الجزء الأول
لا اله الا الله بسم الله الرّحمن الرّحيم سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم. سبحان من تجلى لذاته بذاته. في ملابس أسمائه وصفاته. وتعزز بكبريائه عن أن تصفه ألسنة مظاهره ومصنوعاته. جل جناب قدسه عن أن يكون شرعة كل وارد. ووجهة كل قاصد. فيا عجبا من المدرك وما الإدراك. في مقام لا يسع فيه سوى ما عرفناك
تعالى الحق عن همم الرجال ... وعن وصف التفرق والوصال
إذا ما جل شيء عن خيال ... يجل عن الاحاطة والمثال
بحمدك لنفسك نتوسل إليك. وبثنائك لذاتك نثنى عليك. لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
ونصلى على رسولك المؤيد من عندك. لتبليغ سرائر حكمك وأحكامك. الى خلص عبادك. ونتضرع إليك أن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديت إذ بيدك أزمة الأمور. وبمشيئتك يجرى ما في الصدور. إخواني أبقاكم الله لا تلوموني بما أنا عليه. ولا تعيرونى بأمر قصدت اليه. إذ من سنته سبحانه اظهار ما خفى في علمه. وإبراز ما كمن في غيبه. يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد. لا حول ولا قوة الا بالله. وما بكم من نعمة فمن الله. هو يقول الحق وهو يهدى السبيل. وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب. عن جميع ما يعيبني ويريب. والملتمس من الاخوان. والمرجو من الخلان. أن لا ينظروا فيه إلا بعين العبرة. لا بنظر الفكرة. وبالذوق والوجدان. لا بالدليل والبرهان. وبالكشف والعيان. لا بالتخمين والحسبان. والله ما هذا الفقير الحقير من أصحاب القيود. المتشبثين بأذيال الحجج والحدود. ولا من المتصوفة المتصلفة من الوارد والمورود. المتفوهة عن الواجد والموجود. بل من خدام الفقراء المنسلخين عن جميع الرسوم والعادات. المنتظرين بما ظهر لهم من الحق في عموم الأوقات وشمول الحالات. نفعنا الله وإياكم بالقرآن العظيم. وشرح صدورنا وصدوركم بالآيات والذكر الحكيم. انه هو الجواد الكريم. الفتاح العليم.(1/2)
التواب الرحيم. ثم لما كان ما ظهر فيه من جمل الفتوحات التي قد فتحها الحق ووهبها من محض جوده سمى من عنده بالفواتح الإلهية. والمفاتح الغيبية الموضحة للكلم القرآنية. والحكم الفرقانية. وقبل الخوض في المقصود لا بد من تمهيد أصل كلى جملي يتضمن على سرائر عموم المعارف والحقائق. والمكاشفات والمشاهدات الواردة على قلوب الكمل وعلى مطلق الأوامر والنواهي وعموم التكاليف والاحكام الواردة من الله الموردة في الكتب والصحف الإلهية وعلى أسرار مطلق الإنزال والإرسال وحكم عموم الوحى والإلهام ومصالح الولاية المطلقة والنبوة والرسالة وعلى وضع الملل والأديان وصور الطاعات والعبادات الدنيوية والمعتقدات الاخروية من الحشر والنشر والجنة والنار والصراط والسؤال والحساب والجزاء وما يترتب عليها من اللذات الجسمانية والروحانية. والدرجات العلية الجنانية.
والدركات الهوية النيرانية. وغير ذلك من الأمور الجارية على السنة الكتب والرسل وفي عرف عموم الشرائع والأديان. الموضوعة لإرشاد الإنسان. وتكميله ليصل الى مرتبة المعرفة والإيقان. ويتمكن في مقر التوحيد والعرفان" اعلم". ان الوجود البحت وان شئت قلت الذات الاحدية أو الحقيقة المتحدة المحمدية أو الهوية الشخصية السارية في عموم المظاهر والأكوان أو مسمى اسم الله المستجمع لعموم الأسماء والأوصاف الإلهية وكأنه قد وضع هذا الاسم له سبحانه وضع الأعلام وان كان وضع العلم «4» بالنسبة اليه سبحانه محالا في نفسه الى غير ذلك من العبارات انما هو عبارة عن المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي لعموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد وهو ينبوع بحر الوجود وقبلة الواجد والموجود وهو الموجود حقيقة وما سواه معدوم باطل وظل زاهق زائل. وبالجملة ليس المقصود من العبارات المذكورة الا الإشارة والتنبيه على الحقيقة المتحدة الإلهية التي قد استقل بها في الوجود وتفرد بالتحقق والثبوت بلا تعدد فيه وشركة وكثرة أصلا الا وهو الوجود «5» البحت الخالص عن مطلق القيود المخصصة والأوصاف المتخصصة وإياك إياك ان تفهم من لفظ الوجود المعنى المصدري او المفهوم الكلى المنقسم الى المتواطئ والمشكك او المفهوم الزائد على الماهيات أو العين لها الى غير ذلك من المزخرفات التي قد أوهمها أصحاب القيود المتشبثين بأذيال الحجج والحدود التي قد اعتبرتها أحلامهم السخيفة وعقولهم الكثيفة المموهة بتمويهات الأوهام والخيالات الباطلة الشيطانية المورثة لهم من القوى البهيمية الناسوتية المتفرعة على الشركة والثنوية قطعا من غير تفطن وتنبه لهم الى عالم اللاهوت ومقتضيات القوى الروحانية المترتبة على الوحدة الذاتية الحقيقية الحقية وما ذلك الا من ظلمات الفهم وعاداتهم بالمدركات الحسية وبمنتزعاتها الكلية والجزئية المستنبطة من المحسوسات الشهادية ومن الملكات الرديئة الكثيفة التقليدية الراسخة في نفوسهم من القوى والآلات الناسوتية بلا شعور منهم وانتباه الى الملكات اللطيفة الفطرية اللاهوتية التي هم جبلوا عليها وخلقوا لأجلها. وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فماله من نور. بل لك أن تفهم من لفظ الوجود الكون والتحقق والثبوت الواقع في الواقع وفي نفس الأمر المعبر عنه بلغة الفرس بلفظة «هست» المقابل للفظة «نيست» والوجود بهذا المعنى يقابل للعدم تقابل العدم والملكة بحيث لا اتصاف لاحد المتقابلين بالآخر أصلا فيكون الوجود واجب الوجود البتة والعدم ممتنع الوجود البتة بلا امتزاج لهما
__________
(4) اعلم ان وضع العلم لذات الحق محال من البشر والملك والجن لان وضع العلم مسبوق بالعلم بالموضوع له على ما هو عليه مع جميع لوازمه وعوارضه ليمكن للواضع وضع العلامة بإزائه ولا يتيسر لهؤلاء الاطلاع على ذات الحق على الوجه المذكور حتى يمكن لهم وضع العلم بإزائه سبحانه اللهم الا ان يقال قد وضع الحق لذاته المعلومة لذاته على الوجه المذكور علما وعلمه عباده من الملائكة والثقلين وهذا العلم له سبحانه ضروري حضورى ولا استحالة في ذلك تأمل منه
(5) وهو المبدأ واليه المعاد لا اله الا هو ولا موجود سواه وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون منه(1/3)
بالآخر وتركب بينهما أصلا لمنع الجمع فيكون الوجود وجودا وان شئت قلت موجودا بلا تفاوت بين الوجود والموجود أزلا وأبدا على ما كان عليه حيا قيوما دائما باقيا لاستحالة أن يزول عنه مقتضاه بل لا يزال هو على صرافة تحققه ووجوده وثبوته بلا مكيال زمان وآن. ومقدار شأن ومكان. بل له شأن لا يسع في شأن. وكذا العدم عدم ممتنع ان يزول عنه مقتضاه أصلا ولا ثالث لهما إذ لا واسطة بينهما لمنع الخلو والذي يقال له ممكن الوجود لا بد ان لا يخرج عن حيطتهما لانحصار مطلق المفهوم فيهما بلا واسطة بينهما كما صرح به علماء الرسوم ايضا والذي أثبته بعض المنحرفين عن جادة العدالة الفطرية والفطانة الحدسية المنصرفين عن مقتضى الشعور الجبلي وهم منهم واتباع بشيطانى الوهم والخيال لا يؤبه بهم ولا يعتد بقولهم هذا لا جائز ان يكون ممكن الوجود من حيطة الوجود إذ هو واجب الوجود دائما لا يزول مقتضاه عنه أصلا وما هو ممكن الوجود قد يزول عنه الوجود المستعار ويتصف بالعدم فتعين ان يكون من حيطة العدم فظهوره على صورة الموجود المتأصل وكونه مصدرا للآثار الظاهرة ظاهرا انما هو من ظهور الوجود وتجليه على مرآة العدم دائما ازلا وابدا بعموم أوصافه وأسمائه الذاتية. وبجميع شئونه وتطوراته الغير المتناهية. ومن انعكاس لمعات وجهه الكريم.
على صحيفة العدم حسب أوصافه وأسمائه العظيم. يتراءى من العدم الصقيل ما يتراءى من الصور والآثار الكونية الكيانية والغيبية والشهادية والدنيوية والاخروية والمثالية والبرزخية. وبالجملة ارتباط العالم بالحق ليس الا مثل ارتباط الصور المرئية في المرايا الى ذي الصورة وارتباط العكوس والاظلال الى الأضواء. والأمواج الى الماء فيكون العالم الذي هو ممكن الوجود على صرافة عدميته الاصلية ما شم رائحة من الوجود أصلا سوى ان الوجود قد انبسط وتجلى عليها فيتراءى من سراب العدم ما يتراءى.
مثل الصور المرئية في الماء والمرايا. واما دوام العالم على تجدداتها المرئية وتطوراتها المشاهدة منها وتبدلاتها بالأشباه والأمثال مثل تجدد الاعراض بل ما هي في الحقيقة إلا نسب وأعراض ولله در من قال
كل ما في الكون وهم او خيال ... او عكوس في المرايا او ظلال
لاح في ظل السوى شمس الضحى ... لا تكن حيران في تيه الضلال
فمبنى على ان للوجود البحت بالمعنى الذي ذكر شئوناتي. وتطورات لا تعد ولا تحصى. إذ للتحقق والثبوت الذي هو الواقع في نفس الأمر حقيقة ومعنى ازلا وابدا حيا قيوما شئون واطوار كاملة مترتبة في الكمال غير متناهية غير مكررة ابدا غير منقطعة أصلا إذ الوجود وجود دائما متجدد مستمر على شئون غير متكررة ازلا وابدا. فلك ان تصفى سرك عن مألوفات طبعك رأسا وعن مدركات قواك وآلاتك مطلقا وتراجع ذوقك ووجدانك بعد اطراح عموم الرسوم والعادات عن البين. وإسقاط جميع الكوائن والفواسد عن العين/ حتى تجد في سرك طورا غريبا وطرزا عجيبا وتذوق من وجدك ووجدانك لذة لدنية وشعورا حقيقيا معنويا ووحدانا تاما ذوقيا شوقيا حضوريا كشفيا شهوديا لا كمدركات العقول والافهام. بحسب الانطباع والحصول ولا مثل شعور القوى والأحلام.
بل له شأن لا يعرضه شأن. ولا يحيط به ذوق ووجدان. ولا يسبقه حين ولا زمان. ولا يشغله مكان واركان.
بل كل يوم وآن في شأن لا كشان. وكل ما انعكس منه في سراب الإمكان هو فان. ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام. ومتى تحققت بمقام قد اومأنا عليك. وذقت حلاوة ما أشرنا إليك. وصرت على يقين كامل وذوق تام من لذة التحقق والوجود والثبوت والحضور وترقيب أنت في كشفه وشهوده(1/4)
من مرتبة العلم الى العين ومن العين الى الحق فقد نلت بما نلت وفزت بما فزت وليس وراء الله مرمى ومنتهى. وبعد ما قد وصلت الى هذا المشهد العظيم. وتمكنت في مقام الرضاء والتسليم. فقد تحققت بشئون الوجود ونشآته الغير المحدودة. وحينئذ قد ظهر عندك ولاح لديك كمالات الوجود المتجددة. دائما بالأمثال الى ما لا نهاية لها وتطوراته المتماثلة الغير المتكررة. وتشعشعاته المتشابهة الغير المتطابقة. وتجلياته المتناسبة الغير المتوافقة. وبعد ما قد شاهدت الوجود الحق الحقيق بالتحقق والثبوت على هذا المنوال وانكشفت لك لوامعه اللامعة ازلا وابدا على هذا المثال قد ظهر لك ولاح دونك احوال مطلق الصور والاظلال والعكوس المنعكسة منها والأمثال المترتبة عليها التي هي عبارة عن السوى والأغيار المسمى بالعالم المنعكس من مرآة العدم عند امتداد نور الوجود عليه وظهوره فيه وتبينه به ومنه إذ لا ضد للوجود سواه حتى يبينه ويكون مرآة له وظهور الوجود بلا مرآة مستحيل قطعا إذ قد احرق حينئذ سبحات وجهه ولمعات شروق تجلياته عموم ما انتهى اليه بصره مطلقا" واعلم" ان تشعشع الوجود الحق ازلا وابدا على هذا المنوال وتجدده دائما بتوهم الأشباه والأمثال انما هو دليل توحده وتشخصه سبحانه بالذات والحقيقة وان لم يكن تجليه كذلك فمن انى يعلم انفراد الذات ووحدتها وتشخصها مثلا لو فرض بقاء قرص الشمس ازلا وابدا على تشعشعها وبريقها ولمعانها الذاتية التي نشاهد منها الآن لا بد ان تكون متجلية دائما على هذا الوجه والشان المشاهد البتة بلا طريان اطوار أخر عليها وشئون شتى متخالفة لها بالذات حتى تكون باقية على حالها وشخصها وصرافة وحدتها والا فكيف يعلم انها هي شخصها وان كانت الشئون المتجددة المتواردة عليها آنا فآنا طرفة فطرفة غير متناهية في أنفسها وغير متكررة في حدود ذواتها وهكذا تجليات الحق وشئون الوجود ازلا وابدا بلا تكرر في نشآته وتجلياته أصلا بل، هو متجل دائما بتجليات متناسبة متشابهة في الكمال «2» بلا تناه وتكرار «3» وبالجملة العارف الفطن صاحب الذوق الصحيح والشهود التام إذا أمعن فيما أومأنا عليه وأشرنا نحوه
__________
(2) وليس في الحقيقة وعند لتحقيق الا ذات واحدة ووجود بحت وحقيقة متحدة وهوية شخصية لها نشآت حبية وشئون ذاتية وتجليات شهودية وتطورات ثبوتية لا تجزى فيها حقيقة التي يفصلها ولا انقسام لها حتى يخصصها ويقيدها ولا توارد يعقبها ولا تعاقب يرد عليها ويلحق بها ولا تقضى يعدمها ولا انصرام يفنيها بل ما هو الا حبل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات التي هي ايضا عين الذات لا شيء زائد عليها ملحق بها مغير لها وبالجملة لا اضافة فيها ولا نسبة بين شئونها أصلا بل نشآت الوجود كلها هذا الكل لا كمثل كل سائر الأشياء القابل للتجزئة والتقسيم حسا او عقلا او حكما حاضر حاصل بالفعل بلا توهم ابتداء وانتهاء واحاطة بداية ونهاية وذهاب وغيبة وتجدد وحدوث ودبور وعبور وافول وعقود بل هي مقضية حسب التجلي الحبى المشار اليه في الحديث القدسي لإظهار آثار وإبراز أشباح وأمثال لا بداية لها ولا نهاية تحصرها مرسمة منها منعكسة عنها على مرآة العدم وسراب العالم وتلك الآثار والاظلال المرسومة والعكوس والأشباح المموهة المعدومة معروضة للنسب الموهومة ومحل للكثرات المتوهمة والإضافات المعدومة التي يتوهمها احلام المحجوبين المحبوسين في سجن الطبائع والأركان المتفرعة على سجين الإمكان المستتبع لسلاسل الزمان وأغلال المكان الحاصلة كلها من النسب والإضافات المتوهمة المترتبة على التجزى المخيل والاهمام الموهومة والكثرة المصورة والتعدد المعدوم وبالجملة الحقيقة المتحدة الإلهية لا تعدد فيها أصلا ولا تجزى بين شئونها ونشآتها مطلقا حتى تصور فيها ترتب وترتيب ولا بساطة لها ولا تركيب ولا تعدد فيها ولا تعقيب وكذا فيما يترتب عليها وينعكس منها من الآثار والاظلال ازلا وابدا في الحوادث الكائنة الماضية والآتية مطلقا عند العارف المحقق المتحقق بمرتبة الكشف والشهود والمتمكن في المقام المحمود الوارد على الحوض المورود الذي هو عبارة عن صفاء بحر الوجود إذ هو نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور والمحجوب المجبول على الغفلة والضلال. محروم عن ذوق الوصال. والله اعلم بحقائق مطلق المقال. والحمد لله على كل حال. منه
(3) بل هو عند التحقيق تجل واحد لا تعدد فيه ولا تكرر ولا تجدد الا وهما منه(1/5)
نطمع ونرجو منه طاب وقته ان يعتذر عنا ويعفو عن زلاتنا إذ لا يسع لاقدام الأرقام. ولا لألسنة التعبير والأقلام. الاقدام على سرائر الوجود والالتزام. على شرحه وإيضاحه وإفهامه على ما هو عليه في نفسه بل قصارى ما قيل في شانه وقصوى ما يقال في وصفه وبرهانه المتعالي عن مطلق الافهام والأحلام انما هو التنبه والتنبيه على وحدة ذاته وكثرة شئونه وتطوراته المترتبة على أسمائه وصفاته الذاتية والا فمنازل الوصول الى كنهه لا ينقطع ابد الآباد كما لم ينقطع في أزل الآزال. ولعمري انى مع قلة بضاعتي وضعف يقيني وكلال فهمي وتزلزل قدمي وتذبذب عزمي عن درك الوجود ووجده قد رمت وهممت مرارا ان اكتب ما ذقت وفزت من حلاوة فهمه ووجده وما نلت به منه وبسره حسب ما يسر الله لي وكشف على بمقتضى فضله وجوده والله لقد كل لساني وقصر نطقى وبيانى عن تقرير ما في ذوقى ووجداني وانحسر فطنتي وعقلي عن فحص ما في سرى وقلبي وصرت بحيث قد اعتزل عنى حينئذ عموم قواي وآلاتى ومدركاتها بالمرة وانعزل عنها وعن مقتضياتها جميعا في تلك الحالة الغريبة البديعة وقد بقي إذا في سرى سرور. وفي خلدي وروعي وجد وحضور. لا يحوم حوله فترة وفتور. ولا يعتريه غفلة وقصور. ولا شك ان التعبير عن مطلق الوجدانيات على وجهها متعذر عند جمهور العقلاء وذوى الأذواق الصحيحة والعزائم الخالصة من العرفاء الأمناء «2» بخلاف الانطباعيات الحاصلة بوسائل القوى والآلات فان التعبير عنها على وجهها ميسر لكل من تصدى وقصد التعبير عنها والسر في ذلك والله اعلم ان في الانطباعيات قد تنفعل وتتأثر القوة المدركة المحصلة لها والقوى والآلات المؤدية إليها الممدة إياها فيمكن التعبير عن الصور الحاصلة المنطبعة في القوة العاقلة الحاملة لها وكذا عن جميع ما حصل في سائر المشاعر والآلات من الصور والأمثال بخلاف الوجدانيات فان فيها ومنها تتأثر الروح الذي هو من عالم الأمر الإلهي فكما لا يمكن التعبير عن الروح وعن لميته وكيفيته كذلك لا يمكن التعبير عن الوجدانيات ومطلق اللدنيات والحضوريات ايضا. وبعد ما قد ظهر من سياق ما قررنا لك وسباق ما تلونا عليك ان الوجود الحي القيوم الدائم الثابت ازلا وابدا على صرافة وحدانيته وفردانيته واستقلاله في ذاته وتحققه ووجوده يمكن ادراك انيته ووجدته وحضوره وكشفه وشهوده على الوجه الذي هو عليه وكذا ادراك اتصافه بالأوصاف والأسماء الذاتية وتجليه عليها دائما بلا فترة وتعطيل وبلا انقضاء وتحويل لكن لا يمكن ان يدرك لميته وكيفيته وحقيقته التي هو به هو إذ الخوض فيه وفي إيضاحه وشرحه والغوص في لججه وغوره خارج عن مشاعرنا ومداركنا مطلقا متعال عن طور البشر وفهمه بالمرة إذ البشر عاجز عن معرفة نفسه فكيف عن معرفة ربه «3» ولهذا قال اصدق القائلين صلى الله عليه وسلم في مقام العجز والقصور من عرف نفسه فقد عرف ربه إذ النفس والروح كلاهما من عالم الأمر الإلهي وما لنا اطلاع به على طريق اللمية والحصول بل بطريق الإنية والحضور. وبعد ما ثبت ان الوجود المطلق والحق المحقق والذات المتحقق الثابت ازلا وابدا قد كان معلوم الإنية والحضور مجهول اللمية والحصول ينكشف به الموحدون المكاشفون ويشهده المقربون المخلصون ويفنى فيه الهائمون الحائرون ويبقى ببقائه الوالهون الواصلون ولمثل هذا فليعمل العاملون ثبت ان ظهوره غيبا وشهادة صورة ومعنى دنيا وعقبى ازلا وابدا انما هو من وراء سرادقات آثار الأوصاف والأسماء
__________
(2) ولهذا لا تصير الوجدانيات دليلا على الخصم ولا يتركب منها الادلة والقياسات وان كانت في أنفسها من أجل العلوم وأجلاها «منه»
(3) ولقد احسن من قال ما للتراب ورب الأرباب «منه»(1/6)
الذاتية الإلهية المتفرعة المترتبة عليها مطلق الصور والآثار الصادرة الظاهرة والباطنة المعقولة والمحسوسة.
وبالجملة العالم عبارة عن عموم الصور والآثار والاظلال المنعكسة من تلك الأسماء والصفات الإلهية المستندة الى الذات الاحدية فباعتبار انها آثار متكثرة وقوابل متعددة واظلال متخالفة وعكوس متلونة وأمثال متجددة متنوعة متفرعة على تلك الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية مستحدثة منها معلولة لها تسمى عالم الناسوت وعالم الملك وعالم الشهادة وعالم الحس وعالم الخيال وعالم المثال وعالم النقوش والأشباح الى غير ذلك من العوالم والعبارات المتكثرة الغير المنحصرة وباعتبار مؤثراتها ومصادرها وأصولها ومدبراتها وعللها وفواعلها واربابها واسبابها تسمى عالم اللاهوت وعالم الملكوت وعالم الجبروت وعالم الغيب وعالم الأمر وعالم الأسماء والصفات وعالم الأعيان الثابتة وعالم النفوس والأرواح وغير ذلك من العبارات والاعتبارات التي لا تعد ولا تحصى وباعتبار اندماج الكل في المرتبة الواحدية واندراجها في الهوية الشخصية وكمونها في الحقيقة المتحدة المحمدية وانطوائها في المرتبة الجامعة الجمعية واستهلاكها في حضرة الذات الاحدية المنزهة عن شوب الكثرة وشين الثنوية مطلقا تسمى باسم الله المستجمع لعموم الأوصاف والأسماء وبالغيب المطلق وبالعماء الذاتي وبالوجود المطلق البحت الخالص عن مطلق القيود والحدود وبالحق الحي القيوم المحقق المتحقق ازلا وابدا وبلفظة هو المعبر به عن الهوية المتحدة المتوحدة المتفردة بالذات مطلقا. وبالجملة عليك ان تتفطن من هذه العبارات المتلوة عليك.
والروايات المقروة عندك والإشارات المرموزة بها إليك. الى ما هو قبلة عموم مقاصدك. وقدوة جميع مطالبك ومآربك. مجردة عن اكسية عموم الألفاظ والعبارات. معراة عن تعبيرات مطلق الحروف والكلمات. وعن عموم الرموز والإشارات. المؤدية اليه والدرايات. المشعرة له والإدراكات. المشيرة إياه بل لك ان تخلى فطنة فطرتك وجودة سرك وفكرتك عن رذائل مطلق الرسوم والعادات الطارئة عليك من مألوفات طبعك ومدركات حواسك ومنتزعات آلاتك وقواك. وبالجملة عليك ان تصفى سرك عن نشآت ناسوتك رأسا وتحليها بالواردات الغيبية اللاهوتية المنصبغة بصبغ الحق الحقيق بالحقية الفائضة من لدنه سبحانه بمقتضى استعدادك وفطرتك التي قد فطرك الحق عليها في حضرة علمه الحضوري المحيط وفي لوح قضائه الأزلي السرمدي المحفوظ عن طريان تبديل وتغيير بلا تصرف فيهما منهم شياطين الأوهام والخيالات الناسوتية المستدعية المستتبعة لانواع الرسوم والقيود الامكانية والحدود المتفرعة على الكثرة المقتضية للشركة في الألوهية والربوبية المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الحقية الحقيقية المستغنية في ذاته عن مطلق الكثرات الناسوتية مطلقا وإياك إياك ان تنظر الى منطوقات الألفاظ ومحتملاتها فإنها حجب غليظة وسدل كثيفة مسدولة مرخاة بينك وبين مقصدك الحقيقي فلولا ان التنبه والتنبيه والإفادة والاستفادة قد حصلا بالألفاظ والعبارات وبتأديتها وأدائها لما صح وجاز التنطق والتكلم بحجب الألفاظ والعبارات مطلقا سيما لأرباب المعارف والحقائق وذوى العزائم الصحيحة والأذواق الخالصة الذين هم قد خرقوا عموم الحجب والأستار عن البين. وفتقوا مطلق الاغطية والاغشية عن العين. بحيث صاروا ما صاروا بلا سترة وحجاب جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم وصل لهذا الأصل ثم لما كان ظهور الحق وبروزه ازلا وابدا من وراء أستار الآثار الناسوتية وحجب العكوس والاظلال الكونية والكيانية التي هي ملابس الأسماء والصفات اللاهوتية أراد سبحانه ان ينبه على ارباب العناية والقبول من العكوس والاظلال المجبولين على فطرة الايمان والعرفان.
المصورين بصورة الرحمن المختصين بخلعة الخلافة والنيابة من لدنه سبحانه وحدة ذاته المتصفة بعموم(1/7)
أوصاف الكمال ونعوت الجلال إذ لولا تنبيه الحق وإرشاده وهدايته سبحانه إياهم الى وحدة ذاته ووجوب وجوده وكمالات أسمائه وأوصافه لما تيسر لهم الاطلاع والوقوف على ذاته سبحانه أصلا مثلا لو فرض بقاء شروق الشمس واضاءتها ازلا وابدا على هذا المنوال بلا طريان افول وزوال.
وتعاقب ظلمة وليال. من انى يعلم ان الأنوار والأضواء المحسوسة قد صدرت منها ومن جملة خواصها وأشعتها ولمعانها وشمس الحقيقة الحقية ازلا وابدا على شئونها ولمعانها الذاتية بلا تعاقب افول وطريان تغير وتحول أصلا. وبالجملة لولا ارشاد الحق لعباده الى وحدته الذاتية لصاروا محجوبين منه ومن معرفته ازلا وابدا ولا يهتدون اليه سبيلا أصلا فاقتضت الحكمة الإلهية وضع الطرق والسبل الموصلة الى وحدة ذاته ووجوب وجوده واستقلاله فيه وتوحده في ألوهيته وتفرده في ربوبيته والى سريان سر وحدته الذاتية على ذرائر عموم مظاهره ومجاليه المتكثرة وانبساطه عليها حسب شئونه وتطوراته المترتبة على أوصافه وأسمائه الذاتية المنوطة على تشعشع تجلياته المتجددة دائما بحسب الكمالات الذاتية والنشآت الحبية اللازمة للوجود المطلق المنزه عن وصمة عموم الفتور والفطور. المعرى عن سمة مطلق النقص والقصور. بل يتلألأ دائما على شئون الكمال ازلا وابدا بلا انقضاء وزوال وبلا انصرام وانخرام فيترتب ازلا وابدا دائما مستمرا على نشآته وشئونه الآثار والأمثال. ويتراءى منها على الدوام العكوس والاظلال. فوضع سبحانه حسب حكمته المتقنة مراتب النبوة والرسالة والولاية المطلقة فيفرع عليها الايمان والعرفان والكشف والعيان الى غير ذلك من الحالات العلية والمقامات السنية الواردة لأرباب القلوب الصافية ويظهر ايضا في مقابلة هذه المراتب المذكورة مراتب نقائضها وأضدادها فتكثرت الشئون والنشآت وتشعبت الصور والآثار واختلفت الآراء والأفكار وتزاحمت الطرق والمذاهب وتخالفت الملل والأديان وانقلبت الأطوار والمشارب. وبالجملة قد تحزب نوع الإنسان المجبول على فطرة الدراية والشعور والمعرفة والايمان أحزابا مختلفة وتفرقوا فرقا شتى متخالفة وبالجملة قد بلغت الكثرة غايتها والخلاف والاختلاف نهايتها لذلك اقتضت الحكمة العلية الغالبة الإلهية ثانيا ايضا بوضع النشأة الاولى والاخرى فوضع في الاولى ما وضع من طرق التكاليف المشتملة على الأوامر والنواهي والمندوبات والمحظورات والمكروهات والمستحبات ومطلق المعروفات والمستحسنات الشرعية ومكروهاتها ومستقبحاتها الموضوعة بالوضع الإلهي المثبتة في الكتب المنزلة على الأنبياء والرسل وفي الاخرى التي هي دار المكافاة والمجازاة عن عموم ما جرى في النشأة الاولى كل لنظيرها او نقيضها فوضع سبحانه حسب حكمته المتقنة وفاقها وطباقها ما وضع بمقتضى العدل الإلهي والقسط الحقيقي من الجنة والنار والثواب والعقاب والسؤال والحساب ومطلق الدرجات الجنانية والدركات النيرانية وعموم المعتقدات الاخروية الجارية فيها بالوضع الإلهي ثم اعلم ان مطلق العوالم والنشآت الكلية الإلهية مثل الغيب والشهادة والملك والملكوت والاولى والاخرى وعالم الحس وعالم الخيال وعالم الأمر وعالم المثال وعالم الأشباح وعالم الأرواح وغير ذلك من العوالم والنشآت المحيطة والشئون المحتوية الكلية بل عالم السموات وعالم الأعيان الثابتات وعالم الطبائع والأركان قد يتمثل ويتصور في احد النظيرين او النقيضين منها ما في النظير او النقيض الآخر من الصور والأمثال. والهياكل والأشكال. بصور وهيآت متطابقة متوافقة لها في الحقيقة والمآل. متخالفة بحسب الصورة والحال. فيؤثر ما في احد العالمين في ما في العالم الآخر ويتأثر هو منه بناء على ارتباطات رقيقة ومناسبات دقيقة لا يعلمها الا هو وصور الرؤيا وتعبيراتها ايضا منها(1/8)
وهذا من غوامض ما قد ينكشف لبعض ارباب المعارف والحقائق الواصلين الى مرتبة الكشف والشهود بحيث قد صار كمالاتهم كلها بالفعل بل بلا انتظار منهم وترقب وبالجملة هذا مبنى على ارتباط جميع أجزاء العالم بعضها ببعض واتصاف كل منها بصفة الآخر على سبيل الإبدال. واتحاد الكل في الحقيقة والمآل. والله اعلم بحقائق عموم المدارك والمقال. والحمد لله على كل حال وصل آخر وبعد ما قد بلغت الكثرة غايتها وانتهت المخالفة نهايتها اظهر سبحانه مرتبتي النبوة والولاية كما أشرنا اليه بان خص بعض النفوس القدسية بالإلهامات الغيبية والإلقاءات الكشفية المعدة للنفوس الزكية لان ينزل عليها سلطان الوحدة الذاتية حسب شئونها وأوصافها وأسمائها وبعد ما قد نزلت الوحدة الذاتية عليها على وجهها وتمكنت فيها بذاتها وتشرفت هي بنزولها وورودها قد فنيت حينئذ هويتها الناسوتية في لاهوتية الحق بالمرة فمنهم من انجذب
إليها بالكلية ولم ينزل عن تلك المرتبة أصلا بل قد بقيت في عالم اللاهوت منخلعة عن البسة عالم الناسوت رأسا بلا شائبة التفات ورجوع منهم الى جانب عالم الناسوت ومقتضياتها أصلا الا وهم البدلاء الأمناء العرفاء الحائرون الهائمون الوالهون الواصلون الفانون الفائزون الباقون الدائمون التائهون الآمنون وهم هم تحت قباب عز الوجوب متمكنون. وعن لوازم الإمكان منسلخون. الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومنهم من حاز كلتى مرتبتي الظاهر والباطن والغيب والشهادة والاولى والاخرى فاستقروا في مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية واحاطوا عموم مراتب الملك والملكوت والناسوت واللاهوت والغيب والشهادة فاستحقوا بكمال التمجيد والتعظيم واختصوا بمزيد التربية والتكريم من لدنه سبحانه وكيف لا وهم قد تأيدوا من عنده سبحانه بالقوة القدسية والحدس الفطري والكشف الجبلي بتربية بعض الأسماء الإلهية إياهم وتقويته عليهم وتأييده إليهم فهؤلاء هم الأنبياء الأمناء الأصفياء الواصلون الى وحدة الذات المتمكنون في مقر الخلافة الإلهية والنيابة الحقيقية الحقية وبالجملة قد انتهت علومهم اللدنية وادراكاتهم الفطرية اللاهوتية الفائضة عليهم من العقل الكل المنشعب من حضرة العلم المحيط الإلهي الى مبدئها الأصلي ومنشأها الحقيقي وكذا عموم أعمالهم الصالحة المقبولة المرضية عند الله الفائضة عليهم من النفس الكلية المنشعبة من حضرة القدرة العلية الغالبة المحيطة الإلهية ايضا الى منشأها الأصلي ومبدئها الحقيقي وبالجملة قد انتهت عموم اوصافهم وأفعالهم ومواجيدهم وأحوالهم الى ما قد فاضت عليهم من المبدء الفياض وكيف لا وقد خلقهم الحق بأخلاقه بعد ما خلفهم عن نفسه وانابهم مناب قدس ذاته وبعثهم الى جميع خليقته وعموم بريته بالولاية المطلقة والدعوة العامة والهداية الكاملة والإرشاد التام الى وحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته وأيدهم بأنواع الكرامات والارهاصات. والمعجزات الخارقة لمطلق الرسوم والعادات. وبوضع الملل والأديان والشرائع المنسوبة الى كل واحد منهم في زمان بعثته وأوان ظهوره وبروزه في أمته ومع ذلك قد خص المرسلين منهم بانزال الكتب والصحف المشتملة على الأخلاق الحميدة الإلهية وسننه السنية وشيمه العلية وخصاله المرضية الجملية المأمورة لهم من لدن حكيم عليم" واعلم" ان بعض ارباب المشارب والأذواق الصحيحة قدس الله أسرارهم قد وجدوا لبعض الأوصاف والأسماء الإلهية مزيد تربية واختصاص بالنسبة الى بعض من المنقطعين نحو الحق بالكلية بتوفيق من لدنه وجذب من جانبه ولهذا ترى بعض المرشدين المكملين يرشدون بعض ارباب الطلب والارادة المسترشدين منهم في أوائل أوان طلبهم وارادتهم باسماع أمهات الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية وتلاوتها عليهم وقراءتها عندهم على تؤدة وطمأنينة تامة وترتيل كامل ليتفرسوا منهم كمال المناسبة والاختصاص(1/9)
بالنسبة الى بعض الأسماء وأشعروا منهم زيادة تأثرهم وانفعالهم عنه وقبول الأثر منه وبعد ما قد تفرسوا منهم ذلك بالنسبة الى اسم معين وصفة مخصوصة معينة قد ارشدوهم بها وامروهم بتكرارها وتذكارها الى ان قد أحاط بهم أثرها وتمثل عندهم ذلك الاسم والوصف بهيكل ملك ينزل على قلوبهم ويوحى إليهم من المغيبات اللاهوتية وبعد ما قد أتموا امر هذا الاسم ارشدوهم باسم آخر وهكذا الى ان يستوفوا جميع أمهات الأسماء والأوصاف الإلهية على وجهها وحينئذ تمكن في مقر الخلافة والنيابة والولاية المطلقة وصار ما صار بلا سترة وحجاب فحينئذ امروهم وأجازوا لهم بالإرشاد والتكميل ثم اعلم ان العوالم الكلية التي وقع مجالي لتجليات الحق وشئونه الذاتية ومظاهر وآثارا لأوصافه العلية وأسمائه السنية أجل من ان يحيط بها الآراء. او يضبطها العقول والأهواء. بل لا نهاية تحيطها ولا غاية تحصرها أصلا فمن وصل منها الى ما وصل فقد حصل دونه وصدقه وتحقق عنده ومن لم يصل اليه ولم يذعن به ولم يحصل عنده لا بد له ان لا يبادر الى نفيه وإنكاره بل ان يؤمن به ويذره في فضاء الوجود وسواد شئونه وتطوراته المتواردة عليه الى ما شاء الله وما يعلم جنود ربك الا هو وبالجملة ليس الشعور والاطلاع على شئون الوجود وتجليات الحق ونشآته الذاتية وآثار أسمائه وصفاته الغيبية منحصرا بطرق الإدراكات الرسمية والعلوم العادية بواسطة القوى والآلات الطبيعية
والمدارك الحسية او العقلية او الوهمية او الخيالية بل طرق العلوم اللدنية والإدراكات الحضورية والوجدانيات الفطرية والحدسيات الجبلية غير متناهية مثل المعلومات والمدركات الإلهية التي ذكرت بل لكل فرد فرد من افراد الإنسان بل لغيره من الحيوانات العجم بل لسائر المولدات وعموم المركبات من السماويات والأرضيات ومن الممتزجات الكائنة بينهما بل لعموم الذرائر والهباآت المتطايرة في عالم الشهود والفطرات المتتالية في بحر الوجود المترشحة منها على تعاقب الأزمان والعهود طرق اطلاع وشعور شتى وسبل عثور وإدراكات لا تكاد تتناهى كلها منتشئة منشعبة من العقل الكل المنشعب من حضرة العلم المحيط الإلهي وبعد ما ثبت ان العوالم الكلية غير منضبطة وغير متناهية وغير محدودة أصلا وان طرق الشعور والإدراك ايضا كذلك فكيف يسع لاحد ان ينفى ما لم يحط به علما وبالجملة من وصل الى سعة قلب الإنسان المصور بصورة الرّحمن واطلع على فسحة فضاء صدره الذي لا يقدر وسعته بمطلق المقادير أصلا قد انكشف بكثرة مظاهر الحق ومجاليه وعدم تناهيها حسب سعة قلبه وفسحة صدره فحينئذ لا يتأتى منه النفي والإنكار أصلا فلك ان تستحضر وتتذكر ما قال سلطان العارفين وبرهان الواصلين أنال الله براهينه وقدس الله اسراره مشيرا الى سعة قلب الإنسان لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس وقد قال ايضا رأس الموحدين ورئيس المحققين محي الملة والدين قدس الله اسراره ورضى عنه وأرضاه مبالغا لو أن ما لا يتناهى وجوده قدر انتهاء وجوده في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس والحديث القدسي الذي اخبر به سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم مشيرا الى سعة عرشه وفسحة مجلاه بقوله لا يسعني ارضى ولا سمائي بل يسعني قلب عبدي المؤمن يغنيك عن كلا القولين المذكورين وبالجملة القلب الذي قد وسع الحق فيه لا يكتنه وسعته مطلقا ولا يدرك به ولا يحاط بفسحته أصلا ومن وصل اليه وحصل دونه لم يبق له مجال انكار وجدال جعلنا الله ممن وصل اليه وحصل دونه بمنه وجوده ثم اعلم ان مفتاح عموم الأسماء الإلهية والصفات الذاتية والفعلية انما هي صفة الحياة الازلية الابدية للوجود المطلق ومن لوازمها القيومية السرمدية والديمومية المطلقة الحقيقية الحقية والحي الحقيقي لا بد ان يكون واجب الوجود دائم التحقق والثبوت متصفا(1/10)
بعموم الأوصاف والأسماء الكاملة الشاملة ازلا وابدا وصفة الحياة الحقيقية التي هي ثابتة للوجود المطلق مستتبعة لها مستدعية إياها البتة والقيومية المطلقة والديمومية ازلا وابدا لازمة لها غير منفكة عنها أصلا ليكون حيا قيوما دائما في نفسه قياما لما يترتب على أوصافه وأسمائه من الآثار والاظلال والصور والأمثال" واعلم" ايضا ان للاوصاف والأسماء الذاتية الإلهية الفائتة للحصر والإحصاء والحد والانتهاء آثارا بعضها الاعداد وإعطاء الاستعدادات والقابليات ليستعد البعض ويقبل الكمالات اللائقة الفائضة عليه من البعض الآخر في نشآت ومراتب وبالعكس في نشآت ومراتب اخرى وبالجملة بعض الأوصاف الإلهية والأسماء الذاتية يوجد ويظهر أثرا قابلا لقبول ما يفيضه البعض الآخر من الكمالات اللائقة الوجودية في مرتبة وشأن وهذا الفاعل ايضا قابل بالنسبة الى فاعل آخر في شأن آخر وكذا هذا القابل ايضا فاعل بالنسبة الى قابل آخر في مادة اخرى بل كل القوابل فواعل والفواعل قوابل بحسب الشئون والمواد وهكذا جريان التفاعل والتمازج ازلا وابدا بين مقتضيات الأسماء والأوصاف الذاتية والفعلية الإلهية والصور والآثار المترتبة عليها والشئون والتطورات الطارئة إياها وبالجملة سريان الوحدة الذاتية على عموم الكثرات الاسمائية والصفاتية ازلا وابدا على هذا المنوال بلا انقضاء وزوال فعليك ايها العارف المتفرج اعانك الله على ما يعنيك ان تنصرف أنت في نفسك عن تصرفات مداركك ومشاعرك مطلقا وتنعزل عن مقتضيات قواك وآلاتك جملة وعن لوازم حواسك ومدركاتها رأسا وبالجملة عليك ان تميت نفسك بالموت الإرادي عن مقتضيات الحياة المستعارة الصورية ولوازمها الناسوتية مطلقا حتى تكون أنت بلا أنت وكنت بلا كنت متصفا بالحياة الحقيقية الحقية ولوازمها اللاهوتية ومقتضياتها الروحانية الباقية ازلا وابدا وحينئذ يمكنك التحقق والتمكن والتقرر في مقر الخلافة
والنيابة الإلهية بلا تزلزل وتلوين فحينئذ حق لك ان تتفرج في مظاهر الحق ومجاليه التي هي متنزهات اليقين العلمي والعيني والحقي وتتنعم أنت بلا أنت في روضات المكاشفات والمشاهدات الجارية فيها انهار المعارف والحقائق المملوة بمياه العلوم اللدنية والإدراكات الفطرية الفائضة من العقل الكل والنفس الكلية المنشعبتين من حضرتى العلم المحيط الإلهي والقدرة الكاملة الشاملة المنبسطة من القوة القدسية المترشحة من بحر الوجود بمقتضى الجود الإلهي وإياك إياك ان تميل الى مزخرفات الدنيا الدنية ومقتضيات القوى البهيمية ومشتهيات النفس والهوى فإنها تعوقك عن المولى وتضلك عن طريق الرشد والهدى عصمنا الله وعموم اهل الطلب والارادة عن متابعة النفس ومشايعة الهوى بمنه وجوده ثم اعلم ان الأوصاف الكاملة والأسماء العامة الشاملة الإلهية المشتمل عليها الوجود المطلق الإلهي المندرجة في الوحدة الذاتية والهوية الشخصية السارية الحقيقية الحقية تقتضي الظهور والبروز حسب كمالاتها الذاتية الكامنة فيها إذ من لوازم عموم الكمالات الوجودية ومن مقتضياتها الكمالية التحقق والبروز على حسب الكمال الوجودي بمقتضى التجلي الحبى بحسب الجود الإلهي ولا شك ان ظهور الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية بحسب الكمال انما هو بصدور الآثار منها وبترتب الصور والاظلال عليها وحصول العكوس والأمثال من شئونها وتجلياتها في عموم العوالم والمجالى غيبا وشهادة وظهور الآثار والأمثال منها انما هو بتوهم الذوات والموصوفات والمسميات الحاملة إياها ظاهرا فمن ظهور الأوصاف والأسماء الذاتية ظهر الصور والآثار والاظلال الوهمية المستندة الى الذوات المعدومة والموصوفات الموهومة المنعكسة من تلك الأوصاف والأسماء الذاتية الكاملة في أنفسها المقتضية للظهور والبروز المربية لتلك الصور والاظلال والأشباح المرئية في عالم(1/11)
الشهادة المستحدثة منها فيها فمن ظهور تلك الأوصاف العلية والأسماء السنية على هذا الوجه قد ظهرت مراتب الربوبية والعبودية والخالقية والمخلوقية والإيجاد والموجودية والصانعية والمصنوعية الى غير ذلك من العبارات الدالة على الشئون والكثرات المنتشئة من وحدة الذات فظهر ان مناط عموم التكاليف الإلهية ومنشأ مطلق الأوامر والنواهي وجميع الحكم والاحكام والأخلاق والأطوار الحميدة والخصال المرضية المأمور بها ونقائضها المنهي عنها وسائر المعتقدات الاخروية والطاعات والعبادات الدنيوية التي قد نطقت بجميعها السنة الرسل والكتب الإلهية انما هي واردة منوطة مربوطة على مرتبة العبودية القابلة للاسترشاد والاستكمال المعدة المستعدة للإرشاد والتكميل ليتخلق العباد المربوبون والاظلال المألوهون بأخلاق الحق ويتقربوا اليه ويتمكنوا على مقر الخلافة والنيابة الإلهية التي قد فطروا عليها وجبلوا لأجلها وكلفوا فيها حسب استعدادهم وايضا من ظهور هاتين المرتبتين قد ظهر منازل الجنة والنار ودرجات القرب والوصال ودركات البعد والفراق ولاح شياطين الأوهام والخيالات وانواع الكفر والضلالات وما يترتب عليها من العقارب والحيات وكذا طرق الهداية وسبل السلامة وما يترتب عليها من الغلمان والولدان والحور القاصرات الى غير ذلك من عموم المواعيد والوعيدات وانواع التبشيرات والإنذارات الواردات في الكتب الإلهية والصحف السماوية النازلة من عند الله العليم الحكيم ثم اعلم ان الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية ما هي الا عين الذات لا امور زائدة عليها منفصلة عنها منافية لصرافة وحدتها وإطلاقها الحقيقي وتجردها المعنوي بل ما هي عند التحقيق الا شئون الوجود وتجليات الحق وتطورات بقائه وثبوته وتحققه بحسب الكمال إذ للوجود البحت في كل آن شأن لا مثل شأن سابق ولا مثل شأن لا حق بل يتعاقب عليه الشئون والأطوار متجددة مترتبة ازلا وابدا بلا تكرر وتوارد أصلا فيترتب دائما على شئونه وتطوراته آثار واظلال وتنعكس منها صور وأمثال فيتراءى في سراب العالم ومرايا الاعدام بانبساطها عليها وامتدادها إياها ازلا وابدا هياكل وأمثال وأشباح واشكال لا نهاية لها ولا غاية تحصرها فباعتبار إيجادها الصور والآثار وإظهارها الأشباح والأمثال تسمى اسماء الهية وباعتبار انعكاس الاظلال والصور الكائنة والآثار المرئية المستحدثة منها تسمى اوصافا ذاتية وباعتبار اطلاق الذات وتجردها عن الكل في حد ذاتها وتشعشعها حسب كمالاتها تسمى شئون الوجود وتجليات الحق ولمعات شمس الذات فمن لا حظ كيفية تنزلات الذات الاحدية وهبوطها عن مكمن العماء الذاتي
والغيب المطلق ومرتبة البطون الى فضاء البروز ومرتبة الكشف والجلاء وعالم الظهور والانجلاء اثبت له سبحانه حسب المراتب العلمية على سبيل التفصيل العلمي اسماء واوصافا ذاتية هي علل موجبة وارباب موجدة واسباب مظهرة لمسببات عموم المظاهر والمجالى العلوية والسفلية من الصور والآثار والأشباح الكائنة في العوالم الكلية والجزئية الغيبية والشهادية الدنيوية والاخروية والبرزخية والمثالية وغير ذلك من العوالم والمجالى التي قد لمعته عليها بروق الوجود ولاحت دونها شروق شمس الذات الاحدية ومن ترقى من مرتبة العلم الى العين ورفع حجب الصور والأمثال عن البين ومحا وحك نقوش عموم العكوس والاظلال ومطلق الصور والأمثال والهياكل والأشكال المرتكزة المنعكسة في مرايا الاعدام عن دفتر الوجود وجرده عن امتزاج العدم واختلاط النسب والإضافات به وانعكاسه عنه مطلقا فقد رأى الحق وانكشف به وبدا له هو سبحانه بلا كيف واين ووضع وجهة على الوجه الذي بدا وطلع دونه شمس الذات الاحدية من آفاق عموم الذرات المترتبة على الأسماء والصفات(1/12)
الإلهية فلم يبق عنده وفي بصر بصيرته وعين شهوده نقوش مطلق العكوس والسوى والاظلال والأغيار مطلقا بل ما شاهد وما رأى الا الحق وأوصافه وأسمائه في كل ما شاهد ورأى حسب إطلاقه الذاتي مجردا عن ملابس الكثرات والنسب والإضافات مطلقا بحسب ما زاغ بصره وما طغى حين رأى آيات ربه الكبرى وبالجملة ما كذب فؤاده ايضا في عموم ما علم ورأى إذ ليس وراء الله مريء ومرمى ومن ترقى من مرتبة العين الى الحق فقد هدى الى ما هدى ووصل الى ما وصل وحصل عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وتشرف بشرف اللقيا وتكرم بكرامة قاب قوسين او ادنى وحينئذ قد اوحى اليه الحق ما اوحى فقد طويت دونه سجلات الأوصاف والأسماء واضمحل لديه نشآت الاولى والاخرى وارتفع عن بصر بصيرته ونظر كشفه وشهوده مطلق التعداد والإحصاء ولم يبق دونه لا الآراء ولا الأهواء بل قد تلاشى عنه الاسم والمسمى وقد فنى حينئذ هو وهويته وذاته وماهيته في هوية الحق وذاته مطلقا واضمحلت تعينه في عينه سبحانه وبالجملة قد لاحت عنده وبرزت دونه عماء في عماء مشتملة على صفاء في صفاء بحيث لا يتعاقب فيها لا الظلمة ولا الضياء ولا الصباح ولا المساء ولا اللذة ولا العناء ولا الوجد ولا الفقد ولا الجد ولا الجد ولا الفرح ولا الترح ولا العدد ولا المعدود ولا الحد ولا المحدود ولا الحامد ولا المحمود ولا الشاهد ولا المشهود ولا الحضور ولا الشهود ولا الوجود ولا الموجود ولا الوجدان ولا الفقدان بل هو نور على نور. وحضور في حضور. وسرور غب سرور. بحيث لا يعرضه فترة وفتور. ولا يحوم حوله غفلة وفطور.
وفتور وقصور. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. أدركنا بلطفك يا رحيم يا غفور ثم اعلم ان مطلق الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية التي ما يشعر بها وما يدل عليها وعلى انيتها وثبوتها الا صدور الأفعال المتقنة منها وترتب الآثار المحكمة عليها وانعكاس الصور والأمثال العجيبة عنها ولا شك ان مطلق الآثار والأفعال. وعموم العكوس والاظلال. أعراض سريعة الزوال.
مسرعة على الانقضاء والارتحال. بلا قرار ومدار بل ما هي في الحقيقة الا نقوش معدومة. وتمثلات موهومة. وصور مموهة وهياكل مخيلة قد انعكست على مرآة العدم من اسباب الأسماء والصفات الإلهية فيتراءى بصور الموجودات المتأصلة كالصور المرئية في المرايا والأمواج الحادثة على سطح الماء فلكل اسم ووصف من الأوصاف الإلهية والأسماء الذاتية الوجودية له اثر خاص وصورة مخصوصة متعينة في عموم العوالم الكلية والجزئية القابلة للتمثل والانعكاس منها تدل تلك الأثر والصورة على ذلك الاسم والصفة المربية له وتستمد هي منه على الدوام متجددا متبدلا مثل تجدد الاعراض وتبدلها بالأمثال والأشباه هكذا تجليات عموم الأسماء والصفات الذاتية الإلهية ازلا وابدا على هذا المنوال بلا تبدل وانتقال وتغير وزوال وبالجملة الآثار والاظلال الكائنة في عوالم المظاهر والمجالى الإلهية مطلقا كلها اعدام عاطلة وخيالات باطلة واظلال زائغة زائلة لا ثبات لها حقيقة ولا قرار لها حكما ومعنى ومؤثراتها واربابها واسبابها وعللها وموجداتها اسماء شتى وأوصاف لا تحصى وشئون ذاتية لا تتناهى قائمة بذات الحق غير زائدة عليها وغير منفكة عنها ما هي الا عينها وعين شئونها وتجلياتها بحيث لا تغاير بينها وبينها أصلا كما أشرنا اليه فيما مضى. ومن جملة الأوصاف الكاملة الشاملة الإلهية القائمة بذاته سبحانه الكلام الحامل لمطلق الوحى والإلهام الإلهي المؤدى لعموم أوامره ونواهيه الجارية على السنة عموم الشرائع والأديان والملل والمذاهب القاضي المنفذ لمطلق الحكم والاحكام المتداولة بين المظاهر والمجالى الإلهية جملة وكذا لسائر التدبيرات والتصرفات الواقعة في نشآت اللاهوت والناسوت وعالم الملك وعالم الملكوت(1/13)
وعالم الأمر وعالم الجبروت وهكذا جرى ويجرى حكمه في مطلق العوالم الكلية والجزئية وفي اظهار عموم المرادات والمقدورات ومطلق المعلومات والمدركات المندرجة في الاستعدادات الجبلية والقابليات الفطرية وبالجملة صفة الكلام وسيلة وآلة لعموم الأفعال الصادرة والتصرفات الواردة من الفاعل المطلق والمتصرف المختار بالإرادة والاختيار ولها بالنسبة الى كل عالم من العوالم الكلية ومجلى من المجالى الإلهية اثر خاص ومربوب مخصوص ينعكس منها له مناسبة وملائمة مخصوصة بالنسبة الى ذلك العالم ينسب الى ذلك الأثر المخصوص جميع الأمور المذكورة المفوضة إليها والتصرفات المشار بها آنفا في عالم عالم والأثر المخصوص لصفة الكلام الإلهي في عالم الإنسان المصور على صورة الرّحمن اثر الصوت الحاصل من تقاطعه في مخارج نوع الإنسان جواهر الحروف الحاصلة منها ومن تراكيبها الغير المحصورة هيآت الكلمات الملفوظة ومفردات الألفاظ المنطوقة والأسامي الموضوعة لوحدات المعاني وآحاد المسميات على سبيل التعداد ويحصل ايضا من تراكيب تلك الكلمات وانضمام بعضها الى بعض برقائق الامتزاجات والاختلاطات ودقائق الارتباطات صور الكلام وهيآت الجمل والآيات واسفار السور وصفائح الصحف والكتب وجرائد الآثار والاخبار وعموم القصص والقصائد ومطلق الحكايات والعبر والأمثال المعربة المفصحة عما في ضمائر اولى الأيدي والأبصار المظهرة لما في مكنونات مطلق القابليات ومطاوى عموم الاستعدادات الى فضاء البيان والعيان وبالجملة قد يترتب عليها وينشأ منها ما شاء الله من ارقام الأقلام على صفائح الأكوان وألواح الأعيان والأركان ومن ملتقطات الافهام وموهوبات منطوقات الوحى والإلهام الفائضة من حضرة العليم العلام القدوس السّلام النازلة على قلوب الأمناء العرفاء الظاهرة الصادرة من السنة الأنبياء والرسل الكرام والأولياء الكمل والأصفياء العظام الواصلين الى مرتبة الكشف والشهود والمستغرقين بمطالعة وجه الله الكريم الودود الواردين على الحوض المورود المتمكنين في المقام المحمود الذي هو عبارة عن وجوب الوجود وفضاء الوحدة الذاتية التي هي منبع مطلق الكرم والجود وينبوع بحر الوجود واليه ينتهى كل مأمول ومقصود. ثم لما أراد سبحانه من كمال فضله وجوده ان يرشد عباده الى كعبة ذاته وعرفات أسمائه وصفاته ويهديهم الى فضاء وحدته وكمالاته المترتبة على أسمائه وصفاته وينبه عليهم طريق الهداية والرشاد الموصل الى الفوز بأنواع السعادات السنية والدرجات العلية الجنانية. ويجنبهم عن سبل مطلق الغي والعناد الموصلة الى الدركات الهوية النيرانية. وبالجملة أراد سبحانه ان يوقظهم عن نعاس عالم الناسوت ويرفعهم عن حضيض عالم الحس واغوار اودية الإمكان
. الموصل الى دركات النيران. بأنواع الخيبة والحرمان. ويوصلهم الى أوج عالم اللاهوت وسعة فضاء وجوب الوجود وصفاء درجات القرب والشهود أرسل عليهم الأنبياء العظام والرسل الكرام من أبناء جنسهم واشخاص نوعهم وأفاض على قلوبهم ما أفاض من المعارف والحقائق والعلوم اللدنية والمعالم اليقينية والمراسم الدينية الموصلة الى المراتب العلية الوجوبية الوجودية وأيدهم بانزال الوحى والإلهام بسفارة العقل الجزئى المنشعب من العقل الكلى المستفيض من حضرة العلم المحيط الإلهي المفيض لهم انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات اللدنية الفائضة المترشحة من بحر الوجود وينبوع الوحدة الذاتية وقد أيدهم ايضا بالنفس الجزئية المتفرعة على النفس الكلية المستفيدة المستفيضة من حضرة القدرة الكاملة الشاملة الإلهية المفيضة عليهم استعدات عموم الأعمال والطاعات وقابليات مطلق الخيرات والعبادات المقربة لهم الى فضاء عالم اللاهوت وحضرة الرحموت المبعدة المخلصة عن كدر مضيق الناسوت وقدر سجن الإمكان وكذا(1/14)
عن سلاسل الزمان وأغلال المكان وانما أيدهم وشرفهم سبحانه بهاتين الوديعتين البديعتين اللتين إحداهما أب العلم اللدني المنشعب من حضرة العلم المحيط الإلهي وثانيتهما أم العمل المتفرعة على حضرة القدرة الغالبة الشاملة الإلهية ليتولد لهم من امتزاج هاتين البديعتين الغيبيتين اللاهوتيتين جميع الأعمال والأخلاق المرضية والخصال السنية والسجايا الفاضلة المؤدية الى التخلق بالأخلاق المرضية الإلهية والتقرر بمرتبة الخلافة والنيابة المودعة لهم من عنده سبحانه حسب فضله وجوده المترتبة على وجودهم الباعثة عن إيجادهم واظهارهم وفق الحكمة المتقنة البالغة. ثم لما كمل سبحانه ذوات الرسل والأنبياء بما كمل وقررهم في مقر خلافته ونيابته وفق ما أراد وشاء بعثهم سبحانه بالإرادة والاختيار الى من بعثهم من بريته وخليقته ممن صورهم على صورته وأظهرهم على نشأة خلته وفطرة خلافته ونيابته ليدعوهم الى زلال وحدته وسعة رحمته ويرشدوهم الى طريق الهداية والتوحيد ويبعدوهم عن سبل الضلالة والتقليد ويلقنوا عليهم الايمان ويبذروا في قلوبهم بذور اليقين والعرفان. وبالجملة يرغبوهم الى درجات الجنان التي هي عبارة عن فضاء الوجوب وصفاء الوصلة الذاتية ويجنبوهم عن دركات النيران التي هي عبارة عن عالم الكثرة ومضيق الإمكان ومع ذلك قد أيد الرسل منهم صلوات الرّحمن عليهم بمزيد الكرامة والإحسان بانزال الكتب والصحف المبينة لشرائعهم واديانهم الموضوعة بالوضع الإلهي المقتبسة من حضرة الكلام النفسي القديم الإلهي المنصبغة بصبغ الألفاظ والحروف الحاصلة من تقاطع الأصوات على الوجه الذي قد أشرنا اليه لتكون معجزة لهم وذريعة الى قبول دعوتهم وتصديقهم في عموم أقوالهم وأفعالهم وأحكامهم والى تأييد دينهم وشريعتهم وترويج مذهبهم وملتهم ووقاية لها بحفظها عن تطرق مطلق التبدل والتحريف نحوها والانصراف عنها والعمل بمقتضاها ومع ذلك لا يقبلها منهم الا اقل من القليل ثم اعلم ان أفضل من انزل اليه الكتاب. وأكمل من اوتى نحوه الحكمة وفصل الخطاب. انما هو الحضرة الحتمية الخاتمية التي قد طويت دون ظهور دينه وشرعه سجلات عموم الشرائع والأديان واضمحلت عند بعثته مراسم جميع الملل والنحل وغارت وانخفضت وتلاشت بظهوره صلّى الله عليه وسلّم رسوم عموم اصحاب البدع والأهواء. وخمدت نيران جميع اهل الزيغ والآراء. وكيف لا وقد لاحت عند ظهوره صلّى الله عليه وسلّم شمس الذات الاحدية من آفاق عموم الذرات وأشرق نور الحق الحقيق بالحقية على صفائح مطلق الأكوان والأعيان وغار ظلمة الليل الباطل على اغوار الإمكان ومهاوي الاعدام وأضاء صفاء سره وسريرته قلوب عموم الأولياء الأمناء المستخرجين من أمته المقتبسين من مشكاة نبوته ورسالته أنوار مرتبته صلّى الله عليه وسلّم بحيث قد صار علماء أمته وعرفاء شرعه وملته مثل سائر الأنبياء الماضين بكرامة إرشاده وتربيته وبشرف متابعته وصحبته ولهذا ما تفوه احد من الأنبياء والرسل الذين مضوا من قبله صلّى الله عليه وسلّم بالتوحيد الذاتي في دعوته بل كلهم قد مضوا على اظهار توحيد الصفات والأفعال وان كان بطانة دعوة الكل توحيد الذات الا انهم لم يتكلموا به ولم يتفوهوا عنه ولم يصرحوا به انتظارا لظهور مرتبته صلّى الله عليه وسلّم وبروز نشأته وكيف وقد كانت جميع مناقبه وحليته وأوصافه وأطواره صلّى الله عليه وسلّم وكذا
ظهور دينه وملته وشرعه وأمته وكتابه ونسخه عموم الكتب والأديان. وبالجملة جميع شمائله وخصاله صلّى الله عليه وسلّم مكتوبة محفوظة في كتبهم وصحفهم ملهمة إياهم من قبل ربهم بزمان وهم كانوا مترقبين ظهوره صلّى الله عليه وسلّم في عموم أوقاتهم. وبعد ما ظهر صلّى الله عليه وسلّم وعلا قدره وانتشر(1/15)
صيته في اقطار الآفاق وشاع خبره في جميع النواحي والجهات نسخ معالم دينه ومراسم شرعه وملته احكام جميع الملل والشرائع ورسوم عموم الأديان والمذاهب. وبالجملة قد جرى كلمة التوحيد الذاتي بعد بعثته صلّى الله عليه وسلّم على السنة عموم العباد المسترشدين منه صلّى الله عليه وسلّم والمتعطشين بزلال هدايته وإرشاده وكذا من أولاده وأحفاده الائمة الهادين المهديين وأصحابه المهاجرين والأنصار والتابعين الأخيار الأبرار رضوان الله عليهم وعلى من يتبع أثرهم ويقتدى بهم ويتابعهم الى يوم الدين ولهذا قد ختم ببعثة الحضرة الختمية الخاتمية وبنزول كتابه شأن التشريع والتديين ووضع الملل والمذاهب وطريق التوضيح والتبيين وسد باب الإنزال والإرسال وانسد طرق الوحى ونزول الملك بالكتب والصحف وغير ذلك من آيات الإرشاد والتكميل ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم انا أتمم مكارم الأخلاق ونزل في شانه «اليوم أكملت لكم دينكم» الآية وبالجملة بعد ما لاح شمس الذات الاحدية عن المشكاة المحمدية وظهر طريق التوحيد الذاتي المبين بالقرآن العظيم لم يبق لعموم العباد حاجة الى تبيين مبين آخر وهداية هاد سواه وفقنا الله بشرف متابعته وبانقياد دينه وملته واطاعة كتابه وشريعته وحشرنا تحت لوائه ومن زمرته وفي حيطة حوزته بفضله وجوده. ثم اعلم ان القرآن الفرقان المنزل على خير الأنام. المبين لعموم البرايا احكام دين الإسلام. المبنى على التوحيد الذاتي أعظم الكتب الإلهية نفعا وأفضلها شأنا. وأوضحها حجة وبرهانا. وأتمها بيانا وتبيانا.
واجمعها حكما واحكاما وأكملها معرفة وإيقانا. وأهداها الى طريق الحق وسبيل الوحدة الذاتية التي هي مناط عموم التكاليف الواردة الموردة في الكتب الإلهية والصحف السماوية الا وهو المنشأ والمبدأ وكذا العلة الغائية والحكمة المتقنة السنية والمصلحة العلية لوضع مطلق الملل والأديان والمذاهب والمشارب. وبالجملة القرآن الفرقان منزل من الحق على الخلق بالحق لتبيين طريق الحق لأهل الحق بحيث لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه وهو المشتمل على شرح كمال الإنسان.
المصور بصورة الرّحمن. المستخلف عن الله من بين عموم الأكوان. وهو الجامع لجميع أطواره الحسنة وأخلاقه المستحسنة المقبولة عند الله المرضية دونه سبحانه انما أنزله سبحانه على حبيبه الذي هو اشرف نوع الإنسان وأفضلهم وأكرم الناس على الله وأولاهم لينشرح صدره صلّى الله عليه وسلّم بما ذكر فيه من الأوامر والنواهي والحكم والاحكام والمعارف والحقائق والرموز والإشارات والعبر والأمثال والحكايات الموردة فيه المتعلقة بعضها باصحاب الزيغ والضلال. المنحرفين عن جادة الاستقامة والاعتدال. وبعضها بأرباب القرب والوصال. المنخرطين في سلسلة الوجود. المتشبثين بحبل الله الممدود.
من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات بلا التفات لهم الى لوازم ناسوتهم أصلا وبعد ما انشرح صدره صلى الله عليه وسلّم قد وسع الحق فيه ونزل سلطان الوحدة على قلبه فقد فنى في الله وبقي ببقائه واضمحل ناسوته الباطل في لاهوت الحق فحينئذ قد حق الحق الحقيق بالتحقق والثبوت وبطل الباطل الزاهق الزائل فتخلق صلّى الله عليه وسلّم بأخلاق الحق مطلقا. وبعد ما صار صلّى الله عليه وسلم ما صار امر بتبليغ القرآن الفرقان الى عموم عباد الله المنجذبين نحو الحق المجبولين على فطرة الخلافة والنيابة ليقتدوا به وبما فيه كي يهتدوا الى زلال وحدته سبحانه ويتخلقوا بأخلاقه ليتمكنوا على مقر الخلافة والنيابة وعلى صراط العدالة الإلهية التي هم جبلوا لأجلها. وبالجملة من أراد ان يصل الى مرتبة الإنسان المخلوق على صورة الرّحمن فعليه ان يتخلق بأخلاق القرآن ويمتثل بأوامره ويجتنب عن نواهيه ويحافظ على حدوده وأحكامه ايمانا واحتسابا مستبصرا يقظانا حتى يستشعر من سرائر(1/16)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
حكمه واسرار أحكامه. وبالجملة من استشعر بحكم القرآن واعتبر من عبره فقد استهدى منها الى معارفه وحقائقه ورموزه وإشاراته ومكاشفاته ومشاهداته التي ما نزل عموم ما نزل من عند الله الا لأجلها. وبالجملة من تشبث بالقرآن وامتثل بما فيه من الحكم والاحكام وتخلق بأخلاقه واتصف بآدابه فقد تحقق بمرتبة الإنسان الكامل الذي هو مرآة الحق يتراءى منه عموم أوصافه وأسمائه الذاتية جعلنا الله من زمرة من امتثل بأوامر القرآن واجتنب عن نواهيه واعتبر من عبره وأمثاله وتخلق بما فيه من أخلاقه المأمورة بها لخلص عباد الله ومن جملة من أطاع الله ورسوله واستن بسننه السنية وآدابه الرضية المرضية بمنه وجوده فها أنا اشرع فيما اقصد وافتتح ما أريد والله الموفق والملهم للخير والصواب وعنده أم الكتاب.
