إليها في النشأة الاخرى
[الآيات]
طه يا طالب الهداية العامة على كافة البرايا
ما أَنْزَلْنا من مقام إرشادنا وتكميلنا عَلَيْكَ ايها المتوجه للسعادة الابدية المعرض عن الشقاوة مطلقا الْقُرْآنَ الفرقان بين الهداية والضلالة والسعادة والشقاوة المنافية لها لِتَشْقى اى ما أنزلناه لتكون أنت شقيا بنزوله بعد ما كنت سعيدا قبله كما توهم الكفار بل ما أنزلناه
إِلَّا تَذْكِرَةً للسعادة العظمى لك ولمن تبعك لا لكل احد منهم بل لِمَنْ يَخْشى من انذاراته وتخويفاته وامتثل بأوامره وأحكامه واجتنب عن مناهيه ومحظوراته إذ انزل القرآن عليك يا أكمل الرسل من عموم رحمتنا على كافة الخلق لذلك قد نزلناه
تَنْزِيلًا مِمَّنْ اى من اسمنا الذي به خَلَقَ الْأَرْضَ وأوجد العالم السفلى وَكذا أوجد به السَّماواتِ الْعُلى اى العالم العلوي
وذلك الاسم هو الرَّحْمنُ الذي قد ظهر واستقر بالرحمة العامة عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش عموم الذرائر بحيث لا يخرج عن حيطته ذرة منها بل قد اسْتَوى على جميعها واستولى
إذ لَهُ الاستيلاء والاحاطة التامة على عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الكائنات والفاسدات وَكذا على عموم ما ظهر بَيْنَهُما من الممتزجات الكائنة فيما بين السموات والأرض وَ(1/509)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
كذا على عموم ما هو كائن وسيكون تَحْتَ الثَّرى هذا باعتبار ظهوره واستيلائه على الآفاق الخارجة عنك
وَظهوره واستيلاؤه على نفسك فانه يستولى على ذاتك وافعالك وعموم احوالك واطوارك بحيث إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ القول بالجهر منك الذي تعلمه أنت ايضا وغيرك بل يعلم السِّرَّ الذي لا يعلمه غيرك وَأَخْفى من السر الذي لا تعلمه أنت ايضا من مقتضيات استعداداتك قبل ان تخطر ببالك بل قبل ان تتعين أنت بشخصك وهذيتك هذه وإذا كان الحق محيطا مستوليا مستويا على عروش ما ظهر وما بطن فلا يكون الموجود الثابت المحقق في الوجود الا
اللَّهُ اى المسمى بهذا الاسم الجامع جميع مراتب العالم بحيث لا يخرج عن حيطته شيء أصلا إذ لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ اى هذا المسمى الوحدانى الذي لا تعدد فيه أصلا فيكون أحدا صمدا فردا وترا ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا غاية ما في الباب انه لَهُ اى لهذا المسمى الْأَسْماءُ الْحُسْنى الكلية التي جزئياتها لا تعد ولا تحصى وباختلاف الأسماء حسب الشئون والنشأة الإلهية قد اختلفت الظهورات والتجليات عن المسمى الوحدانى وكما نبهناك يا أكمل الرسل على ظهوراتنا في الكائنات مجملا قد نبهناك عليها ايضا مفصلا
وَذلك انه هَلْ أَتاكَ وقد ثبت وتحقق عندك حَدِيثُ أخيك مُوسى الكليم وقصة انكشافه من النار التي احتاج إليها هو واهله في الليلة الشاتية المظلمة
اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ رَأى موسى ناراً مطلوبة له لدفع المودة ولوجدان الطريق في الظلمة فَقالَ لِأَهْلِهِ المحتاجين إليها في تلك الليلة امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي أو انس عندها مع انسان استخبره عن الطريق وحين رجوعي نحوكم آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ جذوة نار تصطلون بها أَوْ اتخذ منها سراجا أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً اى مع السراج المسرجة هدى طريقا موصلا الى مطلوبنا
فَلَمَّا أَتاها اى النار موسى مسرعا ليرجع إليهم دفعة نُودِيَ من جانب الشجرة الموقدة عليها النار ليقبل إليها وينكشف منها السر يا مُوسى المتحير في بيداء الطلب اطلبنى من هذه الشجرة الموقدة ولا تستبعد ظهوري فيها حتى انكشف لك منها
إِنِّي وان ظهرت على هذه الصورة المطلوبة لك ظاهرا أَنَا رَبُّكَ ومطلوبك الحقيقي حقيقة الذي قد ربيتك بأنواع اللطف والكرم وابتليتك بأنواع البلاء في طريق المجاهدة لتوجه الى فتعرفنى فالآن قد ارتفعت الحجب والقيود وتحققت بمقام الكشف والشهود فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ واسترح عن الطلب بعد وجدان الارب وتمكن في مقعد الصدق إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ عن رذائل الأغيار مطلقا طُوىً اى طويت عنك التوجه الى الغير
وَلم يبق لك احتياج الى الاستكمال والاستهداء وبعد وصولك الى مقام الكشف والشهود أَنَا اخْتَرْتُكَ واصطفيتك من بين المكاشفين للتكميل والرسالة على الناس الناسين التوجه الى بحر الحقيقة فعليك التوجه الى الاهتداء والتجنب عن الميل الى مطلق الهوى فَاسْتَمِعْ واقتصر في ارشادك ورسالتك لِما يُوحى إليك من مقام جودنا ولا تلتفت الى الأهواء الفاسدة حتى لا تضل أنت بنفسك ولا تضلهم عن السبيل فبلغ الى الناس نيابة عنى وحكاية منى
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المحيط بجميع مراتب الأسماء لا إِلهَ ولا جامع لجميع المراتب إِلَّا أَنَا بجميعها المحيط بكلها المستحق للاطاعة والانقياد فَاعْبُدْنِي أنت حق عبادتي فأحسن الأدب معى وتخلق باخلاقى وَأَقِمِ الصَّلاةَ وداوم بجميع الأعضاء والجوارح لِذِكْرِي اى توجه نحوي بعموم اعضائك وجوارحك لتذكرني بها وتشكرني(1/510)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
بجميعها حتى انكشف لك من كل منها بحيث كنت سمعك وبصرك ويدك ورجلك الى غير ذلك من سائر جوارحك وآلاتك حتى قامت قيامتك الكبرى وقمت بين يدي المولى وتمكنت في جنة المأوى عند سدرة المنتهى التي ينتهى ويرتقى إليها عروجك في الصعود والارتفاع.
ثم قال سبحانه تعليما لعباده وحثا لهم على طلب الانكشاف التام إِنَّ السَّاعَةَ اى ساعة الانكشاف التام الذي لم يبق معه ودونه الطلب مثل انكشافك يا موسى آتِيَةٌ حاصلة حاضرة لكل احد من الناس دائما في كل آن لكن أَكادُ أُخْفِيها اى اقرب حسب حكمتى ان أخفى ظهورها لهم واطلاعهم عليها لِتُجْزى وتتمكن كُلُّ نَفْسٍ بمرتبة من المراتب الإلهية بِما تَسْعى اى بحسب ما تجتهد فيه وتكتسب من امتثال الأوامر واجتناب النواهي الجارية على السنة الرسل لئلا يبطل سرائر التكاليف واحكام الشرائع
وإذا كان الأمر كذلك فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها ولا يصرفنك عن الأمر بالانكشاف التام أعراض مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها تقليدا حتى يطلبها تحقيقا بل قد أنكرها واعرض عنها وَاتَّبَعَ هَواهُ المضل إياه في تيه البعد والحرمان فَتَرْدى أنت وتهلك بمتابعته في بيداء الجهل والخذلان
وَإذا اخترناك للرسالة العامة وهبنا لك شاهدي صدق على دعواك الرسالة لذلك قد سألناك أولا بقولنا لك ما تِلْكَ الخشبة التي حملتها بِيَمِينِكَ يا مُوسى المستكشف عن حقائق الأشياء يعنى هل تعرف فوائدها وعوائدها التي تترتبت عليها أم لا
قالَ موسى بمقتضى علمه بها هِيَ هذه الخشبة عَصايَ استعمالها في بعض الأمور وفي بعض الأحيان وبالجملة إذا عييت وتعبت أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَمتى احتجت لهش الورق واسقاطه من الشجر لرعى الغنم أَهُشُّ وأسقط بِها الورق من الشجر ليكون علفا عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها غير ذلك مَآرِبُ أُخْرى بحسب المحال من الاستظلال ودفع الهوام ومقاتلة العدو وغير ذلك
قالَ سبحانه أَلْقِها من يدك يا مُوسى حتى تشهد آياتنا الكبرى
فَأَلْقاها امتثالا للأمر الوجوبي الإلهي فَإِذا هِيَ اى العصا حَيَّةٌ تَسْعى تمشى على بطنها مثل سائر الحيات فخاف موسى منها وضاق صدره من قلة رسوخه وعدم تمرنه بابتلاء الله واختباراته إذ قد كان هذا في أوائل حاله
قالَ سبحانه بعد ما ظهر امارات الوجل منه آمرا له خُذْها هي عصاك يا موسى المتحير الخائف وَلا تَخَفْ من صورتها الحادثة فانا من كمال قدرتنا سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا وصورتها الْأُولى التي هي في يدك قد استعنت بها في بعض أمورك وانما بدلنا صورتها لتنبه أنت على ان لنا القدرة التامة على احياء الجمادات التي هي ابعد بمراحل عن هداية الضالين من الأحياء
وَاضْمُمْ يَدَكَ ايضا إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ ذات شعاع محير للعقول والأبصار مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مرض وحجاب يسترها وينقص من نورها لتكون لك آيَةً أُخْرى اجلى وأجل من الآية السابقة وانما أريناك من الآيات قبل ارسالك الى من أردنا ارسالك إليهم
لِنُرِيَكَ أولا مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى فيطمئن بها قلبك ويقوى ظهرك
اذْهَبْ ايها الهادي بهدايتنا وتوفيقنا نيابة عنا إِلى فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي المضل المغوى المستغرق في بحر العتو والعناد إِنَّهُ طَغى وظهر علينا مستكبرا بقوله لضعفة عبادنا انا ربكم الأعلى فبلغ عنا انذاراتنا وتخويفاتنا وزد عليها من الدلائل العقلية والكشفية لعله يتنبه بها وينزجر بسببها عما عليه من العتو والعناد
وبعد ما سمع موسى خطاب الله إياه قالَ مشمرا الذيل الى الذهاب طالبا التوفيق من رب الأرباب رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم وأعطاني الآيتين العظيمتين لتكونا شاهدين(1/511)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
على صدقى في دعواي اشْرَحْ لِي صَدْرِي ووسع لي قلبي بحيث لا اخطر ببالي خوفا من العدو أصلا
وَمع ذلك يَسِّرْ وسهل لِي أَمْرِي هذا بحيث لا اضطرب في التبليغ ولا استوحش من جاه فرعون وشوكته
وَمتى شرعت لأداء الرسالة احْلُلْ وارفع عُقْدَةً مِنْ لِسانِي لكنة عارضة من مهابة العدو سيما هذا الطاغي المتجبر مع ان اللكنة خلقية لي
يَفْقَهُوا قَوْلِي وغرضي منه
وَبعد ما وفقتني لأداء رسالتك يا ربي اجْعَلْ لِي وَزِيراً ظهيرا يصدقني في امرى ويعينني عليه ولا تجعل ظهيري من الأجانب لقلة شفقتهم وعطفهم على بل اجعل ظهيري يا ربي مِنْ أَهْلِي وأقربهم بي واولى بمعاونتى
هو هارُونَ إذ هو أَخِي الأكبر بمنزلة ابى في الشفقة ومتى جعلت أخي هارون ظهيري ووزيري
اشْدُدْ بِهِ وقوّ بسببه واحكم بإقامته يا معينى أَزْرِي ظهري
وَلا يتحقق تقويته على حقيقة الا بعد اشتراكه معى في امر الرسالة أَشْرِكْهُ بلطفك يا ربي فِي أَمْرِي ورسالتي بان تكشف أنت بلطفك عليه حقيقة الأمر والتوحيد كما كشفت لي ليكون هو ايضا من المكاشفين الموقنين بوحدانيتك ومن الممتثلين بأوامرك المجتنبين عن نواهيك
وانما سألتك يا ربي الإعانة بأخي كَيْ نُسَبِّحَكَ ونقدس ذاتك عما لا يليق بشأنك تقديسا
كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ ونناجى معك بذكر أسمائك الحسنى وصفاتك العظمى ذكرا كَثِيراً وكيف لا نسبحك ونذكرك
إِنَّكَ بذاتك وأسمائك واوصافك قد كُنْتَ محيطا بِنا بَصِيراً لعموم أحوالنا وبعد ما ناجى موسى مع ربه ما ناجى
قالَ تعالى رفقا له وامتنانا عليه لرجوعه نحوه بالكلية قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ونعطيك عموم مسئولك وقد حصل لك جميع مطالبك لتوجهك علينا ورجوعك إلينا يا مُوسى
كيف وَلَقَدْ أنعمنا عليك من قبل حين لا ترقب لك ولا شعور بان مَنَنَّا عَلَيْكَ من وفور رحمتنا وشفقتنا لك مَرَّةً أُخْرى
وقت إِذْ أَوْحَيْنا وألقينا إِلى قلب أُمِّكَ ما يُوحى وما يلهم عند نزول البلاء على قلوب الأحباء ليتخلصوا عن ورطة الهلاك وذلك حين احاطة شرطة فرعون المأمورين من عنده لعنه الله بقتل أبناء بنى إسرائيل على بيت أمك ليقتلوك ظلما فاضطربت أمك وأيست من حياتك فالهمناها حينئذ
أَنِ اقْذِفِيهِ واطرحيه فِي التَّابُوتِ المصنوع من الخشب فاتخذت تابوتا ووضعتك فيه ثم ألهمناها ثانيا إذا وضعت فيه توكلي على خالقه وحافظه وفوضى امره اليه فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ يعنى النيل ولا تخافي من غرقه فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ البتة إذ من عادة الماء إلقاء ما فيه الى جانبه فإذا قرب من الساحل ورآه الناس يَأْخُذْهُ يأمر بأخذه عَدُوٌّ لِي يعنى فرعون المفرط بدعوى الألوهية لنفسه وَعَدُوٌّ لَهُ يعنى الوليد إذ هو من أبناء بنى إسرائيل وهو عدو لهم بل هو سبب عداوة جميعهم في الحقيقة وَبعد ما امر عدوك بأخذك والتقاطك من البحر يا موسى قد أَلْقَيْتُ من كمال قدرتي ووفور حولي وقوتي في نفس فرعون لعنه الله وزوجته آسية رضى الله عنها وجميع اهل بيته عَلَيْكَ على حفظك وحضانتك يا موسى مَحَبَّةً عظيمة في قلوبهم مع شدة عداوتهم معك وقد كانت تلك المحبة صادرة مِنِّي بارزة من هوياتهم منشعبة من محبتي إياك حفظا لك وإظهارا لكمال قدرتي بان أربيك في يد عدوك فتكون أنت سببا لهلاكه وَانما ألقيت في قلوبهم المحبة الصادرة الناشئة منى لِتُصْنَعَ ولتربى أنت وان كنت بيد العدو ظاهرا عَلى عَيْنِي اى اعيان أوصافي وأسمائي إذ الكل بعد ما انخلعوا عن اكسية هوياتهم الباطلة وتجردوا عن جلباب ناسوتهم العاطلة(1/512)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
بالمرة مظاهر أوصافي وأسمائي ومع إلقاء كمال المحبة والمودة الناشئة منى في قلوبهم لحفظك وحضانتك قد راعيت ايضا جانب أمك
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ مريم حين طلبوا لك مرضعة بعد ما أخرجوك من البحر فَتَقُولُ لهم مريم على سبيل الوساطة والدلالة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ وترضعه مع انهم قد احضروا كثيرا من مراضع البلد عندك وأنت لم تمص ثديهن يا موسى إذ قد حرمنا عليك المراضع انجازا لما وعدنا على أمك بقولنا انا رادوه إليك فقبلوا منها قولها فطلبوا أمك فارضعتك فاستطابوها وآجروها لإرضاعك وبالجملة فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ امتنانا لك بان تحفظك أمك ولامك ايضا كَيْ تَقَرَّ وتنور عَيْنُها برؤيتك ومشاهدتك بعد ما ذهب نور عينها بمفارقتك وَبالجملة لا تَحْزَنَ يا موسى بحال من الأحوال فانا رقيبك ارقبك من جميع ما يضرك ويؤذيك وناصرك ومعينك على عموم ما امرتك به وَاذكر ايضا امتناننا عليك إذ قَتَلْتَ نَفْساً شخصا من آل فرعون فهموا بقتلك قصاصا وخفت أنت منهم ومن العقوبة الاخروية ايضا لأنك قد قتلته بلا رخصة شرعية وتحزنت من شنعة فعلك وخوف عدوك حزنا شديدا فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وأزلنا عنك حزنك الأخروي بقبول توبتك ورجوعك عن فعلك نادما مخلصا والدنيوي بإخراجك عن ديارهم وابعادك عنهم وَبالجملة قد فَتَنَّاكَ وابتليناك ايضا بعد ما اخرجناك من بينهم فُتُوناً فنونا كثيرة من الابتلاء والاختبار من الجموع والعطش وضلال الطريق ووحشة الغربة وكربة الوحدة وضيق الصدر والكآبة المفرطة وتحمل المشاق ومتاعب السفر والحضر حتى تستعد لقبول الإرشاد والتكميل ثم بعد ما اختبرناك بأمثال هذه الشواهد هديناك الى مدين للإرشاد والاسترشاد والاستكمال فَلَبِثْتَ سِنِينَ ثمانية وعشرين سنة فِي أَهْلِ مَدْيَنَ عند نبينا وخليفتنا الكامل المكمل ألا وهو شعيب النبي عليه السّلام وتستكمل من شرف صحبته وتتخلق بأخلاقه ثُمَّ بعد لبثك فيهم مدة واستكمالك من المرشد الكامل قد جِئْتَ عَلى وطنك المألوف على قَدَرٍ أى مع مقدار عظيم من العلوم اللدنية من المعارف والحقائق والكشف والشهود فوق ما يحصل ويكتسب بالتحصيل والكسب والاجتهاد بل من لدنا يا مُوسى تفضلا وإحسانا عليك
وكيف لا يكون كذلك وَقد اصْطَنَعْتُكَ وانتخبتك من بين المكاشفين واجتبيتك لِنَفْسِي لتكون أنت خليفتي ونائبى ومتولى أموري بين عبادي وحامل وحيي وأسراري وإذا اخترناك للرسالة
اذْهَبْ أَنْتَ اصالة وَأَخُوكَ تبعا لك مصحوبا بِآياتِي ومعجزاتي الدالة على تصديقى لكما وتقويتى لرسالتكما وَلا تَنِيا ولا تفترا ولا تضعفا فِي تبليغ ذِكْرِي ووحيي المشتمل على انواع الأوامر والنواهي اغترارا او خوفا او مداهنة
بل اذْهَبا بأمرنا مسرعين إِلى فِرْعَوْنَ المبالغ في التجبر والتكبر من غير مبالاة والتفات بعظمته وشوكته إِنَّهُ طَغى علينا ولا عبرة لعظمة الطغاة وشوكتهم ومتى تذهبا اليه وتصاحبا
فَقُولا لَهُ او لا تلطفا ورفقا كما هو دأب الرسل الهادين قَوْلًا لَيِّناً رجاء ان يلين قلبه عن صلابة العناد وبعد الأداء على وجه التلطيف والتليين لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ الفطرة الاصلية التي فطر الناس عليها فيصدقها ويؤمن بدينكما أَوْ يَخْشى عنكما من نزول العذاب بدعائكما
قالا خوفا من فرعون بمقتضى بشريتهما ملتجئين إلينا رَبَّنا وان ربيتنا بحولك وقوتك وأيدتنا بآياتك ومعجزاتك إِنَّنا حسب ضعفنا وبشريتنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا بالعقوبة والقتل أَوْ أَنْ يَطْغى لك بما لا يليق بشأنك
قالَ سبحانك(1/513)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
تسلية لهما وتأييدا لا تَخافا من افراطه وطغيانه إِنَّنِي مَعَكُما وقت ادائكما الرسالة بحيث أَسْمَعُ أقواله وَأَرى أفعاله فمتى أفرط عليكما انا اقدر على منعه وزجره