[سورة الفاتحة]
فاتحة سورة الفاتحة «1»
[الآيات]
لا يخفى على من أيقظه الله تعالى من منام الغفلة ونعاس النسيان ان العوالم وما فيها انما هي من آثار الأوصاف الإلهية المترتبة على الأسماء الذاتية إذ للذات في كل مرتبة من مراتب الوجود اسم خاص وصفة مخصوصة لها اثر مخصوص هكذا بالنسبة الى جميع مراتب الوجود ولو حبة وذرة وطرفة وخطرة والمرتبة المعبر عنها بالأحدية الغير العددية والعمآء الذي لاحظ لأولى البصائر والنهى منها الا الحسرة والحيرة والوله والهيمان وهي غاية معارج عروج الأنبياء ونهاية مراتب سلوك الأولياء فهم بعد ذلك يسيرون فيه لا به واليه الى ان يستغرقوا فيتحيروا الى ان يفنوا لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه ثم لما أراد سبحانه ارشاد عباده الى تلك المرتبة ليتقربوا إليها ويتوجهوا نحوها حتى ينتهى توجههم وتقربهم الى العشق والمحبة الحقيقية الحقية المؤدية الى إسقاط الاضافة المشعرة للكثرة والاثنينية وبعد ذلك خلص نيتهم وصح طلبهم للفناء فيه نبه سبحانه الى طريقه إرشادا لهم وتعليما في ضمن الدعاء له والمناجاة معه متدرجا من نهاية الكثرة الى كمال الوحدة المفنية لها متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المعبر به عن الذات الاحدية باعتبار تنزلها عن تلك المرتبة العمائية إذ لا يمكن التعبير عنها باعتبار
__________
(1) اعلم ان كل امر من الأمور التي يبين بها شيء من الأشياء او يوضح بها حكم من الاحكام او ينسب إليها بداية لا بد وان يكون له فاتحة خاصة له حافظة لمرتبة بدايته وأوليته وخاتمة مخصوصة إياه حافظة لمرتبة نهايته وآخريته وامر ثالث بينهما يكون مرجع الحكمين ومآل الطرفين اليه يجمعهما ويتعين بهما ويتبين منهما ولا شك ان كل سورة من سور القرآن بل كل كتاب وصحف سماوية واسفار الهية نازلة على الأنبياء العظام والرسل الكرام صلوات الله عليهم ما نزلت ووردت حقيقة ومعنى من عنده سبحانه الا ليبين ويوضح به سبحانه لخلص عباده ظهور وحدته الذاتية وهويته الشخصية السارية في عموم الكوائن والفواسد غيبا وشهادة ظاهرا وباطنا الظاهرة في الأنفس والآفاق وفي جميع الأقطار والجهات بكمال الاستقلال والاستحقاق بلا شركة وكثرة أصلا وينبهها عليهم من كل منها بطريق مخصوص وطرز معين إذ زبدة عموم الكتب والصحف الإلهية ما هي الا هذا البيان والتبيان الا وهو العلة الغائية المترتبة على مطلق الإرسال والإنزال حقيقة وكذا على عموم مراتب الولاية المطلقة والنبوة والرسالة بل على بروز عموم الملل والنحل وجميع الأديان والمذاهب ومطلق الشرائع والاحكام الجارية على السنة الرسل الكرام والأنبياء الأمناء العظام عليهم التحية والسّلام فلا بد ان يكون لكل سورة من سور القرآن فاتحة مخصوصة وخاتمة معينة لتكون كل منها ممتازة عن صاحبتها إذ كل سورة من السور القرآنية انما هي رسالة مخصوصة مفرزة مستقلة وسفر مخصوص معين لبيان هذه المصلحة العلية المذكورة آنفا لذلك ما صدرنا كل سورة منها الا بفاتحة خاصة لها وما ختمناها ايضا الا بخاتمة معينة مخصوصة إياها مناسبة كل منهما لما فيها من الحكم والمصالح بتوفيق الله وتيسيره تأمل تفز بسرائرها والعلم عند الله والعالم هو الله هو يرشد نحوه وهو يهدى اليه وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب(1/17)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
تلك المرتبة أصلا وباعتبار شمولها واحاطتها جميع الأسماء والصفات الإلهية المستندة إليها المظاهر كلها المعبر عنها عند ارباب المكاشفة بالأعيان الثابتة وفي لسان الشرع باللوح المحفوظ والكتاب المبين" الرَّحْمنِ". المعبر به عن الذات الاحدية باعتبار تجلياتها على صفحات الأكوان وتطوراتها في ملابس الوجوب والإمكان وتنزلاتها عن المرتبة الاحدية الى المراتب العددية وتعيناتها بالتشخصات العلمية والعينية وانصباغها بالصبغ الكيانية والكونية الرَّحِيمِ المعبر به عن الذات الاحدية باعتبار توحيدها بعد تكثيرها وجمعها بعد تفريقها وطيها بعد نشرها ورفعها بعد خفضها وتجريدها بعد تقييدها
الْحَمْدُ والثناء الشامل لجميع الاثنية والمحامد الصادرة عن السنة ذرائر الكائنات المتوجهة نحو مبدعها طوعا المعترفة بشكر منعمها حالا ومقالا ازلا وابدا ثابتة مختصة لِلَّهِ اى للذات المستجمع لجميع الأسماء والصفات المظهرة المربية للعوالم وما فيها بأسرها رَبِّ الْعالَمِينَ ولولا تربيته إياها وإمداده لها طرفة لفنى العالم دفعة
الرَّحْمنِ المبدأ المبدع لها في النشأة الاولى بامتداد اظلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا على مرآة العدم المنعكس منها العالم كله وجزؤه شهادته وغيبه أولاه وأخراه بلا تفاوت الرَّحِيمِ المعيد للكل في النشأة الاخرى بطى سماء الأسماء وارض الطبيعة السفلى الى ما منه الابتداء واليه الانتهاء
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ والجزاء المسمى في الشرع بيوم القيامة والطامة الكبرى المندكة فيها الأرض والسماء المطوية عند قيامها سجلات الاولى والاخرى إذ فيها ارتجت الآراء والأفكار وارتفعت الحجب والأستار واضمحلت اعيان السوى والأغيار ولم يبق الا الله الواحد القهار ثم لما تحقق العبد وتمكن في هذا المقام ووصل الى هذا المرام وفوض أموره كلها الى الملك العلام القدوس السّلام حق له ان يلازم ربه ويخاطب معه بلا ستر ولا حجاب تتميما لمرتبة العبودية الى ان يرتفع كاف الخطاب عن البين وينكشف الغين عن العين وعند ذلك قال لسان مقاله مطابقا بلسان حاله
إِيَّاكَ لا الى غيرك إذ لا غير في الوجود معك نَعْبُدُ نتوجه ونسئلك على وجه التذلل والخضوع إذ لا معبود لنا سواك ولا مقصد الا إياك وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اى ما نطلب الإعانة والأقدار على العبادة لك الا منك إذ لا مرجع لنا غيرك
اهْدِنَا بلطفك الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الذي يوصلنا الى ذروة توحيدك
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ من المترددين الشاكين المنصرفين بمتابعة العقل المشوب بالوهم عن الطريق المستبين وَلَا الضَّالِّينَ بتغريرات الدنيا الدنية وتسويلات الشياطين عن منهج الحق ومحجة اليقين آمِّينَ اجابة منك يا ارحم الراحمين
خاتمة سورة الفاتحة
عليك ايها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات يسر الله أمرك وبلغك املك ان تتأمل في الأبحر السبعة المشتملة عليها هذه السبع المثاني من القرآن العظيم المتفرعة على الصفات السبع الذاتية الإلهية الموافقة للسماوات السبع والكواكب السبعة الكونية وتتدبر فيها حق التدبر وتتصف بما رمز فيها من الأخلاق المرضية حتى تتخلص من الأودية السبعة الجهنمية المانعة من الوصول الى جنة الذات المستهلكة عندها جميع الإضافات والكثرات ولا يتيسر لك هذا التأمل والتدبر الا بعد تصفية ظاهرك بالشرائع النبوية والنواميس المصطفوية المستنبطة من الكلم القرآنية وباطنك بعزائمه وأخلاقه صلى الله عليه وسلّم المقتبسة من حكمها المودعة فيها فيكون القرآن الجامع لهما خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم(1/18)
ظاهرا وباطنا الموروث له من ربه المستخلف له فالقرآن خلق الله المنزل على نبيه من تخلق به فاز بما فاز. لذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم تخلقوا بأخلاق الله التي هي القرآن والفاتحة منتخبة من جميع القرآن على ابلغ وجه وأوضح بيان من تأمل فيها نال بما نال من جميع القرآن لذلك فرض قراءتها عند الميل والتوجه الى الذات الاحدية المعبر عنه بلسان الشرع بالصلوة التي هي معراج اهل الايمان كما قال صلّى الله عليه وسلّم الصلاة معراج المؤمن وقال ايضا لا صلاة الا بفاتحة الكتاب فعليك ايها المصلى المتوجه الى الكعبة الحقيقية الحقية والقبلة الاصلية الاحدية الصمدية ان تواظب على الصلوات المفروضة المقربة إليها وتلازم الحكم والأسرار المودعة في تشريعها بحيث إذا أردت الميل الى جنابه والتوجه نحو بابه لا بد لك أولا من التوضى والتطهر من الخبائث الظاهرة والباطنة كلها والتخلي عن اللذات والشهوات برمتها بحيث يتيسر لك التحريمة بلا وسوسة شياطين الأهواء المضلة فإذا قلت مكبرا لله محرما على نفسك جميع حظوظك من دنياك (الله اكبر) لا بد لك ان تلاحظ معناه بانه الذات الأعظم الأكبر في ذاته لا بالنسبة الى الغير إذ لا غير معه وافعل هذا للصفة لا للتفضيل وتجعلها نصب عينك وعين مطلبك ومقصدك وإذا قلت متيمنا متبركا بسم الله انبعثت رغبتك نحوه ومحبتك اليه وإذا قلت الرّحمن استنشقت من النفس الرحمانى ما يعينك على الترقي نحو جنابه وإذا قلت الرّحيم استروحت من نفحات لطفه ونسمات رحمته وجئت بمقام الاستيناس معه سبحانه بتعديد نعمه على نفسك وإذا قلت مثنيا عليه شاكرا لنعمه الحمد لله توسلت بشكر نعمه اليه وإذا قلت رب العالمين تحققت بمقام التوحيد وانكشفت باحاطته وشموله سبحانه وتربيته على عموم الأكوان وإذا قلت الرّحمن رجوت من سعة رحمته وعموم اشفاقه ومرحمته وإذا قلت الرّحيم نجوت من العذاب الأليم الذي هو الالتفات الى غير الحق ووصلت اليه بعد ما فصلت عنه بل اتصلت وإذا قلت مالك يوم الدين قطعت سلسلة الأسباب مطلقا وتحققت بمقام الكشف والشهود فحينئذ ظهر لك ولاح عليك ما ظهر فلك ان تقول في تلك الحالة بلسان الجمع إياك نعبد بك مخاطبين لك وإياك نستعين بإعانتك مستعينين منك وإذا قلت اهدنا الصراط المستقيم تمكنت بمقام العبودية وإذا قلت صراط الذين أنعمت عليهم تحققت بمقام الجمع وإذا قلت غير المغضوب عليهم استوحشت عن سطوة سلطة صفاته الجلالية وإذا قلت ولا الضالين خفت من الرجوع بعد الوصول فإذا قلت مستجيبا راجيا آمين أمنت من الشيطان الرجيم فلك ان تصلى على الوجه الذي تلى حتى تكون لك صلاتك معراجا الى ذروة الذات الاحدية ومرقاة الى السماء السرمدية ومفتاحا للخزائن الازلية والابدية وذلك لا يتيسر الا بعد الموت الإرادي عن مقتضيات الأوصاف البشرية والتخلق بالأخلاق المرضية والخصائل السنية الإلهية ولا يحصل لك هذا عند الميل الا بالعزلة والفرار عن الناس المنهمكين في الغفلة والانقطاع عنهم وعن رسومهم وعاداتهم بالمرة والا فالطبيعة سارقة والأمراض سارية والنفوس آمرة بالهوى مائلة عن المولى عصمنا الله من شرورها وخلصنا من غرورها بمنه وجوده
[سورة البقرة]
فاتحة سورة البقرة
لا يخفى على السالكين المتدرجين في مسالك التحقيق المتعطشين بزلال التوحيد ان الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق إذ ما من ذرة من ذرائر العالم الا وله طريق منها وأقوم الطرق وأحسنها وأوضح السبل وأبينها هو الذي اختاره الله سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ولورثته من الأولياء زاد الله فتوحهم في كتابه(1/19)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
المسور بالسور المفصلة بالآيات المنقسمة بالمحكمات والمتشابهات المشتملة كل سورة منها على احكام الشريعة وآداب الطريقة واسرار الحقيقة فلا بد للخصائص في لجج بحار القرآن. والغائص فيها لاستخراج فرائد اليقين والعرفان. ان يتأمل في كل سورة منها على وجه ينكشف له ما فيه من الأسرار بقدر استعداده وقابليته والا فغوره بعيد وقعره عميق منها سورة البقرة المشتملة اوائلها على الاحكام الشرعية المهذبة للظاهر عن الرذائل الردية والخصال الغير المرضية وأواسطها على آداب الطريقة من الشيم الجميلة والأخلاق الحميدة المصفية للباطن عن الكدورات البشرية وأواخرها على التوحيد الصرف الذاتي الخالص عن شوب الكثرة وشين الثنوية قطعا وانما خصص صلّى الله عليه وسلّم بأواخر هذه السورة لأنه صلّى الله عليه وسلّم هو المظهر للتوحيد الذاتي بخلاف الأنبياء السالفة صلوات الله عليهم فإنهم لم يظهروه لذلك ختم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم امر النبوة والرسالة وانسد طريق الوحى والإنزال ثم لما أراد سبحانه ارشاد عباده الى سبيل الهداية وابعادهم عن طريق الضلال انزل عليهم هذه السورة الجامعة لهما فقال متيمنا متبركا على وجه التعليم مخاطبا لنبيه المبعوث على الخلق العظيم بِسْمِ اللَّهِ المتوحد المتفرد المستغنى بذاته عن جميع الأكوان المتلبس بواسطة أسمائه وصفاته ملابس الحدوث والإمكان الرَّحْمنِ لعباده الذين هم مظاهر أسمائه وصفاته برش نوره عليهم ومد ظله إليهم في معاشهم الرَّحِيمِ لهم في معادهم ينجيهم عن ظلمة الإمكان المعبر عنها بلسان الشرع بالسعير والجحيم ويهديهم الى روضة الرضى وجنة التسليم
[الآيات]
الم ايها الإنسان الكامل اللائق لخلافتنا الملازم لاستكشاف اسرار ربوبيتنا وكيفية سريان هويتنا الذاتية السارية على صفحات المكونات المداوم للاستفادة والاستنباط من حضرة علمنا المحيط المنتزع عنها والمأخوذ منها
ذلِكَ الْكِتابُ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه البعيدة درجة كماله عن افهام البشر الجامع لجميع مراتب الأسماء والصفات في عالم الغيب والشهادة المنزل على مرتبتك الجامعة لجميع مراتب الكائنات من الأزل الى الأبد بحيث لا يشذ عنها مرتبة أصلا لا رَيْبَ فِيهِ بانه منزل من عندنا لفظا ومعنى اما لفظا فلعجز جماهير البلغاء ومشاهير الفصحاء عن معارضة اقصر آية منه مع وفور دواعيهم واما معنى فلاشتماله على جميع احوال الحقائق العينية والأسرار الغيبية مما كان وسيكون في النشأتين ولا يتيسر الاطلاع عليها والإتيان بها على هذا النمط البديع الا لمن هو علام الغيوب وانما أنزلناه إليك ايها اللائق لأمر الرسالة والنيابة لتهتدى به أنت الى بحر الحقيقة وتهدى به ايضا من تبعك من التابعين في بيداء الضلالة. إذ فيه هُدىً عظيم لِلْمُتَّقِينَ
الَّذِينَ يحفظون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه نفوسهم عن خبائث المعاصي المانعة عن الطهارة الحقيقية ومن الوصول الى المرتبة الاصلية التي هي الوحدة الذاتية والذين يُؤْمِنُونَ يوقنون ويذعنون باسراره ومعارفه بِالْغَيْبِ اى غيب الهوية الوحدانية التي هي ينبوع بحر الحقيقة وإليها منتهى الكل وبعد ذلك يتوجهون بمقتضيات أحكامها نحوها ويهتدون إليها بسببها وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ اى يديمون الميل بجميع الأعضاء والجوارح على وجه الخضوع والتذلل الى جنابه إذ هو المقصد للكل اجمالا وتفصيلا ولكل عضو وجارحة تذلل خاص وله طريق مخصوص يناسبه يرشدك الى تفاصيل الطرق فعله صلّى الله عليه وسلّم في صلاته على الوجه الذي وصل إلينا من الرواة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين وَلما تنبهوا له بمتابعته ومالوا نحو جنابه سبحانه بالميل الحقيقي بالكلية لم يبق لهم ميل الى ما سواه من المزخرفات الفانية بل الى أنفسهم ايضا لذلك مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقنا إليهم ليكون مبقيا لحياتهم ومقوما لمزاجهم يُنْفِقُونَ في سبيلنا طلبا لمرضاتنا وهربا عما يشغلهم عنا فكيف(1/20)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
انفاق الفواضل منه
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ينقادون ويمتثلون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الكتاب الجامع اسرار جميع ما انزل من الكتب السالفة على الوجه الأحسن الأبلغ ومن السنن والأخلاق الملهمة إليك وَمع ذلك يعتقدون صريحا ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين وَمع الايمان بجميع الكتب المنزلة وان كان كل كتاب متضمنا للايمان بالنشأة الآخرة بل هو المقصد الأقصى من جميعها بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أفردها بالذكر اهتماما بشأنها لكثرة المرتابين فيها
وبالجملة أُولئِكَ المؤمنون المعتقدون بجميع الكتب المنزلة على الرسل والموقنون المذعنون بالنشأة الآخرة خاصة عَلى هُدىً عظيم مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم الى ان يبلغوا الى هذه المرتبة التي هي الاهتداء الى جناب قدسه وَمع ذلك الجزاء العظيم والنفع الجسيم أُولئِكَ السعداء المقبولون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون الى فضاء الوجوب الناجون عن مضائق الإمكان رزقنا الله النجاة عنه والوصول اليه
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية في كتابه هذا من تعقيب الوعد بالوعيد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق واعرضوا عنه وأظهروا الباطل وأصروا عليه عنادا واستكبارا لا ينفعهم إنذارك يا أكمل الرسل وعدمه بل سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بك وبكتابك
لأنهم قد خَتَمَ اللَّهُ المحيط بذواتهم واوصافهم وأفعالهم عَلى قُلُوبِهِمْ كيلا يكونوا من ارباب المكاشفة وَعَلى سَمْعِهِمْ كيلا يصيروا من اصحاب المجاهدة وَعَلى أَبْصارِهِمْ كيلا يكونوا من ارباب المشاهدة غِشاوَةٌ ستر عظيم وغطاء كثيف لا يمكنك رفعها بل وَلَهُمْ فيها عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب الطرد والبعد عن ساحة عز الحضور في مقعد الصدق ولا عذاب أعظم منه وبالجملة أولئك الأشقياء المردودون هم الضالون في تيه الحرمان الباقون في ظلمة الإمكان بأنواع الخيبة والخذلان أعاذنا الله من ذلك
وَمِنَ النَّاسِ الذين نسوا العهود السابقة التي عهدوها مع الله في مبدأ الفطرة مَنْ يَقُولُ قولا لا يوافق اعتقادهم وهو انهم يقولون تزويرا وتلبيسا آمَنَّا واذعنا بِاللَّهِ الذي انزل علينا الكتاب والرسول وَقد أيقنا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الموعود به لجزاء الأعمال وَالحال انه ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ موقنين بهما في بواطنهم
بل ما غرضهم من هذا التلبيس والتزوير الا انهم يظنون انهم يُخادِعُونَ اللَّهَ المحيط بجميع أحوالهم وأفعالهم مخادعتهم مع آحاد الناس تعالى عن ذلك وَايضا يخادعون الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا باحاطة الله بتوفيقه والهامه وانما خادعوا بما خادعوا وقالوا ما قالوا حفظا لدمائهم وأموالهم منهم وَهم لم يعلموا انهم ما يَخْدَعُونَ بهذا الخداع إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لان الله سبحانه ومن هو في حمايته من المؤمنين أجل وأعلى من ان ينخدعوا منهم فثبت انهم ما يخدعون بهذا الخداع الا أنفسهم وَما يَشْعُرُونَ بخداعهم وانخداعهم
لأنه كان فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى غشاوة وغطاء مختوم على قلوبهم لا ينكشف الا بكتاب الله المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولما لم يؤمنوا به ولم يلتفتوا اليه عن ظهر القلب بل كذبوا رسوله المنزل عليه كتابه فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً غشاوة وغطاء لأجل ذلك احكاما لختمه وتأكيدا لحكمه وَلَهُمْ مع ذلك في يوم الجزاء عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم وهو ابعادهم وطردهم عن ساحة عز الحضور كل ذلك جزاء بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم تغريرا وخداعا
وَمع ظهور حالهم وخداعهم عند الله وعند المؤمنين إِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتكذيب كتاب الله ورسوله المنزل عليه حتى لا تخرجوا من مرتبة الخلافة لان خلافة(1/21)
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
البشر انما هي بالتوحيد وإسقاط الإضافات والتوحيد انما يحصل بالإيمان بالله وكتابه وبرسوله قالُوا في الجواب على وجه الحصر والقصر إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ لا نتجاوز عن الصلاح أصلا وما قالوا ذلك ايضا الا تتميما وتأكيدا لخداعهم الفاسد الكاسد وترويجا له على المؤمنين تغريرا وتلبيسا
أَلا تنبهوا ايها المؤمنون الموقنون بكتاب الله المصدقون لرسوله إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ المقصورون على الفساد لا يرجى منهم الصلاح والفلاح أصلا لكونهم مجبولون على الغواية الفطرية والفساد الجبلي وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ بمشاعرهم لغشاوة قلوبهم وأبصارهم واسماعهم
وَمن شدة قسوتهم ونهاية غفلتهم وسكرتهم إِذا قِيلَ لَهُمْ تلطفا ورفقا من جانب نبينا صلّى الله عليه وسلّم او من جانب أصحابه الكرام آمِنُوا بالله وبكتابه ورسوله كَما آمَنَ النَّاسُ الذين نسوا مزخرفات آبائهم بالإيمان بالله وبكتابه ورسوله وفازوا في الدارين فوزا عظيما بسبب ايمانهم وعرفانهم قالُوا في الجواب توبيخا وتقريعا أَنُؤْمِنُ ونصدق بهذا الرجل الحقير الساقط عن أعيننا وبهذه الأساطير الكاذبة ونترك دين آبائنا وأسلافنا كَما آمَنَ السُّفَهاءُ منا التاركون دين آبائهم بتغرير هذا المدعى المفترى أَلا تنبه ايها المبعوث لإهداء المضلين المجبولين على فطرة الهداية إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ المجبولون المقصورون على الغواية في بدأ الفطرة لا يمكنك هدايتهم أصلا لعدم قابليتهم واستعدادهم للايمان وَان ظنوا في زعمهم الفاسد بأنهم من العقلاء لكِنْ لا يَعْلَمُونَ ولا يعقلون أصلا لتركب جهلهم في جبلتهم فيسلب قابليتهم الفطرية
وَمن امارات نفاق هؤلاء الضالين المخادعين انهم إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتابه ورسوله قالُوا على طريق الاخبار عن الأمور المحققة ترويجا وتغريرا على المؤمنين آمَنَّا بالجملة الفعلية الماضوية بلا مبالغة وتأكيد لحكمهم وجزمهم بسفاهة المؤمنين واعتقادهم بان السفيه يقبل الاخبار بلا تأكيد لعدم تفطنه على انكار المتكلم فنزلوهم وان كان من حقهم الإنكار حقيقة منزلة خالي الذهن لسفاهتهم وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ اى بقوا خالين مع أصحابهم المستمرين على الكفر المجاهرين به بلا خداع ونفاق كالشيطان المصر على الضلال المستمر على الإضلال قالُوا على وجه المبالغة والتأكيد قلعا لما اعتقدوا من ظاهر حالهم ومقالهم موافقتهم مع المؤمنين سرا وجهرا وتحقيقا لمواخاتهم معهم حقيقة إِنَّا وان كنا في الظاهر مداهنون مع أولئك الحمقاء الجاهلين لمصلحة دنيوية متفقون مَعَكُمْ لفائدة دينية وقد أتوا بالجملة الاسمية المصدرة بان تحقيقا واهتماما واعلموا ان قولنا آمنا استهزاء منا إياهم لا تصديق لمدعاهم وبالجملة ما نحن مؤمنون لهم بمجرد هذا القول المزخرف بل إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ مستخفون بهم تجهيلا وتسفيها وتغريرا لهم بمجرد القول الكاذب الغير المطابق للاعتقاد والواقع وبالجملة هم من غاية انهماكهم في الغي والضلال مغرورون جازمون بأنهم مستهزؤن بل ما هم في الحقيقة الا مستهزؤن
إذ اللَّهُ المحيط بجميع مخايلهم الباطلة وافكارهم الفاسدة يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ في كل لحظة وطرفة آنا فآنا وَلم يشعرهم باستهزائه إياهم بل يَمُدُّهُمْ يمهلهم ويسوقهم فِي طُغْيانِهِمْ المتجاوز عن الحد في الضلالة بتلبيس الأمر على الله وعلى المؤمنين يَعْمَهُونَ يترددون اقداما واحجاما
وبالجملة أُولئِكَ البعداء الضالون عن طريق الهداية هم الَّذِينَ اشْتَرَوُا اى استبدلوا واختاروا الضَّلالَةَ المتقررة في نفوسهم بتقليد آبائهم بِالْهُدى المتفرع على الايمان بالله وبرسوله فَما رَبِحَتْ بهذا الاختيار والاستبدال تِجارَتُهُمْ اى ما يتجرون به وَما كانُوا مُهْتَدِينَ رابحين هادين بسبب هذا الاستبدال بل(1/22)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
خاسرين ضالين به او المعنى فما يثمر تجارتهم اى اتجارهم هذا الربح والهداية وما كانوا مهتدين بهذا الاتجار
مَثَلُهُمْ اى شانهم وحالهم بهذا الاستبدال والاتجار في يوم الجزاء كَمَثَلِ اى كحال الشخص الَّذِي طلب شيأ في الظلمة وترقبه ولم يهتد اليه ولذلك اسْتَوْقَدَ ناراً ليستضيء بها للفوز بمبتغاه فَلَمَّا استوقد وأَضاءَتْ النار ما حَوْلَهُ اى حول المستوقد وترقب حينئذ وجدان مطلوبه ذهب ضوءها وسكن لهبها فضل عن مطلوبه وخسر خسرانا عظيما كما قال سبحانه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ اى اطفأ الله شعل نيران المنافقين وأنوار سرجهم التي هي كفرهم ونفاقهم على زعمهم الفاسد وأفسد اضاءتها لهم في يوم الجزاء حين ترقبهم بوجدان مطالبهم بحيث لم يهتدوا بها بل قد عذبهم الله بسببها وَتَرَكَهُمْ لأجلها فِي ظُلُماتٍ ظلمة الضلالة المتقررة الراسخة في نفوسهم بتقليد آبائهم المنتجة للكفر والنفاق وظلمة فقدان المطلوب المترتب عليها في زعمهم مع ترقبهم والظلمة العارضة لهم بعد استضاءتهم وبسبب هذه الظلمات المتراكمة لا يُبْصِرُونَ سبيل الهداية ولا يرجى نجاتهم في عذاب الله بل قد صاروا مخلدين فيه ابدا وكيف لا يخلدون وهم في أنفسهم حين دعوة الرسل إياهم
صُمٌّ لعدم اصغائهم لقول الحق على السنة الرسل صلوات الله عليهم بُكْمٌ لعدم قولهم بالإيمان المقارن بالتصديق عُمْيٌ لعدم التفاتهم الى الدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة مع قابليتهم الفطرية واستعدادهم الجبلي فَهُمْ في هذه الحالة لا يَرْجِعُونَ اى لا يطمعون الرجوع الى الهداية بتذكرهم الإفراط والتفريط الذي قد صدر عنهم في النشأة الاولى المستتبع لهذا العذاب
أَوْ كَصَيِّبٍ اى مثلهم في هذا الاستبدال والا تجار كسحاب نازل مِنَ جانب السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ متوالية متتالية بعضها فوق بعض شدة وضعفا بحسب تخلخل السحب وتكاثفها وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ مستحدث من الابخرة والادخنة المحتبسة فيه متى أبصرها الناس وسمعوا أصوات بروقه ورعوده يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ اى انا ملها فِي آذانِهِمْ خوفا مِنَ الصَّواعِقِ النازلة منها المهلكة غالبا لمن أصيب بها وانما يجعلون ويفعلون ذلك كذلك حَذَرَ الْمَوْتِ اى حذر ان يموتوا من اصابتها يعنى انهم لما شبهوا في نفوسهم دين الإسلام بالصيب المذكور في ابتداء ظهوره من غير ترقب واشتماله في زعمهم على ظلمات التكاليف المتفاوتة المتنوعة ورعود الوعيدات الهائلة وبروق الاحكام الخاطفة وجب عليهم الاحتراز عن غوائله بمقتضى أحلامهم السخيفة لذلك مالوا عنه واعرضوا وانصرفوا مرعوبين فجعلوا أصابع أحلامهم وعقولهم في آذان قبولهم خوفا من الصواعق النازلة المصيبة المفنية ذواتهم في ذات الله حذر الموت الإرادي وهم بسبب هذا الميل والاعراض يعتقدون بل يظنون انهم قد خلصوا عن الفناء في ذاته وَلم يعلموا انهم هم المستهلكون فيها المقصورون على الاضمحلال والهلاك إذ اللَّهُ المتجلى في ذاته لذاته مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ الساترين بذواتهم الباطلة حسب زعمهم الفاسد ذات الله سبحانه غافلين عن شروق تجلياته الجمالية والجلالية عليهم وعلى غيرهم دائما وكيف يغفلون عنها أولئك الغافلون الجاهلون
مع انها يَكادُ ويقرب الْبَرْقُ اى برق التجلي اللطفى من غاية قربه يَخْطَفُ ويعمى أَبْصارَهُمْ التي يرون بها أنفسهم ذوات متأصلات في الوجود بل كُلَّما أَضاءَ وأشرق لَهُمْ التجلي اللطفى وأمد عليهم بحسب البسط والجمال مَشَوْا وساروا فِيهِ باقين ببقائه وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ وقبض ظله عنهم بمقتضى التجلي القهرى حسب القبض والجلال قامُوا سكنوا وبقوا على ما هم عليه من العدم وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ المنتقم الغيور(1/23)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
المتجلى عليهم بالقهر دائما لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وبعموم تعيناتهم التي ظنوا أنفسهم بسببها انهم موجودات حقيقية وصيرهم فانين معدومين بحيث لا وجود لهم أصلا كما هم عليه حقيقة دائما عند العارف المحقق المتحقق بوحدة الوجود المسقطة لعموم الكثرات قل لهم يا أكمل الرسل بلسان الجمع إِنَّ اللَّهَ المتجلى بالتجلى اللطفى عَلى إبقاء كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وعلى افنائه ايضا بالتجلى القهرى إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء
ثم نبه سبحانه على كيفية رجوعهم اليه سبحانه وتنبههم على تجلياته فناداهم إشفاقا لهم وامتنانا عليهم ليقبلوا منه ويتوجهوا نحوه فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ الذين نسوا حقوق الله بمتابعة آبائهم اعْبُدُوا على وجه التذلل والتضرع وانقادوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أخرجكم وأظهركم من كتم العدم باشراق تجلياته اللطفية الى فضاء الوجود وَايضا اخرج آباءكم واسلافكم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وتحذرون من تجلياته القهرية هذا في بدء الوجود
وفي المعاش اعبدوا ربكم الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً مبسوطا لتستقروا عليها وتسترزقوا فيها وَالسَّماءَ بِناءً وسقفا مرفوعا لترتقى الابخرة والادخنة المتصاعدة إليها وتتراكم السحب الماطرة منها فيها بمقتضى الحكمة المتقنة البالغة وَبعد إيجاد هذه الأسباب أَنْزَلَ بمحض فيضه وفضله مِنَ جانب السَّماءِ ماءً منبتا لكم الزروع والأثمار المقومة لا مزجتكم فَأَخْرَجَ بِهِ سبحانه بعد ما انزل أنواعا مِنَ الثَّمَراتِ لتكون رِزْقاً لَكُمْ مقوما لأمزجتكم كي تعيشوا بها وتتمكنوا بسببها الى الطاعة والعبادة والتوجه نحو توحيده وتفريده سبحانه الذي هو غاية ايجادكم والحكمة في وجودكم وخلقكم ومعظم ما يترتب على بدئكم وظهوركم وإذا كان الأمر كذلك فَلا تَجْعَلُوا ايها المنعمون بأنواع النعم لِلَّهِ الواحد الأحد القهار لعموم الأغيار أَنْداداً اشباها وأمثالا في استحقاق العبادة والأقدار على الإيجاد والتكوين والترزيق والإنبات والأحياء وغير ذلك مما يتعلق بالالوهية وَأَنْتُمْ وصلتم الى مرتبة التوحيد الذاتي الذي هو المقصد الأقصى من ايجادكم ووجودكم تَعْلَمُونَ يقينا ان سلسلة الأسباب منتهية اليه سبحانه ولا موجد لها سواه بل لا موجود الا هو وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو والتحقق بهذا المقام والوصول الى هذا المرام لا يتيسر الا بعد التخلق بأخلاق الله والتخلق بأخلاقه سبحانه لا يحصل الا بمتابعة المتخلق الكامل وأكمل المتخلقين نبينا عليه السّلام وتخلقه صلّى الله عليه وسلّم انما يكون بالكتاب الجامع لجميع اخلاق الله المنزل على مرتبته الجامعة لجميع مراتب المظاهر
وَإِنْ كُنْتُمْ ايها المحجوبون بالأديان الباطلة فِي رَيْبٍ شك وارتياب مِمَّا نَزَّلْنا بمقتضى تربيتنا وإرشادنا عَلى عَبْدِنا الذي هو خليفتنا ومرآتنا ومظهر جميع اوصافنا وحامل وحينا من الكتاب المنزل عليه من لدنا المشتمل على جميع أخلاقنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ او جملة قصيرة مِنْ مِثْلِهِ في الاشتمال على الأخلاق الإلهية إذ من خواص هذا الكتاب ان مجموعه مشتمل على عموم الأخلاق الإلهية وكذا كل سورة منه ايضا مشتمل على ما اشتمل عليه المجموع اجمالا وتفصيلا تأمل تفز وَان عجزتم أنتم عن آياتنا ادْعُوا شُهَداءَكُمْ اى حضراءكم وظهراء كم التي أنتم تشهدون بالوهيتهم وترجعون في الخطوب والملمات نحوهم مِنْ دُونِ اللَّهِ المحيط بكم وبهم فأمروهم بإتيانها كذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ انهم آلهة غير الله سبحانه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولم تأتوا بها أنتم ايها الجاهلون المعاندون في حين التحدي والمعارضة وَلَنْ تَفْعَلُوا ايضا ابدا مع تلك التماثيل الباطلة العاطلة بعد ما رجعتم إليهم فلا تكابروا بعد ذلك ولا تنازعوا بل(1/24)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
انقادوا وامتثلوا بأوامر الكتاب المنزل على عبدنا واجتنبوا عن نواهيه فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي قد اخبر الله في الكتاب المنزل مكررا بانه وَقُودُهَا اى ما يتقد به النَّاسُ الذي نسوا الله ويعبدون غيره وَالْحِجارَةُ التي هي معبوداتهم الباطلة التي قد نحتوها بأيديهم وما أُعِدَّتْ وهيئت هذه النار الموصوفة بهذه الصفة الا لِلْكافِرِينَ الجاهلين الجاحدين طريق توحيد الحق والمنكرين المكذبين كتاب الله ورسوله
وَبَشِّرِ المؤمنين الموقنين الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا بالكتاب المنزل على عبدنا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم فيه واجتنبوا عن الفاسدات المنهية عنها فيه أَنَّ اى قد حق وثبت لَهُمْ بعد رفع القيود وإسقاط الإضافات جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق التي هي المعارف الكلية المخلصة عن جميع القيود المنافية لصرافة التوحيد الذاتي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف الجزئية المترتبة على تلك المعارف الكلية وهم كُلَّما رُزِقُوا وحظوا مِنْها اى من تلك المعارف الكلية اللدنية مِنْ ثَمَرَةٍ حاصلة من شجرة اليقين المغروسة في قلوبهم رِزْقاً حظا كاملا ونصيبا شاملا يخلصهم من ربقة الإمكان قالُوا متذكرين العهود السابقة هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الأعيان الثابتة او في عالم الأسماء والصفات او في اللوح المحفوظ او في عالم الأرواح الى غير ذلك من العبارات وَمن غاية التذاذهم ونهاية شوقهم واحتظاظهم بالثمرة المحظوظ بها أُتُوا بِهِ متماثلا مُتَشابِهاً متجددا بتجدد الأمثال وَلَهُمْ فِيها اى في تلك المراتب الكلية اللدنية أَزْواجٌ اعمال صالحة ونيات خالصة مُطَهَّرَةٌ عن شوائب العوائق المانعة عن الوصول الى دار القرار وَهُمْ فِيها اى تلك المراتب الجنانية خالِدُونَ دائمون بدوامه باقون ببقائه مستغرقون بمشاهدة لقائه سبحانه اللهم أذقنا بلطفك حلاوة التحقيق وبرد اليقين ثم لما طعن الكفار من غاية استكبارهم وعتوهم ونهاية استعظامهم في نفوسهم واعتقادهم الاصالة في الوجود والاستقلال بالآثار المترتبة عليه الصادرة منهم ظاهرا على هذا الكتاب والرسول المنزل عليه قائلين بان ما جئت به وسميته وحيا نازلا إليك من عند الله الحكيم لا يدل على انه كلام من يعتد به ويعتمد عليه فضلا عن ان يدل على انه كلام الحكيم المتصف بجميع أوصاف الكمال المستحق للعبادة لان ما مثل به فيه هي الأشياء الخسيسة الخبيثة والضعيفة الحقيرة مثل الكلب والحمار والذباب والنحل والنمل والعنكبوت وغيرها
والكلام المشتمل على أمثال هذه الأمثال لا يصدر من الكبير المتعال رد الله عليهم وروج امر نبيه صلوات الله عليه فقال إِنَّ اللَّهَ المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء المقتضية لظواهر الكائنات المربية لمراتب الموجودات الظاهر على جميع المظاهر بلا تفاوت كظهور الشمس وإشراقها على جميع الآفاق وسريان الروح في جميع الأعضاء لا يَسْتَحْيِي استحياء من في فعله ضعف وله عاقبة وخيمة بل له سبحانه أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بمظهر ما من المظاهر الغير المتفاوتة في المظهرية اذله سبحانه بذاته ومع جميع أوصافه وأسمائه ظهور في كل ذرة من ذرائر العالم بلا اضافة فلا تفاوت في المظاهر بالنسبة الى ظهوره سبحانه إذ ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت سواء كانت بَعُوضَةً مستحقرة عندكم او احقر منها فَما فَوْقَها في الحقارة والخساسة كالبق والذباب والنمل فلا يبالى الله في تمثيلها إذ عنده الكل على السواء فَأَمَّا الَّذِينَ صدقوا النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمي حيث آمَنُوا بجميع ما جاء به من عند ربه فَيَعْلَمُونَ علما يقينيا أَنَّهُ اى التمثيل بهذه الأمثال الْحَقُّ الثابت الصادر مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم بكشف الأمور على ما هي عليه وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن تصديق الحق ورسوله(1/25)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
فَيَقُولُونَ مستهزئين متهكمين على سبيل الاستفهام ماذا أَرادَ اللَّهُ المقدس عن جميع الرذائل المتصف بجميع الأوصاف الحميدة على زعمهم بِهذا الدنى الحقير الخسيس بان يضرب مَثَلًا هذا تعريض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبلغ وجه وآكده يعنى جميع ما جئت به كلمات مفتريات بعضها فوق بعض وانما نسبته بالوحي وأسندته الى الله لتروجها على ذوى الأحلام الضعيفة ومن غاية استكبارهم ونهاية جهلهم المقتضى لعمى القلب لم يروا الحكمة في تمثيله ولم يعلموا انه سبحانه يُضِلُّ بِهِ اى بإنكار هذا التمثيل بمقتضى اسمه المنتقم كَثِيراً من المستكبرين المستحقرين بعض المظاهر وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً من الموحدين الموقنين الذين لا يرون في عموم المظاهر الا الله الظاهر إذ في هذا المشهد العظيم لا تسع الإضافات المستلزمة للاستعظام والاستحقار بل سقط هناك عموم الاضافة والاعتبار ثم بين سبحانه سبب إضلاله
فقال وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يخرجون عن طريق التوحيد باستحقار بعض المظاهر حيث يَنْقُضُونَ اى يفصمون ويقطعون عَهْدَ اللَّهِ الذي هو حبله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات سيما مِنْ بَعْدِ توكيده بذكر مِيثاقِهِ الموثق به بقوله الست بربكم وقولهم بلى وَبعد ما نقضوا العهد الوثيق الذي من شانه ان لا ينقض لم يفزعوا ولم يتوجهوا الى جبره ووصله بل يَقْطَعُونَ التوجه عن امتثال ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ في كتابه المنزل أَنْ يُوصَلَ اى لان يوصل به ما نقض من عهده وَمع ذلك لا يقنعون ولا يقتصرون بنقض العهد وقطع الوصل المختصين بهم بل يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات السارية في أقطارها من إفساد عقائد الضعفاء والبغض مع العرفاء الأمناء والمخاصمة مع الأنبياء والأولياء وبالجملة أُولئِكَ البعداء الضالون عن منهج التوحيد هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الكلى الذي لا خسران أعظم منه أعاذنا الله وعموم عباده من ذلك
ثم استفهم سبحانه مخاطبا لهم مستبعدا لما صدر عنهم من الكفر والطغيان على سبيل الكناية تحريكا لحمية الفطرة الاصلية التي فطر الناس عليها وتذكيرا لهم عن العهد الوثيق الذي عهدوا مع الله في مبدأ فطرتهم بقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ وتشركون بِاللَّهِ الذي قدر وجودكم في علمه السابق وَكُنْتُمْ أَمْواتاً اعداما صرفا لا امتياز لها ولم تكونوا مذكورين وبعد ما قدر وجودكم أراد ايجادكم فَأَحْياكُمْ وأظهركم من كتم العدم بمد ظله عليكم وبعد ما أظهركم أنعم عليكم ورباكم في النشأة الاولى بأنواع النعم لتعرفوا المنعم وتشكروا له في مقابلتها ثُمَّ بعد ما رباكم بأنواع النعم يُمِيتُكُمْ ويخرجكم من النشأة الاولى إظهارا لقدرته وقهره ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ايضا في النشأة الاخرى لتجزى كل نفس بما كسبت في النشأة الاولى ثُمَّ بعد ما قطعتم المنازل وطويتم المراتب والمراحل إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال تُرْجَعُونَ إذ لا وجود لغيره ليرجع اليه فثبت ان لا مبدأ سوى الله ولا منتهى ولا مرجع الا هو ولا رجوع الا اليه لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون
وبالجملة هُوَ الَّذِي جعلكم خلائف في الأرض وصوركم على صورته وصيركم مظاهر جميع أوصافه وأسمائه وكرمكم على عموم مظاهره ومصنوعاته حيث خَلَقَ اى قدر ودبر لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعنى قد سخر لكم جميع ما في العالم السفلى من آثار الأسماء والصفات تتميما لجسمانيتكم وحصة ناسوتكم لتتصرفوا فيها وتنتفعوا بها متى شئتم ثُمَّ لما تم تقدير ما في العالم السفلى ترقى عنه حيث اسْتَوى وتوجه إِلَى السَّماءِ اى الى تقدير ما في العالم العلوي تتميما لحصة لاهوتكم فَسَوَّاهُنَّ وعدلهن وهيأهن سَبْعَ(1/26)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
سَماواتٍ مطبقات مشتملات على ملائكة ذوى علوم وإدراكات واعمال ومعاملات وعلى كواكب ذوى خواص وآثار كثيرة كلها من مقتضيات أسمائه وأوصافه ومظاهر لهما وَبالجملة لا يخفى عليه تعالى شيء مما في العالمين إذ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ثم لما قدر سبحانه لنوع الإنسان جميع ما في العالم العلوي والسفلى أشار الى اصطفاء شخص من هذا النوع وانتخابه من بين عموم الأشخاص الانسانية ليكون مظهرا جامعا لائقا لأمر الخلافة والنيابة الإلهية فقال مخاطبا لنبيه وحبيبه صلّى الله عليه وسلّم لاستعداده ومرتبته الجامعة لعموم المراتب مذكرا له محضرا إياه
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ استحضر أنت يا أكمل الرسل وذكر لمن تبعك وقت قول ربك على طريق المشورة لِلْمَلائِكَةِ الذين هم مظاهر لطفه ومجالي جماله بحيث لا يظهر عليهم اثر من آثار الجلال والقهر الإلهي إِنِّي أريد ان اطالع ذاتى وألاحظ عموم أسمائي وأوصافي على التفصيل فانا جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ اى العالم السفلى خَلِيفَةً مرآة مجلوة عن صدأ الإمكان ورين التعلق لا تجلى فيها بجميع أوصافي وأسمائي ليصلح خليفتي هذا مفاسد عموم عبادي ويحسن أخلاقهم نيابة عنى وبعد ما شاور سبحانه معهم قالُوا في الجواب بمقتضى علمهم من العالم السفلى الذي هو عالم الكون والفساد ومحل الجدال والعناد ما نرى في العالم السفلى الا اللدد والفساد والخصومة المستمرة بين العباد والخروج من حدودك من سفك الدماء ونهب الأموال وسبى الذراري وبالجملة أَتَجْعَلُ يعنى أنسلم ونجوز بعد ما شاورت معنا يا ربنا ان تجعل وتخلق بمقتضى عزك وجلالك خليفة لك نائبا عنك فِيها اى في الأرض سيما مَنْ يُفْسِدُ فِيها بأنواع الفسادات مع انا ننزهك ونقدسك من مطلق الرذائل وَلا سيما من يَسْفِكُ الدِّماءَ المحرمة وبالجملة ليس من وسعنا هذا التسليم ولا نرى هذا الأمر لائقا بعظمتك وجلالك يا مولانا وَان شئت بمقتضى فضلك وجودك ان تصلح بين عبادك وتدبر أمورهم نَحْنُ اولى باصلاحهم وتدبيرهم وحفظ حدودك فيهم إذ نُسَبِّحُ ونشتغل دائما بِحَمْدِكَ وثنائك ونشكرك مستمرا على آلائك ونعمائك وَنُقَدِّسُ لَكَ اى ننزه ذاتك عن جميع ما يشعر بالعلل والأغراض فنحن اولى بخلافتك وبعد ما بسطوا ما بسطوا من الكلام قالَ سبحانه بلسان الجمع في جوابهم إرشادا لهم وامتنانا على آدم إِنِّي أَعْلَمُ من آدم الذي هو مظهر ذاتى وعموم أسمائي وصفاتي ما لا تَعْلَمُونَ أنتم اى من الجمعية التي أنتم لا تشعرون بها لعدم جامعيتكم
ثم لما علم سبحانه استحقاق آدم للنيابة ولياقته للخلافة وأجاب عن شبههم التي قد أوردوها حين المشورة اجمالا أشار الى تفصيل ما أجمل عليهم إرشادا لهم على مرتبة الجمع وتنبيها على جلالة قدر المظهر الجامع فقال وَعَلَّمَ الأسماء آدَمَ اى ذكر سبحانه وفصل له الْأَسْماءَ التي قد اودعها في ذاته وأظهره بمقتضاها وأوجد بها ايضا ما في العالم من الآثار البديعة كُلَّها بحيث لم يبق من الأوصاف المتقابلة والأسماء المتخالفة المتضادة شيء الا ما استأثر الله به في غيبه ثُمَّ عَرَضَهُمْ اى الأسماء المودعة باعتبار مسمياتها وآثارها الظاهرة في الآفاق عَلَى الْمَلائِكَةِ الذين هم يدعون الأولوية لأنفسهم في امر الخلافة فَقالَ سبحانه مخاطبا لهم على سبيل الإسكات والتبكيت أَنْبِئُونِي وأخبروني عن روية صائبة وبصيرة تامة بِأَسْماءِ هؤُلاءِ المسميات وبأسباب هؤلاء الآثار والمسببات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الأولوية والأحقية للنيابة محقين في الاعتراض على آدم لا عن علم بحاله
قالُوا مستوحشين من هذه الكلمات الهائلة المهولة معتذرين متذللين خائفين(1/27)
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
من عتابه سبحانه وجلين من سوء الأدب مع الله مستحيين عن سؤالهم من فعله الذي لا يسأل عنه مطلقا قائلين سُبْحانَكَ ننزهك ان نعترض عليك ونسأل عن فعلك نحن او غيرنا من المظاهر والمصنوعات فلك الحكم في ملكك وملكوتك والتصرف في مقتضيات أسمائك وصفاتك يا مولانا وانما بسطنا الكلام معك يا ربنا لانبساطك بنا إذ لا عِلْمَ لَنا منها إِلَّا ما عَلَّمْتَنا حسب استعداداتنا وقابلياتنا الفائضة منك علينا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بجميع القابليات الْحَكِيمُ بافاضة ما ينبغي لمن ينبغي بلا علل وأغراض وبعد ما اعترفوا بذنوبهم واعتذروا عن قصورهم واجترائهم قبل الله عنهم عذرهم وتوبتهم
ثم اظهر عليهم الحكمة المقتضية لخلافة آدم صلوات الله عليه جبرا لانكسارهم ورفعا لحجابهم امتنانا عليهم حيث قالَ يا آدَمُ المستجمع لآثار عموم الأسماء المتخالفة أَنْبِئْهُمْ عن خبرة وحضور تام بِأَسْمائِهِمْ المركوزة في هويتك عن هؤلاء المسميات والمسببات المعروضة عليك المعبر عنها بالعالم ثم لما سمع آدم نداء ربه بادر الى الجواب بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي وأجاب بما أجاب فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بتوفيق الله بِأَسْمائِهِمْ على التفصيل الذي أودعه الحق فيه لان المرآة تظهر وتحاكى جميع ما في الرائي ثم لما سمع الملائكة منه ما سمعوا من تفصيل الأسماء المعروضة عليه استحيوا من انبائه وندموا عما صدر عنهم في حقه وزادوا الاستحياء من الله وتوجهوا نحوه ساكتين لائمين أنفسهم حتى لطف سبحانه معهم وأدركتهم العناية الشاملة وشملتهم الرحمة الواسعة حيث تكلم سبحانه معهم وخاطبهم مذكرا لهم عما جرى بينه سبحانه وبينهم مستفهما لهم على وجه التأديب لئلا يصدر عنهم أمثاله ولئلا يغتروا بعلومهم ومعاملاتهم ولا يستحقروا مظاهر الحق مطلقا ولا ينظروا إليها بنظر الاهانة والاستحقار بل بنظر العبرة والاعتبار ولا يتوهموا إخفاء شيء من الله المحيط لعموم الأشياء احاطة حضور وشهود حيث قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ أولا اجمالا إِنِّي أَعْلَمُ منكم غَيْبَ السَّماواتِ اى عالم الأسباب التي قد ادعيتم العلم بتفاصيل أحوالها وَغيب الْأَرْضِ اى عالم المسببات التي قلتم فيها كلاما على التخمين والحسبان وبحسب الظاهر وَأَعْلَمُ ايضا ما تُبْدُونَ وتظهرون في حق آدم باللسان من الاستحقار والاستكسار وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ في سرائركم وضمائركم من المراقبة له وافراط المحبة معى ودعوى الاستقلال فيها والانحصار عليها. ثم لما اعترفوا بذنوبهم وأقروا قصورهم وتضرعوا نحو الحق تائبين نادمين عن اجترائهم ومجادلتهم معه سبحانه مستحيين عنه سبحانه وعمن استخلفه عن نفسه يعنى آدم بنسبة انواع المكاره اليه خائبين عما نووا في نفوسهم من الأولوية في الاستحقاق تقبل الله سبحانه منهم عذرهم وأسقط حق آدم عنهم ثم أمرهم بسجوده استحلالا منه وتكريما له وإيفاء لحقه ليسقط عن ذممهم
فقال وَإِذْ قُلْنا اى اذكر يا أكمل الرسل وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ النادمين عن الجرأة التي صدرت عنهم في حق آدم اسْجُدُوا تذللوا وتواضعوا تكريما لِآدَمَ وامتثالا لأمرنا فَسَجَدُوا له مجتمعين متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والندامة إِلَّا إِبْلِيسَ منهم قد أَبى اى امتنع عن السجود وَاسْتَكْبَرَ عن الانقياد له وأصر على ما هو عليه من العناد والجحود وَكانَ بعدم امتثال الأمر الوجوبي مِنَ الْكافِرِينَ المطرودين عن ساحة الحضور والسر في استثنائه سبحانه إبليس عن هذا الحكم وعدم توفيقه واقداره إياه على السجود ان يظهر سر الظهور والإظهار والربوبية والعبودية والايمان والكفر والجنة والنار وجميع المعتقدات الشرعية والتكاليف الإلهية إذ بسببه يظهر الاثنينية ويتعدد الطرق وتتفاوت الآراء والمقالات وتتبين المخالفات(1/28)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
والمنازعات وبتغريره وتضليله يستتر الحق ويظهر الباطل وبالجملة هو الرقيب الحاجب الحافظ المحافظ لآدابه سبحانه والمعتكف ببابه حتى لا يكون شرعة لكل وارد او يتوجه اليه واحد بعد واحد غيرة منه على الله وحمية لحمى قدس ذاته وفضاء لاهوته ولهذا قد تمنى كثير من المحققين مرتبته ومن كمال غيرته على ربه الهاء بنى آدم واغرارهم بالمستلذات والمزخرفات التي مالت إليها نفوسهم بالطبع ليشغلهم ويلهيهم بها عن التوجه الى جنابه والعكوف حول بابه والسرفى طرده ولعنه وابعاده عن ساحة عز الحضور تحذيرهم من الانقياد له والاقتداء به على ابلغ وجه وآكده وتمرين لعداوته لهم ورقابته معهم في نفوسهم لئلا يغفلوا عنه ومع ذلك لم يتركوا متابعته ولم يجتنبوا من اقطاعه الملهية نعوذ بالله من شرور أنفسنا وبعد ما جعلنا آدم خليفة في الأرض أزلنا عنه قوادح القادحين وأمرنا جميع خصمائه بتعظيمه وسجوده وامتثلوا بالمأمور به جميعا الا إبليس من بينهم قد تركه للحكمة المذكورة آنفا ولئلا يتكبر آدم ويتجبر بسبب انقياد جميعهم كما تجبر كثير من ابنائه في الأرض بانقياد الشرذمة القليلة الى ان ادعوا الألوهية لأنفسهم
وَقُلْنا له على سبيل الشفقة والنصيحة يا آدَمُ المستخلف المختار لازم العبودية ولا تغتر بالخلافة وداوم على التوجه ولا تغفل عن المعاتبة واعلم ان العبودية انما تحصل بامتثال أوامرنا واجتناب نواهينا وبعد قبولك الامتثال والاجتناب اسْكُنْ أَنْتَ ايها الخليفة اصالة وَزَوْجُكَ تبعا لك الْجَنَّةَ التي هي دار السرور ومنزل الفراغ والحضور ومقام الانس مع الرب الغفور وبعد سكونكما فيها وَكُلا مِنْها اى من جميع محظوظاتها ومستلذاتها الروحانية والجسمانية رَغَداً واسعا كثيرا بلا مقدار وعدد حَيْثُ شِئْتُما بلا مزاحمة ضد ومنازعة احد وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ المخصوصة المعينة حتى لا تخرجا من ربقة العبودية وان تخرجا فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية بارتكاب المنهي عنه ثم لما استشعر إبليس بالتوصية والمعاهدة المذكورة المنبئة عن كمال العناية الإلهية بالنسبة الى آدم وبنيه بادر الى دفعها ونقضها فوسوس لهما بان القى في قلبهما الدغدغة في تخصيص هذه الشجرة المعينة المعنية بالنهى وبالغ في وسوستهما الى حيث انساهما الوصية الإلهية والمعاهدة المذكورة في العبودية
وبالجملة فَأَزَلَّهُمَا والجأهما الى ارتكاب الزلة بالوسوسة الشَّيْطانُ المضل المغوى فتناولا عَنْها اى عن الشجرة المنهية فَأَخْرَجَهُما الحق بسبب تلك التناول مِمَّا كانا فِيهِ اى من الحضور الذي كانا فيه في دار السرور وَبعد ظهور زلتهما قُلْنَا لهما ولناصحهما اهْبِطُوا من دار السرور الى دار الحزن والغرور ومن دار الكرامة الى دار الابتلاء والملامة وعيشوا فيها مع انواع النزاع والخصومة إذ فيها بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ينتهز الفرصة لمقته وَلَكُمْ بعد هبوطكم فِي الْأَرْضِ التي هي محل التفرقة وموطن الفتن والمحن مُسْتَقَرٌّ موضع قرار وَمَتاعٌ اى استمتاع بمزخرفاتها ومستلذاتها الغير القارة التي ألهاكم الشيطان بها عن النعيم الدائم إِلى حِينٍ اى الى قيام الساعة التي هي الطَّامَّةُ الْكُبْرى.
ثم لما لم يكن زلة آدم من نفسه وبمقتضى طبعه بل بتغرير عدوه وبمقتضى اغرائه ووسوسته اشفق سبحانه عليه وتلطف معه فَتَلَقَّى واستفاد آدَمُ المذنب العاصي مِنْ رَبِّهِ المستخلف له المستقبل عليه كَلِماتٍ مشتملات على الرجوع والانابة عما صدر عنه من الزلة وهي قوله بإلقاء الله إياه ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وبعد ما تلقى ما تلقى من الكلمات التامات واستغفر بها ورجع عن إتيان أمثال ما صدر فَتابَ الله عَلَيْهِ ترحما وقبل توبته تفضلا وكيف لا إِنَّهُ سبحانه(1/29)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
هُوَ التَّوَّابُ الرجاء للمذنبين المنهمكين في المعاصي بالإنابة اليه عن ظهر الجنان الرَّحِيمُ لهم عما صدر عنهم من المعاصي والآثام بلا عتاب وانتقام
ثم لما لقناه الكلمات التي تاب بها وقبلنا عنه توبته أخرجناه من اليأس والقنوط واطمعناه الرجوع الى الجنة بان قُلْنَا له ولذريته المتفرعة عليه منبهين عليهم طريق الرجوع والانابة اهْبِطُوا والزموا مكان الهبوط واستقروا عليها حال كونكم خارجين مِنْها جَمِيعاً اى من الجنة وترقبوا دخولها باذن منا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ايها المترقبون مِنِّي هُدىً من وحى والهام فهو علامة إذني ودليل رضائى برجوعكم فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ ورجع بمقتضاه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين المراجعة الى المقام الأصلي والموطن الحقيقي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بعد رجوعهم اليه بل كما بدأكم تعودون
وَالَّذِينَ لم يترقبوا الرجوع ونسوا ما هم عليه في الجنة ولم يلتفتوا الى الهدى المؤتى به بل كَفَرُوا به وأنكروا به وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وبرسلنا الذين أتوا بها وكذا بعموم دلائلنا الدالة على صدقهم من المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة أُولئِكَ الهابطون الناسون الموطن الأصلي والمقام الحقيقي المستبدلون الجنة الباقية بعرض هذا الأدنى الفاني الكافرون بطريق الحق المكذبون بالرسل الهادين هم أَصْحابُ النَّارِ التي هي محل البعد والخذلان ومنزل الطرد والحرمان هُمْ فِيها خالِدُونَ بسبب نسيانهم وتكذيبهم الى ما شاء الله ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
ثم لما بين سبحانه طريق الهداية والضلال ونبه على جزاء كل منهما اجمالا أشار الى تفصيله وتوضيحه بإيراد قصص القرون الماضية والأمم السالفة ليعتبر المؤمنون منها ومن جملتها قصة ندائه سبحانه بنى إسرائيل يعنى أولاد يعقوب مخاطبا لهم آمرا بتذكرهم بالنعم التي أنعمها عليهم ليكونوا من الشاكرين لنعمه الموقنين بعهود كرمه بقوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ المتنعمين بالنعم الجليلة اذْكُرُوا واشكروا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وعلى من استخلفكم من اسلافكم وَأَوْفُوا بعد اعداد النعم وتعديدها على انفسكم بِعَهْدِي الذي قد عهدتم معى من متابعة الهدى النازل منى على السنة انبيائى ورسلي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ايضا بارجاعكم وايصالكم الى مقامكم الأصلي الذي كنتم فيها قبل هبوطكم الى دار المحن وبعد رجوعكم إليها في النشأة الاخرى لا يبقى لكم خوف من الأغيار بل لا بد لكم حينئذ ان ترهبوا من سطوة سلطتى وقهري حسب جلالي وَإِيَّايَ عند عروض تلك الرهبة فَارْهَبُونِ وارجعوا الى وتحننوا نحوي لأؤانس معكم وازيل رهبتكم عنكم
وَاعلموا ان علامة وفائكم بعهدي هي الايمان فأذعنوا وآمِنُوا على وجه الإخلاص والإيقان بِما أَنْزَلْتُ بمقتضى فضلي وطولى على عموم رسلي سيما بالقرآن المنزل على الحضرة الختمية الخاتمية المؤيد بالدلائل القاطعة والحجج الساطعة والمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة مع كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين مشتملا على عموم ما في الكتب السالفة من الاحكام والقصص والمواعظ والحقائق مع لطائف أخر قد خلت عنها جميعها وَبعد ظهور المنزل به وادعاء من انزل عليه الرسالة والهدى لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ اى لا تكونوا مبادرين على الكفر بالهادي وما هدى به بل كونوا أول من آمن وصدق بعموم ما جاء به من عند ربه وانتهزوا الفرصة للايمان ولا تغفلوا عنه وَبعد نزوله وظهوره لا تَشْتَرُوا ولا تستبدلوا بِآياتِي المنزلة على رسلي ثَمَناً قَلِيلًا من المزخرفات الفانية وَان عسر عليكم ترك هذا الاستبدال بميل نفوسكم اليه بالطبع إِيَّايَ فَاتَّقُونِ عند عروض ذلك لأحفظكم(1/30)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
منه وأسهله عليكم
وَبالجملة لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ الظاهر الثابت بِالْباطِلِ الموهوم المزخرف للضعفاء الذين لا تمييز لهم وَلا تَكْتُمُوا الْحَقَّ ايضا في نفوسكم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حقيقته عقلا وسمعا
وَبعد ما آمنتم بالله وكتبه المنزلة على رسله واجتنبتم عما نهيتم عنه أَقِيمُوا الصَّلاةَ اى داوموا على الميل والتقرب الى جنابه والتوجه نحو بابه بجميع الأعضاء والجوارح قاصدين فيه تخلية الظاهر والباطن عن الشواغل النفسية والعوائق البدنية المانعة من الميل الحقيقي وَآتُوا الزَّكاةَ المطهرة لنفوسكم عن العلائق الخارجة والعوارض اللاحقة المثمرة لانواع الأمراض في الباطن من البخل والحسد والحقد وغير ذلك وَان قصدتم التقرب والتوجه على الوجه الأتم الأكمل ارْكَعُوا اى تذللوا وتضرعوا نحوه سبحانه مَعَ الرَّاكِعِينَ الذين قد خرجوا عن هوياتهم الباطلة بالموت الإرادي ووصلوا الى ما وصلوا بل اتصلوا لا مع الذين يراؤن الناس ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
لذلك خاطبهم سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع فقال أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ ايها المراؤون المدعون لليقين والعرفان على سبيل النصح والتذكير بِالْبِرِّ المقرب الى الله وَتَنْسَوْنَ أنتم أَنْفُسَكُمْ من امتثال ما قلتم وَالحال انه أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ المشتمل على الأوامر والنواهي وتدعون علمه فحقكم ان تمتثلوا به أولا أَتلتزمون تذكير الغير وأنتم منهمكون في الغفلة والضلال فَلا تَعْقِلُونَ ولا تفهمون قبح صنيعكم هذا ايها المسرفون المفرطون
وَبعد ما أمرتم بعد الايمان بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المطهرتين لنفوسكم ظاهرا وباطنا فعليكم الإتيان والامتثال بالمأمور على الوجه الأتم الأكمل ولا يتيسر لكم هذا على الوجه الذي ذكر الا بادامة الاستقامة والاستعانة والمظاهرة من الخصلتين الكريمتين لذلك أمركم سبحانه باستعانتهما بقوله اسْتَعِينُوا في التوجه والتقرب الى الله بِالصَّبْرِ عن المستلذات الجسمانية والمشتهيات النفسانية وَالصَّلاةِ الميل الى الله والاعراض عن ما سوى الله ولا تستحقروا امر هذه الاستعانة ولا تخففوها وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ شاقة ثقيلة على كل احد إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الخاضعين الموقنين
الَّذِينَ يرفعون رين الغيرية عن العين ويسقطون شين الاثنينية عن البين بل يَظُنُّونَ ويعتقدون أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ في هذه النشأة لأنهم يعبدون الله كأنهم يرونه وَهم يعلمون يقينا أَنَّهُمْ إِلَيْهِ سبحانه لا الى غيره من الوسائل والأسباب راجِعُونَ عائدون صائرون في النشأة الاخرى اللهم اجعلنا منهم ومن متابعيهم ومحبيهم
ثم لما من سبحانه عليهم بالنعم التي يظهر آثارها وثمراتها في العالم الروحاني بحسب النشأة الاخرى من عليهم ايضا بالنعم التي ظهرت آثارها عليهم في العالم الجسماني بحسب النشأة الاولى فناداهم ايضا مبتدئا مذكرا بقوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا واشكروا ولا تكفروا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وعلى اسلافكم وَاعلموا أَنِّي بمقتضى كمال حولي وقوتي قد فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ من أبناء نوعكم بفضائل قد اغنت شهرتها عن الإحصاء والتعديد وبعد ما ذكرتم النعمة وعرفتم المنعم المفضل لا تغتروا بفضلي ولطفي بل احذروا عن قهري وبطشى
وَاتَّقُوا يَوْماً واى يوم يوما تحشرون الى للجزاء والحساب وفي ذلك اليوم لا تَجْزِي ولا تسقط نَفْسٌ مطيعة كانت او عاصية عَنْ نَفْسٍ عاصية شَيْئاً من جزائها وعذابها وَلا يُقْبَلُ ايضا فيه مِنْها اى من النفس العاصية شَفاعَةٌ من شافع ولا صديق حميم وَكذا لا يُؤْخَذُ مِنْها فيه كفيل عَدْلٌ لتمهل مدة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فيه(1/31)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
بالأنصار والأعوان بل كل نفس يومئذ رهينة بما كسبت ضمينة بما اقترفت
وبعد ما أمرهم سبحانه بتذكر النعم اجمالا وحذرهم عن جزاء الكفران أشار الى تعداد النعم العظام التي هم مختصون بها امتنانا عليهم فقال وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ اى اذكروا وقت انجائنا إياكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الذين يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ اى يكلمونكم ويفضحونكم بسوء العذاب الذي لا عذاب أسوأ منه وهو انهم يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ لئلا يبقى ذكركم في الدنيا إذ بالابن يذكر الأب ويحيى اسمه لأنه سره وَاشنع من ذلك انهم يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وبناتكم باستبقائهن ليلحق العار عليكم بتزويجهم اياهن بلا نكاح ولا عار اشنع من ذلك ولذلك عد موت البنات من المكرمات وَفِي ذلِكُمْ يعنى واعلموا ان في هذه المحن المشار إليها بَلاءٌ واختبار لكم مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ليجزيكم بنعم هي أعظم منها وهي انجاءكم عنهم واستيلاءكم عليهم
وَبعد ما ابتليناكم باحتمال الشدائد والمتاعب ومقاساة الأحزان أردنا انجاءكم من عذابهم وإهلاكهم بالمرة فامرناكم بالسير والفرار من العدو ففررتم ليلا فأصبحتم مصادفين البحر والعدو ايضا قد صادفكم اذكروا إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ اى وقت تفريقنا بالفرق الكثيرة الْبَحْرَ المتصل في نفسه ليسهل عبوركم منه ونجاتكم منهم وبالجملة فَأَنْجَيْناكُمْ من أيديهم وعبرناكم سالمين وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ المقتحمين بالفور خلفكم باجتماع تلك الفرق واتصال البحر على ما هو عليه في نفسه وَأَنْتُمْ حينئذ تَنْظُرُونَ الافتراق والاجتماع المتعاقب وكيف لا تذكرون هذه النعم الجليلة ولا تشكرون لها
وَبعد ما قد أنجيناكم من البحر سالمين وأغرقنا عدوكم بالمرة واورثناكم ارضهم وديارهم وأموالهم اذكروا وقت إِذْ واعَدْنا مُوسى المتحير في ضبط المملكة في أول استيلائه حيث قلنا له على سبيل التوصية والمعاهدة ان أخلصت التوجه والميل إلينا مدة أَرْبَعِينَ لَيْلَةً متوالية خصصها سبحانه لخلوها عن الشواغل المانعة من الإخلاص قد أنزلنا عليك تأييدا لأمرك كتابا جامعا لمرتبتى الايمان والعمل حاويا على جميع التدابير والحكم المتعلقة بالظاهر والباطن ثُمَّ لما اشتغل موسى بإنجاز الوعد وإيفاء العهد فذهب الى الميقات مخلصا قد اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الذي صوغتهم أنتم بأيديكم من حليكم بتعليم السامري المضل إياكم بسبب صدور الخوار الذي ظهر منه ابتلاء لكم وفتنة الها من دون الله وادعيتم شركته معه سبحانه مكابرة بل قد حصرتم الألوهية له بقولكم هذا إلهكم واله موسى وبالجملة قد أخلفتم الوعد والعهد جميعا مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد ذهاب موسى الى الميقات وقبل رجوعه منه وَأَنْتُمْ بسبب خلف الموعود والاتخاذ المذكور ظالِمُونَ خارجون عن ربقة الايمان والتوحيد العياذ بالله من ذلك
ثُمَّ لما تبتم ورجعتهم نحونا نادمين عَفَوْنا عَنْكُمْ وأزلنا عن ذممكم جزاء ذلك الظلم الذي ظلمتم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الاجتراء لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تواظبوا على أداء شكر نعمه بالعفو الذي هو من آثار اللطف والجمال بعد ظلم المعفو عنه الذي هو من آثار القهر والجلال حتى تكونوا من زمرة الشاكرين الذين يشكرون الله في السراء والضراء
وَبعد اخلافكم الوعد قبل تمامها وظلمكم لأنفسكم باتخاذكم العجل لم نهمل امر موسى ولم نخلف الوعد الذي قد واعدناه به واذكروا وقت إِذْ آتَيْنا مُوسَى انجازا لوعدنا إياه الْكِتابَ الموعود الجامع لأسرار الربوبية وَالْفُرْقانَ الفارق بين الحق والباطل وبين الهداية والضلال لَعَلَّكُمْ تقتدون له وتَهْتَدُونَ به الى طريق التوحيد وتجاهدون فيه الى ان تتخلصوا عن مطلق الشواغل المانعة عنا
وَبعد ما أنجزنا وعد موسى(1/32)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
ورجع الى قومه غضبان أسفا اذكروا وقت إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ المؤمنين به المعاهدين له بعد رجوعه من الميقات والتورية معه يا قَوْمِ الناقضين لعهدي المتجاوزين عن حدود الله إِنَّكُمْ قد ظَلَمْتُمْ أنتم أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ الها مستحقا للعبادة فَتُوبُوا عن هذا الاعتقاد والاتخاذ وارجعوا متذللين متضرعين إِلى بارِئِكُمْ الذي قد برأكم وأظهركم من العدم ليبرأ كم عن هذا الظلم وبعد ما تبتم ورجعتم نادمين فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الامارة بهذا الظلم بأنواع الرياضات وترك المشتهيات والمستلذات وقطع المألوفات وترك المستحسنات لائمين عليها بأنواع الملامات حتى تكون مطمئنة بما قسم لها الحق راضية بجريان حكم القضاء الإلهي مرضية بالفناء الكلى في الله بل فانية عن الفناء ايضا ذلِكُمْ المشار اليه من الانابة والرجوع وإبراء الذمة والإذلال بأنواع الرياضات والفناء المطلق خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ وخالقكم الذي قد خلقكم لمصلحة التوحيد والعرفان وبعد ما تحقق انابتكم وإخلاصكم فيها فَتابَ عَلَيْكُمْ وقبل توبتكم ورضى عنكم إِنَّهُ سبحانه هُوَ التَّوَّابُ الرجاع للعباد الى التوبة والانابة الرَّحِيمُ لهم يقبل توبتهم وان عظمت زلتهم
وَاذكروا ايضا وقت إِذْ قُلْتُمْ لموسى عند دعوتكم الى الايمان والهداية يا مُوسى المدعى للرسالة الداعي الى الله بمجرد الاخبار لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ولما جئت به من عند ربك حَتَّى نَرَى اللَّهَ الذي ادعيت الرسالة منه جَهْرَةً ظاهرة بلا سترة وحجاب كما نرى بعضنا بعضا وبعد ما قد أفرطتم في حقنا فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ النازلة من قهرنا وغضبنا لإنكاركم ظهورنا الذي هو اظهر من الشمس بل الشمس ايضا انما هي من جملة عكوس لمعاتنا الذاتية ومن اظلال اشعة اوصافنا الجمالية والجلالية وَأَنْتُمْ حال نزول تلك الصاعقة الهائلة تَنْظُرُونَ متحيرين والهين بلا تدبير وتصرف الى ان صرتم فانين مغلوبين تحت قهرنا وجلالنا
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ وانشأناكم احياء بمقتضى التجلي اللطفى مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ وفنائكم بالقهر والغضب ترحما عليكم وامتنانا لكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الوجود بعد العدم والحيوة بعد الموت وتعتقدون الحشر الموعود في يوم الجزاء وتؤمنون به
وَاذكروا ايضا وقت إذ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ يوم لا ظل وأنتم حينئذ تائهون في التيه في ايام الصيف بان سار معكم حيث شئتم ولا يزال يظل عليكم وَمع ذلك قد أنعمنا عليكم أعظم من ذلك بان أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ الترنجبين من جانب السماء تسكينا لحرارتكم وتبريد أمزجتكم وَأنزلنا ايضا منها لغذائكم السَّلْوى وهو السمانى او مثله في النزول من جانب السماء وأبحنا لكم تناولهما حيث قلنا لكم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ من خصائص النعم واشكروا لها ولا تكفروا بها وَبالجملة ما ظَلَمُونا بكفران النعم ونسيان حقوق الكرم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ويحرمون من الفوائد العائدة لنفوسهم من نعمنا وازديادها عليهم بدوام شكرنا والمواظبة على اقامة حدودنا
وَاذكروا ظلمكم ايضا وقت إِذْ قُلْنَا لكم بعد خروجكم من التيه إشفاقا لكم وامتنانا عليكم ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ التي هي منازل الأنبياء والأولياء يعنى بيت المقدس فَكُلُوا مِنْها اى من مأكولاتها ومشروباتها حَيْثُ شِئْتُمْ بلا مزاحم ولا مخاصم رَغَداً واسعا بلا خوف من السقم والمرض حتى يتقوى بها مزاجكم ويزول ضعفكم وبعد تقويتكم المزاج بنعمنا ارجعوا إلينا وتوجهوا نحو بيتنا الذي قد بنينا فيها وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً متذللين خاضعين واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان وعند سجودكم وتذللكم استغفروا ربكم من خطاياكم وَقُولُوا متضرعين رجاؤنا منك يا مولانا(1/33)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
حِطَّةٌ اى حط ما صدر عنا وجرى علينا من المعاصي والآثام وإذا دخلتم على الوجه الذي أمرتم واستغفرتم كما علمتم نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ التي قد جئتم بها واستغفرتم لها أنتم وَسَنَزِيدُ بمقتضى فضلنا وجودنا الْمُحْسِنِينَ منكم تفضلا منا إياهم وتكريما بالرضوان الذي لا مرتبة عندنا أعلى منه واكبر والمحسنون هم الذين لم يتجاوزوا الحد ولم يخالفوا الأمر الإلهي ثم لما امرناهم بالدخول على هذا الوجه وعلمناهم طريق الدعاء والاستغفار خالف بعضهم المأمور ظلما وتأويلا
فَبَدَّلَ واستبدل القوم الَّذِينَ ظَلَمُوا بالخروج عن مقتضى أمرنا قولنا لهم لإصلاح حالهم تعليما وإرشادا قَوْلًا آخر لفظا ومعنى غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ حيث أرادوا من القول الملقى إليهم لفظا آخر ومعنى آخر برأيهم الفاسد وطبعهم الكاسد وهو قولهم حطا سمتاتا اى حنطة حمراء ولما لم يأتوا بالمأمور به ومع ذلك قد بدلوه الى ما تهوى أنفسهم أخذناهم بها فَأَنْزَلْنا بمقتضى قهرنا وجلالنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا تنصيصا عليهم وتخصيصا لهم ليعلم ان سبب أخذهم وانتقامهم انما هو ظلمهم رِجْزاً طاعونا نازلا مِنَ قبل السَّماءِ مقدرا أسبابه فيها بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بشؤم ما يخرجون عن مقتضى الحدود الإلهية المنزلة من عنده على السنة رسله
وَاذكروا ايضا جلائل نعمنا إياكم وقت إِذِ اسْتَسْقى مُوسى وطلب السقي منا بانزال المطر لِقَوْمِهِ حين بثوا الشكوى عنده من شدة العطش في التيه فَقُلْنَا له مشيرا الى ما يترقب منه مطلوبه بل يستبعد حصوله عند أشد استبعاد اضْرِبْ يا موسى بِعَصاكَ الْحَجَرَ الذي بين يديك ولا تستبعد حصول مطلوبك منها فتفطن موسى بنور النبوة بمضمون الأمر الوجوبي فضربه دفعة بلا تردد فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ فجاءة على الفور اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً متمايزة منفردة كل منها عن صاحبته بعدد رؤس الفرق الاثنى عشر بحيث قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ من كل فرقة مَشْرَبَهُمْ المعين لهم رفعا للتزاحم والتنازع ثم أمرناكم بما ينفعكم ظاهرا وباطنا بان قلنا لكم كُلُوا وَاشْرَبُوا متنعمين مترفهين مِنْ رِزْقِ اللَّهِ الذي قد أفاض عليكم من حيث لا تحتسبون وَنهيناكم عما يضركم صورة ومعنى بان قلنا لكم لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ ولا تظهروا عليها خيلاء متكبرين مُفْسِدِينَ بأنواع الفسادات مفتخرين بها واعلموا ان الله المنتقم الغيور لا يحب كل مختال فخور
وَاذكروا ايضا وقت إِذْ قُلْتُمْ لموسى في التيه بعد إنزال المن والسلوى وانفجار العيون من الحجر الصماء قولا خاليا عن الإخلاص والمحبة ناشئا عن محض الغفلة والفساد وكفران النعم يا مُوسى على طريق سوء الأدب لَنْ نَصْبِرَ معك في التيه عَلى طَعامٍ واحِدٍ مع انه غير ملائم لأمزجتنا وطباعنا فَادْعُ لَنا رَبَّكَ الذي قد ادعيت تربيته إيانا يُخْرِجْ لَنا ويهيء لغذائنا من جنس ما تنبت الأرض التي هي معظم عناصرنا مما يناسب لمزاجنا سواء كان مِنْ بَقْلِها خضرواتها التي يأكلها الإنسان للتفكه والتلذذ بحرافتها وحموضتها ومرارتها الملايمة لطبعه وَقِثَّائِها التي يتفكه بها لتبريد المزاج وَفُومِها حنطتها التي يتقوت بها لشدة ملاءمتها مزاجه لذلك ما أزل الشيطان أبانا آدم الا بتناولها وكذا ما نهى سبحانه عباده عنها لكمال ملاءمتهم بها وميل طباعهم إياها وَعَدَسِها الممد لهضم الغذاء وَبَصَلِها التي تشتهيها النفوس المتنفرة عن الحلاوة والدسومة ثم لما سمع موسى منهم ما سمع ايس وقنط من صلاحهم وإصلاحهم لذلك قالَ في جوابهم موبخا ومقرعا أَتَسْتَبْدِلُونَ وتختارون ايها الناكبون عن طريق الحق الراكنون الى الهوى الَّذِي هُوَ أَدْنى(1/34)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
المخرج من الأدنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وأعلى المنزل من الأعلى وبالجملة انا استحى من الله بسؤال ما سألتم وإنجاح ما املتم اهْبِطُوا وانزلوا مِصْراً ارض العمالقة وديار الفراعنة فَإِنَّ لَكُمْ فيه ما سَأَلْتُمْ بالكد والفلاحة وانواع التعب والعنا وَبعد ما أذلوا نفوسهم بطلب الأشياء الدنية الخسيسة ضُرِبَتْ اى قد غلبت وختمت عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ لخباثة نفوسهم وقساوة قلوبهم وتمكن النفاق في جبلتهم لذلك ما ترى يهوديا الا ذليلا في نفسه خبيثا في معاشه وَضربت عليهم ايضا الْمَسْكَنَةُ والهوان المذموم المتفرع على الذلة المتفرعة على الدناءة والخباثة وَبعد ما قد ضربت عليهم الذلة باؤُ وصاروا مقارنين بِغَضَبٍ نازل مِنَ اللَّهِ المطلع على سرائرهم وضمائرهم ذلِكَ اى السبب الموجب لنزول الغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا من خبث طينتهم وشدة نفاقهم وضغينتهم يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ونعمه النازلة عليهم عطاء وامتنانا وَلا يقتصرون على كفران النعم فقط بل يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ المنبئين لهم معالم دينهم الناهين لهم عن قبح صنيعهم بِغَيْرِ الْحَقِّ الذي ظهر عندهم من الجنايات الموجبة للقتل بل ما ذلِكَ الكفر والقتل الا بِما عَصَوْا عصيانا فاحشا على الله وعلى خلص عباده وَكانُوا في العصيان والفسوق يَعْتَدُونَ ويتجاوزون عن حدود الله عنادا واستكبارا ثم لما بالغوا في الاعراض عن الله والتجاوز عن حدوده وكفران نعمه وصاروا من نهاية افراطهم وتفريطهم مظنة ان لا يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح أصلا تقاعد موسى صلوات الله عليه وسلامه عن تبليغهم وايس عن اهتدائهم بالمرة
ثم أشار سبحانه الى ان منهم ومن أمثالهم من ذوى الأديان والملل من يهتدى الى الحق ويتوجه الى طريق مستقيم فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بدين محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ هادُوا وانقادوا بدين موسى عليه السّلام وَالنَّصارى الذين قد آمنوا بدين عيسى عليه السّلام وَالصَّابِئِينَ وهم الذين تدينوا بدين نوح عليه السّلام مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعنى أيقن بوحدانية الله وأقر باستقلاله في ربوبيته واعترف وعرف ان لا موجود الا الله الواحد الأحد الفرد الصمد ومع ذلك صدق واعترف بيوم الجزاء وَعَمِلَ عملا صالِحاً موافقا لما امر خالصا لوجه الله مخلصا فيه فَلَهُمْ فيه أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي يوفقهم على التوحيد والإخلاص وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العقاب والعذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عن سوء المنقلب والمآب
وَاذكروا ايضا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ اى قد طلبنا منكم العهد الوثيق بان تتبعوا موسى وتمتثلوا بأوامر كتابه وتجتنبوا عن نواهيه فامتنعتم عن متابعته وأبيتم عن انقياده مستثقلين أنتم ما في كتابه من الأوامر والنواهي فألجأناكم اليه بان أمرنا جبرائيل عليه السّلام بقلع جبل طور من مكانه وَبعد ما قلعه رَفَعْنا بتوفيقنا إياه فَوْقَكُمُ الطُّورَ معلقا عليكم وقلنا لكم حينئذ ملجأ خُذُوا جميع ما آتَيْناكُمْ من الدين والكتاب بِقُوَّةٍ جد كامل واجتهاد تام وَاذْكُرُوا جميع ما فِيهِ على التفصيل لنفوسكم وان لم تأخذوا وتذكروا نسقط عليكم الجبل فنستأصلكم فعهدتم ملجئين خوفا من سقوطه وانما فعلنا ذلك بكم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعنى لكي تحذروا عن مقتضى قهرنا وانتقامنا
ثُمَّ لما أمهلناكم زمانا قد تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن العهد مِنْ بَعْدِ ما قد أزلنا عنكم ذلِكَ الخوف والرعب وبالجملة أنتم في جبلتكم قوم ظالمون مجاوزون عن الحدود والعهود الإلهية مجبولون على الظلم والعدوان فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بارادة ايمانكم وصلاحكم وَرَحْمَتُهُ الواسعة الشاملة لكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب لَكُنْتُمْ في(1/35)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
انفسكم مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيمة الا ذلك هو الخسران المبين وكيف لا تكونون أنتم من جملة الخاسرين الناقضين للعهود الإلهية وأنتم قوم شأنكم هذا
وَالله لَقَدْ عَلِمْتُمُ وحفظتم أنتم قصة المسرفين المفرطين الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ ومن اسلافكم متجاوزين عن مقتضى العهد الإلهي في زمن داود عليه السّلام فِي اصطياد يوم السَّبْتِ وذلك انهم سكنوا على شاطئ البحر في قرية يقال لها ايلة وكان معاشهم من صيد البحر فأرسل الله عليهم داود عليه السّلام فدعاهم فآمنوا له وعهد عليهم معهم على لسان داود بان لا يصطادوا في يوم السبت بل يخصونه ويعينونه للتوجه والتعبد فقبلوا العهد وأكدوه بالميثاق وكانت حيتان البحر بعد العهد يحضرن في يوم السبت على شاطئ البحر ويخرجن خراطيمهن من الماء ثم لما مضى عليها زمان احتالوا لصيدها حيث حفروا حياضا وأخاديد على شاطئ البحر وأحدثوا جداول منه إليها ولما كان يوم السبت يفتحون الجداول ويرسلون الماء الى الحياض واجتمعت الحيتان فيها وفي يوم الأحد يصطادونها منها وبالجملة قد نقضوا عهدنا بهذه الحيلة واغتروا بامهالنا إياهم زمانا بل ظنوا انهم قد خادعونا ثم انتقمنا عنهم فَقُلْنا لَهُمْ حينئذ بعد ما قد أفسدتم على انفسكم لوازم الانسانية التي هي الإيفاء والوفاء على العهود والتكاليف قد افسدنا ايضا انسانيتكم بالمرة كُونُوا إذا الساعة قِرَدَةً صورة ومعنى خاسِئِينَ مهانين مبتذلين فمسخوا عن لوازم الانسانية من العلم والإدراك والمعرفة والايمان على الفور ولحقوا بالبهائم بل صاروا أسوأ حالا منها
فَجَعَلْناها اى قصة مسخهم وشانهم هذا نَكالًا وعبرة لِما بَيْنَ يَدَيْها من الحاضرين المشاهدين حالهم وقصتهم وَما خَلْفَها ممن يوجد بعدها من المذكرين السامعين قصصهم وتواريخهم وَمَوْعِظَةً وتذكيرا لِلْمُتَّقِينَ الذين يحذرون عن المناهي مطلقا ويحفظون نفوسهم عنها دائما
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين من سوء معاملة بنى إسرائيل مع أخيك موسى الكليم عليه السّلام وقبح صنيعهم معه ومجادلتهم بما جاء به من عندنا جهلا وعنادا ليتنبهوا ويتفطنوا على ان الايمان بنبي يوجب الانقياد والإطاعة له وترك المراء والمجادلة معه ودوام المحبة والإخلاص بالنسبة اليه وتفويض الأمور اليه ليتم سر الربوبية والعبودية والنبوة والرسالة والتشريع والتكليف والاقتداء والانقياد والتوسل والتقرب والوصول وذلك وقت إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ حين حدثت الفتنة العظيمة فيما بينهم وهي انه كان فيهم رجل من صناديدهم له اموال وضياع وعقارات كثيرة وله ابن واحد وبنوا أعمام كثيرة فطمعوا في ماله وقتلوا ابنه ليرثوه وطرحوا المقتول على الباب فأصبحوا صائحين فزعين يطلبون القاتل فأراد الله تفضيحهم وتشهيرهم فأمر موسى عليه السّلام بان قال لهم مخبرا إِنَّ اللَّهَ المطلع على سرائر الأمور يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً حتى ينكشف لكم امر المقتول ثم لما سمعوا من موسى ما سمعوا استبعدوا قوله وتحيروا في امره وقوله هذا ومن غاية استبعادهم قالُوا له على طريق المعاتبة أَتَتَّخِذُنا هُزُواً يعنى أتعتقد أنت يا موسى الداعي للخلق الى الحق انا محل استهزائك وسخريتك مع انه لا يليق بك ولا بنا هذا قالَ موسى مستنزها نفسه عن الاستهزاء مستعيذا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ المستهزئين بالناس بل ما اتبع الا ما يوحى الى ثم لما سمعوا منه الاستبراء والاستعاذة خافوا من ابتلاء الله إياهم فأوجس كل منهم خيفة في نفسه لكونهم خائنين واشتغلوا بتدبير الدفع وشاوروا بينهم واستقر رأيهم على ان نووا تلك البقرة المخصوصة المعلمة المعينة المعهودة عندهم المعلومة بالشخص(1/36)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
وبعد ذلك سألوا عنه تعيينه بان قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ اكبير أم صغير قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ كبير في السن وَلا بِكْرٌ صغير فيه بل عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ اى متوسط استكمل سن النمو ولا يميل الى الذبول وبعد ما تحققتم أمرها فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ به ثم لما اشتد خوفهم من الفضيحة بنزول الوحى زادوا في الاستفسار عن التعيين مكابرة وعنادا تسويفا وتأخيرا
حيث قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها من الألوان المتعارفة المشهورة حتى نذبحها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ اصيل في الصفرة كأنه وضع اسم الصفرة بإزائها أولا وبالجملة لَوْنُها كلون الذهب تَسُرُّ النَّاظِرِينَ والسرور عبارة عن الانبساط والانتعاش الحاصل في القلب عند فراغه عن جميع الشواغل في تلك الحالة يتعجب عن كل ذرة بل عن نفسه ويؤدى تعجبه الى التحير فإذا تحير غرق في بحر لا ساحل لها ولا قعر أدركنا يا دليل الحائرين
ثم لما جزموا الإلجاء فقطعوا النظر عن الخلاص كابروا وعاندوا ايضا مبالغين فيها حيث قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ اى ما هويتها وهيئتها المعينة المشخصة وقل له يا موسى حكاية عنا إِنَّ الْبَقَرَ المأمور به تَشابَهَ عَلَيْنا ومتى استوصفناه منك قد وصفتنا بالأوصاف المشتركة العامة وَإِنَّا بعد ما قد عينتها بتعيين الله إيانا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ بذبحها
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ عجف مهزول بسبب تقليب الأرض واثارتها للزراعة وَلا ذلول سبب ذلتها وضعفها انها تَسْقِي الْحَرْثَ بالدلو والسقاية بل هي مُسَلَّمَةٌ من حين صغرها عن أمثال هذه المذلات بحيث لا شِيَةَ فِيها اى لا عيب ولا ضعف فيها ثم لما بالغوا في الاستفسار الى ان بلغوا على ما قد نووا في نفوسهم الزموا وأفحموا قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ الثابت الكائن في الواقع وفي نيتنا واعتقادنا حكى ان شيخا صالحا من صلحائهم قد كانت له هذه العجلة المتصفة بهذه الصفات فذهب بها الى ايكة فأودعها عند الله وقال اللهم انى استودعها عندك لولدي حتى يكبر ثم مات الشيخ وكانت تلك البقرة في حفظ الله وحمايته حتى يكبر الولد وحدثت تلك الحادثة فيما بينهم فأمر الله سبحانه بذبح تلك البقرة على سبيل الإلجاء فاشتروها بملإ مسكها ذهبا فَذَبَحُوها ملجئين مكرهين وَلولا الجاؤنا إياهم واكراهنا عليهم ما كادُوا وما قاربوا يَفْعَلُونَ لخوف الفضيحة وغلاء ثمنها
وَكيف تفعلونه أنتم مع انكم تعلمون في نفوسكم ان سبب نزوله تفضيحكم واظهار ما كتمتم في نفوسكم اذكروا وقت إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً بغير حق فَادَّارَأْتُمْ وتدافعتم فِيها اى في شانها بان أسقط كل منكم قتلها عن ذمته وقد سترتم أمرها وهدرتم دمها وَاللَّهُ المحيط بسرائركم وضمائركم مُخْرِجٌ مظهر ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ في نفوسكم
فَقُلْنا
لكم بعد ما قد تدارأتم وتدافعتم فيها وأنتم ذبحتم البقرة المأمورة اضْرِبُوهُ
اى المقتول بِبَعْضِها
اى ببعض البقرة اى بعض كان فضربوه فحي المقتول باذن الله فأخبر بقاتله فافتضحوا وارتفعت المداراة كَذلِكَ
اى مثل احياء هذا المقتول بلا سبب يقتضيه عقولكم ويرتضيه نفوسكم يُحْيِ اللَّهُ
القادر على عموم ما يشاء جميع الْمَوْتى
في يوم الحشر والجزاء بلا اسباب ووسائل اقتضتها عقول العقلاء إذ عنده الإبداء عين الإعادة والإعادة عين الإبداء بل الكل في مشيته وقدرته على السواء وَيُرِيكُمْ
قبل ظهور النشأة الاخرى آياتِهِ
الدالة على تحقق وقوعها لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
رجاء ان تتفكروا وتتفطنوا منها اليه وتؤمنوا بجميع المعقدات الشرعية الدنيوية والاخروية وتصدقوها على وجه التعبد والانقياد بلا مراء ومجادلة مع من اتى بها من الرسل والأنبياء ووارثهم(1/37)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
من الأولياء والأصفياء ولا يتيسر لكم هذه الرتبة العلية الا بعد ذبحكم بقرة النفس الامارة المسلطة بالقوة التامة عليكم المتلونة بألوان المسرة لنفوسكم وطباعكم المسلمة الممتنعة من التكاليف الشرعية من الأوامر والنواهي وضربكم بها على النفس المطمئنة المقهورة المقتولة ظلما لتصير حية بالحيوة الابدية باقية بالبقاء السرمدي فتخبركم عن صنائع امارتكم الظالمة المتجاوزة عن الحد خلصنا الله وعموم عباده من غوائلها
ثُمَّ قَسَتْ بالقساوة الاصلية والرين الجبلي قُلُوبُكُمْ المتكبرة المتجبرة الصلبة البليدة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الأحياء الملين للقلوب الخائفة الوجلة عن خشية الله وبعد ما لم يلين قلوبكم ولم يؤثر فيها هذه الآية الكبرى فَهِيَ اى فظهر انها اى القلوب القاسية في الصلابة والقساوة كَالْحِجارَةِ التي لا تقبل النقر والأثر أصلا أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بل أشد صلابة من الحجارة فان من الحجارة ما تتأثر بالحيل وقلوبكم لا تقبل التأثر أصلا وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ويتأثر منها وقلوبكم لا تتأثر بأنهار المعارف المنشعبة عن بحر الذات الجاري على جداول السنة الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ اى يتأثر بالشقوق الحادثة بأنفسها بالتحليل الحاصل من مر الدهور وكر الأعوام او من مؤثر خارجى وبعد ما تشقق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ فيدخل فيه الماء وقلوبكم لا تتأثر لا بنفسها ولا بالمؤثر الخارجي وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ ينزل من أعلى الجبل مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الناشئة من ظهور الآيات مثل المطر الهاطل والريح العاصفة والزلزلة القالعة وغير ذلك من الآيات الظاهرة في الآفاق وقلوبكم لا تتأثر بالآيات الباهرة النازلة عليكم من ربكم ترغيبا وترهيبا هذا تقريع وتوبيخ لهم على ابلغ وجه وآكده وحث على المؤمنين وتحذير لهم عن أمثالها بأنهم مع قابليتهم على التأثر لا يقبلون الأثر النافع لهم في الدارين والحجارة مع صلابتها وعدم قابليتها تتأثر فهم في أنفسهم أسوأ حالا وأشد قساوة وصلابة منها ومع ذلك تخادعون الله بالستر والإخفاء وتظنون غفلته وَمَا اللَّهُ المظهر لذواتهم وأشباحهم المحيط بعموم مخايلهم وحيلهم بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ولو طرفة وخطرة ولمحة
ثم لما ذكر سبحانه امتنانه على بنى إسرائيل وانعامه إياهم بأنواع النعم وذكر ايضا ظلمهم وعدوانهم وكفرانهم نعمه أراد أن ينبه على المؤمنين المحمديين المتمنين ايمان اليهود وانقيادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومواخاتهم مع المؤمنين بان متمناكم وملتمسكم محال أَفَتَطْمَعُونَ يعنى الم تسمعوا قصتهم ولم تعرفوا خباثتهم ودناءتهم وذلتهم المضروبة عليهم وسوء معاملتهم مع أنبيائهم المبعوثين إليهم فترجون منهم طامعين أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ اى لنبيكم ويحابوا معكم لله مع علمكم بحالهم وَلم تسمعوا متواترا انه قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ اى من أسلافهم قوم يَسْمَعُونَ ويتلون كَلامَ اللَّهِ النازل لهم يعنى التورية وفيه وصف نبينا صلّى الله عليه وسلّم فيضطربون ويستثقلون بعثته صلّى الله عليه وسلّم ثُمَّ لما قرب عهده صلّى الله عليه وسلّم وظهر بعض علاماته استشعروا من اماراته انه صلّى الله عليه وسلّم هو النبي الموعود في كتابهم أخذوا يُحَرِّفُونَهُ اى الكتاب حسدا وعنادا ويغيرونه مكابرة مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ جزموه وحققوه انه هو وَهُمْ ايضا في أنفسهم يَعْلَمُونَ مكابرتهم وعنادهم ويجزمون في نفوسهم حقيته ويقولون في خلواتهم انه وان كان النبي الموعود لكن لا نؤمن له لأنه من العرب لا منا ومنهم من آمن وصدق ظاهرا لمصلحة دنيوية وهو في نفسه على خباثته الاصلية ودنائته الجبلية بل أخبث منهم
وَعلامة خباثتهم انهم إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا وأخلصوا في ايمانهم قالُوا آمَنَّا برسولكم الذي(1/38)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
هو الرسول الموعود في التورية يقينا وصدقناه في جميع ما جاء به من عند ربه وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يعنى المنافقين مع المصرين المجاهرين بالكفر قالُوا اى كل من الفريقين لآخر عند المشاورة وبث الشكوى أترون امر هذا الرجل كيف يعلو ويترقى وما هو الا النبي المؤيد الموعود في التورية اى شيء تعملون يا معاشر اليهود أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وأخبركم في كتابه من شيمه وأوصافه لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ ويغلبوا عليكم ويترقبوا عِنْدَ رَبِّكُمْ فالعار كل العار أم تحرفون كتابكم وتحكون منه أوصافه وبالجملة لا تسلموا غيرة وحمية أَفَلا تَعْقِلُونَ ولا تتفكرون ولا تتأملون ايها المتدينون بدين الآباء في امر هذا الرجل هكذا جرت وصدرت منهم دائما أمثال هذه الهذيانات الى ان يتفرقوا قل يا ايها الرسول في حقهم نيابة عنا على سبيل التعجب
أَوَلا يَعْلَمُونَ ولا يفقهون أولئك المجبولون على فطرة الدراية والشعور أَنَّ اللَّهَ المحيط بظواهرهم وبواطنهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما يُسِرُّونَ من الكفر والتكذيب عنادا ومكابرة وَكذا عموم ما يُعْلِنُونَ من القول غير المطابق للاعتقاد هذا حال علمائهم وأحبارهم
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ولا يفهمون من انزاله وإرساله والامتثال بما فيه من الأوامر والنواهي وجميع المعتقدات الشرعية والتكاليف الإلهية إِلَّا أَمانِيَّ كسائر الأماني الدنياوي وانما أخذوها تقليدا لرؤسائهم ورهابينهم وَإِنْ هُمْ اى ما هم في أنفسهم زمرة العقلاء من المميزين في المعتقدات الشرعية إِلَّا يَظُنُّونَ يعنى ما هم سوى انهم يظنون ظنا بليغا في تمييز علمائهم المحرفين للكتاب وبواسطة هذا الظن الفاسد لم يؤمنوا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم.
ثم لما كان المحرفون ضالين في أنفسهم مضلين لغيرهم من اتباعهم استحقوا أشد العذاب فَوَيْلٌ اى حرمان عظيم عن لذة الوصول بعد ما قرب الحصول او طرد وتبعيد عن ذروة الوجوب الى حضيض الإمكان او عود وترجيع لهم من الحرية السرمدية الى الرقية الابدية في النشأة الاخرى لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ بعد تحريفهم بآرائهم السخيفة ثُمَّ يَقُولُونَ لسفلتهم وجهلتهم ترويجا لتحريفهم وتغريرا هذا ما نزل مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وانما قالوا كذلك لِيَشْتَرُوا بِهِ اى بنسبة هذا المحرف الى الله ثَمَناً قَلِيلًا على وجه التحف والهدايا من الضعفاء الذين يظنونهم عقلاء أمناء في امور الدين كما يفعله مشايخ زماننا انصفهم الله مع من يتردد حولهم من عوام المؤمنين ثم لما كان الويل عبارة عن نهاية مراتب مقتضى القهر والجلال وغاية البعد عن مقتضيات اللطف والجمال كرره سبحانه مرارا وفصله تكرارا تحذيرا للخائفين المستوحشين عن طرده وابعاده حيث قال فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من المحرفات الباطلة وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ من الفتوحات والمعاملات الخبيثة ومن جملة هذياناتهم مع ضعفائهم انهم لما ظهر فيما بينهم واشتهر ما نزل في التورية ان الذين اتخذوا العجل آلها من دون الله يدخلون النار قد اضطربت الضعفاء منهم من هذا الكلام الى حيث خاف المحرفون من اضطرابهم ان يميلوا الى الإسلام
وَقالُوا لهم تسلية وتسكينا لا تضطربوا ولا تبالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ بسبب عبادة العجل إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قلائل أربعين مقدار مدة عبادة العجل او اقل من ذلك قُلْ لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا أَتَّخَذْتُمْ أنتم وأخذتم عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً او نزل عليكم في كتابكم بان لا تمسكم النار الا أياما معدودة فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ البتة ان ثبت وجرى منه سبحانه هذا العهد بل نحن ايضا من المؤمنين له المصدقين به أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ افتراء ما لا تَعْلَمُونَ ثبوته عنده فيجازيكم بما افتريتم البتة
بَلى اى بل الأمر الحق والشان المحقق الثابت(1/39)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
عنده سبحانه وجرى عليه السنة السنية المستمرة ان مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً اى خصلة شاغلة ملهية مبعدة عن الحق وَمع ذلك قد أَحاطَتْ اى شملت واحتوت بِهِ خَطِيئَتُهُ اى خطاياه المنتهية كل منها الى سيئة مبعدة فَأُولئِكَ البعداء عن طريق الحق المحاطون بالخطايا وانواع السيئات أَصْحابُ النَّارِ اى نار البعد والخذلان وملازموها لا نجاة لهم منها أصلا بل هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مخلدون الى ما شاء الله
وَالَّذِينَ آمَنُوا واعتقدوا بوحدانية الله وأيقنوا ان لا وجود لغيره مطلقا وَمع الايمان والإيقان بالجنان قد عَمِلُوا بالجوارح والأركان الصَّالِحاتِ من الأعمال المقربة المترتبة على هذا الاعتقاد المثمر إياها أُولئِكَ المقربون والواصلون الى ما وصلوا من القرب والكرامة أَصْحابُ الْجَنَّةِ وملازمو القرب والوصول هُمْ فِيها خالِدُونَ متمكنون راسخون ما شاء الله إذ لا مرمى وراء الله ولا مقصد سوى الله لا اله الا الله لا حول ولا قوة الا بالله
وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين وقت إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ اى العهد الوثيق منهم حين ظهر منهم نقض العهود والمواثيق المؤكدة بان قلنا لهم على سبيل التأكيد والمبالغة لا تَعْبُدُونَ يعنى لا تتقربون وتتوجهون إِلَّا اللَّهَ الذي أظهركم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم كي تعرفوه حق معرفته وَايضا لا تعاملون بِالْوالِدَيْنِ المربيين لكم باستخلاف الله إياهما الا إِحْساناً محسنين معهما خافضين لهما جناح الذل ببذل المال وخدمة الأركان وَكذا مع ذِي الْقُرْبى المنتمين إليكم بواسطتهما وَايضا لا تقهرون الْيَتامى والأطفال الذين لا متعهد لهم من الوالدين ولا من ذوى القربى بل تحسنون لهم وتشفقون إياهم وَكذا مع الْمَساكِينِ الذين لا يمكنهم اكتساب المعيشة لعدم مساعدة آلاتهم وَبالجملة قُولُوا لِلنَّاسِ اى لجميع الأجانب المستغنين عن امدادكم وانعامكم حُسْناً قولا حسنا هينا لينا منبئا عن المحبة والوداد وَلما امرناهم ونهيناهم كذلك بما يتعلق بمبدأهم ومعاشهم امرناهم ايضا بما يتعلق بمعادهم ورجوعهم إلينا حيث قلنا لهم أَقِيمُوا الصَّلاةَ يعنى داوموا على الميل والصلاة التي هي معراجكم الحقيقي الى ذروة التوحيد والعروج إليها لا يتحقق الا بترك العلائق وطرح الشواغل المانعة عنها وَكذلك آتُوا الزَّكاةَ المصفية لنفوسكم عن خبث الشح المزيلة عنها محبة الغير والسوى بل محبة نفوسكم الشاغلة عن الوصول الى شرف لقيا المولى ثُمَّ لما استثقلتم الأوامر والنواهي نقضتم العهود حيث تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عنها ونبذتموها وراء ظهوركم إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وهم الذين ذكرهم الله في قوله ان الذين أمنوا والذين هادوا الآية وَبالجملة أَنْتُمْ في انفسكم قوم مُعْرِضُونَ شأنكم الاعراض عن الحق والانصراف عن اهله
وَكيف لا تكونون معرضين اذكروا قبح صنيعكم وقت إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ حيث لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ اى لا يسفك بعضكم دم بعض عدوانا وظلما بلا رخصة شرعية وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ اى لا يخرج بعضكم بعضا من دياره تعديا وظلما ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ طوعا واعترفتم رغبة بهذا العهد وَأَنْتُمْ بأجمعكم تَشْهَدُونَ وتحضرون وكلكم متفقون عليه راضون به
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ الحمقاء الخبيثون الدنيون المفسدون المسرفون قد نقضتم العهد سيما بعد توكيدها حيث تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ اى بعضكم نفس بعض بغير حق وَتُخْرِجُونَ اى يخرج بعضكم فَرِيقاً بعضا منكم مِنْ دِيارِهِمْ المألوفة اجلاء وظلما وأنتم بأجمعكم تَظاهَرُونَ وتعينون عَلَيْهِمْ اى على المخرجين والظالمين بِالْإِثْمِ اى بالخصلة الفاحشة المستتبعة للحد(1/40)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
الشرعي وَالْعُدْوانِ اى الظلم المتجاوز عن الحد وَمن جملة عهودكم ايضا إِنْ يَأْتُوكُمْ اى ان يأت بعضكم بعضا أُسارى موثقين في يد العدو تُفادُوهُمْ وتعطوهم فديتهم وتنقذوهم من أيدي العدو تبرعا وأنتم لا تنقضون هذا العهد مع انه غير محرم عليكم ترك افدائهم وتنقضون العهد الوثيق المتعلق بالقتل والإخراج وَالحال انه هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ وقتلهم وبالجملة أَفَتُؤْمِنُونَ وتوفون بِبَعْضِ العهود الثابتة في الْكِتابِ وهو عهد الفدية وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهو عهد عدم القتل والاجلاء مع انه لا تفاوت بين العهود المنزلة من عند الله فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ الفصل والتفرقة بين عهود الله المنزلة حال كونه مِنْكُمْ ايها المسرفون المستكبرون في كتابه عتوا واستكبارا إِلَّا خِزْيٌ ذل يستكرهه جميع الناس فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ القائمة للعدل والجزاء يُرَدُّونَ أولئك الناقضون لعهود الله إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ الذي هو قعر بحر الإمكان لا نجاة لا حد منه وَمَا اللَّهُ المستوي على عروش الذرات الكائنة في العالم رطبها ويابسها شهادتها وغيبها بِغافِلٍ مشغول بشيء يشغله عَمَّا تَعْمَلُونَ أنتم بل شأنكم وحالكم وأعمالكم كلها عنده مكشوف معلوم له سبحانه يعلم الكل بعلمه الحضوري بحيث لا يشذ عن حيطة حضرة علمه المحيط الشامل شيء منها أصلا ثم لما ذكر سبحانه قبح معاشهم ومعادهم أراد أن ينبه على المؤمنين اسباب مقابحهم واعراضهم ليحذروا عن أمثالها ويحترزوا عنها
فقال مشيرا إليهم على سبيل التوبيخ أُولئِكَ البعداء عن منهج الصدق والصواب هم الَّذِينَ اشْتَرَوُا اى استبدلوا واختاروا الْحَياةَ الدُّنْيا الفانية الغير القارة بل اللاشيء المحض بِالْآخِرَةِ التي هي النعيم المقيم واللذة الدائمة المستمرة والحيوة الازلية السرمدية فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ اى عذاب الإمكان والافتقار وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ويصلون الى مناهم من الحوائج بل صاروا مفتقرين دائما محتاجين مضطرين مسودة الوجوه في النشأتين.
وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين ايضا من قبح صنائعهم ليعتبروا من أفعالهم لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى المبعوث إليهم الْكِتابَ اى التورية المشتملة على المصالح الدنيوية والاخروية فكذبوه ولم يلتفتوا الى كتابنا المنزل عليه وَبعد ما قضى وانقرض موسى قَفَّيْنا وعقبنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ المرسلة إليهم ذوى الدعوات الظاهرة والآيات الباهرة والمعجزات الساطعة القاهرة فكذبوا الكل ولم يلتفتوا بعموم ما جاءوا به وَبعد انقراض أولئك الثقات الهداة الباذلين مهجهم في طريق الحق آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ المبعوث إليهم الْبَيِّناتِ الواضحات الموضحات المبينات لأمور معاشهم ومعادهم وَمع ذلك قد أَيَّدْناهُ وخصصناه وقويناه بِرُوحِ الْقُدُسِ اى بلوازمه المنزه عن رذائل الإمكان لذلك رفعناه الى السماء وأحييناه الى انقراض الدنيا ومع ذلك قد كذبوه بل أرادوا قتله ولم يظفروا به أَفَكُلَّما اى الم تكونوا أنتم ايها الحمقاء الناقضون للعهود والمواثيق أولئك الجاهلون المفرطون المسرفون الذين متى جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ حتى يصلحكم ويرشدكم الى طريق الحق اسْتَكْبَرْتُمْ عليه واستحقرتموه فَفَرِيقاً من الرسل قد كَذَّبْتُمْ أنتم بهم وانكرتم نبوتهم كموسى وعيسى عليهما السّلام وَفَرِيقاً منهم تَقْتُلُونَ كزكريا ويحيى عليهما السّلام والقوم الذين شانهم هذا وهكذا كيف يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح
وَمن غاية عداوتهم معك يا أكمل الرسل ومع من تبعك من المؤمنين قالُوا حين دعوتك إياهم الى الايمان والتصديق بدين الإسلام(1/41)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
مستهزأ معك منكرا لدعوتك لا نفقه حديثك ولا نفهم معناه إذ قُلُوبُنا التي هي وعاء الايمان والإذعان غُلْفٌ اى مغلوفة مغشاة بالاغطية الكثيفة لا تصل إليها دعوتكم وإخباركم فنحن معذورون عن السماع والاستماع قل لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع لا غطاء ولا غشاوة إلا عنادكم وحسدكم على ظهور دين الإسلام وبغيكم عليه مع انكم قد جزمتم بحقيته عقلا ونقلا بَلْ اعرض عنهم يا أكمل الرسل وذرهم وكفرهم إذ قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ اى طردهم وبعدهم عن ساحة عز حضوره بمقتضى اسمه المنتقم بشؤم كفرهم وشركهم المركوز في جبلتهم حسب الفطرة الاصلية وهم مقهورون تحت اسمه المضل المذل وإذا كان شانهم هذا فَقَلِيلًا ما اى نزرا يسيرا منهم يُؤْمِنُونَ ويهتدون الى طريق التوحيد إبقاء لحق الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها وهم الذين ذكرهم سبحانه في قوله ان الذين آمنوا والذين هادوا الآية وبالجملة لا يرجى منهم الايمان
وَايضا من شدة عتوهم وعنادهم ونهاية حسدهم على ظهور دين الإسلام لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مشتمل على جميع الاحكام والمعتقدات الدينية وعموم الحقائق والمعارف اليقينية مع انهم جزموا في أنفسهم نزوله مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لتوافقه وتطابقه على ما في كتبهم واعجازه عموم من تحدى معه ومع ذلك مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين وَالحال انهم قد كانُوا مِنْ قَبْلُ اى قبل ظهوره ونزوله يَسْتَفْتِحُونَ بهذا الكتاب ويستنصرون بمن ينزل عليه ويفتخرون به وبدينه وكتابه عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بكتابهم ودينهم ونبيهم ويقولون سينصر ديننا بالنبي الموعود وبدينه المنزل عليه فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا في كتابهم من ظهور النبي الموعود الذي قد انتصروا به قبل مجيئه وافتخروا ببعثته على معاصريهم كَفَرُوا بِهِ عند مجيئه مكابرة وعنادا فاستحقوا بشؤم هذا الكفر والعناد مقت الله وطرده عن طريق التوحيد وتخليده إياهم في نيران الإمكان بأنواع الخيبة والخذلان نعوذ بالله من غضب الله فَلَعْنَةُ اللَّهِ الهادي للكل الى سواء السبيل نازلة دائما مستمرا عَلَى عموم الْكافِرِينَ المصرين على العناد المستكبرين على العباد
ثم لما ذكر سبحانه من ذمائم أخلاقهم ما ذكر وعد من قبائح أفعالهم وأطوارهم ما عد أراد ان يذكر كلاما جمليا على وجه العظة والنصيحة في ضمن تعييرهم وتقريعهم ليتذكر به المؤمنون ويتنبه بسببه الغافلون فقال بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ اى بئس شيأ باعوا واستبدلوا به معارف نفوسهم ومكاشفاتها ومشاهداتها أَنْ يَكْفُرُوا اى ينكروا ويكذبوا من شدة عتوهم وعنادهم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ حسب حكمته على من هو قابل للهداية والإرشاد ليهدى به من ضل عن طريق الحق مع جزمهم بحقيته بلا شبهة ظهرت عندهم بل هم ما يكفرون وينكرون به الا بَغْياً وعدوانا وحسدا وطغيانا على أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ المستجمع المستحضر لعموم القابليات والاستعدادات مِنْ فَضْلِهِ بلا سبق علل وأغراض عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ الخلص وهم الذين قد ارتفعت هوياتهم وتلاشت هياكلهم وماهياتهم وبالجملة قد فنوا في الله وصاروا ما صاروا لا اله الا هو ولا شيء سواه ثم لما حسدوا على أنبياء الله وبخلوا بمقتضى فضله وجوده فَباؤُ ورجعوا مقارنين بِغَضَبٍ عظيم من الله المنتقم عن جريمتهم متراكم عَلى غَضَبٍ عظيم حسب ما شاء الله الظهور عليهم باسمه المنتقم وَبالجملة لِلْكافِرِينَ المستحقرين على كتاب الله وعلى دينه وعلى نبيه عَذابٌ مُهِينٌ لهم في النشأة الاولى والاخرى في الدنيا بضرب الذلة والمسكنة والجزية والصغار وانواع الهوان والخسار وفي الآخرة بطردهم وحرمانهم عن ساحة عز القبول(1/42)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
المترتب على النشأة الانسانية ولا عذاب أشد من ذلك
وَمن شدة انكارهم استكبارهم إِذا قِيلَ لَهُمْ على وجه العظة والتذكير آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ اى بجميع ما قد انزل عليكم لتزكية أخلاقكم وأعمالكم قالُوا في الجواب مكابرين حاصرين نحن نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا من عنده سبحانه ونصدق به جميعا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ اى سوى كتابهم وَالحال انه هُوَ الْحَقُّ المنزل من الحق بالحق على الحق لإظهار الحق وهم ايضا يعلمون حقيته ومع ذلك مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من الكتاب الحق النازل على الحق يعنى التورية موافقا له في أكثر الاحكام وانما كفروا به للحسد والعناد الراسخ في طبائعهم وأحلامهم السخيفة ومبالغتهم في المكابرة والعناد والإصرار على تكذيب هذا الكتاب مع ان الايمان بأحد المتصادقين يوجب الايمان بالآخر وهو دليل على ان لا ايمان لهم بالتورية ايضا بل هم كافرون بها كفرهم بالفرقان لدلالة أفعالهم وأعمالهم على الكفر والإنكار وان أظهروا الايمان بها ظاهرا قُلْ
لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم فَلِمَ تَقْتُلُونَ ايها المتدينون بدين اليهود المؤمنون المصدقون بالتورية سيما أَنْبِياءَ اللَّهِ الحاملين للتورية العاملين بمقتضاها مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بها مصدقين بجميع ما فيها فثبت انكم لستم بمؤمنين بها ايضا لتخلفكم عن مقتضاها وقتلكم الرسل العاملين بها وتكذيبكم إياهم
وَان أنكروا التكذيب اذكر لهم يا أكمل الرسل لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى المؤيد من لدنا بِالْبَيِّناتِ الواضحات المبينات في التورية الموضحات لطريق التوحيد والايمان فكذبتم موسى عليه السّلام وانكرتم على جميع بيناته ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ المسترذل الها مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد ما ذهب موسى الى الطور للفوائد الاخر المتعلقة لتكميلكم وَبالجملة أَنْتُمْ قوم ظالِمُونَ مجاوزون عن حدود الله ناكبون عن طريق الحق ومنهج الرشد وَان أردت يا أكمل الرسل زيادة إلزامهم واسكاتهم.
اذكر لهم نيابة عنا وقت إِذْ أَخَذْنا منكم ايها الناقضون لعهودنا المنكرون لكتابنا مِيثاقَكُمْ الذي قد واثقتم معنا ثم تركتموه وَالجأناكم على إيفاء ما عهدتم بان رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ معلقا وقلنا لكم استعلاء وتجبرا خُذُوا جميع ما آتَيْناكُمْ على نبيكم من الأوامر والنواهي بِقُوَّةٍ اى جد واجتهاد كامل وَاسْمَعُوا جميع ما فيه من المعارف والحقائق بسمع الرضاء وعلى نية الكشف والشهود وبعد ما سمعوا منا قالُوا ظاهرا سَمِعْنا جميع ما أمرنا به ونهينا عنه وَخفية قالوا عَصَيْنا عنها مع الامتثال بها وَسبب عصيانهم انهم لخساستهم ودنائة طبعهم وركاكة رأيهم قد أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ يعنى تحببوا وتطيبوا في قلوبهم التي هي وعاء الايمان والتوحيد ومحل العرفان واليقين محبة العجل المسترذل المستقبح المستحدث من حليهم وما هي الا بِكُفْرِهِمْ اى بشؤم ما كفروا بالله وبكتبه ورسله وحصروا ظهور الحق في مظهر مخصوص ومع ذلك يدعون الايمان بموسى عليه السّلام قُلْ لهم يا أكمل الرسل تقريعا لهم على وجه التعريض بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ من انكار كتاب الله وتكذيب رسله وقتلهم بغير حق واعتقادكم الشركة مع الله إِنْ كُنْتُمْ صادقين في كونكم مُؤْمِنِينَ
ثم لما اشتهر بين الناس قولهم لن يدخل الجنة الا من كان هودا وامتنع عن قبول الإسلام كثير من القاصدين العازمين لقبوله وتغمم بسبب ذلك ضعفاء المسلمين أشار سبحانه الى دفع هذا المقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم فقال قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ التي هي منازل الشهداء ومقام العرفاء الأمناء الواصلين الى مرتبة الفناء في الفناء(1/43)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
والبقاء بالبقاء الإلهي عِنْدَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد خالِصَةً منحصرة مخصوصة مسلمة لكم مِنْ دُونِ الله شركة النَّاسِ المنسوبين الى الأديان الاخر فَتَمَنَّوُا عن صميم القلب ومحض الطوع والرغبة الْمَوْتَ الإرادي المقرب لكم إليها الموصل إياكم الى لذائذها كما يتمناه خلص المؤمنين الموقنين بوحدانية الله في اكثر أوقاتهم وحالاتهم قال المرتضى الأكبر كرم الله وجهه والله لابن ابى طالب أشوق الى الموت من الطفل بثدي امه وقال ايضا سلام الله عليه لا أبالي سقطت على الموت او سقط الموت على وقال ايضا عليه السّلام
جزى الله عنا الموت خيرا فانه ... أبر بنا من كل خير وارأف
يعجل تخليص النفوس من الأذى ... ويدنى الى الدار التي هي اشرف
وقال عمار رضى الله عنه حين استشهد الآن ألاقي الأحبة محمدا وأصحابه وأنتم ايضا تمنوا الموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعويكم
وَالله لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ وكسبت أَيْدِيهِمْ وأنفسهم من الحرص وطول الأمل والاستلذاذ باللذات الحسية والوهمية من الجاه والمال والمكانة والاعتبار بين الناس والاستكبار عليهم الا تريهم يتوجهون ويرجعون الى الله عند نزول البلاء المشعر لتعجيل الموت المقرب نحوه سبحانه ويسئلون فرجا واستكشافا وإذا انكشف عنهم ولوا على ما هم عليه مدبرين وَبالجملة اللَّهُ المحيط بسرائر عباده وضمائرهم عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ منهم الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية القائلين بأفواههم ما ليس في قلوبهم
وَالله يا أكمل الرسل لو فتشت عن أحوالهم واستكشفت عما جرى في سرائرهم وضمائرهم لَتَجِدَنَّهُمْ اى اليهود ولتصادفنهم أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ دائمة مستمرة عموما وَخصوصا مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا واعتقدوا ان لا حيوة الا في دار الدنيا بل من نهاية حرصهم وطول أملهم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ويحب لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ او يزيد عليه الفا أخر وهكذا وَالحال انه بهذه المحبة ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ اى ليس هو مبعد نفسه مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ الى غاية ما يتمناه ويحبه بل ما يزيد الا عذابا فوق العذاب حسب لوازم الإمكان وَاللَّهُ المجازى لهم على أعمالهم بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ اى بجميع أعمالهم طول اعمارهم بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها ثم لما ظهر دين الإسلام وترقى امره وارتفع قدره واشتهر نزول القرآن الناسخ لجميع الكتب والأديان اضطرب اليهود ووقعوا فيما وقعوا ومن شدة قلقهم واضطرابهم سئلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمن انزل عليه من الملائكة فقال صلّى الله عليه وسلّم أخونا جبرائيل قالوا هو عدونا القديم ليس هذا أول ظهوره علينا بالعداوة بل قد ظهر علينا من قبل مرارا وهو دائما بصدد نسخ ديننا
قال سبحانه مخاطبا لحبيبه قُلْ يا أكمل الرسل مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ اى لمن يدعى عداوة أمين وحينا جبرائيل عليه السّلام بواسطة إنزال القرآن إليك لا وجه لاتخاذكم جبرائيل عليه السّلام عدوا فَإِنَّهُ عليه السّلام انما نَزَّلَهُ اى القرآن عَلى قَلْبِكَ يا أكمل الرسل الذي هو وعاء الايمان والإسلام ومهبط الوحى والإلهام بِإِذْنِ اللَّهِ والقائه اليه ووحيه إياه بتنزيله إليك لا من عند نفسه حتى تتخذوه عدوا وان اتخذتم عدوا فاتخذوا الله الآمر المنزل الحقيقي عدوا مع انه لا وجه للعداوة أصلا لكون المنزل عليه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب المنزلة وَهُدىً يهدى الى طريق الايمان والتوحيد وَبُشْرى بالنعيم(1/44)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
الدائم الباقي لِلْمُؤْمِنِينَ المهتدين به جعلنا الله منهم وممن اقتفى باثرهم بمنه وجوده
وقل لهم ايضا يا أكمل الرسل مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ بنقض عهوده وبعدم الامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه وَمَلائِكَتِهِ بنسبتهم الى ما هم منزهون عنه وَرُسُلِهِ بالتكذيب والقتل والاهانة والاستهزاء وَلا سيما جِبْرِيلَ وَمِيكالَ كلا الأمينين المقربين عند الله بنسبة الميل والخيانة إليهما فهو كافر بالله بأمثال هذه الخرافات فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ بكفرهم وإصرارهم عليه
وَمن جملة كفرهم وعنادهم لَقَدْ أَنْزَلْنا من كمال فضلنا وجودنا إِلَيْكَ يا من وسعت مظهريته جميع اوصافنا وأخلاقنا آياتٍ دلائل وشواهد بَيِّناتٍ واضحات لطريق المعرفة والايمان فكفروا بها وكذبوها وَما يَكْفُرُ بِها مع غاية وضوحها وجلائها إِلَّا الْفاسِقُونَ الخارجون عن ربقة العبودية بعدم الايمان والانقياد بالكتاب والنبي بل بالإنزال والمنزل أصلا
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً يعنى هم لم لم يكونوا فاسقين خارجين عن مقتضيات الحدود الإلهية مع انهم هم من شدة غيهم وضلالهم كلما عاهدوا عهدا وثيقا مؤيدا مؤكدا مع الله ورسله نَبَذَهُ ونقضه فَرِيقٌ مِنْهُمْ بسبب الفسوق والخروج وعدم الوفاء والإيفاء ثم سرى نقضهم الى الكل جميعا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولا ينقادون بالعهود والمواثيق الجارية من الله على السنة رسله وكتبه
وَمن جملة عتوهم وعنادهم انهم لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المرسل للرسل لهداية الناس الى توحيده مع انه مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من الكتب المنزلة على الرسل الهادين ليرتفع التعدد والاختلاف عن اهل التوحيد مع ان مجيء هذا الرسول موعود مثبت في كتابهم الذي هم يدعون الايمان به نَبَذَ وطرح فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى اليهود كِتابَ اللَّهِ يعنى التورية وَراءَ ظُهُورِهِمْ بحيث لم يلتفتوا اليه ولم يعملوا بمقتضى ما فيه بل صاروا من شدة عداوتهم وعنادهم مع الرسول المبعوث كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ولا يقرؤن كتابهم أصلا
وَبعد نبذهم التورية وراء ظهورهم باشتمالها على اوصافك وظهورك يا أكمل الرسل أخذوا في معارضتك بالسحر واتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اى تنسبوا وتفتروا الشَّياطِينُ اى المردة من الجن عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ بان استيلائه وتسلطه وتسخيره الجن والانس والوحوش والطيور والرياح انما هو بالسحر وَالحال انه ما كَفَرَ وسحر سُلَيْمانَ قط بل شانه مقصور على الوحى والإلهامات الإلهية والواردات الغيبية وَلكِنَّ الشَّياطِينَ يسترقون من الملائكة وينسبون الأمور الى الوسائط اصالة وبسبب ذلك قد كَفَرُوا وبعد كفرهم بالله وشركهم به سبحانه يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ المستلزم لانواع الفسوق والعصيان والكفر والطغيان وَلا سيما يسترقون ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ المحبوسين بِبابِلَ المسميين هارُوتَ وَمارُوتَ مع ان المنزل إليهما انما هو من مكر الله وإيقاعه الفتنة بين عباده ابتلاء لهم واختبارا وَمع ذلك ما يُعَلِّمانِ كلا الملكين السحر مِنْ أَحَدٍ من الناس حَتَّى يَقُولا له توصية وتذكيرا إِنَّما نَحْنُ الظاهرون بالسحر الخارق للعادة فِتْنَةٌ من الله العليم الحكيم وابتلاء منه لعباده فَلا تَكْفُرْ بنسبة الأمور إلينا ولا تكن بصدد التعلم ايضا وبعد ما اوصى الملكان بما أوصيا فَيَتَعَلَّمُونَ اى الشياطين المسترقون مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ مما يورث قطع المحبة والعلاقة المستلزمتين لحفظ النسب المتفرعة على الحكمة البالغة الإلهية المقتضية للزواج والازدواج إضرارا للدين القويم وانحرافا عن الطريق المستقيم وَالحال انه ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا(1/45)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى تقديره ومشيته إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء وَبالجملة هم بادعائهم العلم والعقل لأنفسهم يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ ضررا فاحشا في النشأة الاولى والاخرى وَلا يَنْفَعُهُمْ نفعا حسب النشأتين أصلا وَالله لَقَدْ عَلِمُوا اى اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ واستبدله اى كتاب الله بالسحر والشعبذة ما لَهُ اى للمستبدل فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ حظ ونصيب ولو علموا علم يقين لامتنعوا من الاستبدال البتة لكنهم لم يعلموا فاستبدلوا فثبت انهم ليسوا من العقلاء العالمين وبعد ما عيرهم سبحانه بما عيرهم وجهلهم على ابلغ وجه وآكده كرر تعييرهم تشديدا ومبالغة ليكون تذكيرا للمتذكرين بها فقال ايضا مقسما وَالله لَبِئْسَ ما شَرَوْا وباعوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ اى حقائقها ومعارفها ولذاتها الروحانية بالسحر المتفرع على الكفر بالله وكتبه ورسله وملائكته لان المشهور من اصحاب السحر ان سحرهم لا يؤثر الا بالكفر وغاية الخباثة والكثافة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويفهمون قباحته لما ارتكبوا لكنهم لم يعلموا فارتكبوا فثبت جهلهم وغباوتهم ومع ذلك هم يدعون الايمان بالله والرسل والكتب
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالله على وجه الإخلاص وكتبه ورسله بلا مراء ومجادلة وَاتَّقَوْا نفوسهم عن محارم الله لَمَثُوبَةٌ اى لكانت فائدة قليلة عائدة إليهم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عندهم خَيْرٌ من الدنيا وما فيها من المزخرفات الفانية كما هو عند المؤمنين الموقنين بوحدانيته لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ خيريتها لم يكفروا بالله لكنهم قد كفروا فثبت انهم هم جاهلون جاهدون في مقتضى أحلامهم السخيفة ثم لما سمع اليهود من المؤمنين قولهم راعنا عند رجوعهم اليه صلّى الله عليه وسلّم في الخطوب والوقائع قالوا هؤلاء ليسوا مؤمنين منقادين له مطيعين لأمره لدلالة قولهم له راعنا عند محاورتهم معه راعنا على انك محتاج إلينا ممنون منا فلك ان تراعينا حق الرعاية
ولما كان فيه من إيهام سوء الأدب وان كان غرضهم الترقب والالتفات أشار سبحانه الى نهى المؤمنين عن هذا القول الموهم تأديبا للمؤمنين وتعظيما لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا مع نبيكم عند الخطاب له راعِنا وان كان مقصودكم صحيحا ظاهرا لكن العبارة توهم خلاف المقصود بل الاولى والأليق بحالكم ان لا تخاطبوا رسولكم إكراما له وتعظيما وَان اضطررتم الى خطابه صلّى الله عليه وسلّم قُولُوا بدل قولكم راعنا انْظُرْنا بنظر الرحمة والشفقة وَاسْمَعُوا هذا التذكير والوصاية منا بسمع الرضاء والقبول وواظبوا على مقتضاه لئلا تنسبوا الى الإساءة معه صلّى الله عليه وسلّم وَاعلموا ان لِلْكافِرِينَ المغتنمين الفرصة في أمثال هذه الكلمات المذكورة المنهية عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم لهم أشد الإيلام في الدنيا والآخرة ثم لما عجزوا عن معارضتكم صريحا أخذوا في التلبيس والتحميق وادعاء المحبة واظهار المودة على سبيل النفاق ليحفظوا به دماءهم وأموالهم عنكم فعليكم ان لا تغتروا بودادتهم ولا تسمعوا منهم أقوالهم الكاذبة
إذ ما يَوَدُّ ويحب الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ لإصلاح حالكم وزيادة انعامكم وافضالكم مِنْ خَيْرٍ وحى نازل مِنْ رَبِّكُمْ الذي اجتباكم واصطفاكم على جميع الأمم بغضا لكم وحسدا مركوزا في طباعهم بالنسبة إليكم وبخلا على ما اعطى الله إياكم من الخير وَلم يمكنهم منع إعطائه تعالى إذ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ الواسعة ونعمته العامة الشاملة التي هي عبارة عن المعرفة والتوحيد مَنْ يَشاءُ من خلص عباده بلا علة وغرض ومرجح ومخصص مع كمال اختيار وارادة بلا إيجاب وتوليد كما زعمت الحكماء والمعتزلة الفاقدين للبصيرة سيما في الإلهيات ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور وَ(1/46)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
لا تشكوا في سعة رحمة الله وفضله بحرمان البعض وطرده إذ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يفضل على من يفضل حسب مشيته وحكمته ومصلحته المختفية عن عقول عباده الا من اطلعه الله على سرائر أفعاله من الكمل جعلنا الله من محبيهم ومتبعيهم ثم اعلم ان الحوادث الكائنة في الآفاق كلية كانت او جزئية غيبا او شهادة وهما او خيالا انما هي بمقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية الكلية المشتملة كل منها على أوصاف جزئية غير متناهية بلا تكرر وتوارد فما من حادثة حدثت في عالم الكون والفساد إلا وهي ناشئة من وصف خاص الهى واسم خاص يخصه ويربيه بحيث لا يوجد في غيره لذلك قيل لا يتجلى الله في صورة مرتين لئلا يلزم التكرار المنافى للقدرة الكاملة ولا في صورة واحدة لاثنين لئلا يلزم العجز عن إتيان الصورة الاخرى
والى هذا أشار سبحانه بقوله ما نَنْسَخْ نغير ونبذل مِنْ آيَةٍ نازلة حاكمة في وقت وزمان يقتضيه نزولها من اسم مخصوص الهى أَوْ نُنْسِها نمحها ونحكها من القلوب كأنها لم تنزل قط نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها اى متى ننسخها او ننسها نأت بخير منها حسب اقتضاء الزمان الثاني والاسم الخاص له إذ سريان الوجود دائما على الترقي في الكمال حسب الحكمة المتقنة البالغة أَوْ مِثْلِها إذ التجدد انما يكون بالأمثال والإعادة على طبق الابتداء ثم استفهم سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له وتذكيرا للمؤمنين فقال أَلَمْ تَعْلَمْ أنت يا أكمل الرسل يقينا أَنَّ اللَّهَ المتجلى بالتجليات الغير المتناهية عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإبداء والإعادة والإنزال والتغيير قَدِيرٌ لا تنتهي قدرته عند المراد بل له التصرف فيه ما شاء بالإرادة والاختيار
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما كم شاء وكيف يشاء بلا فتور ولا فطور هذا في الآفاق وارجعوا الى انفسكم وَاعلموا انه ما لَكُمْ في ذواتكم وهوياتكم مِنْ دُونِ اللَّهِ المحيط بكم وبجميع اوصافكم مِنْ وَلِيٍّ يولى أموركم وَلا نَصِيرٍ يعين عليكم من دونه بل هو بذاته محيط بهوياتكم وماهياتكم كما اخبر به سبحانه في قوله كنت سمعه وبصره ويده ورجله الحديث أتسلمون وتفوضون أموركم الى الله ورسوله ايها المؤمنون وتقبلون دين الإسلام تعبدا وانقيادا
أَمْ تُرِيدُونَ وتقصدون أَنْ تَسْئَلُوا وتقترحوا عن سرائر الآيات النازلة عليكم لإصلاح حالكم رَسُولَكُمْ عنادا ومكابرة كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ من الآيات النازلة لإصلاح بنى إسرائيل فما نزل عليهم من آية الا وقد سئلوا سرها من موسى عليه السّلام على وجه الإلحاح والاقتراح فجازاهم الله بمقتضى اقتراحهم وان اقترحتم ايضا كما اقترحوا يجازيكم الله ايضا كما جازاهم وَاعلموا ان مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ الموهوم المذموم بِالْإِيمانِ المحقق المجزوم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ اى عن الصراط السوى الموصل الى التوحيد الذاتي كما ضل بنوا إسرائيل عن طريق الحق بمخالفة كتاب الله وتكذيب رسله
ثم اعلموا ايها المؤمنون انه قد وَدَّ وأحب كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ سيما اليهود والنصارى لَوْ يَرُدُّونَكُمْ بأنواع الحيل والنفاق مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ بالله وكتبه ورسله كُفَّاراً مرتدين واجب القتل والمقت عند الله وليس ودادتهم كفركم لغاية تشددهم وتصلبهم في دينهم ونهاية غيرتهم عليه بل حَسَداً عليكم ناشئا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ من غاية عداوتهم معكم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ وظهر عندهم ان دينكم الْحَقُّ المطابق للواقع بشهادة كتابهم ونبيهم وإذا فهمتم أمرهم وعرفتم عداوتهم فَاعْفُوا عن الانتقام والعقوبة وَاصْفَحُوا اى اعرضوا وانصرفوا عن التعيير والتقريع واصبروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ويحكم بحكمه المبرم من ضرب(1/47)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
الذلة والمسكنة والغضب عليهم دائما إِنَّ اللَّهَ المتجلى باسمه المنتقم عَلى كُلِّ شَيْءٍ من انواع الانتقامات قَدِيرٌ على الوجه الأشد الأبلغ
وَبعد ما فوضتم أموركم الى الله واتخذتموه وكيلا حسيبا لكم حفيظا عن شرور أعدائكم أَقِيمُوا الصَّلاةَ اى رابطوا ظواهركم وبواطنكم اليه سبحانه دائما على وجه التذلل والخضوع وغاية الانكسار والخشوع وَآتُوا الزَّكاةَ اى طهروا قلوبكم عن الميل الى ما سوى الحق وَاعلموا ان ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ في هذه النشأة مِنْ خَيْرٍ توجه دائم نحو الحق وأعراض مستمر عن محبة غيره تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ حين انكشافكم بتوحيده وتجريده وتفريده وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المحيط بذواتكم بِما تَعْمَلُونَ من خير بَصِيرٌ عليم خبير
وَمن جملة حيلهم وخداعهم إياكم وودادتهم كفركم انهم قالُوا على وجه العظة والتذكير لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ من اهل الملل والأديان إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ المهملات وأمثالها ما هي الا أَمانِيُّهُمْ التي يخمرونها في نفوسهم بلا مستند عقلي او نقلي وان ادعوا دليلا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما لهم وتبكيتا هاتُوا ايها المدعون المبهوتون بُرْهانَكُمْ من آيات الله وسنن رسله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الاختصاص قل لهم يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا كلاما ناشئا عن محض الحكمة والإخلاص لا وجه لدعوى الاختصاص بالنسبة الى الجنة الموعودة لا منكم ولا منا
بَلى اى بل مبنى الأمر والشان في استحقاق الجنة على ان مَنْ أَسْلَمَ وجه وسلّم وَجْهَهُ المنسوب اليه مجازا لِلَّهِ المنسوب اليه حقيقة وَالحال انه هُوَ في نفسه مُحْسِنٌ عارف مشاهد مكاشف بالله فَلَهُ أَجْرُهُ مرجعه ومقصده من الجنة الموعودة عِنْدَ رَبِّهِ اى مرتبته المخصوصة له المربية إياه عند الله وَبالجملة لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفنائهم عن قابلية الخوف والحزن ومقتضيات الطبيعة مطلقا وبقائهم بتربية مربيهم
وَمن عدم تفطنهم للايمان والإذعان وغفلتهم عن طريق التوحيد والعرفان قالَتِ الْيَهُودُ الدين ديننا والكتاب كتابنا والنبي نبينا لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ في امر الدين وشانه بل هم ضالون عن طريق الحق لا يهتدون اليه أصلا الا ان يؤمنوا ويقتدوا بديننا وَايضا قالَتِ النَّصارى ديننا حق وشرعنا مؤبد ونبينا مخلد لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ في الدين والايمان بل الدين الحق ديننا وَالحال انه هُمْ اى كلا الفريقين يَتْلُونَ الْكِتابَ المنزل على نبيهم ويدعون الايمان والإذعان ومع ذلك لم يخلصوا عن الجهل والعناد ولم يتنبهوا على التوحيد المزيح لمطلق الخلاف والاختلاف المشعر على كمال العرفان والائتلاف بل لا فرق بينهم وبين سائر المشركين النافين للصانع إذ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الكتاب والنبي والدين والايمان مِثْلَ قَوْلِهِمْ بان الحق ما نحن عليه بلا كتاب ولا نبي لان الإنسان مجبول على ترجيح ما هو عليه سواء كان حقا او باطلا صلاحا او فسادا والأنبياء انما يرسلون ويبعثون ليميزوا لهم الحق عن الباطل والصالح عن الفاسد وهم مع بعثة الرسل إليهم صاروا سواء مع المشركين الذين لا كتاب لهم ولا نبي فَاللَّهُ المحيط بسرائرهم وضمائرهم يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ على مقتضى علمه بأعمالهم وأحوالهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد لجزاء الأعمال فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ على مقتضى آرائهم واهوائهم فيجازيهم بمقتضى ما يعلمون ويعملون به
وَمَنْ أَظْلَمُ على الله المظهر للعباد ليعرفوه ويتوجهوا نحوه في الأمكنة والبقاع المعدة للتوجه مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ المعدة الموضوعة أَنْ يُذْكَرَ اى لان يذكر فِيهَا اسْمُهُ اى يذكر المؤمنون فيها أسماءه الحسنى(1/48)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
وَلا يقتصر على المنع بل سَعى واجتهد فِي خَرابِها وتخريبها ليستأصلها ويخرجها عما تعد له مطلقا أُولئِكَ البعداء المشركون ما كانَ وما صح وجاز لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها اى المساجد لنجاستهم وخباثة طينتهم وان دخلوها أحيانا لحاجة فلا بد لهم ان لا يدخلوها إِلَّا خائِفِينَ خاضعين متذللين مستوحشين بحيث لم يتوجهوا يمنة ويسرة استحياء من الله بل منكسين رؤسهم على الأرض الى ان يخرجوا قل يا أكمل الرسل نيابة عنا لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ قتل واجلاء وسبى وذلة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ حرمان عن الكمال الإنساني بكفرهم وظلمهم
وَقل للمؤمنين يا أكمل الرسل تسلية لهم وتفريحا لا تغتموا عن منعهم عنها وسعيهم في تخريبها ولا تحصروا توجهكم الى الله في الأمكنة المخصوصة بل لِلَّهِ المتجلى في الآفاق الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ هما كنايتان عن طرفي العالم فَأَيْنَما تُوَلُّوا وتوجهوا نحوه فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ اى ذاته إذ هو سبحانه بذاته منتهى عموم الأماكن والجهات مع انه خال عن جميعها محيط بكلها منزه عنها مطلقا إِنَّ اللَّهَ المتعالي عن مطلق التحديد والتقدير واسِعٌ أجل من ان يحيط به القلوب الا من وسعه الله بسعة رحمته كما اخبر سبحانه بقوله لا يسعني ارضى ولا سمائي بل يسعني قلب عبدى المؤمن عَلِيمٌ لا يغيب عن علمه شيء وحيث اتجهتم نحوه وتوجهتم اليه قد علمه سبحانه قبل توجهكم بل توجهكم انما هو منه فلا يتوجه اليه الا هو لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه
ومن غاية جهلهم بالله الواسع العليم الذي لا يسعه الأرض والسماء ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء انهم حصروه سبحانه في شخص وخيلوه جسما واثبتوا له لوازم الأجسام وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً كعيسى وعزير عليهما السّلام سُبْحانَهُ وتعالى الصمد الفرد الذي شانه انه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد عن ان يتخذ صاحبة وولدا بَلْ لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَكذا مظاهر ما في الْأَرْضِ يظهر عليها ويتجلى لها إظهارا لكمالاته المرتبة على صفاته المندرجة في ذاته ونسبته تعالى الى جميع المظاهر في التكوين والخلق على السواء من غير تفاوت وعيسى وعزير عليهما السّلام ايضا من جملة المظاهر ولا شك ان مرجع جميع المظاهر والمجالى الى الظاهر والمتجلى إذ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ خاضعون منقادون معترفون على ما هم عليه قبل ظهورهم من العدم
مقرون بانه بَدِيعُ اى مبدع السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من العدم بلا سبق مادة ومدة وَمن بدائع ابداعه انه إِذا قَضى وأراد أن يوجد ويظهر أَمْراً من الأمور التي في خزائن علمه ولوح قضائه وكتابه المبين فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ إمضاء لحكمه وانفاذا لمقتضى ارادته كُنْ فَيَكُونُ بلا تراخ ولا مهلة بحيث لا يسع حرف التعقيب ايضا الا لضرورة التعبير والتقريب فالالفاظ بمعزل عن أداء سرعة نفوذ قضائه
وَلما ظهر واشتهر ان القرآن ناسخ لجميع الكتب السالفة مع كونه مصدقا لها ناطقا بان الكل منزلة من عند الله على الرسل الماضين الهادين الى طريق الحق وان حكم الناسخ ماض نافذ وحكم المنسوخ قد مضى ولم يبق اثره مع ان كلا منهما كلام الله المؤدى لحكمه حسب الزمانين قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ولا يعرفون ظهور الله وتجلياته سبحانه بحسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا في كل آن وشأن لا كشان لا نقبل هذا الحكم ولا نؤمن به لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ مشافهة بان هذا ناسخ راجح وذاك منسوخ مرجوح أَوْ تَأْتِينا على يدي من يدعى الرسالة آيَةٌ ملجئة تدل على هذا الحكم بلا احتمال آخر وبعد ما لم يكن لا هذا ولا ذاك لا نقبله ولا نؤمن به ولا تستبعد منهم يا أكمل الرسل أمثال هذا القول الباطل إذ كَذلِكَ اى مثل ذلك الذي سمعت منهم(1/49)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
قالَ الَّذِينَ كفروا للأنبياء الماضين مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ هذا وهكذا بلا تفاوت واختلاف بل قد تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ المنكرة المخمرة بهذه الأباطيل الزائغة المموهة سابقا ولاحقا مع انا قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ المنزلة الدالة على توحيدنا لِقَوْمٍ ذوى قلوب صافية عن كدر الإنكار يُوقِنُونَ بها سرائر الآيات الظاهرة على الآفاق والأنفس وهم لأنهما هم في كدر الإمكان والإنكار لا يرجى منهم الايمان والإقرار
إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل ملتبسا بِالْحَقِّ بَشِيراً نحو طريق الحق وَنَذِيراً عن طرق الباطل وَان لم يبشروا ولم ينذروا بعد ما بلغت إليهم التبشير والإنذار لا تُسْئَلُ أنت عَنْ أعراض أَصْحابِ الْجَحِيمِ المجبولين على الكفر والعناد في اصل قطرتهم بل نحن نسئل عنهم وعن اسباب اعراضهم وانصرافهم في يوم الجزاء فنجازيهم على مقتضى أعمالهم
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى ابدا بمجرد المؤانسة واظهار المحبة وإرخاء العنان إياهم حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ التي ادعوا حقيتها بل قد حصروا الحقية والهداية عليها قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما على وجه التذكير وإمحاض النصح إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي يهدى به عباده هُوَ الْهُدى النازل من عنده الا وهو دين الإسلام فاتبعوه ليهتدوا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ يا أكمل الرسل أنت ومن تبعك بعد ما ايستم أنتم عن اتباعهم بكم أَهْواءَهُمْ الباطلة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ من لدنا على هدايتك وإهداء من تبعك ما لَكَ وقت تعلق مشية الله بمقتك وهلاكك مِنَ غضب اللَّهِ الهادي للكل الى سواء السبيل مِنْ وَلِيٍّ يحفظك من الضلال وَلا نَصِيرٍ يدفع عنك النكال
ثم قال سبحانه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ واصطفيناهم من بين الأمم بإرسال الرسل وهم يَتْلُونَهُ اى الكتاب متأملين متدبرين لما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي والمعارف والحقائق مراعين حَقَّ تِلاوَتِهِ بلا تحريف ولا تبديل أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وبما فيه من الاحكام والآيات والاخبار وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ بتحريفه وتبديله الى ما تهوى أنفسهم فَأُولئِكَ المحرفون المغيرون كتاب الله لمصلحة نفوسهم هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران المؤبد والحرمان المخلد وهم الذين قد خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة بسبب تحريف كتاب الله وتبديله ثم لما خاطب سبحانه بنى إسرائيل أولا بايفاء العهد الذي هو شعار اهل الايمان وما يتعلق بايفاء العهد من الرجوع اليه سبحانه والايمان بكتبه ورسله وعدم المبادرة الى الكفر وعدم استبدال آيات الله الدالة على ذاته علما وعينا وحقا بالمزخرفات الفانية التي لا مدار لها أصلا وعدم لبس الحق الظاهر المكشوف المحقق بالباطل الموهوم المعدوم وباقام الصلاة وإيتاء الزكاة المنبئين عن التوجه الفطري والرجوع الحقيقي الأصلي بالركوع والسجود والخشوع على وجه التذلل والانكسار الى ان يصل العبد بإتيانه الى مقام الفناء في ذاته سبحانه بل الى فناء الفناء لينعكس البقاء الحقيقي ثم عير سبحانه تعييرا فوق تعيير على الناسين نفوسهم في الغفلة من غير توجه ورجوع ثم امر سبحانه خلص عباده باستعانة الصبر المورث للتمكين والصلاة المشعرة بالتوجه التام المسقط لجميع المعاصي والآثام لتصفية ذواتهم ثم خاطبهم سبحانه ثانيا وأوصاهم بشكر نعم تفضيلهم وتكريمهم على بنى نوعهم بأنواع الكرامات الدينية والدنياوية ثم حذرهم وخوفهم عن يوم الجزاء على وجه المبالغة والتأكيد لتصفية اوصافهم المتعلقة لأمور معاشهم في النشأة الاولى
ثم لما ذكر سبحانه كفرانهم وطغيانهم وعدم انقيادهم بالكتب والرسل وتكذيبهم الأنبياء وقتلهم إياهم من خباثة(1/50)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
طينتهم ودنائة طبعهم وقساوة قلبهم وشدة عداوتهم مع المؤمنين وسوء صنيعهم مع الأنبياء الماضين كرر خطابه سبحانه إليهم ثالثا بما سبق ثانيا مبالغة وتأكيدا تلطيفا وامهالا كي يتنبهوا ومع ذلك لم يتنبهوا لخبث طينتهم فقال يا بَنِي إِسْرائِيلَ المعرضين عنى بأنواع الاعراضات والمعترضين على آياتي بأصناف الاعتراضات قد مضى ما مضى اذْكُرُوا واشكروا عموم نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بمقتضى فضلي وإحساني إليكم وَلا سيما نعمة الجاه والتفضيل على جميع البرايا أَنِّي بحولي وطولى قد فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ من بنى نوعكم وامتثلوا لامرى ولا تتجاوزوا عن حكمى واحذروا عن قهري وانتقامي
وَاتَّقُوا يَوْماً صفته انه لا تَجْزِي ولا تحمل نَفْسٌ مطيعة عَنْ نَفْسٍ عاصية شَيْئاً قليلا من أوزارها وَمع ذلك لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ فدية حتى تخلص بها عن بطش الله وَايضا لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ من شفيع حميم حتى يخفف عذابها لأجلها وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من غيرهم في تحمل العذاب بل ما يحمل رزاياهم الا مطاياهم ومع هذه المبالغة والتأكيد قليلا منهم يؤمنون بخلاف الملة الحنيفية البيضاء الخليلية فإنهم بأجمعهم يرجى منهم الايمان بوحدانية الله ان أقاموا الصلاة اليه مخلصين الا المصلين الذينهم في صلاتهم ساهون بما يلهيهم من محبة المال والجاه عصمنا الله من ذلك
ثم لما ذكر سبحانه قصة بنى إسرائيل وانعامه عليهم بأنواع النعم وكفرانهم لنعمه من خبث طينتهم أراد أن يذكر طيب طينة الملة الخليلية وصفاء عقائدهم وتحملهم على الاختبارات والابتلاءات الإلهية فقال وَإِذِ ابْتَلى اى واذكر يا أكمل الرسل وقت ابتلاء أبيك إِبْراهِيمَ رَبُّهُ الذي قد ابتلاه واختبر خلته بأنواع البلاء من عذاب النار والمنجنيق وذبح الولد والاجلاء من الوطن وغير ذلك من البليات النازلة عليه بِكَلِماتٍ صادرة من ربه حين أراد اختباره فَأَتَمَّهُنَّ على الوجه المأمور بلا فتور ولا قصور تتميما لرتبة الخلة والخلافة ثم لما اختبر سبحانه خلة خليله بأنواع المحن والبلاء اظهر مقتضيات خلته إياه بأنواع العطاء حيث قالَ سبحانه إِنِّي من غاية محبتي وخلتي معك ايها الخليل الجليل جاعِلُكَ لِلنَّاسِ الناسين التوجه والرجوع الى إِماماً مقتدى لهم هاديا يهديهم الى طريق التوحيد ولما رأى ابراهيم عليه السّلام انبساط ربه معه وإحسانه اليه واظهار الخلة له قالَ وَاجعل يا رب مِنْ ذُرِّيَّتِي ايضا ائمة الى يوم الدين قالَ سبحانه تلطفا له وامتنانا عليه ومن ذريتك ايضا الصالحين منهم لا الفاسقين إذ لا يَنالُ عَهْدِي الذي هو خلعة نيابتي وخلافتي الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى حدودي وعهودى
وَبعد ما جعلناه اماما للناس هاديا لهم الى طريق الحق هيأنا له طريق الهداية والإرشاد إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ اى الكعبة المعدة للتوجه إلينا بترك المألوفات وقطع التعلقات من الأهل والمال والوطن والاجتناب عن التصرفات المانعة عن التوجه الحقيقي من الرفث والفسوق والجدال والقتل وغير ذلك من الأمور المتعلقة للحياة المستعارة مَثابَةً موضع ثواب لِلنَّاسِ ليتقربوا إلينا ويتوجهوا نحونا فيها وَأَمْناً من جميع المخاوف الدينية إذا كان الطواف والزيارة على نية الإخلاص وَبعد ما جعلنا البيت مثابة للناس قلنا للزائرين لها والطائفين حولها اتَّخِذُوا ايها الزوار مِنْ مَقامِ خليلنا إِبْراهِيمَ مُصَلًّى موضع ميل وتوجه اقتداء له صلوات الرّحمن عليه وَبعد ما أمرنا الزوار بما أمرنا قد عَهِدْنا ووصينا إِلى خليلنا إِبْراهِيمَ وَذبيحنا إِسْماعِيلَ ابنه عليهما السّلام أَنْ طَهِّرا بالمظاهرة والمعاونة بَيْتِيَ المعد للطهارة الحقيقية عن جميع الشواغل لِلطَّائِفِينَ الذين قصدوا الميل الى جنابنا ببذل المهج(1/51)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
وَالْعاكِفِينَ المقيمين ببابنا رجاء ان تنكشف لهم اسرار التكاليف التي كلفوا بها وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ اى الراكعين الساجدين إلينا على وجه التذلل والانكسار حتى يتحققوا بمقام العبودية
وَبعد ما امرناهما بطهارة البيت واقدرناهما على امتثال المأمور اذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ منيبا إلينا داعيا راجيا في دعائه النفع العام رَبِّ اجْعَلْ بيتك هذا بَلَداً آمِناً ذا أمن وأمان للمتوجهين إليها والعاكفين ببابها عن العلائق المانعة عن التوجه المعنوي وَبعد ما توجهوا نحو بيتك ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ المترتبة على سرائر تعيينه وتخصيصه ووجوب طوافه على المستطيعين المنهمكين في الشواغل المانعة عن التوجه الى الكعبة الحقيقية الممثلة عنها هذا البلد ولما دعا ابراهيم بهذا الدعاء المجمل المطلق لهم فصل سبحانه اجابة دعائه بقوله مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ اى المتوجهين الزائرين بِاللَّهِ الواحد الأحد تعبدا وانقيادا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المحقق الوقوع إذعانا وتصديقا فلهم ما دعوت لهم من انواع الإفضال والانعام جزاء لهم واجابة لدعائك إياهم ثم قالَ سبحانه وَمَنْ كَفَرَ منهم وجحد بعد ما وضح لهم طريق الحق فَأُمَتِّعُهُ متاعا قَلِيلًا من مفاخرة الأقران والاستكبار على الاخوان وتفرج البلدان ثُمَّ أَضْطَرُّهُ بعد الجحود والإنكار إِلى عَذابِ النَّارِ بل أشد منه الا وهو حرمانه عن الفوائد المترتبة على الطواف والزيارة المنبئة عن الوصول الى مرتبة العبودية المخلصة عن جهنم الإمكان الذي هو مصير اهل الكفر والطغيان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم إذ لا نجاة لاحد منه عصمنا الله وعموم عباده منه بمنه وجوده
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يَرْفَعُ ويحمل جدك إِبْراهِيمُ الاواه المنيب الْقَواعِدَ اى التكاليف الشاقة الناشئة مِنَ إنشاء الْبَيْتِ المعد للاهتداء الى كعبة الوصول من التجريد عن لوازم الحيوة ومقتضيات الأوصاف المترتبة عليها وترك المألوفات وقطع التعلقات العائقة عن الموت الإرادي الموصل الى مقر الوحدة المفنية للكثرة الموهومة المستتبعة للبعد والفراق عن فضاء التوحيد وَأبوك ايضا إِسْماعِيلُ الراضي بقضاء الله المرضى بعموم ما جرى عليه من البلاء واذكر ايضا دعائهما ومناجاتهما مع ربهما بعد ما احتملا المتاعب والمشاق بقولهما رَبَّنا يا من ربانا بأنواع المنح والعطايا التي ليست في وسعنا وقدرتنا تَقَبَّلْ مِنَّا ما اقدرتنا عليه إِنَّكَ أَنْتَ القادر المقتدر بجميع حاجاتنا السَّمِيعُ المجيب لعموم مناجاتنا قبل لقائنا إليك يا مولانا الْعَلِيمُ بنياتنا واخلاصنا فيها
رَبَّنا وَاجْعَلْنا بفضلك مُسْلِمَيْنِ لَكَ مفوضين جميع أمورنا إليك مخلصين فيها ربنا وَاجعل ايضا مِنْ ذُرِّيَّتِنا المنتسبين إلينا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ مطيعة لأمرك وَأَرِنا واكشف لنا ولهم مَناسِكَنا اى سرائر أعمالنا التي نعملها على مقتضى أمرك وتكليفك وَان أخطأنا وانصرفنا عما امرتنا به تُبْ عَلَيْنا واعف عما جرى علينا من لوازم بشريتنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرجاع للعباد العاصين الخاطئين عن خطاياهم الرَّحِيمُ بقبول توبتهم وان نقضوها مرارا وتابوا عنها تكرارا ثم لما كان الغالب عليهما عليهما السّلام توحيد الصفات والأفعال دعوا ربهما متضرعين ان يبعث من ذريتهما من يغلب عليه توحيد الذات
فقالا رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ اى في الامة المسلمة المسلمة رَسُولًا مِنْهُمْ هاديا إلى توحيد الذات يَتْلُوا عَلَيْهِمْ أولا آياتِكَ الدالة على وحدة ذاتك ظاهرا وَثانيا يُعَلِّمُهُمُ ويفهمهم الْكِتابَ المبين لسرائر الآيات وَثالثا يكشف ويوضح لهم الْحِكْمَةَ التي هي عبارة عن سلوك طريق التوحيد الذاتي وَ(1/52)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
رابعا يُزَكِّيهِمْ ويطهرهم عن رؤية الغير في الوجود مطلقا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر للاغيار الْحَكِيمُ في إيجادها وإظهارها على وفق مشيتك وارادتك
وَبعد ما قد جعلنا الخليل الجليل اماما مقتدى للأنام هاديا لهم الى دار السّلام مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ اى من يعرض ويميل عن ملته الحنيفية الطاهرة عن الميل الى الآراء الباطلة المستتبعة لانواع الجرائم والآثام البيضاء المنورة لقلوب اهل التفويض والتسليم المبتنية على محض الوحى والإلهام إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ اى لا ينصرف عن ملته الغراء الا من ترك نفسه في ظلمة الإمكان من غير رجوع الى فضاء الوجوب ليتبع طريقه الموصل اليه وَالله لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ وانتخبناه من بين الأنام فِي الدُّنْيا للرسالة والنبوة ليرشد عموم العباد الى طريق التوحيد وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ للتحقق والوصول الى ينبوع بحر الوجود التي هي الوحدة الذاتية لا على وجه الاتحاد والحلول بل بطريق التوحيد الذاتي المسقط لعموم الاعتبارات والإضافات واذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ اختبارا له أَسْلِمْ اى توجه الى حسب علمك وكشفك منى قالَ على مقتضى علمه بربه أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ لأنه قد انكشف له ربه من ذرات الكائنات لذلك لم يخصصه ولم يقيده بمظهر دون مظهر
وَوَصَّى بِها اى بالتوحيد الذاتي إِبْراهِيمُ بَنِيهِ إرشادا لهم الى طريق الحق ووصى بها ايضا بنوه بنيه وَايضا قد وصى بها يَعْقُوبُ بنيه بما وصى به أبوه وجده وقال اى كل منهم لأبنائهم يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ اى دين الإسلام المشتمل على توحيد الذات والصفات والأفعال فَلا تَمُوتُنَّ اى فلا تكونن في حال من الأحوال عند الموت إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ موحدون بالتوحيد الذاتي ثم لما اعتقد اليهود ان يعقوب وبنيه كانوا هودا والنصارى قد اعتقدوهم نصارى أراد سبحانه ان يظهر فساد عقائدهم فقال اتسمعون ايها اليهود والنصارى يهودية يعقوب وبنيه ونصرانيتهم ممن انزل عليكم من الرسل والكتب
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حضراء وقت إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ لا هذا ولا ذاك بل كنتم مفترين عليهم جاهلين بحالهم اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ يعقوب حين اشرف على الموت لِبَنِيهِ إرشادا لهم ماذا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي يا بنى قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً أحدا صمدا فردا وترا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وَنَحْنُ لَهُ لا لغيره من الآلهة الباطلة مُسْلِمُونَ منقادون متوجهون قل يا أكمل الرسل للناس الذين بعثت فيهم قولا مطلقا ناشئا عن محض النصح والإرشاد خاليا عن المكابرة والعناد قالعا عرق عموم التقليدات والتخمينات الراسخة في قلوب العباد
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ومضت لَها ما كَسَبَتْ من العزائم الدينية وعليها ما اكتسبت من الجرائم المتعلقة به بحسب تلك الحال والزمان وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ من فوائد الايمان والإسلام وعليكم ما اكتسبتم من غوائل الكفر والطغيان حسب زمانكم هذا إذ كل منكم ومنهم لم يجز الا بما عمل وكسب وَلا تُسْئَلُونَ ولا تؤاخذون أنتم عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من السيئات كما لا تثابون من حسناتهم بل كل امرئ بما كسب رهين
وَان قالُوا اى كل من الفريقين لكم كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى كي تَهْتَدُوا الى طريق الحق قُلْ لهم نحن لا نتبع آراءكم الفاسدة وأهواءكم الباطلة بَلْ نتبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً مائلا عن الآراء الباطلة مبرأ منها وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله باعتقاد الوجود(1/53)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
لغير الله في حال من الأحوال
بل قُولُوا لهم في مقابلة قولهم ايها المؤمنون المتبعون لملة ابراهيم إرشادا لهم واسماعا إياهم طريق الحق قد آمَنَّا بِاللَّهِ الواحد الأحد المتجلى في الآفاق بالاستحقاق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وَآمنا ايضا ما أُنْزِلَ إِلَيْنا بوسيلة رسولنا من الكتاب المبين لمصالحنا المتعلقة بمبدئنا ومعادنا في زماننا وَآمنا ايضا بجميع ما أُنْزِلَ إِلى متبوعينا الماضين إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ المورثين لملتنا وديننا وَكذلك قد آمنا بعموم ما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى من الكتب والآيات الدالة على توحيد الذات والصفات والأفعال وصدقنا جميع ما جاء به هؤلاء الرسل من عند الله وَبالجملة انا قد آمنا بجميع ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لهداية الضالين من عباده الى توحيده لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالإيمان والإنكار بل نؤمن بجميعهم ونصدقهم لكونهم هادين الى توحيد الله وان تفاوتت طرقهم وَنَحْنُ لَهُ اى لتوحيد الحق مُسْلِمُونَ منقادون مسلمون متوجهون وان بين بطرق متعددة وكتب مختلفة بحسب الأعصار والأزمان المتوهمة من تجليات الذات حسب الأسماء والصفات
فَإِنْ آمَنُوا بعد ما سمعوا منكم هذه الأقوال الحقة بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ بعد سماعكم طريق الايمان من رسولكم فَقَدِ اهْتَدَوْا الى طريق التوحيد كما اهتديتم وَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن أقوالكم صفحا واعراضا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ اى ما هم الا في خلافهم وشقاقهم وعداوتهم الاصلية الجبلية ولا تبالوا بهم وبخلافهم وشقاقهم فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ المحيط بك يا أكمل الرسل وبهم المطلع على ما في سرائرهم وضمائرهم مؤنة خلافهم وشقاقهم وَلا تترددوا ايها المؤمنون في كفايته سبحانه إذ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الباطلة الكاذبة الْعَلِيمُ بكفرهم ونفاقهم الكامنة في قلوبهم ثم قولوا لهم بعد ما أظهروا الخلاف والشقاق ما جئنا به نحن من التوحيد الحاصل من متابعة الملة الحنيفية البيضاء
ليس الا صِبْغَةَ اللَّهِ المحيط بنا انما صبغ بها قلوبنا لنهتدي الى صفاء تجريده وزلال تفريده وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً حتى نتبعه إذ لا وجود لغيره ولا رجوع الا اليه وَإذا لم يكن لغيره وجود نَحْنُ لَهُ لا لغيره من العكوس والاظلال عابِدُونَ عائدون راجعون رجوع الظل الى ذي الظل والصور المرئية في المرآة الى الرائي ثم لما طال نزاع احبار اليهود مع المؤمنين ومجادلتهم مع الرسول عليه السّلام امر سبحانه لحبيبه بان يتكلم معهم بكلام ناش عن لب الحكمة ومحض المصلحة
فقال قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما دالا على توحيد الذات مسقطا لجميع الإضافات أَتُحَاجُّونَنا وتجادلوننا فِي اللَّهِ المظهر للكل من كتم العدم باشراق تجليات أوصافه فيه ورشه من نوره عليه وَالحال انه ليس له اختصاص ببعض دون بعض بل هُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ بإظهار ذواتنا وذواتكم من العدم وَبعد إظهاره إيانا لَنا أَعْمالُنا اى جزاء صالحها وفاسدها وَلَكُمْ ايضا أَعْمالُكُمْ الصالحة والفاسدة لا تسرى منكم إلينا شيء ولا منا إليكم شيء وَنَحْنُ المتبعون لملة ابراهيم لَهُ اى لله المظهر الظاهر بجميع الأوصاف والأسماء لا لغيره من الاظلال الهالكة المستهلكة في حدود ذواتها مُخْلِصُونَ متوجهون على وجه الإخلاص المنبئ عن المحبة المؤدية الى الفناء في ذاته جعلنا الله من خدام احبائه المخلصين أيسلم اليهود والنصارى ويذعنون بعد ما أوضحنا لهم انا على ملة ابراهيم دونهم
أَمْ يعاندون وتَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى تابعين لملتنا فان كابروا وعاندوا وقالوا مثل هذا قُلْ لهم يا أكمل الرسل مستفهما موبخا على وجه التنبيه أَأَنْتُمْ(1/54)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
أَعْلَمُ بحالهم أَمِ اللَّهُ النافى عنهم اليهودية والنصرانية بقوله ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مائلا عنهما ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وَبعد ما ظهر عندهم حقية دين نبينا صلّى الله عليه وسلّم وتحقق موافقته لملة أبيه ابراهيم بشهادة كتبهم ورسلهم مَنْ أَظْلَمُ وأجرأ على الله مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة في كتب الله التي قد صحت وثبتت عِنْدَهُ انها منزلة مِنَ اللَّهِ المنزل للرسل والكتب مصدقا بعضها بعضا كتمانا ناشئا عن محض العداوة والشقاق سيما بعد جزمهم حقيتها ومع ذلك يتوهمون كتمانها من الله ايضا وَمَا اللَّهُ المحيط بمخائلهم ومخادعاتهم بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الكتمان والنفاق حفظا لجاههم وجاه آبائهم قل لمن تبعك يا أكمل الرسل تذكيرا لهم وتحذيرا
تِلْكَ أُمَّةٌ صالحة او طالحة قَدْ خَلَتْ ومضت لَها في النشأة الاخرى جزاء ما كَسَبَتْ من الحسنات والسيئات الصادرة منهم في النشأة الاولى وَلَكُمْ ايضا فيها جزاء ما كَسَبْتُمْ وَبالجملة أنتم لا تُسْئَلُونَ في يوم الجزاء عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من الصالحات والفاسدات كما لا يسئلون أولئك عن أعمالكم بل كل منكم ومنهم مجزى بضيعته مقضي ببضاعته نعوذ بك من عدلك يا دليل الحائرين ثم لما كان الغالب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أوائل حاله وسلوكه توحيد الصفات والأفعال الموروثين له عن آبائه الكرام صلوات الله عليهم وكان صلّى الله عليه وسلّم تابعا لهم في قبلتهم التي كانوا عليها ايضا صورة وحين ظهر وانكشف له صلّى الله عليه وسلّم توحيد الذات وغلبت عليه تجلياتها وإشراقها استغرق ووله بل قد فنى واضمحل وتلاشت فيها هويته وبعد ما أفاق وتنزل عن ولهه واستغراقه خص له سبحانه قبلة مخصوصة ووجهة معينة صورة لتكون آية دالة على قبلته الحقيقية المعنوية ثم لما امره سبحانه بتوجهها واستقبالها وهو في الصلاة الى القبلة التي كان عليها قبل الأمر وتحول نحوها فيها أخذ المنافقون في الغيبة واشتغلوا بالنفاق ونسبوه الى ما هو منزه عنه واغتنموا الفرصة لمقابلته وصمموا العزم لمجادلته أراد سبحانه ان ينبه نبيه بما هم عليه من النفاق والشقاق في امر القبلة على وجه الاخبار
فقال سَيَقُولُ السُّفَهاءُ المعزولون عن مقتضى العقل الجزئى المنشعب من العقل الكل المتفرع عن الاسم العليم مِنَ النَّاسِ المحجوبين بظلمة التعينات عن نور الوجود قولا ناشئا عن محض الغفلة والسفاهة على سبيل الاستهزاء وهو قولهم ما وَلَّاهُمْ واى شيء حولهم وصرفهم اى المؤمنين عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها من قبل مع انها قبلة من يدعون الانتساب إليهم والاقتداء بملتهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل على وجه التنبيه والإرشاد بلسان التوحيد الذاتي بعد انكشافك به لِلَّهِ المنزه عن مطلق الأماكن والجهات المتجلى فيها الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ اى جميع مما يتوهم من الزمان والمكان والجهة والكل انما هي مظاهر ذاته ومجالي أسمائه وصفاته يَهْدِي بحبه الذاتي مَنْ يَشاءُ من عباده المتوجهين نحو جنابه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى وحدة ذاته من اى مكان كان وفي اى جهة وزمان وآن وشأن إذ هو محيط بكلها
وَكَذلِكَ اى مثل الصراط المستقيم الموصل الى وحدة ذاتنا المعتدل المتوسط بين الطرق قد جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً معتدلة قابلة للخلافة والنيابة في تولية الأمور بين عموم العباد لِتَكُونُوا شُهَداءَ قوامين بالقسط عَلَى النَّاسِ الغافلين عن التوجه إلينا وَكذلك أرسلنا إليكم رسولا منكم حتى يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً حفيظا لكم يحفظكم ويمنعكم عن كلا طرفي الإفراط والتفريط في عموم ما صدر عنكم من الأمور فعليكم ان تلازموا وتداوموا لامتثال(1/55)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
ما جاء به رسولكم من عند ربكم لتكونوا هادين مهتدين اليه سبحانه على الصراط المستقيم وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ اى قبلتك يا أكمل الرسل الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها قبل هجرتك منها إِلَّا لِنَعْلَمَ اى نميز ونفصل مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ الهادي الى توحيد الذات مِمَّنْ يَنْقَلِبُ اى يعود ويرجع عَلى عَقِبَيْهِ اى توحيد الصفات والأفعال قبل الوصول الى توحيد الذات وَإِنْ كانَتْ الوصلة الى الوحدة الذاتية لَكَبِيرَةً ثقيلة شاقة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ الى وحدة ذاته حيث وفقهم الى الايمان والإطاعة بمن يرشدهم ويهديهم اليه وَما كانَ اللَّهُ الحكيم المظهر لأشباحكم لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ بعد ما وفقكم اليه إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ الذين يؤمنون على وجه الإخلاص بالرسول الهادي لهم الى توحيد الذات ويصدقون بجميع ما جاء به من عنده لَرَؤُفٌ عطوف رَحِيمٌ مشفق يوصلهم الى غاية ما يظهر هم لأجله بفضله وطوله ثم لما انكشف له صلّى الله عليه وسلم توحيد الذات حقيقة ومعنى واستغرق فيها وتوجه نحوها منخلعا عن مقتضيات الأفعال والصفات مجردا عن لوازم الهويات مطلقا انتظر صلّى الله عليه وسلّم الوحى والإلهام المطابق لهذا الانكشاف بحسب الصورة ايضا
فقال سبحانه قَدْ نَرى نطلع ونعلم حين انكشافك بوحدة ذاتنا تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ اى نحو عالم الأسماء والصفات التي هي منبع الوحى والإلهامات منتظرا للوحى المتضمن للتوجه الصوري فَلَنُوَلِّيَنَّكَ بعد انكشافك المعنوي قِبْلَةً صورية تَرْضاها أنت بها لكونها مناسبة لقبلتك المعنوية مشيرة إليها فَوَلِّ يا أكمل الرسل بعد ما عينا لك قبلة معينة وَجْهِكَ الذي به مواجهتك صورة شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اى جهة المسجد الذي يحرم فيه التوجه الى غير الذات البحت الخالص عن عموم الإضافات والاعتبارات مطلقا وَلا تختص هذه الكرامة لك بل تسرى منك الى جميع من تبعك من المؤمنين حَيْثُ ما كُنْتُمْ أنت وهم من مراتب الوجود ومقامات الشهود وبعد ما سمعتم ما سمعتم من الكرامة الإلهية لكم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الفائضة لكم ايها المؤمنون المخلصون من ربكم شَطْرَهُ لتكونوا من زمرة المهتدين المنكشفين بوحدة ذاته سبحانه وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى لَيَعْلَمُونَ يقينا بشهادة كتبهم ورسلهم أَنَّهُ اى شأن انكشافك وتحققك يا أكمل الرسل بالتوحيد الذاتي الْحَقُّ الثابت المنزل مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم بإعطاء العقل المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل ومع ذلك ينكرون لك ولدينك وكتابك عنادا ومكابرة وَمَا اللَّهُ المطلع على عموم ما جرى في صدور عباده بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ من الإخفاء والستر سيما بعد الوضوح والكشف
وَالله لَئِنْ أَتَيْتَ أنت يا أكمل الرسل الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ نازلة لك دالة على توحيد الذات الذي هو مقصدك الأقصى ومطلبك الأعلى ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لشدة انهماكهم في الغفلة والضلال وَما أَنْتَ ايضا بعد ما انكشف لك الأمر يقينا بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ التي توجهوا إليها ظنا وتخمينا وَايضا ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لتفاوت ظنونهم وآرائهم وَالله لَئِنِ اتَّبَعْتَ أنت يا أكمل الرسل أَهْواءَهُمْ الباطلة مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ اليقيني المطابق لليقين العيني بل للحقى إِنَّكَ مع اصطفائنا إياك واجتبائنا لك إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ المعرضين عنا بعد ما وفقناك وأرشدناك الى الكعبة الحقيقية وهذا تهديد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد تمهيد وحث له صلّى الله عليه وسلّم لدوام التوجه على ما انكشف له من توحيد الذات وتحريض للمؤمنين على متابعته صلّى الله عليه وسلّم في دوام التوجه والميل اليه ومثله(1/56)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
في القرآن كثير
ثم قال سبحانه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ المبين لهم طريق توحيد الصفات والأفعال المنبه لهم على توحيد الذات وعلى من يظهر به هم يَعْرِفُونَهُ اى النبي الموعود الذي جاء به بالأوصاف والخواص المبينة في كتابهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ الذين هم خلقوا من أصلابهم بل أشد من ذلك لإمكان الخلاف في أبنائهم دونه وَمع ذلك إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ عنادا واستكبارا لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ الثابت في كتابهم وَهُمْ ايضا يَعْلَمُونَ حقيته جزما وما يكتمونه إلا مكابرة وعنادا
وبالجملة الْحَقُّ الذي أنت قد ظهرت به ونسخت عموم الأديان والاحكام بسببه انما هو ناش مِنْ رَبِّكَ الذي أظهرك مظهرا كاملا لذاته فَلا تَكُونَنَّ أنت ومن تبعك مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين في توحيد الذات كما كنتم قبل الانكشاف
اعلموا ان كُلٍ
اى لكل فرد فرد من افراد الأمم جْهَةٌ
مقصد وقبلة معينة من الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهيةوَ مُوَلِّيها
حسب اقتضائها الذاتي وغلبتها الحقيقيةاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
اى بادروا ايها المحمديون الى منشأ جميع الخيرات ومنبع عموم المبرات الناشئة من الأسماء والصفات الا وهو الذات الوحدانية المستجمعة لجميعهايْنَ ما تَكُونُوا
من مقتضيات الأوصاف والأسماء الذاتيةأْتِ بِكُمُ اللَّهُ
اى الذات الجامعة لهامِيعاً
مجتمعين بعد رفع التعينات الناشئة من الصفات نَّ اللَّهَ
المتجلى بالأوصاف الذاتيةلى كُلِّ شَيْءٍ
من المظاهر المتعينة المتكثرة بحسب المبدأ والاسم الظاهردِيرٌ
على رفع التعينات المسقط لجميع الكثرات بحسب المعاد والاسم الباطن
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أنت يا أكمل الرسل عن مقتضى كعبة الذات بغلبة حكم بعض الصفات فَوَلِّ وَجْهَكَ منها متذكرا شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وكعبة الذات المحرم فيه التوجه الى السوى والغير مطلقا وَإِنَّهُ اى شأن التوجه نحوه لَلْحَقُّ اى الثابت النازل مِنْ رَبِّكَ الذي رباك بمقتضى جميع أوصافه وأسمائه وَاعلم انه مَا اللَّهُ المطلع على عموم السرائر والخفايا بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت ومن اتبعك وعلى مقتضى علمه تجازون أنتم في يوم الجزاء
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أنت يا أكمل الرسل عن مقتضى توحيد الذات بتكفير بعض المظاهر وبترك ما يستقبلونه أولئك المستقبلون فَوَلِّ أنت وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الجامع لجميع المظاهر ونحو قبلة الذات وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ أنتم ايها المؤمنون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ اقتداء لرسولكم لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ المعترضين عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ غلبة بادعائكم التوحيد الذاتي وإخراجكم بعض المظاهر منه إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بنفي ذات الله وصفاته الا وهم الدهريون القائلون بوجود الطبائع بلا فاعل خارجى فإنهم لا يلزمون ولا ينزجرون بأمثاله فَلا تَخْشَوْهُمْ ولا تخافوا منهم في التوجه الى الكعبة الحقيقية ولا تبالوا بهم وبهذياناتهم بل وَاخْشَوْنِي في عدم التوجه الى حتى لا تحرموا عن مقتضيات بعض الأوصاف وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي الواصلة حسب أوصافي وأسمائي واوفرها عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الى ذاتى بسببها ومن إتمام نعمنا عليكم انا قد هديناكم الى جهة الكعبة الحقيقية وأمرناكم بالتوجه نحوها والعكوف حولها
كَما أَرْسَلْنا من مقام جودنا فِيكُمْ رَسُولًا هاديا لكم ناشئا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ أولا آياتِنا اى آثار اوصافنا الدالة على وحدة ذاتنا وَثانيا يُزَكِّيكُمْ من الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة الصادرة من العقل الجزئى الغير المتصل بعقل الكل وَثالثا يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ الموضح للدلائل والآيات المبين للآراء والمعتقدات المميز الفاصل بين صحيحها(1/57)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
وفاسدها وَرابعا يظهر لكم الْحِكْمَةَ الموصلة الى توحيد الذات وَبعد ذلك يُعَلِّمُكُمُ من الحقائق والمعارف المكتسبة والموروثة ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أنتم لولا إرشاده وإرساله سبحانه وبعد ما أنعمنا عليكم بهذه النعم العظام وأتممناها لكم
فَاذْكُرُونِي ايها المؤمنون الموحدون المحمديون بالميل الدائم والتوجه التام الصادق أَذْكُرْكُمْ انا إياكم بنفثات رحمانية ونسمات روحانية وَاشْكُرُوا لِي باسناد النعم الى وَلا تَكْفُرُونِ باسنادها الى الوسائل والأسباب العادية
ثم انه لما بالغ سبحانه في التنبيه والإرشاد إياهم وناداهم رجاء ان يتنبهوا له مع ان فطرتهم الاصلية مجبولة على التوحيد الذاتي فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الذات اسْتَعِينُوا لتحققه وانكشافه بِالصَّبْرِ على ما جرى عليكم من البليات المنفرة لنفوسكم وَالصَّلاةِ اى الميل الدائم الى جنابه بجميع الأعضاء والجوارح إِنَّ اللَّهَ المتجلى بجميع أوصاف الكمال مَعَ الصَّابِرِينَ المتحملين للبلاء الى ان كوشفوا به سبحانه رب اجعلنا من زمرة عبادك الصالحين الصابرين
وَمما يستعان به على تجرع مرارة الصبر الى ان ينكشف سره الجهاد ولذلك لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طالبا الوصول الى بابه أَمْواتٌ كالأموات الاخر بَلْ هم أَحْياءٌ بالحيوة الحقيقية باقون بالبقاء الأزلي الأبدي الإلهي وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أنتم بحياتهم ما دمتم محجوبين بالحيوة المستعارة المستهلكة الدنياوية وما هي في الحقيقة الا عكس منها موت في نفسها