فَأْتِياهُ مجترئين عليه من غير مبالاة بعظمته ومهابته فَقُولا له صريحا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ الذي رباك بأنواع العزة والكرامة وابقاك بها زمانا امهالا لك الى ان تتكبر عليه باستكبارك على عباده فإذا ظهر كبرك وخيلاؤك الآن فقد أرسلنا الله إليك ايها المتكبر المتجبر لترسل معنا خواص عباده الذين عندك وتحت قهرك وغلبتك إنجاء لهم عن استكبارك وطغيانك عليهم ومتى سمعت ما بلغناك باذن الله ووحيه فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ المستوحشين عنك من غاية ظلمك وقهرك عليهم واطلقهم من رقك لينجوا من استيلائك واستعلائك عليهم وَبعد ما قد أرسلنا الله لإنجائهم وتخليصهم من عذابك لا تُعَذِّبْهُمْ بعد اليوم سيما بعد ما أدينا الرسالة على وجهها عليك وبلغناها إليك ولا تكذبنا في رسالتنا هذه انا قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ ساطعة قاطعة ومعجزة باهرة ظاهرة دالة على انها مِنْ رَبِّكَ الذي هو رب العالمين ان تأملت فيها حق التأمل والتدبر لتركت العتو والعناد وأمنت بتوحيده البتة وَبالجملة السَّلامُ اى الأمن والسلامة والتوفيق من الله عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى وتأمل في الآيات الكبرى وترك اتباع الهوى ومن اتبع الهوى فقد ضل وغوى واستحق بعذاب الآخرة والاولى واعلموا ايها الهالكون في تيه الغفلة والضلال
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا من عند ربنا أَنَّ الْعَذابَ الإلهي نازل عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى اى كذب بالحق واعرض عن أوامره ونواهيه ثم لما أتيا فرعون واديا الرسالة على الوجه الذي علمهما ربهما مجترئين بلا تقصير ولا تحريف ورأى فرعون جرأتهما وسمع منهما قولهما
قالَ لهما متهكما مستهزأ فَمَنْ رَبُّكُما الذي رباكما وأرسلكما لإنجاء بنى إسرائيل من عذابي مع انى لم اعرف لك ربا رباك سواي يا مُوسى المفترى في امر هذه الرسالة المزورة
قالَ له موسى على سبيل التنبيه رجاء ان يتنبه رَبُّنَا الَّذِي اظهر الأشياء من كتم العدم وبعد ما أظهرها أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ اى مرتبته ومكانته في النشأة الاولى ثُمَّ هَدى الكل بالرجوع اليه والانقياد له في النشأة الاخرى إذ منه الابتداء واليه الانتهاء
قالَ فرعون إذا كان الكل من عند ربك فلا شك انه قد علمك أحواله فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ما احوال الأمم الماضية هل هم مهتدون بمتابعة مثلك أم هم ضالون بمتابعة الهوى مثلي على زعمكم
قالَ موسى انا لا اعرف حالهم من الهداية والضلالة إذ عِلْمُها حاضر مخزون عِنْدَ رَبِّي لم يوح الى من أحوالهم شيء بل أحوالهم كلها ثابتة عنده سبحانه فِي كِتابٍ الا وهو حضرة علمه المحيط الأزلي على التفصيل بحيث لا يَضِلُّ رَبِّي اى لا يغيب عن أحوالهم شيء من علمه سبحانه وَلا يَنْسى هو سبحانه شيأ من معلوماته إذ علمه بالنسبة الى عموم معلوماته حضورى والعلم الحضوري لا يجرى فيه غيبة ونسيان ثم قال موسى دفعا للاثنينية الناشئة من الاضافة ربنا هو رب الكل
إذ هو القادر المقتدر الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً مكانا تستقرون فيها وتستريحون عليها وَسَلَكَ قدر لَكُمْ فِيها سُبُلًا مختلفة بعضها جبل أنتم ترتحلون اليه في الصيف وبعضها سهل ترجعون نحوه في الشتاء لتكمل استراحتكم فيها وَمع ذلك قد أَنْزَلَ لكم ايضا لتكميل استراحتكم مِنَ السَّماءِ من جانب عالم الأسباب ماءً محييا للأرض الميتة فَأَخْرَجْنا بِهِ اى انشأنا بنزول الماء فيها أَزْواجاً أصنافا مِنْ نَباتٍ شَتَّى. مختلفة(1/514)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
متلونة ليكون مفرجا لغمومكم ومقويا لنفوسكم ومتى احتجتم الى الغذاء
كُلُوا منها حيث شئتم رغدا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ التي أنتم تستريحون بها وتنتفعون منها من أكلها وحملها وركوبها وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل والإنزال والإخراج لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على قدرة الصانع الحكيم العليم واختياره لِأُولِي النُّهى الناهي عقولهم عن اسناد الأمور الى الوسائل والأسباب العادية بل تسندها الى مسببها أولا وبالذات
وإذا تأملتم في بدائع مصنوعاتنا وغرائب مخترعاتنا في وجه الأرض قد جزمتم جزما يقينا انا مِنْها اى من الأرض خَلَقْناكُمْ وأوجدنا أجسادكم وأشباحكم بقدرتنا واختيارنا إيجاد النبات عنها وقت الربيع وَفِيها ايضا نُعِيدُكُمْ بالآجال المقدرة من لدنا لانقضاء حياتكم الدنيا افناء النبات في ايام الخريف وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ ايضا للحشر والعرض في يوم الجزاء
تارَةً أُخْرى وَمع أمرنا لموسى وأخيه المرسلين من لدنا اليه بتليين القول والتنبيه عليه بدلائل الآفاق والأنفس لَقَدْ أَرَيْناهُ تحقيقا وتأكيدا لئلا يبقى معنا جداله وقت أخذنا بظلمه في يوم الجزاء مع علمنا بانه من زمرة الهالكين في تيه البعد والعناد آياتِنا الدالة على صدق موسى المرسل من لدنا كُلَّها متعاقبة مترادفة ألا وهي العصا واليد البيضاء وغيرهما فَكَذَّبَ بجميعها وَأَبى وامتنع عن تصديق شيء منها فكيف بجميعها بل قد نسب الكل الى السحر والشعبذة
ثم قالَ اغترارا بعلوا شأنه ورفعة مكانه مهددا مستفهما على سبيل التهكم والإنكار أَجِئْتَنا متمنيا لرئاستنا مع غاية ضعفك وحقارتك لِتُخْرِجَنا مع كمال قدرتنا مِنْ أَرْضِنا التي قد استقررنا عليها زمانا طويلا بِسِحْرِكَ الذي قد تعلمت من شياطين الامة في بلاد الغربة يا مُوسى المتمنى محالا ولولا خشيتي من اشتهار عجزي من اباطيلك لأقتلنك البتة جدا جدا فالزم مكانك
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ من انواع السحر كامل من سحرك لا من نوع أخر بل من مِثْلِهِ اى من مثل سحرك لكن أكمل منه قم من عندي وتأمل في أمرك ان شئت تب من هذياناتك وفضولك وارجع نحوي بالإنابة والاستغفار حتى أعفو عنك واغفر زلتك يا موسى وان شئت فَاجْعَلْ فعين وقتا من الأوقات ليكون بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ لا نَحْنُ وَلا أَنْتَ ثم عين ايضا مَكاناً سُوىً مستوى لا حائل فيه بحيث يرى كل احد ما يجرى بيننا حتى تفتضح على رؤس الاشهاد
قالَ موسى ان معى ربي سيقوينى لا أخاف من معارضتك معى بالسحر وتعيين الوقت بل مَوْعِدُكُمْ للمعارضة يَوْمُ الزِّينَةِ اى يوم العيد إذ يجتمع فيه الأقاصي والأداني وَلا يكون وقت تفرقهم نحو بيوتهم بل وقت أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى اى وقت الضحوة المعدة لعرض الزينة إذ يظهر كل منهم حينئذ زينته على صاحبه ليكون اعجازى لك ابعد من ان يرتاب فيه احد
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ وانصرف عن مكالمة موسى استكبارا فَجَمَعَ كَيْدَهُ اى امر بجمع سحرة مملكته ليرى القاصرين ان ما جاء به موسى من جنس السحر ثُمَّ أَتى الموعد المعين في الوقت المعين مع ملائه وسحرته وبعد ما حضروا الموعد
قالَ لَهُمْ اى للسحرة مُوسى على مقتضى شفقة النبوة او بإلقاء الله إياه بطريق الإلهام كلاما خاليا عن الميل نحو الخصومة امحاضا للنصح وَيْلَكُمْ اى ويل عظيم وهلاك شديد لكم ايها العقلاء التاركون طريق العقل بمتابعة هذا الطاغي لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان أفعاله مما يعارض بالسحر والشعبذة إذ ما جئت من الآيات مما أتانى الله من فضله وان افتريتم على الله فَيُسْحِتَكُمْ اى يهلككم ويستأصلكم بِعَذابٍ نازل من قهره(1/515)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
وَبالجملة قد تحقق عند عموم العقلاء انه قَدْ خابَ خيبة ابدية مَنِ افْتَرى على الله بما لا يليق بشأنه من ابطال قدرته او دعوى المعارضة معها وبعد ما سمع السحرة من موسى قوله هذا وتأملوا فيه تأملا صادقا قد وجدوه صادرا عن محض الحكمة والفطنة لذلك قد تأثروا من قوله تأثرا عظيما
فَتَنازَعُوا وتشاوروا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ بان أمثال هذا الكلام لا تصدر الا من المؤيد من عند الله المستظهر به سبحانه وما يشبه كلام السحرة المعارضين فمال كل منهم في نفسه الى تصديقه وَأَسَرُّوا النَّجْوى اى اخفوا مناجاتهم في أنفسهم من فرعون وملائه وبالجملة قد تمكن فرعون وملاؤه في معرض المعارضة وقابلوا السحرة لممانعتهما
قالُوا اى فرعون واشرافهم للسحرة تقوية لهم في أمرهم وتأييدا لهم إِنْ هذانِ الرجلان الحقيران لَساحِرانِ يدعيان الرسالة من ربهما الموهوم ترويجا لسحرهما المزور وبعد ذلك يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ المألوفة بِسِحْرِهِما اى بمجرد سحرهما لا من امر سماوي كما زعما وبعد اخراجنا من ارضنا يريدان ويتمنيان الاستقرار والاستيلاء على مملكة العمالقة وَيَذْهَبا بعد التقرر والتمكن بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى اى بعادتكم العظمى ومرتبتكم العليا وبالجملة يريدان ان يجعلا أمرنا وامر بنى إسرائيل بالعكس ليكون لهم الكبرياء ولنا المذلة والهوان بعكس ما قد كنا عليه من سالف الزمان ومتى سمعتم نبذا من مقاصدهما
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ اى هيئوا عموم اسباب سحركم بحيث لا تحتاجون لدى الحاجة الى شيء من أدواته ثُمَّ ائْتُوا عليهما صَفًّا صافين مجتمعين بمقابلتهما إذ هو ادخل في المهابة والإلزام وَاعلموا انه قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ اى فاز ووصل بأنواع المواهب والعطاء مَنِ اسْتَعْلى وغلب عليهما ثم لما أتى السحرة صافين مستعدين نحو الموعد على الوجه الذي أمروا
قالُوا من فرط عتوهم واستيلائهم يا مُوسى نادوه على سبيل الاستحقار والاستذلال إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أنت أولا ما تلقيت وجئت به في مقابلتنا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما تلقينا في مقابلتك فالامران عندنا سيان إذ نحن عصبة ومعنا جميع هذه الخلائق وضيعها وشريفها وأنت ضعيف ليس معك سوى أخيك
قالَ موسى لا تضعفونى ايها الحمقى ولا تبالغوا في حقارتى وإهانتي اتكاء بهؤلاء الطغاة البغاة الهالكين في تيه العتو والعناد واعلموا ان معى ربي سيقوينى ان شاء الله ويغلبني وحدي على جميع من في الأرض بَلْ أَلْقُوا أنتم أولا ايها المفترون ما أنتم ملقون فالقوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ التي سحروا بها يُخَيَّلُ إِلَيْهِ الى موسى مِنْ أجل سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى بذواتها كعصا موسى وبعد ما رأى
فَأَوْجَسَ وأضمر فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى اى اخطر بباله وأضمر في نفسه خوفا من ان يغلبوه ثم لما علمنا من موسى خوفه
قُلْنا له تشريحا لصدره وازالة لرعبه لا تَخَفْ ايها المرسل من عندنا من تماثيلهم الباطلة الغير المطابقة للواقع إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى الغالب عليهم المقصور على الغلبة والعلو بعد القائك العصا
وَبعد ما اطمأن قلبك بوحينا لك هذا أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ يعنى العصا بالجرأة التامة والقدرة الغالبة بلا جبن وتزلزل وبلا مبالات بهم وبتمثيلاتهم تَلْقَفْ تبتلع وتلتقم ما صَنَعُوا لمعارضتك إِنَّما التماثيل التي قد صَنَعُوا لا اعتبار لها بل ما هي الا كَيْدُ ساحِرٍ وحيلة مخادع ماكر وَبالجملة لا يُفْلِحُ ولا يفوز ولا يغلب السَّاحِرُ بحيلته وسحره حَيْثُ أَتى وفي اى مكان جاء به سواء كان عند معاونيه او في مكان آخر فالقى موسى عصاه امتثالا لأمر ربه فصارت ثعبانا مهيبا فابتلع على الفور تماثيلهم(1/516)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
وحبائلهم جميعا
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ على الفور مفاجئين مجتمعين سُجَّداً متذللين نادمين عن معارضته بعد ما رأوا ما رأوا من عجائب صنع الله وغرائب معجزاته ثم قالُوا بلسانهم موافقا لقلوبهم بلا تردد وتراخ قد آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى بان له القدرة والاختيار لا يعارض فعله أصلا بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وبعد ما وقع ما وقع
قالَ لهم فرعون على سبيل التقريع والتوبيخ وبعد ما سمع منهم الايمان ورأى تذللهم عند موسى بلا مبالاة له وبملأه قد آمَنْتُمْ لَهُ وسلمتم سحره بلا استيذان منى بل قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ بتسليمه فقد ظهر عندي إِنَّهُ اى موسى لَكَبِيرُكُمُ معلمكم ومقتداكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ في خلوتكم معه وبالجملة قد اتفقتم أنتم بأجمعكم ايها السحرة المكارون ان تخرجونى عن ملكي فو عزتي وجلالي وعظم شأنى ووفور مكنتى لانتقم منكم انتقاما شديدا فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ أولا مِنْ خِلافٍ متبادلتين وَبعد ذلك لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أياما فِي جُذُوعِ النَّخْلِ حتى يعتبر منكم كل من كان في قلبه بغضي وعداوتي وَان آمنتم بربه خوفا من شدة عذابه ودوام عقابه لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى وأدوم عقابا انا أم رب موسى
قالُوا بعد ما كوشفوا بما كوشفوا لَنْ نُؤْثِرَكَ ونرجحك ولن نختارك ابدا يا فرعون الطاغي عَلى ما جاءَنا وانكشف علينا من الحق الصريح سيما بعد ظهور المرجحات مِنَ الْبَيِّناتِ الواضحات الدالة على إيثاره وترجيحه مع انه لا بينة لك سوى ما جئتنا به من السحر من قبلك فقد أبطله فجاءة وَبالجملة قد كوشفنا الآن بانه سبحانه هو القادر الخالق الَّذِي فَطَرَنا وأوجدنا من كتم العدم بكمال الاستقلال والاختيار فله التصرف فينا ولا نبالى بتخويفك. وتهديدك إيانا يا فرعون الطاغي وبالجملة فَاقْضِ وامض علينا ما أَنْتَ به قاضٍ راض من القطع والصلب وغير ذلك إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا اى وما تقضى وما تحكم أنت اى حكم شئت او حكمت ما هو الا في هذه الحيوة الدنيا الفانية المستعارة إذ حكومتك مقصورة عليها او فيها ولا شك ان الدنيا وعذابها فانية حقيرة والآخرة وعقابها باقية عظيمة
وبالجملة إِنَّا قد آمَنَّا بِرَبِّنا الذي ربانا بأنواع النعم فكفرنا له ظلما وعدوانا واشركناك ايها الطاغي معه جهلا وطغيانا مع تعاليه عن الشريك والنظير فالآن قد ظهر الحق وارتفع الحجب فرجعنا اليه واستغفرنا منه لذنوبنا راجين مخلصين خائفين مستحيين طامعين منه لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَلا سيما ما أَكْرَهْتَنا أنت ايها الظالم الطاغي عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ المهان المرذول بمعارضة المعجزة العزيزة وَبعد رجوعنا اليه سبحانه بتوفيقه قد تحقق عندنا انه اى اللَّهُ خَيْرٌ منك ومن عموم ما سواه وَأَبْقى بعد فناء الكل وزوال السوى والأغيار مطلقا
وقد تحقق عندنا ايضا إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ القادر على انواع الانتقام والانعام مُجْرِماً مشركا طاغيا باغيا فَإِنَّ لَهُ اى قد حق وثبت له جَهَنَّمَ التي هي دار البعد والخذلان ابدا لا يَمُوتُ فِيها حتى يستريح وَلا يَحْيى حياة يستفيد بها
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً موقنا بذات الله وبكمالات صفاته وأفعاله ومع ذلك قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ بمقتضى أوامره سبحانه واجتنب عن المنهيات حسب نواهيه فَأُولئِكَ المؤمنون الصالحون لَهُمُ لا لغيرهم من العصاة الضالين الدَّرَجاتُ الْعُلى القريبة الى الدرجة العليا التي قد انتهت إليها جميع الدرجات
الا وهي جَنَّاتُ عَدْنٍ ومنتزهات علم وعين وحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق لذوي البصائر والأبصار الناظرين بعيون الاعتبار المستغرقين بمطالعة جمال الله بلا مزاجمة الأغيار خالِدِينَ فِيها(1/517)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
بلا ملاحظة زمان ومقدار وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى وتطهر عن ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار
وَكيف لا يكون للتزكية هذه الآثار لَقَدْ أَوْحَيْنا من عظيم جودنا إِلى مُوسى المختار بعد ما هذبنا ظاهره عن ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار وحلينا وملأنا باطنه بأنواع المكاشفات والأسرار نجاة له ولقومه من أيدي الكفار سيما قد قصد عليهم فرعون الغدار أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي اى سر ليلا معهم على سبيل الفرار فمتى أخبروا باسرائك وفرارك اتبعوا اثرك حسب الاغترار ومتى اردفك العدو وكادوا ان يدركوك ومنعك البحر من العبور قلنا لك حينئذ فَاضْرِبْ بعصاك المعينة لك في معظمات الأمور البحر ليكون لك معجزة وظهر لَهُمْ اى لقومك طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً جافا لا وحل فيها لئلا يخافوا من الغرق وادراك العدو وأنت ايضا لا تَخافُ دَرَكاً عن ان يدركك فرعون وَلا تَخْشى أنت ايضا عن ان يغرقك البحر فضرب البحر بأمر ربه بعد ما اسرى موسى ساريا باذنه سبحانه ليلا وفلق اى البحر من ضربه فسلك فيه وسلك قومه ايضا خلفه فعبروا جميعا سالمين فوصل فرعون وملاؤه البحر فرأى عبورهم من الطريق اليابس
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ على الفور بلا تراخ فدخلوا مقتحمين مزدحمين اغترارا لعبورهم بيبسه فَغَشِيَهُمْ اى قد غطاهم وسترهم مِنَ الْيَمِّ اى البحر ما غَشِيَهُمْ اى غشاوة عظيمة بحيث يكون البحر كما كان بل اكثر هولا وأشد مهابة وبتوفيقنا قد هدى موسى قومه وبالجملة فأنجيناهم امتنانا منا عليه وعليهم