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ والله لنختبرن ولنجربن تمكنكم ورسوخكم في توحيد الذات بِشَيْءٍ قليل مما يشعر بالكثرة والاثنينية مِنَ الْخَوْفِ الحاصل من المنفرات الخارجية مثل الحرق والغرق والعدو وغير ذلك وَالْجُوعِ الحاصل من المنفرات الداخلية كالحرص والأمل والبخل والحسد وغيرها وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ التي تميل قلوبكم إليها بالطبع وَالْأَنْفُسِ التي تظاهرون وتفتخرون بها من الأولاد والاخوان والعشائر والأقران وَالثَّمَراتِ المترتبة على الأموال والأولاد من الجاه والثروة والمظاهرة والغلبة على الخصماء وغير ذلك وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الصَّابِرِينَ من اهل التوحيد
يعنى الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا بلسان الجمع إِنَّا لِلَّهِ اى نحن اظلال الله الواحد الأحد المتجلى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا في النشأة الاولى وَإِنَّا بعد انقضاء نشآتنا هذه إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال راجِعُونَ عائدون صابرون رجوع الظل الى ذي الظل
وبالجملة أُولئِكَ السعداء المتمكنون في مقر التوحيد المستمسكون بحبل التفويض والتسليم عَلَيْهِمْ دائما متواليا صَلَواتٌ جذبات وخطفات ناشئة من سحائب اللطف والكرم الإلهي مشتملة على مياه العلوم اللدنية المترشحة المنشعبة من بحر الذات الجارية على جداول الأسماء والصفات الفائضة الى فضاء الظهور لا نبات المعارف والحقائق في أراضي الاستعدادات الموصلة الى النعيم المقيم الدائم واللذة المستمرة الباقية ازلا وابدا نازلة لهم دائما مِنْ رَبِّهِمْ الذي أوصلهم الى مقر عزه وَرَحْمَةٌ فائضة شاملة لهم ولغيرهم حسب وفورها وسعتها وَبالجملة أُولئِكَ السعداء الواصلون هُمُ الْمُهْتَدُونَ الى المبدأ الحقيقي والمنزل الأصلي المقصورون على الهداية والفلاح الأبدي السرمدي
ثم لما نبه سبحانه الى الكعبة الحقيقية بالكعبة الصورية أراد أن ينبه على اماراتها بشعائرها وعلاماتها فقال إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ اى الجبلان المعروفان اللذان هما كنايتان عن نشأتى الظهور والبطون مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وامارات توحيده فَمَنْ حَجَّ وقصد الْبَيْتَ الصوري الممثل من البيت المعنوي والمنزل الحقيقي والمرجع(1/58)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
الأصلي على الوجه المفروض أَوِ اعْتَمَرَ على الوجه المسنون قاصدا فيه التوجه الى الذات الاحدية معرضا عن العلائق المادية المانعة منه فَلا جُناحَ اى لا تعب ولا ضيق عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما اى يسعى بينهما معتقدا ارتباطهما الى ان ينكشف باتحادهما وَمَنْ تَطَوَّعَ وقصد بطوافهما خَيْراً زائدا على ما امر وفرض فَإِنَّ اللَّهَ الميسر له شاكِرٌ راض بفعله عَلِيمٌ بنيته وإخلاصه
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ويسترون ما أَنْزَلْنا في التورية مِنَ الْبَيِّناتِ الدالة على ظهور نبي يغلب عليه توحيد الذات وَالْهُدى المشير الى انه مبعوث الى كافة البرايا ناسخ لجميع الأديان إذ به يتم امر التكميل والإرشاد ولا بعثة بعد ظهوره بل ختم به صلى الله عليه وسلّم امر الإرسال والإنزال والتديين والتشريع والحال ان كتمانهم مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ وأوضحناه لِلنَّاسِ الناظرين فِي الْكِتابِ المستفيدين منه المتأملين فيه يعنى التورية أُولئِكَ الكاتمون المفرطون يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ اى يطردهم ويبعدهم عن عز حضوره لخروجهم عن مقتضى العبودية بكتمان ما أراد الله ظهوره وَايضا يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ المتحققون باعتدال العبودية المواظبون على ما أمروا حسب وسعهم وطاقتهم
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم عن الكتمان ورجعوا عن البغي والعدوان وأظهروا جميع ما ظهر لهم ولاح لديهم من آيات كتابهم وَأَصْلَحُوا بالإظهار عموم ما أفسدوا على نفوسهم بالكتمان وَبَيَّنُوا ما بينهم الله في كتابه من وصف نبيه المبعوث الى كافة الأمم وعامة البرايا فَأُولئِكَ التائبون المخلصون المصلحون المنيبون المبينون عموم ما ظهر لهم في كتابهم أَتُوبُ عَلَيْهِمْ من العصيان ان اقبل منهم توبتهم وأتجاوز عن سيئاتهم وزلاتهم وَكيف لا أَنَا التَّوَّابُ الرجاع لهم عما جرى عليهم من العصيان والكفر والطغيان الرَّحِيمُ لهم بعد ما رجعوا الى مخلصين مخبتين
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بكتمان ما بين الله في كتابه وَماتُوا وَهُمْ عند موتهم كُفَّارٌ كاتمون ما في كتاب الله من أوصاف رسوله أُولئِكَ المصرون المعاندون في امر الكتمان سيما بعد الظهور مكابرة ينزل عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ طرده وتبعيده دائما مستمرا منحصرا عليهم غير منفك عنهم كما تقتضيه الجملة المعبرة عنه بخلاف اللعنة السابقة وَتنزل عليهم ايضا لعنة الْمَلائِكَةِ المستغفرين لمن تاب اللاعنين لمن كابر وأصر وَايضا لعنة النَّاسِ العارفين بحقوق الله المواظبين على أداء آدابه المعتكفين حول بابه أَجْمَعِينَ مجتمعين متفقين ملازمين عليها دائما لخروجهم عن ربقة العبودية
خالِدِينَ فِيها بحيث لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ المترتب عليها لحظة ليتنفسوا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ اى يمهلون ساعة ليعتذروا
وَإِلهُكُمْ المظهر لكم ايها المؤمنون من كتم العدم واله الكافرين الكاتمين إِلهٌ واحِدٌ لا تعدد فيه ولا اثنينية في ذاته بل لا إِلهَ في الوجود ولا موجود حقيقة إِلَّا هُوَ الوجود الحقيقي الحقي إذ لا كثرة في الوجود المطلق بل هو وحداني الذات فردانى النعت والصفات ليس كمثله شيء ولا دونه حي الرَّحْمنُ المبدئ لكم ولهم عامة باشراق أنوار تجلياته ومد اظلال ذاته على مرآة العدم في النشأة الاولى الرَّحِيمُ المعيد لكم خاصة الى مبدئكم ومقصدكم الحقيقي في النشأة الاخرى
ثم لما كان لوحدته سبحانه آيات ودلائل واضحات لمن تأمل في عجائب مصنوعاته وبدائع مبدعاته ومخترعاته المترتبة على أسمائه وصفاته المستندة الى وحدة ذاته أشار سبحانه الى نبذ منها إرشادا وتنبيها فقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ اى اظهار العلويات التي هي عالم الأسماء والصفات المؤثرة الفاعلة(1/59)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
وَالْأَرْضِ اى اظهار السفليات التي هي عالم الطبائع والأركان القابلة المتأثرة من العلويات «2» وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ اى ظلمة العدم والجهل والعمى وَالنَّهارِ نور الوجود واليقين والعلم وَالْفُلْكِ اى الأجساد الحاصلة بين تأثير الأسماء وتأثر الطبيعة منها الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ اى بحر الوجود الذي لا ساحل له ولا قعر بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من جواهر المعارف ودرر الحقائق المستخرجة منه وَما أَنْزَلَ اللَّهُ بمقتضى كرمه وجوده مِنَ السَّماءِ المعدة للافاضة مِنْ ماءٍ علم وعين وكشف فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ اى طبيعة العدم بَعْدَ مَوْتِها بالجهل الجبلي وَبعد ما أحياها قد بَثَّ ونشر وبسط فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ من القوى المدركة والمحركة المنشعبتين بالشعب الكثيرة المترتبتين على صفة الحيوة المتفرعة على التجلي الحبى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ المروحة للنفوس المتوجهة نحو المبدأ الناشئة المنتشئة من النفس الرحمانى ونحو الطبيعة المكدرة بالكدورات الجسمانية وَالسَّحابِ اى حجاب العبودية وقيود الغيرية الناشئة من مقتضيات الأسماء والصفات الْمُسَخَّرِ الممدود بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ اى سماء الأسماء الإلهية وارض الطبيعية الكونية لَآياتٍ دلائل قاطعات وبراهين ساطعات دالة على ان مظهر الكل واحد لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اى يعلمون الأشياء بالدلائل العقلية اليقينية المنتجة لعلم اليقين المؤدى الى العين والحق لو كوشفوا ربنا اكشف علينا عموم ما قد أودعت فينا من بدائع ودائعك بفضلك وجودك انك أنت الجواد الكريم
وَمع ظهور لوامع هذه الآيات الواضحات وشروق أنوار هذه الشواهد العينية وبروق اشعة تلك الواردات الغيبية الدالة على وحدة الذات مِنَ النَّاسِ المجبولين على فطرة التوحيد القابلين لها مَنْ يَتَّخِذُ منهم جهلا وعنادا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المفنى للكثرة والتعدد مطلقا أَنْداداً أمثالا أحقاء للالوهية والربوبية مستحقين للعبادة بحيث يُحِبُّونَهُمْ اى كل منهم معبودهم كَحُبِّ اللَّهِ الجامع للكل لحصر كل طائفة منهم مرتبة الألوهية في مظهر مخصوص وسموه معبودا مستحقا للعبادة ورجعوا نحوه في عموم الوقائع والملمات لذلك كفروا بالله وَالَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الله هم أَشَدُّ حُبًّا منهم لِلَّهِ المحيط للكل الحقيق بالحقية لحصرهم الألوهية والربوبية والتحقق والوجود والهوية والذات والحقيقة والصفات كلها الى الله لا الى غيره إذ لا غير في الوجود معه بل لا اله الا هو وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم في النشأة الاولى واليه الرجوع في النشأة الاخرى أذقنا بلطفك حلاوة اليقين وارزقنا محبة المؤمنين الموقنين وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا في النشأة الاولى حين خرجوا عن طريق التوحيد وانصرفوا عن الصراط المستقيم واتخذوا أمثالا لله يحبونهم كحب الله تقليدا لرؤسائهم ما يرون وقت إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ النازل عليهم ولرؤسائهم في النشأة الاخرى باتخاذهم آلهة باطلة من أَنَّ الْقُوَّةَ الكاملة والقدرة الشاملة الجامعة والحول المطلق لِلَّهِ المتفرد بالمجد والبهاء جَمِيعاً يومئذ وَمن أَنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء شَدِيدُ الْعَذابِ صعب الانتقام سريع الحساب يعنى لو ظهر لهم ولاح لديهم في الدنيا ما سيظهر ويلوح عليهم في النشأة الاخرى من ان الحول والقوة والعزة والعظمة لله بالاستقلال والانفراد بلا مشاركة ولا مظاهرة أصلا لتبرءوا البتة عن آلهتهم ومتبوعيهم في الدنيا ايضا كما تبرؤا عنهم في الآخرة
اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من الأنداد والأمثال مِنَ
__________
(2) لا يخفى على الفطن المتأمل وجه افراد الأرض وجمع السموات(1/60)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
الَّذِينَ اتُّبِعُوا لهم من المتخذين وَذلك حين رَأَوُا اى المتبوعون المعبودون الْعَذابَ النازل على تابعيهم باتخاذهم آلهة وكذبوهم وأظهروا البراءة عنهم ليبرؤا نفوسهم عن الإضلال والتضليل والتابعون ايضا بعد ما يرونهم كذلك ويفهمون منهم براءتهم عنهم أخذوا يقصدون انتقامهم وَلا يستطيعون إذ قد تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ اى اسباب الانتقام بانقطاع النشأة الاولى
وَبعد ما ايسوا من الانتقام قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا نادمين متحسرين متمنين لَوْ أَنَّ لَنا ولهم كَرَّةً مكررة في النشأة الاولى مرة اخرى فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فيها تلافيا وتداركا لما مضى من اتخاذنا إياهم آلهة كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا أولئك في هذه النشأة الاخروية وبالجملة ما ينفعهم هذه الندامة والتمني بل ما يزيدهم إلا غراما فوق غرام وأواما غب أوام كَذلِكَ اى مثل عذابهم على قدر اتخاذهم يُرِيهِمُ اللَّهُ اى يحضرهم أَعْمالَهُمْ الفاسدة السابقة كلها ويعذبهم عليها فردا فردا ويقول لهم ماذا تقولون فيه وما لهم في تلك الحالة سوى حَسَراتٍ نازلة عَلَيْهِمْ من تذكر سوء عملهم وقبح صنيعهم وهذا من أسوأ العذاب وأشد العقاب أعاذنا الله من ذلك وَبالجملة ما هُمْ لا التابعون ولا المتبوعون بِخارِجِينَ ناجين ابدا مِنَ النَّارِ اى نار البعد والإمكان المورث لهم من اصناف البغي والعدوان المورث لانواع الخيبة والخذلان اجرنا من النار يا مجير ثم لما بين سبحانه طريق توحيده على خلص عباده المتوجهين نحو جنابه تطهيرا لبواطنهم عن خبائث الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة أراد أن يرشدهم الى تهذيب ظواهرهم ايضا وتحليتهم بالخصال الحميدة الجميلة والأخلاق المرضية المعتدلة ليكون ظاهرهم عنوانا لباطنهم
فقال مناديا لهم إشفاقا وإرشادا يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على فطرة التوحيد كُلُوا وتناولوا من جميع ما خلق لكم فِي الْأَرْضِ لتقويم مزاجكم وتقويته حَلالًا إذ الاصل في الأشياء الحل ما لم يرد على حرمته الشرع طَيِّباً مما يحصل بكد يمينكم وعرق جبينكم إذ لا رزق أطيب منه وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى لا تقتدوا ولا تقتفوا في تحصيل الرزق اثر وساوس شياطين الأهواء والآراء المضلة عن طريق الحق المفضية الى سبيل الظلم والعدوان ولا تغتروا بتمويهات الشيطان وتزييناته «2» إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة عند ذوى البصائر الناظرين بنور الله المقتبسين من مشكاة توحيده
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ ويغرركم بِالسُّوءِ اى الخصلة الذميمة وَالْفَحْشاءِ الظاهرة القبيحة ليخرجكم عن حدود الله الموضوعة فيكم لتهذيب ظاهركم وَأَنْ تَقُولُوا بعد ما خرجتم عن حدود الشرع عَلَى اللَّهِ المتوحد المتفرد المنزه في ذاته ما لا تَعْلَمُونَ لياقته في حقه من حصره في الأنداد والأشباه واثبات الولد له والمكان والجهة والجسم تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اى للمتبعين خطوات الشيطان امحاضا للنصح وتحريكا لحمية الفطرة الاصلية اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على نبيه من الهدى والبينات لتهتدوا الى توحيد الله قالُوا في الجواب بإلقاء شياطينهم لا نتبع ما القيتم أنتم علينا من المزخرفات بَلْ نحن ما نَتَّبِعُ الا ما أَلْفَيْنا وما وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا وهم اعقل منا ومنكم قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا توبيخا وتقريعا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ الضالون الجاهلون لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من شعائر
__________
(2) منها ملازمة السكان ومدافعة الدربان ومدارات اهل الديوان والمجاملة مع الصدور والأعيان والمصاحبة مع الظلمة والأعوان والمنازعة مع الاخوان والمخاصمة مع الأقران والمفاخرة على اهل الزمان والعداوة مع ارباب اليقين والعرفان والرياسة على ضعفاء اهل الايمان كل ذلك من تسويلات نفس الإنسان المعبرة عنها بالشيطان عصمنا الله الحفيظ المنان من طغيان النفس والشيطان وهو المستعان وعليه التكلان(1/61)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
الدين وَلا يَهْتَدُونَ أصلا الى مرتبة الايمان واليقين فتتبعونهم ايها الضالون الجاهلون وتقتفون أثرهم ايها المسرفون المفرطون
وَان شئت يا أكمل الرسل زيادة تفضيحهم اذكر للمؤمنين قولنا مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا تقليدا لآبائهم مع قابليتهم واستعدادهم للايمان كَمَثَلِ الشخص الَّذِي يَنْعِقُ يخاطب ويصوت من سفاهته بِما اى بجماد لا يَسْمَعُ منه شيأ في مقابلته إِلَّا دُعاءً وَنِداءً منعكسة من دعائه وندائه شبه حالهم في السفاهة والحماقة بحال من يصوت نحو الجبل فيسمع منه صوته منعكسا فيتخيل من سفاهته انه يتكلم معه والحال ان آباءهم ايضا أمثالهم صُمٌّ كانوا لا يسمعون دعوة الحق من السنة الرسل بُكْمٌ لا يتكلمون بما ظهر لهم من الحق الصريح نقلا او عقلا عُمْيٌ ايضا لا يبصرون آثار الصفات وأنوار تجليات الذات الظاهرة على الآفاق وبالجملة فَهُمْ وآباؤهم من غاية انهماكهم في الغفلة والنسيان كأنهم جمادات لا يَعْقِلُونَ ولا يخلقون من زمرة العقلاء نبهنا بفضلك عن سنة الغفلة ونعاس النسيان
ثم ناداهم سبحانه وأوصاهم بما يتعلق بأمور معاشهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ اى مزكيات ما أحل لكم من الحيوانات وسقناه نحوكم تفضلا منا عليكم تقويما وتعديلا لأمزجتكم وَبعد تقويتنا وتعديلنا إياكم اشْكُرُوا لِلَّهِ المنعم المتفضل المربى لكم بلا التفات الى الوسائل والوسائط إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ لا الى غيره من الأسباب والوسائل تَعْبُدُونَ وتحصرون العبادة له قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اى ما حرم ربكم عليكم في دينكم من الحيوانات الا الْمَيْتَةَ التي ماتت حتف أنفها بلا تزكية وتهليل وَالدَّمَ السائل على اى وجه كان وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ المرخص في الأديان الاخر لنجاسة عينه وخباثة طبعه شرعا وَما أُهِلَّ اى الحيوان الذي ذبح وصوت بِهِ لِغَيْرِ اسم اللَّهِ عند ذبحه بل من اسماء الشياطين والأصنام وانما حرم عليكم هذه المحرمات وقت سعتكم فَمَنِ اضْطُرَّ منكم بأكلها حال كونه غَيْرَ باغٍ للولاة القائمين بأوامر الله المقيمين لأحكامه الحافظين لحدوده وَلا عادٍ مجاوز عن سد الجوعة الى وقت السعة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ان تناول منها مقدار سد الرمق إِنَّ اللَّهَ الحكيم المرخص لكم في أمثال هذه المضائق والاضطرار غَفُورٌ ساتر لكم عن أمثال هذه الجرأة رَحِيمٌ عليكم بهذه الرخصة
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده مِنَ الْكِتابِ المبين لهم طريق الرشاد والسداد ويظهرون بدله ما تشتهيه نفوسهم وترتضيه عقولهم عتوا واستكبارا وَيَشْتَرُونَ بِهِ اى بكتمان كتاب الله ثَمَناً قَلِيلًا من ضعفاء الأنام على سبيل التحف والهدايا أُولئِكَ الأشقياء الكاتمون طريق الحق الناكبون عن منهج الصدق ما يَأْكُلُونَ وما يغتذون ويتناولون بهذه الحيلة والتزوير ولا يستحيل فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ اى نار الحرص والطمع المقتبسة من نيران الإمكان المنتهية الى نار الجحيم أعاذنا الله وعموم عباده منها وَمن فظاعة أمرهم وشناعة صنيعهم لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ المستكشف عن احوال العباد يَوْمَ الْقِيامَةِ ليجزيهم على مقتضى أعمالهم التي كانوا عليها في النشأة الاولى بل يسوقهم الى النار بلا كشف وتفتيش عن جالهم وَبعد ما ساقهم إليها لا يُزَكِّيهِمْ ولا يطهر هم الله بها كما يطهر عصاة المؤمنين بالنار ثم يخرجهم الى الجنة بل يبقون فيها خالدين وَلَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم غير منقطع إيلامه ابدا
أُولئِكَ الضالون الخاسرون الَّذِينَ هم اشْتَرَوُا واستبدلوا الضَّلالَةَ المستتبعة لهذا النكال بِالْهُدى الموصل الى النعيم الدائم في النشأة الاولى وَالْعَذابَ المؤلم المزعج(1/62)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
بِالْمَغْفِرَةِ الملذة المستمرة في النشأة الأخرى فَما اعجب حالهم ما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ بارتكاب تلك الموجبات المؤدية إليها
ذلِكَ النكال والعذاب بِأَنَّ اللَّهَ المرشد لهم الى التوحيد الذاتي قد نَزَّلَ الْكِتابَ اى القرآن المبين لهم طريقة التوحيد والعرفان ملتبسا بِالْحَقِّ الصريح الثابت في الواقع وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي حقية الْكِتابَ وتبيينه لَفِي شِقاقٍ خلاف ونفاق بَعِيدٍ بمراحل عن الحق والوفاق حققنا بفضلك حقية ما أنزلت علينا بمقتضى جودك
ثم لما اختلف الناس في امر القبلة واهتموا بشأنها بان حصروا البر والخير كله فيها أشار سبحانه الى تخطئتهم ونبه على البر الحقيقي والخير الذاتي بقوله لَيْسَ الْبِرَّ اى ليس الخصال السنية والأخلاق المرضية مجرد أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مثلا بلا اتصاف بالعزائم والحكم المترتبة على تشريع القبلة وَلكِنَّ الْبِرَّ الحقيقي مَنْ آمَنَ وصدق منكم بِاللَّهِ المنشئ المظهر لكم من كتم العدم بعد ان لم تكونوا شيأ مذكورا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وَالْمَلائِكَةِ المهيمين الوالهين في مطالعة جمال الله المستغفرين لمن آمن وعمل صالحا من خلص عباده وَالْكِتابِ يعنى صدق ايضا بالكتاب المبين لكم طريق الهداية وَالنَّبِيِّينَ المبعوثين إليكم به ليرشدوكم الى مقاصده ويبينوا لكم ما فيه من المعارف والحقائق وَبعد الايمان بالمذكورات آتَى الْمالَ المانع من التوجه الحقيقي وأنفقه عَلى حُبِّهِ سبحانه طالبا لرضاه على المحتاجين أولاهم إعطاء ذَوِي الْقُرْبى المنتمين اليه من قبل أبويه وَالْيَتامى الذين لا متعهد لهم من الوالدين وذوى القربى وَالْمَساكِينَ الذين أسكنهم الفقر العارض من عدم مساعدة آلات الكسب والحوادث الاخر وَابْنَ السَّبِيلِ القرباء الذين لا يمكنهم التصرف في أموالهم لوقوع البون بينهم وبين أوطانهم وأموالهم وَالسَّائِلِينَ الذين قد الجأهم الاحتياج مطلقا الى السؤال من اى وجه كان وَفِي الرِّقابِ من الإسراء الموثقين في يد العدو والمكاتبين الذين لا يقدرون على تفكيك رقابهم من مواليهم وغير ذلك من المضطرين وَأَقامَ الصَّلاةَ بان ادام الميل والتوجه بجميع الأعضاء والجوارح نحوه سبحانه في جميع الأوقات خصوصا في الأوقات المخصوصة التي فرض فيها الصلاة وَآتَى الزَّكاةَ المفروضة المقدرة في كتاب الله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا كلهم من خيار الأبرار وَبشر من بينهم يا أكمل الرسل الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ اى الفقر المكسر للظهر وَالضَّرَّاءِ المرض المسقم للجسم وَخصوصا الغزاة الذين صبروا حِينَ الْبَأْسِ من اقتحام العدو بالانعامات العلية والكرامات السنية أُولئِكَ الأبرار والأحرار الصابرون في البلوى المرجحون لرضاء المولى على أنفسهم هم الَّذِينَ صَدَقُوا في أقوالهم وأصلحوا أفعالهم وأعمالهم وأخلصوا في نياتهم وَبالجملة أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ المحفوظون عن عموم ما خيف عليهم من الأمور المنافية للأمور الدينية الواصلون الى مرتبة التحقيق واليقين ربنا اجعلنا منهم بلطفك وكرمك يا ارحم الراحمين ثم ناداهم سبحانه إصلاحا لهم فيما يقع بينهم من الوقائع الهائلة والفتن العظيمة الحادثة من ثوران القوة الغضبية وطغيان الحمية الجاهلية المؤدية الى قتل البعض بعضا ظلما وعدوانا
فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم وتوحيدكم المحافظة عليه بزجر النفس الامارة بالسوء من مقتضياتها المنشعبة من القوى البشرية وان وقع فيكم أحيانا فاعلموا انه قد كُتِبَ وفرض عَلَيْكُمُ في دينكم الْقِصاصُ بالمثل فِي الْقَتْلى المقتولين عمدا فيقتل الْحُرُّ القاتل بِالْحُرِّ المقتول عمدا وَكذا الْعَبْدُ(1/63)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
القاتل بِالْعَبْدِ المقتول كذلك وبالحر بالطريق الاولى وَكذا تقتل الْأُنْثى القاتلة حرة كانت اوامة بِالْأُنْثى المقتولة ايضا كذلك كل لنظيرتها قياسا على الحر والعبد والامة بالحرة بالطريق الاولى وكذا بالذكرين منهما واما قتل الحر والحرة بالعبد والامة فقد خولف فيه والظاهر انه لم يقتل فَمَنْ عُفِيَ لَهُ اى للجاني والقاتل مِنْ أَخِيهِ اى من الحقوق والسهام المشتركة بين الغرماء الطالبين منه قصاص أخيهم المسلم المقتول بيده ظلما شَيْءٌ قليل من الحقوق المذكورة فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ اى فالحكم اللازم عليكم في دينكم ايها الغرماء متابعة المعروف المستحسن عند الله وعند المؤمنين الا وهو الرجوع الى الدية وعدم القصاص وَعليك ايها الجاني أَداءٌ اى أداء الدية التي هي فدية حياتك إِلَيْهِ اى الى ولى المقتول بِإِحْسانٍ معتذرا نادما متذللا على وجه الانكسار بلا مطل وتسويف ذلِكَ اى سقوط القصاص بعد عفو البعض ولزوم الدية بدله تَخْفِيفٌ لكم ايها المؤمنون وإصلاح لحالكم نازل مِنْ قبل رَبِّكُمْ اما التخفيف بالنسبة الى الغرماء فبتسكين القوة الغضبية وتليين الحمية العصبية بالأموال المسرة لنفوسهم بعد وقوع ما وقع واما بالنسبة الى الجاني فظاهر لإبقائه الحيوة بالمال وَرَحْمَةٌ نازلة لكم من ربكم لتصفية كدورتكم الواقعة بينكم بواسطة القتل فَمَنِ اعْتَدى وتجاوز منكم عن الحكم بَعْدَ ذلِكَ المذكور بان قتل الغرماء الجاني بعد عفو البعض وحكم الحاكم بأداء الدية او امتنع الجاني عن أداء الدية على الغرماء بعد الحكم فَلَهُ اى لكل من المعتدين عَذابٌ أَلِيمٌ يؤاخذون في الدنيا بما صدر عنهم ويعاقبون ايضا عليه في الآخرة
وَلَكُمْ ايها الموحدون المكاشفون بسرائر الشرائع والنواميس الإلهية الموضوعة بين المؤمنين في هذه النشأة سيما فِي الْقِصاصِ المسقط للجرائم الصادرة من جوارحكم البادية عليها بغيا وطغيانا حَياةٌ عظيمة حقيقية لكم في النشأة الاخرى إذ لا يؤخذون عليه فيها بعد مؤاخذتكم في النشأة الاولى يا أُولِي الْأَلْبابِ الناظرين بنور الحق في لب الأمور المعرضين عن قشورها لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء ان تتحفظوا عن مقتضى القوى البهيمية المنافية لطريق التوحيد المبنى على الاعتدال والوفاق المؤدية الى أمثال هذه الجرائم والجنايات الكبيرة
ثم قال سبحانه كُتِبَ عَلَيْكُمْ في دينكم ايضا ايها المؤمنون إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اى ظهرت أسبابه واماراته إِنْ تَرَكَ خَيْراً مالا كثيرا يقبل التجزية والانقسام المعتد به بلا تحريم الورثة الْوَصِيَّةُ اى الحصة المستخرجة منها لرضاء الله إنفاقا للفقراء المستحقين لها وأفضل الوصية وأولاها الوصية لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ان كانوا مستحقين لها وأفضلها الإخراج بِالْمَعْرُوفِ المعتدل المستحسن بين الناس بحيث لا يتجاوز عن ثلث المال حتى لا يؤدى الى تحريم الورثة وانما فرض الوصية في دينكم ايها المؤمنون حَقًّا لازما عَلَى الْمُتَّقِينَ اداؤه حفظا لغبطة الفقراء ومحبة ذوى القربى وامدادا لهم
فَمَنْ بَدَّلَهُ وغيره من الحضار والأوصياء الشاهدين عليها سيما بَعْدَ ما سَمِعَهُ من الموصى صريحا فَإِنَّما إِثْمُهُ- اى اثم التبديل والتغيير عَلَى المغيرين الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ظلما وزورا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بأقوال الموصى عَلِيمٌ بنيته فيها وبما صدر من المبدلين المغيرين ايضا فيجازى كلا منهم على مقتضى علمه وخبرته
فَمَنْ خافَ من الأوصياء والوكلاء مِنْ مُوصٍ حين الوصية جَنَفاً وميلا ببعض المستحقين ناشئا عن الغفلة بحالهم بلا قصد أَوْ إِثْماً ناشئا عن القصد فَأَصْلَحَ الوصي الخائف بَيْنَهُمْ اى الموصى لهم على مقتضى علمه بأحوالهم فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ اى على الوصي في هذا التبديل والتغيير بل يرجى من الله باصلاحه الثواب له ولمن اوصى اليه ايضا(1/64)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
إِنَّ اللَّهَ المطلع بحالهما غَفُورٌ رَحِيمٌ لكل منهما
ثم لما نبههم سبحانه بنبذ مما يتعلق بتهذيب ظواهرهم أراد أن ينبههم على بعض ما يتعلق بتهذيب بواطنهم فقال ايضا مناديا لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ في دينكم الصِّيامُ وهو الإمساك المخصوص من طلوع الفجر الثاني الى غروب الشمس في الشهر المعروف والإمساك المطلق والاعراض الكلى عما سوى الحق مطلقا عند اولى النهى واليقين المستكشفين عن سرائر الأمور المتحققين بها حسب المقدور كَما كُتِبَ عَلَى امم الأنبياء الَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِكُمْ ايها المحمديون وانما فرض عليكم هذا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء ان تحفظوا انفسكم عن الإفراط في الاكل المميت للقلب المطفي نيران العشق والمحبة الحقيقية الحقية وإذا فرض عليكم صوموا
أَيَّاماً قلائل مَعْدُوداتٍ هي شهر رمضان فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ حين حضور شهر رمضان الذي فرض فيه الصيام مَرِيضاً مرضا يضره الصوم او يعسر عليه أَوْ حين وروده عَلى جناح سَفَرٍ مقدار مسافة مقدرة في الشرع عند الفقهاء وأفطر رخصة فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يعنى يجب عليه ان يصوم أياما أخر مساوية للأيام المفطرة قضاء بلا كفارة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ اى الصوم فيفطرونه مع انهم ليسوا مرضى ولا مسافرين فعليهم فِدْيَةٌ هي طَعامُ مِسْكِينٍ اى فدية كل يوم من الأيام المفطرة من رمضان طعام واحد من المساكين بلا قضاء ولا لزوم كفارة عليه هذا في بدء الأمر ثم نسخ بالآية التي ستأتى فَمَنْ تَطَوَّعَ وزاد في الفدية خَيْراً تبرعا زائدا مما كتب له فَهُوَ اى ما زاد عليها خَيْرٌ لَهُ عند ربه يجزيه سبحانه عليه زيادة جزاء وَأَنْ تَصُومُوا ايها المؤمنون المطيقون في وقته بلا تأخير الى القضاء خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية والزيادة عليها تبرعا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سرائر الإمساك والفوائد العائدة منها الى نفوسكم من كسر الشهوة والتلقي على الطاعة والتوجه مع الفراغة هذا في بدء الإسلام ثم نسخ بالآية التي ستذكر عن قريب
واعلموا ايها المؤمنون ان أفضل الشهور عند الله وارفعها قدرا ومرتبة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اى ابتدأ نزوله او نزل كله فيه بل الكتب الاربعة ايضا قد نزلت كلها فيه على ما نقل في الحديث صلوات الله على قائله وكيف لا يكون أفضل الشهور مع ان القرآن المنزل فيه هُدىً لِلنَّاسِ الموقنين بتوحيد الله المتوجهين نحو جنابه يهديهم الى مرتبة علم اليقين وَبَيِّناتٍ شواهد وآيات واضحات مِنَ الْهُدى الموصل للمستكشفين عن سرائر التوحيد الى مرتبة عين اليقين وَالْفُرْقانِ الفارق لهم بين الحق الذي هو الوجود الإلهي والباطل الذي هو الموجودات الكونية الباطلة المعدومة في أنفسها المنعكسة من آثار الأوصاف والأسماء الإلهية فوصلهم الى مرتبة حق اليقين فَمَنْ شَهِدَ وأدرك مِنْكُمُ الشَّهْرَ المذكور مطيقا بلا عذر فَلْيَصُمْهُ ثلثين يوما حتما بلا إفطار وإفداء لان هذه الآية ناسخة لحكم الآية السابقة وَمَنْ كانَ منكم مَرِيضاً لا يطيق على الصوم فيه خوفا من شدة المرض أَوْ عَلى متن سَفَرٍ فأفطر لدفع الحرج فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ اى لزم عليه صيام ايام أخر قضاء لأيام الفطر بلا لزوم كفارة انما يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ بهذه الرخصة الْيُسْرَ لئلا تتحرجوا وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لئلا تضطروا وتضطربوا وَانما الزم لكم القضاء بعد الرخصة لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ التي قد فرض لكم الصيام فيها في كل سنة لئلا تحرموا عن منافع الصوم وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ وتعظموه عَلى ما هَداكُمْ الى الرخص عند الضرورة والاضطرار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تتنبهون(1/65)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
وتتقربون بشكر نعمه الفائضة عليكم في أمثال هذه المضائق الى ذاته إذ بشكر نعمه يحصل التقرب اليه
وَلذلك اخبر سبحانه نبيه إرشادا لعباده الشاكرين لنعمه عن تقربه إليهم بقوله إِذا سَأَلَكَ ايها الداعي للخلق الى الحق عِبادِي الشاكرين لنعمي عَنِّي بقولهم اقريب إلينا ربنا فنناجيه مناجاتنا لنفوسنا أم بعيد منا فنناديه نداءنا للاباعد عنا قل لهم يا أكمل الرسل في جوابهم نيابة عنى فَإِنِّي قَرِيبٌ لهم من نفوسهم بحيث أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ اى استقبله مسرعا لإجابة دعائه كما نطق به الحديث القدسي حكاية عنه سبحانه فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي في عموم مهماتهم وحاجاتهم وَلْيُؤْمِنُوا بِي معتقدين إيصالي إياهم الى غاية متمناهم إذ لا مرجع لهم غيرى ولا ملجأ لهم سواي وانما أخبروا بما أخبروا وأمروا بما أمروا لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ رجاء ان يهتدوا الى مقر التوحيد راشدين مطمئنين اهدنا بلطفك الى مقر عزك يا هادي المضلين
ثم أشار سبحانه الى بيان احكام الصوم مما يتعلق بالحل والحرمة فيه فقال أُحِلَّ لَكُمْ ايها الصائمون لَيْلَةَ الصِّيامِ دون نهاره إذ الإمساك عن الجماع في يوم الصوم مأخوذ في تعريفه شرعا ايضا الرَّفَثُ الوقاع والجماع إِلى نِسائِكُمْ اى معهن إذ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ لا تصبرون أنتم عنهن لاقتضاء طبعكم وميل نفوسكم إليهن وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ايضا لا يصبرن عنكم لاشتداد شهوتهن الى الوقاع بأضعاف ما أنتم عليه وانما رخص لكم الوقاع في الليالى إذ قد عَلِمَ اللَّهُ المحيط بسرائركم وضمائركم منكم أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ اى توقعونها بأيديكم الى التهلكة والخيانة فتعاقبون عليها وتحرمون انفسكم عن جزاء الصوم المتكفل له الحق بذاته كما قال صلّى الله عليه وسلم حكاية عنه سبحانه الصوم لي وانا اجزى به وإذا علم الله سبحانه منكم ما علم فَتابَ عَلَيْكُمْ اى أقدركم على التوبة ووفقكم عليها وَعَفا قد أزال ومحا عَنْكُمْ ما يوقعكم الى الفتنة والعذاب وهو تحريم الرفث في الليلة ايضا وبعد ما رخص لكم الوقاع فيها فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ اى الصقوا بشرتهن ببشرتكم في ليلة الصيام المرخصة فيها الجماع ولا تخافوا من عقوبة الله بعد ما اذن وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ اى اطلبوا سرائر ما قدر الله لكم من الولد الصالح المتفرع على اجتماعكم مع نسائكم إذ سر الجماع والنزوع انما هو إبقاء نوع الإنسان المصور على صورة الرّحمن ليترقى في العبودية والعرفان الى ان يستخلف وينوب عنه سبحانه وَكُلُوا في ليلة الصيام وَاشْرَبُوا فيها حَتَّى يَتَبَيَّنَ يعنى الى ان يظهر لَكُمْ بلا خفاء الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ اى البياض الممتد الذي يقال له في العرف الصبح الصادق مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ البياض المتوهم قبل الصبح الصادق المعبر عنه بالصبح الكاذب وكلاهما مِنَ الْفَجْرِ الذي هو عبارة عن آخر الليل ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ من الوقت المبين إِلى ابتداء اللَّيْلِ وهو غروب الشمس بحيث لا يرى في الأفق الشرقي بياض وحمرة منها وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ في ليلة الصيام ايضا وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ معتكفون فِي الْمَساجِدِ إذ الاعتكاف في الشرع عبارة عن اللبث في المسجد على نية التقرب فيبطله الخروج الا الى التوضى والطهارة. والجماع فيه ليس بمرخص شرعا تِلْكَ الاحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ الحاجزة بينه وبين نفوس عباده فلكم ان لا تجاوزوا عنها فَلا تَقْرَبُوها ايضا الى حيث يتوهم تجاوزكم عنها كَذلِكَ اى كالحدود والاحكام المأمورة والمنهية المذكورة يُبَيِّنُ اللَّهُ الهادي عموم عباده الى وحدة ذاته جميع آياتِهِ اى دلائله الدالة على وحدة ذاته لِلنَّاسِ الناسين العهود السابقة بواسطة تعيناتهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ رجاء ان يحذروا عنها بسبب اشراق نور الوجود(1/66)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
الحقي المفنى لعموم التعينات مطلقا
وَمن جملة الاحكام الموضوعة فيكم لإصلاح حالكم ان لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ اى لا يأكل كل منكم مال الآخر بِالْباطِلِ اى بسبب الباطل الغير المبيح له أكل مال الغير من السرقة والغصب والربوا والرشوة والحيل المنسوبة الى الشرع افتراء ومراء الى غير ذلك مما ابتدعه المتشيخة والفقهاء في الوقائع من الشبه والمخائل ونسبوها الى السمحة السهلة البيضاء المحمدية المنبئة عن الحكمة الإلهية المنزهة عن أمثال تلك المزخرفات الباطلة وَايضا من جملة الاحكام الموضوعة ان لا تُدْلُوا بِها اى لا يحاول بعضكم مال البعض إِلَى الْحُكَّامِ المسلطين عليكم اى لا يفترى بعضكم بعضا افتراء يوقع بينكم العداوة والبغضاء المفضية الى المصادرة والحكومة المستلزمة لاخذ المال من الجانب او من الجانبين لِتَأْكُلُوا اى بالتحاكم إليهم فَرِيقاً اى بعضا او كلا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ المظلومين بِالْإِثْمِ الصادر عن المدلى المفترى منكم وَأَنْتُمْ ايها المدلون تَعْلَمُونَ انكم آثمون مفترون بك نعتصم عن أمثاله يا ذا القوة المتين.
ثم لما قدر سبحانه في سابق علمه الحضوري سؤال أولئك السائلين عن كمية ازدياد القمر وانتقاصه وبدوه دقيقا رقيقا واستكماله بدرا ورجوعه على ما كان عليه اخبر نبيه صلّى الله عليه وسلم عما سيسألون إلحاحا واقتراحا امتنانا عليه فقال يَسْئَلُونَكَ ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق لترويج الحق عَنِ الْأَهِلَّةِ اى عن كمية اختلافها كمالا ونقصانا قُلْ لهم في جوابهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة مطابقا لأسلوب الحكيم مقتضى حالكم وادراككم ان تسئلوا عن الحكم والمصالح المودعة فيها لا عن كمية امر القمر فإنها خارجة عن طوق البشر وطور إدراكه سيما عن احلام العوام إذ نهاية مدرك العقلاء من القمر ان نوره مستفاد من الشمس وانه مظلم في ذاته وان استفادته النور من الشمس بحسب مقابلته لها وعدم ممانعة الأرض منها واما ان الشمس ما هي في حد ذاتها والقمر ما هو والارتباط بينهما على اى وجه فسر لا يحوم حوله احد من خلقه بل هو مما استأثر الله به في علمه فلا يسأل عنه احد بل هِيَ اى الاختلافات الواقعة في القمر زيادة ونقصانا ترقيا وتنزلا لأجل انه مَواقِيتُ معينة لِلنَّاسِ في امور معاشهم من الآجال المقدرة لقضاء الديون والعدة والتعليقات المتعلقة بها وغير ذلك من التقديرات الجارية في المعاملات بين الناس في العادات والعبادات وَخصوصا في الْحَجِّ والصوم والنذور المعينة والكفارات فإنها تضبط كلها باختلافات القمر الى غير ذلك من العبادات الموقتة وَكما ان سؤالكم هذا ليس من الأمور المبرورة المتعلقة بدينكم كذلك لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها لا من ابوابها وذلك ان الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب البيوت بل يثقبون ظهورها ويدخلون منها ويعدون هذه الفعلة من الأمور المبرورة ويعتقدونها كذلك الى حيث نبه سبحانه على خطاهم وارشدهم الى البر الحقيقي بقوله وَلكِنَّ الْبِرَّ المقبول عند الله بر مَنِ اتَّقى عن محارم الله مطلقا حين لبس الإحرام إذ الإحرام للموت الإرادي المعبر بلسان الشرع بالحج بمنزلة الكفن للموت الطبيعي فكما ان لابس الكفن محفوظ عن جميع المحارم اضطرارا كذلك لابس الإحرام لا بدان يحفظ نفسه عن جميع المحارم ارادة واختيارا وَبعد ما لم يكن الدخول من ظهور البيوت وثقبها من البر أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها مغمضين عيونكم عن المناهي غاضين أبصاركم عنها حافظين قلوبكم عن الميل الى المحرمات والمحظورات مطلقا وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ مخلصين له خائفين منه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ رجاء ان تفوزوا بالفلاح من عند الله بسبب تقويكم وَمن جملة الحدود الموضوعة فيكم القتال مع الأعداء(1/67)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع المشركين المعرضين عن طريق الحق المائلين عنه تعنتا واستكبارا لا سيما مع الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ويقصدون استيصالكم بادين للقتال مجترئين عليها وَلا تَعْتَدُوا ولا تتجاوزوا ايها المؤمنون عما نهيتم عنه من قتل المعاهد والعجزة والاقتحام في الحرب فجأة والمقاتلة في الحرم وفي الشهور المحرمة والابتداء بالمقاتلة وغير ذلك إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن الحدود والعهود المحفوظة شرعا
وَان اجتمعوا لقتالكم وتوجهوا نحوكم اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ اى في اى مكان وجدتموهم في حل او حرم وَأَخْرِجُوهُمْ ان ظفرتم عليهم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ يعنى مكة وَبالجملة القوا بينهم الفتن والاضطراب وأوقعوهم في حيص بيص إذ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ تأثيرا مِنَ الْقَتْلِ لان اثر القتل منقطع به واثر الفتنة مستمر دائم غير منقطع وَعليكم المحافظة للعهود سيما القتل لا تُقاتِلُوهُمْ وأنتم بادون للقتل سيما عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرم عنده ازالة الحيوة مطلقا حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ وهم بادون معتدون عن الحدود ناقضون للعهود فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه فَاقْتُلُوهُمْ بعد ذلك فيه ايضا قائلين لهم كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ الهاتكين حرمة بيت الله
فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر والقتال مع المؤمنين وآمنوا على وجه الإخلاص فَإِنَّ اللَّهَ المطلع بما في ضمائرهم ونياتهم غَفُورٌ لما صدر عنهم من الكفر رَحِيمٌ بهم يقبل منهم الايمان والإسلام بعد ما أخلصوا
وَان لم يؤمنوا قاتِلُوهُمْ ايها المؤمنون الى ان تستأصلوهم حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ اى لا تبقى فتنتهم على وجه الأرض وخلافهم عليها بل وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ بلا مزاحم ومخاصم فَإِنِ انْتَهَوْا عن كفرهم بلا مقاتلة ودخلوا في دين الإسلام طائعين فَلا عُدْوانَ ولا عداوة تبقى لكم معهم بل هم إخوانكم في الدين إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ اى مع القوم الظالمين منهم المجاوزين عن الحدود والعهود المصرين على ما هم عليه من الكفر والجحود وبعد ما قاتل الكفار مع المؤمنين عام الحديبية في ذي القعدة الحرام وعزم المؤمنون على الخروج الى مكة لعمرة القضاء ايضا في السنة الثانية وهم يكرهون القتال لئلا يهتكوا حرمة شهر هم هذا كما هتكوا انزل الله عليهم هذه الآية
فقال الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ اى لا تبالوا ولا تمتنعوا ايها المؤمنون عن القتال فيه إذ هتككم حرمة شهركم في هذه السنة بسبب هتكهم حرمته في السنة السابقة فيئول اثم كلا الهتكين إليهم وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ يعنى واعلموا ان الحرمات التي يجب المحافظة عليها وعدم هتكها يجرى فيها القصاص بالمثل فلما هتكوا حرمة هذا الشهر في السنة السابقة فافعلوا أنتم معهم في هذه السنة بمثله ولا تجاوزوا عنه فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وهذا ايضا من جملة الحدود الموضوعة فيكم لإصلاح حالكم وتهذيب أخلاقكم وَاتَّقُوا اللَّهَ ان تتخلفوا عن حدوده بالاقدام على ما نهيتم عنه والاعراض عما أمرتم به وَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المدبر لكم المصلح لأحوالكم مَعَ الْمُتَّقِينَ منكم وهم الذين يحفظون نفوسهم عن محارم الله ومنهياته ويرغبونها نحو أوامر الله ومرضياته
وَايضا من جملة الأخلاق الموضوعة فيكم الانفاق من فواضل أموالكم الى الفقراء والمساكين وهم الذين قد أسكنهم لوازم الإمكان والافتقار في زاوية الخمول أَنْفِقُوا ايها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ مقتصدين فيه بين طرفي التبذير والتقتير المذمومين عند الله ولدي المؤمنين وَبالجملة لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ انفسكم إِلَى التَّهْلُكَةِ والمشقة بالإسراف والتضييع او بالبخل والتقتير إذ بالبخل تبقى النفس في ظلمة الإمكان وتوطن(1/68)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
في وحشة الحرمان والخذلان وبالتبذير تصير من اخوان الشيطان وَمن اجلة أخلاقكم الإحسان أَحْسِنُوا ايها المتوجهون الى فضاء التوحيد أخلاقكم وأعمالكم وأقوالكم وجميع اوصافكم إذ ما من ولى ولا نبي الا وهو مجبول على حسن الخلق والشيم المقتبسة من الأخلاق الإلهية وبذلك استحقوا الخلافة والنيابة إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المتفضلين بالأموال والأعمال
وَمن الأركان الموضوعة المفروضة في دينكم ايها المحمديون الحج أَتِمُّوا الْحَجَّ اى الخصال والنسك المحفوظة المفروضة فيه وان ادى الى المقاتلة والمشاجرة وَالْعُمْرَةَ اى أتموا الأمور المسنونة فيه خاصة خالصة لِلَّهِ قاصدين التقرب اليه والتوجه الى بابه إذ الحج الحقيقي انما هو الوصول الى الكعبة الحقيقية التي هي الذات الاحدية فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ منعتم وحبستم بعد ما أحرمتم للحج والعمرة من الوصول الى الميقات وتتميم الواجبات فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ اى فعليكم إذا أردتم التحلل والخروج من الإحرام ذبح ما تيسر لكم حصوله من الهدى المحلل مثل البقرة والبدنة والشاة وغيرها حسب طاقتكم وقدرتكم بان تبعثوها الى الحرم او تذبحوها حيث أحصرتم وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ ايها المحصورون المريدون التحلل حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ المبعوث اليه او تذبحونه في المكان المحصور وبالجملة لا تحلقوا رؤسكم قبل ذبح الهدى او قبل وصولها الى الحرم فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً مرضا قد ازداد بشعر الرأس أَوْ بِهِ أَذىً ناشئا مِنَ شعر رَأْسِهِ من تزاحم قمل او صداع مفرط او جرب مشوش وحلق لأجله فَفِدْيَةٌ اى فاللازم عليه حينئذ الفدية سواء كانت مِنْ صِيامٍ مقدر بثلاثة ايام للفقراء العاجزين عن غيرها أَوْ صَدَقَةٍ مقدرة بثلاثة أصوع من الطعام للمتوسطين أَوْ نُسُكٍ من بدنة او بقرة او شاة للأغنياء على اختلاف طبقاتهم فَإِذا أَمِنْتُمْ اى إذا أحرمتم للحج حال كونكم آمنين من الموانع من إحصار العدو والمرض العارض ونزول الحادثة وغير ذلك من الموانع فعليكم إتمام مناسكه على الوجه الذي أمرتم به بلا إهمال شيء من آدابه المحفوظة فيه فَمَنْ تَمَتَّعَ وتقرب الى الله منكم بِالْعُمْرَةِ في أشهر الحج قبل تقربه اليه بالحج وبعد ما تم مناسك عمرته قصد إِلَى الْحَجِّ ونوى إياه فَمَا اسْتَيْسَرَ اى فعليه ذبح ما استيسره مِنَ الْهَدْيِ ويقال له عند الفقهاء دم الجبر ان يذبحه حين احرم للحج ولا يأكل منه فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى منكم لفقره فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي زمان الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ الى أوطانكم وأهليكم إذ الصوم في مكة خصوصا في ايام الحج من أشق المشاق المفضى الى الحرج جدا تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ قائمة مقام الهدى للفقراء الغرباء الفاقدين وجود الهدايا وانما أمرتم بصوم الثلاثة فيها لئلا تحرموا عن إتمام متممات الحج في أوقاته ذلِكَ الحكم المذكور لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اى لم يكن من جملة المتوطنين فيها او في حواليها اقل من مقدار مسافة القصر وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور واحفظوا أوامره التعبدية وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر المتهاونين بأوامره شَدِيدُ الْعِقابِ لهم إذ اكثر الأمور الشرعية والعزائم الدينية انما هي تعبدية لا يدرك سره خصوصا الأعمال المنسوبة الى الحج
ثم لما امر سبحانه عباده بالحج بان يأتوا الى بيته من كل بلد بعيد وفج عميق عين له وقتا معينا من الأوقات التي لها فضيلة ومنزلة عنده سبحانه فقال الْحَجُّ اى أوقاته أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ متبركات معروفات وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامها او بعضها على ما خولف فيه فَمَنْ فَرَضَ على نفسه فِيهِنَّ(1/69)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
الْحَجُّ بان ارتكب بشرائطه وأركانه ناويا له في خلال هذه الأشهر لزمه إتمامه بلا فسخ العزيمة وقلب النية وحل المحرمات فيه فَلا رَفَثَ ولإجماع وان طالت المدة وَلا فُسُوقَ ولا خروج عن حدود الله بارتكاب المحظورات وَلا جِدالَ والمجادلة والمراء مع الخدام والرفقاء فِي ايام الْحَجُّ إذ الحج كناية عن الموت الإرادي المنبئ عن الحيوة الحقيقية وهذه الأمور من أوصاف الأحياء بالحيوة الطبيعية فمن قصد الحج الحقيقي والحيوة الحقيقية فعليه ان يميت نفسه من لوازم الحيوة الطبيعية المستعارة الغير القارة ليفوز بالحيوة الحقيقية الازلية والبقاء الأبدي السرمدي وذلك لا يتيسر الا بالخروج عن مقتضيات العقل الجزئى المشوب بالوهم والخيال بل هو مغلوب منهما محكوم لهما دائما ولا يحصل ذلك الا للسالك الناسك الذي قد جذبه الحق عن نفسه متدرجا مترقيا من عالم الى عالم من العوالم المنتخبة عنها ذاته الى ان وصل الى مقام ومرتبة قد طويت المراتب عندها وفنيت العوالم بأسرها فيها وفنى هو ايضا فيها بل قد فنى فناءها ايضا فيها ولم ينزل منها هابطا أصلا بل تقرر وتمكن واطمئن فيها كما نشاهد نحن مثلها متحسرين إليها متمنين لها من بعض بدلاء الزمان ادام الله ظله العالي على مفارق اهل اليقين والعرفان وإبهام اسمه انما هو لإبهام شانه هيهات هيهات مالنا وماله حتى نتكلم عنه جعلنا الله من خدامه وتراب اقدامه وبعد ما امر سبحانه عباده بحج بيته تعظيما له ولبيته حثهم على مطلق الخيرات وبذل المال فيها وفي طريقها ليتقرر في نفوسهم هذه الخصلة الحميدة إذا البخل انما هو المانع عن ميل القلوب الى المحبوب الحقيقي الا وهو أساس كل فتنة ورأس كل خطيئة فقال وَما تَفْعَلُوا لرضاء الله مِنْ خَيْرٍ خالص عن شوب المنة والأذى عار عن امارات العجب والرياء سالم عن وسوسة شياطين الأهواء يَعْلَمْهُ اللَّهُ بعلمه الحضوري إذ أمثال هذه الخيرات جارية على مقتضى العدالة الإلهية التي هي عبارة عن صراط الله الأعدل الأقوم وَبالجملة تَزَوَّدُوا للعبور عن صراط الله بالتقوى عن الدنيا وما فيها فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ للعباد انما هو التَّقْوى عن عموم المحارم والفسادات وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ المتوجهين الى لب اللباب المتمائلين عن القشور العائقة عن الحضور. أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف
لَيْسَ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون جُناحٌ ضيق وتعب بعد اتقائكم عن سخط الله وتزودكم بالتقوى أَنْ تَبْتَغُوا وتطلبوا اى كل منكم فَضْلًا من المعارف اليقينية واللذات الروحانية مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم فَإِذا أَفَضْتُمْ وانتشرتم أنتم ايها المؤمنون مِنْ عَرَفاتٍ الذات المحيطة بجميع الصفات المربية لكم. وجمعها باعتبار وصول كل من الواصلين إليها بطريق مخصوص وان كانت بعد الوصول إليها واحدة وحدة حقيقية ذاتية لا كثرة فيها أصلا فَاذْكُرُوا اللَّهَ المستجمع لذواتكم عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ اى الصفات المحرم ثبوتها لغير ذات الله أفرده سبحانه لاختصاص كل من افراد الإنسان بصفة مخصوصة تربيه وتختص به وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ بتفويض الأمور كلها اليه واستعيذوا به من وساوس شياطين الأوهام والأهواء المضلة وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ اى قبل هدايته لَمِنَ الضَّالِّينَ التائهين في بيداء الضلالة الناكبين عن طريق الهداية الحقيقية
ثُمَّ لما تم توجهكم ووقوفكم بعرفة الذات وتحققكم فيها أَفِيضُوا منها وانتشروا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ تنزلوا منها الى المراتب المترتبة على الصفات وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ المحيط بكم فيها إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ساتر لذنبكم وتعيناتكم رَحِيمٌ بكم يوصلكم الى مبدأ كم الأصلي بعد رفع تعيناتكم
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ المأمورة لكم من الاجتناب عن مقتضيات الحيوة الطبيعية(1/70)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
والاتصاف بمقتضيات الحيوة الحقيقية فَاذْكُرُوا اللَّهَ الهادي لكم الى هذه المرتبة كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ بلا تردد وتشكيك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً بل ذكر الله أشد وضوحا من ذكر الآباء إذ قد يجرى فيه التشكيك بخلاف ذكر الله المتفرع على الشهود المستتبع للفناء فيه فانه خال عن وصمة الريب مطلقا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يحصر التوجه والرجوع الى الله والمناجاة معه في فوائد النشأة الاولى فقط لذلك يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا ما نحن محتاجين اليه من امور معاشنا وَهو وان وصل الى مبتغاه في الدنيا ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ حظ ونصيب لصرفه استعداده الى ما لا يعنيه حقيقة بل يضره ويغويه
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ جامعا بين الظاهر والباطن والاولى والاخرى رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ترضى بها عنا وتقبلها منا وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً توصلنا الى توحيدك وَقِنا بلطفك عَذابَ النَّارِ اى نار الإمكان المحوج الى الذات الوهمية المنتجة لانواع الخيبة والخذلان
وبالجملة أُولئِكَ المؤمنون الموحدون الجامعون بين رتبتي الظاهر والباطن لَهُمْ نَصِيبٌ حظ كامل ونصيب شامل مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا التي هي مزرعة الآخرة من المعارف اللدنية والكشوف الإلهية وَاللَّهُ المحيط بهم وبضمائرهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم ويجازيهم على ما كسبوا
وَاذْكُرُوا اللَّهَ بعد تتميمكم مناسككم وآداب وقوفكم بعرفة فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هي ايام التشريق فَمَنْ تَعَجَّلَ اى استعجل للرجوع والنفر فِي يَوْمَيْنِ اى في ثانى ايام التشريق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ باستعجاله وَمَنْ تَأَخَّرَ ايضا فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بتأخيره يعنى أنتم مخيرون في استعجال النفر وتأخيره بعد ما وصلتم الى ما وصلتم واعلموا ان العاقبة الحميدة لِمَنِ اتَّقى عن محارم الله والتجأ نحوه من غوائل نفسه وتسويلاتها وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ في جميع ما صدر ويصدر عنكم واستحفظوا منه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بأجمعكم إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الظل الى ذي الظل ومن جملة الآداب الموضوعة فيكم بوضع الله المدبر لأموركم المهذب لأخلاقكم الاجتناب عن الجلساء السوء
لذلك خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلّم امتنانا عليه وإرشادا لكم ايها المؤمنون فقال وَمِنَ النَّاسِ المجبولين على البغض والنفاق المستمرين عليه دائما بلا تصفية ووفاق مَنْ يُعْجِبُكَ ويوقعك في التعجب المحير العارض لنفسك يا أكمل الرسل بلا علمك بموجبه وسببه قوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا اى مقوله المتعلق بأمور الدنيا واسباب المعاش وذلك ان من نظم امور الدنيا وترتيبها ولم يتوسل بها الى الآخرة ولذاتها كما هو المشهور بين اهل الدنيا يسمونه عقل المعاش وَمع اغرائه وتغريره إياك بقوله يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ من حب الدنيا ويدعى موافقة كلام الله وحكمة المودعة فيه على ما يدعيه تأكيدا ومبالغة لا تغفل عنه يا أكمل الرسل ولا تغتر بقوله واغرائه وَاعلم انه هُوَ في نفسه أَلَدُّ الْخِصامِ وأشد العداوة والجدال معك ومع من تبعك من المؤمنين فعليك ان لا تغتر بعذوبة لسانه وحلاوة بيانه. قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان من بلغائهم وفصحائهم له الوجاهة والطلاقة وحسن المحاورة والمصاحبة يتردد الى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويصاحب معه نفاقا ويظهر المحبة والإخلاص مراء ويدعى الايمان له والانقياد بدينه استهزاء
وَإِذا تَوَلَّى انصرف وأدبر من عنده صلّى الله عليه وسلّم سَعى فِي الْأَرْضِ الموضوعة للإصلاح فيها والصلاح لِيُفْسِدَ فِيها بأنواع الفسادات وَمن جملة ذلك يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ بالظلم والفسوق والعصيان المتجاوز عن الحد وانواع الطغيان والعدوان مثل الزنا وقطع الطريق والخروج على الولاة القائمين(1/71)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
بحدود الله المقيمين باحكامها كالمتشيخة المبتدعة الذين ظهروا في هذه الامة في زماننا هذا بإفساد عقائد ضعفاء المسلمين بالشيخوخة وترغيبهم الى البدع والأهواء الباطلة المؤدية الى تحليل المحرمات الشرعية ورفع التكاليف الدينية والمعتقدات اليقينية شتت الله شملهم وفرق جمعهم وَاللَّهُ الهادي للعباد
لا يُحِبُّ الْفَسادَ وَمن غاية عتوه وعناده ونهاية استكباره إِذا قِيلَ لَهُ امحاضا للنصح اتَّقِ اللَّهَ عن أمثال هذه الفضائح واستحى منه سبحانه أَخَذَتْهُ قد هيجته وحركته الْعِزَّةُ والحمية الجاهلية المرتكزة في نفسه بِالْإِثْمِ الذي قد منع عنه بحيث أصر عليه لجاجا وعنادا وبالجملة فَحَسْبُهُ وحسب أمثاله جَهَنَّمُ الإمكان الذي يلعبون بنيرانها كفت مؤنة شرورهم وطغيانهم وَالله لَبِئْسَ الْمِهادُ هذا الإمكان المستتبع لمهد النيران المتضمن لانواع الخذلان والحرمان واصناف الخيبة والخسران وايضا من جملة الآداب الموضوعة فيكم بل من أسناها وأجلها الرضاء والتسليم بعموم ما جرى من قضاء الله ومقضياته
لذلك قال سبحانه وَمِنَ النَّاسِ المتشمرين الى الله بالرضاء والتسليم مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ويوقعها في المهلكة لا لداعية دنيوية تنبعث من نفسها بل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ طالبا لرضاه راضيا بجميع ما قضى له وَاللَّهُ المطلع بعموم الحالات رَؤُفٌ عطوف مشفق بِالْعِبادِ سيما الصابرين في البلوى الراجعين الى المولى الراضين بما يحب ويرضى ثم لما كان الرضاء والتسليم من احسن احوال السالكين المتوجهين الى الله الكريم العزيز العليم وارفعها قدرا ومنزلا عنده أمرهم سبحانه بها امتنانا عليهم وإصلاحا لحالهم
فقال مناديا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الرضاء والتسليم ادْخُلُوا ايها المستكشفون عن سرائر التوحيد فِي السِّلْمِ اى الطاعة والانقياد المتفرعين على الرضاء والإخلاص المنبئين عن التحقق بمقام العبودية كَافَّةً اى ادخلوا في السلم حال كونكم مجتمعين كافين نفوسكم عما يضر إخلاصكم وتسليمكم وَلا تَتَّبِعُوا ايها المتوجهون الى مقام العبودية والرضاء اثر خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى الأهواء والآراء المضلة عن طريق الحق المعبرة عنها في عرف الشرع بالشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة والإضلال يضلكم عما يهديكم الحق اليه
فَإِنْ زَلَلْتُمْ وانصرفتم عن طريق الحق مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ المبينة الموضحة لكم طريقه فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب قادر على انواع الانتقام حَكِيمٌ لا ينتقم الا بالحق
هَلْ يَنْظُرُونَ اى ما ينتظر المزلون عن طريق الحق سيما بعد الوضوح والتبيين إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بعذابه المدرج المكنون فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ السحاب الأبيض المظل لهم صورة يتوقعون منه الراحة والرحمة وَالْمَلائِكَةُ الموكلون بجر سحب العذاب إليهم فانزل عليهم العذاب واستأصلهم بالمرة وَقُضِيَ الْأَمْرُ المحكم والحكم المبرم المقصى عليهم من عنده سبحانه لانتقامهم كالأمم الماضية وَبالجملة إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ أولا بالذات وان تشكك احد في الانتقام ونزول العذاب على المزلين المنصرفين عن طريق الحق سيما بعد الوضوح والتبيين قل يا أكمل الرسل نيابة عنا إلزاما له
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وتذكر قصتهم كَمْ كثيرا آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ مبينة في كتبهم فأنكروا عليها ظلما وعدوانا فأخذناهم بظلمهم الى ان استأصلناهم بالمرة وَلا يختص هذا ببني إسرائيل بل كل مَنْ يُبَدِّلْ ويغير نِعْمَةَ اللَّهِ المستلزمة للشكر والايمان كفرا وكفرانا سيما مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ من لدنا تفضلا وإحسانا فله من العذاب والنكال ما يستحقه فَإِنَّ اللَّهَ المتجلى باسمه المنتقم شَدِيدُ(1/72)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
الْعِقابِ صعب الانتقام سريع الحساب
ثم ذكر سبحانه مساوي اهل الكفر والنفاق وسوء معاملتهم مع المؤمنين المخلصين ليجتنب المؤمنون عن أمثاله فقال على وجه الاخبار زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اى قد حسن وحبب في عيونهم وارتكز في قلوبهم الْحَياةُ الدُّنْيا اى الحيوة المستعارة المنسوبة الى الدنيا وَادى أمرهم في هذا التزيين والتحسين الى ان يَسْخَرُونَ ويستهزؤن مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اى صار المؤمنون بفقرهم وعرائهم عن امتعة الدنيا الدنية ورثاثة زيهم وحالهم محل استهزائهم وسخريتهم متى قصدوا الاستهزاء على فاقدى الدنيا أخذوا منهم وَالحال ان المؤمنين الَّذِينَ اتَّقَوْا عن لذائذ الدنيا ومزخرفاتها الفانية الغير الباقية يكونون فَوْقَهُمْ رتبة ومنزلة عند الله يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد لجزاء الأعمال الحاصلة في النشأة الاولى وَاللَّهُ الرازق للكل يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من عباده الرزق الدنيوي بِغَيْرِ حِسابٍ فيها ابتلاء واختبارا بل يمهلهم على تجبرهم وتكبرهم مفتخرين بمزخرفاتها الى النشأة الاخرى فيحاسبهم ويجازيهم عليها ويرزق ايضا من يشاء من عباده بالرزق الأخروي بغير حساب لا في النشأة الاولى ولا في الاخرى بل قد صار أولئك السعداء المقبولون متمكنين في حمائه سبحانه ازلا وابدا بحيث لا يشوشهم الحساب ولا تتفاوت عندهم اللذة والعذاب بل صاروا بما صاروا بلا سترة وحجاب آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
ثم قال سبحانه كانَ النَّاسُ في الفطرة الاصلية والمرتبة الحقيقية الجبلية أُمَّةً واحِدَةً وملة وحدانية متوجهة الى مبدئهم الحقيقي ومقصدهم الأصلي طوعا ثم اختلفت آرائهم وتشتتت أهواءهم بمقتضيات القوى الحيوانية التي هي من جنود إبليس فظهر بينهم العداوة والبغضاء والمجادلة والمراء فَبَعَثَ اللَّهُ المدبر لأمورهم النَّبِيِّينَ من بنى نوعهم المؤيدين من عند ربهم مُبَشِّرِينَ لهم طريق الإطلاق والتوحيد وَمُنْذِرِينَ لهم عن الكثرة والتقييد وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ تصديقا لهم الْكِتابَ الجامع لعموم ما يبشر به وينذر عنه ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع لِيَحْكُمَ كل نبي به بَيْنَ النَّاسِ المنسوبين اليه فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من امور معاشهم ومعادهم وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ اى في الكتاب المنزل إليهم بالتكذيب والإنكار احد من الناس إِلَّا القوم الَّذِينَ أُوتُوهُ اى الكتاب وما كان اختلافهم الا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحات المصدقات بانه منزل لهم من عند الله العليم الحكيم وبالجملة ما اختلفوا في عموم ما اختلفوا الا بَغْياً وعدوانا وخروجا عن طريق الحق وحسدا لأهله ناشئا من طغيانهم واقعا بَيْنَهُمْ من وساوس شياطينهم ومقتضيات اوهامهم وخيالاتهم من حب الجاه والرياسة والعتو والاستكبار فَهَدَى اللَّهُ بلطفه الَّذِينَ آمَنُوا بالنبي المبعوث إليهم والكتاب المنزل معه لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الأمور الدينية مع المعاندين المنكرين والحال انه اى اختلافهم ناشئ مِنَ الْحَقِّ الصريح المطابق للواقع واختلافهم ايضا معهم انما يكون بِإِذْنِهِ اى بامره المنزل في كتابه وَاللَّهُ المرشد الموفق لكل العباد الى ما هم عليه يَهْدِي بفضله مَنْ يَشاءُ من خلص عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى بابه بلا عوج وضلال أرجوتم وطمعتم ايها المحمديون المتوجهون الى زلال التوحيد وصفو التجريد والتفريد ان تصلوا اليه بانانيتكم هذه بلا سلوك ومجاهدة وسكر وصحو وتلوين وتمكين وقيد واطلاق ونفى واثبات وفناء وبقاء هيهات هيهات
أَمْ حَسِبْتُمْ وتمنيتم متوقعا أَنْ تَدْخُلُوا فجأة بهويتكم هذه بلا افنائها وفنائها في هوية الله الْجَنَّةَ التي ارتفعت عندها الهويات واضمحلت دونها الماهيات وَلَمَّا يَأْتِكُمْ اى لم يأتكم مَثَلُ الَّذِينَ(1/73)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلِكُمْ اى شانهم وقصتهم المشهورة المعروفة المنسوبة الى الأحرار الأبرار الواصلين الى دار القرار كيف مَسَّتْهُمُ بأبدانهم واجسادهم وهوياتهم الجسمانية الْبَأْساءُ المذلة المزمنة المزعجة المفنية لأنانياتهم وَكيف مستهم ايضا بأرواحهم المتكثرة باشباحهم المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية الضَّرَّاءُ المسقطة للاضافات كلها وَبعد ما وصلوا الى هذه المرتبة المعبرة عنها بالقيامة والطامة الكبرى عند العارف زُلْزِلُوا اى اضطربوا وتلونوا وتذبذبوا لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء وكان حالهم هكذا بين الحيرة والحسرة يترددون ويتحيرون الى ان قد غلب على قلوبهم المحبة والشوق وانبعث من المحبة الخالصة والارادة الصادقة الصافية العشق المفرط المنبعث من جذب المعشوق الحقيقي المائل بالطبع عموم المظاهر نحوه وحينئذ احتاجوا الى نصر الله وتوفيقه وجذبه بلطفه فاضطروا واضطربوا في بين وبين وصاحوا الى اين واين حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ المرشد لهم الى طريق التوحيد مناجيا مع الله رافعا اليه سبحانه أمرهم وَيقول ايضا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مشايعين له في قوله ودعائه مشاركين معه في هذا الاشتياق والاستبطاء وقلة التصبر وكمال الفزع والاضطرار والمراقبة والانتظار مَتى نَصْرُ اللَّهِ وغلبته علينا حتى تتخلص من التلون والتذبذب بل من التمكن بل الكون والتكون والظهور والإظهار والغيب والشهادة وغير ذلك من الإضافات مطلقا حتى قيل لهم حينئذ وما لنا تعيين القائل إذ لا قائل في الوجود الا هو منبها مستعربا مستعجبا مستغربا أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال الممدودة المتعددة المنتشئة من الأوصاف المحمودة الذاتية الاحدية المضافة بعضها الى بعض ارفعوا اضافتكم عن البين وغشاوتكم عن العين حتى تتصل العين بالعين ويرتفع البين عن البين وقولوا وما ادرى هاهنا ايضا من القائل وما المقول به وما المقول اليه وما هذا وماذا أدركنا بلطفك عن حجاب الألفاظ وغشاوة العبارة إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ وغلبته عليكم ايها الاظلال قَرِيبٌ حاضر غير مغيب لو تنبهتم الى ذي ظلكم والتنبه له محال الا لمن كشف سبحانه عليه كيفية الظل والاظلال والامتداد والتعدد الحاصل فيه والكوائن الغير المتناهية والمكونات الغير المحصورة الحاصلة فيه الكائنة من عكوس أوصافه واظلال أسمائه باشخاصها وأنواعها وأجناسها الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله وبالجملة لا تحوم الفهوم حول سرادقات عز جلاله حتى تتفوه عن مكنوناته ومصنوعاته إذ ليس كمثله شيء ليقاس عليه ولا دونه حي ليسمع فيه ويبصر به بل هو السميع وهو البصير وبالجملة ليس وراء الله مرمى ومنتهى
يَسْئَلُونَكَ اى الهادي للكل عن الانفاق وعن ما ينفق به وعن من ينفق عليه ويقولون ماذا يُنْفِقُونَ اى اى شيء ينفقه المنفق في سبيل الله قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة ما أَنْفَقْتُمْ اى اى جنس أنفقتم كما وكيفا سواء كان تمرة او كسيرة او حبة او ذرة صادرة مِنْ خَيْرٍ خالص عن شوب المنة والأذى فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إليكم بسببهما اى فهم اولى ان كانوا مستحقين وَبعد ذلك أولاهم الْيَتامى الذين لا متعهد لهم وَبعد ذلك الْمَساكِينِ الذين قد أسكنهم المذلة والهوان وَبعد ذلك ابْنِ السَّبِيلِ وهم الذين قد تعذر لهم الوصول الى املاكهم ومملوكاتهم وَبالجملة اعلموا ايها المؤمنون انه ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ خالصا لرضا الله سبحانه فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ بصدوره عنكم وبنياتكم فيه ثم لما ظهر امر الإسلام وعلا قدره وارتفع مناره فرض سبحانه على المؤمنين الموقنين بطريق التوحيد(1/74)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
المشاجرة والمقاتلة مع المخالفين الناكبين عن طريق الحق بالشرك والإشراك لتظهر شمس التوحيد على الآفاق ويضمحل شوب الكثرة والثنوية المنبعثة عن الكفر والنفاق ويتميز الحق عن الباطل والوجود عن العدم العاطل
فقال كُتِبَ عَلَيْكُمُ ايها المؤمنون الْقِتالُ مع مخالفيكم من اهل الكثرة وَهُوَ كُرْهٌ مكروه مستهجن لَكُمْ مذموم عندكم ما دمتم في انانيتكم وهويتكم هذه وما دمتم أنتم فيها مع تكثر الإضافات ولوازم الإمكان وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً في النشأة الاولى وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في النشأة الاخرى وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً فيها وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فيها وَبالجملة اللَّهُ المطلع بسرائركم يَعْلَمُ خيركم ويأمركم به وشركم فيحذركم عنه وَأَنْتُمْ بمقتضى هويتكم هذه لا تَعْلَمُونَ شيأ من الخير والشر بل لكم التعبد والإطاعة والانقياد بعموم ما امر ونهى والعلم عند الله العزيز العليم وسرائر الأمور واسراره مخزونة عنده محفوظة لديه لا يعلمها الا هو
يَسْئَلُونَكَ ايضا ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ اهو من المحرمات الإلهية بمقتضى حكمته البالغة أم لا ويسئلونك ايضا عن قِتالٍ واقع فِيهِ اهو ايضا من المحرمات الشرعية أم لا قُلْ يا أكمل الرسل للسائلين نيابة عنا هما من جملة محرماته سبحانه التي قد اقتضتها حكمته المتقنة البالغة بل قِتالٍ فِيهِ ذنب كَبِيرٌ إذ هو خروج عن مقتضى الحد الموضوع من لدنه سبحانه في هذا الشهر وَمع كونه ذنبا كبيرا صَدٌّ منع وصرف ايضا للتجار عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي قد أباح لهم سبحانه تكسب معاشهم وَمع ذلك العياذ بالله كُفْرٌ بِهِ اى بالله بعدم اطاعة امره وَصد ايضا عن طواف الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرم الله الصد والاعراض عنه روى انه عليه السّلام بعث عبد الله ابن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين ليترصد القفل الذي كان لقريش في جانب الشام وفيهم عمرو بن عبد الله الخضرمي وثلثة معه فلما ظفروا عليهم قتلوا الخضرمي وأسروا اثنين واستاقوا العير نحو المدينة وفيها تجارة للطائف ايضا وكان ذلك غرة رجب وهم يظنونه من جمادى فقال قريش قد استحل محمد الشهر الحرام مع انه قد كان شهرا يأمن فيه الخائف ويتردد الناس فيه الى معايشهم ثم لما سمع صلّى الله عليه وسلّم تعيير قريش قال لعبد الله ما أمرت لك بالقتال في الشهر الحرام وسوق العير فيه وشق هذا القول على اصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا فنزلت ورد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العير والأسارى فلاموه وعيروه على ما صدر عنه وقالوا يتوجه الى المسجد الحرام ويمنع الزوار منه رد الله عليهم فقال وَإِخْراجُ أَهْلِهِ اى اهل المسجد الحرام مِنْهُ عدوانا وظلما أَكْبَرُ ذنبا عِنْدَ اللَّهِ من منع الزوار والقتل سهوا او خطأ ناشئا من عدم التدبر في تعيين الوقت إذ الإخراج افتتان بين المسلمين المستأهلين ببيت الله وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ إذ شرها عام ممتد بخلاف القتل وَبالجملة ان الكفار المصرين على الكفر والعناد لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ ايها المؤمنون حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ المنزل عليكم من ربكم هداية لكم إِنِ اسْتَطاعُوا وَالحال انه مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الذي هو الايمان والتوحيد فَيَمُتْ بعد الارتداد وَهُوَ كافِرٌ ساتر طريق الحق تارك مشرب التوحيد فَأُولئِكَ الكافرون المرتدون عن طريق الإسلام قد حَبِطَتْ انحطت واضمحلت وسقطت عن درجة الاعتبار عند الله أَعْمالُهُمْ الصادرة عنهم بالمرة بحيث لا تفيد لهم أصلا لا فِي الدُّنْيا لحرمانهم عن مصاحبة اهل الايمان والعرفان وَلا في الْآخِرَةِ لإرجاعهم(1/75)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
أنفسهم الى قعر الإمكان المفضى الى أسفل دركات النيران وَبالجملة أُولئِكَ المحرومون عن لذة التوحيد أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالتوحيد الذاتي وادي ايمانهم الى ان قد وصلوا بمرتبة اليقين العلمي وَالَّذِينَ هاجَرُوا وتركوا ما يضاده وينازعه الى ان وصلوا الى مرتبة اليقين العيني وَبعد ذلك جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع نفوسهم الى ان وصلوا بل اتصلوا وحصلوا باليقين الحقي أُولئِكَ المقربون المتدرجون في طريق الوصول يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ما داموا في السلوك باشباحهم وَاللَّهُ المطلع بضمائر عباده غَفُورٌ ساتر لهم أشباحهم عن عيون بصائرهم رَحِيمٌ لهم يوصلهم الى ما يتوجهون اليه حسب فطرتهم الاصلية من جنة الذات بمنه وجوده أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف
يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أهما من المحرمات الإلهية أم لا قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ اما في الخمر فلكونه معطلا للقوى المدركة مزيلا للعقل الجزئى المودع في هيكل الإنسان ليتوصل به الى العقل الكل المتفرع على الاسم العليم الشامل لجميع ما كان ويكون الا وهو اللوح المحفوظ والكتاب المبين واما في الميسر فلكونه متلفا للمال الذي هو سبب تعمير البدن الذي هو مخزن جوهر العقل المركوز ومركب الروح الذي اختص الله به الإنسان وبه استحق رتبة الخلافة والنيابة الإلهية وَبالجملة وان كان فيهما مَنافِعُ لِلنَّاسِ اى لبعضهم من المرضى الذين لا يمكنهم العلاج بدون ازالة عقولهم به او التداوى لهم منحصر في الخمر عند اصحاب الطب ومن استغناء بعض السفلة من الناس واسترزاقهم بالميسر وَلكن إِثْمُهُما عند اولى النهى واليقين أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما عندهم بل لا نفع فيهما بالنسبة إليهم إذ لا يبقى لهم علاقة مع أبدانهم ليصلحوها او يصححوها بالتداوى وَايضا يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل ماذا يُنْفِقُونَ اى من اى شيء ينفقون وعلى اى وجه ينفقون قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا أنفقوا الْعَفْوَ اى الفاضل من أموالكم لئلا تتضرروا بالجهد وليسهل عليكم التجاوز عنه ولا يشق على انفسكم إنفاقه كَذلِكَ اى على الوجه الأحسن الأسهل يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ جميع الْآياتِ المنزلة عليكم والاحكام الموردة لإصلاح حالكم لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ رجاء ان تتأملوا
فِي الدُّنْيا اى في الآيات المتعلقة لأمور الدنيا فتتصفوا بها فيها وَايضا تتأملوا في الآيات المتعلقة لأمور الْآخِرَةِ فتحققوا بها وتتمكنوا عليها وتطمئنوا بسببها ليتم لكم تهذيب الظاهر والباطن وبعد ذلك يترتب على وجودكم وظهوركم ما يترتب وَيَسْئَلُونَكَ ايضا عَنِ الْيَتامى الذين لم يبلغوا الحلم ولا متعهد لهم من ذوى القربى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ أحوالهم خَيْرٌ وثواب عظيم للمؤمنين من ابقائهم في المذلة والهوان وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ من غاية المرحمة والاشقاق فَإِخْوانُكُمْ في الدين يجزيكم الله خيرا ان كنتم قاصدين فيه إصلاحهم ورعايتهم دون إفساد مالهم وعرضهم وَاللَّهُ المطلع بما في ضمائر عباده يَعْلَمُ ويميز الْمُفْسِدَ المبطل منكم مِنَ الْمُصْلِحِ المحق فيجازى كلا منهم على مقتضى علمه بهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ المطلع لإفسادكم واعناتكم ان يعنتكم ويفسد عليكم لَأَعْنَتَكُمْ اذلكم وافسدكم البتة أشد من افسادكم واعناتكم إياهم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب قادر على وجوه الانتقام حَكِيمٌ لا ينتقم بلا موجب
وَمن جملة الاحكام الموضوعة لإصلاحكم ان لا تَنْكِحُوا ايها المؤمنون النساء الْمُشْرِكاتِ الكافرات حَتَّى يُؤْمِنَّ لئلا يختلط ماءكم بمياههن وليوجد(1/76)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
الولد على فطرة الإسلام وَاعلموا ايها المؤمنون لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ لكم ان تنكحوها مِنْ حرة مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ مالها وجمالها وَايضا لا تَنْكِحُوا أيتها المؤمنات الْمُشْرِكِينَ الكافرين حَتَّى يُؤْمِنُوا وَاعلمن أيتها المؤمنات لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ لنكاحكن خَيْرٌ مِنْ حر مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ماله وجماله إذ لا كفاءة بين المؤمن والكافر وبالجملة أُولئِكَ المشركون والمشركات يَدْعُونَ اى يريدون ويقصدون دعوتكم إِلَى النَّارِ المتفرعة على شركهم وكفرهم وَاللَّهُ الهادي لكم الى امتزاج المؤمنين مع المؤمنات الحفيظ المراقب لكفاءتكم في النكاح والإنكاح يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ المتفرعة على الايمان والتوحيد وَالْمَغْفِرَةِ المستلزمة لرفع الآثام والمعاصي بِإِذْنِهِ اى بتوفيقه واقداره وَيُبَيِّنُ آياتِهِ اى أحكامه وآدابه وأخلاقه في كتابه لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ رجاء ان يتذكروا ويتعظوا بها ليهتدوا الى زلال التوحيد
وَيَسْئَلُونَكَ ايضا عَنِ الْمَحِيضِ روى ان اهل الجاهلية كانوا لم يسكنوا مع الحيض ولم يأكلوا معهن كاليهود والمجوس واستمر ذلك منهم الى ان سئل ابو الدحداح مع جمع من الصحابة عن ذلك فنزلت قُلْ يا أكمل الرسل هُوَ أَذىً يتأذى منه من يقربه فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ بالإتيان والوقاع لا بالمصاحبة والمحافظة حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قاصدين فيه حكمة إبقاء نوع الإنسان المستخلف عن الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ عن الميل الى خلاف ما امر الله به وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ عن الأدناس الظاهرة والباطنة وبالجملة