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ باتباعهم ببني إسرائيل على الفور وَما هَدى وما ارشد لهم طريق المخلص فأغرقناهم متبوعا وتابعا زجرا عليه وعليهم ثم بعد انجائنا بنى إسرائيل من عدوهم وإهلاك أعدائهم بالمرة وايراثهم ارضهم وديارهم وأموالهم قد نبهنا عليهم التوجه والرجوع إلينا بتعديد نعمنا التي قد انعمناهم ليواظبوا على شكرها أداء لحق شيء منها حتى يكونوا من زمرة الشاكرين المستزيدين لنعمنا إياهم لذلك ناديناهم ليقبلوا إلينا ويعلموا ان الكل من عندنا
يا بَنِي إِسْرائِيلَ المنظورين منا بنظر الرحمة والشفقة قَدْ أَنْجَيْناكُمْ أولا بقدرتنا مِنْ عَدُوِّكُمْ الغالب القاهر عليكم وَقد أنجيناكم ايضا ثانيا من جرائم تقصيراتكم في امتثال أوامرنا الوجوبية إذ قد واعَدْناكُمْ بنزول التورية عليكم وقت صعودكم جانِبَ الطُّورِ لا جميع جوانبه بل جانبه الْأَيْمَنَ ذا اليمين والكرامة ليشعر الى العفو عن التقصير وَقد أنجيناكم ثالثا من شدائد التيه وعن المحن العارضة فيها من الجوع والعطش والحر والبرد المفرطات وغير ذلك بان نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ الترنجبين وَالسَّلْوى السمانى وأمرناكم بالأكل منها مباحا
حيث قلنا لكم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ بعد تحملكم شدائد الابتلاء واشكروا لنعمنا لنزيدكم وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ولا تضلوا باسناد نعمنا الى نفوسكم لا إلينا مثل فرعون وقومه وبالجملة ان كنتم مثلهم في الكفران فَيَحِلَّ فينزل عَلَيْكُمْ غَضَبِي البتة مثل حلوله عليهم وَاعلموا انه مَنْ يَحْلِلْ وينزل عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى وسقط عن درجة الاعتبار والتقرب الى
وَإذا ابتليتم بحلول غضبى لا تيأسوا عن نزول روحي ورحمتي عليكم بعد ما تبتم ورجعتم الى إِنِّي بعد رجوعكم الى بالإخلاص والعزيمة الصادقة لَغَفَّارٌ ستار لِمَنْ تابَ عما جرى عليه من العصيان توبة مقرونة بالندامة المؤبدة وَآمَنَ ايضا بعد التوبة تجديدا وتأكيدا لإيمانه السابق وَعَمِلَ عملا صالِحاً بعد ذلك خالصا مخلصا نادما على ما مضى من طغيان العصيان ثُمَّ اهْتَدى بالإخلاص والعمل الصالح الى درجات القرب واليقين ثم لما كان(1/518)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
موسى حريصا على هداية قومه لكمال شفقته عليهم تسارع الى تصفيتهم واختار منهم باذن الله سبحانه سبعين رجلا من خيارهم حتى يذهبوا معه الى الطور ليأخذوا التورية فساروا معه فتسارع موسى في الصعود شوقا الى لقاء ربه وأمرهم ان يتبعوه في الارتقاء الى الجبل فوصل موسى الموعد قبل وصولهم فقال له ربه تنبيها على اضطرابه واستعجاله في امره
وَما أَعْجَلَكَ واى شيء أسبقك عَنْ قَوْمِكَ المستكملين برفاقتك يا مُوسى المبعوث المرسل لتكميلهم بل الأليق بحالهم ان تجئ أنت معهم مجتمعين
قالَ موسى هُمْ من غاية قربهم أُولاءِ المشار إليهم التابعون عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ يا رَبِّ لِتَرْضى عنى ويزداد تقربي إليك
قالَ تبارك وتعالى بعد ما فارقتهم وتركتهم مع أخيك قد صرت أنت سببا تاما لوقوعهم في البلاء العظيم فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا وابتلينا قَوْمَكَ وهم الذين قد ابقيتهم مع أخيك مِنْ بَعْدِكَ من بعد خروجك من بينهم بعبادة غيرنا فأشركوا بنا وَما أَضَلَّهُمُ الا السَّامِرِيُّ المفرط بسبب صوغه صورة العجل من حلى القبط ورميه عليه التراب الذي قد اخذه من حافر فرس جبرائيل عليه السّلام وخوار العجل بعد رمى التراب عليه وقوله بعد ما خار العجل هذا إلهكم واله موسى وبعد ما سمع موسى من ربه ما سمع
فَرَجَعَ مُوسى من ساحة عز حضور ربه ومقام السرور معه مسرعا إِلى قَوْمِهِ المتخلفين عن امره المشركين بربه قد استولى عليه الغضب غيرة على ربه وحمية لهم فصار غَضْبانَ من فعلهم أَسِفاً متأسفا متحزنا متفكرا هل يمكن التدارك أم لا فلما وصل إليهم قالَ يا قَوْمِ المضيعين سعي في إرشادكم وتكميلكم اما تستحيون من ربكم الذي رباكم بأنواع النعم وأنجاكم من اصناف البلاء سيما عند وعد الزيادة لكم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً يحسن أحوالكم ويوصلكم الى مقام القرب بانزال التورية عليكم لتكملوا بها أخلاقكم أَتنكرون انجاز وعده أم فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ المدة والزمان بان صار أربعين بعد ما كان ثلثين أَمْ أَرَدْتُمْ وقصدتم بالإنكار والإصرار أَنْ يَحِلَّ وينزل عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ لذلك مَوْعِدِي الذي قد وعدتكم من متابعتي لاخذ التورية
قالُوا يا موسى ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا اى بقدرتنا واختيارنا من غير ظهور دليل يشغلنا عن موعدك بل وَلكِنَّا قد كنا على ما وعدتنا ولا تصدر عنا مخالفتك غير انا قد حُمِّلْنا أَوْزاراً وأحمالا وأثاثا مستعارا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ اى من حلى القبط ولم يمكننا الرد إليهم لاستئصالهم ولا يمكننا ايضا حملها وحفظها دائما لذلك اضطررنا فحفرنا حفرة وصيرناها مملوة من النار فَقَذَفْناها اى فقذف كل منا ما في يده من الحلي فيها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فيها ما في يده من الحلي بعد ما قذفنا بلا صنع زائد منا وبعد ما قذف الكل حليهم فيها ادخل السامري يده فيها
فَأَخْرَجَ لَهُمْ منها عِجْلًا اى صورة عجل قد أوجده الله تعالى من تلك الحلي المقذوفة ولم يكن من ذوى الحس والحركة بل كان جَسَداً وهيكلا لَهُ خُوارٌ يصوت صوت البقر فَقالُوا السامري اصالة والباقي تبعا هذا الجسد الذي خار خورة إِلهُكُمْ الذي أوجدكم من العدم وَإِلهُ مُوسى المتردد في بيداء الطلب هو هذا قد أنزله موسى في هذه الحفرة من قبل فَنَسِيَ منزله وسعى في طلبه سعيا بليغا فرقى الطور ايضا لطلب هذا
أَهم قد خرجوا عن طور العقل باعتقاد الوهية الجماد بل عن الحس ايضا فَلا يَرَوْنَ ولا يتفكرون في شأن هذا الجماد أَلَّا يَرْجِعُ اى انه لا يرجع اى انه لا يرد إِلَيْهِمْ قَوْلًا جوابا عن سؤالهم وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا لو لم يؤمنوا(1/519)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
له وَلا نَفْعاً لو آمنوا
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ اى قبل رجوع موسى إليهم نيابة عنه إصلاحا لحالهم بعد ما أفسدوا على أنفسهم ما أمرهم موسى وأوصاه إياه من الأصلح بحالهم يا قَوْمِ المائلين عن طريق الحق بسبب هذه الصورة إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ اى ما هذا الا ابتلاء لكم من ربكم ليختبر سبحانه رسوخكم وتمكنكم على التوحيد اعرضوا عن الشرك بالله وتوجهوا الى توحيده وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ لكم بإرسال أخي إليكم رسولا وأنجاكم من عدوكم وانا نائب عن أخي قد استخلفني عليكم فَاتَّبِعُونِي لتتبعوا الحق ولا تميلوا الى الباطل وَأَطِيعُوا أَمْرِي هذا واقبلوا قولي وإرشادي لكم حتى يصلح حالكم
قالُوا له انك وان كنت نائبا عن أخيك لا تعرف أنت ربه ولا تكلمت معه بل يعرفه ويتكلم معه موسى لَنْ نَبْرَحَ ونزال عَلَيْهِ اى على عبادة الجسد عاكِفِينَ مقيمين حوله متوجهين اليه متضرعين عنده حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فرآه وتكلم معه ثم لما رجع موسى من ميقاته ومناجاته مع ربه بعد ما اخبر له الحق حال قومه ووجدهم ضالين منحرفين عن مسلك السداد صار غضبان عليهم أسفا بضلالهم
حيث قالَ من شدة غيظه لأخيه مناديا باسمه على الاستحقار مع انه اكبر منه سنا يا هارُونُ ما مَنَعَكَ واى شيء صرفك عن قتالهم وقت إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا عن طريق الحق وتوحيده بعبارة العجل وما لحقك
أَلَّا تَتَّبِعَنِ في مقاتلة المشركين بعد ما أوصيتك به مرارا وقد اقمتك فيهم لإصلاح حالهم فافسدتهم أَكفرت وضللت أنت ايضا فَعَصَيْتَ أَمْرِي فأخذ من شدة غيظه وغضبه بشعر أخيه ولحيته يجره
لَ
له حينئذ هارون قولا يحرك مقتضى الاخوة وينبه على قبول العذرا بْنَ أُمَ
نسبه الى الام استعطافا احذر عن الغضب المفرط وتوجه الى واسمع عذري تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
ما لم تسمع عذري لم اترك القتال معهم الانِّي
وان كنت لا اقدر على قتالهم لكثرتهم قدشِيتُ
ان قاتلت معهم نْ تَقُولَ
أنت معاتبا على قدرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
وجعلتهم فرقا متخالفة متقاتلة لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
ولم تحفظ ما أقول لك اخلفني في قومي وأصلح بينهم حتى ارجع فلما سمع موسى عذره ندم على فعله فرجع الى معاتية من يضلهم
حيث قالَ فَما خَطْبُكَ واى شيء هو أعظم مقاصدك ومطالبك من هذه التفرقة والإضلال يا سامِرِيُّ المضل
قالَ السامري ليس مقصودي الا الرياسة والزيادة عليهم بشيء يميزنى عنهم من الخوارق إذ قد بَصُرْتُ بِما اى بشيء لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أصلا وذلك انى رأيت جبرائيل راكبا على فرس الحيوة ما وضع قدمه على شيء الا حي فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ اى من تراب قد وطئه حافر فرس الرسول الذي هو جبرائيل وقد كنت احفظها الى ان اذابوا حليهم فَنَبَذْتُها فيها فسرت الحيوة الدنيا منها الى الصورة المتخذة من الحلي فخار فأمرتهم باتخاذها الها وَبالجملة كَذلِكَ سَوَّلَتْ وزينت لِي نَفْسِي حتى أكون متبوعا لهم مقتدى به بينهم
قالَ له موسى فَاذْهَبْ من عندي وتنح عن مرأى فَإِنَّ لَكَ اى قد حق وثبت لك فِي الْحَياةِ اى في حين حسك وحياتك أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ لك ولا احساس ولا ادراك يعنى انك في حياتك من جملة الأموات الفاقدين للحواس وادراك عموم المشاعر والمدارك لاعتقادك بحياة هذا الجماد وأخذك هذا الها حيا قيوما متصفا بصفات الكمال وأضللت بسبب هذا جمعا عظيما من الناس وَإِنَّ لَكَ في النشأة الاخرى مَوْعِداً من الجحيم لَنْ تُخْلَفَهُ أنت ابدا ولن تنتقل عنه أصلا إذ لا توبة لك منها حتى تقبل منك(1/520)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
توبتك ويتجاوز عنك بسببها فتعيّن ان تكون فيه ابد الآباد وَمتى عرفت حالك في دنياك وأخراك انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ وصرت عَلَيْهِ وعلى عبادته عاكِفاً مقيما عازما جازما لَنُحَرِّقَنَّهُ ولو كان هذا الها لم تحرقه النار ثُمَّ بعد الإحراق وبعد صيرورته رمادا لَنَنْسِفَنَّهُ وننشرنه فِي الْيَمِّ نَسْفاً نشرا ونثرا بحيث لم يبق من اجزائه في البر شيء وبالجملة قد أحرقها موسى عليه السّلام ونسفها
ثم توجه الى بنى إسرائيل فقال إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ المستجمع لجميع أوصاف الكمال وهو الحي القيوم الَّذِي لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ وما سواه اعدام باطلة ولو تعقل سواه فلا يخرج ايضا عن حيطة حضرة علمه المحيط إذ هو سبحانه قد وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ في الذهن والخارج
عِلْماً كَذلِكَ اى مثل ما أوحينا الى موسى لهداية قومه وإهلاك عدوه قد أوحينا إليك يا أكمل الرسل من قصص السابقين ليعتبر من هلاك عدوهم من عاداك ويفرح من اهتداء صديقهم من صدقك وآمن بك إذ نَقُصُّ عَلَيْكَ قصصهم مع كونك خالي الذهن مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سلف وسَبَقَ بمدة مديدة وازمنة متطاولة وَبالجملة قَدْ آتَيْناكَ امتنانا لك مِنْ لَدُنَّا بلا واسطة معلم مرشد ذِكْراً كلاما جامعا بذكر جميع ما في الكتب السالفة من الحقائق والمعارف والاحكام والقصص على الوجه الأتم الأبلغ
وبالجملة مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ اى عن القرآن بعد نزوله وتشبث بغيره من الكتب المنسوخة فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً إثما ثقيلا وجرما عظيما لأخذه المنسوخة وتركه الناسخ بحيث يكونون
خالِدِينَ فِيهِ وفيما يترتب عليه في يوم الجزاء من العذاب المؤبد وَبالجملة قد ساءَ لَهُمْ لحامليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المخففة لحمل ارباب العناية حِمْلًا ثقيلا لهم يوقعهم في النار
اذكر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لإخراج ما بالقوة الى الفعل وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ المشركين يَوْمَئِذٍ زُرْقاً زرق العيون سود الوجوه وهما كنايتان عن الحسد والنفاق للذين هم عليهما في دار الدنيا ونظهر لهم يومئذ قبائحهم الكامنة فيهم في الدنيا
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ ويتكلمون خفية هكذا هذه القبائح التي قد ظهرت علينا الآن انما هي من اوصافنا التي كنا عليها في دار الدنيا زمانا قليلا فبعضهم حينئذ يقول للبعض مستقصرا مستقلا إِنْ لَبِثْتُمْ وما مكثتم في دار الدنيا إِلَّا عَشْراً من الليال وبعضهم يقلل من ذلك وبعضهم يقلل من تقليله ايضا وهم في أنفسهم يخفون أحوالهم لئلا يطلع عليها احد
وكيف يخفون عنا إذ نَحْنُ أَعْلَمُ حسب علمنا الحضوري ب عموم ما يقولون من الأقوال المتعارضة ولا نذكر في كتابنا هذا الا ما هو اقرب الى الصواب إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً اى اميلهم الى الصدق وأقربهم الى الصواب إِنْ لَبِثْتُمْ وما مكثتم وتمكنتم فيها إِلَّا يَوْماً واستقصارهم مدة مكثهم في الدنيا انما هي من طول يوم الجزاء وهوله
وَيَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ الْجِبالِ في ذلك اليوم أهي على قرارها وقوامها حتى يؤوى ويلتجأ إليها أم لا فَقُلْ لهم يا أكمل الرسل يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ويسحقها سحقا كليا كأنه قد اخرج من المناخل الدقيقة
فَيَذَرُها ويترك الأرض بعد نسف الجبال قاعاً مسطحا مستويا صَفْصَفاً ملساء
بحيث لا تَرى ايها الرائي فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ولا نتوا ولا ربوة لاستواء سطحها
يَوْمَئِذٍ اى وقت نفخ الصور لاجتماع الناس في المحشر يَتَّبِعُونَ يعنى عموم الأنام السامعين الدَّاعِيَ الذي هو اسرافيل ويجتمعون عنده كل واحد منهم بطريق لا عِوَجَ لَهُ لاستواء الأرض وعدم المانع من العقبات والاغوار وَفي ذلك اليوم قد(1/521)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
خَشَعَتِ الْأَصْواتُ اى خضعت وخفيت أصواتهم وقت النداء والدعاء لِلرَّحْمنِ من شدة اهوال ذلك اليوم بحيث إذا أصغيت الى سماع أقوالهم فَلا تَسْمَعُ منها السامع أنت إِلَّا هَمْساً ذكرا خفيا وصوتا ضعيفا
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ اى شفاعة كل احد من الناجين لكل احد من العاصين إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بشفاعة بعض الناجين لبعض العصاة من ارباب العناية في ذلك اليوم وَمع انه سبحانه قد رَضِيَ لَهُ قَوْلًا اى تعلق رضاه سبحانه ايضا بقول الشفيع وقت الشفاعة
وانما اذن ورضى سبحانه بالشفاعة للبعض لأنه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ اى يحيط علمه الحضوري بعموم أحوالهم من العصيان والطاعة وبان اى عصيان يزول بالشفاعة واى عاص يستحق العفو وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً بدقائق معلوماته ورقائق أفعاله سبحانه وآثاره مطلقا
وَبالجملة قد عَنَتِ الْوُجُوهُ اى هلكت وجوه الأشياء وخفيت ظهورها في ذلك اليوم وبقي الوجه الباقي الذي هو لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ المنزه عن الظهور والبطون المقدس من الحركة والسكون وَبالجملة قَدْ خابَ وخسر خسرانا مبينا في ذلك اليوم مَنْ حَمَلَ ظُلْماً عظيما حيث اثبت شريكا لله الواحد القهار
وَبالجملة مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ في الدنيا وَالحال انه هُوَ مُؤْمِنٌ موقن بوحدانية الله فَلا يَخافُ يومئذ لا ظُلْماً بان يحبط اعماله الصالحة بالكلية محانا ولم يجز بها أصلا وَلا هَضْماً بان ينقص من جزاء عمله الصالح
وَكَذلِكَ اى مثل احاطة علمنا بعموم الأشياء قد أَنْزَلْناهُ اى هذا الكتاب الجامع المحيط بجميع ما في العالم إذ لا رطب ولا يابس الا وهو فيه مثبت قُرْآناً عَرَبِيًّا اى كلاما عربي الأسلوب والنظم وَقد صَرَّفْنا كررنا وكثرنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وانواع الإنذارات والتخويفات لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ رجاء ان يحفظوا عهودنا ويتوجهوا الى توحيدنا ويتجنبوا عن شركنا أَوْ يُحْدِثُ ويجدد وعيدات القرآن وقصصه لَهُمْ ذِكْراً عظة وعبرة من احوال الماضين وعذاب الله عليهم من الغرق والمسخ والخسف والكسف لعلهم يتقون ويتذكرون به ومع ذلك لم يتقوا ولم يتذكروا وان قالوا على سبيل المكابرة عتوا وعنادا لربك حاجة واحتياج الى أيماننا وتقوانا والا لم يرجو منا أيماننا وتقوانا