نِساؤُكُمْ ايها المؤمنون حَرْثٌ لَكُمْ اى موضع حراثتكم ومحل إتيانكم فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مقبلين او مدبرين روى ان اليهود كانوا يقولون من جامع امرأته من جانب دبرها كان ولده أحول رد الله عليهم بهذه الآية وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ايها المستكشفون عن سرائر الأمور من الحكم والأسرار المودعة في التلذذ والتزوج والانبعاث والشوق والانتعاش وانواع الكيفيات المستحدثة عند الوقاع ولا تغفلوا عن سرائره ولا تطمئنوا بمجرد قضاء شهوة كالحيوانات العجم وَاتَّقُوا اللَّهَ عن الخيانة والخباثة والإتيان الى غير المأتى المأمورة في الشرع وغير ذلك من المحظورات المسقطة لحرمات الله الواقعة في امر الجماع والاجتماع إذ هي مزلة اقدام اولى الأحلام من عظماء الأنام وَبالجملة اعْلَمُوا بأجمعكم أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ سبحانه فتزودوا بزاد يليق بجنابه ويقبل في بابه وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُؤْمِنِينَ القائمين بحدود الله المحافظين عليها الخائفين من خشية الله الراجين من رحمته بان لهم عند ربهم روضة الرضاء وجنة التسليم
وَمن جملة الأخلاق المنزلة لكم ان لا تَجْعَلُوا اللَّهَ اى اسم الله عُرْضَةً وجهة ومعرضا لِأَيْمانِكُمْ المتعلقة بكل دنى خسيس وحق وباطل اى لا تكثروا الحلف بالله في الأمور إذ أنتم لبشريتكم ما تخلون عن شوب الكذب والبطلان ما لكم والتلفظ باسم الحق الحقيق بالحقية سيما لترويج الأمور المزخرفة الباطلة ان أردتم أَنْ تَبَرُّوا افعلوا الخيرات وواظبوا على الطاعات وتوجهوا الى الله في عموم الأوقات وشمول الحالات وَان أردتم ان تَتَّقُوا اجتنبوا عن المحظورات واحذروا عن المحرمات وارجعوا نحو ربكم بإسقاط عموم الإضافات وَان أردتم ان تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ تليينا لقلوبهم ادعوهم الى طريق الحق بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلوهم بالتي هي أقوم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم عَلِيمٌ بنياتكم فيها فيجازيكم على مقتضى علمه بحالكم هذا في الايمان المثبتة للواقع والاحكام المقارنة للقصد والارادة واما الايمان(1/77)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
الجارية على السنة العوام بلا اثبات شيء ونفيه بل على سبيل الاتفاق فمما يعفى عنه لذلك
قال سبحانه لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ الواقع فِي أَيْمانِكُمْ بلا قصد وارادة وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ بواسطة الايمان الكاذبة من الأمور الباطلة التي لا تطابق الواقع فلبستم فيها وأتيتم بها وَاللَّهُ غَفُورٌ لكم لو تبتم ورجعتم اليه عما صنعتم وكسبتم من الآثام حَلِيمٌ لا يعجل بالانتقام رجاء ان يتوبوا عنها
ثم قال سبحانه لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ اى يحلفون ان يمتنعوا مِنْ وقاع نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ اى يلزم عليهم الانتظار الى ان تنقضي مدة اربعة أشهر فَإِنْ فاؤُ ورجعوا في هذه المدة عن الحلف بان جامعوا معهن في أثناء هذه المدة حنثوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ بحنثهم يتجاوز عنهم بالكفارة رَحِيمٌ لهم بابقاء النكاح بينهم
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ بلا حنث الحلف فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع منهم الطلاق عَلِيمٌ بنفرة قلوبهم منهن
وَالْمُطَلَّقاتُ المدخولات بهن يَتَرَبَّصْنَ وينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ اى مضى مدتها والقرء يطلق على الحيض والطهر واصل وضعه لانتقال من الطهر الى الحيض وهو المراد في الآية لأنه لاستبراء الرحم وهو الدال على البراءة وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ اى للمطلقات المعتدات أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ مدة العدة من الحيض والولد لئلا يختلط النسب إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ العالم بالسرائر والخفايا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ التي تبلى فيه جميع السرائر والضمائر وَبالجملة بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ أليق واولى بِرَدِّهِنَّ إليهم فِي ذلِكَ اى في زمان التربص إِنْ أَرادُوا اى الأزواج إِصْلاحاً وَاعلموا ايها المؤمنون ان لَهُنَّ عليكم من الرعاية والمحافظة والاستيناس وغير ذلك مِثْلُ الَّذِي لكم عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ من الحقوق والرعاية والمحافظة على آداب الخدمة وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فضيلة بحسب الخلقة والعقل والتمييز وكمال الايمان والمحافظة على حدود الله وامتثال مأموراته وَاللَّهُ عَزِيزٌ يعز من يشاء ويذل من يشاء منهم حَكِيمٌ في فعله لا يسأل عما يفعل
ثم قال سبحانه الطَّلاقُ الصادر عن اولى العزائم وذوى الألباب مَرَّتانِ مرة عند عروض النفرة المنافية للرغبة السابقة المستلزمة للزواج والازدواج المنبعث عن الطبيعة المقتضية بالطبع للاختلافات والازدواجات الواقعة بين اسبابها الا وهي الأوصاف الذاتية الإلهية ثم إذا رجع العازم عنه لا بد ان يكون رجوعه ايضا عن روية وتدبير بان يلاحظ انه بسبب انبعاث الرغبة السابقة واشتياقها ثانيا فيكذب نفسه ويرجع إليها وان طلقها بعد تلك الرجعة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ اى فعليه بعد الطلقة الثانية احد الأمرين ولا يتجاوز عنه الى الطلقة الثالثة والا لسقط من زمرة العقلاء العازمين على الأمور الشرعية بالعزيمة الخالصة اما إمساك بالمعروف المستحسن عند الله وعند المؤمنين بل لا بد ان يكون هذا الإمساك احسن من الإمساك السابق على الطلاق حين الوفاق أَوْ تَسْرِيحٌ واطلاق وتبعيد مقارن بِإِحْسانٍ من مال وخلق حسن وكلمة طيبة ليرتفع غبار العداوة والبغضاء الواقعة باغواء الشيطان بينهما وَلا يَحِلُّ لَكُمْ ايها الحكام المقيمون للاحكام الشرعية أصلا أَنْ تَأْخُذُوا من النساء مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ من المهور والصدقات شَيْئاً وتردوه الى أزواجهن إِلَّا أَنْ يَخافا اى الزوجان كل منهما على نفسه أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ الموضوعة من عنده سبحانه لإصلاح حالهما فَإِنْ خِفْتُمْ ايها الحكام ايضا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بينهما فَلا جُناحَ ولا اثم عَلَيْهِما اى على الرجل في أخذ ما افْتَدَتْ بِهِ المرأة بدل الخلاص والطلاق وعلى المرأة لاعطائه له(1/78)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
وبالجملة تِلْكَ الاحكام المذكورة حُدُودَ اللَّهِ الموضوعة بينكم ايها المؤمنون لإصلاح أحوالكم فَلا تَعْتَدُوها اى لا تتجاوزوا عنها بالمخالفة وَعدم الامتثال واعلموا ان مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ اى المتجاوزون عن حد الانسانية الى البهيمية المضيعون لمقتضيات العقل الشريف المفاض عليهم من لدنه سبحانه
فَإِنْ طَلَّقَها ثالثا اى ان وقع الطلاق بينهما بعد المرتان فَلا تَحِلُّ المرأة المطلقة لَهُ اى للرجل المطلق مِنْ بَعْدُ اى بعد وقوع الطلقة الثالثة حَتَّى تَنْكِحَ وتتزوج المرأة زَوْجاً ثانيا مواقعا إياها إذ لا يكفى مجرد النكاح بلا وقاع غَيْرَهُ اى غير الزوج الاول فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا اى يرجع كل من الزوج الاول والمرأة الى الآخر بالزواج والازدواج ويلمس كل منهما عسيلة الآخر بل الزوج الاول عسيلة الزوج الثاني ان اشتهى وذلك حسن إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بينهما وَتِلْكَ الاحكام المذكورة حُدُودَ اللَّهِ الموضوعة بين عباده انما يُبَيِّنُها يظهرها ويوضحها سبحانه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعقلون ويفهمون سرائر حدوده ويعملون بها بمقتضى العقل المفاض إذ التكاليف الواقعة في الشرع انما هي له
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ اى قرب انقضاء عدتهن فَأَمْسِكُوهُنَّ اى فعليكم بعد ما قرب انقضاء مدة العدة ان تراجعوهن فيها وتمسكوهن بِمَعْرُوفٍ مستحسن عقلا وشرعا أَوْ سَرِّحُوهُنَّ وفارقوهن بِمَعْرُوفٍ حتى لا يتضررن بطول المدة وَعليكم ان لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً اى لمجردان تضروهن لِتَعْتَدُوا وتبقوا مدة طويلة بلا محبة ومودة حتى يأتيهن الموت كما يفعله الجهال غيرة وحمية وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الفعل القبيح منكم فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بالتعريض على عقاب الله بابطال حكمته وتعطيل محل ظهور خلقه وقدرته وَبالجملة لا تَتَّخِذُوا ايها المؤمنون المكلفون آياتِ اللَّهِ النازلة عليكم المشتملة على إصلاح أحوالكم وأخلاقكم هُزُواً اى محل استهزاء تتهاونون بها وتأخذونها هملا بل احذروا من بطش الله وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ وواظبوا بشكرها وَاعملوا بمقتضى ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ لإصلاح حالكم مِنَ الْكِتابِ المبين لكم طريق المعاش في النشأة الاولى وَالْحِكْمَةِ الموصلة لكم الى ذروة التوحيد في النشأة الاخرى يَعِظُكُمْ بِهِ فعليكم ان تتعظوا وتتذكروا به وَاتَّقُوا اللَّهَ من مساخطته وانتقاماته ولا تتجاوزوا عن حدوده المبينة في كتابه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المحيط بكم وبعموم أحوالكم بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنكم من الخير والشر والنفع والضر العائد لنفوسكم عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعزب عن علمه شيء مما ظهر وكان ويظهر ويكون
وَإِذا طَلَّقْتُمُ ايها المؤمنون النِّساءَ اى منكوحاتكم فَبَلَغْنَ بعد الطلاق أَجَلَهُنَّ من العدة المقدرة في الشرع لاستبراء الرحم فَلا تَعْضُلُوهُنَّ اى لا تحبسوهن ولا تعيروهن ان أردن أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ كما يفعله الجهال من الحمية الجاهلية ذلِكَ العظة والتذكير المنزلة من عند الله يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وبجميع ما انزل من المواعظ والاحكام وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى بعموم ما فيه من الوعد والوعيد ذلِكُمْ اى امتثالكم بالمواعظ والاحكام والآداب والأخلاق أَزْكى لَكُمْ لتزكية نفوسكم عن الأهواء الفاسدة والآراء الباطلة وَأَطْهَرُ لقلوبكم عن متابعتها وَبالجملة اللَّهُ المدبر لأمور عباده يَعْلَمُ عموم مصالحهم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ مصالحكم فعليكم بالامتثال لأوامر الله والاجتناب عن نواهيه تعبدا وانقيادا
وَالْوالِداتُ سواء كن مطلقات او غيرهن يُرْضِعْنَ(1/79)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
ولا يضيعن أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ اى يجب لهن ان يرضعن أولادهن للأب الذي أراد إتمام إرضاع ولده وَيجب ايضا عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ اى على الأب رِزْقُهُنَّ اى أجور المرضعات الأمهات وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المتعارف المعتدل عقلا وشرعا إذ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها اى من سنته سبحانه ان لا يكلف عباده في مطلق التكاليف الا بما يطيقونه ويقدرون عليه لذلك لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها بان الزم عليها بانه ولد لك لا بد لك ان ترضعيه بلا اجرة وَلا يضار ايضا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ بان حمل وكلف عليه ما ليس في وسعه من اجرة الرضاعة وَان لم يكن المولود له موجودا يجب عَلَى الْوارِثِ والولي الحائز للتركة مِثْلُ ذلِكَ اى مثل ما يجب على المولود له من حفظ الولد وارضاعه فَإِنْ أَرادا اى المولود له والمرضعة قبل انقضاء الحولين فِصالًا فطاما صادرا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ اى مشورة واقعة بينهما في امر الطفل فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في هذا الفطام ان لم يتضرر الرضيع أصلا وان تضرر فللحاكم ان يمنعهما لئلا يفضى الى تضييع الرضيع وتخريب بناء الله وَإِنْ أَرَدْتُمْ ايها المؤمنون أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ اى تطلبوا المرضعة لا رضاع رضيعكم سواء كانت المرضعة أم الرضيع أم لا فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ اى لا ضيق ولا تعب عليكم ان تسلموا بالطريق المعروف المستحسن ما سميتم وعينتم من الاجرة للإرضاع قبل انقضاء مدة الرضاع وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور على تضييع الرضيع وتنقيص اجرة المرضعة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يجازيكم على مقتضى علمه وبصارته
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ايها المؤمنون وَيَذَرُونَ اى يتركون أَزْواجاً واحدة او ثنتان او ثلاثا او أربعا يَتَرَبَّصْنَ اى لزم عليهن ان ينتظرن ويعتدن بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً حتى يعلم ويظهر انهن حاملات أم لا فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ بان انقضت المدة المقدرة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها الحكام فِيما فَعَلْنَ فِي إصلاح أَنْفُسِهِنَّ من طلب الخطبة والخاطب والناكح والتجسس عنه والعرض عليه ان صدر عنهن هذه الأمور بِالْمَعْرُوفِ المستحسن في الشرع والعرف والا فعليكم الجناح ايها الحكام عند الله ان لم تمنعوهن وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ ايها الحكام من التهاون في اجراء أحكامه وحفظ حدوده خَبِيرٌ يؤاخذكم عليه ويجازيكم حسب خبرته
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ اى في كلام وألفاظ قد قصدتم به تعريضا حسنا وتلميحا مليحا خاليا عن وصمة الفساد ناشئا مِنْ ارادتكم خِطْبَةِ النِّساءِ المعتدات للوقاع واظهار الميل الى نكاحهن أَوْ أَكْنَنْتُمْ أضمرتم وأخفيتم فِي أَنْفُسِكُمْ مع انه قد عَلِمَ اللَّهُ المطلع لظواهركم وبواطنكم منكم وان أخفيتم أَنَّكُمْ لميل طبيعتكم إليهن سَتَذْكُرُونَهُنَّ فاذكروهن على الوجه الأحسن الأبعد عن التهمة وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا اى الوقاع والجماع اى لا تخالطوا معهن الى حيث ارتفع الحجاب عنكم فتتكلمون معهن بالكلمات الجارية بين الزوج والزوجة إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً يومى الى خطبتكم ونكاحكم اياهن ان خفتم ان يسبق عليكم غيركم من المريدين القاصدين لخطبتهن وَعليكم ان لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ اى لا تستعجلوا في العزيمة على العقدة قبل انقضاء أجل العدة حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ اى ما فرض في الكتاب من العدة المقدرة فيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المطلع لضمائركم يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من الخيانة في حدوده فَاحْذَرُوهُ من غضبه لتنجوا من عذابه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن عزم على المعصية ولم يفعل خوفا من الله(1/80)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
ومن بطشه حَلِيمٌ لا يعجل بعقوبة العاصين
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ اى لا وزر ولا اثم عليكم ايها المؤمنون إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ اى مادام لم تجامعوا معهن أَوْ لم تَفْرِضُوا وتقدروا لَهُنَّ فَرِيضَةً مهرا وصداقا وَمَتِّعُوهُنَّ اى عليكم ان تحسنوا لهن بعد ما طلقتموهن جبرا لما كسرتم من قلوبهن بالطلاق واعلموا ان التمتيع والإحسان عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ اى قدر وسعه ويسره وَكذا عَلَى الْمُقْتِرِ المعسر قَدَرُهُ اى قدر إعساره وإقتاره مَتاعاً اى متعوهن متاعا ملتبسا بِالْمَعْرُوفِ الذي يستحسنه الشرع والمروءة ولهذا صار ذلك التمتيع المجاز في الشرع حَقًّا
لازما عَلَى المؤمنين الْمُحْسِنِينَ الذين لا يريدون الأذى لاحد من الناس وان وقع منهم نادرا جبروا بالإحسان حفظا للمودة والإخاء الدينية
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَالحال انه قَدْ فَرَضْتُمْ سميتم وقدرتم لَهُنَّ فَرِيضَةً صداقا ومهرا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ اى لزمكم أداء نصف ما سميتم من المهر إليهن إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ اى المطلقات فلا يأخذن شيئا اتقاء عن التهمة أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ويرد جميع المهر إليها تبرعا وَأَنْ تَعْفُوا اى عفوكم ايها المؤمنون في أمثال هذا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى واقبل عند المولى وَبالجملة لا تَنْسَوُا ولا تتركوا الْفَضْلَ والإحسان بَيْنَكُمْ ايها المؤمنون الموقنون بل أحسنوا بعضا مما احسن الله لكم الى إخوانكم إِنَّ اللَّهَ المراقب لجميع ما صدر عنكم بِما تَعْمَلُونَ من الفضل والإحسان بَصِيرٌ يجازيكم عليه بفضله وجوده
ثم لما كان للعارف الحائر في بحر الحيرة هيولا وتوجهات متعددة حسب تجددات أنفاسه وتنفساته المستنشقة المستمدة بها من النفثات الرحمانية المهبة من قبل عين عالم اللاهوت المنتشئة من حضرة الذات الاحدية المتجلية بالتجليات الجمالية والجلالية المعبرة بالأسماء والصفات الإلهية المتخالفة في الآثار والمقتضيات على حسب الكمال أراد سبحانه ان ينبه عليه بمحافظة الصلوات والميول والأوقات كلها لئلا يشتغل عن الحق في وقت من الأوقات فقال حافِظُوا اى واظبوا وداوموا ايها المتوجهون نحو توحيد الذات عَلَى الصَّلَواتِ المكتوبة لكم في الأوقات المقدرة المحفوظة وَلا سيما الصَّلاةِ الْوُسْطى التي هي عبارة عن التوجه الرقيق المعنوي بين كل نفسين من أنفاسكم وَبالجملة قُومُوا ايها الاظلال الهالكة في أنفسها المستهلكة في الذات الاحدية إذ لا وجود لكم من ذواتكم لِلَّهِ المظهر لكم من كتم العدم بامتداد ظلال أسمائه ورش من زلال بحر جود وجوده عليكم قانِتِينَ خاضعين متذللين مفنين هويتكم الظلية الغير الحقيقية بالكلية في الهوية الحقيقية الإلهية
فَإِنْ خِفْتُمْ عن مقتضيات القوى البشرية فَرِجالًا اى فعليكم التوجه راجلين منسلخين عنها وعن مقتضياتها بالمرة أَوْ رُكْباناً راكبين عليها بتسخيرها بالرياضات الشاقة الى حيث تنصرف عن مقتضياتها بالمرة فَإِذا أَمِنْتُمْ من شرورها فَاذْكُرُوا اللَّهَ المفنى للغير والسوى مطلقا كَما عَلَّمَكُمْ وعلى الوجه الذي ألهمكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أنتم من وحدة ذاته لولا اعلامه والهامه بانزال سورة الإخلاص وكلمة التوحيد وغيرها من الآيات الدالة على توحيده الذاتي
ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ اى يستشرفون الى الوفاة مِنْكُمْ ايها المؤمنون وَيَذَرُونَ أَزْواجاً بعدهم لزمهم ان يوصوا وَصِيَّةً حصة مخرجة من أموالهم لِأَزْواجِهِمْ ليتمتعن بها مَتاعاً إِلَى انقضاء الْحَوْلِ بعد موتهم غَيْرَ إِخْراجٍ لهن من المسكن المألوف وكان ذلك في أوائل الإسلام ثم نسخت بتعيين المدة لعدة الوفاة من اربعة أشهر وعشرا(1/81)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
فَإِنْ خَرَجْنَ من مسكن الأزواج بعد الحول فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها الحكام وعليهن فِي ما فَعَلْنَ من التطيب وترك الحداد وطلب الخطبة فِي إصلاح أَنْفُسِهِنَّ ان كانت الأمور الصادرة منهن مِنْ مَعْرُوفٍ مستحسن مشروع مرخص فيه وان لم يكن كذلك فعليكم المنع ايها الحكام وعليهن الوزر والوبال وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب قادر على الانتقام ينتقم من المتجاوزين عن حدوده المتهاونين في اجراء أحكامه حَكِيمٌ في رعاية حقوق عباده وضبط مصالحهم
وَاعلموا ايها المؤمنون المطلقون ان لِلْمُطَلَّقاتِ مطلقا مَتاعٌ وتمتع بِالْمَعْرُوفِ المشروع المستحسن لازم لزوما حَقًّا حتما ثابتا عَلَى الْمُتَّقِينَ المطلقين لهن مأونهن في العدة اى جميع مؤنتهن عليهم فيها
كَذلِكَ اى مثل ما ذكر من احكام الطلاق والأمور المتفرعة عليه يُبَيِّنُ اللَّهُ الهادي لَكُمْ جميع آياتِهِ الدالة على توحيده لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تتأملوا فيها وتفوزوا بالفوز العظيم من عنده
ثم قال سبحانه تنبيها على المستيقظين المتذكرين أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى القوم الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وهم اهل داوردان هي قرية قبل واسط وقع فيهم طاعون فخرجوا هاربين وَهُمْ أُلُوفٌ كثيرة هرب الكل حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ بعد ما علم منهم الفرار عن قضائه مُوتُوا ايها الهاربون عن قضائنا جميعا فماتوا بالمرة ثُمَّ أَحْياهُمْ بدعاء حزقيل عليه السّلام حين مر على تلك القرية فأبصرهم قد عريت عظامهم وتفرقت أجسامهم فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى اليه ناد فيهم ان قوموا بأمر الله ومشيته فناديهم فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا اله الا أنت وما ذلك الا من كمال فضل الله عليهم ومزيد إحسانه إياهم إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده لَذُو فَضْلٍ تام واحسان عام عَلَى النَّاسِ المجبولين على الكفران والنسيان وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ولا يواظبون على أداء حقوق افضاله وانعامه وبوجه آخر «الم تر» ايها المعتبر الرائي «الى الذين خرجوا من ديارهم» المألوفة المأنوسة الا وهي بقعة الإمكان «و» الحال انه «هم ألوف» متألفون فيها مع بنى نوعهم «حذر الموت» الإرادي «فقال لهم الله» الهادي لعموم مظاهره الى توحيده الذاتي بلسان مرشديهم «موتوا» عن انانيتكم وهويتكم ايها المتوجهون الى بحر الحقيقة فماتوا عن مقتضيات القوى البشرية ولوازم الحيوة الطبيعية بالكلية «ثم أحياهم» الله بالحيوة الحقيقية والعلم اللدني والوجود العيني الحقيقي والبقاء الأزلي السرمدي وبالجملة «ان الله» المتكفل لأمور عباده «لذو فضل على الناس» اى الناسين منزلهم الأصلي ومقصدهم الحقيقي بايصالهم الى ما هم عليه قبل نزولهم الى فضاء الإمكان «ولكن اكثر الناس لا يشكرون» ولا يعقلون ولا يفهمون نعمة الوصول الى الموطن الأصلي والمقام الحقيقي حتى يقوموا بشكره ويواظبوا عليه
وَان أردتم ايها المؤمنون ان تكونوا من الشاكرين لنعم الحق الفائزين بفضله وإحسانه قاتِلُوا مع الكفرة التي هي عبارة عن القوى الحيوانية فِي سَبِيلِ اللَّهِ المفنى للغير مطلقا واعلموا ايها المؤمنون ان متم فالى الله تحشرون وان عشتم فالى الله تبعثون ومالكم ان لا تقاتلوا مع جنود الشياطين حتى تنجوا من مهلكة الإمكان وتصلوا الى فضاء الوجوب وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم المتعلقة بعدم الجهاد عَلِيمٌ بنياتكم المترتبة على الحيوة الطبيعية
مَنْ ذَا العارف الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ اى يفوض ويسلم هويته الامكانية وماهيته الكونية والكيانية الى الله المسقط للهويات مطلقا قَرْضاً حَسَناً تفويضا سلسا نشطا فرحانا بلا مضايقة(1/82)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
ولا مماطلة راضيا مما قضى عليه صابرا على عموم البلوى المقربة اليه فَيُضاعِفَهُ لَهُ بعد ما فنى عن هويته أَضْعافاً كَثِيرَةً لا يحيط بكنهها الا هو إذ المحدث متى قرن بالقديم قد ترتب عليه ما ترتب عليه بل قد سقطت الاثنينية بالكلية عن البين مطلقا وارتفع غبار الغيرية عن العين بالمرة وَاللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد يَقْبِضُ الى ذاته ما ينشر وَيَبْصُطُ من اظلال أسمائه وصفاته وآثار تجلياته الذاتية وَإِلَيْهِ لا الى غيره تُرْجَعُونَ ايها الاظلال والآثار طوعا وكرها
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الذين كانوا معرضين عن القتال في حيوة موسى صلوات الله عليه كيف اضطروا اليه مِنْ بَعْدِ وفاة مُوسى اذكر إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو يوشع او شمعون او اشمويل حين ظهرت العمالقة عليهم وخربوا ديارهم ونهبوا أموالهم وأسروا أولادهم ابْعَثْ لَنا مَلِكاً معينا نُقاتِلْ معه فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع أعدائه قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ يعنى أتفرس منكم الجبن والتقاعد إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ من عنده سبحانه وأخاف منكم أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا في جوابه حين سمعوا منه ما سمعوا وَما لَنا اى اى شيء عرض لنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع أعدائنا وَالحال انا قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا ظلما وعدوانا وَحرمنا عن أَبْنائِنا وأهلينا بسبب ترك القتال ولو لم نجاهد ولم نقاتل بعد لكنا مستأصلين بالمرة فَلَمَّا كُتِبَ وفرض عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا اى انصرفوا واعرضوا عنه مدبرين بعد ما بالغوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ مقدار ثلاثمائة وثلثة عشر بعدد اهل بدر ثبتوا على ما عاهدوا وَبالجملة اللَّهِ مطلع بما في ضمائر عباده عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ المجاوزين عن أوامره
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بالهام الله ووحيه إياه إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالحكم قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ من المرتجلات العجمية وجالوت ايضا وهما كنايتان عن جنود الامارة والمطمئنة مَلِكاً يولى أموركم ويقاتل مع عدوكم وهو كناية عن العقل المفاض لهم من قبل ربهم قالُوا مستكبرين مستنكفين أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا اى من اين يتيسر له ويليق به ان يملك علينا وهو من اراذل الناس وسفلتهم كيف يستأهل هذا المنصب وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ مكنة ومكانة وَالحال انه لَمْ يُؤْتَ له سَعَةً مِنَ الْمالِ حتى يتقوى به ويتمكن على الولاية بسببه وانما استحقروه واستبعدوا منه الولاية لأنه كان فقيرا راعيا او سقاء او دباغا وكان من أولاد بنيامين ولم يكن في أولاده النبوة والملك أصلا وانما كانت النبوة والولاية في أولاد لاوى والملك في أولاد يهوذى وكان فيهم من اسباطهما جمع كثير قالَ لهم نبيهم بمقتضى الوحى الإلهي إِنَّ اللَّهَ المعز لا ذلة عباده قد اصْطَفاهُ واختاره للملك والامارة عَلَيْكُمْ مع فقره وسقوط نسبه وَزادَهُ سبحانه بعد ما اصطفاه بَسْطَةً حيطة في القدرة والقوة ورزانة فِي الْعِلْمِ المتعلق لتدبير المملكة وَقوة عظيمة في الْجِسْمِ ليقاوم العدو ويدافعه وَبالجملة اللَّهَ المدبر لمصالح عباده يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ من عباده على مقتضى علمه باستعداداتهم وحكمته من غير التفات الى فقرهم ورثاثة حالهم وسقوط نسبهم وَاللَّهُ المتصف بكمال العلم والحكمة واسِعٌ في فضله ورحمته عَلِيمٌ في عدله وحكمته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بلا سبق علل وأغراض
وَبعد ما ايسوا من تغيير قضاء الله وتبديل رضاه أتوا يطلبون الدليل والامارة على ملكه وإمارته قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بوحي الله والهامه إياه إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الذي فِيهِ سَكِينَةٌ الا وهي كناية عن النفس المطمئنة اى فيه ما يوجب سكينتكم وطمأنينكم(1/83)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
وقراركم على الحرب ووقاركم فيه إذ هو صندوق التورية المنزل مِنْ رَبِّكُمْ لإصلاح أموركم وَايضا من آية ملكه ان يأتيكم بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ وهي الكلمات المورثة المتعلقة للإرشاد والتكميل وقيل هي رضاض الألواح وعصا موسى وعمامة هارون كان أنبياء بنى إسرائيل يتوارثون حيث تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ والقوى العقلية بأمر الله وتوصله الى طالوت إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً لَكُمْ على ملكة طالوت إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله وبما جاء من عنده على أنبيائه وبعد ما آتاه الله الملك والعلامات الدالة عليه تجهز بتوفيق الله وخرج نحو العدو. روى انه قال وقت خروجه لا يخرج معى الا الشاب الخالي عن الحيل الفارغ عن الأمل النشيط للأجل الفرحان للمقاتلة والشهادة
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ وكان في شدة الحر والعبور على مفازة لا ماء فيها ناجى مع الله كل من جنوده في نفسه ان يظهر عليهم نهرا في تلك المفازة خوفا من شدة العطش فالهم الله مناجاتهم الى قلب طالوت حيث قالَ لهم بمقتضى الإلهام إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم ما يشاء مُبْتَلِيكُمْ اى مختبركم ومجربكم في هذه المفازة بِنَهَرٍ عظيم فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي اى ليس من أشياعي وأعواني وظهيري وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ولم يذقه فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ لا لتسكين العطش بل بشكر نعمة الله وانجاز وعده وتعديد إحسانه وفضله سبحانه على نفسه ثم لما وصلوا اليه فَشَرِبُوا مِنْهُ على الفور إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم لم يشربوا قيل هم ثلاثمائة وثلثة عشر وقيل ثلثة آلاف وقيل ألف إياك وإياك ايها المبتلى بنهر الدنيا الدنية في فضاء الوجود ان تشرب قطرة منها خوفا من عطش حرارة العشق المفنى للعاشق والعشق في المعشوق الحقيقي بالمرة حتى لا تخرج أنت من زمرة المحبين المحترقين بنيران المحبة الى ان خلصوا عن هوياتهم بالكلية وإياك ايضا ان تطعم وتذوق من مستلذاتها ومشتهياتها الفانية حتى لا تحرم من مرتبة اولى النهى واليقين الفائزين بروضة الرضاء وجنة التسليم فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا اى بعضهم لبعض خفية على سبيل المشورة والتحسر لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ لشدة قوتهم وصولتهم وغاية كثرتهم وشوكتهم قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ بالله ظنا حسنا بل يعلمون يقينا أَنَّهُمْ بعد انخلاعهم عن ملابس الإمكان مُلاقُوا اللَّهِ بلا سترة الثنوية وحجاب الهوية كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ من جنود العقل والنهى قد غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً من جنود النفس والهوى بِإِذْنِ اللَّهِ اى بتوفيقه وتيسيره وَبالجملة اللَّهَ المختبر لإخلاص عباده مَعَ الصَّابِرِينَ منهم لبلواه ينصرهم على من يعاديهم بحوله وقوته وما النصر الا من عنده
وَلَمَّا بَرَزُوا وظهروا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ ودنوا منهم معاينين قالُوا متوجهين الى ربهم متضرعين له مستمدين منه رَبَّنا أَفْرِغْ أفض عَلَيْنا صَبْراً نصبر به عند نزول بلائك وَثَبِّتْ أَقْدامَنا
فيه رضاء لقضائك وَانْصُرْنا لتنفيذ حكمك وإمضاء أمرك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لآلائك ونعمائك انك أنت العزيز الحكيم وبعد ما تضرعوا نحو الحق وتشبثوا بأذيال حوله وقوته
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وبكمال نصره وعونه وانهزموا بالمرة وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ قيل كان شعيا في عسكر طالوت مع ستة من بنيه وكان داود سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم فأوحى الله سبحانه الى نبيهم انه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد كلمته في الطريق ثلثة أحجار فقالت انك بنا تقتل جالوت فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته وَبعد ذلك آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ اى ملك بنى إسرائيل ولم يجتمعوا قبل داود على ملك(1/84)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
وَايضا قد آتاه الْحِكْمَةَ اى دعوة الخلق الى طريق الحق بالحكمة المؤتاة له من قبل ربه وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ من العلوم والحكم وآتاه من انواع المعجزات وخوارق العادات والارهاصات وَبالجملة لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ الرقيب الحفيظ لحدوده بين عباده النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ اى ظلم بعض الظالمين بتقوية بعض المظلومين ونصره عليهم لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ التي هي منشأ الكون والفساد ومعدن الظلم والعناد وفشا فيها الجور والجدال فانحرفوا جميعا عن جادة العدالة الفطرة الإلهية وَلكِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده ذُو فَضْلٍ كثير وطول عظيم عَلَى الْعالَمِينَ ليعتدلوا ويتمكنوا على أداء العبادة ومواظبة الطاعات بلا مزاحمة بعضهم بعضا ظلما وزورا
تِلْكَ المذكورات من الحكم والاحكام والحدود الموضوعة بين الأنام آياتُ اللَّهِ الدالة على توحيد ذاته وتعظيم شانه نَتْلُوها عَلَيْكَ يا أكمل الرسل ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ المتلوين عليهم آياتنا امتنانا لهم بل أنت من أفضلهم واكملهم
إذ تِلْكَ الرُّسُلُ المخصوصون بالوحي والإلهام والإنزال قد فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأنواع الفضائل والكمالات مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ معه وهو موسى الكليم صلوات الرّحمن عليه وسلامه وَمنهم من رَفَعَ بَعْضَهُمْ فوق بعض دَرَجاتٍ وهم ما ذكرهم الله سبحانه في كتابه بقوله في مواضع ورفعناه مكانا عليا ورفعنا كذا في وصف خلص أنبيائه فعليك استقصاؤها وَلا سيما قد آتَيْنا من بينهم عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الواضحات الدالة على نبوته وَمع ذلك قد أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ المنزه عن رذائل الأغيار مطلقا الا وهو الذات البحت الخالص عن جميع القيود والاعتبارات ومع ذلك كم بين فضل عيسى عليه السّلام وفضل نبينا صلّى الله عليه وسلّم إذ قال سبحانه في حقه وأيدناه بروح القدس وفي شانه صلّى الله عليه وسلّم في مقام الامتنان الم نشرح ونوسع لك صدرك ايها المظهر الجامع الكامل بذاتنا المقدس عن الاحاطة مطلقا ووضعنا عنك وزرك اى هويتك التي بها انفصالك عنا الذي انقض اى كسر ظهرك قبل انكشافك بذاتنا كما انقض ظهور سائر المخلوقات الباقية وراء الحجاب وبعد ذلك رفعنا لك ذكرك الى ان قد وصلت إلينا وارتفعت الاثنينية بيننا لذلك قلت من أطاعني فقد أطاع الله وتفوهت بمن رآني فقد رأى الحق وقلنا لك مخاطبا متنبها على علو شانك وسمو برهانك ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله وغير ذلك من الرموز والإشارات الواردة في القرآن والحديث وبالجملة لم يقدر احد من الأنبياء صلوات الله عليهم ان يتفوه عن الرؤية واللقاء سوى نبينا صلّى الله عليه وسلّم فانه يقول رأيت ربي ليلة المعراج ولهذا نزل في شانه صلّى الله عليه وسلّم اليوم أكملت لكم دينكم الآية وقوله بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشعرة للتوحيد الذاتي المسقط للاضافات والاعتبارات مطلقا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي للكل هداية جميع الناس مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ آمنوا لهم اى للأنبياء مِنْ بَعْدِهِمْ سيما مِنْ بَعْدِ ما قد جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحة لهم طريق الرشاد الباقية بعدهم بين أممهم لهدايتهم وإرشادهم وَلكِنِ قد جرت عادة الله وسنته ان يختلفوا ويقتتلوا حسب اقتضاء الأوصاف المتقابلة لذلك اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بنبي بعث إليهم وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم جميعا مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ الفاعل المختار يَفْعَلُ ما يُرِيدُ لا يسئل عن فعله انه حكيم حميد
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم قطع العلائق عن ما سوى الله سيما عن المزخرفات العائقة عن الميل الحقيقي نحوه أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ابتلاء لإخلاصكم في ايمانكم(1/85)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا معاوضة ولا تجارة حتى تحصلوا فيه ما فوتم لأنفسكم وَلا خُلَّةٌ حتى تتعاونوا بهم وتستظهروا منهم وَلا شَفاعَةٌ مقبولة من احد حتى تستشفعوا منه وَبالجملة الْكافِرُونَ الساترون هوية الحق بهوياتهم الباطلة المضيفون نعم الله إليها اصالة هُمُ الظَّالِمُونَ المتجاوزون عن حدود الله عنادا واستكبارا المعتقدون اصالتهم في الوجود واستقلالهم في الآثار الصادرة عنهم مع كونهم هالكين مستهلكين في وجود الحق وهويته سبحانه
إذ اللَّهُ اى الذات الموجود الكائن الثابت الحق الحقيق بالحقية والتحقق والثبوت إياك ان تتقيد بالألفاظ ومحتملاتها إذ الغرض من التعبير انما هو التنبيه والا فكيف يعبر عنه سبحانه وهو أجل من ان يحيط به العقول فتعبر عنه وتورده في قالب الألفاظ الذي لا إِلهَ اى لا موجود وان شئت قلت لا وجود ولا تحقق ولا كون ولا ثبوت إِلَّا هُوَ هذا هو نهاية ما ينطق به السنة التعبير عن الذات الاحدية إذ كل العبارات والإشارات وعموم الإدراكات والمكاشفات والمشاهدات انما ينتهى اليه وبعد انتهاء الكل اليه تكل وتجهل وتعمى وتدهش ما للتراب ورب الأرباب حتى يتكلموا عنه سوى ان الحق سبحانه لما ظهر لهم بذاته وبعموم أوصافه وأسمائه انزل عليهم على قدر عقولهم المودعة فيهم كلاما جامعا ينبههم على مبدئهم ومعادهم بعد توفيق منه وجذب من جانبه الى أسهل الطرق بالنسبة الى المسترشدين انما هو الألفاظ المنبهة عن غيب الذات إذ الألفاظ خالية عن المواد الغليظة والكدورات الكثيفة المزيحة لصفاء الوحدة ومع ذلك ايضا لا يخلو عن شوب الكثرة والحجاب والحاصل ان من اطلع باطلاع الله والهامه إياه على ان فيه مبدأ التكاليف الذي هو العقل الجزئى المنشعب من العقل الكل المنشعب من حضرة العلم الحضوري الحقي فلا بد له ان يصرفه الى امتثال ما امر واجتناب ما نهى ليكون في مرتبة العبودية مطمئنا راضيا مستدرجا من الحيوة الصورية الى الحيوة المعنوية التي هي عبارة عن الوجود البحت الا وهو الْحَيُّ الحقيقي الأزلي الأبدي السرمدي الدائم القائم بذاته الواجب الوجود في نفسه دائم التحقق والثبوت الْقَيُّومُ الذي لا تَأْخُذُهُ فتور وفترة وتعطيل وغفلة ولا سِنَةٌ نعاس لا ينتهى الى حد النوم وَلا نَوْمٌ يتجاوز عنها قدمها مع ان المناسب للترقي تأخيرها اهتماما بشأنها لكونها اقرب نسبة الى الله تعالى من النوم بالنسبة الى ذوى الأحلام السخيفة من المجسمة وغيرها القادر الحكيم لَهُ محافظة كل ما ظهر فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات الذاتية التي هي أول كثرة ظهرت من الغيب المطلق الى الشهادة الاضافية وَكذا ما ظهر فِي الْأَرْضِ اى طبيعة العدم التي هي آخر كثرة عادت من الشهادة المطلقة الحقيقية الى الغيب الإضافي الذي هو قلب الإنسان وهو البرزخ بين الغيب المطلق الحقيقي والشهادة المطلقة الحقيقية مَنْ ذَا من الأنبياء والأولياء من الهادين المرشدين الَّذِي يَشْفَعُ للناقصين المنحطين عن الرتبة الانسانية عِنْدَهُ سبحانه إِلَّا بِإِذْنِهِ اى الا بوحيه سبحانه على قلبه برقائق مناسباته التي لا يمكننا التعبير عنها إذ هو الحكيم الذي يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حالتئذ وَما خَلْفَهُمْ ازلا وابدا وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ قليل مِنْ عِلْمِهِ الحضوري إِلَّا بِما شاءَ وتعلق ارادته ومشيته عليه من هذا يتفطن العارف المحقق ان العالم ما هو الا مظاهر ذات الحق واظلال أسمائه وآثار أوصافه إذ الموجود الحقيقي هو والوجود الحقيقي هو والقيوم المطلق هو والرقيب المحافظ الملازم على محافظة عموم ما ظهر وبطن في الاولى والاخرى هو والعالم المدبر بالحضور مصالح جميع(1/86)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
ما ظهر وبطن ليس الا هو والعلم والإدراكات الصادرة من المظاهر هو علمه الحضوري فلم يبق للعالم الا مناسبة الظلية والانعكاس والمظهرية فقط إذ قد وَسِعَ كُرْسِيُّهُ مجلاه ومظاهره السَّماواتِ المذكورة وَالْأَرْضَ المذكورة وَلا يَؤُدُهُ ولا يثقله حِفْظُهُما وان كانت سماوات الأسماء وارض الطبيعة غير متناهية بل وان فرضت بأضعافها وآلافها أمورا متعددة غير متناهية لا يثقله إذ كل من تحقق بسعة قلب الإنسان المنعكس من الذات الاحدية المائل نحوها بالميل الحبى والشوقى المتلذذ دائما بوجده وحضوره قد تحقق عنده ولاح لديه من الوسعة والسعة ما لا يمكن التعبير عنه مطلقا. كما سمح به سلطان العارفين وبرهان الواصلين اعنى أبا يزيد البسطامي عمت بركات أنفاسه الشريفة على عموم الفقراء المتوجهين نحو فضاء التوحيد حيث قال لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس. وايضا قد جاء بعده رأس الموحدين ورئيس ارباب التحقيق واليقين محى الملة والدين الذي هيج بحر الوحدة تهييجا شديدا الى حيث يترشح من تيار قلبه الزخار رشحات المعارف والحقائق على ذوى العزائم الصحيحة المقتفية اثر طريقه قدس الله روحه العزيز وأرواحهم وشكر الله
سعيه ومساعيهم حيث قال في فصوص الحكم وهذا وسع ابى يزيد في عالم الأجسام بل أقول لو ان ما لا يتناهى وجوده قدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه انتهى وبالجملة الحديث القدسي مغن عن أمثالهما لان قوله سبحانه وسعني قلب عبدى المؤمن وسعة قد عجز عنها التعبير مطلقا هب لنا من لدنك قلبا وسيعا فسيحا انك أنت الوهاب وَبالجملة مالكم وليس في وسعكم وطاقتكم ايها العباد من معرفة الذات الاحدية غير هذا هُوَ الْعَلِيُّ بذاته تعالى عن ان يدركه عقول العقلاء وتنزه عن ان يصفه السنة الفصحاء الْعَظِيمُ بآثار أسمائه وصفاته الممتدة على صفحات الاعدام وهو في ذاته على صرافة وحدته الذاتية وبعد ما ثبت كمال عظمة الله وجلاله
لا إِكْراهَ اى لا جبر ولا تهديد ولا اضطرار ولا إلجاء فِي الدِّينِ والانقياد بدين الإسلام والإطاعة له بعد ما ظهر الحق إذ قَدْ تَبَيَّنَ وتميز الرُّشْدُ والهداية مِنَ الْغَيِّ والضلالة فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ التي هي عبارة عن النفس الامارة المضلة عن طريق الحق وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ الهادي الى سواء السبيل فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بل تمسك وتشبث بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي هي حبل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات بحيث لَا انْفِصامَ ولا انقطاع لَها أصلا وَاللَّهُ الهادي للكل نحو جنابه سَمِيعٌ بذاته لأقواله عَلِيمٌ بحكمه ومصالحه المودعة فيها فانظروا ما أنتم ايها الهلكى
وبالجملة اللَّهُ اى الذات المستجمع لجميع الأسماء والصفات وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله يولى أمورهم حسب شموله واحاطته إياهم بحيث يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ المتراكمة المزدحمة ظلمة الطبيعة وظلمة الإمكان وظلمة التعينات والإضافات الواقعة فيها إِلَى النُّورِ صفاء الوحدة الخالصة الخالية عن رين الإضافات وشين الكثرات مطلقا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا ذاته وأوصافه الذاتية أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ التي هي علم الجنس للنفوس البهيمية التي هي الطواغيت المضلة عن الهدى الحقيقي لذلك يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ اى المرآة الصقيلة المجلوة القابلة لان يتراءى فيها جميع ما في العالم الا وهي قلب الإنسان المنعكس من اسم الرّحمن إِلَى الظُّلُماتِ ظلمة الغفلة وظلمة الكثرة وظلمة الاضافة وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون المطرودون عن ساحة عز الوحدة أَصْحابُ النَّارِ(1/87)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
وملازمون لجهنم الخذلان وسعير الإمكان هُمْ فِيها خالِدُونَ الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى الكافر العابد للطاغوت وهو نمرود اللعين المكابر المعاند الَّذِي قد حَاجَّ على وجه الجدال والمراء مع إِبْراهِيمَ صلوات الرّحمن عليه فِي شأن رَبِّهِ وذلك سبب أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وأبطره عليه وغره به وذلك وقت إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ إلزاما له حين أخرجه من السجن فسأله عن ربه الذي يدعى الدعوة اليه رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي يوجد من العدم وَيُمِيتُ يرد اليه بعد إيجاده قالَ اللعين مجادلة ومكابرة أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ايضا بالعفو والقصاص قالَ إِبْراهِيمُ تصريحا لإلزامه من غير التفات الى كلامه فَإِنَّ اللَّهَ القادر على عموم المقدورات يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ أنت ايها المسرف المعاند بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ العاصي اللعين الَّذِي كَفَرَ بالله بدعوى المعارضة معه فصار مبهوتا متحيرا وَبالجملة اللَّهُ الهادي للكل لو شاء وتعلق مشيئته لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين المجاوزين عن حدود الله التاركين آداب العبودية معه
أَوْ كَالَّذِي اى الم تر الى الشخص الذي قد مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ هي بيت المقدس في زمان قد خربها بختنصر فرآها وَهِيَ خاوِيَةٌ ساقطة حيطانها عَلى عُرُوشِها قالَ محاجا مجادلا لا منكرا للحشر والنشر أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها اى كيف يقدر على احياء أهلها وهم قد انقرضوا واندرسوا الى حيث لم يبق منهم اثر فَأَماتَهُ اللَّهُ فجأة إظهارا لقدرته وتبيينا لحجته والبثه مِائَةَ عامٍ ميتا كالأموات الاخر ثُمَّ بَعَثَهُ وأحياه بعد تلك المدة ثم سأله هاتف بان قالَ كَمْ لَبِثْتَ في هذا المكان ايها اللابث قالَ لَبِثْتُ يَوْماً فالتفت الى الشمس فرأها باقية قال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ له السائل أنت ما تعرف مدة لبثك في هذا الموضع فكيف تنكر الحشر بَلْ قد لَبِثْتَ أنت فيه مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ ايها المكابر المنكر للحشر الجسماني بنظر العبرة إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ولم يتغير من كمال قدرة الله على حفظه مع سرعة تغيره وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تفرقت عظامه وتفتتت أوصاله واجزاؤه مع بطؤ تغيره وتفتته وَبعد ما نظرت إليهما معتبرا تذكر قولك حين مرورك على القرية انى يحيي هذه الله بعد موتها فالزم ثم قيل له من قبل الحق وانما فعلنا ذلك معك ايها المنكر للحشر والنشر لِنَجْعَلَكَ آيَةً حجة ودليلا لِلنَّاسِ القائلين بالحشر الجسماني على المنكرين المعاندين له وَبعد ما تحققت حالك انْظُرْ بنظر العبرة إِلَى الْعِظامِ الرفات التي تعجبت من كيفية إحيائها بل أنكرت عليها كَيْفَ نُنْشِزُها نركب بعضها مع بعض ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً بعد تتميم تركيب العظام على وجهها فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ امر الحشر الزم واسلم حيث قالَ أَعْلَمُ يقينا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر عَلى احياء كُلِّ شَيْءٍ مبدئا مبدعا قَدِيرٌ على احيائه موجدا معيدا مرة بعد اخرى وكرة بعد اولى
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ جدك إِبْراهِيمُ الخليل الجليل صلوات الرّحمن عليه وسلامه حين أراد ان يتدرج ويرتقى من العلم الى العين ثم الى الحق رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ له ربه تنشيطا له على الترقي أَتقول ذلك وَلَمْ تُؤْمِنْ ولم تذعن وتوقن أنت ايها الخليل بانى قادر على الإيجاد الا عادى كما اننى قادر على الإيجاد الابداعى قالَ بَلى قد آمنت وأذعنت يا ربي بانك على كل شيء قدير وَلكِنْ انما سألتك المعاينة لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بها ويزيد بصيرتي بسببها وحيرتي منها قالَ سبحانه(1/88)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ طاوس مزخرفات الدنيا الدنية وديك شهواتها وغراب الآمال الطويلة فيها وحمام الأهواء الباطلة المتعلقة بها وبعد ما أخذتها فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ اى املهن واضممهن الى نفسك بحيث تجد جميع اجزائهن في نفسك على التفصيل بلا فوت جزء ثم جزأهن أجزاء هبائية هوائية ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ من الجبال المشهورة في مملكة بدنك ونفسك مِنْهُنَّ جُزْءاً الى حيث تخيلت تفانيها وتلاشيها بالمرة واطمأننت عن شرورها بالكلية ثُمَّ ادْعُهُنَّ فارضا وجودهن مستحيلا ايجادهن مرة اخرى يَأْتِينَكَ بأجمعهن سَعْياً ساعيات مسرعات بلا فوات جزء ونقصان شيء منهن وَبعد ما تحققت بها واستكشفت عنها اعْلَمْ علما يقينا بل عيانا وحقا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب قادر على كل ما أراد حَكِيمٌ ذو حكمة متقنة بالغة في كل ما يفعل ويريد. وانكار الحشر والنشر انما نشأ من ظلمات العقل الجزئى المشوب بالوهم المزخرف المزور والخيال القاصر المقصر عن ادراك رقائق الارتباطات الواقعة بين الحق وأجزاء العالم المستمدة هي منه سبحانه دائما على سبيل التجدد وسواء كانت مبتدأة او معادة والا فمن خلص عقله المودع فيه عن مزاحمة الأوهام والخيالات وتجرد عن شوب الرسوم والعادات واتصل بالعقل الكل المدرك بالحضور جميع ما كان ويكون من المكونات وتأمل في عجائب المصنوعات وغرائب المخترعات والمبتدعات الواقعة في عموم الآنات والحالات التي هي فيها قد انكشف له بلا سترة وحجاب امر الحشر والنشر وجميع الأمور المتعلقة بالنشأة الاولى والاخرى ولا ينكر بشيء منها بل يؤمن بها ويوقن بجميعها بلا شك وريب ربنا آتنا من لدنك هداية وعلما وهيئ لنا من أمرنا رشدا
ثم قال سبحانه مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ المنسوبة إليهم بنسبة شرعية فِي سَبِيلِ اللَّهِ طلبا لمرضاته كَمَثَلِ باذر حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَبالجملة اللَّهِ القادر المقتدر على عموم المقدورات يُضاعِفُ حسب قدرته الكاملة تلك المضاعفة ايضا بأضعاف غير متناهية لِمَنْ يَشاءُ من خلص عباده حسب إخلاصهم في نياتهم وبمقتضى إخراجهم نفوسهم عن البين وتفويضهم الأمور كلها الى الله اصالة وَاللَّهُ المتجلى في الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق واسِعٌ لا ضيق في احاطة فضله وإحسانه عَلِيمٌ بأحوال من توجه نحوه وأنفق لرضاه خالصا مخلصا بحيث لا يعزب عن حيطة علمه شيء ولا سيما بشر يا أكمل الرسل من بينهم المنفقين المحسنين
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ معتقدين انهم مستخلفون نائبون عن الله فيها لا مالكون لها حقيقة ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لاعتقادهم الاستخلاف والنيابة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ المخلف لهم المنيب إياهم بحيث لا يدرك سبحانه ولا يطلع مقداره وكيفيته أحدا من خلقه وَبعد ما أنفقوا ما أنفقوا على الوجه المذكور لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من الحساب والعقاب الأخروي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات الأجر وقلة الجزاء بل لهم عند ربهم ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وبالجملة قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ورد جميل للسائل ناش من حسن الخلق وَمَغْفِرَةٌ مرجوة من الله بعد رده متحسرا على نعمة الانفاق خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً إذ بذلك القول يرجى الثواب وبتلك الصدقة يستحق العقاب وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن انفاقكم بالمن والأذى للفقراء الذين هم عيال الله وفي حمى لطفه وحوزة حفظه وحضانته حَلِيمٌ لا يعجل بمؤاخذة من يمن ويؤذى
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله الغنى الحليم مقتضى ايمانكم ان لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ عند الله بِالْمَنِّ وَالْأَذى(1/89)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
على فقراء الله حتى لا تعاقبوا عليها باشد العقاب ولا تكونوا عنده سبحانه كَالَّذِي اى كالكافر الذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَالحال انه لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال فَمَثَلُهُ اى مثل المنفق المرائى في إنفاقه ما عند الله في يوم الجزاء كَمَثَلِ صَفْوانٍ حجر أملس عَلَيْهِ تُرابٌ قد اجتمع من هبوب الرياح فطرح فيه البذور لتنبت وتثمر فَأَصابَهُ وابِلٌ مطر عظيم القطر فأزال التراب والبذور فَتَرَكَهُ اى الحجر صَلْداً أملس كما كان الى حيث لا يَقْدِرُونَ عَلى تحصيل شَيْءٍ قليل مِمَّا كَسَبُوا وبذروا عليه لينتفعوا به وَبالجملة اللَّهُ الهادي لخلص عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ المتصدقين المبطلين بالمن والأذى حكمة الله المتعلقة لتربية الفقراء وتقوية العجزة والضعفاء فلا بد للمؤمنين الموقنين ان يجتنب عن أمثاله وبعد ما مثل سبحانه انفاق المنفق المرائى المبطل إنفاقه بالمن والأذى عقبه بإنفاق المحق المحسن بقوله
وَمَثَلُ المؤمنين المنفقين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ في سبيل الله ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ لا لعوض ولا لغرض لا ديني ولا دنيوى فضلا عن سمة السمعة والرياء وعن وصمة المن والأذى وَتَثْبِيتاً اى احكاما وتقريرا لهم ناشئا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ليثبتوا على ما أمرهم الله به واستخلفهم فيه بقوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه كَمَثَلِ جَنَّةٍ اى مثلهم كمثل بستان واقع بِرَبْوَةٍ مكان مرتفع من الأرض قد أَصابَها وابِلٌ مطر وأنبتها نباتا حسنا ورباها فَآتَتْ أُكُلَها قطوفها وأثمارها ضِعْفَيْنِ بالنسبة الى ما في الأرض المنخفضة وما حصل فيها بتربية الوابل إياها وتنميته لها فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ اى ان لم يصبها وابل فيكفى في أضعاف ثمرتها طل وهو رطوبة رقيقة تنزل على الأرض في المواضع المرتفعة لصفاء هوائها وترابها عن جميع الكدورات كاراضى بيت المقدس شرفها الله. والمعنى ان انفاق المؤمن المخلص في الانفاق الطالب لرضا الحق المائل عن مطلق المن والأذى والسمعة والرياء الراغب الى امتثال الأمر وتثبيت النفس وتقريرها عليه كمثل تلك الجنة بل حقيقة ومعنى هي الجنة الحقيقية المثمرة لفواضل الإحسانات التي لا يدرك غورها ولا يكتنه طورها وَبالجملة اللَّهِ المحيط لجميع أحوالكم وأعمالكم بِما تَعْمَلُونَ من الإخلاص والرضا ورعونات الرياء وكدورات المن والأذى بَصِيرٌ لا يغيب عن بصارته وحضوره شيء ثم حث سبحانه عموم عباده على الإخلاص ورغبهم عن الرياء والمن والأذى على ابلغ وجه وآكده كأنه قد استدل عليه
فقال أَيَوَدُّ ويحب أَحَدُكُمْ ايها المؤمنون المنتشرون في فضاء الدنيا أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مملوءة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ومع ذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وكان لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ المتنوعة المتلونة وَالحال انه قد أَصابَهُ الْكِبَرُ وأدركه الهرم وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ لا يقدرون على الكسب فَأَصابَها اى الجنة المذكورة إِعْصارٌ اى ريح عاصفة تستدير عند هبوبها فيرى من شدة غبرتها ورفعتها مثل العمود الممدود نحو السماء ومع ذلك حدث فِيهِ نارٌ متكونة من الابخرة والادخنة المحبة فيه التقطها من شعل النيران الموقدة على الأرض فسقطت النار في الجنة المذكورة فَاحْتَرَقَتْ بالمرة بحيث قد خرجت عن الانتفاع مطلقا كيف يحرم صاحبها وحرمانكم ايها المراؤون بالأعمال الصالحة والصدقات في النشأة الاخرى أشد من حرمانه بل بأضعافه والآفة لإحراقكم جنة الأعمال الصالحة المشتملة على نخيل التوحيد وأعناب الرضاء والتسليم تجرى من تحتها انهار المعارف والحقائق المنتشئة من بحر جود الوجود المثمرة لثمرات الانفاق والصدقات المنشعبة من بحر الرضاء والتسليم المشعر للتحقق بمقام العبودية المسقط للاضافات كلها باعصار(1/90)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
السمعة والرياء والمن والأذى المشتملة على نيران الأنانية المشتعلة المتكونة من ابخرة الهوى وادخنة اللذة الوهمية والشهوات البهيمية فاحترقت بالمرة جميع ما يترتب عليها من اللذات الروحانية والثمرات العرفانية والحال انكم معطلون حينئذ عن التدارك والافتقاد وقواكم الكاسبة قد رجعت الى بدئها قهقرى ضعفاء معطلات أمثالكم وبالجملة كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فيها وتدخرون الزاد ليوم لا كسب فيه ولا يمكنكم الافتقاد ولا الزرع ولا الحصاد
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا لرضاء الله على المستحقين من عباده مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وجيدات ما اقترفتم في النشأة الاولى بالحراثة والتجارة والصناعة وَايضا مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بلا سبق عمل منكم من الحبوب والثمار والمعدنيات وغير ذلك وَعليكم ان لا تَيَمَّمُوا ولا تقصدوا الْخَبِيثَ مِنْهُ اى لا تقصدوا الى إخراج الردى الخبيث من أموالكم المكتسبة والموهوبة حين تُنْفِقُونَ للفقراء وَالحال انكم لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ من الغير في معاملاتكم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا وتسامحوا فِيهِ اى في اخذه وَبالجملة اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المقتدر الغيور غَنِيٌّ عن انفاقكم وتصدقكم وانما يأمركم به لانتفاعكم واستفادتكم إذ هو في ذاته حَمِيدٌ شكور مشكور في نفسه لولا أنتم وانفاقكم وشكركم
وبالجملة الشَّيْطانُ المضل المغوى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ في الانفاق ويخوفكم منه ويوقع في انفسكم مخايل التقتير والإمساك وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ اى البخل المفرط المتجاوز عن الحد وَاللَّهُ المصلح لعموم مفاسدكم يَعِدُكُمُ فيه مَغْفِرَةً لذنوبكم ناشئة مِنْهُ سبحانه إحسانا وَفَضْلًا زائدا على وجه التبرع والإكرام خلفا لما أنفقتم في سبيله طلبا لمرضاته وَاللَّهُ واسِعٌ لا ضيق في سعة فضله وإحسانه عَلِيمٌ بنية من أنفق وإخلاصه فيها حكيم في إفاضته على قلوب خلص عباده بمقتضى حكمته
إذ هو سبحانه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ اى سرائر جميع الأعمال المأمورة لعباده مَنْ يَشاءُ بفضله وجوده عناية منه وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ من العباد فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً لا يحيط بكثرته الا هو وَما يَذَّكَّرُ اى ما يتذكر وما يتعظ بمضمون هذه الآية الكريمة الشاملة لفوائد لا تحصى إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الواصلون الى لب الأمور المائلون عن قشورها المتوجهون الى الله بالعزائم الصحيحة المعرضون عن الرخص المؤدية الى الجرائم
وَاعلموا ايها المؤمنون المستمسكون بحبل التوفيق الإلهي ان ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ خالصة لمرضاة الله أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ يؤدى الى الانفاق في سبيل الله فَإِنَّ اللَّهَ الموفق لكم على عموم مصالحكم يَعْلَمُهُ بعلمه الحضوري ويجازى عليه بأضعافه وآلافه وَما لِلظَّالِمِينَ المجاوزين والمتجاوزين عن حدوده بمتابعة الشيطان المضل عن طريق الحق مِنْ أَنْصارٍ ينصرهم عند انتقام الله إياهم وقهرهم على ما صدر عنهم من الفسوق والعصيان ومن التبذيرات الواقعة فيها
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ ايها المؤمنون وتظهروها فَنِعِمَّا هِيَ اى نعم شيأ عند الله وعند الناس إبداء الصدقات وإعطاؤها علانية وَإِنْ تُخْفُوها اى الصدقات وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ خفية من الناس فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من ابدائها لعرائها عن وصمة السمعة والرياء وعن شوب المن والأذى ولا سيما عن لحوق العار على الفقراء وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ لستركم ذلة الفقراء الذين يذلون عند أخذها منكم وَاللَّهُ المجازى لكم بِما تَعْمَلُونَ من الخيرات خَبِيرٌ يكفيكم خبرته بمجازاتكم عليه
ثم قال سبحانه مخاطبا لنبيه كلاما خاليا عن وصمة الشبهة ناشئا عن محض الحكمة لَيْسَ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل هُداهُمْ(1/91)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
اى ان تجعلهم مهتدين مهديين الى طريق الحق بل ما عليك الا الإرشاد والتنبيه على مسالك التوحيد والترغيب على محاسن الأوامر المتعلقة به والترهيب عن مقابح المناهي المنافية له وَلكِنَّ اللَّهَ الهادي للكل يَهْدِي بتوفيقه مَنْ يَشاءُ من عباده الى الصراط المستقيم ليوصلهم الى بابه وَقل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ صدقة او نذر فَلِأَنْفُسِكُمْ اى فهو لكم ونفعه عائد إليكم فلا تبطلوا نفعه بالمن والأذى ولا تنفقوا الردى الخبيث لئلا تنقصوا من نفعكم وانتفاعكم بها وَقل لهم ايضا خير انفاقكم انكم ما تُنْفِقُونَ شيأ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ طلبا لرضاه شكرا لنعمه وهاربا عما يشغلكم عن الحق مائلا عن مطلق الجزاء ولا جزاء أعظم من مطالعة وجهه الكريم وَاعلموا ان ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ على هذا الوجه يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه فوق ما يصفه السنة مصنوعات الكريم وتدركه عقولهم وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ اى لا تنقصون ولا تخسرون في هذه المعاملة مع الله ومتى عرفتم أنتم خير الانفاق فعليكم ان تعرفوا خير من ينفق اليه فاجعلوا انفاقكم
لِلْفُقَراءِ العرفاء الأمناء الَّذِينَ أُحْصِرُوا اى قد تقرروا وتمكنوا مستغرقين متحيرين فِي سَبِيلِ اللَّهِ متشمرين للفناء فيه باذلين مهجهم في طريق توحيده بحيث لا يَسْتَطِيعُونَ من غاية استغراقهم في مطالعة جماله ضَرْباً فِي الْأَرْضِ لطلب الرزق الصوري ومن غاية استغنائهم عن الدنيا وما فيها يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بحالهم أَغْنِياءَ مِنَ كمال التَّعَفُّفِ المرتكز في جبلتهم بحيث تَعْرِفُهُمْ وتنتبه على حالهم واحتياجهم ايها المؤمن المنفق لرضاء الله بِسِيماهُمْ من ضعف القوى ورثاثة الحال وبالجملة هم من غاية رجوعهم وركونهم عن الدنيا وما فيها نحو المولى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ ولا يطلبون منهم حوائجهم وكفافهم إِلْحافاً جهارا إلحاحا متمنين راجين منهم مما عندهم بل رزقهم على الله يرزقهم من حيث لا يحتسب وبعد ما سمعتم أوصاف أولئك الوالهين في مطالعة جمال الله وجلاله بادروا الى تقوية أمزجتهم وتربية طباعهم بما عندكم من الرزق الصوري ليتمكن لهم الوصول الى الدرجة العليا والسعادة العظمى التي لا مرتبة أعظم منها وأعلى وَاعلموا ايها المنفقون ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ سيما لهؤلاء العظماء الكرام فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ بذاته عَلِيمٌ يجازيكم بمقتضى علمه بإحسانكم وإخلاصكم فيه ربنا اجعلنا من خدامهم وتراب اقدامهم وبالجملة المؤمنون الموقنون المحسنون
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ المنسوبة إليهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً اى في عموم أوقاتهم وحالاتهم طلبا لمرضاة الله وهربا عما يشغلهم عن مطالعة جماله فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ حسب قابليتهم واستعدادهم وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من التضييع والإحباط وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من سوء المنقلب والمآب
ثم قال سبحانه المفسدون المسرفون المفرطون الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا وهي عبارة عن تنمية المال بأسوء الطرق وأقبح السبل المؤدى الى إضرار الأخ المسلم وإتلاف ماله وإخراجه من يده مجانا بلا رعاية غبطته وجانبه أصلا وهم لا يَقُومُونَ في يوم البعث والحشر إِلَّا كَما يَقُومُ الشخص الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ اى الجن مِنَ الْمَسِّ في النوم كيف يقوم مصروعا حائرا مضطربا متهتكا قلقا هائلا هائما وما ذلِكَ الا بِأَنَّهُمْ اى بشؤم ما قالُوا في نفوسهم مصرين معتقدين إِنَّمَا الْبَيْعُ في التنمية والزيادة مِثْلُ الرِّبا وهما سيان في الازدياد والنمو وَمن اين أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وما يترتب عليه من الربح وَحَرَّمَ الرِّبا مع ان رضاء المتعاقدين حاصل فيها من كلا الجانبين وبالجملة فَمَنْ جاءَهُ وبلغه مَوْعِظَةٌ مِنْ قبل رَبِّهِ فَانْتَهى(1/92)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
واجتنب عن الربوا ونهى نفسه عنه فَلَهُ أخذ ما سَلَفَ قبل ورود الموعظة لا يسترده شرعا وَأَمْرُهُ مفوض إِلَى اللَّهِ يجازيه عن الانتهاء بأحسن الجزاء ان كان من اصحاب العزيمة والقبول او يعاقب عليها ان كان من ذوى التزلزل والاضطراب وَمَنْ عادَ ورجع سيما بعد ما سمع الموعظة وانتهى عنها فَأُولئِكَ العادون الراجعون هم أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مستمرون ما شاء الله
ومن سنته سبحانه انه يَمْحَقُ اللَّهُ العليم الحكيم الرِّبا اى يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل هي فيه وَيُرْبِي اى يزيد وينمى المال الذي يخرج منه الصَّدَقاتِ ويضاعف ثوابها ويبارك على صاحبها كما أشار اليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله ما نقصت زكاة من مال قط وَاللَّهُ المتجلى بالتجلى الحبى لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ ستار مصر على تحليل المحرمات أَثِيمٍ بارتكاب المحظورات مجترئ على ترك المأمورات
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر في ذاته وبرسوله المرسل من عنده وبجميع ما جاء به من الأوامر والنواهي وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى الأعمال المأمورة لهم تتميما لإيمانهم وتأكيدا له وَلا سيما قد أَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة لهم بمقتضى الكتاب الإلهي وَايضا آتَوُا الزَّكاةَ المكتوبة عليهم فيه لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من ترقب مولم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوت مسر ملذ بل لهم جميع ما ينبغي لهم ويليق بحالهم بالفعل بلا انتظار وترقب
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ اى مقتضى ايمانكم اختيار التقوى عن محارم الله والعزيمة الخالصة في جميع الأعمال المأمورة لكم والاجتناب عن الرخص سيما عن المناهي وَذَرُوا واتركوا ما بَقِيَ لكم مِنَ الرِّبا عند الغرماء إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بحرمة الربوا وبسر حرمته وحكمة منعه
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولم تمتثلوا بما أمرتم ولم تتيقنوا سر ما منعتم منه فَأْذَنُوا اى انتظروا وترقبوا بِحَرْبٍ عظيم نازل مِنَ اللَّهِ المتجلى باسمه المنتقم وَمن رَسُولِهِ التابع له المتخلق بأخلاقه وَإِنْ تُبْتُمْ عن الارتباء والانتماء على هذا الطريق الأخس الأدنى فَلَكُمْ في دينكم هذا رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على السواء بحيث لا تَظْلِمُونَ أنتم بأخذ الزيادة وإتلاف مال الغريم بلا عوض وَايضا لا تَظْلِمُونَ ولا تتضررون أنتم بالمطل والتسويف في الأداء والتأخير فيه
وَإِنْ كانَ الغريم الذي عليه رؤس أموالكم ذُو عُسْرَةٍ لا يقدر على أداء حقوقكم دفعة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ اى فعليكم ان تنظروه وتمهلوه الى وقت ايساره ثم تأخذوا وَأَنْ تَصَدَّقُوا اى تصدقكم بها على ذي عسرة خَيْرٌ لَكُمْ عند الله يجازيكم به جزاء لا يدرك كنهه الا هو إذ إدخال السرور في قلب المؤمن سيما في هذه الحالة يوازى عند الله عمل الثقلين إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ هذا تتصدقون بها البتة
وَبالجملة اتَّقُوا يَوْماً واى يوم يوما تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ المسقط لجميع الإضافات المطلع على جميع الحالات منسلخين عن عموم ما أنتم عليه في الدنيا مؤاخذين عليها لتحاسبوا عن نقير وقطمير ثم تجازوا عليها ثُمَّ تُوَفَّى وتجزى كُلُّ نَفْسٍ على مقتضى ما كَسَبَتْ من خير وشر وظلم وجور وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أصلا لا بتنقيص الثواب ولا بتضعيف العقاب بل كل نفس فيها رهينة بما كسبت. وعن ابن عباس رضى الله عنهما انها آخر آية نزل بها جبريل عليه السّلام وقال ضعها في رأس المأتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها أحدا وعشرين يوما وقيل أحدا وثمانين وقيل سبعة ايام وقيل ثلاث ساعات وعليك ايها المؤمن المتوجه الى تصفية الذات يسر الله عليك أمرك ان تدخر لنفسك من هذه الآية من الزاد ما لا يسعه(1/93)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
المطولات ولا يندرج في المجلدات ولا تفي باستقصائها التعبيرات والإشارات وبالجملة هي محتوية على عموم السرائر والأسرار الباعثة للارسال والإنزال والتبشير والإنذار لذلك ختم به الوحى وانقطع به الإنزال ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم المحافظة على الحدود الشرعية سيما إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ اى يعطى بعضكم بعضا ويأخذه ان يؤديه له إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معين معلوم مقدر بالأيام والشهور والأعوام لا بوقت الحصاد وقدوم الحاج وغير ذلك من المبهمات فَاكْتُبُوهُ لئلا يقع بينكم العداوة والبغضاء المؤدية الى النزاع والمراء المنافى للايمان والتوحيد وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ على الوجه الذي وقع بلا زيادة ولا نقصان والحاصل ان يكتب صورة المراضاة المعقودة المعهودة بينكم حين الأخذ والإعطاء بلا تفاوت حتى يكون وقاية لكم لدى الحاجة وَبعد ما شرع في الكتابة لا يَأْبَ ولا يمتنع كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ اى لا يوجز ايجازا مخلا ناقصا منقصا ولا يطنب اطنابا مخلا مزيدا لئلا يؤدى الى النزاع والمناكرة عند الأداء بل فَلْيَكْتُبْ الكاتب العادل عدلا وَلْيُمْلِلِ على الكاتب المديون وهو الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ والقضاء لأنه المعترف بالأداء وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ حين الإملاء عن فوت شيء من الحقوق وَلا يَبْخَسْ اى لا ينقص مِنْهُ شَيْئاً هذا التخصيص بعد ما دل عليه الكلام السابق ما هو الا لزيادة تأكيد والاهتمام في الاجتناب عن تضييع الحقوق فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ناقص العقل منحطا عن العدالة أَوْ ضَعِيفاً في الرأى والقوة غير مراع للغبطة لأجل الصبا او الهرم أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لخرس او جهل باللغة فَلْيُمْلِلْ من قبله وَلِيُّهُ اى من يولى امره شرعا ملتبسا بِالْعَدْلِ مع رعاية الجانبين بلا ازدياد ولا تبخيس وَمع ذلك اسْتَشْهِدُوا على دينكم ومراضاتكم من الجانبين شَهِيدَيْنِ حاضرين في مجلس المراضاة مِنْ رِجالِكُمْ لكمال عقلهم ودينهم فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ اى فعليكم ان تستشهدوا بدل الرجلين رجلا وامرأتين دفعا للحرج هذا مخصوص بالأموال دون الحدود والقصاص لقلة عقلهن وضعف تأملهن مِمَّنْ تَرْضَوْنَ أنتم ايها المعاملون مِنَ الشُّهَداءِ الذين ثبتت عندكم عدالتهم وأمانتهم وديانتهم وانما خص هذا العدد لأجل أَنْ تَضِلَّ وتنسى إِحْداهُما بطول الزمان فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اى الذاكرة منهما الْأُخْرى الناسية لئلا تضيع حقوق المسلمين وَبعد ما شرع الاشهاد في الوقائع لا يَأْبَ ولا يمتنع الشُّهَداءِ عن الحضور إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة او تحملها وَمع الاشهاد والاستشهاد لا تَسْئَمُوا ولا تساهلوا في هذا ايها المؤمنون المعاملون أَنْ تَكْتُبُوهُ اى الكتاب الشامل على مراضاتكم في معاملاتكم المؤجلة صَغِيراً كان الحق أَوْ كَبِيراً قليلا او كثيرا فاحفظوه إِلى وقت حلول أَجَلِهِ المسمى له عند الأخذ ذلِكُمْ اى الكتاب على الوجه المذكور أَقْسَطُ اعدل معاملاتكم عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأعون لأدائها وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا اى اقرب الطرق لحفظ ما جرى بينكم من المعاملة نسية فعليكم ان تحافظوا عليها ولا تجاوزوا عنها إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها وتداولونها بَيْنَكُمْ يدا بيد فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ضيق وذنب أَلَّا تَكْتُبُوها لبعدها عن التنازع وَبالجملة أَشْهِدُوا فيها وان لم تكتبوها إِذا تَبايَعْتُمْ احتياطا إذ البشر قلما يخلو عن الضرر والإضرار وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هذه الصيغة تحتمل البنائين وكل منهما يصلح لان يكون مرادا اما بناء الفاعل(1/94)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
فلا بد ان لا يضر الكاتب المعاملين بترك الاجابة وعدم الحضور عند المملى او بالزيادة والنقصان في المكتوب وغير ذلك وايضا الشاهد الذي يدعى الى التحمل او الأداء بترك الاجابة وبالتهاون والإنكار وغير ذلك واما بناء المفعول فلا بد ان لا يضر الكاتب بمنع أجرته واستعجاله عن مصلحته وكذا الشاهد وَإِنْ تَفْعَلُوا شيأ مما نهيتم عنه فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وخروج عن حدود الله لاحق بكم ضرره وَاتَّقُوا اللَّهَ عن مخالفة حدوده وأحكامه وَخصوصا بعد ما يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ المدبر لمصالحكم ما ينبغي لكم ويليق بحالكم وَاللَّهُ المتجلى بصفات الجمال والجلال بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنكم عَلِيمٌ يجازيكم على مقتضى علمه
وَإِنْ كُنْتُمْ ايها المتداينون عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ اى فعليكم في أمثال هذه المعاملات رهان مقبوضة من المديون الى الأجل المسمى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ ايها الدائنون بَعْضاً من المديونين بلا ارتهان اعتمادا على أمانته فَلْيُؤَدِّ المديون الَّذِي اؤْتُمِنَ اعتمادا أَمانَتَهُ اى دينه الذي في ذمته عند انقضاء اجله المسمى وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الإنكار والخيانة والبخس والمماطلة وَلا تَكْتُمُوا ايها المؤمنون الشَّهادَةَ الحاضرة الحاصلة عندكم المتعلقة بحقوق الناس سواء كنتم من المستشهدين او الشاهدين على انفسكم المقرين المعترفين بما في ذمتكم من حقوق الغير وَمَنْ يَكْتُمْها عنادا واستكبارا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ اى يأثم قلبه ومن كان إثمه من قلبه لا يرجى منه الفلاح والفوز بالنجاح وَاللَّهُ المحيط بعموم حيلكم ومخايلكم بِما تَعْمَلُونَ من الخيانة والإنكار وكتمان الشهادة والإضرار عَلِيمٌ ينتقم عنكم بكل ما جرى في نفوسكم منها
واعلموا ايها المكلفون بإقامة الحدود الإلهية انه لِلَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد الحي الحقيق بالحقية القيوم المتفرد بالقيومية الدائم الظاهر المتوحد بالديمومية مظاهر ما فِي السَّماواتِ اى سموات الأسماء الذاتية والصفات الفعلية وَما فِي الْأَرْضِ اى الطبيعة العدمية القابلة لمظهرية آثار الصفات الذاتية المحدثة المظهرة للكائنات الكونية الكيانية والواردات الغيبية والواضحات العينية وَبعد ظهور عموم ما ظهر وما بطن عنده سبحانه إِنْ تُبْدُوا وتظهروا ايها الاظلال والعكوس ما فِي أَنْفُسِكُمْ من مقتضيات الأنانية ودعوى الاصالة في الوجود والاستقلال بالآثار أَوْ تُخْفُوهُ وتكتموه يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الجامع لجميع الأسماء المحيط لجميع الأشياء بل وجود عموم الأشياء كلها مستهلكة في وجوده سبحانه فانية في ذاته فَيَغْفِرُ اى يستر ويمحو ذنب الأنانية ومعصية الغيرية لِمَنْ يَشاءُ من عباده بفضله وجوده وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بمقتضى قهره وجلاله ارادة واختيارا إظهارا لقدرته وقلعا لشركته وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما شاء ويشاء قَدِيرٌ بالقدرة الازلية الابدية له التصرف مطلقا في عموم ما كان ويكون لا يعزب عن حضوره ذرة ولا يشغله فترة وتعطيل
وعلى ذلك قد آمَنَ الرَّسُولُ الفاني في الله الباقي ببقائه المستغرق بمطالعة لقائه بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات المتكثرة المتجددة بتجددات التجليات المنتشئة مِنْ رَبِّهِ الذي رباه لاستخلافه ونيابته وتحمل اسرار أعباء نبوته ورسالته وَالْمُؤْمِنُونَ المتبعون المسترشدون منه المقتفون اثره صلّى الله عليه وسلم كُلٌّ منهم قد آمَنَ بِاللَّهِ المتفرد بالبقاء المتعزز بالعظمة والكبرياء وَمَلائِكَتِهِ الموسومين بالصفات الذاتية والأسماء الإلهية وَكُتُبِهِ المترتبة على صفة الكلام المنزلة على السنة الرسل والأنبياء للهداية والإهداء وَرُسُلِهِ المنبهين على ذوى البصائر والنهى مما في مضامين(1/95)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
آياته الكبرى من السرائر والأسرار التي قد تفتتت دونها الآراء واضمحلت عندها الأهواء قائلين يعنى هؤلاء المؤمنين المقرين المعترفين لا نُفَرِّقُ ولا نميز بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ المبعوثين إلينا من لدنه سبحانه بعد ما قد ظهر الكل منه ورجع اليه وَبعد ما آمنوا بالله وإحاطته قالُوا طوعا سَمِعْنا وَسمعا أَطَعْنا بجميع ما قد جاء به الرسل من عندك يا مولانا نرجو منك غُفْرانَكَ رَبَّنا الذي ربيتنا بقدرتك بالمعرفة والايمان بين ملابس الإمكان المفضى بالطبع الى انواع الخذلان والخسران وَإِلَيْكَ يا هادي الكل لا الى غيرك إذ لا غير معك الْمَصِيرُ في الإعادة عن شياطين الأوهام والخيالات الباطلة الناشئة من لوازم الإمكان المفضية الى دركات النيران.