قل لهم يا أكمل الرسل فَتَعالَى اللَّهُ اى تنزه وتقدس الْمَلِكُ المستولى المطلق القيوم المحقق الْحَقُّ الثابت الدائم المستمر ازلا وابدا عما يقول الظالمون المشركون في شأنه من اثبات الاحتياج له بمجرد الرجاء العائد نفعه إليهم ايضا وَإذا كان ظنهم هذا لا تَعْجَلْ أنت يا أكمل الرسل بِالْقُرْآنِ بادائه وتبليغه إياهم وقراءته عليهم مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ يعنى لا تعجل بإرشادهم وتكميلهم بالقرآن من قبل ان يفرغ جبرائيل عليه السّلام من وحيه وتبليغه إليك بل اصبر حتى يفرغ من أداء الوحى على وجهه ثم تأمل في رموزاته وإشاراته الخفية حسب استعدادك وَمع ذلك قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً بما فيه من نفائس المعلومات وعجائب المعارف والحقائق ثم بعد ذلك اتل عليهم ونبههم بقدر عقولهم واستعدادهم
وَبالجملة لا تنس يا أكمل الرسل نهينا لك عن الاستعجال بأداء القرآن من قبل ان يقضى إليك وحيه بل في مطلق الأمور إذ العجلة انما هي من إغواء الشيطان ولا تكن ناسيا نهينا مثل نسيان أبيك آدم عهده معنا فانا لَقَدْ عَهِدْنا إِلى أبيك آدَمَ مِنْ قَبْلُ بقولنا نهيا له ولزوجته لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فَنَسِيَ عهدنا هذا بتغرير الشيطان له مع ان نفعه عائد اليه سيما وقد اكدناه بالمواثيق الوثيقة وَبالجملة لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً صادقا ورأيا صائبا في محافظة العهود والمواثيق(1/522)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
لذلك لم يوطن نفسه على مقتضى النهى
وَاذكر يا أكمل الرسل نبذا من عهودنا معه وقت إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وتذللوا عنده تعظيما له وتكريما إذ هو أفضل منكم واجمع لتجليات اوصافنا وأسمائنا فَسَجَدُوا ووقعوا عنده على تراب المذلة تعظيما له وامتثالا لأمرنا إِلَّا إِبْلِيسَ من بينهم قد أَبى وامتنع عن سجوده لاستكباره وعتوه وبعد ما استكبر إبليس عن تعظيمه نبهنا عليه عداوته
فَقُلْنا يا آدَمُ المكرم المسجود له إِنَّ هذا اى إبليس المتخلف عن سجودك عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فاحذر أنت اصالة وهي ايضا تبعا لك عن مصاحبته وتغريره وبالجملة لا تتكلما معه ولا تقبلا منه وسوسته فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ التي هي محل الحضور والسرور الى دار الابتلاء والغرور فَتَشْقى أنت يا آدم على الخصوص وتتعب وتعيى بسبب المعيشة إذ معيشتك صارت عن كد يمينك ولا تعب لك في الجنة
وكيف لا إِنَّ لَكَ اى قد حق وثبت لشأنك أَلَّا تَجُوعَ فِيها اى في الجنة إذا كلها دائم غير منقطع وَلا تَعْرى إذا لبستها متجددة دائمة غير بالية وحللها غير منقطعة
وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها إذ العطش انما يحصل من فرط الحرارة ولا حرارة فيها وَلا تَضْحى أنت ايضا إذ لا برودة فيها بل هي معتدلة دائما لا افراط للحرارة والبرودة فيها ثم لما عاش آدم فيها زمانا مستريحا بلا تعب ولا عناء اظهر إبليس عداوته وأخذ يوسوس له ولزوجته ليخرجهما منها إذ هما ماداما في الجنة لم يقدر على اضلالهما لجريان حالهما فيها على مقتضى العدالة الفطرية التي هما جبلا عليها
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ والقى وسوسته في نفسه حيث قالَ يا آدَمُ على وجه النصيحة والتغرير هنيئا لك عيشك في الجنة بلا تعب ومحنة هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وأهديك إليها ان أكلته منها فقد أخلدت نفسك بل خلدت أنت وزوجتك فيها ابدا وَبالجملة أهديك على مُلْكٍ لا يَبْلى ولا يخلق ولا يفنى بل يتجدد دائما بتجدد الأمثال بلا انتقال وزوال ثم لما وسوس إليهما سمعا منه قوله وقبلا وسوسته الى ان قد نسيا عهد ربهما مطلقا
فَأَكَلا مِنْها اى من الشجرة المنهية حتى يشبعا وأرادا ان يتبرزا ويتغوطا وبعد ما ارتكبا المنهي عنه وظهر منهما ما هو مناف لنظافة الجنة وطهارتها وبالجملة قد خرجا عن مقتضى العدالة الفطرية امر سبحانه باخراجهما منها بعد نزع لباسهما عنهما وبعد ما نزع لباسهما اى لباس الطهارة والنجابة والتقوى الجبلية الموهوبة لهما بمقتضى العدالة الإلهية فَبَدَتْ وظهرت لَهُما سَوْآتُهُما عوراتهما فاضطرا على التستر والتغطى وَطَفِقا أخذا وشرعا يَخْصِفانِ يلزقان ويلصقان عَلَيْهِما اى على عوراتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ اى من أوراق بعض أشجارها قيل هي ورق التين وَبعد ما صار حالهما كذلك قالت الملائكة صائحين صارخين بعد انتهاز الفرصة قد عَصى آدَمُ المكرم المسجود له رَبَّهُ الذي رباه بتناول ما يصلحه ونهاه عن تناول ما يضره ويفسده بان اعرض عن النهى الإلهي وبادر الى ارتكاب المنهي عنه بغرور الشيطان الغوى المضل فَغَوى باغواء إبليس وضل عن مراده الأصلي بتغرير العدو لان العدو انما يلقى عدوه عكس مطلوبه
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ بعد ما ألهمه سبحانه الانابة والرجوع اليه فاعترف بذنبه نادما ورجع الى ربه تائبا بقوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية فَتابَ عَلَيْهِ سبحانه وقبل توبته وَهَدى اى هداه نحو مقصده الأصلي وقبلته الحقيقية الا انه سبحانه لا يبطل حكمة حكمه السابق المترتب على النهى وهو قوله تعالى فتكونا من الظالمين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية والعدالة الفطرية لذلك
قالَ اهْبِطا مِنْها وانزلا واخرجا من الجنة التي هي دار الأمن والسرور الى الدنيا التي هي دار التفرقة(1/523)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
والغرور جَمِيعاً أصلا وفرعا صديقا وعدوا وبعد هبوطكم إليها بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في امور معاشكم والشيطان عدو لكم يعوقكم ويغويكم عن امر المعاد فتبقى هذه العداوة بينكم ما دمتم فيها ومع أمرنا لكم بالهبوط والخروج منها إليها لا نترككم هناك يا بنى آدم ضالين محرومين مطرودين فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً بواسطة الرسل والكتب المنزلة عليكم فاتبعوا هداي فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ عزيمة صادقة وقصدا صحيحا خالصا فاهتدى البتة فَلا يَضِلُّ لا في النشأة الاولى وان كان فيها لاتصافه بصفاتنا الفاضلة وتخلقه باخلاقنا الكاملة وَلا يَشْقى ايضا في النشأة الاخرى لفنائه فينا وبقائه ببقائنا
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وانصرف عن مقتضى اوامرى المذكورة في كتبي المنزلة على رسلي الهادين له عن الضلال فَإِنَّ لَهُ اى قد حق وثبت له ما دام في دار الدنيا مَعِيشَةً ضَنْكاً ضيقا يضيق قلبه وصدره بحيث لا يسع فيه غير التفكر والتدبر في امر المعاش وَإذا خرج منها نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ الكبرى أَعْمى اى يصور اعراضه عن الحق في الدنيا وإقباله عليها على صورة العمى في الاخرى
حيث قالَ متحسرا ومتحزنا من غاية الضجرة والكآبة يا رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ضريرا في النشأة الاخرى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قريرا في النشأة الاولى
قالَ سبحانه توبيخا عليه وتقريعا كَذلِكَ اى مثل ذلك قد فعلت أنت بنا ايها المغتر المسرف حين أَتَتْكَ بالسنة الأنبياء آياتُنا لهدايتك وإصلاح حالك فَنَسِيتَها أنت ونبذتها وراء ظهرك بحيث كانت نسبتك إليها كنسبة الأعمى الى عموم الأشياء المحسوسة وَكَذلِكَ اى مثل المنبوذ وراء الظهر الْيَوْمَ تُنْسى أنت في جهنم البعد والحرمان وجحيم الطرد والخذلان
وَكَذلِكَ اى مثل نسيان من اعرض عنا في العذاب المؤبد نَجْزِي ونترك منسيا في جهنم البعد والخذلان مَنْ أَسْرَفَ وأفرط في الاعراض عن الله ورسله سيما بمتابعة العقل الفضول المشوب بالوهم المرذول وبمقتضى اعتباراته ومضى عليها كذلك زمانا وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ النازلة على أنبيائه ورسله ولم يتنبه بمرموزاتها ومكنوناتها ولم يتفطن بما فيها من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات وَالله وان احتمل الشدائد وارتكب المتاعب في تحصيل تلك الاعتبارات والاعتباريات لَعَذابُ الْآخِرَةِ في شأنه لاشتغاله بغير الله واعراضه عن آياته أَشَدُّ من شدائد ذلك التحصيل وَأَبْقى وأدوم وباله من النخوة المترتبة عليها الجالبة لغضب الله
أَتنكر القريش بآياتنا ونصر على إنكارها ولم تذكر عذابنا لمنكري آياتنا فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ولم يرشدهم ويذكرهم إهلاكنا الأمم السالفة بسبب انكار الآيات وتكذيب الرسل ولم يذكروا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ اى من اهل القرون الماضية حين يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أمثال هؤلاء أصحاء سالمين فجاءهم بأسنا بياتا او نهارا فجعلناهم هالكين فانين كأن لم يكونوا موجودين أصلا لاعراضهم عنا وتكذيبهم آياتنا ورسلنا وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك والاستئصال لَآياتٍ دلائل ظاهرة على قدرتنا بالانتقام على المعرضين المكذبين لكتبنا ورسلنا لكن لا يحصل تلك الدلائل والمدلولات الا لِأُولِي النُّهى اى لأصحاب العقول المنتهية من مقتضيات عقولهم الى الكشف والشهود
وَبالجملة لَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل في حق أمتك بدعائك لهم بارتفاع العذاب عنهم في دار الدنيا مثل المسخ والخسف والكسف وغير ذلك مما أهلكنا بها الأمم الماضية لَكانَ عذاب المنافقين من أمتك اليوم لِزاماً حتما مقضيا لازما مبرما محكما لظهور أسبابه وصدورها منهم وَ(1/524)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
لكن قد قدر لهم أَجَلٌ مُسَمًّى وهو يوم الجزاء
فَاصْبِرْ يا أكمل الرسل عَلى ما يَقُولُونَ الى حلول الأجل المسمى ولا تضيق صدرك من قولهم هذا انك لا تقدر على إتيان العذاب حسب دعواك ومناك لذلك تخوفنا بالقيمة الموهومة فلو كنت أنت رسولا كسائر الرسل لفعلت بنا ما فعلوا باممهم ومتى سمعت منهم يا أكمل الرسل أقوالهم الخشنة اعرض عنهم ولا تلتفت إليهم ولا تشتغل الى معارضتهم ومجادلتهم بل انصرف عنهم ودعهم وَسَبِّحْ نزه ربك عما يقولون وعما ينكرون قدرتنا على إتيان يوم الجزاء تسبيحا مقرونا بِحَمْدِ رَبِّكَ شكرا لآلائه ونعمائه الواصلة إليك وداوم عليه قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بعد انتباهك عن مقام غفلتك وقبل اشتغالك في امور معاشك وَقَبْلَ غُرُوبِها ايضا بعد فراغك عن كسب المعاش وقبل استراحتك في المنام وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ المعد للاستراحة ان أيقظت فيها فَسَبِّحْ وَسبح ايضا أَطْرافَ النَّهارِ إذا فرغت عن الاشتغال لَعَلَّكَ تَرْضى أنت عن الله في عموم الأوقات ويرضى الله عنك فيها
وَعليك الاعتزال عن أبناء الدنيا وعدم الالتفات الى لذاتهم بمتاعها ومزخرفاتها بحيث لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ يا أكمل الرسل حال كونك متحسرا متمنيا إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ المشركين والمنافقين أَزْواجاً أصنافا من كل شيء إذ من أعطينا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا اى زينتها وزخرفها انما أعطيناهم لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ اى نجربهم ونختبرهم كيف يعيشون بوجودها في الدنيا هل يتكبرون ويفتخرون بسببها على الفقراء ويمشون على الأرض على وجه الخيلاء أم لا وَبعد ما قد نهيناك يا أكمل الرسل عن الالتفات الى متاع الدنيا ومزخرفاتها استرزق عنا عما في خزائننا من المكاشفات والمشاهدات الباقية الصافية بدل تلك اللذات الفانية المكدرة إذ رِزْقُ رَبِّكَ الذي قد رزقك بها لتكون لك الكشف والشهود والتمكن في المقام المحمود خَيْرٌ لك من مزخرفات الدنيا ومموهاتها لأنها فانية زائلة لا ثبات لها وَهو أَبْقى لبقائه مع استعدادك الى ما شاء الله
وَمتى رزقت تفضلا من ربك وإحسانا عليك فعليك ان تأمر من يلازمك ويوانسك من اهل الطلب بالميل الى ما رزق الله لك ليكون لهم ايضا نصيب مما قد تفضل الله به عليك من الرزق المعنوي لذلك قد امرناك بقولنا أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ والميل الشاغل جميع قواهم وآلاتهم عن التوجه الى غيرنا لتكون أنت منبها لهم على ما في استعداداتهم وقابلياتهم الفطرية وَاصْطَبِرْ عَلَيْها وتحمل على متاعب تبليغها إياهم ولا تقصر خوفا من انتقاصك من رزقك إذ لا نَسْئَلُكَ لأجلهم منك رِزْقاً حتى ترزقهم بل نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم ايضا حسب استعدادك واستعدادهم من مقام جودنا وافضالنا من غير ان ينقص من خزائن كرمنا ونعمنا شيء وايضا نبههم على العواقب الحميدة المترتبة على الصلاة وحذرهم عن الشواغل العائقة عنها وَقل لهم الْعاقِبَةُ الحميدة لِلتَّقْوى اى للمتصفين بالتقوى الحافظين نفوسهم عن متابعة الهوى الراضين عن الله بعموم ما يرضى لهم وبأمرهم المجتنبين عما لا يرضى سبحانه منه ثم لما سمع الكفار بكمالاتك سيما كشفك وشهودك ورزقك المعنوي الحقيقي الأوفى من عند ربك وارشادك على من آمن بك وصدقك أصروا على إنكارك وتكذيبك
وَقالُوا لَوْلا وهلا يَأْتِينا هذا المدعى الكشف والشهود بِآيَةٍ مقترحة مِنْ رَبِّهِ حتى نصدقه ونقر برسالته قل لهم يا أكمل الرسل أَينكرون إتيان الآيات المقترحة على الأمم الماضية وَلَمْ تَأْتِهِمْ في هذا الكتاب المعجز المذكر لهم بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى والكتب الكبرى السالفة من إتيان الآيات المقترحة على(1/525)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
الأنبياء الماضين ومع ذلك لم تؤمن بهم أممهم بل قد كذبوهم وأصروا على ما هم عليه من الكفر والضلال فهؤلاء ايضا أمثالهم لم يؤمنوا بك بعد إتيان مقترحاتهم ايضا
وَقل لهم يا أكمل الرسل ايضا قولنا هذا نيابة عنا لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ نازل من عندنا لاصرارهم وعنادهم مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل ارسالك إليهم لَقالُوا البتة حين نزول العذاب عليهم كما قالت تلك الأمم الهالكة عند نزوله رَبَّنا لَوْلا وهلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا من عندك مصحوبا بالآيات البينات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ الدالة على وحدة ذاتك حينئذ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بهذا الإذلال وَنَخْزى بهذا الخزي والوبال وان عاندوا معك يا أكمل الرسل سيما بعد سماع هذه الدلائل الواضحة والبينات اللائحة اعرض عنهم وعن مكالمتهم ومناصحتهم
وقُلْ لهم كلاما يشعر باليأس عن ايمانهم وإصلاحهم وصلاحهم كُلٌّ منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ منتظر لهلاك الآخر بسبب الشقاوة والاعراض عن الحق فَتَرَبَّصُوا وانتظروا أنتم لهلاكنا بشقاوتنا على زعمكم فنحن منتظرون ايضا بمقتضى زعمنا بهلاككم بشرككم وكفركم وإذا كشف الغطاء وقامت الطامة الكبرى وظهر يوم العرض والجزاء فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ المستقيم المعتدل الغير المعوج ومن المتلون والمتمكن عليه أنحن أم أنتم وَمَنِ اهْتَدى منا من تيه الضلال الى فضاء القرب والوصال
خاتمة سورة طه
عليك ايها المحمدي الطالب بسلوك طريق الحق بالاستقامة التامة والتثبت عليه بلا اعوجاج وتزلزل لتهتدى بسلوكه الى زلال الوحدة الذاتية هي ينبوع بحر الوجود ومنشأ عموم الموجود ان تقتفى اثر نبيك صلّى الله عليه وسلّم في جميع أفعاله واعماله وتتخلق بعموم أخلاقه وأوصافه حسب ما أمكنك وقدر ما يسر لك ولا تهمل دقيقة من دقائق الشرع الشريف المصطفى بل لك ان تتبع به صلّى الله عليه وسلّم في عموم ما جاء به من قبل ربه وانشأه من عند نفسه بلا تفحص وتفتيش عن حكمه وسرائره حتى ينكشف لك بعد الوصول الى مرتبتك التي قد كلفك الحق إليها وجبلك لأجلها وبعد العروج الى معراجك الذي قد عين لك الحق في حضرة علمه المحيط احسب استعدادك الفطري وقابليتك الجبلية فح قد ظهر لك سرائر ما أوصاك به نبيك صلّى الله عليه وسلّم ورمز اليه وصرت حينئذ من اهل المعرفة والإيقان ان شاء ربك ووفقك عليه وفقنا يا ربنا بفضلك وجودك الى معارج عنايتك ومقر توحيدك يا ذا الجود العظيم
[سورة الأنبياء عليهم السّلام]
فاتحة سورة الأنبياء عليهم السّلام
لا يخفى على المتمكنين في مقر التوحيد الواصلين الى مرتبة الفناء في الوحدة الذاتية ان سر الهبوطات والتنزلات المنتشئة من وحدة الذات حسب اقتضاء الأسماء والصفات الإلهية انما هو لاكتساب المعارف والحقائق والاتصاف بالكمالات اللائقة ليحصل لهم الترقي والتدرج متصاعدين الى ما منه البداية واليه النهاية فلا بد في النشأة الاخرى من انتقاد ما حصل في النشأة الاولى ليعود كل من المكلفين الى مبدأه على الوجه الذي بدأ منه لذلك وضع سبحانه يوم العرض والجزاء لانتقاد اعمال عموم عباده على تفاوت طبقاتهم ودرجاتهم فيها وقد وضع ايضا لهذه الحكمة المتقنة جميع ما وضع في يوم الجزاء من العرض والحساب والصراط والميزان وكذا صحف الأعمال ومنازل الجنة والنار وغيرها(1/526)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
حتى يتحقق كل من المكلفين بمقتضى ما اكتسب من الجزاء على مقتضى العدل الإلهي والقسط الحقيقي الذي هو صراطه الأقوم ثم لما كان كثير من المنهمكين في الغفلة والضلال منكرين عليها مكذبين لها انزل سبحانه هذه الصورة على حبيبه تبشيرا ووعدا للمؤمنين الموقنين وتهديدا ووعيدا للمنافقين المكذبين على الأنبياء المذكورين فيها فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر في النشأة الاولى والاخرى على العدل التقويم الرَّحْمنِ لعموم عباده بالدعوة الى دار السّلام وجنة النعيم الرَّحِيمِ لخواصهم بالفوز الى شرف اللقاء وانواع التعظيم والتكريم
[الآيات]
قد اقْتَرَبَ ودنا وقرب لِلنَّاسِ الناسين عهود ربهم التي عهدوا بها معه سبحانه في مبدأ فطرتهم الاصلية من حمل امانة العبودية المشتملة على انواع المعارف والحقائق وقبول أعباء الايمان والتوحيد ومشاق الأعمال ومتاعب التكاليف المقربة اليه حِسابُهُمْ اى قد قرب وقت حسابهم وانتقاد أفعالهم وأعمالهم الصالحة المقبولة عند ربهم وامتيازها من الفاسدة المردودة دونه سبحانه وَهُمْ بعد مغمورون مستغرقون فِي غَفْلَةٍ عن ربهم وعن حسابه إياهم بل أكثرهم مُعْرِضُونَ عنه بحيث لا يلتفتون نحوه أصلا بل ينكرون وجوده فكيف حسابه وعذابه لذلك
ما يَأْتِيهِمْ وينزل عليهم مِنْ ذِكْرٍ وعظة حتى ينبههم عن سنة الغفلة ويوقظهم عن رقدة النسيان صادر مِنْ رَبِّهِمْ بوحي مُحْدَثٍ مجدد حسب تجددات البواعث والدواعي الموجبة للانزال بمقتضى الأزمان والأعصار: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ اى الذكر المحدث وَهُمْ حين استماعه من غاية عمههم وسكرتهم يَلْعَبُونَ به ويستهزؤن بمن انزل اليه حال كونهم
لاهِيَةً نفوسهم ذاهلة قُلُوبُهُمْ عن التأمل فيه والتفكر في معناه والتدرب في رموزه وإشاراته وَهم وان اغفلوا نفوسهم وقلوبهم عنه لفرط عتوهم واستكبارهم لكن قد تفطنوا بحقيته من كمال اعجازه ومتانته لكونهم من ارباب اللسن والفصاحة واصحاب الزكاء والفطنة لكنهم قد أَسَرُّوا النَّجْوَى وبالغوا في إخفاء ما تناجوا في نفوسهم من حقية القرآن واعجازه وبالجملة هم الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بارتكاب الكفر والمعاصي وانواع الفساد والضلال عنادا ومكابرة ومع ذلك قد قصدوا ايضا اختلال ضعفاء الأنام حيث قالوا لهم على وجه الإنكار تغريرا هَلْ هذا اى ما هذا الشخص الحقير الذي قد ادعى الرسالة والنبوة والوحى والإنزال إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وهو من بنى نوعكم لا مزية له عليكم والرسول المرسل من جانب السماء لا يكون الا ملكا أَتميلون ايها العقلاء المتحيرون نحوه وتزعمونه صادقا بواسطة خوارق صدرت عنه على سبيل السحر والشعبذة مدعيا انه معجز مع انه ليس كذلك فَتَأْتُونَ تقبلون وتحضرون السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ آلاته وأدواته وتعلمون عيانا انه سحر مفترى هل تصدقونه أم لا وهذا تسجيل وتنصيص منهم على كذب الرسول على زعمهم واغرار وتضليل منهم على ضعفاء الأنام وحث لهم على تكذيبه وانكار ما اتى به
قالَ يا أكمل الرسول في جوابهم والرد عليهم رَبِّي الذي رباني بأنواع الكرامات والمعجزات يَعْلَمُ الْقَوْلَ اى جنس الأقوال والأفعال والأحوال الكائنة فِي السَّماءِ في عالم الأرواح وَالْأَرْضِ في عالم الطبيعة والأشباح وَكيف لا يعلم مع انه لا يعزب عن علمه شيء إذ هُوَ السَّمِيعُ المقصور على السمع بحيث لا سميع سواه الْعَلِيمُ المستقل بالعلم لا عالم الا هو ثم اعرضوا وانصرفوا عن قولهم بسحرية القرآن لاشتماله على البلاغة والمتانة وانواع الخواص والمزايا الفاضلة الممدوحة عندهم الى ما هو الأدنى والأنزل منه
بَلْ قالُوا على سبيل الإضراب ما هو الا أَضْغاثُ أَحْلامٍ اى من تخليطات(1/527)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
القوة المتخيلة تمويهاتها التي رآها في المنام ثم سطرها وسماها كلاما نازلا من السماء موحى اليه من عند الله بَلِ افْتَراهُ واختلقه واخترعه من تلقاء نفسه ونسبه الى الوحى ترويجا له بلا رؤية في المنام بَلْ هُوَ شاعِرٌ فصيح بل قد تكلم بكلام كاذب مخيل نظمه على وجه يعجب الأسماع وبالجملة ما هو نبي وليس كلامه الذي قد اتى به معجزا ووحيا نازلا من الله كما ادعاه مثل كلام سائر الرسل والا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ مقترحة او غيرها تلجئنا الى تصديقه والايمان به كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ اى مثل ما أرسل بها سائر الأنبياء الماضون كالعصا واليد البيضاء وإبراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى وغير ذلك من الآيات الواقعة من الرسل الماضين ثم لما تقاولوا بما تقاولوا واهتم بل اغتم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان لا ينزل عليه
مثل ما انزل على أولئك الرسل نزلت ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ لرسلنا الذين جاءوا بالآيات المقترحة مِنْ قَرْيَةٍ اى أهلها من القرى التي أرسلوا إليهم لذلك أَهْلَكْناها واستأصلناها ولو تأتى أنت بمقترحاتهم جميعا لما آمنوا لك يا أكمل الرسل مثل ما لم يؤمنوا لهم أَتزعم أنت يا أكمل الرسل انهم لو أتيت لهم عموم ما اقترحوا فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بك كلا وحاشا انهم من شدة شكيمتهم معك وغلظ حجبهم وشدة قسوتهم وشقاقهم بالنسبة إليك لا يؤمنون بك أصلا غاية ما في الأمر انه لو أتيت أنت إياهم بمقترحهم لم يقبلوا منك ايضا البتة ولم يؤمنوا لك فاستحقوا الهلاك والاستئصال حينئذ وقد مضى أمرنا ونفذ حكمنا على ان لا نستأصل قومك ولا نعذبهم في النشأة الاولى لذلك لم ينزل عليك جميع ما اقترحوا منك
وَأنكروا رسالتك يا أكمل الرسل معللين بانك بشر مثلهم والبشر لا يكون رسولا الى البشر قل لهم نيابة عنا ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ رسولا على امة من الأمم الماضية إِلَّا قد أرسلناهم رِجالًا منهم متناهيين كاملين في الرجولية والعقل بالغين نهاية الرشد والتكميل نُوحِي إِلَيْهِمْ مثل ما أوحينا إليك ليرشدوا الناس الى ديننا وتوحيدنا ويوقظوهم من منام الغفلة ويهدوهم الى الصلاح والفوز بالفلاح وان أنكروا هذا قل لهم فَسْئَلُوا ايها المنكرون أَهْلَ الذِّكْرِ اى العلم والخبرة من أحباركم وقسيسيكم من المشتغلين بحفظ التورية والإنجيل وسائر الكتب الإلهية إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ايها الجاهلون المكابرون
وَان أنكروا رسالتك معللين بانك تأكل وتشرب مثلهم والرسول لا بد ان لا يأكل ولا يشرب مثل سائر الناس قل لهم ايضا نيابة عنا ما جَعَلْناهُمْ ما صيرناهم اى الرسل الماضين جَسَداً اى اجراما وأجساما لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ بدل ما يتحلل من اجزائهم ولا يشربون الشراب المحلل لغذائهم إذ هم أجسام ممكنة محدثة مفتقرة الى التغذي قابلة للنمو والذبول مشرفة الى الفناء والانهدام مثل سائر أجسام الأنام وَما كانُوا خالِدِينَ دائمين مستمرين ابدا بلا ورود موت عليهم وبلا تحليل تراكيبهم بل هم هلكى في قبضة قدرتنا وجنب وجودنا وحياتنا مثل سائر الهالكين
ثُمَّ بعد ما كذبهم المكذبون المنكرون صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ واوفينا لهم الموعود الذي قد وعدناهم من إهلاك عدوهم وانجائهم من بينهم سالمين فَأَنْجَيْناهُمْ على الوجه الذي عهدنا معهم العهود وَمَنْ نَشاءُ من اتباعهم الذين قد سبقت رحمتنا عليهم في حضرة علمنا وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ المصرين على البغي والعناد المنهمكين في الجور والفساد.
ثم قال سبحانه لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا معشر قريش كِتاباً جامعا لما في الكتب السالفة مع انه قد ذكر فِيهِ ذِكْرُكُمْ وشرفكم ونجابة عرقكم وطينتكم وكمال دينكم ونبيكم وظهوره على الأديان كلها أَفَلا تَعْقِلُونَ وتستعملون عقولكم بما فيه(1/528)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
فتدركون مزية كتابكم ورسولكم على سائر الكتب والرسل وشرف دينكم على عموم الأديان وبالجملة لا تبالوا ايها المترفون والمسرفون بترفهكم وتنعمكم ولا تغتروا بامهالنا إياكم ولا تأمنوا عن مكرنا معكم وحول عذابنا ونكالنا عليكم
وَاعلموا انا كَمْ قَصَمْنا وكثيرا مِنْ اهل قَرْيَةٍ قد قهرنا عليهم وكسرنا ظهورهم وبعدناهم عن أماكنهم التي هم يترفهون فيها بطرين لأنها قد كانَتْ ظالِمَةً خارجة أهلها عن مقتضى الأوامر والنواهي المنزلة منا على رسلنا أمثالكم وَبعد ما أخرجناها وأهلكناها قد أَنْشَأْنا بَعْدَها وبدلنا أهلها قَوْماً آخَرِينَ منقادين لحكمنا مطيعين لأمرنا
فَلَمَّا أَحَسُّوا وأدركوا بَأْسَنا بعد تعلق ارادتنا بانتقامهم ورأوا مقدمات عذابنا وبطشنا إِذا هُمْ مع شدة شكيمتهم ووفور قوتهم وقدرتهم مِنْها اى من قراهم وأماكنهم يَرْكُضُونَ ويهربون سريعا ركض الخيل من الأسد
ثم قيل لهم حينئذ على سبيل التهكم والاستهزاء لا تَرْكُضُوا ولا تهربوا ولا تعدوا ايها المترفهون المتنعمون البطرون الى اين تمشون عن متنزهاتكم وَارْجِعُوا إِلى ما اى الى أوطانكم وقراكم التي قد أُتْرِفْتُمْ ومتعتم فِيهِ وَاسكنوا في مَساكِنِكُمْ التي قد تمكنتم فيها طول دهركم لم تتركونها وتخرجون عنها لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ عن سبب الخروج والجلاء منها ما تجاوبونه ايها الهاربون ثم لما ضاقت عليهم انواع العذاب ولحقت بهم وأدركتهم ولم ينفعهم الفرار والتحرز
قالُوا متأسفين متحسرين يا وَيْلَنا وهلاكنا تعال تعال إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ متجاوزين خارجين عن مقتضى العدل الإلهي لذلك قد لحقنا ما لحقنا
فَما زالَتْ تِلْكَ الكلمة المذكورة يعنى يا ويلنا انا كنا ظالمين دَعْواهُمْ دعاءهم ونداءهم جارية على ألسنتهم على وجه الخضوع والتذلل التام والانكسار المفرط إذ هم قد قصدوا بها النجاة والخلاص مع انهم قد اعترفوا بذنوبهم في ضمنها وندموا عن عموم ما فعلوا بتكرارها ومع هذا لم ينفعهم ذلك لمضى وقت التوبة والندامة وفوات زمان التدارك والتلافي وبالجملة قد أخذناهم حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ اى صارت أجسامهم مثل المحصود الخامد من النبات كأنها ما شمت رائحة من الحيوة في وقت من الأوقات
وَكيف لا نأخذهم بظلمهم ولا نجعلهم محصودين خامدين جامدين إذ ما خَلَقْنَا السَّماءَ المزينة بزينة الكواكب كل منها معد مقدر لأمور لا يعرف تعديدها واحصاءها غيرنا وَايضا قد خلقنا الْأَرْضَ المزينة بزينة المعادن والنبات والحيوان والأشجار والأنهار وانواع الفواكه والأثمار كل منها مشتمل على حكم ومصالح لا يفصلها الا حضرة علمنا المحيط وَما يحصل بَيْنَهُما من امتزاج آثارهما وافعالهما من الغرائب التي تدهش منها العقول وتكل في وصفها الالسنة وانحسرت الصدور لاعِبِينَ عابثين اى ما جعلناهما وما بينهما وما امتزج منهما عبثا باطلا بلا طائل وبلا سرائر اودعنا فيهما وبدائع اضمرنا في خلقهما وظهورهما إذ الحكيم المتقن لا يفعل فعلا الا وقد أودع فيه من الحكم والمصالح ما لا يعد ولا يحصى فكيف يليق بجنابنا وينبغي بشأننا اتصاف أفعالنا المتقنة وآثارنا المحكمة باللهو واللعب وتدبيراتنا بالعبث الخالي عن الحكمة والمصلحة
مع انا لَوْ أَرَدْنا اى فرضنا وقدرنا ما استحال علينا وبشأننا وهو أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً ولعبا باطلا خاليا عن الفائدة مخلا لكمال عزتنا وحكمتنا وعلو شأننا وعظمتنا لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا اى من قبلنا ومن جملة أفعالنا وآثارنا الصادرة عن قدرتنا الكاملة وارادتنا الخالصة كلا وحاشا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ وما كنا مرتكبين العبث الخالي عن الفائدة سيما مع كمال قدرتنا ووفور علمنا على انواع الحكم(1/529)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
والمصالح في كل
لعل بَلْ نحن نَقْذِفُ بل اللائق المستحسن بنا المناسب بعلو شاننا ان نمحو ونبطل بِالْحَقِّ الذي هو شمس وجودنا ولمعات آثار فضلنا وجودنا ونسلطه عَلَى الْباطِلِ الذي هو الظل النابغ الآفل والعدم العاطل الزائغ الزائل الذي هو عبارة عن اظلال العالم وعن اغيار العكوس والسوى فَيَدْمَغُهُ اى يمحق الحق الباطل ويزهقه ويسقط عنه اسم الوجود المستعار ويلحقه الى ما هو عليه من العدم بلا عبرة واعتبار ليظهر عند المعتبر العارف ما ان هذه الحيوة الدنيا الا لهو ولعب وان الآخرة هي دار القرار فاعتبروا يا اولى الأبصار وكيف لا يمحقه ولا يلحقه بالعدم فَإِذا هُوَ اى الباطل في نفسه وفي حد ذاته زاهِقٌ هالك زائغ زائل ما شم رائحة من الوجود قط وَبالجملة اللائق لَكُمُ الْوَيْلُ والهلك وأنتم مستحقون له ايها الواصفون الجاهلون بقدر الله وبقدر حقيته مِمَّا تَصِفُونَ ذاته به من الأمور التي لا تليق بجنابه من ارتكاب العبث واسناد اللهو واللعب بذاته تعالى واشراك هذه الاظلال الهالكة والتماثيل الباطلة معه في الوجود تعالى عن ذلك علوا كبيرا
وَكيف تشركون ايها المشركون معه اظلاله وعبيده إذ لَهُ تعالى لا لغيره من العكوس والاظلال إيجادا وابداعا ملكا وتصرفا عموم مَنْ فِي السَّماواتِ اى عالم الأرواح المجردة عن الأبدان وَكذا عموم من في الْأَرْضِ من الأرواح المتعلقة بها وَكذا عموم مَنْ عِنْدَهُ سبحانه من الأرواح التي لا نزول لها ولا عروج كل من هؤلاء المذكورين متذللون عنده خاضعون خاشعون لديه سبحانه بحيث لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وأطاعته ساعة وَلا يَسْتَحْسِرُونَ اى لا يفترون ولا يضعفون عن إقامتها وإتيانها طرفة
بل هم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وينزهون الله في عموم الأوقات والحالات عما لا يليق بشأنه بحيث لا يَفْتُرُونَ ولا يظهرون الضعف والعناء بحال بل قد أقاموها وواظبوا عليها طائعين متذللين خاشعين خاضعين وكيف لا يعبدون الله ولا يسبحونه وهم موحدون مخلصون لا المشركون المعاندون الذين قد اتخذوا آلهة من السماء كعبدة الكواكب
أَمِ اتَّخَذُوا بل قد أخذوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هو افحش من ذلك كعبدة الأوثان والأصنام قد اتخذوها آلهة وعبدوا لها كعبادة الله وادعوا ضمنا ان آلهتهم التي قد نحتوها بأيديهم او صاغوها من حليهم هُمْ يُنْشِرُونَ اى يخرجون الموتى من قبورهم إذ هم قد سموها آلهة وعبدوها كعبادة الله والا له لا بد وان يقدر على عموم المقدورات والمرادات ومن جملتها البعث والنشر بل من أجلها فلا بد لهم ان ينشروا
فكيف يثبتون أولئك المشركون تعدد الآلهة مع انه لَوْ كانَ فِيهِما اى في السماء والأرض آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ اى غير الله الواحد القهار للاغيار مطلقا لَفَسَدَتا واختل نظامهما ولم تبقيا على الهيئات المخصوصة المشاهدة البتة إذ المفهوم من الا له هو المستقل بالتصرف في الآثار بالإرادة والاختيار فكل من الآلهة المتعددة لا بدان تكون متصفة بجميع أوصاف الألوهية بالاستقلال فلا يمكنهم الاتفاق على امر من الأمور فَسُبْحانَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الألوهية والربوبية بلا شريك له في الملك بل في الوجود والتحقق رَبِّ الْعَرْشِ اى عروش عموم المظاهر المستوي عليها بالاستيلاء التام إذ لا ظهور لها الا منه سبحانه عَمَّا يَصِفُونَ من اتخاذ الولد والشريك والصاحبة والنظير ولتوحده في الوجود واستقلاله في التصرف
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه وَهُمْ اى الشركاء الباطلة يُسْئَلُونَ عما صدر عنهم فكيف تليق بهم الألوهية والشركة معه سبحانه تعالى شأنه عما يصفه الواصفون(1/530)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
وجل جلال قدسه عما نسب اليه الملحدون الجاحدون المكابرون المعاندون ومع علو شأنه عما يصفونه سبحانه ووضوح برهانه وظهور وحدة ذاته واستقلاله في ألوهيته وربوبيته قد ترددوا فيها وفي توحيده
أَمِ اتَّخَذُوا بل قد أخذوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً شركاء له سبحانه لا واحدا بل متعددا وعبدوها كعبادته سبحانه ظلما وزورا جهلا وعنادا قُلْ يا أكمل الرسل إلزاما لهم وتبكيتا هاتُوا ايها المشركون المثبتون لله الواحد الأحد الفرد الصمد شريكا بُرْهانَكُمْ على وجود آلهة سواه سبحانه عقلا او نقلا ان كنتم من ذوى الألباب ومن اهل العقل والرشد وبالجملة لا سبيل الى الدليل العقلي إذ برهان التمانع قد قطع عرق الشركة بالمرة ولا الى النقلى ايضا إذ جميع الكتب والصحف الإلهية متطابقة في توحيد الحق ونفى الشركة عنه سبحانه قطعا إذ هذا الكتاب الجامع لجميع ما في الكتب السالفة المنزل على ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ اى عظة وتذكير يذكر من معى من المؤمنين من أصحابي وَكذا هو ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من امم الأنبياء الماضين لو صدقوه وقبلوا ما فيه لموافقة ما فيه بعموم ما في كتبهم وصحفهم لكنهم لا يصدقون عنادا حتى يهديهم الى الحق بَلْ أَكْثَرُهُمْ جاهلون لا يَعْلَمُونَ ولا يعرفون الْحَقَّ الصريح الظاهر في الآفاق بلا سترة وحجاب بل فَهُمْ لغلظ حجبهم وكثافة غشاوتهم مُعْرِضُونَ عن الحق منكرون له وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فماله من نور.