ثم نبه سبحانه على خلص عباده ما يئول أمرهم اليه وينقطع سعيهم دونه بقوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ الهادي لعباده نحو جنابه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اى حسب ما في وسعها واستعدادها مما عينه الله له في سابق علمه ولوح قضائه فظهر انه لَها ما كَسَبَتْ من ثواب الخيرات حسب استعداده الفطري وَعَلَيْها ايضا مَا اكْتَسَبَتْ من جزاء الشرور والقبائح بمتابعة القوى الامارة الامكانية التي هي منشأ جميع الفتن والفساد ثم لما أشار سبحانه الى سرائر التكاليف والمجازاة أراد ان يشير الى ان الإتيان بما كلف به لا يكون الا باقداره وتوفيقه وجذب من عنده لذلك لقنهم الدعاء اليه والاستعانة منه والمناجاة معه بقوله رَبَّنا يا من ربيتنا بلطفك لقبول تكليفاتك لنصل الى صفاء توحيدك وتقديسك لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا إتيان ما كلفتنا به بسبب إمكاننا أَوْ أَخْطَأْنا فيها لقصور إدراكنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً حجابا غليظا وغشاء كثيفا تعمى به بصائر قلوبنا عن ادراك نور توحيدك وأبصارنا عن احساس شمس ذاتك كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا سهل علينا طريق توحيدك وَلا تُحَمِّلْنا من متاعب الرياضات ومشاق التكليفات القالعة لدرن الإمكان ورين التعلقات ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ولا يسع في وسعنا العمل والإتيان به وَاعْفُ اى امح بفضلك عَنَّا مقتضيات القوى البشرية واوصافنا الامكانية وَاغْفِرْ لَنا اى استر انانيتنا وهويتنا عن نظرنا وَارْحَمْنا بعد ذلك برحمتك الواسعة أَنْتَ مَوْلانا ومولى نعمنا فَانْصُرْنا بعونك ونصرك في ترويج دينك وإعلاء كلمة توحيدك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الظاهر في الأنفس والآفاق حققنا بلطفك بحقيتك وتوحيدك يا خير الناصرين ويا هادي المضلين
خاتمة سورة البقرة
عليك ايها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات شرح الله صدرك ويسر لك أمرك ان تأخذ نصيبك حسب قدرتك وطاقتك من هذه السورة المشتملة على جميع المطالب الدينية والمراتب اليقينية فلك ان تشمر أولا ذيلك عن الدنيا وما فيها معرضا عن لذاتها وشهواتها متوجها بوجه قلبك الى توحيد ربك مستفتحا بما أودعه سبحانه في صدرك من خزائن جوده ودفائن وجوده طاويا كشح حالك ومقالك عما لا يعنيك هاربا عن مصاحبة ما يضرك ويغويك طالبا الوصول الى معارج التوحيد ومدارج التجريد والتفريد راغبا عما سوى الحق من اسباب الكثرة والتقييد مستنشقا من نسمات أنسه ونفحات قدسه مستروحا بنفثات رحمته مستكشفا عن اسرار ربوبيته مستهديا من زلال هدايته بمتابعة نبيه المخلوق على صورته المبعوث الى جميع بريته مسترشدا من كتابه المنزل عليه(1/96)
الجامع لما في الكتب السالفة من الحكم والمواعظ والعبر والأمثال والرموز والإشارات الواردة لهداية التائهين في فضاء وجوده المستغرقين في تيار بحار إحسانه وجوده فعليك ايها المريد القاصد لسلوك طريق الحق ان تلازم هذا الكتاب الذي لا ريب في هدايته لمن آمن بغيب الهوية الإلهية وادام التوجه نحوه صارفا عنان عزمك عن كل ما يشغلك عن ربك مقبلا بشأنك نحو مقصدك ومطلبك معرضا على نفسك ما فيه من الحقائق والمعارف والحكم والاحكام والقصص والتذكيرات إذ ما من حرف من حروف هذا الكتاب الا وهو ظرف لمعان الى ما شاء الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم فلا بد لك عند تلاوة القرآن ان تطهر ظاهرك وباطنك عن جميع لوازم بشريتك بحيث تغيب عنك نفسك وتفنى هويتك وشانك في هوية الحق وأنطقك ربك بكلامه ومتى رسخت هذه الحالة فيك وصارت خلقك وشيمتك فزت بحظك ونصيبك من تلاوته وإياك إياك ان تغفل عند قراءته عن فحص اشارته والتدقيق في روايته ودرايته ومتى صفت سرك وسريرتك عن العوائق كلها وخلصت طويتك عن العلائق برمتها صح لك ان تسترشد منه حسب ما قدر الله لك ووفقك عليه في سابق علمه انه سبحانه على جميع ما يشاء قدير وبإجابته حقيق جدير
[سورة آل عمران]
فاتحة سورة آل عمران
لا يخفى على الراسخين في العلوم اللدنية المتأملين في محكمات الكتب المنزلة من عند الله المتعلقة بتهذيب الظاهر عن الكدورات البشرية ومتشابهاتها المصفية للباطن بالنسبة الى اولى العزائم الصحيحة عن جميع الأوهام والخيالات الفاسدة المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الهوية السارية في جميع المظاهر حسب تعددات التجليات المترتبة على الأوصاف والأسماء الذاتية ان سر الإنزال والإرسال والوحى على الأنبياء والإلهامات والارهاصات الواردة على قلوب المخلصين من الأولياء انما هو للتفطن والتنبه على كيفية انبساط الظل الإلهي الممتد على طبيعة العدم المقابل للوجود القابل لانعكاس اشعة انواره الفائضة حسب تجلياته الجمالية والجلالية وكيفية ارتباط الاظلال والعكوس الغير المحصورة على المبدأ الوحدانى الذي هو الوحدة الذاتية التي لا تعدد فيه أصلا الا بحسب الأوصاف والشئون كما قال سبحانه في وصف ذاته المنزه عن شوب الكثرة. قل هو الله احد السورة وقال في شانه المقتضى للتعدد كل يوم هو في شأن وقال في ارتباط الاظلال ورجوعها الى الوحدة وما من دابة الا هو آخذ بناصيتها الآية. وقال ايضا بلسان الاظلال. انا لله وانا اليه راجعون وقال ايضا. كل إلينا راجعون. وقال ان إلينا إيابهم الى غير ذلك من الآيات والاخبار الواردة في هذا الباب والشهودات والكشوفات الصادرة من ارباب الولاء أنار الله براهينهم. ولما كان الإنسان الكامل قابلا لمظهرية جميع الأوصاف الإلهية لائقا للخلافة والنيابة عنه سبحانه انزل عليه من عنده كتابا مشتملا على عموم ما كان ويكون من رطب ويابس ونقير وقطمير كما قال سبحانه في محكم تنزيله. ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين. وقال في وصف كتابه. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فلا بد للمسترشد الخبير منه ان يتعمق في طلب دفائن اسراره الكامنة في أغواره ويغوص في ذخار تيار بحاره حتى يفوز بغرر فوائده ودرر فرائده ويتحقق بمقام التخلق بأخلاق الله تعالى حتى يتصف بالخلافة والنيابة الإلهية ويستحق الخطاب الإلهي ولهذا خاطب سبحانه رسوله الذي هو أكمل الرسل الكاملين وأتم المخلوقين صلوات الله عليه وسلامه متبركا بِسْمِ اللَّهِ(1/97)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
الذي انزل الكتاب وأرسل الرسل إرشادا لعموم العباد الى سبيل المعاد الرَّحْمنِ عليهم بانزال المحكمات المعدة لفيضان اليقين والعرفان الرَّحِيمِ عليهم بانزال المتشابهات المتضمنة للب التوحيد وزبدة التحقيق والإيقان
[الآيات]
الم ايها الإنسان الكامل الأوحدي الأقدسى اللائح على الصورة الرحمانية الملازم الملاحظ لمقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية المتفرعة عليها جميع المظاهر الكونية المشتمل عليها المحيط بها
اللَّهُ اى الذات الواحد الأحد الفرد الصمد المبدع المظهر الموجد الذي لا إِلهَ ولا موجود ولا مظهر في الوجود إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الدائم الثابت الذي لا يقدر حياته الزمان ولا يحصرها المكان إذ لا يشغله شأن عن شأن الْقَيُّومُ الذي لا يعرضه الفتور ولا يعجزه كر الأعوام ومر الدهور
الا وهو الذي نَزَّلَ عَلَيْكَ يا مظهر الكل وأكمل الرسل امتنانا لك الْكِتابَ اى القرآن الجامع الشامل لما في الكائنات أعلاها وأدناها أوليها واخراها ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السالفة المنزلة على الأنبياء الماضين صلوات الله عليهم أجمعين وَأَنْزَلَ ايضا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ على موسى وعيسى عليهما السّلام مصدقين كذلك لعموم ما مضى من الكتب السابقة
مِنْ قَبْلُ اى قبل إنزال القرآن عليك ومن سنته سبحانه إنزال اللاحق مصدقا للسابق لكون الكل هُدىً لِلنَّاسِ اى نازلا من عنده سبحانه لمصلحة الهداية يهديهم الى توحيده الذاتي عند ظهور امارات الغي والضلال وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ ايضا لهذه المصلحة ليفرق الحق من الباطل والهداية من الضلال وآيات الله من تسويلات الشيطان إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ سيما تحققوا بعد نزوله وكذبوا بالرسل المنزلة عليهم الكتب والآيات لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ هو الطرد والحرمان عن ساحة عز التوحيد بسبب انكارهم الآيات الهادية لهم الى طريقه وَبالجملة اللَّهِ الهادي للكل الى زلال توحيده عَزِيزٌ غالب قادر ذُو انْتِقامٍ عظيم وتعذيب شديد على من كفر بآياته واستكبر على من انزل اليه
وكيف لا إِنَّ اللَّهَ المحيط بجميع ما كان ويكون لا يَخْفى عَلَيْهِ ولا يغيب عنه شَيْءٌ مما حدث فِي الْأَرْضِ وَلا مما حدث وكان فِي السَّماءِ من الايمان والكفر والهداية والضلالة وغير ذلك من الأعمال والأحوال الصادرة من العباد فكيف يخفى عليه سبحانه شيء من الأشياء
إذ هُوَ الموجد المصور الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ بقدرته ابتداء فِي الْأَرْحامِ بعد انصبابكم من أصلاب آبائكم إليها كَيْفَ يَشاءُ اى على اى وجه تتعلق به مشيئته وارادته بلا مزاحمة ضد ولا مشاركة احد من شريك وند إذ لا إِلهَ اى لا موجد ولا مصور في الوجود إِلَّا هُوَ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بلا منازع له ولا مخاصم دونه بل هو الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يشاء الْحَكِيمُ المتقن في كل ما يريد
وكيف لا هُوَ الَّذِي اصطفاك يا أكمل الرسل لرسالته واجتباك لنيابته وخلافته بان أَنْزَلَ عَلَيْكَ تفضلا وامتنانا من عنده لتصديقك وتأييدك الْكِتابَ المعجز لجميع من تحدى وتعارض معك تعظيما لشأنك وفصله بالسور والآيات الدالة على الأمور المتعلقة لأحوال العباد في النشأة الاولى والاخرى إذ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ متعلقة بأحوال عموم العباد وعلى اختلاف طبقاتهم في معاشهم ومعادهم من الاحكام والمعاملات والمعتقدات الجارية فيما بينهم حسب النشأتين هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ واجبة الاقتداء والامتثال لكافة الأنام إياها وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ متعلقة بالمعارف والحقائق المترتبة على الحكم والمصالح المودعة في إيجاب التكليفات والطاعات والعبادات المؤدية إليها بالنسبة الى اولى العزائم(1/98)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
الصحيحة المتوجهين الى بحر التوحيد فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ميل وعدول عن طريق الحق الجامع بين الظاهر والباطن فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ويتركون الامتثال بمحكماته جهلا وعنادا ولم يعلموا ان الوصول الى المعارف والحقائق انما تنال بتهذيب الظاهر بامتثال المحكمات بل ليس غرضهم من تلك المتابعة الا ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ اى طلب إيقاع الفتنة بين الناس وإفساد عقائدهم عن منهج التوحيد وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ الى ما يرتضيه عقولهم وتشتهيه نفوسهم كالمبتدعة خذلهم الله وَالحال انه ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ على ما ينبغي إِلَّا اللَّهُ الحكيم المنزل إذ تأويل كلامه لا يسع لغيره الا بتوفيقه واعانته وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ اللدني المؤيدون الموفقون من عنده حسب الهامه ووحيه بمعارف وحقائق لا تحصل بمجرد القوى البشرية الا بتأييد منه سبحانه وجذب من جانبه يَقُولُونَ على مقتضى تحققهم بمقام التوحيد المسقط لعموم الإضافات آمَنَّا بِهِ اى قد أيقنا واذعنا بمحكمات الكتاب ومتشابهاته جميعا إذ كُلٌّ منزل مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وانى لنا ان نتفاوت فيه وَبالجملة ما يَذَّكَّرُ وما يتعظ به وبأمثاله على وجه الإخلاص والتيقظ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ المجبولون على لب التوحيد المعرضون عن قشوره التي هي من مقتضيات القوى النفسانية التي هي من جنود شياطين الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة
رَبَّنا يا من ربيتنا بلطفك على نشأة توحيدك لا تُزِغْ ولا تمل قُلُوبَنا عن طريق معرفتك سيما بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا عليه بانزال الكتب وإرسال الرسل وَهَبْ لَنا وتفضل علينا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً عامة شاملة لليقين العلمي والعيني والحقي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ والجواد الفياض بلا اعواض وأغراض
رَبَّنا إِنَّكَ بذاتك وبحسب اوصافك وأسمائك جامِعُ شتات النَّاسِ لِيَوْمٍ آن وشأن لا رَيْبَ فِيهِ ولا شك في وقوعه لاخبارك عنه ووحيك على السنة رسلك وكتبك وكيف لا إِنَّ اللَّهَ الجامع لشتات العباد في يوم المعاد لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ الذي وعده في كتابه بل قد انجزه على مقتضى انزاله ووحيه واخباره
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن أوامر كتبه ورسله وأصروا على كفرهم وانكارهم اغترارا بمزخرفاتهم الباطلة من الأموال والأولاد لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع عَنْهُمْ في النشأة الاخرى لا أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ غضب اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ المصرون المعاندون هُمْ وَقُودُ النَّارِ اى أجسامهم وقود نار الحسرة والخذلان لان دأبهم وديدنهم في النشأة الاولى
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ المفسدين المسرفين المفرطين كعاد وثمود وكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا المنزل على رسلنا المستخلفين من عندنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ باسمه المنتقم بِذُنُوبِهِمْ الصادرة منهم من التكذيب والإنكار والعناد والاستكبار فاستأصلهم بالمرة في النشأة الاولى واحرقهم بالنار في النشأة الاخرى جزاء بما كسبوا في دار الدنيا وَبالجملة اللَّهُ القادر المقتدر على عموم ما يشاء شَدِيدُ الْعِقابِ لكل من عاند واستكبر
قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا لِلَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك اخبارا لهم مما سيجرى عليهم سَتُغْلَبُونَ بكمال قهر الله وغضبه في يوم الجزاء وَتُحْشَرُونَ بين يدي الله وتحاسبون عنده سبحانه على عموم ما جرى عليهم في النشأة الاولى وبعد ذلك تساقون إِلى جَهَنَّمَ البعد والخذلان مطرودين مهانين وَبِئْسَ الْمِهادُ وما تمهدوا فيها بما اقترفته نفوسهم من الاستكبار على الأنبياء والإصرار على ما هم عليه من الكفر والضلال سيما بعد ظهور آيات الايمان وعلامات الهدى والعرفان
إذ قَدْ كانَ لَكُمْ ايها الضالون في تيه(1/99)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)
الحرمان آيَةٌ ظاهرة دالة على الهدى الحقيقي فِي فِئَتَيْنِ وفرقتين حين الْتَقَتا إحداهما فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته واظهار توحيده وَأُخْرى كافِرَةٌ تقاتل في سبيل الطاغوت مع الموحدين مكابرة وعنادا ومع كونكم ايها الكافرون المعاندون بأضعاف المؤمنين الموحدين وكثرة عددكم وعددكم يَرَوْنَهُمْ اى المؤمنين مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ اى في بادى النظر ويرهبون منهم رهبة شديدة بتأييد الله ونصره وَاللَّهُ المحيط بجميع ما جرى في ملكه يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ العزيز مَنْ يَشاءُ من عباده المخلصين في أطاعته وانقياده إِنَّ فِي ذلِكَ التأييد والنصر مع ظهور عكسه لَعِبْرَةً تبصرة وتذكرة لِأُولِي الْأَبْصارِ المستبصرين بنظر الاعتبار عن سرائر الأمور واسرارها بلا التفات لهم الى مزخرفات الدنيا الدنية من شهواتها ولذاتها المنهمكين المستغرقين في بحر الغفلة والغرور
إذ زُيِّنَ اى قد حبب وحسن لِلنَّاسِ المغرورين لزخرفة الدنيا حُبُّ الشَّهَواتِ اى المشتهيات المنحصرة أصولها في هذه المذكورات مِنَ النِّساءِ اللاتي هن من اشهاها إذ هن ما جعلن الا للوقاع والجماع الذي هو من ألذ الملذات النفسانية وَالْبَنِينَ للمظاهرة والمفاخرة والغلبة على الأقران وَالْقَناطِيرِ اى الأموال الكثيرة الْمُقَنْطَرَةِ المجتمعة المخزونة مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لكونها وسائل الى نيل جميع المشتهيات التي مالت القلوب إليها بالطبع وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ المعلمة المنسوبة إليهم ليركبوا عليها خيلاء بطرين وَالْأَنْعامِ من الإبل والبقر والغنم ليحملوا عليها اثقالهم ويأكلوا منها ويزرعوا بها وَالْحَرْثِ ليعيشوا بها كل ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الدنية بل من اجلة أمتعتها الفانية المانعة من الوصول الى جنة المأوى التي هي دار الخلود وموعد لقاء الخلاق الودود وَبالجملة اللَّهُ الهادي للكل الى سبل الصواب عِنْدَهُ لمن توجه نحوه واستقبل اليه حُسْنُ الْمَآبِ وخير المنقلب والمتاب
قُلْ يا أكمل الرسل للمؤمنين المخلصين في عبادة الله الراغبين الى جزيل عطائه وجميل جزائه الطائرين نحو فضاء فنائه الطالبين الوصول الى شرف لقائه الفانين في الله ليفوزوا بشرف لقائه تحريكا لسلسلة شوقهم الفطرية ومحبتهم الجبلية أَأُنَبِّئُكُمْ وأخبركم ايها الحيارى في صحارى الإمكان الموثقون بقيود الأكوان المحبوسون في مضيق الحدثان بسلاسل الزمان وأغلال المكان بِخَيْرٍ بمراتب ودرجات مِنْ ذلِكُمْ الذي قد ملتم إليها واشتهيتم الى نيلها ووصولها بالطبع في نشأتكم هذه حاصل واصل لكم في النشأة الاخرى لكن لِلَّذِينَ اتَّقَوْا منكم عن محارم الله وتوجهوا نحوه في نشأة الدنيا ولم ينكبوا على ما نهاهم الله عنه بالسنة رسله وكتبه عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي وفقهم على ترك المحظورات واجتناب المكروهات والمنكرات جَنَّاتٌ متنزهات المعارف والحقائق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة بمياه الحيات المرشحة من بحر الذات على كؤس التعينات خالِدِينَ فِيها دائما لا يتحولون عنها الا الى درجات هي أعلى منها وَلهم فيها ايضا أَزْواجٌ اعمال واحوال مُطَهَّرَةٌ خالصة عن مطلق الرياء والرعونة صافية عن كدر الميل الى البدع والأهواء المورثة لانواع الجهل والغفلات وَمع ذلك لهم علاوة على الكل عند ربهم رِضْوانٌ عظيم مِنَ اللَّهِ لتمكنهم في مقام العبودية وتحققهم بمقام الرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء بحيث لا ينسبون شيأ من الحوادث الكائنة الى الأسباب والوسائل العادية ولا يرون الوسائط في البين أصلا وَاللَّهُ الهادي للكل بَصِيرٌ بِالْعِبادِ الراضين المرضيين بقضاء الله وإمضائه
يعنى الَّذِينَ يَقُولُونَ بألسنتهم موافقا لما في قلوبهم(1/100)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
عند مناجاتهم مع الله وعرض حاجاتهم إياه سبحانه رَبَّنا إِنَّنا بعد ما آمَنَّا بك وبكتبك ورسلك بمقتضى توفيقك إيانا فَاغْفِرْ لَنا بلطفك ذُنُوبَنا التي كنا عليها حسب انانيتنا واستر عيوبنا التي كنا متصفين بها قبل انكشافنا بتوحيدك وَقِنا واحفظنا بفضلك وجودك عَذابَ النَّارِ المعدة لأصحاب البعد والضلال عن جادة توحيدك وساحة عز حضورك
الصَّابِرِينَ على عموم ما أصابهم من البأساء والضراء في طريق توحيدك وَالصَّادِقِينَ المعرضين عن الكذب مطلقا في أقوالهم المعبرة عما في ضمائرهم وافئدتهم من الايمان والإذعان وَالْقانِتِينَ الخاضعين الخاشعين إليك بظواهرهم وبواطنهم وَالْمُنْفِقِينَ من طيبات ما رزقت لهم وسقت إليهم طلبا لمرضاتك بلا شوب المنة والأذى وَالْمُسْتَغْفِرِينَ لك الخائفين الوجلين من سخطك وجلالك الراجين منك العفو في عموم أوقاتك سيما بِالْأَسْحارِ الخالية عن جميع الموانع والشواغل العائقة عن التوجه الى جنابك الشاهدين بوحدانيتك
بما شَهِدَ اللَّهُ به لذاته إلا وهي أَنَّهُ لا إِلهَ اى لا ثابت ولا موجود ولا كون ولا وجود ولا تحقق ولا ثبوت الى غير ذلك من العبارات المشيرة الى الذات الاحدية والهوية الغيبية إِلَّا هُوَ الحي الحقيق بالحقية الوحيد بالقيومية الفريد بالديمومية لا شيء سواه وَكذلك بما شهد به الْمَلائِكَةُ المهيمون اى الأسماء والصفات القائمة بالذات الاحدية إذ الكل قائم به ثابت له لا مرجع لهم سواه وَكذا بما شهد به أُولُوا الْعِلْمِ وذووا المعرفة والشهود من المظاهر المخلوقة على صورته المتأثرة من أوصافه وأسمائه المتصفة بها ذاته وان كانت شهادة كل منهم راجعة الى شهادته سبحانه لكون الكل قائِماً متحققا متقوما بِالْقِسْطِ اى بالعدل الإلهي المنبسط على ظواهر الكائنات ازلا وابدا إذ لا إِلهَ اى لا مظهر ولا موجد للمظاهر بل لا موجود ولا ظاهر حقيقة ولا معنى إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على إظهارها الْحَكِيمُ المتقن في تربيتها وتدبيرها قائلين مقرين معترفين طوعا ورغبة بعد ما تحققوا بمقام العبودية والتسليم
إِنَّ الدِّينَ القويم والشرع القوى المستقيم المقبول المرضى عِنْدَ اللَّهِ الهادي للعباد الى سبيل الرشاد هو الْإِسْلامُ المنزل من عنده سبحانه الى خير الأنام محمد عليه الصلاة والسّلام وَمَا اخْتَلَفَ المعاندون المنكرون لدين الإسلام وهم الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى اليهود والنصارى إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما قد جاءَهُمُ الْعِلْمُ اليقيني في كتبهم المنزلة عليهم من عند الله بانه سيظهر الدين الحق الناسخ لجميع الأديان السابقة وقد علموا حقيته بالدلائل والعلامات المبينة في كتابهم ومع ذلك ينكرونه بَغْياً وحسدا ثابتا بَيْنَهُمْ راسخا في قلوبهم ناشئا من طلب الرياسة والاستكبار والعتو والإصرار وَبالجملة مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ بأمثال هذه الأباطيل المموهة يجازهم على كل منها بلا فوت شيء فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يعزب عن علمه شيء شديد العقاب لمن أنكر آياته سيما بعد ظهور حقيتها
فَإِنْ حَاجُّوكَ وجادلوا معك يا أكمل الرسل بعد ما ثبت حقية دينك وكتابك عندهم مكابرة وعنادا لا تجادل أنت معهم بل اعرض عنهم فَقُلْ أَسْلَمْتُ اى فوضت وسلمت امرى في ظهور ديني ووجهت وَجْهِيَ اى صورتي المخلوقة على صورة الحق المستجمع للكل لِلَّهِ ظاهرا وباطنا وَمَنِ اتَّبَعَنِ من الموفقين على الانقياد والتسليم الى الله في كل الأمور وَقُلْ ايضا يا أكمل الرسل امحاضا للنصح لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ وهم الذين لا يأتيهم الكتاب والدعوة أَأَسْلَمْتُمْ بدين الإسلام المبين لتوحيد الله كما أسلمت(1/101)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
انا ومن اتبعن بعد ما ظهر لكم دلائل حقيته أم لم تسلموا بغيا وعنادا فَإِنْ أَسْلَمُوا بعد تنبيهك عليهم وتعليمك طريق الهداية والإرشاد فَقَدِ اهْتَدَوْا الى طريق الحق كما اهتديت أنت ومن تبعك من المؤمنين وَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عنك وعن دعوتك عنادا واستكبارا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ اى لم يضروك بانصرافهم واعراضهم عنك بل ما عليك من حسابهم من شيء ولا عليهم من حسابك من شيء فاعرض أنت ايضا عنهم وَاللَّهُ المحيط بهم وبضمائرهم بَصِيرٌ خبير بِالْعِبادِ وأحوالهم وأعمالهم يجازيهم على مقتضى علمه وخبرته وقل لهم ايضا تذكيرا واستحضارا حكاية عن حال أسلافهم الماضين
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ وينكرون بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على أنبيائه سيما بعد ظهور صدقها وحقيتها وَمع ذلك يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ الذين قد انزل عليهم الآيات من عنده سبحانه بِغَيْرِ حَقٍ
بلا رخصة شرعية اى بلا موافقة بشرع ودين وَيَقْتُلُونَ ايضا المؤمنين الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ والعدل مِنَ النَّاسِ الذين يتبعون شرائعهم وينقادون باديانهم ويمتثلون باوامرهم وأحكامهم قد جرى عليهم في الدنيا ما جرى وسيجرى عليهم في الآخرة بأضعاف ذلك لعلهم يتنبهون ويمتنعون والا فَبَشِّرْهُمْ يا أكمل الرسل بِعَذابٍ أَلِيمٍ جزاء لاصرارهم وعنادهم
وبالجملة أُولئِكَ المصرون المعاندون هم الَّذِينَ حَبِطَتْ وضاعت بالمرة أَعْمالُهُمْ كلها بحيث لا ينفع لهم عند الله لا فِي الدُّنْيا وَلا في الْآخِرَةِ وَما لَهُمْ عند ربهم مِنْ ناصِرِينَ ليشفع لهم او يعين عليهم من الذين كانوا يدعون الاقتداء بهم ويستبصرون منهم لكونهم ضالين منهمكين بالغفلة بحيث لا حظ لهم من الهداية أصلا
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى الَّذِينَ اى الى إصرار اليهود وعنادهم مع كونهم قد أُوتُوا نَصِيباً كاملا مِنَ الْكِتابِ اى التورية في زعمهم حين يُدْعَوْنَ في الوقائع إِلَى رجوع كِتابِ اللَّهِ مع انهم يدعون الايمان به والعمل بمقتضاه لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حسبما امر الله فيه كيف يتكاسلون ويتهاونون ثُمَّ يترقى تكاسلهم وتهاونهم الى ان يَتَوَلَّى يستدبر وينبذ فَرِيقٌ مِنْهُمْ الكتاب وراء ظهورهم وَهُمْ مُعْرِضُونَ عنه وعن أحكامه بالمرة روى انه عليه السّلام دخل مدارس اليهود فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على اى دين أنت يا محمد فقال على دين ابى ابراهيم عليه السّلام فقال ان ابراهيم كان يهوديا فقال صلّى الله عليه وسلّم هلموا كتابك ليحكم بيننا وبينكم فأنكرا عليه صلّى الله عليه وسلّم وامتنعا عن احضاره
فنزلت ذلِكَ التولي والاعراض انما حصل لهم من اعتقادهم الفاسد بِأَنَّهُمْ قالُوا على مقتضى ما اعتقدوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ المعدة لجزاء العصاة إِلَّا أَيَّاماً قلائل مَعْدُوداتٍ سواء كانت ذنوبا كثيرة او قليلة صغيرة كانت او كبيرة وَبالجملة قد غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ اى جزاؤهم على العصيان والطغيان فيما يفترون في شأن دينهم من أمثال هذه الهذيانات منها قولهم هذا ومنها اعتقادهم ان آباءهم الأنبياء هم يشفعون لهم وان عظمت زلتهم ومنها ان يعقوب عليه السّلام ناجى مع الله ان لا يعذب أولاده الا تحلة القسم قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا
فَكَيْفَ لا تمسهم النار اذكر لهم وقت إِذا جَمَعْناهُمْ إلينا بعد تفريقهم منا لكسب المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات لِيَوْمٍ آن وشأن لا رَيْبَ فِيهِ عند من يكاشف له وبعد ما جمعنا إياهم وَوُفِّيَتْ ووفرت كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما كَسَبَتْ من الحقائق والعرفان والمعاصي والخذلان وَهُمْ اى كل منهم في ذلك(1/102)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
اليوم مجزى بما كسب بحيث لا يُظْلَمُونَ فالنيل والوصول يومئذ لأرباب الفضل والقبول والويل والثبور لأصحاب الطرد والخمول أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف فاعف عنا يا رحيم يا غفور
قُلِ يا ايها المتحقق بمقام الشهود الذاتي المكاشف بوحدة الحق دعاء صادرا من لسان مرتبتك الجامعة الشاملة لجميع المراتب اللَّهُمَّ يا مالِكَ الْمُلْكِ اى المتصرف على الإطلاق المستقل بالالوهية والربوبية بكمال الاستحقاق أنت تُؤْتِي وتعطى بلطفك وأنت تكشف بكمال فضلك وجودك الْمُلْكِ المطلق اى التحقيق بمرتبة التوحيد مَنْ تَشاءُ من خواص مظاهر صفاتك وأسمائك وَأنت تَنْزِعُ وتمنع وتستر بقهرك الْمُلْكِ المذكور مِمَّنْ تَشاءُ من العوام تتميما لمقتضيات أوصاف جمالك وجلالك ولطفك وقهرك وَأنت تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بايصالهم الى فضاء فنائك وَايضا أنت تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بابقائهم وراء حجاب سرادقات عزك وجلالك وبالجملة بِيَدِكَ وبقبضة قدرتك وبمقتضى مشيتك وارادتك الْخَيْرُ «2» كله اى الوجود وظهوره على أنحاء شتى واطوار لا تعد ولا تحصى إِنَّكَ بذاتك وبمقتضى أسمائك وصفاتك عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهر تجلياتك قَدِيرٌ لا تنتهي قدرتك عند مقدور أصلا
ومن جملة مقدوراتك انك تُولِجُ اى تدخل وتدرج الى حيث تظهر اللَّيْلَ اى العدم فِي صورة النَّهارِ اى الوجود إظهارا لقدرتك حسب لطفك وجمالك وَتُولِجُ أنت ايضا النَّهارِ اى نور الوجود فِي اللَّيْلِ اى مشكاة العدم إظهارا لقهرك وجلالك وَأنت تُخْرِجُ وتظهر الْحَيَّ الحقيقي الذي هو عبارة عن نور الوجود مع غاية صفائه وظهوره مِنَ الْمَيِّتِ اى العدم الأصلي الذي هو مرآة التعينات وَايضا أنت تُخْرِجُ الْمَيِّتَ اى العدم الجامد الذي ما شم رائحة الحيوة أصلا بامتداد اظلال أسمائك ورش رشحات صفاتك عليه مِنَ الْحَيِّ الذي لا يموت ابدا الا وهو ذاتك وَبالجملة أنت تَرْزُقُ بلطفك وجودك مَنْ تَشاءُ من مظاهرك من موائد فضلك وجودك ونوال إنعامك وإحسانك بِغَيْرِ حِسابٍ تفضلا لهم وامتنانا عليهم بلا مظاهرة احد ومعاونته هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب ثم لما بين سبحانه ان الهداية الى طريق التوحيد والإضلال عنه انما هي بقدرته واختياره بحيث يؤتى ملك توحيده من يشاء من عباده ويمنعه عن من يشاء أراد ان ينبه على خلص عباده بما يقربهم الى الهداية ويبعدهم عن الضلال
فقال تحذيرا لهم وتخويفا لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ المتوجهون نحو توحيد الذات الطالبون المريدون افناء ذواتهم الباطلة في ذات الحق الحقيق بالحقية ليخوضوا في لجج بحر التوحيد ويفوزوا بدرر المعارف والحقائق الكائنة فيها الْكافِرِينَ الساترين بهوياتهم الباطلة وماهياتهم الكثيفة العاطلة المظلمة نور الوجود أَوْلِياءَ من دون المؤمنين ولا يصاحبون معهم ولا يجلسون في مجالسهم موالاة لهم ومواخاة معهم لقرابة طينية وصداقة جاهلية سيما قد خلوا معهم مِنْ دُونِ حضور الْمُؤْمِنِينَ المظاهرين لهم لئلا يسرى كفرهم ونفاقهم إليهم إذ الطبائع تسرق والأمراض تسرى سيما الكفر والفسوق لان الطبائع مائلة إليهما بالطبع وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ولم يترك مصاحبتهم وموالاتهم فَلَيْسَ مِنَ ولاية اللَّهِ وطريق توحيده فِي شَيْءٍ بل هو ملحق بهم معدود من عدادهم بل أسوئهم حالا وأشدهم جرما ووبالا عند الله بعد ما نهاهم الله عنها ولم ينتهوا إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا وتخافوا مِنْهُمْ تُقاةً توجب
__________
(2) خص الخير بالذكر لان الوجود خير محض لا شرفيه قطعا منه(1/103)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
الموالاة والمصاحبة معهم ضرورة من إتلاف النفس والمال والعرض وعند ذلك المحذور موالاتهم جائزة ومواخاتهم معذورة مداراة ومداهنة وَمع وجود تلك الضرورة المرخصة للموالاة الضرورية يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ اى يحذركم ويخوفكم الله اهل العزائم الصحيحة عن نفسه على وجه التأكيد والمبالغة حتى لا تأمنوا عن سخطه ولا تغفلوا عن غضبه ولا تميلوا عنه سبحانه بارتكاب ما نهيكم عنه وَاعلموا ان عموم المحذورات راجعة إِلَى اللَّهِ إيجادا وإظهارا إذ اليه الْمَصِيرُ في مطلق الخير والشر والنفع والضر لا مرجع سواه ولا منقلب الا إياه
قُلْ لهم يا أكمل الرسل تذكيرا وعظة وتنبيها لهم على ما في فطرتهم إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من محبة الأقارب والعشائر أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ المحيط بظواهركم وبواطنكم وَيَعْلَمُ ايضا بعلمه الحضوري جميع ما فِي السَّماواتِ من الكوائن والفواسد ازلا وابدا وَكذا جميع ما فِي الْأَرْضِ منها بحيث لا يغيب عن حضوره شيء مما لمع عليه برق وجوده وَاللَّهُ المتجلى بذاته لذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهر تجلياته قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يجازيهم على مقتضى علمه وقدرته في النشأة الاخرى.
اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ خيرة جزاء ما عَمِلَتْ في النشأة الاولى مِنْ خَيْرٍ انعام واحسان وعمل صالح ويقين وعرفان مُحْضَراً بين يديه يستحضره ويود استعجاله وَكذا تجد كل نفس شريرة ما عَمِلَتْ فيها مِنْ سُوءٍ عمل غير صالح وكفر ونفاق وشرك محضرا بين يديه مشاهدا بين عينيه تستأخره وتتمنى بعده بل تَوَدُّ وتحب لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وزمانا متطاولا بل يتمنى ان لا تلقاه أصلا وَبالجملة يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ بهذا التذكير والتنبيه نَفْسَهُ اى عن نفسه وعن قدرته على وجوه الانتقام وزيادة قهره وغضبه على من استكبر عن أوامره ونواهيه وَاللَّهُ القادر المقتدر على انتقام العصاة رَؤُفٌ عطوف مشفق رحيم بِالْعِبادِ الذين يترصدون نحو الحق بين طرفي الخوف والرجاء معرضين عن كلا جانبي القنوط والطمع
قُلْ لهم يا ايها المخلوق على صورتنا المجبول على مقتضيات جميع اوصافنا وأسمائنا المتخلق بجميع أخلاقنا مخاطبا لمن تريد إرشادهم وتبليغهم من البرايا إِنْ كُنْتُمْ ايها الاظلال المنهمكون في تيه الغفلة والضلال تُحِبُّونَ اللَّهَ اى تدعون محبة المبدع المظهر لكم من كتم العدم وتطلبون التوجه الى بابه والتقرب نحو جنابه فَاتَّبِعُونِي بامره وحكمه يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ اى يقربكم الى جنابه ويوصلكم بشرف لقائه وَيَغْفِرْ اى يستر ويضمحل لَكُمْ عن أبصاركم وبصائركم ذُنُوبَكُمْ التي قد حجبتم بها عن مشاهدة جمال الله وجلاله وعن مطالعة آثار أوصافه وأسمائه وَاللَّهُ الهادي لكم الى صراط توحيده غَفُورٌ لكم يرفع موانع وصولكم رَحِيمٌ لكم يوصلكم الى مطلوبكم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل ايضا أجل أعمالكم وأفضلها اطاعة امر الله واتباع رسول الله المرسل إليكم أَطِيعُوا اللَّهَ في امتثال جميع أوامره وأحكامه واجتناب عموم نواهيه ومحظوراته وأطيعوا الرَّسُولَ المبلغ لكم كتاب الله المبين لكم المراد منه فان اطاعوا طوعا ورغبة فازوا بما فاز به المؤمنون فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن اطاعة الله واطاعة رسوله تعنتا وعنادا فقد كفروا فلهم ما سيجرى عليهم من عذاب الله وغضبه في النشأة الاخرى فَإِنَّ اللَّهَ الهادي لعباده لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ منهم بحيث لا يقربهم الى كنف جواره ولا يرضى عنهم بل يعذبهم ويبعدهم عن عز حضوره. ثم لما وقف سبحانه محبته ورضاه لعباده على متابعة رسوله واطاعة(1/104)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
حبيبه المصور على صورته المتخلق بأخلاقه صار مظنة ان يتوهم ان نسبة ظهوره سبحانه الى المظاهر كلها على السواء فما وجه التخصيص بامتياز بعض بالمتابعة أشار سبحانه الى دفعه بان من سنتنا تفضيل بعض مظاهرنا على بعض حسب تقربهم إلينا وتخلقهم باخلاقنا وتوجههم نحونا وما هي الا بتوفيقنا عليهم واقدارنا إياهم
فقال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى اى قد اختار واجتبى آدَمَ بالخلافة والنيابة وامر الملائكة الذين يدعون الفضيلة عليه بسجوده وكرمه على سائر مخلوقاته وَقد اصطفى ايضا نُوحاً بالنجاة والخلاص وإغراق جميع من في الأرض بدعائه وَكذا قد اصطفى آلَ إِبْراهِيمَ اى اهل بيته بالإمامة والخلافة المؤيدة لذلك دعا ابراهيم عليه الصلاة والسّلام حسب الهام الله ووحيه إياه ربه بان لا يخلو الزمان عن امامة ذريته الى يوم القيمة وَقد اختار سبحانه ايضا آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ بارهاصات ظاهرة ومعجزات باهرة لم يظهر مثلها من احد مثل إبراء الأكمه واحياء الموتى والولادة بلا أب وغير ذلك من الخوارق المشهودة من عيسى وامه صلوات الله وسلامه عليهما
ثم ان اصطفاء الله إياهم ليس مخصوصا بهم بل قد اصطفى منهم ذُرِّيَّةً أخلافا فضلاء بَعْضُها فوق بعض اى أعلى رتبة مِنْ بَعْضٍ في الفضيلة كما قال سبحانه. تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية وَبالجملة اللَّهُ المحيط بسرائر عباده المتوجهين نحو بابه سَمِيعٌ لمناجاتهم الصادرة عن السنة استعداداتهم عَلِيمٌ بما يليق بحالهم حسب قابلياتهم من المراتب العلية والمقامات السنية اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مناقب آل عمران
سيما وقت إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ حين ناجت ربها في سرها بلسان استعدادها وقت ظهور حملها بإلقاء الله إياها رَبِّ يا من رباني بحولك وقوتك لامتثال أوامرك واجتناب نواهيك إِنِّي قد نَذَرْتُ لَكَ طلبا لمرضاتك ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً معتقا من امور الدنيا كلها خالصا مخلصا لعبادتك وخدمة بيتك بحيث لا يشغله شيء سوى الخدمة وقد كان من عادتهم يومئذ تحرير بعض أولادهم الذكور لخدمة البيت المقدس شرفه الله فَتَقَبَّلْ مِنِّي بلطفك ما نذرت لك للتقرب إليك يا رب إِنَّكَ بذاتك وصفاتك وأسمائك أَنْتَ السَّمِيعُ لمناجاة عبادك الْعَلِيمُ بنياتهم وحاجاتهم
فَلَمَّا وَضَعَتْها أنثى أيست وقنطت عما نوت ونذرت ومن شدة يأسها قالَتْ متحزنة متحسرة مشتكية الى ربها رَبِّ إِنِّي وان بالغت في اخلاص النية وخلوص الطوية في نذرى لم تقبله منى يا ربي إذ قد وَضَعْتُها أُنْثى والأنثى لا تصلح لخدمة بيتك وَلما امتدت في اظهار التحزن وبث الشكوى والتحسر نوديت في سرها على سبيل الإلهام لا تجزعي ولا تحزني إذ اللَّهُ المطلع لعموم حالاتك سيما لإخلاصك في نيتك ونذرك أَعْلَمُ منك بِما وَضَعَتْ وبما ظهرت منها من البدائع والغرائب والارهاصات الخارقة للعادات وَلَيْسَ الذَّكَرُ الذي قد حرر لخدمة البيت في الازمنة السالفة كَالْأُنْثى هذه إذ يترتب على وجودها من عجائب صنع الله وبدائع قدرته وحكمته ما لم يترتب على سائر المذكر لا في الزمان السابق ولا في الزمان اللاحق وَبعد ما سمعت بسمع سرها ما سمعت قالت ناشطة فرحانة إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ليكون اسمها مطابقا لمسماها لان لفظة مريم في لغتهم بمعنى العابدة وَبعد ما تحققت عندها بالهام الله إياها وقاية الله إياها وذريتها قالت مفوضة الى الله إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها ايضا مِنَ إغواء الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ واغرائه ليكون هي وهم دائما في حفظك وحماك ابدا
فَتَقَبَّلَها رَبُّها ما نذرت له(1/105)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
بِقَبُولٍ حَسَنٍ حتى نشطت وفرحت بمكاشفة اللطف من قبل الحق بعد ما أيست وقنطت وَبعد قبول الحق إياها قد أَنْبَتَها ربها بلطفه ورباها بكرمه حتى صارت نَباتاً حَسَناً مظهرا لعجائب صنعه وبدائع حكمته وَبعد ما تقبلها ربها وأنبتها ورباها هكذا كَفَّلَها اى قبل كفالتها وحضانتها من احبار البيت زَكَرِيَّا روى ان حنة أم مريم لما كوشفت بأمرها بالهام الله إياها لفتها في خرقة وحملتها الى المسجد ووضعتها عند الأحبار المجاورين فيه على مقتضى العادة المستمرة وقالت دونكم هذه النذيرة فاختلفوا في حضانتها لأنها كانت بنت امامهم وملكهم فقال زكريا انا أحق بحضانتها لان خالتها عندي فأبوا الى ان اقترعوا وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا الى نهر فالقوا فيه أقلامهم فطفى قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها زكريا في بيت لا باب له إلا كوة في سقفه فلما أراد زكريا ان يأتى برزقها نزل منها ولما خرج أغلقها وقفلها ثم لما مضت عليها مدة صارت حالها هكذا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ لتفقد حالها وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً رغدا من ألوان الأطعمة والفواكه وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف والصيف في الشتاء فتعجب من حالها الى ان سألها منها حيث قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا اى من اين لك هذا الرزق الآتي الذي لا يشبه بارزاق الدنيا ولا فاكهتها في الأرض لا على فوق العادة والأبواب مغلقة عليك قالَتْ بالهام الله إياها ما هُوَ الا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المتكفل لأرزاق عباده إِنَّ اللَّهَ المراقب المحافظ لتربية مظاهره يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ما يشاء كثيرا واسعا بِغَيْرِ حِسابٍ اى بلا إحصاء وتعديد بلا انتظار وترقب بل من حيث لا يحتسب. ثم لما سمع زكريا منها ما سمع ورأى ما رأى
هُنالِكَ اى في تلك الحالة والزمان دَعا زَكَرِيَّا المراقب لنفحات الحق في جميع حالاته رَبَّهُ الذي رباه بتعرض نفحاته لإصلاح حاله متمنيا في دعائه خلفا مثلها يحيى اسمه حيث قالَ مناجيا رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً زكية طاهرة عن جميع الرذائل والنقائص كما وهبتها لامرأة عمران هذه إِنَّكَ باحاطتك على سرائر عموم عبادك وضمائرهم وعلى جميع مقاصدهم وحاجاتهم فيها سَمِيعُ الدُّعاءِ اى مطلق الدعاء والنداء الصادر عن السنة استعداداتهم وقابلياتهم بإلقائك إياهم وإلهامك على قلوبهم.
ثم لما كان دعاؤه عليه السّلام صادرا عن عزيمة صحيحة وارادة صادقة واردا في وقت قدر الله له في علمه بادر سبحانه الى اجابته وامر الملائكة بالتبشير فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ بمقتضى الأمر الإلهي ووحيه وَهُوَ في تلك الحالة مترصد للاجابة قائِمٌ منتظر مقارن لانواع الخضوع والتذلل يُصَلِّي لله ويميل نحوه مقبلا عليه بعموم أعضائه وجوارحه فِي الْمِحْرابِ المعد للانابة والاستقبال قائلين له منادين عليه يا زكريا اعلم أَنَّ اللَّهَ السميع بمناجاتك ودعائك يجيبك ويُبَشِّرُكَ بِيَحْيى اى بابن مسمى من عنده بيحيى لتضمن دعائك بطلب من يخلفك ويحيى اسمك. ثم لما كان الباعث لك على هذا الدعاء مشاهدتك الخوارق والارهاصات الظاهرة من مريم رضى الله عنها صار ابنك الموهوب لك مُصَدِّقاً لابنها الموهوب لها من لدنا بلا سبق الأسباب العادية سيما بلا مباشرة زوج بل بِكَلِمَةٍ اى بمجرد كلمة صادرة مِنَ اللَّهِ مسمى من عنده بالمسيح وَمع كونه مصدقا بعيسى عليه السّلام يصير يحيى في نفسه سَيِّداً فائقا على اهل زمانه بالزهد والتقوى فانه عليه السّلام كان في مدة حياته ما هم بمعصية قط وَمع كونه يحيى سيدا ورئيسا في قومه كان حَصُوراً مبالغا في حبس نفسه عن مشتهياتها مع القدرة عليها وَبسبب اتصافه بالأوصاف المذكورة يصير(1/106)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
نَبِيًّا مِنَ زمرة الأنبياء الصَّالِحِينَ لتبليغ احكام الله الى عباده وهدايتهم الى جنابه
ثم لما سمع زكريا من الملائكة ما سمع من البشارة قالَ متحسرا مستبعدا حصول الولد منه لكونه على خلاف جرى العادة مناجيا مع ربه على سبيل التأسف رَبِّ يا من رباني بنعمك الى كبر سنى أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ اى من اين يحصل لي ولد منى في كبر سنى وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ غايته وَالحال ان امْرَأَتِي عاقِرٌ عقيم ذات عقر من الأولاد في اصل الخلقة ومع ذلك كبيرة اليوم لا ترجى منها الولادة وبعد ما قد بث الشكوى نحو الحق متحسرا متأسفا قالَ له جبريل بوحي الله إياه لا تستبعد من كمال قدرة الله أمثال هذا فانه سبحانه كَذلِكَ يخلق عموم ما يشاء سبحانه بلا سبب يوافق العادة إذ اللَّهُ المقتدر المختار يَفْعَلُ ويوجد ما يَشاءُ من الموجودات ابداعا واختراعا بلا سبق مادة ومدة واسباب عادية فلك ان ترفع غشاوة الأسباب الحاجبة عن البين وتنسب ما جرى في ملكه اليه سبحانه بلا رؤية الوسائط والأسباب إذ لا حجاب عند اولى الألباب بل كل ما صدر عنه لا يتوقف على شيء من سوابقه ولا يتوقف عليه شيء من لواحقه عند اولى البصائر الناظرين بنور الله في تجددات تجليات الوجود الإلهي
ثم لما تفطن زكريا عليه السّلام من هذا الكلام ما تفطن قالَ مستسرعا مستنشطا رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم اجْعَلْ لِي بفضلك آيَةً امارة وعلامة اعرف بها الحمل والحبل ليفرح بها قلبي وأخلص عن التردد والانتظار قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ اى أنت لا تطيق التكلم معهم لعدم مساعدة آلاتك عليه مدة ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ولا تعلمهم حوائجك إِلَّا رَمْزاً اشارة بيد ورأس وغير ذلك وَبعد ما حبست نفسك عن التكلم والتنطق اذْكُرْ رَبَّكَ في نفسك ذكرا كَثِيراً وَسَبِّحْ اى نزه ربك عن مطلق النقائص تسبيحا مقرونا بِالْعَشِيِّ اى جميع أجزاء الليل وَالْإِبْكارِ اى جميع أجزاء النهار لتستوعب أنت جميع أوقاتك وآنائك بتسبيحه. من هذا تفطن العارف ان الداعي المناجى الى الله المستجيب من لدنه سبحانه لا بد له ان يفرغ قلبه عن غير الله ويستوعب أوقاته بذكره بل يكل لسانه عن ذكر الغير مطلقا حتى يفوز بمطلوبه ويجيب له بفضله وطوله
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائح آل عمران واصطفاء الله إياهم سيما وقت إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ بأمر الله ووحيه لمريم رضى الله عنها ملهمين لها منادين على سرها أبشري يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ الذي أظهرك من كتم العدم ورباك بأنواع اللطف والكرم قد اصْطَفاكِ واختارك لخدمة بيته مع انه لم يعهد اختيار النساء للخدمة وَطَهَّرَكِ بفضله عن مطلق الخبائث والأدناس العارضة للنسوان وَاصْطَفاكِ اى قد خصصك وفضلك بهاتين الخصلتين الحميدتين عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ وانما خصها سبحانه بما خصها لتكون آية ومقدمة لعموم ما يترتب على وجودها ويظهر منها من البدائع التي قد اودعها الله في نفسها من حملها بلا مباشرة احد بل بمجرد كلمة ملقاة من عنده وإرهاصات ومعجزات صدرت منها ومن ابنها بحيث لم يظهر مثلها من الرسل والأنبياء ثم لما أخبرت الملائكة إياها باصطفائه سبحانه نادتها الملائكة ثانيا بأمر الله ايضا تعليما لها التوجه والرجوع الى الله على وجه الخضوع والتذلل والإخبات والخشوع
يا مَرْيَمُ المختارة المقبولة عند الله اقْنُتِي اى توجهي وتضرعي لِرَبِّكِ الذي رباك بلطفه وقبلك نذيرة من أمك واصطفاك على نساء العالمين بأنواع الفضائل شكرا لما تفضل عليك وَاسْجُدِي تذللي واخضعى ملقية جباهك على تراب المذلة والهوان(1/107)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
لأداء شيء من حقه وَارْكَعِي دائما لخدمة بيته وتطهيره من الأوساخ والأدناس مَعَ الرَّاكِعِينَ المحررين المنحنين قامتهم دائما على خدمة الله وخدمة بيته
ذلِكَ المذكور من اصطفاء الله آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران ولا سيما قصة مريم وابنه وامه وزكريا وزوجته وابنه مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ اى من جملة الاخبار المغيبة المجهولة عندك نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تفضلا وامتنانا لك مع خلاء خاطرك وضميرك عنها ولا معلم لك سوى الوحى والإلهام منا مع كونك اميا عاريا عن مطالعة القصص والتواريخ وَالحال انك بهويتك وشخصك ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وقت إِذْ يُلْقُونَ اى الأحبار أَقْلامَهُمْ للاقتراع في انهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ ويحفظ مَرْيَمَ وَايضا ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وقت إِذْ يَخْتَصِمُونَ في أمرها وحفظها وانما نوحيه ونلهمه إليك يا أكمل الرسل لتكون آية لك في صدق دعواك النبوة والرسالة والإنكار على أمثال هذه الاخبارات والانباآت الصادرة عن الأنبياء والأولياء المستندة الى محض الإلهام والوحى النازل من عند العليم العلام انما ينشأ من العقل القاصر المموه بالوهم المزخرف والخيال الباطل المضل عن طريق الكشف واليقين والا فمن صفا عقله المفاض له من حضرة العلم المحيط الإلهي عن كدورات الوهم والخيال وانكشفت سريرة سره بسرائر الأقوال واسرار الأحوال ومرموزات الاحكام والأفعال ظهر عنده بلا سترة وحجاب ان من النفوس البشرية من تترقى في هذه النشأة عن عالم الشهادة الى عالم الغيب المطلق واتصلت بالمبادى العلية التي هي الصفات الإلهية بحيث قد اضمحلت حصة ناسوتها بالمرة وغلبته الحصة اللاهوتية عليها وحينئذ ظهرت منها بامداد الحضرة العلية العلمية الإلهية واردات غيبية ومكاشفات قلبية وملاحظات سرية ومشاهدات عينية بعضها متعلق بعالم الغيب وبعضها بالشهادة كالاخبار عن الوقائع الماضية والآتية كما نسمع ونشاهد أمثال ذلك من بعض بدلاء الزمان ادام الله بركته على مفارق اهل اليقين والعرفان في حالتي قبضه وبسطه كلمات وحكايات متعلقة بوقائع وقعت في البلاد النائية ونحن نجزم بوعها كما نسمع ونعلم ايضا جزما انه حاضر عند وقوعها وايضا نجزم بانه لم يسمع من احد قط لانسلاخه عن مطلق الاستخبار والاستفسار على الوجه المتعارف بين الناس ونسمع ايضا منه مد الله ظله أحوالا ووقائع قد جرت بيننا وبينه بمدة متطاولة وزمان ممتد قد يستحضرها في خلواته ويتلفظ بها على وجهها بلا فوت دقيقة وشوب شائبة ونحن إذا راجعنا وجداننا لم نستحضر الأمور التي جرت علينا في يومنا بل في ساعتنا هذه بلا فوت شيء منها وبالجملة وقوع أمثال ذلك منه مد ظله اكثر من ان تحصى. ومن له ادنى بصيرة وايمان كامل ويقين صادق بطريق الكشف والإلهام والوحى الإلهي لا يشتبه عليه أمثال ذلك الانباآت والاخبارات سيما من الأنبياء والرسل الكرام سيما من أفضلهم واكملهم صلوات الله عليه وعليهم أصلا بل يعلم يقينا ان الحكمة والمصلحة في اظهار نوع الإنسان على صورة الرّحمن وإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم انما هي لهذا التفطن والتنبه غاية ما في الباب انه من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
اذكر ايضا يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائح مريم وعيسى وقت إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ منادين على سرها مبشرين لها مخاطبين إياها يا مَرْيَمُ المختارة المصطفاة إِنَّ اللَّهَ المتفضل عليك بأنواع اللطف والكرم يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ صادرة مِنْهُ مكونة لك منك ابنا بلا أب إظهارا لكمال قدرته ليكون إرهاصا لك معجزة لابنك اسْمُهُ المعروف النازل عليه من عنده سبحانه الْمَسِيحُ لفظ سرياني معناه المبارك لأنه سبحانه بارك عليه وكثر(1/108)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
الخير بسببه على عموم البرايا وعلمه الشخصي بين الأنام عِيسَى وهو من الأعلام العجمية وكنيته ابْنُ مَرْيَمَ إذ لا أب له حتى يكنى به وهو مع كونه بلا أب وَجِيهاً مشهورا معروفا مرجعا للأنام فِي الدُّنْيا بالنبوة والرسالة يتوجه اليه الناس في امور معاشهم ومعادهم وَفي الْآخِرَةِ ايضا لرجوعهم اليه للشفاعة وَكيف لا يشفع هو للعصاة مع كونه مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله
وَعلامة تقربه انه يُكَلِّمُ النَّاسَ بما يتعلق بأمور الدين والدنيا حال كونه طفلا فِي الْمَهْدِ وَحال كونه كَهْلًا على منوال واحد بلا تفاوت زيادة ونقصان وبالجملة لنجابة عرقه في حالتي الكهولة وَالطفولة مِنَ الصَّالِحِينَ للرسالة والنبوة فلما سمعت مريم ما سمعت تضرعت الى ربها واشتكت
حيث قالَتْ رَبِّ يا من رباني بالستر والصلاح والعبادة والفلاح أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ اى من اين يحصل لي ولد وَأنت تعلم يا ربي انى لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ومن سنتك ظهور الولد بعد مباشرة الفحل قالَ سبحانه إشفاقا لها وازالة لتشكيها كَذلِكِ اى مثل ايلادك بلا مساس احد وجود جميع الأشياء الظاهرة من كتم العدم ظهورا إبداعيا اللَّهُ يَخْلُقُ
ويظهر بقدرته الكاملة جميع ما يَشاءُ بلا سبق مادة ومدة بل إِذا قَضى وأراد سبحانه أَمْراً من الأمور الثابتة في حضرة علمه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ تنفيذا لقضائه مجرد كلمة كُنْ فَيَكُونُ ويوجد بلا تراخ ومهلة وبلا توقف على شرط وارتفاع مانع وحالك التي أنت تتعجبين منها وتستبعدين وقوعها من هذا القبيل ولا تخافي ولا تحزني من التهمة والتعيير والتشنيع والفضيحة إذ لابنك خصائص ومعجزات قد رفعت عنك جميع ما يشينك ويعيبك إذ لا يشتبه على ذي فطنة ان ولد الزنا لا يتصف بأمثال هذه الخصال العلية والخوارق السنية
وَمن جملتها انه يُعَلِّمُهُ سبحانه من لدنه بلا تعليم احد من بنى نوعه الْكِتابَ اى العلوم المتعلقة بالشرائع والتدابير الملكية الشهادية وَالْحِكْمَةَ اى العلوم اللدنية المتعلقة بالحقائق الغيبية وَيعلمه ايضا التَّوْراةَ المنزل على موسى صلوات الله عليه وَينزل عليه خاصة الْإِنْجِيلَ من عنده
وَبعد ما انزل عليه الإنجيل قد أرسله رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ليدعوهم الى طريق الحق ويهديهم الى صراط مستقيم وبالجملة نؤيده بالآيات والمعجزات الباهرة الظاهرة من يده الدالة على صدقه الى حيث يقول بعد ما أرسله الله أَنِّي بمقتضى امر ربي ووحيه الى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ دالة على نبوتي ورسالتي نازلة مِنْ رَبِّكُمْ وهي أَنِّي أَخْلُقُ اى اصور واقدر لَكُمْ بين أيديكم باقدار الله إياي مِنَ الطِّينِ الجامد هيئة وصورة كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وصورته اى مثالا لا حس له ولا حركة فَأَنْفُخُ فِيهِ بعد تكميل الصورة فَيَكُونُ طَيْراً طيارا ذا حس وحركة ارادية كسائر الطيور وبالجملة ذلك التقدير والنفخ يصدر عنى بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى قدرته الشاملة وارادته الكاملة وَكذا أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ المكفوف العينين وَالْأَبْرَصَ الذي لا يرجى برؤه وَأعظم من ذلك انى أُحْيِ الْمَوْتى القديمة بِإِذْنِ اللَّهِ وكمال قدرته وهذه الخوارق المذكورة مما لا اطلاع لكم على لميته بعد الوقوع ايضا وَمن الخوارق التي لكم اطلاع عليه بعد ما وقعت انى أُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِما تَأْكُلُونَ من الطعام والفواكه وَما تَدَّخِرُونَ منها فِي بُيُوتِكُمْ احتياطا وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من المعجزات والخوارق التي ما جاء به احد من الأنبياء لَآيَةً ظاهرة دالة على نبوتي ورسالتي لَكُمْ لإرشادكم وهدايتكم إِنْ كُنْتُمْ(1/109)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
مُؤْمِنِينَ بالله وبإرساله الرسل وانزاله الكتب
وَمع هذه الآيات الطاهرة والمعجزات الباهرة قد جئتكم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ المشتملة على ظواهر الاحكام بل لجميع الكتب المنزلة على عموم الأنبياء والرسل الماضين صلوات الله عليهم أجمعين ولعموم اديانهم وشرائعهم إذ من جملة امارات النبوة والرسالة تصديق الأنبياء والرسل الذين مضوا والكتب التي جاءوا بها من قبله سبحانه وَايضا قد جئتكم لِأُحِلَّ لَكُمْ في دينكم وملتكم المنزل من عند الله على بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في الأديان الماضية ومن سنته سبحانه نسخ بعض الأديان ببعض وان كان الكل نازلا من عنده ولمية امر النسخ ما مر في سورة البقرة في قوله ما ننسخ من آية الآية وَبالجملة انى قد جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ قاطعة ساطعة نازلة مِنْ رَبِّكُمْ دالة على توحيده سبحانه ناشئة من عنده انما أفردها لان كل واحد من المذكورات يكفى لثبوت نبوته وبعد ما ظهر منه الكل فَاتَّقُوا اللَّهَ واحذروا من غضبه ان لا تؤمنوا له سيما بعد وضوح الدلائل القاطعة وَبالجملة أَطِيعُونِ اى أطيعوني في عموم ما قد جئت به من لدنه سبحانه
إِنَّ اللَّهَ المدبر المصلح لحالي وحالكم هو رَبِّي وَرَبُّكُمْ قد احسن تربيتي وتربيتكم بان أرسلني إليكم وأيدني بأنواع المعجزات فَاعْبُدُوهُ حق عبادته كي تعرفوه حق معرفته واعلموا ان هذا اى طريق العبادة والايمان وسبيل المعرفة والإيقان صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل الى اليقين والعرفان فعليكم ان تسلكوه على الوجه الذي أمرتم بسلوكه والله المستعان يوصلكم الى غاية مبتغاكم ونهاية مقصدكم ومرماكم
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى اى أشعر وأدرك بنور النبوة مِنْهُمُ الْكُفْرَ وعدم تأثرهم بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة قالَ مستفهما مستفسرا إظهارا لمحبتهم واختيارا لهم على مقتضى رفق النبوة مَنْ أَنْصارِي وأعواني في هداية المضلين إِلَى اللَّهِ وطريق توحيده قالَ الْحَوارِيُّونَ اى الجماعة من أصحابه المنسوبة الى الحور الذي هو البياض سموا به لصفاء عقائدهم عن كدورة النفاق والشقاق وخلوص طويتهم بالاتفاق والوفاق نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وأعوان رسوله ننصرك لدى الحاجة حسب وسعنا وطاقتنا في اجراء أحكامه وتنفيذ أوامره إذ قد كنا آمَنَّا بِاللَّهِ المرسل للرسل الذي نزل الكتاب لتبليغك إيانا وَاشْهَدْ أنت ايها الداعي للخلق الى الحق لنا يوم العرض الأكبر عند الملك المقتدر بِأَنَّا مع كوننا مؤمنين مخلصين مُسْلِمُونَ منقادون مطيعون لما جئت به من عند ربنا لإصلاح حالنا ولما اعترفوا بالإيمان بالله وبنصرة رسوله المبلغ لأحكامه وأشهدوه على ايمانهم وإسلامهم ناجوا مع الله مخلصين مخبتين في سرهم حيث قالوا
رَبَّنا يا من ربانا بإرسال الرسل وإنزال الكتب قد آمَنَّا بتوفيقك وبإرشاد رسلك وهدايتهم بِما أَنْزَلْتَ من الكتاب المبين لأحكامك المتعلقة بسرائر توحيدك وَمع الايمان به قد اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ المنزل عليه ممتثلين بجميع أوامره الموصلة الى الكشف والشهود وبالجملة فَاكْتُبْنا بفضلك وجودك مَعَ الشَّاهِدِينَ المشاهدين الذين لا يشاهدون في فضا الوجود سوى شمس ذاتك وتجلياتها
وَبعد ما ظهر عيسى صلوات الله عليه على من ظهر من الكفرة وغلب عليهم قد مَكَرُوا واحتالوا اى الكفرة لدفعه وقتله بان وكلوا عليه من يقتله غيلة وَمَكَرَ اللَّهُ الرقيب عليه المراقب لحفظه في انجائه ورفعه الى السماء وإلقاء شبهه على قالب من اغتال عليه حتى قتل مجانا على مظنة انه هو عليه السّلام مع انه قد رفع الى السماء وَاللَّهُ المنتقم عن من ظلم لأجل من ظلم خَيْرُ الْماكِرِينَ اى أقوى المحتالين واغلبهم على من اغتال عليه
اذكر(1/110)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
إِذْ قالَ اللَّهُ اعلاما لعيسى عليه السّلام حين هموا بقتله وعينوا من اغتال عليه وهو غافل عن كيدهم يا عِيسى إِنِّي بغلبة لاهوتيتى عليك مُتَوَفِّيكَ ومصفيك عن كدر ناسوتيتك المانعة من الوصول الى مقر عز اللاهوت وَبعد تصفيتك عن شوب التعلقات الناسوتية رافِعُكَ بعد ارتفاع موانع وصولك إِلَيَّ إذ لا مرجع لك غيرى وَبعد رفعك وجذبك الى مُطَهِّرُكَ ومزكيك من خبائث مطلق الرذائل سيما مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الذات الظاهرة المتجلية على عموم الذرات وَبعد رفعك وإعلاء قدرك جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وآمنوا بك في جميع ما جئت به لإصلاح حالهم فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى أعلى رتبة وارفع قدرا ومكانا منهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بحيث قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ولهم عذاب اليم وبعد ما ظهر عيسى عليه السّلام لم يتفق غلبة اليهود أصلا بل صاروا مغلوبين منكوبين دائما الى الآن بل الى انقضاء الزمان ثُمَّ قال سبحانه بلسان التوحيد على سبيل التنبيه والتعليم لعيسى ولمن آمن له ولمن أنكر عليه وكفر إِلَيَّ لا الى غيرى مَرْجِعُكُمْ ومنقلبكم جميعا في النشأة الاخرى ايها المختلفون في الدين والإطاعة والايمان والكفر في النشأة الاولى فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ بعد رجوعكم الى فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ على مقتضى علمي وإرادتي
ثم فصل سبحانه حكمه بقوله فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وستروا سبيل الحق الظاهر عن مشكاة النبوة والرسالة عنادا واستكبارا وأنكروا الأنبياء وكذبوهم بعموم ما جاءوا به من الاحكام والمواعظ والحكم والعبر وأصروا عليها فَأُعَذِّبُهُمْ اى اطردهم وابعدهم عن ساحة عز الحضور عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بأنواع المذلة والصغار وضرب الجزية والاجلاء وَفي الْآخِرَةِ بجحيم الخزي والخذلان وسعير الطرد والحرمان وَما لَهُمْ بعد ظهور الدين الناسخ لعموم الأديان الماضية مِنْ ناصِرِينَ لا من الأنبياء الذين يدعون الايمان بهم وبدينهم وكتابهم ولا من غيرهم حتى ينصروهم وينقذوهم من عذاب الله لتركهم العمل بالناسخ
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالدين القويم والكتاب الناسخ واتبعوا النبي الذي جاء به من عند ربه وَمع الايمان والإذعان قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة فيه تأييدا وتأكيدا فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ اى يوفر عليهم سبحانه أجور أعمالهم بأضعاف ما عملوا تفضلا عليهم لمحبة الله إياهم بسبب امتثال أوامره واطاعة رسله وَاللَّهُ الهادي لعموم عباده لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن حدوده المنزلة على رسله المكاشفين بحقيقة توحيده وبالجملة ما جراهم وبعثهم على الظلم والخروج الا عقولهم المنخسفة بظلام الوهم المضل عن الطريق المستبين
ذلِكَ المذكور من انباء عيسى عليه السّلام وغيره هو الذي نَتْلُوهُ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل مع كونك خالي الذهن عنه ولم تتعلم ايضا من معلم بشر وأنت أمي لا تقدر على الاستفادة والإملاء من القصص والتواريخ بل انما هي مِنَ الْآياتِ المنزلة عليك من عندنا الدالة على نبوتك ورسالتك وَمن جملتها الذِّكْرِ الْحَكِيمِ اى الكلام المحكم المشتمل على الحكم المتقنة والاحكام المبرمة الصادرة عن محض الحكمة بحيث لا يأتيه الباطل ولا يعتريه النسخ والتبديل ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والتذكير
إِنَّ مَثَلَ عِيسى اى شانه وقصته الغريبة والخارقة للعادة وهي وجوده بلا أب عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ وشانه في إبداء الله إياه وإيجاده بل قصة آدم اغرب من قصته إذ لا أب له ولا أم بل خَلَقَهُ اى قدره وصوره سبحانه مِنْ تُرابٍ جماد جامد ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ بشرا حيا فَيَكُونُ بالفور حيوانا ذا حس وحركة(1/111)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
ارادية وادراك وفهم
وبالجملة هذا الكتاب المتلو عليك يا أكمل الرسل هو الْحَقُّ المطابق للواقع النازل إليك لتأييدك وتصديقك في دعواك الرسالة المحقق الثابت المنزل مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ أنت في حقيته مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين بمقتضى عقولهم السخيفة
فَمَنْ حَاجَّكَ اى جادلك وخاصمك فِيهِ اى في امر عيسى وشانه من النصارى سيما مِنْ بَعْدِ ما قد جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ اليقيني المنزل من عندنا المستنبط من كتابنا المبين بشأنه وظهوره بلا أب فَقُلْ لهم حين خاصموك تَعالَوْا هلموا ايها المجادلون المدعون ابنية عيسى لله المفرطون في امره نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ونجتمع نحن وأنتم في مجمع عظيم ثُمَّ نَبْتَهِلْ اى نتباهل بان يدعو كل منا ومنكم الى الله فَنَجْعَلْ نحن وأنتم لَعْنَتَ اللَّهِ اى طرده وتبعيده عَلَى الْكاذِبِينَ منا المفترين على الله بأمثال هذه الخرافات المستبعدة عن شانه سبحانه حتى يتميز الصادق من الكاذب ويمتاز الحق عن الباطل. روى انهم لما دعوا الى المباهلة قالوا حتى ننظر ونتأمل فلما خلوا مع ذا رأيهم قالوا له ما ترى في هذا الأمر قال والله لقد عرفتم انه هو النبي الموعود في كتابكم ولقد جاءكم بالفصل في امر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا الا هلكوا فان أبيتم الا ألف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا فاتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد غدا محتضنا الحسين أخذا بيد الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعلى خلفها وهو يقول صلّى الله عليه وسلّم إذا انا دعوت فآمنوا وبعد ما رأوهم كذلك قال أسقفهم يا معشر النصارى انى لأرى وجوها لو سألوا الله ان يزيل جبلا من مكانه لأزاله البتة فلا تبأهلوا فتهلكوا وبعد ما الجؤا الى الهدنة التزموا الجزية فأعطوا الفى حلة حمراء وثلثين درعا من حديد فقال عليه السّلام والذي نفسي بيده لو باهلوا لمسخوا قردة او خنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل الله نجران واهله حتى الطير على الشجر
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا إِنَّ هذا المذكور من نبأ عيسى ومريم عليهما السّلام لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ المطابق للواقع فلا تكفروا باعتقاد ابنية عيسى لله وزوجية مريم وَلا تقولوا بالأقانيم والتثليث إذ ما مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق في الوجود إِلَّا اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا وَإِنَّ اللَّهَ الحق الحقيق بالحقية المتصف بالديمومية المتوحد بالقيومية لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر للاغيار مطلقا الْحَكِيمُ في إظهارها على مقتضى ارادته واختياره
فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن الحق سيما بعد ظهور الدلائل والشواهد اعرض عنهم يا أكمل الرسل ولا تجادل معهم فَإِنَّ اللَّهَ المنتقم لمن اعرض عن سبيله عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون في الأرض بإفساد عقائد ضعفاء العباد بصرفهم عن طريق الحق والحادهم عن الصراط المستقيم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح كلاما صادرا عن لسان الحكمة والتوحيد خاليا عن وصمة الغفلة والتقليد يا أَهْلَ الْكِتابِ الذين يدعون الايمان بوحدة الحق وحقية كتبه ورسله تَعالَوْا نتفق ونراجع إِلى كَلِمَةٍ حقة حقيقة سَواءٍ حقيتها وحقيقتها بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ مسلمة ثبوتها عندنا وعندكم بلا خلاف منا ومنكم أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ المعبود بالحق المستحق للعبادة بالأصالة وَلا نُشْرِكَ بِهِ في عبادته شَيْئاً من مصنوعاته وَلا يَتَّخِذَ ايضا بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً واجب الإطاعة والانقياد مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بالالوهية المنفرد بالمعبودية وان قبلوا قولك واتفقوا عليه واطاعوا فقد آمنوا كما آمنتم فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن الكلمة الحقية المسلمة وانصرفوا عنها عنادا واستكبارا فَقُولُوا لهم ايها المؤمنون(1/112)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
إلزاما وتبكيتا اشْهَدُوا ايها المنكرون الجاحدون بِأَنَّا لا أنتم مُسْلِمُونَ موحدون مؤمنون بالله مصدقون بجميع ما جاء من عند الله ثم قل لهم يا أكمل الرسل مناديا لهم على سبيل الإلزام
يا أَهْلَ الْكِتابِ المفرطين المسرفين لِمَ تُحَاجُّونَ وتجادلون عنادا ومكابرة فِي شأن جدي إِبْراهِيمَ الخليل بانه يهودي او نصراني وَالحال انه ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ المبين لليهودية وَالْإِنْجِيلُ المبين للنصرانية إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ بمدة متطاولة أَفَلا تَعْقِلُونَ أنتم ايها المكابرون في هذه الدعوى ولا تتنبهون بكذبها وعدم مطابقتها للواقع
وبالجملة ها أَنْتُمْ ايها الحمقاء العمياء في امور الدين هؤُلاءِ الهلكى الضالون المصرون على الكفر والعناد قد حاجَجْتُمْ وجادلتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مذكور مثبت في كتابكم من بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم وحليته وأوصافه فتغيرونه وتحرفونه مكابرة وعنادا بعد ما ظهر عندكم صدقه وحقيته فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مثبت مذكور في كتابكم من يهودية ابراهيم ونصرانيته فتغيرونه وتنسبون الى كتابكم ما لم يذكر فيه افتراء ومراء وَبالجملة اللَّهُ المطلع الغيور يَعْلَمُ منكم ما حرفتم وما افتريتم ويعاقبكم على مقتضى علمه وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ولا تعتقدون بعلمه على ما فرطتم فيه
ثم قال سبحانه ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا لان موسى عليه السّلام انما جاء بعده بألف سنة وَلا نَصْرانِيًّا لان عيسى عليه السّلام انما جاء بألفي سنة وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط مثل افراط اليهود والنصارى في عزير وعيسى وتفريطهم في انكار محمد صلّى الله عليه وسلّم بل كان مُسْلِماً معتدلا مستويا على صراط العدالة والتوحيد وَما كانَ في حال من الأحوال مِنَ الْمُشْرِكِينَ الضالين عن طريق التوحيد بنسبة الحوادث الكائنة في الأقطار الى الأسباب والوسائل العادية اصالة واستقلالا
وبالجملة إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ وأقربهم دينا وأشدهم محبة ومودة لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ من أمته وتدينوا بدينه وملته وامتثلوا بجميع ما جاء به من عند ربه وَهذَا النَّبِيُّ المبعوث من شيعته المنتسب الى ملته المنشعب من اهل بيته وزمرته وَالَّذِينَ آمَنُوا بهذا النبي وبكتابه الناسخ لعموم الكتب السالفة المبين لطريق التوحيد الذاتي وَاللَّهُ الهادي لعموم عباده الى جادة توحيده وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الذين يريدون وجه الحق في عموم أحوالهم ومقاماتهم لذلك ينصرهم ويولى امور دينهم بحيث لا يشغلهم عن التوجه نحوه مزخرفات الدنيا الشاغلة العائقة عن التوجه الحقيقي
ثم قال سبحانه وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لخباثة نفوسهم وشدة بغضهم المرتكز في قلوبهم حسدا عليكم وعلى ظهور دينكم لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ويحرفونكم تغريرا وتلبيسا عن جادة الشريعة وسبيل الايمان والتوحيد نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا الى اليهودية وَالحال انهم ما يُضِلُّونَ باضلالهم هذا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إذ يضاعف عليهم العذاب بسبب هذا الإضلال وَهم ما يَشْعُرُونَ ضرر هذا الضلال والإضلال ونكاله
ثم قال سبحانه امحاضا للنصح يا أَهْلَ الْكِتابِ المدعين الايمان بموسى وعيسى عليهما السّلام والتصديق بكتابهما لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة فيهما الناطقة على بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالحال انه أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ فيهما أوصافه ونعوته وتنتظرون الى ظهوره وبعثته وبعد ما ظهر وبعث لم انكرتم عليه عنادا وكفرتم به استكبارا ومع ذلك قد غيرتم وحرفتم كتابكم عنادا ومكابرة
يا أَهْلَ الْكِتابِ المحرفين لكتاب الله لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ الظاهر البين المكشوف المنزل من(1/113)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
عند الله بِالْباطِلِ المموه المزخرف المختلق من عند انفسكم وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ الثابت الذي هو بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالحال انكم أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حقيته في نفوسكم ولا تظهرونه حسدا وبغيا عدوانا وظلما
وَمن شدة حسدهم ونهاية بغضهم وشكيمتهم انهم قد احتالوا ومكروا واستخدعوا لإضلال المسلمين الى حيث قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لأصحابهم وجلسائهم على سبيل الحيلة والخداع آمِنُوا استهزاء وتسفيها بِالَّذِي اى بالكتاب الذي يدعون هؤلاء الحمقاء انه أُنْزِلَ على محمد موافقة منكم عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا به وَجْهَ النَّهارِ اى في أول بدوه ليفرحوا ويسروا بموافقتكم إياهم وَاكْفُرُوا آخِرَهُ اى اتركوه وأنكروا عليه في آخر النهار معللين بانا لم نجد محمدا على الوصف الذي ذكر في كتابنا ليتردد أولئك المؤمنون ويضطرب نبيهم من مخالفتكم وقولكم هذا وافعلوا معهم كذلك مرارا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن دينهم وايمانهم
وَبالجملة لا تُؤْمِنُوا ولا تظهروا يا اهل الكتاب ما في قلوبكم من الإذعان والتصديق بان هذا الشخص هو النبي الموعود المذكور في كتابكم إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ من إخوانكم وأصحابكم المتدينين بدين آبائكم واسلافكم ولا تفشوه عند هؤلاء قُلْ لهم يا أكمل الرسل ردا لمخادعتهم ودفعا لحيلتهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة التهمة إِنَّ الْهُدى الموصل الى سواء السبيل هُدَى اللَّهِ الهادي لعباده ويوفق ويهدى من يشاء منهم الى طريق توحيده ويضل ويغوى من يشاء عنه ارادة واختيارا وانما دبرتم ايها المسرفون المفرطون بما دبرتم ومكرتم بما مكرتم ارادة أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الكفر والجحود بنبوة النبي الموعود أَوْ يُحاجُّوكُمْ ويغلبوكم بهذا المكر والخداع عِنْدَ رَبِّكُمْ على زعمكم الفاسد واعتقادكم الباطل قُلْ لهم يا أكمل الرسل لا تغتروا بمزخرفات عقولكم ولا تطمئنوا بمقتضياتها إذ هي قاصرة عن معرفة الله مطلقا سيما عند تزاحم الوهم والخيال بل إِنَّ الْفَضْلَ والهداية المطلقة انما هي بِيَدِ اللَّهِ اى بقدرته ومشيته يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ بلا معاونة العقل ونصرته وَاللَّهُ الهادي لعباده واسِعٌ في فضله وهدايته لا حصر لطرق الهامه وإفاضته عَلِيمٌ باستعدادات عباده يوصل كلا منهم الى مشرب توحيده بطريق يناسب استعداده
بل يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ الواسعة الشاملة لجميع الفضائل والكمالات مَنْ يَشاءُ من خلص عباده تفضلا عليهم من لدنه بلا اقتضاء وجذب من استعداداتهم ويخصهم بفتوحات لا يدرك طوره ولا يكتنه غوره وَبالجملة اللَّهُ المتجلى بعموم الكمالات ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ واللطف الجسيم على بعض مظاهره من الأنبياء والأولياء الذين قد فنيت وتلاشت هوياتهم البشرية بالكلية في بحر الوحدة وتجردوا عن جلابيب الكثرة بالمرة
وَمن تفاوت الاستعدادات واختلاف القابليات الفطرية ترى مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ثقة عليه واعتمادا بِقِنْطارٍ مال منضد مخزون يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ على الوجه الذي ائتمنته عليه بلا تغيير وخيانة لصفاء فطرته ونزاهة استعداده وقابليته وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ او اقل لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ حين مطالبتك لخباثة طينته وردائة فطرته إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ وتطالب منه أمانتك قائِماً دائما على سبيل الإلمام والإلحاح نزلت في عبد الله بن سلام حين استودعه قريشي الفا ومائتي اوقية ذهبا واداه اليه وفنحاص بن عازوراء استودعه ايضا قريشي آخر دينارا أنكر وجحد مع اتفاقهما في الكفر واشتراكهما في الضلال والإصرار ذلِكَ اى ترك أداء(1/114)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
بعض اليهود بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم استحلوا مال من ليس على دينهم وقالُوا لَيْسَ في كتابنا المنزل عَلَيْنا من عند ربنا فِي حق الْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم سَبِيلٌ اى طريق معاتبة ومؤاخذة يعنى لا نؤاخذ ولا نسأل نحن لأجل هؤلاء لأنهم ليسوا من اهل الكتاب وَهم بهذا القول الباطل يَقُولُونَ ويفترون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إذ ليس في كتابهم هذا الباطل الزاهق بل لا يفترونه الا عنادا ومكابرة وَهُمْ ايضا يَعْلَمُونَ انه افتراء منهم ومراء روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم انه قال عند نزول هذه الآية كذب اعداء الله ما من شيء في الجاهلية الا وهو تحت قدمي الا الامانة فإنها مؤداة الى البر والفاجر
بَلى للحق سبيل معاتبة وانتقام معهم في كل واحد من عباده على اى دين كان وملة إذا صدر عنهم الخيانة والتعدي الا مَنْ أَوْفى منهم بِعَهْدِهِ الذي قد عهد مع الله ومع عباده وَاتَّقى عن غضب الله بعدم الوفاء فهو من المحبوبين عند الله فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ويرضى عنهم ويوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ويستبدلون بِعَهْدِ اللَّهِ الذي قد عهدوا مع رسوله وَأَيْمانِهِمْ المغلظة الصادرة منهم الدالة على وفائه كقولهم والله لنؤمنن به ولننصرنه ثَمَناً قَلِيلًا من متاع الدنيا مثل أخذ الرشى وإبقاء الرياسة أُولئِكَ المستبدلون الخاسرون هم الذين لا خَلاقَ اى لا نصيب ولا حظ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ التي هي دار الوصول والقرار وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ فيها مثل تكليمه مع خلفائه الذين ظهروا حسب أوصافه وأسمائه وتخلقوا بأخلاقه وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بنظر الرحمة حتى تنعكس بروق أنوار الوحدة الذاتية المتلألئة المتشعشعة من عالم العماء التي هي السواد الأعظم المشار اليه في الحديث النبوي صلوات الله على قائله على مرايا قلوبهم وَلا يُزَكِّيهِمْ ولا يثنى عليهم ولا يلتفت نحوهم حين التفاته الى خلص عباده المصفين المطهرين مرايا قلوبهم عن صدأ الالتفات الى الغير مطلقا وعن رين التوجه والميل الى المزخرفات جملة لتنعكس فيها ومنها اشعة أنوار التجليات الإلهية الجمالية والجلالية اللطفية والقهرية حتى يعتدلوا ويستقيموا على الطريق القويم والصراط المستقيم الذي هو صراط توحيد الله وَلَهُمْ في تلك الحالة عَذابٌ أَلِيمٌ وخذلان مولم لا إيلام أعظم منه إذ حرمان الوصول الى غاية ما يترتب على الوجود من أشد المؤلمات والمؤذيات نعوذ بالله من غضب الله لا حول ولا قوة الا بالله
وَإِنَّ مِنْهُمْ من غاية بغضهم وعداوتهم مع النبي صلى الله عليه وسلّم لَفَرِيقاً اى فئة وفرقة من المحرفين الذين يحرفون اسمه ونعته صلّى الله عليه وسلّم في التورية حيث يقصدون تشهير المحرف وترويجه على ضعفاء العوام اضلالا لهم يَلْوُونَ ويطلقون أَلْسِنَتَهُمْ بالمحرف إطلاقهم بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ اى السامعون انه مِنَ الْكِتابِ وَالحال انه ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ المنزل أصلا لا نصا ولا أخذا ولا تأويلا ومع ذلك يفترون وَيَقُولُونَ هُوَ اى المحرف منزل مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالحال انه ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بل من تسويلات نفوسهم الخبيثة وانما الباعث عليها اهويتهم الباطلة المتعلقة بحب الجاه والرياسة وَبالجملة هم لترويج أباطيلهم الكاذبة يَقُولُونَ وينسبون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ افتراء ومراء وَهُمْ ايضا يَعْلَمُونَ يقينا انه فرية قد صدرت عنهم عنادا ومكابرة وبالجملة هم اى النصارى مع انهم يدعون الايمان والتوحيد وتصديق الرسل والكتب لم يتفطنوا ولم يعلموا ان البشر وان أرسل وانزل وخصص بفضائل جليلة وخصائل حميدة(1/115)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
لكن لا ينسلخ عن اللوازم البشرية مطلقا حتى يتصف بمقتضيات الألوهية والربوبية بل لا يزال العبد عبدا والرب ربا غاية ما في الباب ان الأشخاص البشرية في التجريد عن لوازمها متفاوتة فمن كان تجريده اكثر كان الى الله اقرب والى الفناء أميل والى البقاء أشوق والا فالسلوك لا ينقطع ابد الآبدين كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث القدسي حكاية عن الله عز وجل إلا طال شوق الأبرار الى لقائي وبالجملة ما للتراب ورب الأرباب حتى يتصفوا بأوصافه فعيسى صلوات الله عليه وسلامه من جملة البشر وان ارتفع قدره وعلا رتبته عند الله وظهر منه بنصر الله خوارق خلت عنها الأنبياء عليهم السّلام لكن لا ينسلخ عن اللازم البشرية بالكلية بل لا يمكن هذا مطلقا وهم من ردائه رأيهم يدعون انسلاخه عنها بالمرة ويعبدون له كعبادته سبحانه وينسبونه الى الله بالبنوة العياذ بالله وبالجملة ما قدروا الله حق قدره لذلك نسبوا له سبحانه ما هو منزه عنه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
ولذا رد الله عليهم على وجه التنبيه والتعليم بقوله ما كانَ اى ما صح وجاز لِبَشَرٍ قد خصه الله من بين بريته لرسالته ونيابته سيما أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ المبين له الشرائع وَالْحُكْمَ المتعلق بأحوال العباد في معاشهم وَالنُّبُوَّةَ المتعلقة بضبط احوال معادهم ثُمَّ بعد ما اختاره الله واصطفاه بالتشريف الأتم الأكمل يَقُولَ لِلنَّاسِ الذين أرسل إليهم لهدايتهم وإرشادهم كُونُوا عِباداً لِي فاعبدوني عبادة خاصة كعبادة الله وخصصوها لي مِنْ دُونِ اللَّهِ وبالجملة ما هي وأمثال هذا إلا شرك غليظ وكفر ظاهر كيف صدر عن ارباب الولاية والنبوة الفانين في الله الباقين ببقائه المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم وَلكِنْ قولهم لهم وأمرهم عليهم هكذا كُونُوا ايها الموحدون رَبَّانِيِّينَ مخلصين في عبادة الله ولا تكونوا شيطانيين مشركين فيها بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ يعنى كونوا ربانيين موحدين مخلصين بما تعلمون وتفيدون أنتم من الكتاب غيركم من المستفيدين من الأمور المتعلقة بدينكم وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ تقرءون وتأخذون أنتم من غيركم من المعلمين المفيدين وبالجملة لا يأمر ولا يوصى الأنبياء والرسل على أممهم الا هكذا
وَلا يَأْمُرَكُمْ رسلكم وانبياءكم اضلالا لكم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ المبعوثين إليكم من عند الله أَرْباباً آلهة مستحقين للعبادة موجودين اصالة واستقلالا من دون الله أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ يعنى اتظنون ان يأمركم النبي المرسل لهدايتكم الى طريق التوحيد بالشرك والإشراك سيما بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ موحدون بمتابعته ورسالته أفلا تعقلون
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن خاصمك من اهل الكتاب وقت إِذْ أَخَذَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده مِيثاقَ النَّبِيِّينَ اى عهودهم الوثيقة المتعلقة بالامتثال والمحافظة لَما آتَيْتُكُمْ تفضلا عليكم مِنْ كِتابٍ مبين لكم ولأممكم الاحكام الظاهرة المتعلقة بالمعاملات وَحِكْمَةٍ مورثة لكم ولهم الأخلاق المرضية الموصلة الى التوحيد الذاتي ثُمَّ أخذ منكم المواثيق ايضا على لسان انبيائكم بانه متى جاءَكُمْ وعلى أممكم رَسُولٌ أرسل من عندنا على التوحيد الذاتي مع انه مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ من توحيد الصفات والأفعال لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أنتم ولتبلغن على أممكم ان تؤمنوا له وتصدقوه وَلا تكتفون أنتم وأممكم بمجرد الايمان والتصديق به بل لَتَنْصُرُنَّهُ في عموم ما جاء به من مقتضيات التوحيد الذاتي وكيف لا تنصرونه مع ان مرجع جميع الملل والنحل انما هي اليه لذلك ختم بعثته صلّى الله عليه وسلم امر الإنزال والإرسال وبعد أخذ المواثيق الوثيقة منهم هكذا قالَ سبحانه مستفهما(1/116)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
على سبيل التقرير تأكيدا وتحكيما أَأَقْرَرْتُمْ ايها الأنبياء أنتم وَأَخَذْتُمْ من أممكم المنسوبين إليكم عَلى ذلِكُمْ اى على عهودكم ومواثيقكم هذه إِصْرِي اى حلفي وعهدي الثقيل الذي يوجب نقضه أنواعا من النكال والعذاب قالُوا سمعا وطوعا أَقْرَرْنا بعهودك ومواثيقك يا ربنا وأخذنا ايضا من اممنا ما امرتنا بأخذه قالَ سبحانه فَاشْهَدُوا اى استحضروا العهود واحفظوا المواثيق ولا تغفلوا عنها وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين المطلعين بحفظكم ووفائكم
فَمَنْ تَوَلَّى واعرض عنكم بَعْدَ ذلِكَ العهد الوثيق فَأُولئِكَ المعرضون الناقضون هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طريق التوحيد الذاتي الجامع لجميع الطرق
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ الذي هو التوحيد الذاتي يَبْغُونَ وتطلبون ايها المعرضون الفاسقون وَالحال انه لَهُ أَسْلَمَ اى انقاد وتذلل عموم مَنْ فِي السَّماواتِ من ارباب الشهود والمكاشفات وَكذا جميع من في الْأَرْضِ من اصحاب العلوم والمعاملات طَوْعاً تحقيقا ويقينا وَكَرْهاً تقليدا وتخمينا وَكيف لا إِلَيْهِ لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية يُرْجَعُونَ رجوع الظل الى ذي الظل
قُلْ يا أكمل الرسل بلسان الجمع آمَنَّا بِاللَّهِ الواحد الأحد الصمد المتفرد بالتحقق والوجود وَصدقنا جميع ما أُنْزِلَ عَلَيْنا من عنده سبحانه من الآيات المبينة لتوحيده وَصدقنا ايضا جميع ما أُنْزِلَ في سالف الزمان من عنده عَلى أسلافنا إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ اى أولاد يعقوب وأحفاده وَصدقنا ايضا جميع ما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ الموحدون الملهمون مِنْ رَبِّهِمْ على مقتضى استعداداتهم بحيث لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإطاعة والتصديق وَكيف نفرق ونفضل إذ نَحْنُ المتدينين بدين الله المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق لَهُ باعتبار تفرده واحاطته وظهوره في المظاهر كلها بعموم أوصافه وأسمائه بلا تفاوت مُسْلِمُونَ مؤمنون موقنون منقادون
وَمَنْ يَبْتَغِ ويطلب غَيْرَ الْإِسْلامِ المنزل على خير الأنام دِيناً وشرعا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ يوم العرض الأكبر إذ الدين القويم المستجمع لجميع الأديان الناسخ لعمومها هو الإسلام لابتنائه على التوحيد الذاتي المسقط للاضافات وعموم الخصوصيات المقتضية للكثرة مطلقا وَهُوَ اى المتدين بغير دين الإسلام فِي النشأة الْآخِرَةِ وقت حصاد كل ما يزرعه في النشأة الاولى مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا مبينا نعتصم بك من إنزال قهرك يا ذا القوة المتين
ثم قال سبحانه مستفهما مستبعدا على سبيل التوبيخ والتقريع كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ الهادي لعباده قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ بوحدانية الله وَشَهِدُوا اى أقروا واعترفوا طائعين أَنَّ الرَّسُولَ
المبين لهم طريق التوحيد المرشد لهم اليه حَقٌّ مرسل من عند الله صادق في دعواه وَمع ذلك قد جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الدالة على صدقه فقبلوا الجميع ثم ارتدوا العياذ بالله وَبالجملة اللَّهُ الهادي للكل الى سواء السبيل لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حدوده
أُولئِكَ الأشقياء الظالمون الضالون عن منهج الصدق والصواب جَزاؤُهُمْ المتفرع على ظلمهم وضلالهم أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ اى طرده وتخذيله إياهم ثابتة لهم مستقرة عليهم ازلا وابدا وَايضا لعنة الْمَلائِكَةِ المستغفرين لعباد عباد الله وَكذا لعنة عموم النَّاسِ أَجْمَعِينَ وهم قد صاروا
خالِدِينَ فِيها وفي لوازمها مستمرين عليها ابدا بحيث لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ(1/117)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
الْعَذابُ المتفرع عليها أصلا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وينتظرون تخفيفه
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم في النشأة الاولى مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الارتداد والضلال وَأَصْلَحُوا أحوالهم بالتوبة والإخلاص والاستغفار والندامة عما صدر منهم فَإِنَّ اللَّهَ الموفق لهم على التوبة غَفُورٌ يستر جرائمهم رَحِيمٌ مشفق يتجاوز عن زلاتهم
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ارتدوا العياذ بالله سيما بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ لم يتوبوا اى لم يرجعوا ولم يتندموا بل ازْدادُوا كُفْراً اى إصرارا واستكبارا لَنْ تُقْبَلَ منهم تَوْبَتُهُمْ ابدا بعد ما عاندوا وَأُولئِكَ المعاندون المصرون هُمُ الضَّالُّونَ المقصورون على الضلالة في بيداء الفطرة لا يرجى منهم الفلاح أصلا
بل إِنَّ المسرفين المصرين الَّذِينَ كَفَرُوا في مدة اعمارهم وَماتُوا وَالحال انه هُمْ كُفَّارٌ كما كانوا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ اى لن تقبل توبتهم عند الله وان أنفق وافتدى كل واحد منهم ملء الأرض ذهبا رجاء ان تقبل توبته بل أُولئِكَ الهالكون في تيه الضلال لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم دائما مستمرا وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ من انواع النصر لا من الانفاق ولا من الشفاعة ولا من العمل الصالح والحج المبرور ولا غير ذلك ثم لما سجل سبحانه عليهم العذاب بحيث لا يخفف عنهم أصلا ولا يقبل توبتهم ابدا وان أنفق كل منهم ملء الأرض ذهبا نبه على المؤمنين طريق الانفاق المستحسن المقبول وخاطبهم على وجه التأكيد والمبالغة
حيث قال لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ اى لن تصلوا ولن تبلغوا ايها المؤمنون مرتبة الأبرار الخيرين عند الله مطلقا حَتَّى تُنْفِقُوا امتثالا لأمر الله وطلبا لمرضاته مِمَّا تُحِبُّونَ اى من احسن ما عندكم وأكرمه وَاعلموا ان ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ ولو حبة وذرة وكلمة طيبة خالصا لرضا الله بلا شوب المنة والأذى فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لجميع أحوالكم ونياتكم بِهِ عَلِيمٌ لا يغيب عن علمه شيء فيجازيكم على مقتضى علمه ثم لما ادعى اليهود ان ما حرم في ديننا قد كان حراما في دين ابراهيم وملته فلم تحلون أنتم ايها المدعون متابعته ما حرم في دينه
رد الله عليهم وكذبهم بقوله كُلُّ الطَّعامِ الذي يقتات به الإنسان ويتغذى قد كانَ حِلًّا مباحا حلالا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إذ الأصل في الأشياء الحل ما لم يرد الشرع بتحريمه إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ وهو يعقوب عليه السّلام عَلى نَفْسِهِ على وجه النذر بلا ورود الوحى إذ كان له عرق النسا فنذر ان شفى لم يأكل ما هو أحب الطعام والذه عنده وهو لبن الإبل ولحمه فشفى ولم يأكل بعده منهما وذلك مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ ثم لما ظهر انواع الخبائث والقبائح من اليهود حرم الله عليهم في التورية طيبات أحلت لهم قبلها بسبب خباثتهم وكثافتهم فان أنكروا على هذا وقالوا لسنا أول من حرم عليه هذه الأشياء المحرمة فيها بل قد حرم لمن قبلنا ونحن نقتدي بهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها على رؤس الاشهاد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم والا فقد افتريتم على كتاب الله ما ليس فيه
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ
ظهور ذلِكَ
البرهان فَأُولئِكَ
المفترون المنهمكون في العتو والعناد هُمُ الظَّالِمُونَ
الخارجون عن مسالك التوحيد المتمردون عن ربقة الايمان
قُلْ لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح صَدَقَ اللَّهُ المطلع بجميع ما كان ويكون ان لا حرمة لهذه الأشياء في دين ابراهيم عليه السّلام بل أول من حرم عليهم أنتم ايها اليهود وان أردتم استحلالها فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التي هي الإسلام المنزل على خير الأنام لأنه كان حَنِيفاً طاهرا عن عموم الخبائث والرذائل المؤدية الى تحريم الطيبات(1/118)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
إذ هو مستو على صراط التوحيد وجادة العدالة بعيد عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المؤديين الى الشرك والشقاق وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بحال لصفاء فطرته ونجابة طينته. ثم لما كان ابراهيم صلوات الرّحمن عليه مستقيما على صراط التوحيد مستويا عليه ما وضع سبحانه أول معبد للموحدين الا لأجله كما قال
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ليعبدوا فيها لله ويتوجهوا الى جنابه لَلَّذِي بِبَكَّةَ اى البيت الذي وضع بمكة شرفها الله قيل قد وضع المسجد الحرام قبل وضع بيت المقدس بأربعين سنة وانما وضع مُبارَكاً كثير الخير والبركة والنفع لساكنيه وزائريه يرشدهم الى الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يوصلهم الى التوحيد الذاتي لو كوشفوا بسرائر وضعه وتشريعه
إذ فِيهِ آياتٌ دلائل وشواهد بَيِّناتٌ واضحات دالة على توحيد الذات منها مَقامُ إِبْراهِيمَ وهو مقام الرضا والتسليم وَمَنْ دَخَلَهُ حنيفا مسلما مسلما مفوضا كانَ آمِناً عن وسوسة الأنانية ودغدغة الغيرية متصفا بصفة الخلة وَلِلَّهِ اى للوصول الى مشرب توحيده وللتحقق بمقام عبوديته وتفريده قد أوجب سبحانه عَلَى النَّاسِ المجبولين على فطرة المعرفة واليقين حِجُّ الْبَيْتِ اى طواف البيت الممثل على قلب الخليل اللائق لخلعة الخلة والخلافة على مَنِ اسْتَطاعَ منكم ايها الحيارى في صحارى الإمكان إِلَيْهِ سَبِيلًا فليسلك نحوه يعنى من استطاع اى يميت نفسه بالموت الإرادي ويترك بقعة الإمكان مهاجرا الى الله مفوضا أموره كلها اليه بل مفنيا هويته في هوية الله مثل الخليل الجليل صلوات الرّحمن عليه وسلامه فعليه ان يزور ويطوف حول بيت الله الذي هو قلب الإنسان حقيقة راجيا منه سبحانه خلعة الخلة والخلافة ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا وَمَنْ كَفَرَ ولم يحج بيت ربه مع استطاعته إنكارا وعنادا فَإِنَّ اللَّهَ المستغنى في ذاته عن جميع مظاهره ومصنوعاته غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ لم يبال بهم وبعباداتهم وانما أظهرهم وأوجب عليهم العبادة والرجوع الى جنابه والتوجه نحو بابه ليتحققوا في مرتبة العبودية ويتقرروا فيها حتى يستحقوا الخلافة والنيابة المتفرعة على سر الظهور والإظهار
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر شعار الإسلام يا أَهْلَ الْكِتابِ المدعين للايمان بوحدانية الله لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده المنزلة على نبيه الذي قد جاء من عنده بالتوحيد الذاتي ليكون مرسلا الى كافة البرايا رحمة للعالمين وَلا تخافون من غضب الله وسخطه عليكم ايها المكابرون إذ اللَّهُ شَهِيدٌ مطلع حاضر عَلى عموم ما تَعْمَلُونَ أنتم من الإنكار والاستكبار والتحريف والتغيير
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ المدعين الاتباع بالكتب والرسل المنزلة من عند الله لِمَ تَصُدُّونَ وتصرفون وتعرضون عباد الله عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو دين الإسلام مع انه هو الصراط المستقيم الموصل الى صفاء الوحدة الذاتية مَنْ آمَنَ انقاد وتدين به تَبْغُونَها وتطلبونها عِوَجاً اى أنتم طالبون ان توقعوا فيه عوجا وانحناء وضعفا حتى يضعف اعتقاد المسلمين ويتزلزل آراؤهم في امور الدين كما في زماننا هذا وَالحال انكم أَنْتُمْ شُهَداءُ مطلعون من مطالعة الكتب المنزلة عليكم من عند الله المخبرة بظهور دين الإسلام وارتفاع قدره وقدر من اتى به ومع ذلك حرفتم الكتب وانكرتم عليه عنادا واستكبارا وبالجملة لا تغفلوا من حلول غضب الله وانتقامه عليكم وَمَا اللَّهُ العالم بالسرائر والخفيات بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من التلبيس والعناد والتحريف والتغيير ثم لما بالغ سبحانه في توبيخ الكافرين القاصدين إضلال المؤمنين بما بالغ أراد ان يحذر المؤمنين عن مخالطتهم(1/119)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
ومواخاتهم فناداهم إذ هو ادخل في قبول النصح
وقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اى وفقوا على تشريف الايمان مقتضى ايمانكم الاجتناب عن مخالطة الكفار ومواخاتهم وادعاء المحبة والمودة معهم لأنكم إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ طائعين قاصدين اطاعتهم وانقيادهم يَرُدُّوكُمْ البتة بَعْدَ إِيمانِكُمْ وتوحيدكم كافِرِينَ مشركين على ما أنتم عليه في جاهليتكم نزلت في فرقة من الأوس والخزرج كانوا يجتمعون ويتحدثون ويتناشدون فمر على اجتماعهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه مواخاتهم ومخالطتهم فأمر بشاب من اليهود ان يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشد بعض ما قيل فيه وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ففعل فتنازع القوم وتفاخروا الى ان تغاضبوا وتخاصموا وصاحوا السلاح السلاح واجتمع من الجانبين خلق عظيم وتوجه نحوهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه وقال لهم اتدعون الجاهلية وانا بين أظهركم بعد ان أكرمكم الله بالإسلام وشرفكم بالإيمان والتوحيد الرافع لجميع الخصومات فعلموا انها نزعة من الشيطان وكيد من قبل عدوهم فالقوا السلاح واستغفروا وتعانقوا وتحابوا وانصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وَلذلك قيل لهم كَيْفَ تَكْفُرُونَ ايها المؤمنون بالله الواحد الأحد الفرد الصمد وَالحال انكم أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ الدالة على توحيده وَمع ذلك فِيكُمْ رَسُولُهُ المرسل إليكم المولى لأموركم وَمَنْ يَعْتَصِمْ منكم بِاللَّهِ ويتبع رسوله المرسل من عنده بتوحيده الذاتي فَقَدْ هُدِيَ واهتدى إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى صفاء الوحدة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا معظم أموركم في محافظة الايمان المؤدى الى الكشف والعيان التقوى والاجتناب عن محارم الله ومنهياته والتحلي بأوامره ومرضياته اتَّقُوا اللَّهَ المطلع لجميع حالاتكم حَقَّ تُقاتِهِ خالية عن الميل الى الرياء والبدع والأهواء المفضية الى الإلحاد والزندقة وَاجتهدوا ايها المؤمنون ان لا تَمُوتُنَّ ولا تخرجن عن هويتكم هذه إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون في الاعتصام بحبل التوحيد والايمان مخلصون عن ربقة التقليد والحسبان
وَبعد ما خرجتم عن انانيتكم ايها المخلصون الموقنون اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ الممتد من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات وارفعوا مقتضيات هوياتكم جَمِيعاً عن البين حتى لا يبقى توهم الغير والسوى مطلقا وتخلص نفوسكم عن مشتهياتها ومستلذاتها الفانية وتصل الى الحيوة الازلية والبقاء السرمدي وَلا تَفَرَّقُوا اى لا تشتتوا ولا تفرقوا بمقتضيات أوهامكم المتفرعة على هوياتكم الباطلة عن الجمعية الحقيقية الحقية وَبعد ما وصلتم بمقام الجمعية والوحدة الذاتية اذْكُرُوا ايها العكوس والاظلال نِعْمَتَ اللَّهِ المتجلى فيكم بذاته المتفضل عَلَيْكُمْ بلا عوض ولا غرض سيما وقت إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً بعداء متروكين في ظلمة العدم فَأَلَّفَ سبحانه بتجلياته الجمالية بَيْنَ قُلُوبِكُمْ في فضاء الإمكان بان جعلكم أزواجا وبنين وحفدة متظاهرين بعضكم ببعض على مقتضى الإضافات ورقائق المناسبات الواقعة بين الأسماء والأوصاف الإلهية فَأَصْبَحْتُمْ بعد ما استيقظتم عن منام الإمكان ونعاس الغفلة والنسيان وصرتم بِنِعْمَتِهِ التي هي التوفيق والأقدار على طلب الرشد والرشاد إِخْواناً مجتمعين في فضاء الوحدة بلا توهم الكثرة المستدعية العداوة والخصومة وَالحال انه قد كُنْتُمْ في طغيان الإمكان عَلى شَفا حُفْرَةٍ اى طرف واد غائر قد ملئت مِنَ النَّارِ وأنتم مشرفون بالوقوع فيها الا وهي وادي العدم وغور الإمكان المباين لفضاء الوجود والوجوب المملو بنيران البعد والخذلان فَأَنْقَذَكُمْ(1/120)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
الله اى أنجاكم وخلصكم مِنْها بلطفه بان أودع فيكم العقل الجزئى المنشعب من العقل الكل الصائر اليه الراجع نحوه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ الهادي لَكُمْ دائما مستمرا الى توحيده الذاتي آياتِهِ آثار أسمائه وأوصافه الدالة على ذاته لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ رجاء ان تهتدوا منها إليها مع غاية ظهورها ووضوحها
وَبعد ما وفقتم للايمان ونبهتم على مسالك التوحيد والعرفان لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ملتزمة للإرشاد والتكميل يَدْعُونَ الناس إِلَى الْخَيْرِ اى المختص الى التوحيد وإسقاط الإضافات وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ المستحسن في طريق التوحيد وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المستقبح فيه المانع عن الوصول اليه وَأُولئِكَ الراشدون الهادون المهديون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون من عنده سبحانه بالمثوبة العظمى والدرجة العليا التي هي مقام الجمعية والرضا
وَبالجملة لا تَكُونُوا ايها المحمديون المتحققون بمقام الجمعية كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الدالة على الجمعية والاتفاق ولم يتنبهوا منها على التوحيد الذاتي وَأُولئِكَ الأشقياء المردودون الهالكون في تيه الخذلان والحرمان لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في جهنم البعد وجحيم الإمكان وسعير الطرد والخذلان.
اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ بقبول النور من الوجه الباقي الإلهي وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ببقائها في سواد الإمكان فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ولم يرتفع غشاوة هوياتهم وكثافة ماهياتهم عن أعينهم وأبصارهم ولم تتصف مرآة قلوبهم عن صدأ الكثرة ورين الثنوية قطعا قيل لهم لذلك تقريعا وتوبيخا أَكَفَرْتُمْ وأعرضتم عن الحق ايها الهالكون في بقعة الإمكان سيما بَعْدَ إِيمانِكُمْ بوجوب الوجود ووجوب الرجوع اليه فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما اى بانا نيتكم التي كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وتسترون بها نور الوجود وصفاء التوحيد الخالص عن الكدورات مطلقا
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ عن شين التعلقات ورين الإضافات واضمحلت هوياتهم في هوية الحق وارتفعت عن عيون بصائرهم وأبصارهم مطلقا الحجب والأستار المانعة عن الوصول الى دار القرار فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ التي وسعت كل شيء مستغرقون وفي بحر توحيده غائصون سابحون لا يخرجون منها ابدا بل هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مستمرون ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله
تِلْكَ المواعيد والوعيدات المذكورة للأولياء والأعداء آياتُ اللَّهِ الدالة على كمال قدرته وتفرده في ألوهيته واستقلاله في ربوبيته نَتْلُوها عَلَيْكَ يا أكمل الرسل تفضلا منا إليك وامتنانا عليك ملتبسة بِالْحَقِّ بلا شك في وقوعها وَمَا اللَّهُ المنتقم للعباد في يوم المعاد يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ بل يجازيهم بمقتضى ما صدر عنهم في النشأة الاولى ان خيرا فخير وان شرا فشر. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا فيها فتقديره فيها ومن يعمل شرا فكذلك وبالجملة لا يتصور الظلم والتعدي من جانبه سبحانه أصلا
وَكيف لا يكون كذلك إذ لِلَّهِ المستوي على عروش ذرائر الكائنات بالقسط والاعتدال الحقيقي محافظة ما فِي السَّماواتِ اى ما ظهر في عالم الغيب وعالم الأرواح وَما ظهر فِي الْأَرْضِ اى عالم الشهادة والأشباح من الصور الحاملة لآثار أسمائه الحسنى المظهرة لصفاته العليا وَبالجملة إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الأسباب والوسائل العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ المتعلقة بالمظاهر كلها إذ هو الفاعل المطلق والمتصرف المستقل لا فاعل سواه بل لا شيء في الوجود الا هو فلا رجوع الا إياه
كُنْتُمْ ايها المحمديون المجبولون على التوحيد الذاتي خَيْرَ أُمَّةٍ في علم الله مستوية على صراط التوحيد معتدلة بين طرفي الإفراط والتفريط أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ اى قدر ظهوركم لتكميل الناقصين من الناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ(1/121)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
المستحسن في سلوك طريق التوحيد بينكم وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المحظور المستقبح وَذلك الأمر والنهى انما يصدر عنكم لكونكم تُؤْمِنُونَ وتوقنون أنتم في انفسكم بِاللَّهِ المستوي على عروش ذرائر الكائنات بالاعتدال الذي هو صراط الله الأقوم وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ بأجمعهم بدينكم وملتكم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ينجيهم ايمانهم هذا عن ورطتي الإفراط والتفريط ويهديهم الى صراط مستقيم موصل الى الوحدة الذاتية وان كان القليل مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الداخلون في حصن الايمان والتوحيد مع المؤمنين الداخلين فيه وَلكن أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن حدود الله وعن مقتضى حكمه وأحكامه وبالجملة لا تبالوا ايها الموحدون بفسوقهم وعصيانهم
إذ لَنْ يَضُرُّوكُمْ بفعلهم هذا ضررا فاحشا إِلَّا أَذىً قد صدر من سقطات ألسنتهم والفاظهم من التقريع والتشنيع عليكم وَإِنْ بالغوا في العداوة الى ان يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ البتة اضطرارا وانهزاما ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بالكر عليكم بعد الفر منكم بل ينصركم الله عليهم بنصره العزيز ويخذلهم ويذلهم لذلك
قد ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمسكنة والصغار والهوان دائما أَيْنَ ما ثُقِفُوا ووجدوا صاروا مهانين صاغرين إِلَّا المعتصمين منهم بِحَبْلٍ نازل مِنَ عند اللَّهِ الا وهو عبارة عن الانقياد بدين الإسلام وَحَبْلٍ اى عهد وثيق وذمة مؤكدة مِنَ قبل النَّاسِ يعنى المؤمنين وَبعد ما باؤُ ورجعوا عن تصديق الإسلام المنزل على خير الأنام استحقوا بِغَضَبٍ عظيم نازل مِنَ اللَّهِ بمقتضى قهره وَلا يمكنهم دفعه إذ قد ضُرِبَتْ اى تمكنت وتقررت عَلَيْهِمُ الذلة والْمَسْكَنَةُ المذمومة الناشئة من خباثة طينتهم بحيث لا يرجى عزتهم أصلا ذلِكَ اى ضرب الذلة والهوان عليهم بِأَنَّهُمْ كانُوا في أوان عزتهم وعظمتهم يَكْفُرُونَ ويكذبون مستهزئين بِآياتِ اللَّهِ المنزلة من عنده وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ اى بلا رخصة شرعية ذلِكَ الكفر والقتل الصادر منهم بِما عَصَوْا اى بسبب عصيانهم وبشؤم خروجهم عن اطاعة امر الله والانقياد لأحكامه عتوا وعنادا وَالحال انهم لا يجبرون عصيانهم بالتوبة بل كانُوا يَعْتَدُونَ ويتجاوزون عن حدود الله بالمرة ويقتلون من يقيمها ويتقلد بها عنادا واستكبارا
ومع ذلك لَيْسُوا سَواءً اى ليس جميع اهل الكتاب مستوية الاقدام في الإنكار والاعتداء بل مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ايضا أُمَّةٌ قائِمَةٌ مؤمنة مستقيمة على صراط العدالة لأنهم يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ الدالة على هدايته وتوحيده آناءَ اللَّيْلِ اى جميع أطرافه وساعاته وَهُمْ يَسْجُدُونَ ويصلون فيه خاضعين واضعين جباههم على تراب المذلة رغبة اليه سبحانه وخوفا من خشيته ورجاء من سعة رحمته
وذلك لأنهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ اى بوحدانيته وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وبتحقق وقوعه وصدقه وَمع ذلك يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ويبادرون الى الطاعات المؤدية الى إسقاط الإضافات وقطع التعلقات المستلزمة لرفع الحجب وأستار التعينات المانعة عن المكاشفات والمشاهدات وَبالجملة أُولئِكَ المتصفون منهم بهذه الصفات العلية مِنَ زمرة الصَّالِحِينَ بسلوك سبيل الحق المستوجبين للوصول الى سواء التوحيد الذي هو السواد الأعظم المشار اليه في الحديث النبوي صلوات الله وسلامه على قائله
وَبالجملة ما يَفْعَلُوا اى هؤلاء الموصوفون منهم مِنْ خَيْرٍ طالبين فيه رضا الله راجين ثوابه خائفين عن عقابه فَلَنْ يُكْفَرُوهُ اى لن ينقصوا من اجره بل يزدادوا ويضاعفوا وَاللَّهُ المفضل المنعم على عموم العباد(1/122)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ منهم يجازيهم على مقتضى علمه بهم وحسب لطفه وكرمه إياهم أدركنا بلطفك وكرمك يا أكرم الأكرمين
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله في النشأة الاولى عتوا واستكبارا مفتخرين بأموالهم وأولادهم متظاهرين بها لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع عَنْهُمْ في النشأة الاخرى وقت أخذ الله إياهم على ظلمهم وكفرهم لا أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ غضب اللَّهِ شَيْئاً قليلا وَأُولئِكَ الأشقياء المستكبرون المفتخرون هم أَصْحابُ النَّارِ وملازموها لا خلاص لهم منها بل هُمْ فِيها خالِدُونَ مخلدون ابدا لا يرجى نجاتهم منها وتخفيف العذاب عنهم أصلا ولا ينفع لهم إحسانهم وانفاقهم الذي صدر عنهم في الدنيا لعدم مقارنته بالإيمان والإيقان
بل ثَلُ ما يُنْفِقُونَ
رياء وسمعة ترفعا واشتهاراي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
لا لمثوبة اخروية لعدم اعتقادهم بهامَثَلِ رِيحٍ
عاصف يها صِرٌّ
اى برد شديدصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالفسوق والعصيان أَهْلَكَتْهُ
بالمرة وصاروا آيسين قانطين من نفعها وشكوا من الله بما لا يليق بجنابه من نسبة الظلم والتعدي اليه تعالى عن ذلك
الحال انه اظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اى هم يظلمون أنفسهم بالكفر والفسوق ولم يتفطنوا له ونسبوه الى الله افتراء ومراء وما الله يريد ظلما للعباد
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً اى صاحب سر تستودعون سرائركم وتكشفون ضمائركم عنده مِنْ دُونِكُمْ اى من الكفار دون المؤمنين واعلموا انهم لا يَأْلُونَكُمْ ولا يمنعون عنكم ولا يقصرون في شأنكم خَبالًا ضررا وفسادا بل قد وَدُّوا وأحبوا دائما ما عَنِتُّمْ اى ضرركم وهلاككم ومن غاية ودادهم هذا قَدْ بَدَتِ وظهرت الْبَغْضاءُ المكنونة في نفوسهم وصدورهم مِنْ أَفْواهِهِمْ هفوة بلا قصد واختيار وَلا شك ان ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ قصدا واختيارا أَكْبَرُ مما تبدى أفواههم وألسنتهم هفوة واضطرارا وبالجملة قَدْ بَيَّنَّا وأوضحنا لَكُمُ ايها المؤمنون الْآياتِ المتعلقة لمعاشكم ومعادكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتفهمون مقاصدها وتتعظون بها وتعملون بمقتضاها
ها أَنْتُمْ ايها المؤمنون الغافلون أُولاءِ الخاطؤن المغفلون الذين تُحِبُّونَهُمْ محبة خالصة صادقة صافية عن مطلق الكدورات وَلا يُحِبُّونَكُمْ أولئك المنافقون المزورون الا تلبيسا ونفاقا وَأنتم تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ اى بجميع الكتب النازلة من عند الله على رسل الله وهم لا يؤمنون بكتابكم الجامع لما في الكتب السالفة وَمن غاية نفاقهم معكم إِذا لَقُوكُمْ قالُوا تلبيسا وتغريرا آمَنَّا بدينكم وكتابكم ورسولكم وَإِذا خَلَوْا وانصرفوا عنكم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ شدة الْغَيْظِ وعدم القدرة على الانتقام على وجه التشفي قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا مخاطبا لهم على سبيل التوبيخ والتقريع مُوتُوا ايها المنافقون المغتاظون بِغَيْظِكُمْ المتزايد المترقى يوما فيوما حسب ارتفاع قدر الإسلام وعلو شأنه ومع ذلك لا تأمنوا عن مكر الله وانتقامه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما تخفون في صدوركم من الكفر والنفاق ويجازيكم على مقتضى علمه بكم ولا يعزب عن علمه شيء ومن غاية حسدهم ونهاية بغضهم
إِنْ تَمْسَسْكُمْ وتحط بكم حَسَنَةٌ مسرة مفرحة لنفوسكم تَسُؤْهُمْ وتشق عليهم من غاية عداوتهم ونفاقهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ مملة مولمة يَفْرَحُوا بِها تشفيا وتفرحا شامتين بها سارين عليها وَإِنْ تَصْبِرُوا على غيظهم وإذا هم وَتَتَّقُوا وترجعوا الى الله مفوضين أموركم كلها اليه يحفظكم عن جميع(1/123)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
ما يؤذيكم بحيث لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ اى مكرهم وحيلهم شَيْئاً من الضرر إِنَّ اللَّهَ المطلع بسرائرهم وضمائرهم بِما يَعْمَلُونَ من الحيل والمخايل مُحِيطٌ لا يشذ عن علمه شيء ولو خطرة وطرفة وعلى قراءة تعملون بتاء الخطاب كان المعنى ان الله الموفق لكم على دين الإسلام بما تعملون من الصبر والتقوى والتفويض الى المولى محيط حاضر غير مغيب عنكم وعن عملكم
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ غَدَوْتَ وخرجت أنت مسرعا في الغدوة مِنْ أَهْلِكَ يعنى بيت عائشة رضى الله عنها حال كونك تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ وتريد ان تعين وتهيء لهم مَقاعِدَ امكنة ومواقف لِلْقِتالِ وبعض منهم مع جميع المنافقين يتقاعدون ويسوفون معللين بعلل ودلائل ضعيفة وبعض آخر يريدون الخروج ويرغبونك عليه وَبالجملة اللَّهُ المطلع بضمائر كلا الفريقين سَمِيعٌ لأقوالهما عَلِيمٌ بنياتهما روى ان المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ثانى عشر شوال سنة ثلث من الهجرة فاستشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أصحابه ودعا عبد الله بن ابى ولم يدعه قبل فقال هو واكثر الأنصار أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها الى عدو الا أصاب منا ولا دخلها علينا الا قد أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فان أقاموا أقاموا بشر محبس وان دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة وان رجعوا رجعوا خائبين خاسرين وأشار بعضهم الى الخروج فقال عليه السّلام رأيت في منامي بقرة مذبوحة عند حولي فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فاولته هزيمة ورأيت كأني ادخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فان رأيتم ان تقيموا بالمدينة وتدعوهم فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم احد اخرج بنا الى أعدائنا فبالغوا حتى دخل ولبس لأمته فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم فقالوا يا رسول الله اصنع ما شئت فقال لا ينبغي لنبي ان يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب من احد ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهر عسكره الى احد وسوى صفهم وامر عبد الله بن جبير على الرماة وقال انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا وحين استوى الصفوف وبلغوا الشوط قال ابن ابى علام نقتل أنفسنا وأولادنا فانصرف فوقع الخلاف بين المؤمنين فتزلزلوا اذكروا
إِذْ هَمَّتْ وقصدت في تلك الحالة طائِفَتانِ مِنْكُمْ ايها المؤمنون وهما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر أَنْ تَفْشَلا وتنهز ما ضعفا وجبنا وتتبعا اثر ابن ابى فعصمهما الله من متابعة الشيطان وجنوده فمضيا مع رسول الله مستغفرين عما جرى عليهما وَكيف لا يعصمهما عن مخالفة الرسول اللَّهُ القادر المقتدر الذي هو وَلِيُّهُما ومولى أمورهما لذلك ارشدهما الى ما هو أصلح بحالهما وَبالجملة عَلَى اللَّهِ المدبر لمصالح عباده لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ حتى يتحققوا بمقام الرضا والتسليم
وَبعد ما قابلتم على العدو لا تيأسوا من نصر الله وتأييده ولا تضعفوا ولا تجبنوا ولا تبالوا بكثرة عددهم وعددهم بل اذكروا وتذكروا لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ الرقيب عليكم بِبَدْرٍ موضع بين مكة والمدينة يتسوق فيه العرب مع قوافل الحجاج وَالحال انه أَنْتُمْ في تلك الوقعة أَذِلَّةٌ ضعفاء في العدد والعدد وعدوكم على العكس بان انزل عليكم من الملائكة جنودا لم تروها فَاتَّقُوا اللَّهَ اليوم من الفرار والانهزام ومخالفة الرسول لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تلك النصرة فيما مضى.
اذكر لهم يا أكمل الرسل «وقت» إِذْ تَقُولُ أنت يوم بدر لِلْمُؤْمِنِينَ حين حدث في قلوبهم الرعب(1/124)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
من العدو لكون عددهم على أضعافهم قولا استفهاميا على سبيل التبكيت والإلزام بعد ما ظهر عندك الأمر بالوحي الإلهي أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ
ثم ألهمك ربك بان قلت بَلى يكفيكم هذا القدر ان تستغيثوا وتستلجئوا الى الله ترعبا وترهبا من العدو ولكن إِنْ تَصْبِرُوا في مقابلتهم ومقاتلتهم وَتَتَّقُوا عن الاستدبار والانهزام بل تصبروا قارين كارين مرارا طالبين رضا الله وإمضاء حكمه وإنفاذ قضائه يريد عليكم وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا اى ساعتهم الحاضرة التي هي هذه يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ جزاء صبركم وتقواكم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ معلمين معلومين ممتازين عن البشر
وَاعلموا ايها المؤمنون ما جَعَلَهُ اللَّهُ الهادي لعباده الى زلال توحيده أمثال هذه الإمدادات والارهاصات الواردة في أمثال هذه الوقائع إِلَّا بُشْرى لَكُمْ يبشركم بمقام التوكل والتفويض والرضا والتسليم وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ اى لتكونوا مطمئنين بالله فانين فيه باقين ببقائه وَاعلموا ايضا مَا النَّصْرُ والانهزام إِلَّا مقدرين مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العليم العلام الْعَزِيزِ الغالب القادر على الانعام والانتقام الْحَكِيمِ المتقن في فعله على ابلغ الوجوه وأتم النظام
وانما جعله وبشر به لِيَقْطَعَ وليستأصل طَرَفاً جملة وجماعة مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اعرضوا عن طريق التوحيد فينهزم الباقون أَوْ يَكْبِتَهُمْ اى يخزيهم ويرديهم فَيَنْقَلِبُوا جميعا خائِبِينَ خاسرين نادمين
وإذا كان الكل من عند الله العزيز الحكيم لَيْسَ لَكَ يا أكمل الرسل مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اى شيء من أمورهم بل الأمر كله لله فله ان يفعل معهم ما شاء وقدر وأراد اما ان يستأصلهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ توبة توبيخهم من انانيتهم أَوْ يُعَذِّبَهُمْ دائما جزاء ظلمهم وكفرهم فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ مستقرون على الظلم ما داموا في الحيوة الدنيا
وَكيف لا يكون أمورهم مفوضة الى الله إذ لِلَّهِ المتصرف المطلق المستقل خاصة مستقلة بلا مزاحم ومشارك عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ وَما ظهر فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ يمحو ويستر لِمَنْ يَشاءُ جرائمه المخالفة لطريق توحيده بعد رجوعه وانابته اليه سبحانه ويدخل في جنة وحدته وَيُعَذِّبُ بها مَنْ يَشاءُ في جهنم البعد والخذلان وَبالجملة اللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب واستغفر رَحِيمٌ لمن استحيي وندم
ثم خاطب سبحانه المؤمنين مناديا لهم بما يتعلق برسوخهم في طريق التوحيد من الخصال الجميلة والشيم المرضية فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله مقتضى ايمانكم ان لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا سيما إذا كان أَضْعافاً مُضاعَفَةً بحيث يستغرق مال المدين مجانا وَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ولا تتجاوزوا عن حدوده لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بخير الدارين بامتثال مأموراته ومرضياته
وَاتَّقُوا ايها المؤمنون النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ وهيئت لِلْكافِرِينَ اصالة وللمقتفين أثرهم تبعا ويعملون معاملتهم استنكافا واستكبارا من المؤمنين الفاسقين
وَان أردتم الفلاح والفوز بالنجاح أَطِيعُوا اللَّهَ المولى لأموركم وَأطيعوا الرَّسُولَ المبين لكم طريق اطاعة الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ من عنده سبحانه ان اخلصتم في الإطاعة والانقياد
وَعليكم ان لا تتكلوا ولا تتكئوا بطاعاتكم وعباداتكم ولا تزنوها عند الله بل سارِعُوا وبادروا مواظبين إِلى طلب مَغْفِرَةٍ سيئة ومحو لهوياتكم صادرة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة المعرفة والتوحيد وَوصول جَنَّةٍ منزل ومستقر عَرْضُهَا السَّماواتُ اى الأسماء والصفات الإلهية القائمة بذات الله وَالْأَرْضُ اى طبائع العدم القابلة لانعكاس(1/125)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
اشعة تلك الأسماء والصفات انما أُعِدَّتْ وهيئت هذه لِلْمُتَّقِينَ من اهل التوحيد وهم الذين قد رفعت لهم غشاوة الغيرية وغطاء التعينات الموجبة للتعامى عن نور الوجود المطلق مطلقا
وهم الَّذِينَ يُنْفِقُونَ من طيبات ما كسبوا من رزق صورى ومعنوي للمستحقين من اهل الله سواء كانوا فِي السَّرَّاءِ اى حين الفراغة عن الشواغل العائقة عن التوجه الحقيقي وَالضَّرَّاءِ اى عند عروض العوارض اللاحقة من لوازم البشرية وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ اى الماسكين الكافين غيظهم عند ثوران القوة الغضبية وهيجان الحمية البشرية الناشئة من طغيان القوى البهيمية وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ اى الذين يعفون ويتركون عقوبة من يسوءهم ويظلمهم عند القدرة لتحققهم في مقر التوحيد المسقط للاضافات والاختلافات مطلقا وَبالجملة اللَّهُ المطلع على سرائر عباده يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ منهم بجميع انواع الإحسان سيما بكظم الغيظ والعفو عند القدرة وعن النبي عليه السّلام ان هؤلاء في أمتي قليل الا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت
وَمن جملة المتقين المعدودين من زمرتهم المؤمنون الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلة قبيحة صغيرة كانت او كبيرة صدرت منهم بغتة خطأ أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بان صدرت عنهم تلك الفعلة عن قصد وتعمد ثم ذَكَرُوا اللَّهَ المنتقم الغيور خائفا من بطشه وانتقامه فَاسْتَغْفَرُوا منه سبحانه على الفور راجين العفو والستر لِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم عمدا او خطأ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ مطلقا من العباد إِلَّا اللَّهُ اى غير الله العفو الغفور الذي يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده ارادة واختيارا وَبعد ما استغفروا وتابوا لَمْ يُصِرُّوا ولم يرجعوا عَلى فعل ما فَعَلُوا بل قد تركوه بالمرة وَالحال انه هُمْ يَعْلَمُونَ قبح وخامة الإصرار
وبالجملة أُولئِكَ السعداء المستغفرون المتذكرون التائبون الآئبون الخائفون الراجون جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ ستر ومحو لأنانياتهم عطاء مِنْ رَبِّهِمْ وامتنانا منه عليهم لإخلاصهم في الانابة والرجوع وَجَنَّاتٌ اى مشاهدات ومكاشفات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات خالِدِينَ فِيها ابدا لا يظمؤون منها ابدا بل يطلبون مزيدا وَبالجملة نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ تلك المغفرة والجنات. بادروا ايها المؤمنون الى تلك الجنات وواظبوا على إتيان الطاعات والأعمال الصالحات المقربة نحوها وبالجملة لا تغفلوا عن الله في عموم الحالات
واعلموا ايها الموحدون المحمديون قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِكُمْ في القرون الماضية سُنَنٌ ووقائع هائلة بين الأمم الهالكة المنهمكة في بحر الضلال والطغيان ان أردتم ان تعتبروا منها فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة ايها المفردون السائحون المعتبرون المتفكرون في ملكوت السماوات والأرض فَانْظُروا من آثارهم واظلالهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ بتوحيد الله وبرسله المبينين له وإذ أسرتم ونظرتم فاعتبروا يا اولى الأبصار وذوى العبرة والاستبصار
هذا اى تذكر سننهم وسيرهم بَيانٌ واضح ودليل لائح لِلنَّاسِ المستكشفين عن غوامض مسالك التوحيد الذاتي من اهل الارادة وَهُدىً لأهل الكشف من ارباب المحبة والولاء وَمَوْعِظَةٌ وتذكير لِلْمُتَّقِينَ من عموم المؤمنين
وَبالجملة لا تَهِنُوا ولا تضعفوا ايها المؤمنون من متاعب مسالك الفناء في طريق التوحيد الذاتي وَلا تَحْزَنُوا من المكروهات التي عرضت عليكم من مقتضيات الأوصاف البشرية في النشأة الاولى وَاعلموا ايها الموحدون المحمديون أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ في دار البقاء اى أنتم المقصورون على أعلى المراتب(1/126)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
وارفع الدرجات إذ لا دين ولا نبي أعلى وأكمل من دينكم ونبيكم لظهوره على التوحيد الذاتي لذلك ختم به صلّى الله عليه وسلّم امر النسخ والتبديل وظهر في دينكم سر قوله سبحانه ما يبدل القول لدى الآية إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين متحققين بتلك المرتبة العلية متمكنين فيها آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
إِنْ يَمْسَسْكُمْ ويصبكم ايها المجاهدون المحمديون في سبيل الله لإعلاء كلمة توحيده قَرْحٌ ضيق ومشقة من اعداء الله يوم احد لا تبالوا به ولا تضعفوا بسببه فعليكم تذكر يوم بدر فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ اى أعدائكم قَرْحٌ مِثْلُهُ بل أشد من هذا ومع ذلك لم يضعفوا ولم يجبنوا مع كونهم ساعين على الباطل وأنتم أحقاء بان لا تضعفوا ولا تجبنوا لأنكم مجاهدون في طريق الحق ساعون لترويجه وَبالجملة تِلْكَ الْأَيَّامُ اى ايام النصر والظفر والفتح والغنيمة ايام وازمان نحن نُداوِلُها بَيْنَ عموم النَّاسِ وجمهور الأنام محقهم ومبطلهم مؤمنهم وكافرهم ليعلموا انهم بأجمعهم تحت حيطة اوصافنا الجمالية والجلالية واللطفية والقهرية وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ العليم الحكيم ويميز سبحانه بمقتضى علمه وحكمته الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله عن غيرهم بان أمرهم على الجهاد مع الأعداء ليتحققوا بالفناء ويفوزوا بشرف البقاء وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ ايها المؤمنون شُهَداءَ واصلين فانين في الله فائزين بشرف بقائه ولقائه صائرين احياء دائمين وَاللَّهُ المتوحد بذاته لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المجاوزين عن طريق توحيده المائلين عن صراطه المستقيم
وَلِيُمَحِّصَ اى ليصفى ويطهر اللَّهُ المدبر العليم الحكيم بلطفه قلوب الَّذِينَ آمَنُوا اى تيقنوا وتحققوا بصفاء مشرب التوحيد الذاتي وَيَمْحَقَ يهلك في ظلمة البعد والإمكان والعذاب الشديد الْكافِرِينَ الساترين بهوياتهم الباطلة الكثيفة نور الوجود الحق اللطيف أتحسبون وتطمعون ايها المريدون القاصدون سلوك طريق التوحيد انكم كلكم مستوون عند الله في السلوك
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ اى الوحدة الذاتية وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ اى لم يفرق ولم يميز بعلمه الحضوري الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ في سبيله ظاهرا وباطنا وبذلوا جهدهم فيه ومهجهم في ترويجه حتى صاروا فانين في الله شهداء حضراء عنده باقين ببقائه عن المتقاعدين المتكاسلين منكم وَايضا لما يَعْلَمِ ولم يميز منكم الصَّابِرِينَ المتمكنين في مرامي القضاء الراضين بما جرى عليهم من سهام التقدير والبلاء بلا اقدام ولا احجام من غيركم
وَبالجملة لَقَدْ كُنْتُمْ أنتم ايها المحمديون الموحدون المستكشفون عن سرائر التوحيد الذاتي تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الموصل الى مرتبة اليقين العيني والحقي فيما مضى عند وصولكم الى مرتبة اليقين العلمي مسرعين عليها شوقا واستلذاذا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ الآن معاينين مشاهدين قتل إخوانكم وَبعد ما ظهر امارات التوحيد ولمع سراب الفناء وبرق صوارم القضاء من أفق عالم العماء المفضية الى إهلاك الغير والسوى مطلقا أَنْتُمْ ايها الطالبون الوصول الى جنة الذات تَنْظُرُونَ تبطؤن وتفترون
وَاعلموا ايها المؤمنون المتوجهون نحو توحيد الذات ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ من الرسل هاد لكم الى طريق التوحيد قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الهادون اليه مثله المنبهون على طريقه وان كان في ضمن توحيد الصفات والأفعال وبالجملة ما لهم وله صلّى الله عليه وسلّم وعليهم الا التبليغ والتنبيه فعليكم ان تتنبهوا وتتحققوا بمقام التحقيق واليقين معرضين عن قشور التقليد والتخمين أَتؤمنون به صلّى الله عليه وسلّم وتسترشدون منه ايها المريدون حال حياته فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ورجعتم عَلى(1/127)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
أَعْقابِكُمْ غير واصلين الى فضاء التوحيد وَمَنْ يَنْقَلِبْ ويرجع منكم عَلى عَقِبَيْهِ بلا وصول الى مقصد التوحيد فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بنقصان او زيادة إذ هو سبحانه مستو على عرشه كما كان ازلا وابدا بلا تبديل ولا تغيير بل ما يضر المنقلب إلا نفسه بعدم إيصالها الى غايتها الممكن لها وبذلك قد حط عن رتبة الشاكرين وزمرة الموحدين وَالحال انه سَيَجْزِي اللَّهُ بلطفه الشَّاكِرِينَ منكم الصارفين جميع القوى والجوارح الى ما خلق لأجله الصابرين على ما أصابهم في سبيله الباذلين مهجهم في إعلاء كلمة توحيده الراجين منه سبحانه الوصول الى زلال تجريده وتفريده
وَبالجملة اعلموا ايها المؤمنون الموقنون بقضاء الله وقدره ما كانَ لِنَفْسٍ من النفوس الخيرة او الشريرة أَنْ تَمُوتَ بقتل او حتف انف إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى تقديره الثابت المثبت في لوح قضائه السابق إذ كتب سبحانه له كِتاباً جامعا بجميع ما يجرى عليه في عالم الشهادة حياته وموته ورزقه ومدة عمره مُؤَجَّلًا موقتا بوقت معين بحيث لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه وَمَنْ يُرِدْ منكم ثَوابَ الدُّنْيا التي هي ادنى مرتبة الإنسان وانزل منزلته من المفاخرة بالمال والجاه والحسب والنسب نُؤْتِهِ ونعطه مِنْها مقدار ما نقدر له في سابق علمنا ونحاسبه عليه في يوم الجزاء وَمَنْ يُرِدْ منكم ثَوابَ الْآخِرَةِ من الحقائق والمعارف والمواهب العلية التي هي المقصد الأقصى والمطلب الأعلى من إيجاد وظهور نُؤْتِهِ مِنْها مقدار ما يقتضيه استعداده الفطري وَبالجملة سَنَجْزِي بروضة الرضا وجنة التسليم تفضلا منا وامتنانا بلا واسطة الأسباب والوسائل الشَّاكِرِينَ المنسلخين عن مطلق الارادة بل عن جميع الأمور والمرادات الراضين عموم ما قسم لهم وقدر عليهم في سابق علمنا
ثم قال سبحانه وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ مجاهد في سبيل الله لترويج كلمة توحيده قد قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ الربانيون المخلصون كَثِيرٌ منهم قتلوا في سبيل الله وأصيبوا فَما وَهَنُوا وما جبنوا لِما أَصابَهُمْ من القرح فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وكلمة توحيده وَما ضَعُفُوا من محاربة اعداء الله وَمَا اسْتَكانُوا وما تضرعوا على أعدائهم استمهالا واستخلاصا بل قد كانوا جراءين كرارين بحيث لا يرى عليهم امارات الجبن والخوف وعلامات الانهزام أصلا صابرين على ما أصابهم من القرح والجرح وقتل الأقارب والعشائر وَبالجملة اللَّهِ الهادي لعباده الى زلال توحيده يُحِبُّ الصَّابِرِينَ منهم في البلوى الصائرين نحو المولى الراضين لعموم ما يحب له ويرضى
وَمن غاية تصبرهم وتمكنهم على الجهاد في سبيل الله ما كانَ قَوْلَهُمْ عند عروض المكروهات ولحوق المصيبات إِلَّا أَنْ قالُوا مستغفرين مسترجعين نحوه خائفين من ضعف الإخلاص في امتثال أوامره رَبَّنَا يا من ربانا في مضيق الإمكان بأنواع اللطف والإحسان اغْفِرْ لَنا بفضلك ذُنُوبَنا اى خواطرنا التي خطرت في نفوسنا من خوف أعدائك بعد ما امرتنا الى مقاتلتهم وَاغفر لنا ايضا يا ربنا إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا اى ميلنا وانحرافنا الى طريق الإفراط والتفريط عن حدودك التي وضعت لنا في امر الغزو والجهاد وَبالجملة ثَبِّتْ أَقْدامَنا على جادة توحيدك التي قد وضعت لنا في حضرة علمك وبينتها على السنة رسلك وَبعد ثبوتنا بتثبيتك يا ربنا انْصُرْنا بحولك وقوتك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين نور الوجود الحق بهوياتهم الباطلة وماهياتهم العاطلة المائلين عن طريق التوحيد بشؤم شياطين اوهامهم وخيالاتهم وبعد ما أخلصوا في رجوعهم واستغفروا لذنوبهم والتجائوا نحو حوله وقوته سبحانه
فَآتاهُمُ اللَّهُ(1/128)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
مجازيا لهم تفضلا وامتنانا ثَوابَ الدُّنْيا من النصر والغنيمة والفوز والفتح والظفر على الأعداء والرياسة على الأولياء على احيائهم وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ من المشاهدة والرضا والمكاشفة واللقاء على شهدائهم الذين قتلوا في سبيل الله متشوقين الى الفناء فيه كي يتحققوا ببقائه ويفوزوا بشرف لقائه ولا يحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء الآية وَبالجملة اللَّهُ الهادي لعباده الى فضله في معاده يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ منهم ويرضى عنهم سيما الذين أحسنوا في سبيل الله باذلين مهجهم في طريق توحيده. رب اجعلنا من خدامهم وتراب اقدامهم. ثم لما أراد سبحانه تثبيت المؤمنين على قواعد الإسلام ورسوخهم على مقتضيات شعائر الدين والايمان حذرهم عن اطاعة الكفار ومخالطتهم والاستغاثة منهم والاستكانة إليهم
فقال مناديا لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا منقادين مستنصرين القوم الَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد الله عنادا واعرضوا عن كتبه ورسله تعنتا واستكبارا يَرُدُّوكُمْ البتة بعد هدايتكم وثبوتكم على الايمان عَلى أَعْقابِكُمْ التي قد كنتم عليها من الكفر والطغيان قبل انكشافكم بالتوحيد والايمان وان انقلبتم عليها فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ خائبين خسرانا عظيما وخيبة بليغة فعليكم ان تجتنبوا من موالاتهم ومواخاتهم
بَلِ اللَّهُ المدبر لأموركم هو مَوْلاكُمْ يولى أموركم ويكفى مؤنة أعدائكم متى استعنتم منه واسترجعتم نحوه وَاعلموا ايها المؤمنون المضطرون في الوقائع والخطوب ان موليكم ونصيركم هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فاستعينوا منه وتوكلوا عليه ولا تيأسوا وما النصر الا من عند الله العزيز العليم.
ثم قال سبحانه سَنُلْقِي يعنى حين توجهتم إلينا واستعنتم بنا مخلصين نلقى نحن على مقتضى قهرنا وغضبنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيدنا الرُّعْبَ والمخافة منكم مع كونكم مستضعفين في انفسكم وانما نلقيهم ما نلقيهم بِما أَشْرَكُوا اى بشؤم شركهم واشراكهم بِاللَّهِ المنزه عن الأشباه والأنداد ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً اى آلهة وأصناما لم ينزل الله بها عليهم حجة وبرهانا تلجئهم الى عبادتها واطاعتها بل ما اتخذوا كل ما اتخذوا من الآلهة والشركاء الباطلة الا من تلقاء أنفسهم ظلما وعدوانا تعالى عن ذلك علوا كبيرا وَبالجملة ليس مَأْواهُمُ في النشأة الاخرى الا النَّارُ الموعودة المعدة لمن اظلم وافترى على الله واتبع هواه وَبِئْسَ المثوى والمأوى مَثْوَى الظَّالِمِينَ الكافرين الخارجين عن مقتضيات حدود الله وشعائر توحيده ومأويهم.
ثم قال سبحانه تسلية للمؤمنين وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ الرقيب الحفيظ عليكم ايها المؤمنون وَعْدَهُ الذي وعده من النصر والظفر وقت إِذْ تَحُسُّونَهُمْ اى أعدائكم ويحفظ كل منكم مكانه الذي عين له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِإِذْنِهِ اى باذن الله ووحيه بلا ميل الى الغنيمة والنهب حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ ملتم وانصرفتم الى الغنيمة وخالفتم حكم الله ورسوله وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ اى في امر التبادر والتسابق نحو الغنيمة وَعَصَيْتُمْ اى تركتم اطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ من امارات ما تُحِبُّونَ تطلبون وتوعدون من النصر والظفر المشروط بالتقرر والتمكن وبعد ما رأيتم ما رأيتم قد انقسمتم قسمين مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وحطامها فترك المركز وخالف الأمر وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فثبت على المركز وحفظ الأمر ولم يذب عن مكانه ثُمَّ لما غيرتم ما في نفوسكم من وفاء عهد الله ورسوله صَرَفَكُمْ اى بعدكم الله عَنْهُمْ وعن أموالهم خائبين فارين وانما فعل بكم سبحانه ما فعل لِيَبْتَلِيَكُمْ ويختبركم ببلاء الهزيمة هل(1/129)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
تستقرون وتثبتون على الايمان وتصبرون على مشاق المصائب الحادثة في حفظه أم لا وَبعد ما خالفتم امر الله وامر رسوله وملتم الى الغنائم سيما بعد ورود النهى من الله ورسوله لَقَدْ عَفا الله ومحا عَنْكُمْ ذنوبكم التي جئتم بها بعد ندامتكم واستغفاركم تفضلا عليكم وان كان مقتضى جريمتكم هذه استئصالكم بالمرة وَبالجملة اللَّهُ الرقيب الحافظ على احوال عموم عباده ذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى الْمُؤْمِنِينَ منكم يجاوز عن سيئاتهم وان عظمت زلتهم بعد ما تابوا واستغفروا.
اذكروا ايها المؤمنون قبح صنيعكم واستحيوا من الله نادمين عما صدر عنكم وقت إِذْ تُصْعِدُونَ وتذهبون الى الأباعد خوفا من العدو فارين من الزحف متخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَعند فراركم وذهابكم لا تَلْوُونَ ولا تلتفتون على جوانبكم وأعقابكم ولا تنتظرون عَلى أَحَدٍ من أحوالكم وَالرَّسُولُ في تلك الحالة يَدْعُوكُمْ ويناديكم صارخا الى عباد الله وقد كان الرسول فِي أُخْراكُمْ اى ساقتكم وعصابتكم ولم يلتفت احد منكم الى عقبه لإجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم ومع ذلك لم تنجوا سالمين بل فَأَثابَكُمْ وأورثكم الله الرقيب عليكم المصلح لأحوالكم تربية لكم وتأديبا غَمًّا متصلا بِغَمٍّ آخر الى حيث قد أحاطت بكم الغموم من القتل والجرح والإرجاف بقتل الرسول صلّى الله عليه وسلّم الى غير ذلك من الهموم والغموم وانما فعل بكم سبحانه ما فعل لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من النهب والغنيمة وَلا على ما أَصابَكُمْ من الفرار والهزيمة حتى تتمكنوا في مقام الرضا والتسليم ولا تخالفوا امر الله ورسوله وَبالجملة اللَّهُ المصلح المدبر لأحوالكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم عملكم بمقتضى تسويلات نفوسكم فيجازيكم بها كي تتنبهوا وتتفطنوا وتسلموا أموركم كلها الى الله وتتحققوا بالتوحيد الذاتي
ثُمَّ لما تبتم ورجعتم الى الله نادمين عما فعلتم أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ تفضلا وامتنانا مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ المفرط أَمَنَةً طمأنينة ووقارا الى حيث تورث لكم نُعاساً ورقودا يَغْشى ويعرض طائِفَةً مِنْكُمْ وهم المتحققون بمقام العبودية الراضون بعموم ما جرى عليهم من سلطان القضاء بحيث لا يشوشهم لا السراء ولا الضراء وَطائِفَةٌ اخرى من منافقيكم قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وأوقعتهم هويتهم العاطلة واهويتهم الباطلة في الهموم والغموم المبعدة عن مقام التفويض والتسليم بحيث يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظنا باطلا غَيْرَ الظن الْحَقِّ اللائق به سبحانه بل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ الباطلة الفاسدة لذلك يَقُولُونَ لرسول الله استكشافا ظاهرا وإنكارا خفيا على سبيل الاستفهام هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ اى امر الله الذي قد وعدتنا به وهو النصر والظفر مِنْ شَيْءٍ أم الأمر والغلبة كله للعدو دائما واليد لهم مستمرا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا إِنَّ الْأَمْرَ اى الحكم والشأن المتعلق بعموم ما يكون وما كان كُلَّهُ لِلَّهِ مستند اليه أولا وبالذات بلا رؤية الأسباب والوسائل في البين وبالجملة هم من نهاية غفلتهم عن الله وعن حيطة علمه وشمول ارادته وقدرته يُخْفُونَ ويضمرون فِي أَنْفُسِهِمْ من البغض والنفاق ما لا يُبْدُونَ لَكَ يا أكمل الرسل بل يظهرون لإخوانهم إذا خلوا معهم حيث يَقُولُونَ متهكمين مستهزئين لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ والغلبة شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا مظلومين صاغرين قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه بل ما يجرى في ملكه الا ما ثبت في علمه ورسم في لوح قضائه واعلموا انكم(1/130)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
لَوْ كُنْتُمْ متمكنين فِي بُيُوتِكُمْ غير خارجين منها للقتال لَبَرَزَ اى خرج وظهر البتة القوم الَّذِينَ كُتِبَ اى قدر وفرض عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في هذه المعركة إِلى مَضاجِعِهِمْ مصارعهم ومقاتلهم المقدرة لهم في الوقت الذي قدر بلا تأخير وتقديم وَبالجملة انما فعل بكم سبحانه ما فعل لِيَبْتَلِيَ ويختبر اللَّهُ المطلع بضمائركم ويظهر ما فِي صُدُورِكُمْ هل هو من الإخلاص والرضا أم هو من النفاق والشقاق وَلِيُمَحِّصَ يصفى ويطهر ما فِي قُلُوبِكُمْ من الايمان والتوحيد عن الشرك والنفاق وَبالجملة اللَّهُ المطلع لسرائركم وضمائركم عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بالأمور المكنونة فيها
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا اى استدبروا وتخلفوا مِنْكُمْ ايها المؤمنون جبنا ورهبة بلا شائبة كفر ونفاق يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ اى وقت التقاء الصفين للقتال إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ وأزال قدمهم عن التثبت والتقرر بِبَعْضِ ما كَسَبُوا اى بشؤم بعض أعمالهم المتعلقة بتسويلات نفوسهم التي هي من جنود الشياطين وَبعد ما ندموا واستغفروا وأخلصوا الرجوع الى الله لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ومحا ذنوبهم بلطفه وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ ستار عليهم جميع ما صدر عنهم من الآثام حَلِيمٌ لا يعجل بالبطش والانتقام ليتوبوا ويرجعوا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم ان تحافظوا على مقتضى الايمان والتوحيد ولا تنسبوا الحوادث الى غير الله بل فوضوها كلها الى الله اصالة حتى لا تَكُونُوا ايها المؤمنون كَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله بنسبة الحوادث اصالة الى الأسباب والوسائل العادية وَلذلك قالُوا لِإِخْوانِهِمْ اى في حق إخوانهم الذين ماتوا او قتلوا إِذا ضَرَبُوا وسافروا فِي الْأَرْضِ للتجارة والسياحة أَوْ قتلوا وكانُوا غُزًّى غازين في سبيل الله طالبين رتبة الشهادة لَوْ كانُوا اى هؤلاء الميتون والمقتولون متمكنين عِنْدَنا ما ماتُوا في الغربة وَما قُتِلُوا في يد العدو معتقدين ان ما أصابهم انما أصابهم من الغزو والغربة لا من الله وانما اخطرهم سبحانه بهذا الرأى الفاسد وأقولهم بهذا القول الباطل لِيَجْعَلَ اللَّهُ المنتقم عنهم في النشأة الاولى والاخرى ذلِكَ الحزن والأسف الطارئ عليهم حينئذ حَسْرَةً متمكنة فِي قُلُوبِهِمْ يمرضهم ويضعفهم بها في الدنيا ويعذبهم في الآخرة وَبالجملة اللَّهُ القادر المقتدر على عموم المقدورات المستقل في امر الأحياء والاماتة يُحْيِي بمقتضى لطفه وَيُمِيتُ حسب قهره بلا مظاهرة ولا مشاركة وَاللَّهُ المطلع بسرائر عباده بِما تَعْمَلُونَ ايها المؤمنون بَصِيرٌ ناقد خبير يميز ويصفى إخلاصكم من الرعونة والرياء وأعمالكم من البدع والأهواء
وَالله ايها المؤمنون المتوجهون الى الله الطالبون الوصول الى زلال توحيده لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طلبا لمرضاته أَوْ مُتُّمْ عن مقتضيات بشريتكم بالإرادة قبل موتكم سائرين سائحين في سبيل الفناء لَمَغْفِرَةٌ اى سترة ساترة لأنانيتكم ناشئة مِنَ اللَّهِ اى من جذبه لكم الى توحيده الذاتي وَرَحْمَةٌ اى جذبة نازلة منه مفنية لهوياتكم بالمرة في هويته خَيْرٌ لكم مِمَّا يَجْمَعُونَ وتدخرون أنتم لأنفسكم بهوياتكم الباطلة وان كنتم بارين خيرين فيها
وَالله ايها المؤمنون الموحدون المخلصون لَئِنْ مُتُّمْ في طريق الفناء موتا طبيعيا او إراديا أَوْ قُتِلْتُمْ فيه بيد الأعداء لَإِلَى اللَّهِ لا الى غيره إذ لا غير في الوجود تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الظل الى ذي الظل
فَبِما رَحْمَةٍ اى بسبب رحمة نازلة لك فائضة مِنَ اللَّهِ عليك يا أكمل(1/131)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
الرسل «2» لِنْتَ لَهُمْ اى للمؤمنين وواسيت معهم حين مخالفتهم عن اطاعتك واتباعك وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا سيء الخلق غَلِيظَ الْقَلْبِ اى قاسيه لَانْفَضُّوا تفتتوا وتفرقوا البتة مِنْ حَوْلِكَ وان آذوك أحيانا جهلا وغفلة فَاعْفُ عَنْهُمْ تلطفا وترحما على مقتضى نبوتك وَبعد ما عفوك اسْتَغْفِرْ لَهُمْ من الله ليغفر زلتهم لأنك مصلحهم ومدبرهم وبعد عفوك عما لك واستغفارك من الله لأجلهم صف خاطرك معهم وأخرجهم من الحجاب وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ اى في الرخص المتعلقة بترويج الدين والايمان بعد ما تركت المشورة معهم بسبب جريمتهم فَإِذا عَزَمْتَ فالعزيمة لك خاصة خالصة بلا مشورة الغير فَتَوَكَّلْ في عموم عزائمك عَلَى اللَّهِ المتكفل لعموم أمورك واتخذه وكيلا ولا تلتفت الى الغير مطلقا إِنَّ اللَّهَ الهادي لعباده يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ منهم المتخذين الله وكيلا المفوضين أمورهم كلها اليه.
وقل للمؤمنين يا أكمل الرسل امحاضا للنصح وايقاظا لهم عن رقدة الغفلة إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ المولى لأموركم بمقتضى لطفه وفضله وبسطته وعزته فَلا غالِبَ لَكُمْ اى لا احد يغلبكم ويعلو عليكم لكونكم حينئذ في حمى الله وفي كنف حفظه وجواره وحيطة حوله وقوته وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ حسب قهره وغضبه فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ اى بعد تعلق بطشه حسب قبضه وجلاله وَبالجملة عَلَى اللَّهِ المعز المذل القوى المتين فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في جميع أمورهم حتى خلصوا وأخلصوا نم لما نسب المنافقون الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما برأه الله ذيل عصمته عنه من الخيانة والغلول رد الله عليهم هذا الظن الفاسد في حقه صلّى الله عليه وسلّم في ضمن حكم كلى جملي شامل لعموم مراتب النبوة والرسالة مطلقا
فقال وَما كانَ اى ما صح وما جاز لِنَبِيٍّ من الأنبياء سيما خاتم النبوة صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يَغُلَّ ويخون ويحيف ويميل على احد من الناس وكيف لا يكون كذلك وَمَنْ يَغْلُلْ أحدا من الناس يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ اى يأت الغال مغلولة بما غل فيه على رؤس الاشهاد ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مطيعة او عاصية جزاء ما كَسَبَتْ اى يعطى جزاء ما كسبت وافيا وافرا وَهُمْ يومئذ لا يُظْلَمُونَ ولا ينقصون من أجورهم إذ لا ظلم فيها عدلا بل يزاد عليها تفضلا وامتنانا
أَفَمَنِ اتَّبَعَ انقاد وأطاع رِضْوانَ اللَّهِ ورضى بعموم ما قضى عليه وقدر له ورضى الله عنه لتحققه بمقام الرضى والتسليم كَمَنْ باءَ رجع وقصد بكفر وظلم مستلزم بِسَخَطٍ عظيم مِنَ اللَّهِ وَصار بسببه مَأْواهُ ومنقلبه جَهَنَّمُ البعد والخذلان ومصير الطرد والحرمان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصير اهل الكفر
__________
(2) نقل عن بعض الصحابة لقد احسن الله إلينا كل الإحسان كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام لكنه دعانا الى كلمة واحدة فلما قبلناها وعرفنا حلاوة لإيمان قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق الى ان تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة واعلم ان من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب فانه يعلم ان الحوادث الارضية مستندة الى الأسباب الإلهية فيعلم ان الحذر لا يدفع القدر فلا جرم إذا فاته المطلوب لم يغضب وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي اشرف من هذه الجسمانيات فلا ينازع أحدا في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها فيكون حسن الخلق طيب البشرة مع الخلق ولما كان صلّى الله عليه وسلّم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق وجب ان يكون أكمل الناس خلقا وذلك من فضل الله ورحمته على الناس كما قال «فبما رحمة من الله لنت لهم» الآية (نقل عن تفسير نيسابوري)(1/132)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
والطغيان والظلم والعدوان كلا وحاشا ليس هؤلاء الغواة مثل أولئك الهداة
بل هُمْ دَرَجاتٌ اى لأولئك المتابعين رضوان الله درجات عالية عظيمة عِنْدَ اللَّهِ حسب مراتبهم العالية وأعمالهم الصالحة وَبالجملة اللَّهِ المطلع لعموم احوال عباده بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ يجازيهم بمقتضى عملهم ان خيرا فخير وان شرا فشر
والله لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ المتفضل المنان منة عظيمة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ المخلصين وقت إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ لهدايتهم وإرشادهم رَسُولًا هاديا لهم ناشئا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأشياعهم يرشدهم ويهديهم الى طريق التوحيد بأنواع اللطف والكرم حيث يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ويسمعهم أولا آياتِهِ الدالة على وحدة ذاته وَيُزَكِّيهِمْ اى يطهرهم ثانيا عن وسوسة شياطين الأهواء المضلة عن الطريق المستبين وَيُعَلِّمُهُمُ ثالثا الْكِتابَ المبين لهم طريق تصفية الظاهر وما يتعلق بعالم الشهادة وَيكشف لهم رابعا الْحِكْمَةَ المصفية لبواطنهم عن الميل الى الغير والسوى الموصلة إياهم الى سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ اى قبل انكشافهم بالمراتب الاربعة العلية لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وخذلان عظيم. نبهنا بفضلك وجودك عن نومة الغافلين
ثم قال سبحانه تسلية للمؤمنين وحثا لهم على الجهاد أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يعنى أتيأسون وتقنطون من فضل الله عليكم ايها المؤمنون حين أصابتكم مصيبة يوم احد ولا تذكرون نصره عليكم يوم بدر إذ قَدْ أَصَبْتُمْ فيه مِثْلَيْها إذ قتلتم يومئذ سبعين وأسرتم سبعين حيث قُلْتُمْ من غاية يأسكم واسفكم أَنَّى هذا اى من اين حدث لنا هذه الحادثة الهائلة ونحن قد وعدنا النصر والظفر من عند ربنا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ وبعدم تثبتكم وتصبركم في مكانكم الذي قد عين لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باذن الله وبعدم وفائكم وثباتكم على العهد الذي عاهدتم معه صلّى الله عليه وسلّم او من أخذ الفدية التي أخذتم يوم بدر مع ان الاولى قتلهم واستئصالهم وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم مخايلكم عَلى كُلِّ شَيْءٍ من المصيبة والإصابة قَدِيرٌ
وَاعلموا ايها المؤمنون الموقنون بقدرة الله على عموم الانعام والانتقام ان ما أَصابَكُمْ ولحق بكم يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ اى وقت التقاء الصفين يوم احد فَبِإِذْنِ اللَّهِ المنتقم منكم بسبب تغييركم ما في ضميركم من نية التقرب بالميل الى زخرفة الدنيا واتباع الهوى وَانما ابتليكم الله بما ابتليكم لِيَعْلَمَ اى يميز ويفرق الْمُؤْمِنِينَ الذين ثبتوا على الايمان وتمكنوا مستقرين على شعائر الإسلام عن غيرهم
وَلِيَعْلَمَ ويفصل ايضا الَّذِينَ نافَقُوا اى أظهروا الوفاق وابطنوا الكفر والشقاق وَلذلك قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع اعداء الله حتى نستأصلهم أَوِ ادْفَعُوا ضررهم عنا قالُوا في الجواب بمقتضى ما في قلوبهم من النفاق لَوْ نَعْلَمُ مساواة بينكم وبينهم او نعلم كونهم على ضعفكم فنسميه قِتالًا فإذا لَاتَّبَعْناكُمْ فنقاتل معكم بل هم بأضعافكم وآلافكم عددا وعددا وبالجملة ما أنتم عليه انما هو إلقاء النفس في التهلكة لا المقاتلة والمدافعة فكيف نتبعكم وبالجملة هُمْ بسبب صدور هذا القول منهم لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ لمطابقة قولهم هذا بما في نفوسهم من الكفر وعدم مطابقته بايمانهم الذي هو مجرد القول إذ هم يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ حفظا لدمائهم وأموالهم تلبيسا وتغريرا ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ من القبول والإذعان وَاللَّهُ المطلع لما في ضمائرهم أَعْلَمُ منهم بِما يَكْتُمُونَ في قلوبهم من الكفر والنفاق يجازيهم بمقتضى(1/133)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
علمه
وبالجملة هم الَّذِينَ قالُوا من نهاية نفاقهم وشقاقهم لِإِخْوانِهِمْ اى في حق إخوانهم الذين خرجوا مع المؤمنين وقتلوا وَهم قد قَعَدُوا في مساكنهم متخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لَوْ أَطاعُونا هؤلاء المقتولون في القعود والتخلف ما قُتِلُوا كما لم نقتل معتقدين ان القعود سبب السلامة والنجاة والخروج سبب القتل ولم يعلموا ان للموت أسبابا كثيرة وللحياة ايضا أسبابا لا يدركها ولا يحيط بها الا هو وكم من قاعد قد مات او قتل من حيث لا يحتسب وكم من خارج قد نجا وان اقتحم الوغا والعلم عند الله قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام ان قدرتم على الدفع فَادْرَؤُا وادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ المقدر لكم من عند الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ايها المدعون الكاذبون وبعد ما بين سبحانه جرائم المؤمنين يوم احد وزلتهم ومتابعتهم للمنافقين في التخلف عن رسول الله والميل الى الغنيمة وترك المركز مع كونهم مأمورين على خلافها أراد ان ينبه عليهم سرائر الغزو والشهادة فيه وبذل المهج في سبيله فقال مخاطبا لرسوله على طريق الكف والنهى لنبيه ومن يقتدى له من المؤمنين لان أمثال هذه الخطابات والتنبيهات انما تليق لمن وصل الى ذروة مسالك التوحيد
وتحقق بنهاية مراتب التجريد والتفريد بقوله وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ باذلين مهجهم في طريق الفناء ليفوزوا بشرف البقاء أَمْواتاً معطلين عن الحس والحركة كالأموات الاخر بَلْ هم أَحْياءٌ ذووا أوصاف واسماء ازلية وابدية مقربين بها عِنْدَ رَبِّهِمْ الجامع لجميع الأوصاف والأسماء يُرْزَقُونَ بمقتضاها من عنده
فَرِحِينَ مسرورين بِما آتاهُمُ اللَّهُ عن موائد المعرفة والإحسان بسببها مِنْ فَضْلِهِ خالدين فيها ابدا وَمع تلك اللذة الكاملة والفرح المفرط يَسْتَبْشِرُونَ ويطلبون البشارة والشفاعة من لدنه سبحانه بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ من إخوانهم الذين بقوا مِنْ خَلْفِهِمْ في دار الدنيا التي هي منزل الخطر والعناء ومحل الخوف والفناء قائلين لهم منادين عليهم منبهين أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لو يلحقوا بنا وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لو خلصوا عن الدنيا ولوازمها
بل يَسْتَبْشِرُونَ دائما لأنفسهم ولإخوانهم بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ جزاء لما جاهدوا في سبيله وَفَضْلٍ عطاء منه سبحانه امتنانا عليهم من لطفه وَاعلموا ايها العاملون لرضا الله المجاهدون في سبيله أَنَّ اللَّهَ المجازى لعموم عباده لا يُضِيعُ سبحانه بمقتضى كرمه وجوده أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ المجتهدين الذين بذلوا جهدهم في محبة الله ومحبة رسوله
سيما الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ راجين الاجابة والقبول منهما حين دعاهم الله ورسوله الى المقاتلة مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ من العدو بلا مماطلة وتسويف بل رغبتهم على الكر أشد من المرة الاولى وذلك ان أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من المدينة فبلغوا روحاء ندموا وقصدوا الرجوع ليستأصلوهم فبلغ الخبر الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنصب أصحابه للخروج في طلبهم فقال لا يخرجن معنا اليوم الا من كان معنا أمس فخرج صلى الله عليه وسلّم مع جماعة من المؤمنين حتى بلغوا حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة وكان بأصحابه الفرح والسرور متلهفين متحسرين للشهادة متشوقين الى مرتبة إخوانهم الذين استشهدوا في سبيل الله فمر بهم معبد الخزاعي وكان يومئذ مشركا فقال يا محمد لقد عز علينا ما اصابك وأصحابك ثم خرج من بينهم فلقى أبا سفيان بالروحاء فقال له ابو سفيان ما ورائك يا معبد قال محمد قد خرج مع أصحابه يطلبونكم على تهور لم أر مثلهم أحدا يتحرقون عليكم تحرقا بحيث(1/134)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
لو لقيتم إياهم ما بقيتم قال له ابو سفيان ويلك ما تقول قال والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال فو الله لقد اجمعنا للكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال فانى والله لقد أنهاك عن ذلك فالقى الله في قلوبهم الرعب فرجعوا مستوحشين لذلك قال سبحانه في حق المؤمنين لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ببذل الروح في سبيل الله بالخروج مع رسول الله مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا عن مخالفة امر الله ورسوله أَجْرٌ عَظِيمٌ لا اجر أعظم منه الا وهو الفوز بالبقاء الأبدي السرمدي وهم من كمال ايمانهم
هم الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ المخبرون لهم ترحما وتحذيرا إِنَّ النَّاسَ يعنى أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ليكروا عليكم ويستأصلوكم فَاخْشَوْهُمْ حتى لا يلحقكم ضررهم ثانيا فَزادَهُمْ قول المخبرين الناصحين إِيماناً اطاعة وانقيادا وتسليما ورضا على حكم الله ورسوله وَقالُوا في جوابه من غاية تفويضهم وتسليمهم حَسْبُنَا اللَّهُ وكافينا يكفينا عنايته لنا في حياتنا ومماتنا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ هو سبحانه لعموم مصالحنا نفوض أمورنا كلها اليه ونعتصم به من سخطه وغضبه. ثم لما فوضوا أمورهم الى الله واعتصموا له واستنصروا منه وتوكلوا عليه قذف الله في قلوب أعدائهم الرعب فهربوا
فَانْقَلَبُوا يعنى هو صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من حمراء الأسد بِنِعْمَةٍ عظيمة فائضة مِنَ اللَّهِ وهي تصبرهم على ما أصابهم في إعلاء كلمة الحق وَفَضْلٍ زيادة عطاء تفضلا وامتنانا لتحققهم بمقام الرضا بعموم ما أصابهم من القضاء وذلك انهم لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أصلا بعد ما أصاب لهم يوم احد بل ما صاروا بعد ذلك إلا غالبين دائما على الأعداء وَما ذلك الا انهم قد اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ ورضا رسول الله بلا ميل منهم الى مقتضيات نفوسهم وَبالجملة اللَّهِ المجازى لعموم عباده ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ولطف جسيم على من هو من اهل الرضا والتسليم
واعلموا ايها المؤمنون المفوضون المسلمون إِنَّما ذلِكُمُ المخبرون المخوفون لكم هم الشَّيْطانُ واتباعه إذ ما يُخَوِّفُ الشيطان من الأعداء الا أَوْلِياءَهُ وهم المنافقون فَلا تَخافُوهُمْ أنتم ايها المؤمنون إذ الله معكم يحفظكم عما يضركم وَخافُونِ من اطاعة الشيطان ومتابعته حتى لا يلحقكم غضى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بقدرتي على عموم الانعام والانتقام
وَبالجملة لا يَحْزُنْكَ يا أكمل الرسل ضرر الَّذِينَ يُسارِعُونَ ويوقعون أنفسهم فِي الْكُفْرِ سريعا من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم إِنَّهُمْ بسبب كفرهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بل ضرر كفرهم انما يعود إليهم ويلحق بهم إذ يُرِيدُ اللَّهُ المقدر لكفرهم أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ لذلك وفقهم على الكفر وَهيأ لَهُمْ فيها عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب الطرد والخذلان والحسرة والحرمان جزاء لكفرهم ونفاقهم
ثم برهن عليه سبحانه بقوله إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا واستبدلوا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ من شدة نفاقهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ الغنى بذاته شَيْئاً بهذا الاستبدال والاختيار بل وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم في الدنيا بالقتل والسبي والاجلاء وفي الآخرة بالحرمان عن رتبة الإنسان
وَبالجملة لا يَحْسَبَنَّ يا أكمل الرسل الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ اى امهالنا إياهم في النشأة الاولى خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ولهم فيه نفع وفائدة بل إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً موجبا للعذاب وَلَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ مُهِينٌ مذل مخز جزاء لاستكبارهم وعتوهم في الدنيا.
ثم لما اختلط المنافقون مع المؤمنين وتشاركوا معهم في اظهار الايمان والقول به على طرف(1/135)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
اللسان بلا اعتقاد منهم واخلاص أراد سبحانه ان يبين المؤمن ويميزه من المنافق والمخلص من المرائى فقال ما كانَ اللَّهُ المطلع لضمائر عباده لِيَذَرَ ويترك الْمُؤْمِنِينَ المخلصين عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الالتباس والمشاركة مع اهل الكفر والنفاق بحسب الظاهر بل يختبر ويمتحن إخلاصكم بأنواع البليات والمصيبات حَتَّى يَمِيزَ ويفصل الْخَبِيثَ المنافق المصر على النفاق مِنَ الطَّيِّبِ المؤمن الموقن بتوحيد الله الراضي بما جرى عليه من قضائه وَبعد تمييزه وفصله سبحانه ما كانَ اللَّهُ المطلع على عموم الغيوب لِيُطْلِعَكُمْ بأجمعكم عَلَى الْغَيْبِ الذي من جملة ما في ضمائر عباده من الوفاق والنفاق وَلكِنَّ اللَّهَ المحيط بعموم القابليات يَجْتَبِي ويختار مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ بان يوحى اليه ويلهمه التمييز بين استعدات عباده للايمان والكفر وإذا كان عموم الأمر عند الله العزيز العليم فَآمِنُوا ايها المؤمنون المخلصون بِاللَّهِ المميز لاستعداداتكم اصالة وَرُسُلِهِ الملهمين بالتمييز تبعا وَإِنْ تُؤْمِنُوا وتحافظوا على شعائر الايمان بعد ما آمنتم وَتَتَّقُوا عن الميل والمخالفة فَلَكُمْ عند الله الميسر لكم أَجْرٌ عَظِيمٌ هو ايصالكم الى التحقق بمقام العبودية والتوحيد إذ لا اجر أعظم منه
وَمن جملة الأمور التي يجب الاتقاء والتحرز عنه البخل لا يَحْسَبَنَّ البخلاء الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ المنعم المفضل إياه مِنْ فَضْلِهِ اختيارا لهم تدخيرا وتوريثا لأولادهم هُوَ خَيْراً لَهُمْ اى البخل ينفعهم عند الله ويثيبهم لأجله او يدفع عنهم العذاب بسببه بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ يستجلب انواع العذاب عليهم وكيف لا يجلب سَيُطَوَّقُونَ اى يسلسلون ويغلون ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ويسحبون بتلك السلسلة والغل على وجوههم الى نار البعد والحرمان جزاء لبخلهم الذي كانوا عليه وَبالجملة لِلَّهِ لا لغيره من الأسباب والوسائل مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى حيازة جميع ما في عالم الأرواح وعالم الأشباح تملكا وتصرفا بحيث لا ينازع في ملكه ولا يشارك في سلطانه بل له الحكم والشان واليه رجوع عموم ما يكون وكان وَاللَّهُ المتوحد المتفرد في ملكه وملكوته بِما تَعْمَلُونَ من التصرفات المجازية خَبِيرٌ لا يغيب عن خبرته شيء من أفعالكم وأقوالكم
كما اخبر سبحانه عن علمه بقول اليهود بقوله لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ السميع العليم قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا استهزاء ومراء حين نزل الآية الكريمة من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ قد استقرض منا وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وبعد ما سمع منهم سبحانه ما سمع قال على سبيل التهديد والتوعيد سَنَكْتُبُ ما قالُوا اى قولهم هذا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ فيما مضى في صحائف أعمالهم في نظم واحد ونجازيهم يوم الجزاء حسب ما كتبنا وَنَقُولُ لهم وقت جزائنا إياهم ذُوقُوا ايها المسيئون المفرطون في اساءة الأدب مع الله ورسله عَذابَ الْحَرِيقِ المحرق غاية الإحراق حيث يدرك ويذوق احراقنا اجسامكم وجميع قواكم ونقول لكم حينئذ لا تنسبونا في هذا التعذيب والإحراق الى الظلم والعدوان
إذ حلول ذلِكَ العذاب عليكم انما هو بِما قَدَّمَتْ واكتسبت أَيْدِيكُمْ من المعاصي العظيمة والجرائم الكبيرة التي من جملتها قولكم هذا وقتلكم الأنبياء فيما مضى واهتمامكم بقتل آخر الأنبياء عليه السّلام وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور لَيْسَ بِظَلَّامٍ اى ذي ظلم وعدوان لِلْعَبِيدِ الذين ظلموا في دار الدنيا بل يجازيهم وينتقم عنهم بمقتضى ظلمهم وطغيانهم بلا زيادة ونقصان عدلا منه سبحانه ومن جملة المعذبين ايضا بهذا العذاب المهين
الَّذِينَ قالُوا افتراء(1/136)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
على الله في تعليل عدم ايمانهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا في التورية وأوصانا أَلَّا نُؤْمِنَ ولا نقر لِرَسُولٍ اى لكل رسول يدعى الرسالة من عنده سبحانه ويظهر المعجزة وفق دعواه حَتَّى يَأْتِيَنا في أظهرنا وبين أيدينا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ وتحيله النَّارُ النازلة من جانب السماء وذلك لأنهم ادعوا ان أنبياء بنى إسرائيل يتقربون الى الله بقربان فيتقدم النبي يدعو والناس حوله فينزل نار من جانب السماء فتحيل القربان الى طبعها فجأة وقد كان هذه علامة قبول الله قرابينهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ اى المعجزات الواضحة الدالة على رسالتهم وَخصوصا بِالَّذِي قُلْتُمْ وادعيتم فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ مع إتيانهم بعموم ما اقترحتم منهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ان ايمانكم موقوف على هذه المعجزة
وإذا كان أمرهم هذا وشانهم هكذا فَإِنْ كَذَّبُوكَ وأنكروا عليك يا أكمل الرسل لا تبال بتكذيبهم وانكارهم فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ذووا معجزات كثيرة وآيات كبيرة ومع انهم انما جاؤُ على من أرسل إليهم بِالْبَيِّناتِ الواضحة الموضحة وَالزُّبُرِ اى الصحف المشتملة على الاحكام فقط وَالْكِتابِ الجامع للحكم والاحكام والعبر والمواعظ والرموز والإشارات الْمُنِيرِ على عموم من استنار منه واسترشد ومع ذلك قد أنكروا عليه واستكبروا فمضوا هم ومن أنكر عليهم واستكبر
إذ كُلُّ نَفْسٍ خيرة كانت او شريرة ذائِقَةُ كأس الْمَوْتِ عند حلول الأجل المقدر له من لدنا وَبالجملة إِنَّما تُوَفَّوْنَ وتعطون أُجُورَكُمْ اى جزاء أعمالكم خيرا كان او شرا يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للجزاء والوفاء فَمَنْ زُحْزِحَ وبعد بصالح اعماله عَنِ النَّارِ المعدة للفجرة والأشقياء وَأُدْخِلَ بسببها الْجَنَّةَ التي أعدت للصلحاء والسعداء فَقَدْ فازَ فوزا عظيما ومن لم بزحزح عن النار ولم يبعد عنها بل ادخل فيها لفساد عمله فقد خسر خسرانا مبينا وَبالجملة اعلموا ايها المكلفون بالإيمان والأعمال الصالحة المتفرعة عليه مَا الْحَياةُ الدُّنْيا التي أنتم تعيشون بها فيها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ بمزخرفاتها يغركم بلذاتها الفانية الغير القارة عن النعيم الدائم واللذة المستمرة وأنتم ايها المغرورون بمزخرفاتها الدنية لا يتنبهون.
والله ايها المؤمنون لَتُبْلَوُنَّ ولتختبرن فِي إتلاف أَمْوالِكُمْ التي هي حطام دنياكم وَايضا باماتة أَنْفُسِكُمْ وأولادكم التي هي الهالكة المستهلكة في حدود ذواتها وَلَتَسْمَعُنَّ اخبارا ووقائع مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ من اليهود والنصارى وَايضا مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ممن لا كتاب لهم ولا نبي أَذىً كَثِيراً يؤذيكم سماعها فكيف ادراكها كل ذلك لتوطنوا انفسكم على مقتضيات التوحيد وتمكنوها في مقام الرضا والتسليم كي تستقروا في مقام العبودية مطمئنين بلا تزلزل وتلوين وَإِنْ تَصْبِرُوا ايها الموحدون بأمثالها وَتَتَّقُوا عن الإضرار بها والشكوى عنها فَإِنَّ ذلِكَ اى صبركم وتقويكم هذا مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ اى من الأمور التي قد عزم عليها عموم ارباب المحبة والولاء المستكشفين عن غوامض اسرار التوحيد فعليكم ان تواظبوا عليها ان كنتم راسخين في طلب اليقين. ثبتنا بلطفك على منهج الاستقامة واعذنا من موجبات الندامة يوم القيمة
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن يؤذيك من اهل الكتاب وقت إِذْ أَخَذَ اللَّهُ المرسل للرسل المنزل للكتب مِيثاقَ اى العهد الوثيق على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اخبار اليهود والنصارى لَتُبَيِّنُنَّهُ اى الكتاب صريحا واضحا بلا تبديل(1/137)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
ولا تغيير لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ شيأ مما فيه من القصص والعبر والرموز والإشارات سيما من أوصاف النبي الموعود صلّى الله عليه وسلّم فَنَبَذُوهُ بعد عهدهم وميثاقهم المعهود وَراءَ ظُهُورِهِمْ وان كان الواجب عليهم الحفظ والوفاء وَاشْتَرَوْا بِهِ اى اختاروا بدله ثَمَناً قَلِيلًا من الرشى من مترفيهم ومستكبريهم حفظا لرئاستهم وجاههم فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ويختارون بدل ما يكتمون سيما أوصاف محمد صلّى الله عليه وسلّم
وبالجملة لا تَحْسَبَنَّ ايها الكامل في امر الرسالة المنافقين الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا من الخداع والنفاق مع المؤمنين واظهارهم الايمان على طرف اللسان وَهم في أنفسهم يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا عند إخوانهم بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الإخلاص مع المؤمنين وهم وان خلصوا عن أيدي المؤمنين ظاهرا بخداعهم وتغريرهم هذا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ يا أكمل الرسل بِمَفازَةٍ مخلص ومنجاة مِنَ الْعَذابِ المخلد المعد لهم في يوم الجزاء بل وَلَهُمْ فيه عَذابٌ أَلِيمٌ سيما عند رؤيتهم المؤمنين المخلصين في النعيم المقيم واللذة المستمرة وَان اغتر أولئك المغرورون بامهال الله إياهم في النشأة الاولى وما علموا انهم لا يمهلون في النشأة الاخرى
إذ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ اى عالم الأرواح وَالْأَرْضِ اى عالم الطبيعة والأشباح. وله التصرف فيهما كيف يشاء متى يشاء بالإرادة والاختيار بطشا وامهالا ثوابا وعذابا وَبالجملة اللَّهُ المتعزز المتفرد في ملكه وملكوته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الانعام والانتقام قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور.
ثم قال سبحانه ايقاظا للمسترشد الخبير وتنبيها للمستبصر البصير إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ اى الأوصاف والأسماء الفياضة الفعالة وَالْأَرْضِ اى الطبيعة القابلة لقبول الفيض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ اى آثار القبض والجلال وَالنَّهارِ اى آثار البسط والجمال لَآياتٍ دلائل وعلامات على رقائق المناسبات ودقائق الارتباطات الواقعة بين الأسماء والصفات المستدعية لظهور التجليات الظاهرة في الأنفس والآفاق حسب القوابل والمظاهر لِأُولِي الْأَلْبابِ الواصلين الى لب التوحيد المعرضين عن قشوره بالمرة.