ثم قال سبحانه كلاما جمليا مثبتا للتوحيد خاليا عن سمة التقليد مطلقا وَما أَرْسَلْنا من مقام جودنا وفضلنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل مِنْ رَسُولٍ من الرسل الماضين إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أولا أَنَّهُ لا إِلهَ يعبد بالحق ويستحق للعبادة والإطاعة إِلَّا أَنَا المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بكمال الجلال ودوام البقاء فَاعْبُدُونِ ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الباطلة وتذللوا نحوي خاضعين خاشعين إذ لا مرجع لكم غيرى وان ادعوا الشركة
وَقالُوا مستدلين عليها نحن نجد في التورية والإنجيل انه قد اتَّخَذَ الرَّحْمنُ الملائكة وعزيرا وعيسى وَلَداً والولد شريك لأبيه في فعله إذ هو سره وثمرته سُبْحانَهُ وتعالى عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة بَلْ هم عِبادٌ مُكْرَمُونَ عنده محبوبون لديه
لذلك لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ اى لا يبادرون الى القول قبل قوله سبحانه ولا يبدلون ولا يغيرون قوله وحكمه كما هو دأب العبيد مع المولى وَكيف يسبقونه بالقول قبل قوله سبحانه وحكمه هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ جميع ما عملوا من خير وشر والمأمور المجبور لا يكون شريكا للآمر الجابر القادر القاهر وكيف لا يعملون بامره سبحانه
إذ هو يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما هو حاضر عندهم معلوم لديه من أحوالهم وأفعالهم وَكذا ما خَلْفَهُمْ وما هو غائب عنهم ومجهول لهم وَان خرجوا عن مقتضى امر سبحانه لا يَشْفَعُونَ ولا يقبل شفاعتهم إذ لا يشفع لهم عند الله بعد ما خرجوا عن مقتضى حكمه إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى سبحانه ورضى بشفاعة من يشفع لهم واذن وَكيف يشفع عنده سبحانه بغير اذنه ورضاه إذ هُمْ اى الشفعاء مِنْ كمال خَشْيَتِهِ سبحانه ومن غاية سطوته وهيبته وقهره مُشْفِقُونَ خائفون مرعوبون وجلون
وَمتى كان حال الشفعاء وخشيتهم على هذا المنوال مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مستحق للعبادة مستقل في الألوهية مِنْ دُونِهِ سبحانه فَذلِكَ اى بمجرى قولهم هذا وان كان غير مطابق لاعتقادهم نَجْزِيهِ ونصليه جَهَنَّمَ البعد والحرمان ونيران الخيبة والخسران كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الخارجين عن(1/531)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
مقتضى توحيدنا المسيئين الأدب معنا
أَينكرون وحدتنا ويثبتون لنا شريكا من مصنوعاتنا وينسبون بنا ولدا ظلما وزورا وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا بنا بأمثال هذه الخرافات الباطلة ولم يعلموا كمال قدرتنا أَنَّ السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات وَالْأَرْضَ اى عالم الطبيعة والعكوس والاظلال قد كانَتا رَتْقاً اى كان كل منهما مرتقا متضمما بلا تعدد وتكثر اما الأسماء والصفات فمندمجة مندرجة في الذات بلا هبوط وتنزل وظهور اثر واما الطبيعة العدمية قد كانت ساكنة في زاوية العدم بلا امتداد ظل الوجود عليها فَفَتَقْناهُما بالتجليات الحبية المنتشئة من الأسماء الذاتية والصفات الكمالية الفعلية المقتضية للظهور والانجلاء لحكم ومصالح قد استأثرنا بها وبالقبول والتأثر من اشعة التجليات وَان أردتم ان تنكشف لكم كيفية انتشاء الأشياء الكثيرة من الذات الواحدة المتصفة بالصفات والأسماء المتماثلة والمتقابلة فانظروا كيف جَعَلْنا مِنَ الْماءِ الواحد بالذات المشتمل على الأوصاف الكثيرة المندمجة فيه المنتشئة عنه بحسب الآثار والعكوس والاظلال الصادرة منه كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ إذ قد خلقنا وصيرنا كل شيء له احساس وتغذية وتنمية وازدياد وانتقاص من الماء خصه سبحانه بالذكر من بين العناصر إذ هو أقوى اسباب التبدلات والتشكلات واقبل الى قبول التصرفات والامتزاجات أَفَلا يُؤْمِنُونَ ويصدقون بهذا مع انه من اجلى البديهيات واظهر المحسوسات. ثم أخذ سبحانه في تعداد نعمه على خلص عباده امتنانا عليهم وتنبيها لهم كي يتفطنوا منها بوحدة ذاته وكمال قدرته وبسطته
فقال وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ التي هي الكرة الحقيقية المائلة بالطبع الى التدور والانقلاب رَواسِيَ شاخت مخافة أَنْ تَمِيدَ تتحرك وتضطرب وتضر بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها اى في تلك الرواسي فِجاجاً شقوقا واودية لتكون سُبُلًا ومسالك متسعة وطرقا واسعة عناية منا إياهم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ من تلك الطرق الى ما يرومون من الأماكن البعيدة والبلدان النائية فيتجرون ويتبعون منها مطالبهم ومصالحهم
وَايضا قد جَعَلْنَا السَّماءَ المرفوع فوقهم سَقْفاً مَحْفُوظاً لهم فيها اوقات مزارعهم ومتاجرهم وسائر مصالحهم في البر والبحر إذ هي من أقوى اسباب معاشهم وَهُمْ عَنْ آياتِها الدالة على وحدة مبدعها وكمال قدرة مخترعها وموجدها مُعْرِضُونَ منصرفون منكرون لا يتفكرون فيها كي تصلوا الى زلال توحيدنا والى كمال قدرتنا وارادتنا
وَكيف لا يتفكرون في خلق السموات ولا يتدبرون في الآيات الدالة على وحدة صانعها وبالجملة كيف ينكرون أولئك المنكرون المسرفون وجود موجدها مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي خَلَقَ وقدر لهم اللَّيْلَ سببا ووقتا لاستراحتهم ورقودهم وَالنَّهارَ لمعاشهم واكتسابهم وَجعل الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ سببين لإنضاج ما يتقوتون ويتفكهون وكُلٌّ من الشمس والقمر وسائر السيارات فِي فَلَكٍ من الأفلاك السبعة يَسْبَحُونَ يدورون ويسيرون بسرعة تامة دائما بلا قرار ولا سكون كل ذلك انما هي لتدبير مصالحهم وإصلاح معايشهم وهم لا يعلمون ولا يشكرون.
ثم قال سبحانه وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ يعنى ان النصارى قد ادعوا خلود عيسى وبقاءه بلا طريان موت عليه دائما كما كان الآن وكذا ادعوا خلود جميع من لحق بالملائكة من البشر رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده حيث قال ما جعلنا وقدرنا لبشر من نوعك يا أكمل الرسل الخلد والبقاء السرمدي لا من الذين مضونا قبلك ولا من الذين يأتون بعدك إذ الكل بشر محدث مركب وكل مركب لا بد ان ينهدم امتزاجه وينحل اجزاؤه ومزاجه ولو كان فرد من افراد البشر(1/532)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
المحدث قديما لكنت يا أكمل الرسل البتة أَتزعم وتردد يا أكمل الرسل فَإِنْ مِتَّ وعدمت عن الدنيا فَهُمُ الذين ادعى الجاهلون بقاءهم هم الْخالِدُونَ المقصورون على الخلود فيها بلا لحوق عدم عليهم كلا وحاشا لا يكون الأمر كذلك
بل كُلُّ نَفْسٍ ذات أجزاء وتركيب خيرة كانت او شريرة طويلة مدة عمرها او قصيرة باقية في اهل الأرض او ملحقة بالملإ الأعلى ذائِقَةُ كأس الْمَوْتِ مدركة مرارته محتملة اهوال السكرات وافزاعها وبالجملة لا ينجو من الموت احد وان علت رتبته وارتفعت مكانته بل كلكم هلكى في وقت ظهوركم ووجودكم المستعار وَانما نَبْلُوكُمْ ونختبركم في وجودكم هذا وفي نشأتكم هذه بِالشَّرِّ الغير المرضى عندنا وَالْخَيْرِ المرضى ليكون ابتلاؤنا إياكم فِتْنَةً لكم واختبارا منا إياكم لحكم ومصالح لنا فيها وَبعد ما اختبرناكم وابتليناكم في النشأة الاولى إِلَيْنا لا الى غيرنا إذ لا غير في الوجود تُرْجَعُونَ في النشأة الاخرى رجوع الظل الى ذي الظل والعكوس الى ذي الصور فنجازيكم فيها ونعامل بكم بمقتضى اختبارنا وابتلائنا إياكم في النشأة الاولى. ثم قال سبحانه امتنانا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا حين اشتغالك بتلاوة القرآن او بتذكير الأصحاب وعظة اولى الباب المشمرين نحو الحق أذيال هممهم المستفيدين المسترشدين منك قصارى مقاصدهم التي هي التوحيد الإلهي إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وما يأخذونك حين التفاتهم نحوك إِلَّا هُزُواً اى محل استهزاء وسخرية قائلا حينئذ بعضهم لبعض مستحقرين لشأنك أَهذَا الرجل الحقير الفقير الملحق بالأراذل والضعفاء الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ بالسوء وينكر على شفعائكم ويسئ الأدب معهم مع غاية حقارته وضعفه ورثاثة حاله وَبالجملة هُمْ مع شدة عمههم وسكرتهم ونهاية غيهم وغفلتهم بِذِكْرِ الرَّحْمنِ المنزه عن شوب الشك وريب التردد هُمْ كافِرُونَ منكرون وجوده وتحققه مع كمال ظهوره واستحقاقه بالالوهية والربوبية بالأصالة بخلاف معبوداتهم الباطلة الزائغة إذ هم مقهورون تحت قدرته تعالى مجبورون جنب ارادته واختياره لا قدرة لهم من أنفسهم أصلا فهم بالاستهزاء أحق وبالاستهانة والسخرية اولى وأليق ثم لما استعجل المنهمكون في بحر الضلال والإنكار التائهون في تيه العتو والاستكبار نزول العذاب وقيام الساعة وكذا جميع الوعيدات الواردة فيها على سبيل الاستهزاء والتهكم رد الله عليهم انكارهم واستعجالهم بأبلغ وجه وآكده
فقال خُلِقَ الْإِنْسانُ اى هذا النوع من الحيوان مِنْ عَجَلٍ يعنى من غاية استعجاله بالخير والشر كأنه متخذ مصنوع منه قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا الى متى تستعجلون ايها المسرفون المغرورون سَأُرِيكُمْ عن قريب في هذه النشأة آياتِي اى بعضا من نقماتى التي هي من مقدمات عذاب الآخرة قيل هي وقعة بدر والمستعجلون هم القريش وسيأتى الساعة وعذابها بعد فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ايها الضالون المسرفون المفسدون
وَبعد ما سمعوا من الرسول وأصحابه ما سمعوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الموعود والوقت المعهود وعينوا لنا وقت حلول العذاب وقيام الساعة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم هذه.
ثم قال سبحانه تفظيعا لهم وتهويلا عليهم لَوْ يَعْلَمُ ويطلع الَّذِينَ كَفَرُوا كيفية ما استعجلوا من العذاب وكميته حِينَ لا يَكُفُّونَ اى حين قد نزل عليهم حتما ولا يمكنهم حينئذ ان يدفعوا لا عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ لأنهم محاطون بها مغمورون فيها بحيث لا يسع لهم دفعها لا بأنفسهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من الغير إذ كل نفس يومئذ رهينة بما(1/533)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
كسبت وبالجملة لو علموا هولها وفظاعتها لما استعجلوا لكنهم لا يعلمون لذلك استعجلوا اغترارا واستكبارا
بَلْ تَأْتِيهِمْ العذاب والساعة حين تأتيهم بَغْتَةً فجاءة ودفعة فَتَبْهَتُهُمْ اى تحيرهم وتدهشهم وقت ظهورها فصاروا حينئذ حيارى سكارى مدهوشين فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها إذ لا رد لقضاء الله ولا معقب لحكمه سيما بعد نزوله وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ويمهلون حينئذ ان استمهلوا
وَبالجملة لا تبال بهم يا أكمل الرسل ولا تحزن على استهزائهم وسخريتهم إذ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ كثيرين قد مضوا مِنْ قَبْلِكَ قد استهزئت بهم أممهم مثل ما استهزئت بك قريش فَحاقَ وأحاط بالآخرة بِالَّذِينَ اى بالمستهزئين الذين سَخِرُوا مِنْهُمْ اى من الرسل وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ويستسخرون وأضعاف ما لحق لأولئك المستهزئين الهالكين الماضين ستلحق لهؤلاء المعاندين المكابرين فلا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يستهزؤن وان أنكروا إتمام العذاب وانزاله عليه
م قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ويحفظكم بِاللَّيْلِ وقت فراغكم ومنامكم وَالنَّهارِ وقت شغلكم وترددكم مَنْ نزول عذاب الرَّحْمنِ القادر على انواع القهر والانتقام بمقتضى جلاله لو لم يرحم عليكم حسب لطفه وجماله لكن يرحم عليكم فلم يعذبكم رجاء ان تنبهوا وتواظبوا على شكر نعمه وأداء حقوق كرمه بَلْ هُمْ من شدة غفلتهم وسكرتهم عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ الذي يحفظهم عن انواع المكروهات والمؤذيات مُعْرِضُونَ بحيث لا يتوجهون نحوه ولا ملازمون عبادته ولا يداومون شكره أيزعمون أولئك المصرون المسرفون ان يدفعوا عذابنا النازل عليهم بقوة نفوسهم
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ اى تمنع عنهم العذاب مع انهم مِنْ دُونِنا بل شركاء لنا في الألوهية والربوبية كما زعموا او يشفعوا لهم عندنا كلا وحاشا ان يسع لآلهتهم هذا إذ لا يَسْتَطِيعُونَ أولئك التماثيل الهلكى نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ولا يقدرون لدفع ما لحقهم ونزل عليهم من المكروهات عنهم فكيف عن غيرهم وَلا هُمْ اى آلهتهم مِنَّا يُصْحَبُونَ ويقربون إلينا حتى يشفعوا لهم او يدفعوا عذابنا عنهم بواسطة قربتهم وصحبتهم معنا وان تخيلوا ان امهالنا إياهم وآباءهم متنعمين مترفهين طول اعمارهم امارة على عدم أخذنا إياهم وعدم انتقامنا عنهم فما هو الا خيال باطل ووهم زائل زائغ مما قد سولت لهم أنفسهم بتغرير إبليس عليهم وتزويره
بَلْ نحن قد مَتَّعْنا هؤُلاءِ المسرفين المعاندين وَآباءَهُمْ الضالين المستكبرين حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فارتكبوا بأنواع المعاصي والآثام مدة حياتهم فظنوا انهم مصونون عن الأخذ والانتقام ونزول العذاب أَيتوهمون من امهالنا إياهم هذا الموهوم فَلا يَرَوْنَ أَنَّا من مقام قهرنا وانتقامنا إياهم نَأْتِي الْأَرْضَ اى نبعث ونجلب جنود المسلمين على ارض الكفرة بحيث نَنْقُصُها ونخربها مبتدئين مِنْ أَطْرافِها الى ان وصل الى أدانيها وأقاصيها أَيزعمون ويتوهمون بعد ما أخذنا في تخريب أطراف بلادهم وتنقيصها فَهُمُ الْغالِبُونَ علينا وعلى جنودنا وجنود انبيائنا ورسلنا وما هو إلا زعم فاسد وتوهم باطل زائغ زائل فان ادعوا انا وآباؤنا دائما في كنف حفظ الله وجوار صونه مدة أعمارنا فمن اين تخوفنا وتنذرنا أنت من إنزال الله العذاب علينا بغتة مع انه لم يعهد لا لنا ولا لآبائنا منه تعالى أمثال هذا
قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم إِنَّما أُنْذِرُكُمْ وما أخوفكم انا من تلقاء نفسي بل بِالْوَحْيِ المنزل على من عند الله المشتمل على انذاركم وتخويفكم ثم قال سبحانه توبيخا عليهم وتقريعا وَكيف يرشدكم ويهديكم الرسول المرسل(1/534)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
إليكم المؤيد بالآيات والمعجزات وينذركم بالوعيدات الهائلة ايها المقصورون على الصم الحقيقي والاعراض الفطري الجبلي إذ لا يَسْمَعُ المرشد الهادي ولا يسع في وسعه وان بالغ في الإرشاد والهداية الصُّمُّ الدُّعاءَ والذكر المتضمن لانواع الهداية والإرشاد ولا يسع له اسماعهم إِذا ما يُنْذَرُونَ الا وقت قابليتهم والتفاتهم الى الإنذار والتخويف وأنتم ايها الحمقى من شدة صممكم وقسوتكم خارجون عن قابلية الإنذار والإرشاد والوعد والوعيد
وَالله يا أكمل الرسل لَئِنْ مَسَّتْهُمْ وظهرت عليهم نَفْحَةٌ واحدة ورائحة قليلة مِنْ عَذابِ رَبِّكَ نازلة على سبيل المقدمة والأنموذج لَيَقُولُنَّ صارخين صائحين متضرعين معترفين بذنوبهم قائلين يا وَيْلَنا وهلكنا تعال إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ خارجين عن حدود الله مستوجبين للمقت والهلاك أدركنا فقد حان حينك وقرب أوانك
وَبمجرد اعترافهم بظلمهم لا نأخذهم ولا نعذبهم حينئذ بل نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ العدل السوى المستقيم بحيث لا عوج والانحراف لها الى جانب أصلا المعدة لِيَوْمِ الْقِيامَةِ لنوزن بها فيها اعمال العباد صالحها وفاسدها ثم نجازيهم على مقتضى ما ظهر منها فَلا تُظْلَمُ ولا تنقص نَفْسٌ شَيْئاً من جزائها ولا تزاد عليها ايضا سواء كان خيرا او شرا ثوابا او اعقابا بمقتضى عدلنا القويم وصراطنا المستقيم وَإِنْ كانَ العمل او الظلم وزنه مِثْقالَ حَبَّةٍ كائنة مِنْ خَرْدَلٍ قد أَتَيْنا بِها مع انها لا اعتداد لها عرفا وجازينا صاحبها عليها تتميما لعدلنا القويم وتوفية لحقوق عبادنا وَكَفى بِنا حاسِبِينَ اى حسابنا لحفظ حقوق عبادنا إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمنا المحيط شيء منها وان قل وخفى.
ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير وَلَقَدْ آتَيْنا من مقام فضلنا وجودنا مُوسى الكليم وَأخاه هارُونَ الْفُرْقانَ اى التورية الفارق بين الحق والباطل وَلكمال فرقه وفصله صار ضِياءً يستضئ به عموم المؤمنين الموحدين من المليين التائهين في ظلمات الغفلات والجهالات وانواع الضلالات وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ منهم المتذكرين الوقوف بين يدي الله يوم العرض الأكبر
وهم الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ اى بضمائرهم وسرائرهم كما يخشون منه سبحانه بظواهرهم وعلنهم وَمع ذلك الخوف المستوعب لجوانحهم وجوارحهم هُمْ مِنَ السَّاعَةِ الموعود إتيانها المحقق وقوعها وقيامها حقا حتما محققا مُشْفِقُونَ خائفون مرعوبون كأنها واقعة آتية عليهم اليوم
وَهذا القرآن الفرقان الجامع ايضا ذِكْرٌ وتذكير لعموم المؤمنين الموحدين من امة محمد عليه السّلام مُبارَكٌ كثير الخير والبركة للموقنين المخلصين منهم الواصلين الى مرتبة الفناء في الله قد أَنْزَلْناهُ من كمال فضلنا ولطفنا الى محمد خاتم الرسالة ومتمم مكارم الأخلاق ومكمل دائرة النبوة عليه من الصلوات والتحيات ما هو الاولى والأحرى أَفَأَنْتُمْ لَهُ ولكاتبه مُنْكِرُونَ ايها المسرفون المستكبرون
وَلَقَدْ آتَيْنا أعطينا ايضا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ اى كمال عقله ورشده الى حيث أيقظنا من سنة الغفلة فأخذ لطلب المعارف والحقائق وسلوك طريق التوحيد والتوجه نحو الحق مِنْ قَبْلُ اى قبل موسى وهارون وَقد كُنَّا بِهِ وبكمال استعداده وقابليته لحمل أعباء الرسالة والنبوة وانكشافه بسرائر التوحيد عالِمِينَ بحضرة علمنا المحيط مثبتين في لوح قضائنا المحفوظ
اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ جدك ابراهيم الخليل الجليل لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ حين جذبه الحق نحو جنابه وهداه الى بابه مستفهما على سبيل الإنكار والتقريع(1/535)
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
ما هذِهِ التَّماثِيلُ الباطلة والهياكل الزائغة الزائلة الَّتِي أَنْتُمْ مع كونكم من زمرة العقلاء المجبولين لمصلحة التوحيد والعرفان لَها عاكِفُونَ عابدون متذللون مع انها ما هي الا جمادات لا شعور لها ولا حركة فكيف المعرفة واليقين وعبادة الفاضل للمفضول المرذول في غاية السقوط عند ذوى النهى واولى الباب
ثم لما تفرسوا منه الرشد التام ووجدوا قوله معقولا محكما قالُوا في جوابه ما نعرف نحن استحقاق هؤلاء التماثيل للعبادة والألوهية ولانكشف سرائرها غير انا قد وَجَدْنا آباءَنا وأسلافنا لَها عابِدِينَ فنعبدها كما عبدوها مع انهم قد كانوا من ذوى الفطنة والرشد فنعتقد نحن انهم قد انكشفوا باسرارها وبالجملة ما لنا شغلة باستكشافها سوى ان نعبد بما عبد أولئك الاسلاف الراشدون المهديون
قالَ ابراهيم بعد ما انكشف بالحق الصريح وظهر عنده ضلالهم وضلال آبائهم لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ ايها الحمقى المنهمكون في بحر الغفلة والغرور وَآباؤُكُمْ ايضا اى تابعكم ومتبوعكم وأصلكم وفرعكم متوغلين فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغفلة عظيمة من الهداية وسلوك طريق الحق ثم لما سمعوا منه ما سمعوا من التضليل والتجهيل
قالُوا له أَجِئْتَنا ايها المدعى بِالْحَقِّ اى بالجد الصريح والنص الواضح المبين أَمْ أَنْتَ في تضليلك وتجهيلك إيانا مِنَ اللَّاعِبِينَ بنا المستهزئين بنا
قالَ ابراهيم لا لعب ولا سخرية في امور الدين سيما في معرفة الألوهية والربوبية وبالجملة ما هذه التماثيل العاطلة أربابكم الذين قد اوجدوكم واظهروكم من كتم العدم بَلْ رَبُّكُمْ وموجدكم هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى موجد العلويات والسفليات ومربيهما واحد احد صمد فرد وتر لا تعدد له ولا اثنينية فيه متصرف بالاستقلال في ملكه وملكوته إذ هو الَّذِي فَطَرَهُنَّ وابدعهن باختياره وانفراده بلا سبق مادة ومدة وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ اى على الأمور التي قد بينت لكم واوضحتها عندكم مِنَ الشَّاهِدِينَ اى من ارباب الشهادة المتحققين بمرتبة الكشف واليقين الحقي لا من اصحاب التقليد والتخمين
وَبعد ما جرى بينه وبينهم ما جرى سفهوه واستهزؤا به ونسبوه الى الخبط والجنون وانصرفوا عنه وعن قوله متعجبين فذهبوا الى مجامعهم ومعابدهم ومعايدهم التي قد كانوا يجتمعون فيها يوم العيد لعبادة الأصنام قال ابراهيم عليه السّلام في نفسه مقسما مؤكدا مبالغا تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ اى لاحتالن انا وامكرن لان اكسر أَصْنامَكُمْ ومعبوداتكم ايها الجاهلون لتفتضحوا أنتم وهؤلاء الأباطيل الزائغة بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا وتنصرفوا مُدْبِرِينَ عن مجمعكم ومعبدكم
ثم لما ذهبوا الى معيدهم دخل ابراهيم كنيستهم ومعبدهم التي فيها أصنامهم وأوثانهم فَجَعَلَهُمْ وصير أصنامهم كلها جُذاذاً قطعا منكسرة وأجزاء متلاشية إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ اى لم يكسر الصنم الكبير من الأصنام فقط ليكون سببا لإلزامهم وافحامهم لدى الحاجة لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ اى الصنم الكبير يَرْجِعُونَ يراجعون له ويستفسرون منه عن كسر الأصنام إذ هم قد اعتقدوه أعظم الآلهة والا له لا بد ان يجيب لهم جميع حوائجهم وحاجاتهم
ثم لما رجعوا من معيدهم ودخلوا الى معبدهم وكنيستهم للعبادة والتقرب نحو الآلهة وجدوها مجذوذة منكسرة متفرقة الاجزاء قالُوا من فرط حزنهم واسفهم مستبعدين مستحسرين مَنْ فَعَلَ هذا الفعل الفظيع والأمر الشنيع الفجيع بِآلِهَتِنا ومعبوداتنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين من شعائر ديننا الجاحدين لآلهتنا
قالُوا اى السامعون منهم للسائلين قد سَمِعْنا فَتًى نكروه تحقيرا له واهانة عليه قد كان يَذْكُرُهُمْ اى الآلهة بالسوء دائما ويصيب عليهم وينكرهم(1/536)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ
ثم لما انتشر الخبر واجتمعوا في المعبد مزدحمين متشاورين في انتقامه واستقر رأيهم بعد ما تمادى مشورتهم الى ان قالُوا متفقين فَأْتُوا بِهِ اى بإبراهيم عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ ورؤس الملأ والاشهاد لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ يحضرون ويجتمعون يعنى جميع العبدة لقتله وإهلاكه لينال كل منهم نصيبه من نصر الالهة
ثم لما حضر نمرود واجتمع معه اشراف مملكته وازدحم العوام والخواص واحضروه لينتقموا عنه قالُوا له أولا على سبيل التعيير والتقريع أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا الفعل الشنيع والأمر الفظيع الفجيع بِآلِهَتِنا ومعبوداتنا يا إِبْراهِيمُ المرذول المجهول
قالَ في جوابهم بمقتضى اعتقادهم وزعمهم انا عبد مألوه مربوب وهم آلهة معبودون كيف أقدر أن افعل بهم هذا بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أشار الى الصنم الكبير الغير المنكسر قد فعل هذا معهم هكذا لئلا يشاركوا معه في المعبودية والألوهية وان شككتم انه هل فعل هذا أم انا فَسْئَلُوهُمْ اى الآلهة إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ يعنى ان اعتقدتم نطقهم وتكليمهم مع انهم آلهة ومن لوازم الألوهية التكلم والتنطق بل أنتم تعتقدون ان هؤلاء خلقوا عموم اهل التكلم واللسان فهم اولى وأحق بجواب سؤالكم هذا
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ متأملين اى رجع كل منهم الى وجدانه ونفسه متفكرا متدبرا في قوله وكلامه فَقالُوا اى كل منهم في سره ونجواه إِنَّكُمْ ايها الجاهلون الغافلون عن قدر الألوهية والربوبية أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى العقل الفطري والرشد الجبلي ما هذا الا تماثيل مصنوعة لكم منحوتة بأيديكم من اين يوجدكم ويحقكم بل أنتم موجدو هؤلاء ومخترعوهم
ثُمَّ لما تفرسوا بخطئهم وتفطنوا بحقية ابراهيم وصدقه في مقاله قد أزعجتهم الغيرة البشرية والحمية الجاهلية الى المراء والمجادلة معه لذلك نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ يعنى بعد ما عملوا أعلى الأمر وأسفله وفرقوا بين الحق والباطل فرقا ظاهرا أرادوا ان ينقلبوا الأمر وعكسوه عنادا ومكابرة حيث قالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ايها المجادل المفتون ما هؤُلاءِ الآلهة يَنْطِقُونَ إذ هم جمادات لاحس لهم ولا شعور كيف يتيسر لهم التكلم والتنطق وبعد ما اعترفوا بجمادية آلهتهم وعدم قابليتهم للنطق والتكلم
قالَ ابراهيم موبخا عليهم ومقرعا أَما تستحيون وما تخجلون ايها الضالون المكابرون فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد المتوحد بالالوهية والربوبية المستقل بعموم التصرفات الواقعة في عالم الغيب والشهادة ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ اى أصناما وأوثانا لا يرجى منهم النفع ولا الضر
ثم قال على سبيل الضجرة والاستكراه عن أمرهم والتأسف على ضيعة عقلهم المفاض لهم من ربهم لمصلحة المعرفة والايمان أُفٍّ لَكُمْ اى قبحا لكم ايها المطرودون المردودون عن زمرة العقلاء وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المستقل للنفع والضرر وجلب انواع الخيرات ودفع اصناف المضار أَفَلا تَعْقِلُونَ ايها المتخذون لله شركاء ولا تستعملون عقولكم الموهوبة لكم لكسب المعارف والحقائق لتتفطنوا الى سرائر التوحيد الخالي عن شوب التخمين وشين التقليد ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم لما سمعوا منه التعيير والتشنيع الشنيع قد ثارت نار حميتهم واشتد غيظ غيرتهم
حيث قالُوا بعد ما شاوروا كثيرا في كيفية إهلاكه وانتقامه حَرِّقُوهُ إذ لا عذاب اهول وأفزع منه وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بتحريق هذا الظالم ولما كان تعذيبهم إياه لأجل آلهتهم لذلك اختاروا تعذيبه بالنار لان التعذيب بالنار مخصوص بالإله. كما قال صلّى الله عليه وسلّم لا يعذب بالنار غير خالقها وفعلوا معه كذلك إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ(1/537)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
ناصرين آلهتكم بأخذ انتقامهم عنه
ثم لما حفروا البئر وبنوا الحظيرة وجمعوا الحطب واوقدوا النار علقوا المنجنيق ووضعوه فيها ورموه إليها قُلْنا حينئذ مخاطبين للنار منادين لها لحفظ خليلنا يا نارُ المجبولة المطبوعة بالإحراق والإهلاك كُونِي بَرْداً واتركي طبع الحرق والحرارة وَلا تضرى لخليلنا بالبرودة المفرطة ايضا بل صيرى سَلاماً معتدلة ذات سلام وسلامة عَلى إِبْراهِيمَ ولا تضرى له
وَبعد ما علموا وشاهدوا ان النار لا يضره بل قد صارت له بردا وسلاما روحا وريحانا أفحموا والزموا وكيف لا يفحمون وقد أَرادُوا بِهِ كَيْداً ومكرا لينتقموا عنه ويبطلوا دعواه التوحيد فعاد عليهم الإلزام والوبال والابطال فغلبوا هنالك فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ فيما قصدوا له وانقلبوا من مجمعهم خاسرين خائبين خسرانا مبينا وخيبة عظيمة
وَبعد ما فعلوا مع خليلنا ابراهيم ما فعلوا قد نَجَّيْناهُ من مقام جودنا ولطفنا إياه وَصاحبناه مع ابن أخيه لُوطاً وبعثناهما عناية منا إياهما إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها حيث صيرناها كثير الخير والبركة وذات الأمن واليمن والامان والايمان لِلْعالَمِينَ اى لعموم من ينزل ويئول إليها من اهل الدين والدنيا الا وهي الشأم التي هي منازل الأنبياء والأولياء ومقر السعداء والصلحاء ومهبط الوحى الإلهي لذلك ما بعث بنى الا فيها او في حواليها وما دفن الا فيها او في أطرافها وجوانبها قيل نزل ابراهيم عليه السّلام بعد ما جلا من وطنه بفلسطين من الشأم ولوط بالسدوم وبينهما مسيرة يوم وليلة
وَبعد ما قد مكناه في الأرض المقدسة وَهَبْنا لَهُ من رحمتنا تفريحا لقبه من كربة الغربة وتشريحا لصدره من حزنها وكآبتها وتقرير العينية ولديه إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً
ليزيل حزنه وكربة غربته بهما قد وهبنا له اسحق اجابة لدعائه بقوله رب هب لي من الصالحين وانما أعطيناه يعقوب نافلة منا إياه وزيادة فضل وعطية تكريما له وامتنانا عليه وَبالجملة كُلًّا منه ومن ولديه قد جَعَلْنا صالِحِينَ للنبوة والرسالة وقبول سرائر التوحيد واسرار الألوهية والربوبية بقلوبهم
وَلصلاحهم واستعدادهم لقبول عموم الخيرات قد جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً وقدوة هادين مهديين يَهْدُونَ الناس بِأَمْرِنا ووحينا الى دوال توحيدنا وَبعد ما جعلناهم قدوة هادين أَوْحَيْنا وألهمنا تتميما لهدايتهم وإرشادهم إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ والإتيان باعمال الصالحات وعموم الطاعات والعبادات لتكون وسيلة مقربة لهم الى وحدة ذاتنا وَاوحيناهم خاصة إِقامَ الصَّلاةِ المتضمنة لتوجهم نحو الحق لجميع القوى والحركات والأركان والجوارح وعموم الآلات وَإِيتاءَ الزَّكاةِ المصفية لقلوبهم عما سوى الحق وَهم بمقتضى أمرنا ووحينا إياهم قد كانُوا لَنا خاصة بلا رؤيتهم الوسائل والأسباب العادية في البين عابِدِينَ متذللين متواضعين مخلصين بظواهرهم وبواطنهم وبعموم أفعالهم وحركاتهم
وَلُوطاً آتَيْناهُ من كمال فضلنا وجودنا معه حُكْماً قطعا للخصومات وفصلا للخطوب والمهمات وَعِلْماً لدنيا متعلقا بسرائر الأمور ورموزها وإشاراتها الدالة على وحدة الصانع الحكيم وَعلى سرسريان هويته الذاتية على صفائح عموم ما ظهر وبطن ومن كمال فضلنا إياه قد نَجَّيْناهُ مِنَ فتنة الْقَرْيَةِ الَّتِي قد كانَتْ أهلها تَعْمَلُ الْخَبائِثَ والفعال الشنيعة والخصال الخسيسة الخبيثة المذمومة عقلا وشرعا عرفا وعادة المسقطة للمروءة بالمرة الا وهي التعري بين اظهر الناس واللواط والضراط على الملأ وبالجملة إِنَّهُمْ من غاية قسوتهم وغفلتهم كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ مغمورين بين انواع الفسوق منغمسين بأصناف المعاصي والآثام
وَبعد ما انتقمنا عنهم(1/538)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
وأهلكناهم باشد العذاب قد أَدْخَلْناهُ ومن معه ممن سبقت لهم منا الحسنى فِي حوزة رَحْمَتِنا وكنف حفظنا وجوارنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لعبادتنا المقبولين في حضرتنا
وَقد نجينا ايضا من كمال لطفنا وجودنا نُوحاً وقت إِذْ نادى ودعا متوجها إلينا متضرعا نحونا مِنْ قَبْلُ حين كذبه قومه واستهزؤا معه وضربوه ضربا مؤلما بقوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وانجحنا مطلوبه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الذي هو الطوفان
وَحين اضطروا وأشرفوا على الهلاك ناجانا فزعا فجيعا بقوله يا رب انى مغلوب فانتصر لذلك قد نَصَرْناهُ وجعلناه منتصرا ولقبناه نجيا ناجيا مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وذلك انه حين دعاهم الى الايمان والتوحيد وهداهم الى صراط مستقيم وهم قد امتنعوا عن القبول وبالجملة إِنَّهُمْ من شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم مع اهل الحق قد كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ كأنهم مغمورون فيه متخذون منه فَأَغْرَقْناهُمْ لذلك أَجْمَعِينَ تطهيرا للأرض من فسادهم وقلعا لعرق غيهم وعنادهم عنها
وَاذكر يا أكمل الرسل في كتابك قصة داوُدَ وَابنه سُلَيْمانَ وقت إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ وزرع القوم إِذْ قد نَفَشَتْ ودخلت فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ الآخر ليلا فأكلته فتنازعا ورفعا الأمر إليهما واستحكما منهما فحكم داود بالغنم على صاحب الزرع بناء على ان صاحب الغنم لا بد له ان يضبط غنمه لئلا يخسر وَقد كُنَّا لِحُكْمِهِمْ اى لحكم داود إياهم اى لأصحاب الزرع بالغنم شاهِدِينَ مطلعين اطلاع شهود وحضور وبعد ما حكم ما حكم وكان ابنه سليمان عليه السّلام حاضرا عنده سامعا حكمه
فَفَهَّمْناها اى قد ألهمنا الحكومة الحقة والفتوى المحكمة في هذه القضية سُلَيْمانَ وهو يومئذ ابن احدى عشر سنة فقال الأرفق ان يدفع الغنم الى اصحاب الحرث لينتفعوا من ألبانها وأصوافها والحرث الى اصحاب الغنم ليقوموا بسقيها وحفظها ورعايتها حتى يعود الى الذي كان ثم يترادان ويتدافعان فقال داود سليمان القضاء ما قضيت فرجع عن حكمه وحكم بحكم ابنه وَان كنا كُلًّا منهما قد آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً اى رشدا صوريا ومعنويا حسب قابليتهما واستعدادهما وَكيف لا قد سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ تفضلا منا إياه وتكريما الْجِبالَ الى حيث يُسَبِّحْنَ معه ويقدس الله عما لا يليق بجنابه حين اشتغل داود بتسبيح الله وتقديسه ازديادا لثوابه ورفعا لدرجته وَايضا قد سخرنا له الطَّيْرَ اى الطيور كلها يتفق معه حين اشتغاله بتسبيح الله وتنزيهه وَبالجملة قد كُنَّا به وبأمثاله فاعِلِينَ لخلص عبادنا من الأنبياء والأولياء وكذا لعموم من توجه إلينا من عبادنا فلا تتعجبوا منا أمثال هذا ولا تستبعدوا عن قدرتنا إبداعها واختراعها
وَايضا قد عَلَّمْناهُ من مقام جودنا إياه صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اى الدروع وما يلبس لدفع الضرر حين الحرب والقتال وقد كانت الدروع حينئذ صفائح فحلقها داود وسردها بالهام الله إياه وتعليمه انما علمناه حلقها وسردها لِتُحْصِنَكُمْ وتحفظكم مِنْ بَأْسِكُمْ من جراحات السهام والسنان إذ هو ادفع من الصفائح وأخف منها فَهَلْ أَنْتُمْ ايها المنعمون المتنعمون شاكِرُونَ لوفور نعمنا إياكم
وَكذا قد سخرنا من كمال فضلنا ولطفنا لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ مع كونها عاصِفَةً سريعة السير والحركة آبية عن التسخير قد سخرناها له بحيث تَجْرِي بِأَمْرِهِ وحكمه سريعة إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا وكثرنا الخير فِيها لساكنيها وكذا لجميع من يأوى إليها الا وهي(1/539)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
ارض الشأم فكان يسير مع جنوده متمكنين على بساط قد كان فرسخا في فرسخ منسوج من الإبريسم قد عملت الجن له حيث شاء ثم يعود من يومه الى منزله وَلا تستبعدوا منا أمثال هذا إذ قد كُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ تعلقت ارادتنا بإيجاده عالِمِينَ بأسباب وجوده وظهوره فنوجده على الوجه الذي نريده ونجريه بمقتضى حكمتنا وقدرتنا
وَقد سخرنا لسليمان ايضا مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ البحار ويخرجون منها نفائس اللئالئ والجواهر تتميما لعظمته وتوفيرا لخزانته وَيَعْمَلُونَ له ايضا عَمَلًا دُونَ ذلِكَ
الغوص من بناء الابنية الرفيعة والقصور المنيعة واختراع الصنائع الغريبة والهياكل البديعة والتشكيلات العجيبة المبتدعة وَكُنَّا لَهُمْ من قبل سليمان حافِظِينَ مشغلين مشرفين إياهم لا يمكنهم ان يفسدوا في أعمالهم وأشغالهم ويزيغوها بمقتضى اهويتهم وطباعهم
وَاذكر يا أكمل الرسل في كتابك هذا أخاك أَيُّوبَ الذي ابتلاه الله بأنواع المحن والبلايا فصبر عليها وازداد ألمه واشتد الأمر عليه فاضطر الى التضرع والتفزع وبث الشكوى الى الله وقت إِذْ نادى رَبَّهُ مشتكيا اليه مناجيا له متضرعا إياه قائلا أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ يا ربي وتنحت عنى أقاربي وذوو أرحامي وجميع رحمائي وَأَنْتَ تبقى على رحيما مشفقا لأنك أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأدركني بلطفك إذ لا طاقة لي ولا صبر بعد اليوم وقد بلغ الجهد غايته
فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَكَشَفْنا عنه ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ مؤلم مزعج وَبعد ما قد شفيناه وأزلنا عنه مرضه وعموما ما يؤذيه قد آتَيْناهُ أَهْلَهُ وأحيينا الذين هلكوا بسقوط البيت عليهم من أولاده وأعطينا له بدل أمواله التي قد تلفت بالحوادث والنوائب وَقد زدنا عليه تفضلا وامتنانا مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا إياه وزيادة العام واحسان منا عليه وَليكون ما فعلنا به وأعطينا إياه ذِكْرى تذكرة وحنا لِلْعابِدِينَ الذين صبروا على مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات والعبادات ليفوزوا بأفضل المثوبات وأكرم الكرامات
وَاذكر يا أكمل الرسل في كتابك الجامع جدك إِسْماعِيلَ ذا الصبر والرضاء بعموم ما جرى عليه من القضاء وَاذكر ايضا إِدْرِيسَ صاحب دراسة الحكمة المتقنة وانواع المعارف والحقائق وَاذكر ذَا الْكِفْلِ المتكفل بعبادة الله في عموم أوقاته وحالاته بحيث لا يشغله شاغل مطلقا عن توجهه ورجوعه نحو الحق قيل هو الياس وقيل يوشع بن نون وقيل نبي آخر مسمى به لأنه كان يتكفل صيام ايام حياته وبالجملة قد كان كُلٌّ من هؤلاء السعداء المقبولين المذكورين مِنَ الصَّابِرِينَ بقضاء الله ونزول بلائه كما انهم كانوا شاكرين لآلائه ونعمائه
وَلذلك قد أَدْخَلْناهُمْ فِي سعة رَحْمَتِنا امتنانا عليهم إِنَّهُمْ في أنفسهم مِنَ الصَّالِحِينَ لنبوتنا وخلافتنا المصلحين أعمالهم وأقوالهم وعقائدهم وأحوالهم ومن الواصلين الى درجات القرب واليقين
وَاذكر يا أكمل الرسل أخاك ذَا النُّونِ صاحب الحوت وهو يونس بن متى عليه السّلام وقت إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً على قومه مراغما لهم حين وعظهم فلم يتعظوا فشق عليه الأمر فغضب عليهم فلم يكظم غيظه فدعا بنزول العذاب عليهم وبعد ما ظهر اماراته خرج من بينهم تفريجا لغضبه وتوسيعا لصدره فَظَنَّ بخروجه من بينهم أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وعلى تضييقه وتغميمه ولا يمكننا حبسه في مكان آخر فهرب من بينهم ولقى البحر فركب على السفينة فسكنت الريح فقال البحارون ان فيها عبدا آبقا فاقترعوا فخرجت القرعة باسمه فالقى نفسه في البحر فالتقمه الحوت على الفور فَنادى وناجى صريخا صريعا ضريعا فجيعا مغمورا فِي الظُّلُماتِ التي قد تراكمت عليه إذ هو في بطن(1/540)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
الحوت والحوت في الماء وكان الليل مظلما أَنْ اى انه لا إِلهَ يعبد بالحق ويستحق للعبادة استحقاقا ذاتيا ووصفيا إِلَّا أَنْتَ يا من خضعت لك الرقاب وانتكست دون سرادقات جلالك أعناق ذوى النهى والألباب سُبْحانَكَ ربي انزهك عن جميع ما لا يليق بشأنك ولا ينبغي بجنابك إِنِّي بواسطة خروجي من بين قومي بغير اذنك ووحيك الى مع انك قد أرسلتني إليهم وبعثتني أنت بفضلك بين أظهرهم نبيا ذا دعوة وهداية قد كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حكمك وأمرك لذلك ضيقت الأمر على يا ربي وحبستني في محبس مضيق وسجن عميق ولا مخلص لي عن هذا المضيق سوى عفوك وكرمك يا ربي وبعد ما تاب إلينا قادما ورجع نحونا مخلصا متضرعا واستخلص منا مضطربا مضطرا
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وأجبنا دعاءه فاخرجناه من بطن الحوت وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ العظيم والكرب الكبير وَكَذلِكَ نُنْجِي عموم الْمُؤْمِنِينَ المخلصين الذين قد أخلصوا في انابتهم ورجوعهم نحونا من عموم كروبهم واحزانهم
وَاذكر ايضا يا أكمل الرسل أخاك زَكَرِيَّا الذي قد بلغ من الكبر والهرم الى حيث قد ايس عن من استخلفه من نطفته وقنط عن من يقوم مقامه من نسله فشكى الى الله وقت إِذْ نادى رَبَّهُ متمنيا متحسرا مفاجعا آيسا رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم الى ان كبرت وأشرفت اركان جسمي الى الانهدام وأجزاء جسدي الى الانحلال والانخرام لا تَذَرْنِي فَرْداً مقطوع الفرع منسى الذكر بلا ولد يخلفني ويرث عنى ويحيى اسمى من بعدي وَان جرى حكمك على هذا ومضى قضاؤك على ذا هكذا فلا أبالي به إذ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ وأكرم المستخلفين وبعد ما تضرع وتمنى ما تمنى وتضرع
فَاسْتَجَبْنا لَهُ عناية منا إياه وفضلا وَوَهَبْنا لَهُ من كمال جودنا يَحْيى المحيي لاسمه وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ بل نفسه بعد ما افسدهما الدهر وأخرجهما من قابلية الولادة والإيلاد وصيرنا زوجته شابة ولودا بعد ما قد كانت عجوزا عقيما إظهارا لكمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا وانما فعلنا بالأنبياء المذكورين بما فعلنا بهم من كمال اللطف والكرم ومحض الفضل والإحسان إِنَّهُمْ من كمال توجههم وتحننهم نحونا قد كانُوا في عموم أوقاتهم وحالاتهم يُسارِعُونَ ويبادرون فِي الْخَيْراتِ ويسابقون الى الطاعات المقبولة عندنا وَمع ذلك يَدْعُونَنا في مناجاتهم بنا وفي خلواتهم معنا رَغَباً وَرَهَباً راغبين إلينا راجين منا عفونا وغفراننا راهبين عنا خائفين من صولة سطوة قهرنا وغضبنا وَبالجملة هم في عموم أحوالهم قد كانُوا لَنا خاشِعِينَ متذللين مخبتين ولذا نالوا ما نالوا بسبب خصائلهم هذه من جزيل العطاء والفوز بشرف اللقاء والبقاء بعد الفناء
وَاذكر في كتابك يا أكمل الرسل أختك العفيفة مريم عليها السّلام الَّتِي قد أَحْصَنَتْ وحفظت فَرْجَها من الحلال والحرام وصبرت على مشقة العزوبة بلا ميل منها ولا داعية الى الشهوة تقربا الى الله مع تحمل انواع المتاعب والمشاق في طريق توحيده وبعد ما قد بالغت في الحصن والمحافظة وبلغت في العفة غايتها فَنَفَخْنا فِيها أمرنا حامل روحنا يعنى جبرائيل عليه السّلام بان ينفخ في جيبها مِنْ رُوحِنا فنفخ فسرى الى جوفها فحبلت بعيسى عليه السّلام وَبعد ما وضعت حملها قد جَعَلْناها اى مريم وَابْنَها عيسى آيَةً عجيبة غريبة دالة على كمال قدرتنا وحكمتنا خارقة للعادة وهي إيجاد الولد بلا أب وايلاد المرأة بلا لمس فحل فصار هذا كرامة وإرهاصا لمريم ومعجزة لعيسى عليهما السّلام وعبرة لِلْعالَمِينَ من حسن حالهما ورفعة رتبتهما وعلو شأنهما
قال سبحانه مخاطبا(1/541)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
لجماهير الأنبياء والرسل وأممهم إِنَّ هذِهِ الملة التي هي ملة الإسلام وطريق التوحيد والعرفان أُمَّتُكُمْ اى قدوتكم وقبلتكم وقصارى أمركم والحكمة في جبلتكم وخلقكم ما كانت الا أُمَّةً واحِدَةً بحيث لا تعدد فيها أصلا وَأَنَا رَبُّكُمْ الواحد الأحد الفرد الصمد فَاعْبُدُونِ ايها الاظلال المنعكسة من أسمائي وأوصافي وتوجهوا نحوي بغاية التذلل والخضوع ونهاية الانكسار والخشوع
وَبعد ما قد كانوا اى العكوس والاظلال في اصل فطرتهم امة واحدة منتشئة من شئون الوجود وتطوراته الغير المحدودة بلا اختلاف فيهم أصلا تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ اى امر دينهم قطعا قطعا وتحزبوا أحزابا وفرقا متفاوتة حسب تفاوت استعداداتهم المترتبة على الأسماء الذاتية المتقابلة والشئون المتفاوتة والتجليات المتخالفة الإلهية فوقع النزاع بَيْنَهُمْ فاختلفوا اختلافا كثيرا على سبيل المراء والمجادلة وبالجملة لا تبال بهم وباختلافهم وتحزبهم إذ كُلٌّ منهم إِلَيْنا راجِعُونَ رجوع الأمواج الى البحر والاظلال الى الأضواء وبعد ما اختلفوا وتعددوا
فَمَنْ يَعْمَلْ منهم مِنَ الصَّالِحاتِ المرضية لنا المقبولة عندنا وَهُوَ مُؤْمِنٌ موقن بتوحيدنا مصدق لرسلنا وكتبنا فَلا كُفْرانَ ولا تضييع منا لِسَعْيِهِ الذي قد سعى في طريقنا طلبا لمرضاتنا بل وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ حافظون حارسون عموم ما صدر عنه من الخيرات الموجبة للمثوبات ورفع الدرجات فنعطيه ما استحق له من الثواب بلا فوت شيء منها
وَاعلموا ان حفظنا وحراستنا حَرامٌ ممنوع منا محرم من عندنا عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها اى أهلها قهرا منا وغضبا إياهم بسبب أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ولا يتوجهون إلينا ولا يؤمنون بتوحيدنا ولا يصدقون بكتبنا ورسلنا بل يكذبون الكل وينكرون له وهكذا يتمادى حرمتنا ومنعنا إياهم الى ان قد ظهرت اشراط الساعة ولاحت إماراتها
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ وفتقت يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اى سدهما الذي قد سد بينهما وبين سائر الناس وَهُمْ بعد فتح السد ورفع المانع من شدة عداوتهم مع الناس وحرصهم على تخريب البلاد مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وتلال وجبال يَنْسِلُونَ ويسرعون الى الناس كالذباب الجوع
وَبعد ما اقْتَرَبَ ودنا الْوَعْدُ الْحَقُّ والموعود المحقق الذي هو فتح السد وخروجهما من جملة أشراطه وعلاماته وقامت القيمة فَإِذا هِيَ اى الحالة والقصة حينئذ انها شاخِصَةٌ حائرة مدهوشة مضطربة أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا في النشأة الاولى بالله وكذبوا هذا اليوم الموعود لهم فيقولون يومئذ متمنين متحسرين خائبين يا وَيْلَنا وهلاكنا تعال فالآن وقت حلولك قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ عظيمة مِنْ مجيء هذا اليوم في نشأتنا الاولى بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ خارجين عن مقتضى الحكم الإلهي منكرين لهذا اليوم سيما بعد اخبار الرسل وإنزال الكتب ثم خاطب سبحانه الكافرين الذين قد أشركوا بالله مع انه سبحانه لم ينزل عليهم سلطانا خطابا عاما شاملا للعابدين ومعبوداتهم
فقال إِنَّكُمْ ايها المشركون الجاهلون بقدر الله وعلو شأنه وَعموم ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الاظلال والتماثيل التي قد اتخذتموهم آلهة وادعيتم استحقاقهم للعبادة والإطاعة أنتم وآلهتكم كلكم جميعا حَصَبُ جَهَنَّمَ وحطبها ووقودها أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ورود الانعام في الأودية والاغوار بزجر تام وعنف مفرط
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً كما زعمتم واعتقدتم ايها الحمقى العمى الظالمون ما وَرَدُوها لا أنتم إذ آلهتكم ينقذونكم منها البتة ولا هم أنفسهم لأنهم آلهة والإله لا يدخل النار لكن تردون أنتم وهم جميعا عابدا ومعبودا تابعا ومتبوعا فظهر انهم ما كانوا آلهة بل عبادا أمثالكم(1/542)
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
وَكُلٌّ منكم ومنهم بشؤم ما اقترفتم فِيها خالِدُونَ مخلدون معذبون دائما
لَهُمْ فِيها اى لأهل النار في النار زَفِيرٌ تنفيس شديد وأنين طويل وَهُمْ فِيها من شدة الأهوال والافزاع لا يَسْمَعُونَ اى لا يسمع كل منهم أنين الآخر وحنينه من شدة فزعه وهوله. ثم لما نزل هذه الآية اعترض ابن الزبعرى بان عزيرا وعيسى والملائكة من المعبودين فهم ايضا في النار مع انهم من الأنبياء والملك وهم محفوظون منها على زعمكم نزل بعده
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ عناية مِنَّا الخصلة الْحُسْنى والمنزلة السنيا والدرجة العليا والجنة المأوى أُولئِكَ السعداء المخصوصون بمزيد لطفنا وجودنا عَنْها اى عن النار مُبْعَدُونَ لسبق رحمتنا إياهم وعفونا عنهم
بحيث لا يَسْمَعُونَ من غاية البعد منها حَسِيسَها اى صوتها الخفى كدوي النحل مع ان أهلها يصرخون فيها ويفزعون في غاية الشدة ولا يصل إليهم لغاية بعدهم عنها وَهُمْ كيف يسمعون حسيس النار مع انهم مترفون متنعمون في الجنة فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من اللذات الروحانية والمشتهيات النفسانية عناية من الله إياهم خالِدُونَ دائمون مستمرون فيها بلا طريان ضد وعروض منافر وكيف يسمعون ويحزنون أولئك الآمنون من حسيس النار مع انهم من فرط فرحهم وسرورهم
بحيث لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وهو وقت النفخة الاخيرة في الصور مع انها في نهاية الهول وغاية الفظاعة وإذا لم يشوشهم تلك الهائلة الفظيعة العامة فكيف الحسيس وَبعد دخولهم في الجنة الموعودة لهم تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ مسلمين مرحبين مهنئين إياهم قائلين لهم هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي قد كُنْتُمْ تُوعَدُونَ به في نشأتكم الاولى ايها المؤمنون الآمنون الفائزون فأنتم فيها قد كنتم تؤمنون بها فالآن قد نلتم بما آمنتم وفزتم بما أرسلتم
اذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ نَطْوِي ونلف السَّماءَ المبسوطة المنشورة كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ اى طيا مثل طي الصحيفة الحافظة الحارسة للمكتوب فيها يعنى نلفها لفا بعد ما قد نشرناها نشرا بحيث لا يبقى لها اسم ولا رسم إذ طي الكتاب كناية عن نسيان الشيء واعدامه وعدم تذكره بالمرة وبالجملة كَما بَدَأْنا وأبدعنا العالم أَوَّلَ خَلْقٍ وإيجاد من العدم بلا سبق مادة ومدة نُعِيدُهُ عليه كذلك بحيث صار كان لم يكن موجودا أصلا وقد كان اعدامه كذلك وَعْداً صادرا منا لازما عَلَيْنا إنجازه إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ذلك الموعود المعهود من لدنا البتة انجازا وإيفاء
وَكيف لا نفنيه ولا نعدمه مع انا لَقَدْ كَتَبْنا وأثبتنا فِي الزَّبُورِ اى في عموم الزبر والكتب المنزلة من لدنا مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ اى بعد الحضور والثبوت في حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المبرم أَنَّ الْأَرْضَ اى ارض الجنة المعدة لأهل المحبة والولاء ومستقر ارباب العناية والبقاء. اعلم ان لكل نفس من النفوس البشرية ارض معدة في فضاء الجنة انما وصلوا إليها بالإيمان والأعمال الصالحة المقربة لهم في الحق فمتى لم يتصفوا بالإيمان والمعارف والتوحيد لم يصلوا إليها وإذا لم يصلوا إليها بسبب كفرهم وظلمهم يَرِثُها من الكفار أماكنهم المعدة لهم فيها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ المقبولون عندنا المتصفون بشعائر التوحيد والايمان العارفون بمعالم الدين ومسالك العرفان المرضيون الراضون بعموم ما جرى عليهم من قضائنا مزيدا على حصصهم التي قد كانت لهم فيها
إِنَّ فِي هذا اى ما ذكر في القرآن من المواعظ والتذكيرات والرموز والإشارات لَبَلاغاً وتبليغا بليغا الى أقصى مراتب التوحيد لِقَوْمٍ عابِدِينَ عارفين بمسالك اليقين واماراته
وَلما كان هذا الكتاب هاديا لعموم البرايا الى أعلى مدارج التوحيد لذلك ما أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل(1/543)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
المستخلف عنا المتخلق باخلاقنا المظهر للتوحيد الذاتي إِلَّا رَحْمَةً اى ذا رحمة شاملة وعطف عام لِلْعالَمِينَ اى لعموم من في العالم الى انقراض الدنيا إذ لا بعث بعدك ولا دين بعد دينك بل أنت مكمل دائرة النبوة والرسالة ومتمم مكارم الأخلاق ودينك ناسخ لعموم الأديان فلا بد لجميع اهل الملل والنحل ان يتدينوا بدينك كي يصلوا الى ما قد جبلهم الحق لأجله الا وهو التوحيد والمعرفة وبعد ما قد صرت خاتم النبوة والرسالة وصار دينك ناسخا لعموم الأديان
قُلْ لقاطبة الأنام على سبيل الدعوة العامة والتبليغ التام إِنَّما يُوحى إِلَيَّ من ربي بعد ما جعلني مبعوثا الى عموم عباده أَنَّما إِلهُكُمْ ايها الواصلون الى مرتبة التكليف إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر لا يقبل التعدد مطلقا ولا يعرضه نقصان أصلا ولا يشغله شأن عن شأن بل كل يوم وآن هو في شأن من شئون الكمال لا كشأن سابق ولا لاحق فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ منقادون له مسلمون وحدته مخلصون في أطاعته وانقياده ايها العابدون
فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن التوحيد بعد تبليغك إياهم قصارى أمرهم في دينهم فَقُلْ لهم يا أكمل الرسل قد آذَنْتُكُمْ وأعلمتكم باذن الله وهديتكم حسب وحيه سبحانه عَلى سَواءٍ اى على طريق سوى وصراط مستقيم موصل الى توحيد الحق ومعرفته وان انحرفتم عن جادة التوحيد وانصرفتم بما اقترفتم عن مسالكه فقد استوجبتم المقت والعذاب البتة وَإِنْ أَدْرِي وما اعلمه انا وما أدرك أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ نزول ما تُوعَدُونَ من العذاب والنكال وبعد ما تحقق نزوله وتقرر وقوعه باخبار الله والهامه على لا تغتروا بامهاله إياكم ولا تظنوه عن غفلته عنكم تعالى عن ذلك كيف يعرض له سبحانه الغفلة والذهول
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ منكم اى الذين يجهرون ويعلنون به مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ايضا منكم ما تَكْتُمُونَ وتخفون في نفوسكم من خواطركم واسراركم
وَإِنْ أَدْرِي وما اعلم ايضا لَعَلَّهُ اى لعل امهاله سبحانه إياكم وتأخيره العذاب عنكم فِتْنَةٌ منه سبحانه واختبار لَكُمْ هل تتفطنون الى توحيده أم لا سيما بعد ورود اصناف المنبهات وانواع الروادع والزواجر البليغة عما ينافيه ويخالفه وَما ادرى ايضا لعل امهاله إياكم مَتاعٌ وتمتيع لكم إِلى حِينٍ لتزدادوا فيه إثما كبيرا ومعصية كثيرة تستجلبوا بها أعظم العقوبات وتستحقوا بسببها أشد العذاب والنكبات.
ثم لما تمادى النزاع بين اهل مكة والرسول صلّى الله عليه وسلّم وتكثرت الوقائع والحادثات امر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالاستعانة منه والتفويض اليه بقوله قالَ يا أكمل الرسل بعد ما قد أصروا على إنكارك ملتجأ إلينا مناجيا معنا دعاء عليهم رَبِّ يا من رباني بكرامة الرسالة والتبليغ والإرشاد والتشريع احْكُمْ بِالْحَقِّ الصريح الصحيح المقرر الواقع عندك بيني وبين هؤلاء المعاندين معى وأنت تعلم انهم لا ينزجرون الا بنزول العذاب الموعود عليهم انزل بمقتضى قهرك وجلالك عليهم ما ينزجرون به من العذاب وَبالجملة رَبُّنَا وان كان هو الرَّحْمنُ الذي قد وسعت رحمته كل شيء حتى الكافر الشقي النافى له سبحانه لكنه هو الْمُسْتَعانُ والمعين المنان والناصر الديان لأهل المعرفة والايمان القادر المقتدر عَلى ازالة ما تَصِفُونَ الله به ايها المعاندون المفرطون مما لا يليق بشأنه ولا ينبغي بجنابه وبالجملة أولئك المشركون هم الهالكون في تيه الجحود والعدوان المنهمكون في بحر الضلال والكفران(1/544)