الا وهم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ المتوحد في ذاته في جميع حالاتهم سواء كانوا قِياماً اى قائمين وَقُعُوداً اى قاعدين وَعَلى جُنُوبِهِمْ مضطجعين متكئين وَبالجملة هم في عموم شئونهم وحالاتهم يَتَفَكَّرُونَ دائما فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الى ان سكروا وترقى أمرهم في السكر الى ان يتحيروا وبعد تحيرهم استغرقوا وبعد استغراقهم تاهوا وهاموا وبعد ذلك فنوا في الله ثم فنوا ثم فنوا وانقطع سيرهم فمنهم من تمكن في تلك المرتبة العلية واستقر عليها وبقي في قباب عز الوحدة متعززا متفردا ومنهم من صحا عن سكره ورجع الى بدئه مستكملا قائلا رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا المحسوس المشاهد باطِلًا بلا طائل سُبْحانَكَ نقدسك وننزهك يا ربنا عن مدركات عقولنا وحواسنا فَقِنا واحفظنا بلطفك عَذابَ النَّارِ الذي قد أحاط بنا بسبب غفلتنا عن مطالعة وجهك الكريم
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ اى جعلته في مضيق الإمكان من المحبوسين المسجونين المعذبين المطرودين فظلموا أنفسهم بالتفاتهم نحو الغير وَبالجملة ما لِلظَّالِمِينَ المستقرين نفوسهم في ظلمة الإمكان بأنواع الخزي والخذلان مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم ويخرجونهم منها سوى المؤيدين من عندك من الأنبياء والأولياء المأمورين من لدنك بهداية المضلين
رَبَّنا بعد ما وفقتنا بإرسال رسلك إلينا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً مشفقا هاديا مرشدا إذ هو يُنادِي ويرشد لِلْإِيمانِ بتوحيدك قائلا(1/138)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
مخاطبا إيانا أَنْ آمِنُوا عباد الله وتوجهوا ايها التائهون في تيه العدم الذي هو عبارة عن مضيق الإمكان بِرَبِّكُمْ الذي رباكم سور وجوب الوجود وبعد ما سمعنا نداءه فَآمَنَّا به وامتثلنا امره وصدقنا قوله يا رَبَّنا فحققنا بإرشاده واشفاقه في مرتبة اليقين العلمي بوحدة ذاتك وبعد تحققنا فيها بإعانتك وتوفيقك فَاغْفِرْ واستر لَنا ذُنُوبَنا اى انانيتنا وهويتنا التي قد صرنا بها محرومين عن ساحة عز حضورك حتى نتحقق ونصل بفضلك ولطفك الى مرتبة اليقين العيني ونكاشف بمعاينة ذاتك ونتشرف بمطالعة وجهك الكريم وَبعد ما تحققنا فيها كَفِّرْ وطهر عَنَّا سَيِّئاتِنا اى عموم اوصافنا التي تشعر بالاثنينية بالكلية حتى نتحقق حسب فضلك وجودك في مرتبة اليقين الحقي وَبالجملة تَوَفَّنا في فضاء الفناء مَعَ الْأَبْرارِ الفانين في ذاتك الباقين ببقائك
رَبَّنا ثبتنا في مقام عبوديتك وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى لسان رُسُلِكَ من الكشوف والشهود وسائر ما جاءوا به وأخبروا عنه وَلا تُخْزِنا ولا تحرمنا يَوْمَ الْقِيامَةِ حين لقيناك عما وعدتنا من شرف لقائك إِنَّكَ بمقتضى لطفك وجودك على عبادك لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ الذي قد وعدته إياهم من سعة رحمتك وجودك.
ثم لما تضرعوا الى الله والتجئوا نحوه نادمين عما هم عليه من مقتضيات بشريتهم فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ واستقبل عليهم بالاجابة والقبول قائلا أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مخلص مِنْكُمْ سواء كان مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى إذ بَعْضُكُمْ ناش مِنْ بَعْضٍ ذكركم من انثاكم وانثاكم من ذكركم وكلكم مشتركون في مرتبة الانسانية وفي المظهرية الجامعة اللائقة للخلافة والنيابة وبالجملة فَالَّذِينَ هاجَرُوا منكم من دار الغرور طالبين الوصول الى دار السرور وَأُخْرِجُوا بسبب هذا الميل مِنْ دِيارِهِمْ المألوفة التي هي بقعة الإمكان وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي بواسطة قطع التعلقات البشرية وترك المألوفات الطبيعية وَقاتَلُوا مع القوى الحيوانية وَقُتِلُوا في الجهاد الأكبر مع جنود الامارة لَأُكَفِّرَنَّ اى لأمحون واطهرن عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي هي ذواتهم الباطلة العاطلة الهالكة المستهلكة في حدود ذواتها وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ ملاحظات ومكاشفات ومشاهدات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ دائما مملوة بمياه المعارف والحقائق المتجددة بتجدد الأمثال يثابون فيها دائما مستمرا ثَواباً نازلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تفضلا عليهم وامتنانا وَبالجملة اللَّهِ الجامع لشتات العباد عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ وخير المنقلب والمآب
لا يَغُرَّنَّكَ يا أكمل الرسل تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا انتقالهم وترحالهم فِي الْبِلادِ لاستجلاب المنافع والمتاجر
إذ هو مَتاعٌ قَلِيلٌ ولذة يسيرة في مدة قصيرة ثُمَّ اى بعد انقضاء النشأة الاولى مَأْواهُمْ ومنقلبهم جَهَنَّمُ البعد والخذلان خالدين فيها ابد الآباد وَبالجملة بِئْسَ الْمِهادُ مضيق الإمكان المستلزم لانواع الحرمان والخذلان
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ وحذروا عن الاشتغال بزخرفة الدنيا وأمتعتها منيبين اليه متوجهين نحوه لَهُمْ عنده سبحانه جَنَّاتٌ متنزهات محتوية بأنواع اللذات الروحانية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مملوة من العلوم البدنية خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حين وصلوا اليه واتصلوا به سبحانه وَاعلموا ايها المؤمنون الموحدون المحمديون ما عِنْدَ اللَّهِ من اللذات الدائمة والمثوبات المستمرة خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ المتوجهين الى دار القرار
ثم قال سبحانه وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ المنزل للكتب على الرسل المرسل للرسل(1/139)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
وَلا يفرق ولا يميز بين الكتب والرسل أصلا بل يؤمن لجميع ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن والرسول الذي هو محمد عليه السّلام وَكذا ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التورية والإنجيل المنزلين على موسى وعيسى عليهما السّلام وكذا سائر الكتب والصحف المنزلة من عنده سبحانه على الرسل الماضين لتحققهم في مقام العبودية والتوحيد وهم في هذا الايمان والإذعان خاشِعِينَ خاضعين لِلَّهِ مخلصين له. وعلامة خشوعهم وخضوعهم انهم لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بتبديلها وتحريفها ثَمَناً قَلِيلًا من الرشى مثل أحبار اليهود ومتفقهة هذه الامة في هذا العصر خذلهم الله وهم الذين يحتالون في احكام الشريعة المصطفوية بمقتضى أحلامهم السخيفة وآراءهم الباطلة ويأخذون الرشى لأجل حيلتهم هذه ويسمونها حيلة شرعية مع ان الشرع الشريف انما وضع لرفض المكر والحيلة كأنه قد ظهر ما قال صلّى الله عليه وسلّم الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ أُولئِكَ السعداء الأمناء المخلصون الخاشعون الخاضعون لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يوفيهم عليهم أجورهم يوم الجزاء من حيث لا يحتسبون ولا يستحقون بها بأعمالهم إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائرهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب أعمالهم ويجازيهم عليها سريعا بل يزيد عليهم تفضلا وامتنانا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق مقتضى ايمانكم الصبر على متاعب مسالك التوحيد اصْبِرُوا على مشاق التكليفات الواقعة في طريقه وَصابِرُوا اى غالبوا على جنود القوى النفسانية العائقة عن الرياضات القالعة للاهوية الفاسدة وَرابِطُوا قلوبكم الى المشاهدات والمكاشفات الواردة من النسمات الإلهية والنفسات الرحمانية المهبة من قبل يمن عالم اللاهوت حسب جود حضرة الرحموت وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ عن جميع ما يعوقكم ويشغلكم عن التوجه نحوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون منه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ربنا افرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين واحشرنا مع الصابرين المرابطين وهب لنا من لدنك رحمة انك ارحم الراحمين
خاتمة سورة آل عمران
عليك ايها الموحد المحمدي المترصد لفيضان الكشف واليقين ونزول الاطمئنان والتمكين ان تتصبر على عموم ما جرى عليك من المصيبات والبليات المشعرة للاختبارات الإلهية وابتلاءاته عن رسوخ قدمك في جادة التوحيد وصدق عزيمتك في مسلك الفناء وعلو همتك للتحقق بدار البقاء وتربط قلبك بحقك الذي هو أصلك وحقيقتك مقبلا عليه متوجها اليه مجتنبا عن جميع ما يعوقك عنه من لوازم ماهيتك ولواحق هويتك التي لا حقيقة لها عند التحقيق ولا قرار على ما يترتب عليها وعلى لوازمها إذ هي أعراض متبدلة بل اظلال باطلة واعدام صرفة زائلة عاطلة لا تحقق لها ولآثارها أصلا سوى ان الوجود الحقيقي قد انبسط عليها وأمد إليها بجميع كمالاته فانعكس منه ما انعكس فيتراءى العكوس والاظلال متشعشعة متجددة دائما بمقتضى تجدد تجليات الأوصاف والأسماء الى حيث قد ظن المحجوب الفاقد بصر البصيرة وعين الشهود انها متأصلات في الوجود بل ما هي عند التحقيق إلا تجل واحد منفرد مستمر ازلا وابدا على هذا المنوال. ذقنا بلطفك حلاوة معرفتك وتوحيدك يا أكرم الأكرمين فلك ان تصفى ضميرك عن عموم ما يؤدى الى التقليد والتخمين وتفرغ خاطرك عن جميع ما يوهم التعدد والكثرة حتى انشرح صدرك واتسع قلبك(1/140)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
واستعد لان يصير منزلا لسلطان الوجود الذي هو منبع عموم الكمالات والجود وقبلة الواجد والموجود الا وهو الحوض المورود والمقام المحمود وإياك إياك ان تقتفى اثر وساوس مقتضيات نفسك التي هي أعدى عدوك وأشد ما يغويك ويضلك بل جميع شياطينك انما انتشأت منها واستتبعت عليها فعليك ان تلتجئ في الاجتناب عن غوائلها بالمرشد الرشيد الكافل الكامل الذي هو القرآن المجيد المنزل من عند الله على خير الأنام المؤيد من لدن عليم علام ليهدى الضالين المضلين عن جادة التوحيد. بمتابعة الشيطان المريد. ويوصلهم الى صفاء التجريد. وزلال التفريد.
بتوفيق من الله وجذب من جانبه. وفقنا بلطفك وكرمك بما تحب وترضى عنا يا مولانا
[سورة النساء]
فاتحة سورة النساء
لا يخفى على الموحدين المتأملين في كيفية انبساط الوحدة الذاتية على صفائح الأعيان الممكنة الفانية للحصر والإحصاء ان للحق جل جلاله وعم نواله حسب وحدته الذاتية ظهورا في كل ذرة من ذرائر الكائنات ليظهر منها آثار أوصافه وأسمائه الكامنة في غيب هويته حسب استعداداتها وقابلياتها والمظهر الكامل الجامع الذي يلوح منه عموم آثار الأسماء والصفات الإلهية على التفصيل ليس الا الإنسان الكامل لذلك قد خلقه سبحانه على صورته واستخلفه من بين بريته وكرمه على جميع خليقته ورزقه من طيبات معارفه وحقائقه والتفت بذاته نحو تخميره ورباه بإرسال رسله وإنزال كتبه ليظهر منه جميع ما أودعه فيه من الكمالات المترتبة على أسمائه الحسنى وصفاته العليا حتى يتمكن في مرتبة الخلافة والنيابة مطمئنا ويتقرر على مقر التوحيد متمكنا لذلك ناداهم امتنانا عليهم ليقبلوا اليه وأوصاهم بالتقوى ليتخذوه وقاية وكفيلا وقائدا ودليلا فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على من استخلفه بجميع كمالاته إظهارا لقدرته الرَّحْمنِ عليه بنشر ذريته وتوريث مرتبته الرَّحِيمِ عليه بهدايته الى مبدأه ومعاده حسب نشأته
[الآيات]
يا أَيُّهَا النَّاسُ الذين نسوا الموطن الأصلي والمنزل الحقيقي بزخرفة الدنيا المانعة من الوصول اليه عليكم الاتقاء من غوائلها والاجتناب عن مخايلها حتى لا تنحطوا عن مرتبتكم الاصلية ومكانتكم الحقيقية اتَّقُوا واحذروا عن تغريرات الدنيا الدنية والتجؤا رَبَّكُمُ الَّذِي رباكم بحسن التربية حيث خَلَقَكُمْ وأظهركم أولا مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ التي هي عبارة عن المرتبة الفعالة المحيطة بجميع المراتب الكونية والكيانية إلا وهي المرتبة الجامعة المحمدية المسماة بالعقل الكل والقلم الأعلى تكميلا لبواطنكم وغيبكم وَخَلَقَ مِنْها
بالنكاح المعنوي والزواج الحقيقي الواقع بين الأوصاف والأسماء الإلهية حسب المناسبات الرقيقة والإضافات الدقيقة زَوْجَها التي هي النفس الكلية القابلة لفيضان عموم الآثار الصادرة من المبدأ المختار تتميما لظواهركم وشهادتكم حتى تستحقوا الخلافة والنيابة بحسب الظاهر والباطن وَبعد ما خلقهما كذلك قد بَثَّ اى بسط ونشر مِنْهُما بذلك النكاح المذكور رِجالًا كَثِيراً فواعل مفيضات مؤثرات وَنِساءً قوابل مستفيضات متأثرات أزواجا كل لنظيرتها حسب رقائق المناسبات الواقعة بين التجليات الحبية الإلهية على الوجه الذي بينتها الكتب والرسل. ثم لما كان الرب من الأسماء التي تتفاوت بتفاوت المربوب صرح بالالوهية المستجمعة لجميع الأوصاف والأسماء بلا تفاوت تأكيدا ومبالغة لأمر التقوى فقال وَاتَّقُوا اللَّهَ اى احذروا عن عموم ما يشغلكم عنه سبحانه مع قربه إليكم من حبل(1/141)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
وريدكم إذ هو الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ اى تتساءلون وتتنافسون أنتم بحوله وقوته وتتوهمون بعده من غاية قربه وَاحفظوا الْأَرْحامَ المنبئة عن النكاح المعنوي والزواج الحبى على الوجه الذي ذكر إِنَّ اللَّهَ المحيط بكم وبأحوالكم واطواركم قد كانَ عَلَيْكُمْ دائما رَقِيباً حفيظا يحفظكم عما لا يعنيكم ان اخلصتم التوجه نحوه ومن جملة الأمور التي يجب المحافظة عليها ايها المأمورون بالتقوى حقوق اليتامى فعليكم ايها الأولياء والأوصياء ان تحرزوا مال اليتيم حين موت أبيه أوجده وتزيدوه بالمرابحة والمعاملة وتصرفوا منه لحوائجه بقدر الكفاف
وَبعد البلوغ آتُوا الْيَتامى قبل البلوغ إذ لا يتم بعد البلوغ أَمْوالَهُمْ المحفوظة الموروثة لهم من آبائهم وَعليكم ان لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ الردى من أموالكم بِالطَّيِّبِ الجيد من أموالهم وَايضا ان أردتم التصرف في أموالهم مقدار معاشهم ان لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ اى مع أموالكم مختلطتين إِنَّهُ اى التصرف في أموالهم بلا رعاية المصلحة كانَ حُوباً كَبِيراً اى إثما عظيما مسقطا للمروءة بالمرة
وَإِنْ خِفْتُمْ ايها الأولياء والأوصياء أَلَّا تُقْسِطُوا ولا تعدلوا فِي حفظ أعراض الْيَتامى النساء اللاتي لهن مال وجمال فَانْكِحُوا لدفع هذه الدغدغة ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ البالغات مقدار ما يسكن ميلكم وشهوتكم إليهن مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ اى اثنين اثنين وثلثة ثلثة واربعة اربعة حسب تفاوت ميولكم وشهواتكم ان حفظتم العدالة بينهن فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين المتعددة منهن فَواحِدَةً اى فلكم ان تنكحوا الواحدة منهن لتأمنوا من الفتنة سواء كانت من الحرائر أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الإماء. ثم لما لم يكن في الإسلام رهبانية لان الحكمة تقتضي عدمها كما أشار اليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله لا رهبانية في الإسلام نبه سبحانه على اقل مرتبة الزواج الصوري المنبئ عن النكاح المعنوي والارتباط الحقيقي بقوله ذلِكَ اى نكاح الواحدة والقناعة بالإماء أَدْنى مرتبة الزواج على الذين يخافون أَلَّا تَعُولُوا اى من كثرة العيال
وَان أردتم النكاح ايها المسلمون آتُوا النِّساءَ الحرائر او الإماء لغيركم صَدُقاتِهِنَّ اى مهورهن نِحْلَةً بتة مؤبدا بلا حيلة وخديعة وعينوها لهن بل سلموها إليهن بلا مطل وتسويف فَإِنْ طِبْنَ وهبن لَكُمْ لإفراط المحبة عَنْ شَيْءٍ كل او بعض مِنْهُ اى من المهر نَفْساً رغبة ورضا لا كرها واستحياء فَكُلُوهُ اى الشيء الموهوب لكم من المهر هَنِيئاً حلالا مَرِيئاً طيبا تقويما لمزاجكم لإقامة القسط والعدل الذي هو من جملة حدود الله المتعلقة بالتقوى
وَمن جملة الحدود المتعلقة بالتقوى ايضا ان لا تُؤْتُوا ايها الأولياء السُّفَهاءَ سواء كانوا من أصلابكم او ما ينتمى إليكم وهم الذين قد خرجوا عن طور العقل ومرتبة التدبير والتكليف أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ المدبر لأموركم ملكا لَكُمْ ايها العقلاء المكلفون قِياماً اى سببا لقيامكم على الطاعة والعبادة وتقويما لأمزجتكم على تحمل التكاليف الإلهية وَلكن ارْزُقُوهُمْ فِيها اى اجعلوا طعامهم وسائر حوائجهم في مدة اعمارهم في ربحها ونمائها وَاكْسُوهُمْ ايضا منها وَان كان منهم من له ادنى شعور بأمر الاضافة والتمليك ولكن لا ينتهى الى التدبير والتصرف المشروع قُولُوا لَهُمْ اى لهؤلاء المنحطين من زمرة العقلاء قَوْلًا مَعْرُوفاً مستحسنا عقلا وشرعا وأضيفوا أموالهم إليهم عندهم لئلا ينكسر قلوبهم
وَايضا من جملة الأمور التي قد وجب عليكم حفظها ابتلاء رشد اليتامى قبل أداء أموالهم إليهم ابْتَلُوا اختبروا وجربوا(1/142)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
ايها الأولياء عقول الْيَتامى وتدابيرهم في التصرفات الجارية بين ارباب المعاملات حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ اى السن المعتبر في باب النكاح وهو خمسة عشر عند الشافعى رحمه الله وثمانية عشر عند ابى حنيفة رحمه الله فَإِنْ آنَسْتُمْ اشعرتم وأحسستم مِنْهُمْ رُشْداً وتدبيرا كافيا وافيا للتصرفات الشرعية فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ على الوجه المذكور بلا مماطلة وتأخير وان لم تؤنسوا الرشد المعتبر منهم لا تدفعوها بل احفظوها الى إيناس الرشد منهم لكن وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً مسرفين في اجرة المحافظة وَبِداراً مبادرين في أكلها خوف أَنْ يَكْبَرُوا ويخرجوها من أيديكم وَمَنْ كانَ منكم ايها الأولياء غَنِيًّا ذا يسر فَلْيَسْتَعْفِفْ من أكلها. والتعفف منها خير له في الدنيا والآخرة وَمَنْ كانَ منكم فَقِيراً ذا عسر فَلْيَأْكُلْ منها بِالْمَعْرُوفِ المستحسن شرعا لا ناقصا من اجرة حفظه ولا زائدا عليها حفظا للغبطتين فَإِذا دَفَعْتُمْ ايها الأولياء بعد ما آنستم الرشد المعتبر منهم إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا اى احضروا ذوى عدل من المسلمين عَلَيْهِمْ ليشهدوا فيما جرى بينكم وبينهم وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً اى كفا الله حسيبا فيما جرى بينكم وبينهم في مدة المحافظة يحاسبكم ويجازيكم على مقتضى حسابه. ومن خطر هذه التصرفات قد كان ارباب الولاء من المشايخ قدس الله أسرارهم يمنعون اصحاب الارادة عن أمثالها لان البشر قلما يخلو عن الخطر سيما في أمثال هذه المزالق. ثبت أقدامنا على جادة توحيدك وجنبنا عن الخطر والتزلزل فيها بمنك وجودك.
ثم لما امر سبحانه أولا عباده بالتقوى على وجه المبالغة والتأكيد وقرن عليها حفظ الأرحام ومراعاة الأيتام ومواساة السفهاء المنحطين عن درجة العقلاء أراد ان يبين احوال المواريث والمتوارثين مطلقا حتى لا يقع التظالم والتغالب فيها كما في الجاهلية الاولى إذ روى انهم لا يورثون النساء معللين بان هن لا يحضرن الوغا ولا يدفعن العدو رد الله عليهم هذا وعين لكل واحد من الفريقين نصيبا مفروزا مفروضا فقال لِلرِّجالِ سواء كانوا بالغين أم لا عقلاء أم سفهاء نَصِيبٌ سهمهم مفروض مقدر مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ المتروك مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً مقدرا في كتاب الله كما سيجيء بيانه وتعيينه عن قريب
وَمن جملة الأمور المستحسنة المترتبة على التقوى تصدق الوارثين من المتروك إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ اى وقتها أُولُوا الْقُرْبى المقلين المحجوبين عن الإرث وَالْيَتامى الذين لا مال ولا متعهد لهم وَالْمَساكِينُ الفاقدون وجه المعاش فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ فأعطوهم ايها الوارثون من المقسم المتروك مقدار ما لا يؤدى الى حرمان الورثة وَقُولُوا لَهُمْ حين الإعطاء قَوْلًا مَعْرُوفاً خاليا عن وصمة المن والأذى
وَلْيَخْشَ من حلول غضب الله ونزول سخطه الأوصياء والحضار الَّذِينَ حضروا عند من اشرف على الموت ان يلقنوا له التصدق من ماله على وجه يؤدى الى حرمان الورثة وعلى الحضار ان يفرضوا ويقدروا انهم لَوْ ماتوا وتَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً أخلافا ضِعافاً بلا مال ولا متعهد قد خافُوا البتة عَلَيْهِمْ اى على أولادهم ان يضيعوا فكيف لا يخافون على أولئك الضعاف الضياع بل المؤمن لا بد ان يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه بل اولى منه فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ اى أولئك الحضار والأوصياء عن التلقين المخل لنصيب الورثة وَلْيَقُولُوا له وليلقنوا عليه قَوْلًا سَدِيداً سويا معتدلا بين كلا طرفي الإفراط والتفريط رعاية للجانبين وحفظا للغبطتين.
ثم قال سبحانه توبيخا وتقريعا على الظالمين المولعين في أكل اموال الأيتام من الحكام(1/143)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
والأوصياء والمتغلبة من الورثة إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً بلا رخصة شرعية إِنَّما يَأْكُلُونَ ويدخرون فِي بُطُونِهِمْ ناراً معنويا في النشأة الاولى مستتبعا للنار الصوري في النشأة الاخرى إلا وهي نار البعد والخذلان وَهم فيها سَيَصْلَوْنَ ويدخلون سَعِيراً لا نجاة لاحد منه.
ثم لما قدر سبحانه على المتوارثين نصيبا مفروضا على وجه الإجمال أراد ان يفصل ويعين أنصباءهم فقال يُوصِيكُمُ اللَّهُ اى يأخذ منكم العهد ويأمركم محافظته فِي أَوْلادِكُمْ اى الذين استخلفوا عنكم بعدكم وهو ان يقسم متروك المتوفى منكم بينهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لان كل ذكر لا بد له من أنثى او اكثر ليتزوجها حتى يتم امر النظام الإلهي والنكاح المعنوي ويجب عليه حوائجها وكذا لكل أنثى لا بد لها من ذكر ينكحها بعين ما ذكر ويأتى بحوائجها فاقتضت ايضا الحكمة الإلهية ان يكون نصيبهما بقدر كفافهما واحتياجهما لذلك عينه سبحانه هكذا فَإِنْ كُنَّ اى الوارثات نِساءً خلصا ليس بينهن ذكر وهن فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ المتوفى وَإِنْ كانَتْ الوارثة بنتا واحِدَةً فقط فَلَهَا النِّصْفُ مما ترك المتوفى وان كانتا بنتين فقط فقد اختلف فيهما فقال ابن عباس رضى الله عنهما حكمهما حكم الواحدة وقال الباقون حكمهما حكم ما فوق الاثنتين وعلى هذا يكون لفظة فوق مقحما كما في قوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق وكذا عين سبحانه نصيب الأبوين فقال وَلِأَبَوَيْهِ اى لأبوي المتوفى لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ المتوفى إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكر او أنثى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ وللأب الباقي. هذا إذا لم يكن له غير الأب والام وارث فَإِنْ كانَ لَهُ اى للمتوفى إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ اى تردون الام من الثلث الى السدس بخلاف الأب فإنهم لا يرثون معه هذه القسمة والأنصباء المعينة انما تكون مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها من ماله للفقراء أَوْ قضاء دَيْنٍ كان في ذمته وهما ايضا انما يكونان بعد تجهيزه وتكفينه. ثم أشار سبحانه الى ان امر الميراث وتعيين الأنصباء امر تعبدي ليس لكم ان تتخلفوا عنها بمقتضى ميلكم وظنكم الى ان تورثوا بعض الورثة وتحرموا البعض الآخر بل لكم ان لا تتفاوتوا بينهم سواء كانوا آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ إذ لا تَدْرُونَ ولا تعلمون جزما أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً في الدار الآخرة عند الله فعليكم ان لا تتجاوزوا عن قسمة الله بل انقادوا لها واعتقدوها فَرِيضَةً مقدرة مِنَ اللَّهِ صادرة منه سبحانه بمقتضى حكمته المتقنة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده كانَ عَلِيماً بحوائجهم حَكِيماً في ضبطها وترتيبها
وَلَكُمْ ايها الأزواج من الذكور نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ من الإناث إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم او من غيركم او ولد ولد وان سفل فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ او ولد ولد كما ذكر فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ هذه ايضا مِنْ بَعْدِ تنفيذ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها للفقراء أَوْ أداء دَيْنٍ لازم عليهن وَلَهُنَّ اى للنساء الوارثات الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ايها الأزواج إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ منها او من غيرها او ولد ولد مثل ما مر فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ على التعميم المذكور فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ذلك ايضا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها تقربا الى الله أَوْ قضاء دَيْنٍ لزم على ذمتكم وَإِنْ كانَ المتوفى رَجُلٌ يُورَثُ منه وكان كَلالَةً ليس لها والد ولا ولد أَوِ امْرَأَةٌ كذلك وَلَهُ اى للرجل أَخٌ أَوْ أُخْتٌ من أم لان حكم الأخ والاخت من الأبوين او من الأب سيجيء في آخر السورة فلا بد ان يصرف هاهنا الى ما صرف فَلِكُلِّ(1/144)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ من ماله فَإِنْ كانُوا اى الاخوة والأخوات من الام أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ بأجمعهم شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ على السوية لاشتراك السبب بينهم ذلك ايضا مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ يقضى غَيْرَ مُضَارٍّ لورثته بالزيادة على الثلث فعليكم ايها الحكام ان تتخذوا هذه القسمة وَصِيَّةٍ صادرة مِنَ اللَّهِ ناشئة منه سبحانه حسب حكمته المتقنة لإصلاح احوال عباده وَاللَّهُ المدبر المصلح بين عباده عَلِيمٌ بعموم مصالحهم حَلِيمٌ لا يعجل بالانتقام على من امتنع عن حكمه
تِلْكَ المذكورات المتعلقة بأحوال الأموات حُدُودُ اللَّهِ الموضوعة بينكم ايها المؤمنون بالله وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وَرَسُولَهُ في جميع ما جاء به من عند ربه من الأمور المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن من الكدورات البشرية والعلائق البهيمية يُدْخِلْهُ الله بفضله ولطفه جَنَّاتٍ هي متنزهات التوحيد الا وهي اليقين العلمي والعيني والحقي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ انهار المعارف الجزئية الجارية من عالم الغيب الى عالم الشهادة وهم لا يتحولون عنها بل صاروا خالِدِينَ فِيها ابدا وَذلِكَ اى الخلود في متنزهات الشهود هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم طوبى لمن فاز من الله به
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ بإنكار الأوامر والإصرار على النواهي وَرَسُولَهُ بالتكذيب وعدم الإطاعة وانواع الإيذاء وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ المشروعة الموضوعة بين عباده يُدْخِلْهُ الله بمقتضى اسمه المنتقم ناراً هي نار البعد والطرد عن كنف جواره وعز حضوره فصار خالِداً فِيها ابدا وَلَهُ بسبب عصيانه وإصراره عليه عَذابٌ مُهِينٌ يبعده عن ساحة عز الحضور والقبول. أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف ثم لما بين سبحانه احكام المواريث واحوال المتوارثين وعين سهامهم وأنصباءهم أراد ان يحذر المؤمنين عن الزنا التي هي هتك حرمة الله الموضوعة بين الازدواجات الحبية الإلهية واختلاط الأنساب المصححة للاحكام المذكورة وبالجملة هي الخروج عن مقتضى السنة السنية الإلهية التي قد سنها بين عباده على مقتضى الحكمة المتقنة الصالحة المصلحة لأصل فطرتهم التي هم خلقوا عليها وجبلوا لأجلها إلا وهي التحقق بالتوحيد الذاتي والزنا انما يتصور بين المرأ والمرأة الاجنبية المحرمة لذلك قدم سبحانه امر النساء وبين احكامهن وأحال حكم الرجال على المقايسة لقباحتها وشناعتها كأنه استبعد سبحانه عن عقلاء اهل الإسلام أمثال هذه الجرائم والآثام الا من النواقص ولأنهن في انفسهن شباك الشياطين يصطادون بهن ضعفاء المؤمنين بل أقوياءهم ايضا على ما نطق به حديث النبي صلوات الله على قائله ما ايس الشيطان من ابن آدم الا ويأتيهم من قبل النساء
فقال وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ اى الفعلة القبيحة التي هي الزنا وهن مِنْ نِسائِكُمْ وفي حجركم ونكاحكم فاخبرتم بها العياذ بالله فعليكم في تلك الحالة ان لا تبادروا الى رميها ورجمها بل فَاسْتَشْهِدُوا واطلبوا الشهداء من المخبر ليشهدوا عَلَيْهِنَّ بالزنا والمعتبر ان تكون الشهود أَرْبَعَةً مِنْكُمْ من عدول رجالكم بشرط ان لا يسبق منهم ترقب وتجسس بل وقعت منهم النظرة بغتة على سبيل الاتفاق فيرون ما يرون كالميل في المكحلة مستكرهين مستقبحين فَإِنْ شَهِدُوا هؤلاء الشهود هكذا على الوجه المعهود فعليكم ايها المؤمنون المستحفظون لحدود الله ان لا تضطربوا ولا تستعجلوا في مقتهن واخراجهن بل عليكم الإمساك فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ التي أنتم فيها بلا مراودة إليهن كيلا يلحق عليكم باخراجكم اياهن عار آخر بل اتركوهن فيها حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ(1/145)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
الطبيعي أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ ويحكم لَهُنَّ وفي حقهن سَبِيلًا حكما مبرما هذا في بدأ الإسلام
ثم نسخ بآية الرجم والجلد وَالَّذانِ يَأْتِيانِها اى الفعلة القبيحة التي هي اللواطة وهما اى الآتي والمأتى كلاهما مِنْكُمْ ايها الرجال وهذه افحش من الزنا لخروج كل منهما عن مقتضى الحد الإلهي وانحطاطهما عن رتبة الكمال الإنساني بارتكابهما فعلا لا يقتضيه العقل والشرع والمروءة بخلاف الزنا ولشناعتها وخباثتها لم يعين لها سبحانه حدا في كتابه المبين لأنه تنافى اخلاق الإنسان ولم يصرح بها ايضا بل ابهمها وأجملها وأحال حكمها بالمقايسة على الزنا لكمال هجنتها وسماجتها كأن هؤلاء المفرطين ليسوا من الإنسان بل من البهائم بل أسوأ حالا منها لذلك قال فَآذُوهُما إيذاء بليغا وتعزيرا شديدا حتى يمتنعا فَإِنْ تابا وامتناعا وَأَصْلَحا ما افسدا بالتوبة والندامة فَأَعْرِضُوا عَنْهُما مستغفرين لهما من الله مستعفين غير موبخين ومقرعين عليهما إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده المذنبين النادمين كانَ تَوَّاباً لهم يرجعهم عن ما صدر عنهم نادمين رَحِيماً يعفو عنهم ويقبل توبتهم.
ثم قال سبحانه إِنَّمَا التَّوْبَةُ اى ما التوبة المقبولة المبرورة الا التوبة الناشئة من محض الندامة المنبئة المتفرعة على تنبه القلب عن قبح المعصية سيما في أمثال هذه المزالق وهي المصححة الباعثة عَلَى اللَّهِ ان يقبلها النافعة لِلَّذِينَ اى للمؤمنين الذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ اى الفعلة الذميمة لا عن قصد وروية بل بِجَهالَةٍ عن قبحها ووخامة عاقبتها ثُمَّ اى بعد ما أدركوا قبحها واطلعوا على وخامة عاقبتها يَتُوبُونَ اى يبادرون ويراجعون الى التوبة والندبة مِنْ قَرِيبٍ اى قبل الانتهاء الى وقت الإلجاء فَأُولئِكَ التائبون المبادرون الى التوبة قبل حلول الأجل يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اى يقبل توبتهم بعد ما وفقهم عليها ولقنهم بها وَكانَ اللَّهُ المطلع على ضمائرهم عَلِيماً بمعاصيهم في سابق علمه حَكِيماً في الزام التوبة عليهم ليجبروا بها ما كسروا على نفوسهم
وَبالجملة لَيْسَتِ التَّوْبَةُ الصادرة حين الإلجاء والاضطراء نافعة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في مدة اعمارهم مسوفين التوبة فيها حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الملجئ إليها قالَ متأسفا متحسرا مضطرا بعد ما ايس من الحيوة وابصر امارات الموت من نفسه واشرف على السكرات إِنِّي تُبْتُ الْآنَ على وجه التأكيد والمبالغة وهي لا تنفع له وان بالغ فيها والسر في عدم قبول الله إياها والله اعلم ان الانابة والرجوع الى الله لا بد وان تكون عن قصد واختيار وفي وقت القدرة على المعصية وحين الميل إليها حتى يعتبر عند الله ويقبل منه لا عن الحاء واضطرار إذ لا يتصف التائب حين الإلجاء بالعبودية والإطاعة وقصد التقرب الى الله بل وَلَا فرق بينهم وبين الكافرين الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ حين حلول الأجل عليهم كُفَّارٌ كما كانوا أُولئِكَ المسوفون المقصرون في امر التوبة قد أَعْتَدْنا لَهُمْ وهيئنا لأجلهم في النشأة الاخرى عَذاباً طردا وحرمانا أَلِيماً فظيعا فجيعا مؤلما لرؤيتهم اجر التائبين المبادرين عليها في مقعد الصدق عند المليك القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام. تب علينا بفضلك انك أنت التواب الرّحيم. ثم لما كانت العادة في الجاهلية ميراث نفوس النساء كرها وذلك انه لو مات واحد منهم وله عصبة القى ثوبه على امرأة الميت فكانت في تصرفه وحمايته وأحق له وله اختيارها سواء تزوجها بالصداق الاول كرها او طوعا او يضر عليها بمنعها الى ان تفدى هي مثل صداقها
ثم أطلقها نبه سبحانه على المؤمنين ان لا تصدر عنهم أمثال هذا فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله اتركوا جميع ما قد كنتم عليه في جاهليتكم الاولى قبل الايمان سيما ميراث النساء واخذكم انفسهن(1/146)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
او بدل صداقهن منهن واعلموا انه لا يَحِلُّ لَكُمْ في شرعكم ودينكم هذا أَنْ تَرِثُوا أنتم النِّساءَ اى نساء أقاربكم ومورثيكم سواء تزوجونهن على الصداق الاول او تفدون وتأخذون منهن بدل الصداق كَرْهاً حال كونكم مكرهين أو هن كارهات لتزوجكم او فديتكم وَايضا من جملة الحدود المتعلقة بأمور النساء ان لا تَعْضُلُوهُنَّ مطلقا اى لا يحل لكم ان تضيقوا على نسائكم حين انتقصت محبتكم اياهن وقل وقعهن عندكم الى ان تلجئوهن الى الفدية والخلع لِتَذْهَبُوا حين البينونة بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ او كلها حين النكاح إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ العياذ بالله بِفاحِشَةٍ وفعلة قبيحة شرعا مُبَيِّنَةٍ ثابتة ظاهرة وَان لم يأتين بشيء من الفواحش عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المستحسن عقلا وشرعا فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ طبعا بلا جريمة صدرت منهن عليكم ان تكذبوا طباعكم المخالفة للعقل والشرع مرارا إذ هي من طغيان القوى البهيمية لا تبالوا بها وبمقتضياتها فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً بمقتضى طبعكم وَلا تعلمون ان يَجْعَلَ اللَّهُ لكم فِيهِ بمقتضى حكمته ومصلحته خَيْراً كَثِيراً نافعا لكم ولغيركم
وَإِنْ غلب عليكم مقتضيات طباعكم وأَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ منكوحة جديدة مَكانَ زَوْجٍ قديمة تريدون تطليقها فعليكم في دينكم وشرعكم ان لا تأخذوا من المطلقة شيأ وَان آتَيْتُمْ وأعطيتم حالة النكاح إِحْداهُنَّ اى كل واحدة منهن ان كن اكثر من واحدة قِنْطاراً مالا كثيرا منضدا مخزونا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ اى من القنطار شَيْئاً قليلا نزرا يسيرا حين الطلاق فكيف بالكثير أَتَأْخُذُونَهُ اى مهرهن ايها المفرطون في متابعة الطبيعة بُهْتاناً تفترونه عليهن وَتكسبون لأنفسكم بأخذه إِثْماً مُبِيناً وجرما عظيما عند الله شنيعا سمجا عند المؤمنين
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ايها المسرفون وَلا تعلمون ولا تستحضرون ولا تتذكرون انه قَدْ أَفْضى ووصل بالمهر والصداق بَعْضُكُمْ ذكوركم إِلى بَعْضٍ اناثكم وَأَخَذْنَ عهدن مِنْكُمْ اى من اجلكم ورعاية غبطتكم مع الله مِيثاقاً غَلِيظاً عهدا وثيقا لا ينفصم أصلا وهو ان لا يأتين بفاحشة ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن وان يقصرن نظرهن عليكم ويخدمن ويحسن المعاشرة الى غير ذلك من الحدود والحقوق
وَايضا من الحدود المتعلقة بأمر النساء ان لا تَنْكِحُوا ولا تطأوا ولا تجامعوا ايها المؤمنون ما نَكَحَ ووطئ آباؤُكُمْ واسلافكم سواء كانوا مؤمنين او كفارا مِنَ النِّساءِ سواء كن أمهاتكم أم لا حرائر او رقيقات لاستهجان هذا الأمر عقلا وشرعا ومروة بل طبعا بناء على ما حكى عن بعض الحيوانات انه لا تجامع مع امه البتة كالفرس النجيب وغيره ومن اتى ما نهى عنه فقد استحق مقت الله وطرده إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ سبق منه وقوعه قبل ورود النهى إِنَّهُ اى نكاح منكوحة الاسلاف قد كانَ فاحِشَةً من جملة الفواحش العظيمة التي قد منعها الشرع والعقل والمروءة بل الطبع ايضا وَمع ذلك قد صار مَقْتاً حرمانا وطردا وانحطاطا عظيما عن الرتبة الانسانية التي هي الخلافة الإلهية المترتبة على محض الحكمة والعدالة وكمال الاستقامة لذلك سمى العرب من حصل منه من الولد المقتى وَساءَ سَبِيلًا لمن اتى به سبيل البعد والخذلان عن ساحة عز الحضور. عصمنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. ومن شدة شناعته وعظم قبحه عند الله قدمه سبحانه على جميع المحرمات
ثم فرعها عليه بقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ في دينكم هذا أُمَّهاتُكُمْ اى نكاحها مطلقا وَبَناتُكُمْ ايضا كذلك وَأَخَواتُكُمْ مع من يتفرع عليهن وَعَمَّاتُكُمْ انفسهن وَخالاتُكُمْ ايضا كذلك اى مثل عماتكم وَبَناتُ الْأَخِ(1/147)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
من الأبوين او من الأب او من الام وَبَناتُ الْأُخْتِ ايضا كذلك وَحرمت عليكم ايضا أُمَّهاتُكُمْ من الاجنبيات اللَّاتِي قد أَرْضَعْنَكُمْ مصة او مصتين وَحرمت ايضا أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ إذ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب غالبا وَكذا حرمت عليكم أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ لحرمة المصاهرة وَايضا حرمت عليكم رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ اى في تربيتكم وحضانتكم حال كون تلك الربائب مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا ضيق عليكم في تزوجهن وَكذا حرمت عليكم في دينكم حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ قد حصلوا مِنْ أَصْلابِكُمْ وَكذا حرمت عليكم أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في زمان واحد إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أمثال هذا منكم قبل ايمانكم فإنكم لا تؤاخذون عليه إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم كانَ غَفُوراً لذنوبكم بعد انابتكم واستغفاركم رَحِيماً لكم يقبل توبتكم وان عظمت زلتكم
وَحرمت عليكم ايضا الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ الاجنبيات اللاتي قد احصنهن أزواجهن إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من المسبيات اللاتي لهن ازواج كفار إذ بالسبي يرتفع النكاح فاعلموا ان تلك المحرمات قد صارت كِتابَ اللَّهِ اى من جملة الأمور التي أوجبها الله عَلَيْكُمْ حتما وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ اى ما سوى المحرمات المذكورة وانما أحل لكم ما أحل أَنْ تَبْتَغُوا اى لان تطلبوا بِأَمْوالِكُمْ أزواجا حلائل مصلحات لدينكم صالحات لابقاء نوعكم حال كونكم مُحْصِنِينَ بهن دينكم محافظين غَيْرَ مُسافِحِينَ اى مجتنبين عن الزنا المؤدى الى ابطال حكمة الله وإفساد مصلحته فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ اى فمن انتفعتم واجتمعتم بالمهر مِنْهُنَّ اى من النساء اللاتي قد احلهن الله لكم ايها المؤمنون فَآتُوهُنَّ اى فعليكم ان تدفعوا إليهن أُجُورَهُنَّ مهورهن حال كونكم معتقدين أداءها فَرِيضَةً صادرة من الله مقدرة من عنده واجبة الأداء شرعا وعقلا إذ الإفضاء انما هو بسببه كما مر هذا إذا كانت المرأة طالبة كمال مهرها وَلا جُناحَ اى لا ضيق ولا مؤاخذة عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من الأخذ والترك والزيادة والنقصان بعد ما حصل التراضي من الجانبين مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ المقدرة الواجبة الأداء إذ هذا الحكم مما يقبل التغيير بعد المرضاة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده كانَ عَلِيماً في سابق علمه بما يصلحهم ويرضيهم حَكِيماً في إصدارها عنهم إصلاحا لمعاشهم
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا اقتدارا وغنى أَنْ يَنْكِحَ به الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ المتعففات الحرائر فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ اى فعليكم ان تنكحوا مِنْ فَتَياتِكُمُ اى امائكم الْمُؤْمِناتِ المقرات بكلمتي الشهادة ظاهرا وَاللَّهُ المطلع بضمائر عباده أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ وايمانهن او كفرهن وكلكم في انفسكم أمثال أكفاء إذ بَعْضُكُمْ يا بنى آدم قد حصل مِنْ بَعْضٍ والتفاضل بينكم انما هو في علم الله وان اضطررتم الى لكاح الإماء فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ اى اربابهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اى أعطوهن مهورهن المسماة باذن أهلهن بِالْمَعْرُوفِ اى إعطاء مستحسنا عقلا وشرعا بلا مطل وتسويف وإضرار وتنقيص حال كونهن مُحْصَناتٍ عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ زانيات مجاهرات غير حاصرات وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ وأخلاء فَإِذا أُحْصِنَّ وانكحن بعد وجود الشرائط المذكورة فأمسكوهن بالمعروف المستحسن عند الله وعند المؤمنين فَإِنْ أَتَيْنَ بعد ما أحصن بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ الحرائر(1/148)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
مِنَ الْعَذابِ الذي حد الله لهن في كتابه سوى الرجم إذ لا يجرى التنصيف فيه لذلك لم يشرع في حد الرقيق ذلِكَ اى نكاح الإماء انما يرخص لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ اى الوقوع في الزنا مِنْكُمْ ايها المؤمنون المجتنبون عن المحرمات وَأَنْ تَصْبِرُوا ايها المؤمنون الفاقدون لوجه المعاش وترتاضوا نفوسكم بتقليل الاغذية المستنمية المثيرة للقوة الشهوية الموقعة للمهالك وتدفعوا امارة امارتكم بالقاطع العقلي والواضح الشرعي وتتمرنوا على عفة العزوبة وتسكنوا نار الطبيعة بقطع النظر والاتقاء عن المخاطر فهو خَيْرٌ لَكُمْ من نكاح الإماء بل من نكاح اكثر الحرائر ايضا سيما في هذا الزمان الخوان وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده غَفُورٌ لذنب من صبر ولم ينكح لقلة معاشه رَحِيمٌ له يحفظه عن الفرطات والعثرات في امر المعاش. عصمنا الله وعموم عباده من المهالك المتعلقة بالمعاش بفضله وطوله
انما يُرِيدُ اللَّهُ بتعيين المحرمات وتبيين المحللات لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ايها المؤمنون طريقي الرشد والغي والهداية والضلال وَيَهْدِيَكُمْ اى يرشدكم ويوصلكم سُنَنَ الَّذِينَ خلوا ومضوا مِنْ قَبْلِكُمْ من ارباب الولاء المكاشفين بسر التوحيد وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ويرجعكم عن ميل المزخرفات الدنية الدنيوية ليوصلكم الى المراتب العلية الاخروية وَاللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده عَلِيمٌ بمصالحهم الموصلة اليه حَكِيمٌ في القائها إليهم في ضمن العظة والعبر والقصص والتواريخ والرموز والإشارات ليرتاضوا بها نفوسهم حتى يستعد قلوبهم لنزول سلطان التوحيد المفنى للغير والسوى مطلقا عن فضاء الوجود.
ثم كرر سبحانه ذكر التوبة والرجوع عن المزخرفات الباطلة المانعة من الوصول الى دار السرور حثا للمؤمنين إليها ليفوزوا بمرتبة التوحيد بقوله وَاللَّهُ المرشد لكم الى طريق توحيده الذاتي يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ اى يوفقكم على التوبة التي هي الرجوع عما سوى الحق مطلقا ومتى انفتح عليكم باب التوبة انفتح باب الطلب المستلزم للترقي والتقرب نحو المطلوب الى ان يتولد منه الشوق المزعج الى المحبة المفرطة المفنية لغير المحبوب مطلقا بل نفس المحب بل نفس المحبوب ايضا. كما حكى عن المجنون العامري انه وله يوما من الأيام واستغرق في بحر المحبة الى ان اضمحلت عن بصر بصيرته غشاوة التعينات مطلقا بل ارتفع حجب الاثنينية رأسا وفي تلك الحالة السريعة الزوال تمثل ليلى قائمة على رأسه فصاحت عليه صيحة عن من شغلت يا مجنون فالتفت نحوها متألما عن الرجوع الى عالم التعينات فقد طاب وقته حينئذ فقال لها دعينى على حالي فان حبك قد شغلني عنك ثم قال سبحانه وَيُرِيدُ الَّذِينَ يضلونكم عن طريق التوحيد المسقط لعموم الرسوم والعادات بوضع طرق غير طريق الشرع مبتدعا او منسوبا الى مبتدع وقد عينوا فيه اللباس والكسوة المعينة ومع ذلك يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ ويبيحون المحرمات ويرتكبون المنهيات ارادة أَنْ تَمِيلُوا وتنحرفوا عن جادة التوحيد بأمثال هذه الخرافات والهذيانات مَيْلًا عَظِيماً وانحرافا بليغا بحيث لا يستقيم لهم أصلا
وبالجملة يُرِيدُ اللَّهُ المدبر لعموم أحوالكم أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ايها المؤمنون أثقالكم التي هي سبب احتياجكم وإمكانكم وَالحال انه قد خُلِقَ الْإِنْسانُ في مبدأ الفطرة ضَعِيفاً لا يحتمل تحمل أثقال الإمكان مثل الحيوانات الاخر. خفف عنا بفضلك ثقل الا وزار واصرف عنا بمقتضى جودك شر الأشرار وارزقنا عيشة الأبرار.
ثم نبه سبحانه على المؤمنين بما يتعلق بأمور معاشهم مع بنى نوعهم ليهذبوا به ظواهرهم فقال مناديا لهم ليهتموا باستماعها وامتثالها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتبه ورسله عليكم ان لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ اى(1/149)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
بعضكم مال بعض محانا بلا رخصة شرعية بل بِالْباطِلِ ظلما وزورا سواء كان سرقة او غصبا او حيلة منسوبة الى الشرع افتراء ومراء او ربوا او تلبيسا وتشيحا كما يفعله المتشيخة ويأخذون بسببها حطاما كثيرة من ضعفاء المؤمنين واعلموا ايها المؤمنون ان مال الأخ المؤمن على المؤمن في غير العقود المتبرعة المشروعة حرام إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً معاوضة ومعاملة حاصلة عَنْ تَراضٍ ومرضاة مِنْكُمْ منبعثه عن اطمئنان نفوسكم عليها بلا غرور وإغراء واضطرار وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ اى ولا تلقوها بأيديكم الى المهالك التي جرت بين ارباب المعاملات من الربوا والخداع والتغرير والتلبيس وعير ذلك من انواع المكر والحيل حتى لا تنحطوا عن مرتبتكم الاصلية ومنزلتكم الحقيقية التي هي مرتبة العدالة والخلافة الإلهية إذ لا خسران أعظم من الحرمان منها. دركنا بلطفك يا خفى الألطاف وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المنه عليكم بأمثال هذه التدبيرات الصادرة عن محض الحكمة والمصلحة كانَ بِكُمْ رَحِيماً مشفقا عليكم مريدا ايصالكم الى ما خلقكم لأجله وأوجدكم لحصوله
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اى ما يحذر عنه من المهالك المذكورة ويمقت نفسه بالتعرض عليها لا عن جهل سادج بل عن جهل مركب قد اعتقدها حقا عُدْواناً مجاوزا مائلا عن الحق إصرارا وَظُلْماً خروجا وميلا عن طريق الشرع الموضح لسبيل التوحيد فَسَوْفَ منتقم عنه في يوم الجزاء ونُصْلِيهِ وندخله ناراً حرمانا دائما دائميا عن ساحة عر الحضور وطردا سرمديا عن فضاء السرور. بك يعتصم يا ذا القوة المتين وَلا تغفلوا ايها المنهمكون للاقتحام في المهالك المتعلقة لأمر المعاش عن انتقام الغيور إياكم ولا تعتقدوا عسره بالنسبة اليه سبحانه إذ كانَ ذلِكَ الانتقام على تلك الآثام والاجرام عَلَى اللَّهِ القدير القادر الميسر لكل عسير يَسِيراً وان استعسرتم في انفسكم إذ لا رادّ لإرادته ولا معقب لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
ثم قال سبحانه امتنانا على المؤمنين تفضلا وإشفاقا وجذبا لهم من جانبه إِنْ تَجْتَنِبُوا وتحرروا ايها المحبوسون في مهاوي الإمكان ومضيق الحدثان كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ وأعاظم ما تحدرون منه الا وهي الشرك بالله بأنواعه من اثبات الوجود لغيره واسناد الحوادث الكائنة الى الأسباب العادية وغير ذلك نُكَفِّرْ عَنْكُمْ اى نمحو ونتجاوز تفضلا عليكم سَيِّئاتِكُمْ اى صغائركم الصادرة من نفوسكم بمقتضى بشريتكم وَبعد عفونا عنكم الصغائر نُدْخِلْكُمْ بمحض جودنا ولطفنا مُدْخَلًا كَرِيماً هو فضاء التوحيد الذي ليس فيه هواء ولا ماء ولا غد ولا مساء بل ما فيها الافناء وصفاء وبقاء ولقاء بحيث لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الاولى وفقنا بكرمك وجودك بما تحب وترضى
وَمن مقتضى ايمانكم ايها المحمديون الموحدون المتوجهون نحو توحيد الذات من محجة الفناء والرضا بما نفذ عليه القضاء عليكم ان لا تَتَمَنَّوْا تمنى المتحسر المتأسف بحصول ما فَضَّلَ اللَّهُ تعالى بِهِ في النشأة الاولى بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من الجاه والمال والمكانة الرفيعة في عالم الصورة إذ هي ابتلاء واختبار لهم وفتنة عظيمة تبعدهم عن طريق الفناء وتوقعهم في التكثر والتشتت والموحدون المحمديون لا بد لهم ان يقتفوا اثر نبيهم صلّى الله عليه وسلّم في ترك الدنيا وعدم الالتفات نحوها الا ستر عورة وسد جوعة إذ الاضافة والتمليك مطلقا مخل بالتوحيد والفناء جالب لانواع العذاب الأخروي. ربنا اصرف عنا عذاب جهنم ان عذابها كان غراما. واعلموا ايها الموحدون المحمديون السالكون سبيل الفناء ليفوزوا بجنة البقاء وشرف اللقاء ان لكم عند ربكم جنات ومداخل متفاوتة(1/150)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
بتفاوت استعداداتكم المترتبة على تربية الأسماء والصفات الإلهية إذ لِلرِّجالِ اى الذكور الكمل منكم على تفاوت طبقاتهم نَصِيبٌ حظ من التوحيد الذاتي هو مقرهم وغاية مقصدهم ومعراجهم حاصل لهم مِمَّا اكْتَسَبُوا من الرياضات والمجاهدات المعدة لفيضان المكاشفات والمشاهدات وَكذا لِلنِّساءِ منكم مع تفاوت طبقاتهن نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ في تلك الطريق إذ كل ميسر لما خلق له وعليكم التوجه نحو مقصدكم وَسْئَلُوا اللَّهَ المسهل الميسر لأموركم مِنْ فَضْلِهِ وسعة رحمته وجوده ان ييسر لكم ما يعنيكم ويجنبكم عما لا يعنيكم ويغويكم وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ مما صدر عنهم من صلاح وفساد عَلِيماً يعلم بعلمه الحضوري ويصلح لهم وييسر عليهم الهدى بقدر قابلياتهم الموهوبة لهم من عند كرمه ازلا.
ثم قال سبحانه وَلِكُلٍّ من الاسلاف الذين مضوا قد جَعَلْنا من محض جودنا وحكمتنا مَوالِيَ أخلافا يلونهم ويوالونهم ويأخذون مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ اى من الأموال المنسوبة إليهما وَكذا مما ترك الْأَقْرَبُونَ من ذوى الأرحام وَكذا من متروكات الأزواج الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ بالنكاح والزواج على الوجه المشروع فَآتُوهُمْ ايها الحكام نَصِيبَهُمْ اى نصيب كل من الولاة على الوجه المفروض إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده كانَ في سابق علمه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الحوادث الكائنة شَهِيداً حاضرا مطلعا.
ثم نبه سبحانه على تفضيل الرجال على النساء بقوله الرِّجالُ المعتدلة الأمزجة المستقيمة العقول قَوَّامُونَ حافظون عَلَى النِّساءِ إذ لا بد لهن لضعفهن من يرقبهن عما يشينهن صيانة لعفتهن بِما فَضَّلَ اللَّهُ به بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ اى بعض بنى آدم على بعض الا وهو الحمية المنبعثة من كمال العقل وَبِما أَنْفَقُوا لهن مِنْ أَمْوالِهِمْ التي قد حصلت لهم من مكاسبهم فَالصَّالِحاتُ العفائف من النساء قانِتاتٌ مطيعات لأزواجهن خادمات لهم ظاهرا حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ اى لحقوقهم المخفية الباطنة عنهم تابعات ممتثلات بِما حَفِظَ اللَّهُ لهن من رعاية أزواجهن وعدم الخيانة في حقوقهم وَالنساء اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ عصيانهن وعدم حفظهن بحقوق الزواج من امارات ظهرت منهن فَعِظُوهُنَّ اى فعليكم ايها الأزواج ان تعظوهن أولا رفقا بما وعظ الله لهن من رعاية حقوق الله وحقوق الأزواج لعلهن يطعن ويتركن ما عليهن وان لم يتركن اهْجُرُوهُنَّ واتركوهن فِي الْمَضاجِعِ وحيدة فلا ترجعوا إليهن بل اعتزلوا عنهن لعلهن يتأثرن بها وَان لم يتأثرن بها ايضا اضْرِبُوهُنَّ ضربا مؤلما غير متجاوز عن الحد فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بأمثال هذه التأديبات فَلا تَبْغُوا ولا تطلبوا عَلَيْهِنَّ اى على طلاقهن واخراجهن سَبِيلًا استعلاء وترفعا بلا مجاملة ومداراة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده كانَ عَلِيًّا في ذاته وشانه كَبِيراً في حكمه وأحكامه لا ينازع في حكمه ولا يسأل عن فعله
وَإِنْ تطاولت الخصومة والمنازعة بينهما حتى خِفْتُمْ وظننتم ايها الحكام شِقاقَ بَيْنِهِما وايستم عن المصالحة والوفاق فَابْعَثُوا اى فعليكم ايها الحكام ان تبعثوا حَكَماً مصلحا ذا رأى وثقة مِنْ أَهْلِهِ اى من أقاربه وَحَكَماً مثل ذلك مِنْ أَهْلِها ليصيرا وكيلين عنهما مطلقا صلاحا وطلاقا خلعا وفداء ثم إِنْ يُرِيدا اى الحكمان إِصْلاحاً لامرهما ورفعا لنزاعهما يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما ان رضيا بمصالحتهما والا فليرفعا عقدة النكاح بينهما على اى طريق كان إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده كانَ عَلِيماً بنزاعهما ابتداء خَبِيراً بما يئول اليه(1/151)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
النزاع
وَبعد ما هذبتم ظواهركم ايها المؤمنون المخلصون بهذه الأخلاق المرضية اعْبُدُوا اللَّهَ المتوحد في ذاته ووجوده المستقل في أفعاله وآثاره المترتبة على أوصافه الذاتية وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من مصنوعاته اى لا تثبتوا الوجود والأثر لغيره إذ الأغيار مطلقا معدومة في أنفسها مستهلكة في ذاته سبحانه وَافعلوا بِالْوالِدَيْنِ اللذين هما سبب ظهوركم عادة إِحْساناً قولا وفعلا وَايضا بِذِي الْقُرْبى المنتمين إليكم بواسطتهما وَايضا الْيَتامى الذين لا متعهد لهم من الرجال وَالْمَساكِينِ الذين قد أسكنهم الفقر والفاقة في زاوية الهوان وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى هم الذين لهم قرابة جوار بحيث يقع الملاقاة معهم كل يوم مرتين وَالْجارِ الْجُنُبِ هم الذين لهم بعد جوار بحيث لا يتفق التلاقي الا بعد يوم او يومين او ثلثة ايام وَعليكم رعاية جار الصَّاحِبِ المصاحب بِالْجَنْبِ اى الذي معكم وفي جنبكم في السراء والضراء يصاحبكم ويعين عليكم وَابْنِ السَّبِيلِ المتباعدين عن الأهل والوطن لمصلحة دينية مثل طلب العلم وصلة الرحم وحج البيت وغير ذلك وَايضا من أهم المأمورات لكم رعاية ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد والإماء والحيوانات المنسوبة إليكم وعليكم ان لا تتكبروا على هؤلاء المستحقين حين الاجسان ولا تنفقوا عليهم بالامتنان إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا متكبرا يمشى بين الناس خيلاء فَخُوراً بفضله او ماله او نسبه او حسبه
يعنى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ من أموالهم التي استخلفهم الله عليها معللين بانا لم نجد فقيرا متدينا يستحق بالصدقة وَمع كونهم بخلاء في نفوسهم يَأْمُرُونَ النَّاسَ ايضا بِالْبُخْلِ لئلا يلحق العار عليهم خاصة وَمع ذلك يَكْتُمُونَ من الحكام والعاملين ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الأموال خوفا من إخراج الزكوات والصدقات ومن عظم جرائم هؤلاء البخلاء الخيلاء أسند سبحانه انتقامهم الى نفسه وغير الأسلوب فقال وَأَعْتَدْنا اى قد هيأنا من غاية قهرنا وانتقامنا لِلْكافِرِينَ لنعمنا كفرانا ناشئا عن محض النفاق والشقاق عَذاباً طردا وحرمانا مؤلما وتخذيلا وإذلالا مُهِيناً
وَمن هؤلاء المطرودين بل أسوأ حالا منهم الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لا لامتثال امر الله وطلب رضاه بل رِئاءَ النَّاسِ ليعتقدوا لهم ويكتسبوا الجاه والرياسة بسبب اعتقادهم وَمع هذا التوهم المزخرف لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الرّحيم التواب الكريم الوهاب وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء العصاة الغواة حتى يتوب عليهم ويغفر زلتهم وبالجملة هم من جنود الشياطين وقرنائه وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً حميما يحمله البتة على أمثال هذه الأباطيل الزائغة ويوقعه في اشباه هذه المهاوى الهائلة فَساءَ الشيطان قَرِيناً ايها المتوجهون الى الله الراغبون عما سواه فعليكم ان تجتنبوا عن غوائله
ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتنبيها لغيرهم وَماذا يعرض عَلَيْهِمْ واى شيء يلحق لهم من المكروه لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ المتوحد في الألوهية المتفرد بالقيومية وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد ليرى فيه كل جزاء ما عمل من خير وشر وَأَنْفَقُوا ما أنفقوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ خالصا لرضاه سبحانه بلا شوب المن والأذى والسمعة والرياء وَكانَ اللَّهُ المطلع بِهِمْ وبعموم ما صدر عنهم عَلِيماً بما في ضمائرهم ونياتهم بحيث لا يعزب عن حيطة علمه شيء مما كان ويكون وكيف يعزب عنه سبحانه شيء من أحوالهم
إِنَّ اللَّهَ المجازى لاعمالهم لا يَظْلِمُ عليهم ولا ينقص من أجورهم مِثْقالَ ذَرَّةٍ اى مقدار اجر ذرة صغيرة قريبة من العدم جدا(1/152)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
وَإِنْ تَكُ تلك الذرة حَسَنَةً صادرة عنهم مقارنة بالإخلاص يُضاعِفْها حسب فضله وطوله الى سبعة بل الى سبعين بل الى ما شاء الله وَمع تضعيفها لعموم المؤمنين يُؤْتِ للمخلصين منهم مِنْ لَدُنْهُ امتنانا عليهم وتفضلا أَجْراً عَظِيماً الا وهو الفوز بمقام الكشف والشهود. آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
فَكَيْفَ لا تفوزون ايها المحمديون بما تفوزون مع انا إِذا جِئْنا في يوم الحشر والجزاء مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ نبي مرسل إليهم هاد لهم إلينا باذن منا بطريق مخصوص وَجِئْنا بِكَ يا أكمل الرسل المرسل الى كافة البرايا وعامة العباد بالتوحيد الذاتي الجامع لجميع المراتب والطرق من توحيد الصفات والأفعال عَلى هؤُلاءِ الأمناء الخلص شَهِيداً مرشدا هاديا لهم إلينا بالدين القويم الناسخ لعموم الأديان.
اذكر يا أكمل الرسل يَوْمَئِذٍ اى يوم إذ جئنا بك شهيدا على المؤمنين يَوَدُّ اى يحب ويتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا بالله وَعَصَوُا الرَّسُولَ الأمي المبعوث الى كافة الأنام بدين الإسلام ان لَوْ تُسَوَّى وتغطى بِهِمُ الْأَرْضُ في تلك الساعة وصاروا نسيا منسيا لكان خيرا لهم من الصغار والمذلة التي قد عرضت عليهم في تلك الحالة وَبالجملة لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ المطلع بعموم أحوالهم حَدِيثاً اى لا يمكن لهم كتمان حديث نفوسهم وهواجس صدورهم من الله في تلك الحالة الهائلة فكيف كتمان أعمالهم الصادرة عنهم. ثم لما حضر بعض المؤمنين المسجد لأداء الصلاة سكارى حين اباحة الخمر وغفلوا عن أداء بعض الأركان وتعديلها وغلطوا في القراءة وحفظ الترتيب وسائر اعمال الصلاة نبه سبحانه عليهم ونهاهم عن المبادرة نحو المساجد قبل الإفاقة
فقال مناديا ليقبلوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم حفظ الأدب مع الله سيما عند الميل والتوجه نحوه فعليكم ان لا تَقْرَبُوا ولا تتوجهوا الصَّلاةَ اى لأداء الصلاة التي هي عبارة عن التوجه نحو الذات الإلهية بعموم الأعضاء والجوارح المقارن بالخضوع والخشوع المنبئ عن الاعتراف بالعبودية والإذلال المشعر عن العجز والتقصير فلا بد لأدائها من فراغ الهم وخلاء الخاطر عن ادناس الطبيعة مطلقا وَلا سيما أَنْتُمْ حين أدائها سُكارى بحيث لا تعلمون ما تفعلون وما تقرءون بل اصبروا حَتَّى تَعْلَمُوا اى تفيقوا وتفهموا ما تَقُولُونَ وما تفعلون في أدائها من محافظة الأركان والأبعاض والهيآت وغير ذلك وَعليكم ايضا ان لا تقربوا الصلاة حال كونكم جُنُباً مجنبين باى طريق كان إذ استفراغ المنى انما هو من استيلاء القوة الشهوية التي هي من أقوى القوى البهيمية وأبعدها عن مرتبة الايمان والتوحيد وحين استيلائها تسرى جنابتها الى جميع الأعضاء الحاملة للقوى الدراكة وتعطلها من مقتضياتها بالمرة فحينئذ تتحير الأمزجة وتضطرب لانحرافها عن العدالة الفطرية بعروض تلك الجنابة السارية فتكون الجنابة ايضا كالسكر من مخلات القوة العاقلة فعليكم ايضا ان لا تقربوها معها إِلَّا إذا كنتم عابِرِي سَبِيلٍ اى على متن سفر لا يسع لكم قدرة استعمال الماء لفقده او لوجود المانع فعليكم ان تتيمموا وتصلوا جنبا حفظا لكرامة الوقت حَتَّى تَغْتَسِلُوا وتتمكنوا على استعمال الماء وَكذا إِنْ كُنْتُمْ مقيمين حال كونكم مَرْضى تخافون من شدة المرض في استعماله أَوْ راكبين عَلى متن سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ اى من الخلاء محدثين أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ اى جامعتم معهن او لعبتم بهن بالملامسة والمساس فَلَمْ تَجِدُوا في هذه الصور المذكورة ماءً مزيلا لما عرض عليكم من الجنابة فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً اى فعليكم ان(1/153)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
تقصدوا عند عروض هذه الحالات بالتراب الطيب من صعيد الأرض ورفيعها بان تضربوا أيديكم عليها وبعد ما ضربتم فَامْسَحُوا باليدين المغبرتين بِوُجُوهِكُمْ مقدار ما يغسل ليكون بدلا من الغسل نائبا عنه وَأَيْدِيكُمْ ايضا كذلك جبرا لما فوتم من الغسل بالماء إذا لتراب من جملة المطهرات سيما من الصعيد المرتفع وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المصلح لعموم أحوالكم كانَ عَفُوًّا لكم مجاوزا من أمثالها غَفُوراً يستر عنكم عموم زلاتكم ولا يأخذكم عليها ان كنتم مضطرين فيها بل يجازيكم خيرا تفضلا وامتنانا.
ثم قال سبحانه مستفهما مخاطبا لكل من يتأتى منه الرؤية عن حرمان بعض المعاندين عن هداية القرآن أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى قبح صنيع القوم الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً وحظا مِنَ الْكِتابِ الجامع لجميع ما في الكتب السالفة الهادي للكل لكونهم موجودين عند نزوله سامعين الدعوة ممن انزل اليه صلّى الله عليه وسلّم كيف يحرمون أنفسهم عن هدايته الى حيث يَشْتَرُونَ ويختارون لأنفسهم الضَّلالَةَ بدل هدايته وَمع ذلك لا يقتصرون عليه بل يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اى يسدوا ويظلموا عليكم ايها المؤمنون السَّبِيلَ الواضح الموصل الى زلال الهداية بإلقاء الشبه الزائغة في قلوب ضعفائكم واظهار التكذيب وادعاء المخالفة بينه وبين الكتب المتقدمة وبالجملة لا تغتروا ايها المؤمنون بودادهم وتملقهم ولا تتخذوهم اولياء إذ هم اعداء لكم حقيقة
وَاللَّهُ الرقيب عليكم أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ فعليكم ان تفوضوا أموركم كلها اليه والتجؤا نحوه واستنصروا منه ليدفع مؤنة شرورهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا اى كفى الله وليا لأوليائه وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً لهم ينصرهم على أعدائه بان يغلبهم عليهم وينتقم عنهم سيما
مِنَ الَّذِينَ هادُوا نسبوا الى اليهودية ووسموا به وهم من غاية بغضهم مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدعون مخالفة القرآن بجميع الكتب السالفة لذلك يُحَرِّفُونَ ويغيرون الْكَلِمَ المنزلة في التورية في شأن القرآن وشأن بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عَنْ مَواضِعِهِ التي قد وضعها الحق سبحانه فيها بل يستبدلونها لفظا ومعنى مراء ومجادلة وَيَقُولُونَ حين دعاهم الرسول الى الايمان سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا أمرك وَاسْمَعْ منا في امر الدين كلاما غَيْرَ مُسْمَعٍ لك من احد وَبالجملة راعِنا واحسن رعايتنا لتستفيد منا وما يقصدون بأمثال هذه المزخرفات الباطلة الا لَيًّا اى اعراضا وصرفا للمؤمنين بِأَلْسِنَتِهِمْ عما توجهوا نحوه من التوحيد والايمان الى ما يشتهيه نفوسهم وَيريدون ان يوقعوا بها طَعْناً فِي الدِّينِ القويم والشرع المستقيم وَلَوْ أَنَّهُمْ كانوا من اهل الهداية ولهم نصيب منها قالُوا حين دعاهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم الى الإسلام سَمِعْنا قولك وَأَطَعْنا أمرك وَاسْمَعْ من وحى ربك من الاحكام واسمعها إيانا وَبالجملة انْظُرْنا بنظر الشفقة والمرحمة حتى نسترشد منك ونستهدي بهدايتك لَكانَ قولهم هذا خَيْراً لَهُمْ في أولاهم وأخراهم وَأَقْوَمَ اى اعدل سبيل الى التوحيد والايمان لو صدر عنهم هذا طوعا ورغبة وَلكِنْ قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ اى طردهم عن عز حضوره في سابق علمه بِكُفْرِهِمْ المركوز في جبلتهم فَلا يُؤْمِنُونَ منهم إِلَّا قَلِيلًا مما استثناهم الله سبحانه في علمه السابق.
ثم ناداهم سبحانه وأوعدهم رجاء ان يتنبهوا بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى التورية آمِنُوا بِما اى بالكتاب الجامع الذي قد نَزَّلْنا من كمال فضلنا وجودنا على محمد صلّى الله عليه وسلّم مع كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ اى لكتابكم مِنْ(1/154)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً اى آمنوا بكتابنا قبل ان نمحو وتضمحل مراتب انسانيتكم وادراككم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها قهقرى الى المرتبة الأرذل الأنزل قبل وصولكم الى مرتبة الكمال أَوْ نَلْعَنَهُمْ ونطردهم عن ساحة عز الوجوب الى مضيق الإمكان كَما لَعَنَّا طردنا ومسخنا أَصْحابَ السَّبْتِ بمخالفتهم الأمر الوجوبي باختراع الحيلة عن لوازم الانسانية مطلقا ورددناهم الى اخس المراتب وَلا تستبعدوا من الله القادر المقتدر على جميع ما يشاء أمثال هذا الطرد والأدبار إذ كانَ أَمْرُ اللَّهِ اى عموم ارادته المتعلقة بتكوين مراداته مَفْعُولًا مقضيا البتة بلا تخلف.
ثم قال سبحانه إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بكمال المجد والبهاء لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ اى لا يستر ولا يعفو عن انتقام الشرك به بإثبات الوجود لغيره وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ من الكبائر والصغائر لِمَنْ يَشاءُ من التائبين وغيرهم ان تعلق ارادته ثم قال تأكيدا وتحذيرا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الواحد القهار الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد شيأ من مظاهره بادعاء الوجود له اصالة واستقلالا فَقَدِ افْتَرى على الله المنزه عن مطلق المراء والافتراء واكتسب لنفسه إِثْماً عَظِيماً لا مخلص له عنه وعن ما يترتب عليه في النشأتين نعوذ بك منك ونستغفرك من ان نشرك بك شيأ من مظاهرك ونحن نعلم به ونستغفرك ايضا لما لا نعلم انك أنت علام الغيوب
أَلَمْ تَرَ ايها الرأى إِلَى القوم الَّذِينَ يُزَكُّونَ ويطهرون أَنْفُسَهُمْ بألسنتهم وألبستهم رياء وسمعة ويتفاخرون بها ويباهون عليها كيف وطنوا نفوسهم بهذا المزخرف الباطل ولم يتفطنوا ان العبد قلما يخلو عن الشرك الحلي فضلا عن الخفى وبالجملة لا يليق التزكية للعبد مطلقا سواء يزكى نفسه او غيره بَلِ اللَّهُ المطلع لأحوال عباده يُزَكِّي ويطهر بفضله مَنْ يَشاءُ من عباده والمراؤون المزكون لنفوسهم قولا بلا توافق أحوالهم وأعمالهم على مقالهم يعاقبون عليها على سواء وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا اى لا يزاد على انتقام ما اقترحوا مقدار حبل النواة وهو مثل في الصغر والحقارة
انْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ يَفْتَرُونَ أولئك المراؤون المزكون نفوسهم عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعائهم تزكية الله إياهم ترويجا لما عليه نفوسهم من التلبيس وَكَفى بِهِ اى بالمفترى هذا الافتراء إِثْماً مُبِيناً ظاهرا موجبا لانتقام عظيم من الله
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى المسرفين المفرطين الَّذِينَ يدعون انهم أُوتُوا نَصِيباً مِنَ علم الْكِتابِ التورية المبين لطريق التوحيد الموضح لسبيله كيف يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ اى الصنم الذي لا خير يرجى منه ولا شر يتوقع عنه ولا نفع فيه ولا ضر يترتب عليه وَالطَّاغُوتِ التي هي عبارة عن الآراء الباطلة والاهوية الفاسدة المؤدية الى الكفر والزندقة والى الإلحاد والميل عن طريق الرشاد ولو انهم في أنفسهم من اهل التوحيد ولهم نصيب من علم الكتاب النازل من عند الله لتبيين طريق التوحيد وتعليم اماراته لما آمنوا بأمثال هذه الأباطيل الزائغة الفاسدة المضلة عن طريق الحق والصراط المستقيم وما صدقوها وما انقادوا لها مطلقا ومع ضلالهم في أنفسهم يريدون إضلال غيرهم وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اى لضعفائهم واتباعهم هؤُلاءِ الضعفاء من إخواننا أَهْدى وأقوم مِنَ السفهاء الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد المدعى سَبِيلًا وانما يقولون أمثال هذه الخرافات استهانة منهم واستخفافا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقدحا وطعنا في دين الإسلام
وبالجملة أُولئِكَ البعداء المعزولون عن منهج الرشد. هم الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ اى طردهم عن ساحة عز قبوله وطرحهم الى(1/155)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
مضيق الإمكان بأنواع الخيبة والخسران وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ المنتقم المقتدر فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً يشفع له عنده سبحانه إذ لا غير معه ولا شيء سواه. أتعتقد وترى ايها المعتبر الرائي ان لهم حظا من الايمان ونصيبا من التوحيد والعرفان وليس لهم ذلك
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ والسلطنة الصورية والايالة المجازية فَإِذاً اى حين كانوا ملوكا متصرفين على وجه الأرض لا يُؤْتُونَ النَّاسَ اى الفقراء المحتاجين لوجه المعاش نَقِيراً منها بل لا قطميرا لنهاية شحهم وبخلهم
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعنى بل هم من شدة غيظهم مع المؤمنين المنظورين لله الناظرين بنوره سبحانه الى وجهه الكريم يحسدون عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الحكمة والنبوة والكتاب المبين وهم من غاية بخلهم وحسدهم يكذبونهم وكتابهم عنادا. وإذا أردت ان ترى ايها الرائي من لهم نصيب من الملك والكتاب فَقَدْ آتَيْنا اى فاعلم انا قد آتينا من محض فضلنا وجودنا آلَ إِبْراهِيمَ وذريته الذين من اجلتهم وصفوتهم محمد صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابَ المبين للشرائع والاحكام وَالْحِكْمَةَ اى السرائر المقتضية لتشريعها وَمع ذلك قد آتَيْناهُمْ في الدنيا مُلْكاً عَظِيماً اى استيلاء تاما وبسطة عالية ممتدة الى يوم القيمة
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ اى بنبوة آل ابراهيم وذريته وبعظمة ملكهم وبسطتهم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ اى اعرض ولم يؤمن عتوا وعنادا فلا تعجل يا أكمل الرسل بعقوبتهم وانتقامهم وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً اى كفى جهنم المسعرة المعدة لانتقامهم وتعذيبهم منتقما منهم على أقبح وجه وأشد تعذيب قل للمؤمنين يا أكمل الرسل نيابة عنا اخبارا لهم عن وخامة عاقبة هؤلاء المعرضين
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا كهؤلاء المدبرين المعاندين سَوْفَ نُصْلِيهِمْ وندخلهم ناراً مسعرة معدة لجزاء الغواة بحيث كُلَّما نَضِجَتْ اى فنيت واضمحلت وتلاشت جُلُودُهُمْ بإحراق نار الخذلان قد بَدَّلْناهُمْ من غاية قهرنا وانتقامنا إياهم جُلُوداً غَيْرَها مماثلة لما احترقت لِيَذُوقُوا الْعَذابَ اى يدوم لهم ذوقه وخذلانه ابدا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ الغيور المنتقم منهم كانَ عَزِيزاً غالبا على الانتقام حسب المرام حَكِيماً عادلا لا يظلم بالزيادة ولا يهمل بالنقصان.
ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ آمَنُوا بنا وبآياتنا ورسلنا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى أتوا بالأعمال المأمورة من لدنا سَنُدْخِلُهُمْ تفضلا عليهم وتكرما جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار اللذات الروحانية المترتبة على التجليات الرحمانية الغير المتناهية بحيث صاروا خالِدِينَ فِيها أَبَداً بلا انقطاع ولا انصرام ومع ذلك لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ صواحب وجلساء مصورة من مقتضيات الأسماء والصفات الإلهية يوانسونهم مُطَهَّرَةٌ عن ادناس الطبيعة مطلقا وَبالجملة نُدْخِلُهُمْ من غاية لطفنا إياهم ظِلًّا مروحا لقلوبهم ظَلِيلًا مروحا ممدودا لا يزول أصلا واعلموا ايها المبشرون بهذه البشارة العظمى
إِنَّ اللَّهَ المبشر لكم بأمثاله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا وتدفعوا الْأَماناتِ من الأموال والشهادات وسائر حقوق العباد من التربية والتكميل والهداية والإرشاد إِلى أَهْلِها ومستحقيها وَيأمركم ايضا انكم إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ اى المتخاصمين في الوقائع والخطوب أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ اى على وجه الإنصاف والسوية بلا ميل منكم الى جانب احد من المتخاصمين إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ اى نعم شيأ يعظكم به ويأمركم بامتثاله وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع على جميع حالاتكم قد كانَ سَمِيعاً لعموم أقوالكم بَصِيراً لجميع أعمالكم(1/156)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
وأفعالكم ونياتكم فيها بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا اكبر.
ثم قال سبحانه مناديا لأهل الايمان إيصاء لهم وتنبيها عليهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم اطاعة الله واطاعة رسوله أَطِيعُوا اللَّهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ الذي استخلفه من نفسه ليهديكم الى توحيده وَأطيعوا ايضا أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وهم الذين يقيمون شعائر الإسلام بين الأنام من الأمراء والحكام والقضاة المجتهدين في تنفيذ الاحكام واستنباطها فَإِنْ تَنازَعْتُمْ أنتم مع حكامكم فِي شَيْءٍ من امور الدين اهو موافق مطابق للشرع المتين او غير موافق فَرُدُّوهُ اى فراجعوا فيه إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ اى الى كتاب الله والى أحاديث رسوله بان اعرضوه عليهما واستنبطوه منهما إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ المجازى لاعمال عباده خيرا كان او شرا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد للجزاء ذلِكَ الرد والرجوع خَيْرٌ لكم من استبدادكم بعقولكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ومآلا من تأويلكم واحمد عاقبة مما تتخيلونه أنتم برأيكم
أَلَمْ تَرَ ايها الرسول المرسل الى كافة الأنام إِلَى المنافقين الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الفرقان الفارق بين الحق والباطل وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب المنزلة على اخوانك من الأنبياء عليهم السّلام ومع ادعائهم هذا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا ويتراجعوا في الخطوب والوقائع إِلَى الطَّاغُوتِ المضل عن مقتضى الايمان والكتب وَالحال انهم قَدْ أُمِرُوا في الكتب المنزلة أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ اى بالطاغوت وَما ذلك الا ان يُرِيدُ الشَّيْطانُ الذي هو رئيس الطواغيت أَنْ يُضِلَّهُمْ عن طريق الحق ضَلالًا بَعِيداً بمراحل عن الهداية الى حيث لا يرجى منهم الاهتداء أصلا
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح تَعالَوْا هلموا إِلى امتثال ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب الجامع لجميع الكتب المبينة لطريق الحق الهادية الى توحيده وَإِلَى متابعة الرَّسُولِ المبلغ الكاشف لكم أحكامه رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ الذين في قلوبهم مرض يَصُدُّونَ ويعرضون عَنْكَ وعن عظتك وتذكيرك يا أكمل الرسل صُدُوداً اى اعراضا ناشئا عن محض القساوة والعناد
فَكَيْفَ لا يكونون هؤلاء المفسدون منافقين مع انهم إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من نفاقهم مع المؤمنين وتحاكمهم نحو الطاغوت وعدم الرضاء بقضائك وحكمك ثُمَّ اى بعد ما أصيبوا جاؤُكَ معتذرين لك يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا اى ما قصدنا مما جرينا عليه إِلَّا إِحْساناً اى طلبا للخير من الله لإخواننا المؤمنين وَتَوْفِيقاً بينهم. عن ابن عباس رضى الله عنهما ان منافقا نازع يهوديا فدعاه اليهودي الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمنافق الى كعب بن الأشرف ثم بعد النزاع والجدال الكثير احتكما الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم الرسول عليه السّلام لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه فقال نتحاكم الى عمر رضى الله عنه فحضرا عنده فقال اليهودي لعمر رضى الله عنه قضا لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يرض فخاصم إليك فقال عمر للمنافق أهكذا قال نعم فقال مكانكما حتى اخرج فدخل بيته وأخذ سيفه فخرج فضرب به عنق المنافق فقال هكذا اقضى لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزل جبريل عليه السّلام وقال ان عمر رضى الله عنه قد فرق بين الحق والباطل فسمى الفاروق
وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المنهمكون في الغي والضلال هم الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق والشقاق فلا يغنى عنهم حلفهم الكاذب شيأ من عذاب الله فَأَعْرِضْ أنت ايضا عَنْهُمْ وعن حلفهم عند المؤمنين وَعِظْهُمْ في الخلوات بمقتضى(1/157)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
اشفاق مرتبة النبوة والرسالة وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حين كانوا منفردين عن المؤمنين قَوْلًا بَلِيغاً ليؤثر فيهم ويحرك فطرتهم الاصلية التي هم فطروا عليها رجاء ان يتفطنوا بالتوحيد ويتنبهوا بحقيته بتوفيق الله وجذب من جانبه
وَلا تستبعد يا أكمل الرسل أمثال هذا التوفيق منا إياهم إذ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ الى امة من الأمم الماضية إِلَّا لِيُطاعَ ويؤمن به ويمتثل بامره بِإِذْنِ اللَّهِ وعند تعلق ارادته بإطاعتهم له وايمانهم به وَلَوْ أَنَّهُمْ عن غاية جهلهم ونفاقهم إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالخروج عن اطاعتك وانقيادك عنادا جاؤُكَ تائبين معتذرين عما صدر عنهم فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ مخلصين نادمين وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ايضا بالاستشفاع والاستدعاء من الله بالقبول بعد ما جاءوا معتذرين لَوَجَدُوا اللَّهَ العفو الرءوف عطوفا البتة وصادفوه مفضلا كريما تَوَّاباً رَحِيماً يقبل توبتهم ويوفقهم عليها.
فَلا وَرَبِّكَ يعنى فوحق ربك وعظم شانه وسطوع برهانه لا يُؤْمِنُونَ بالله وبكتبه ورسله حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ايها المبعوث للكل فِيما شَجَرَ وحدث بَيْنَهُمْ اى في عموم وقائعهم وخطوبهم التي اختلفوا فيها ثُمَّ اى بعد ما حكموك لا يَجِدُوا حين راجعوا وجدانهم فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ضيقا واضطرابا وشكا وارتيابا مِمَّا قَضَيْتَ وحكمت به أنت وَبالجملة يُسَلِّمُوا حكمك وقضائك تَسْلِيماً ناشئا عن محض الإطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا إذ اطاعتك وانقيادك يا أكمل الرسل عين اطاعتنا وانقيادنا وهكذا نفاقك وشقاقك
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا اى لو فرضنا وأمرنا عَلَيْهِمْ حتما أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ في سبيلنا أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ المألوفة التي هي بقعة الإمكان طلبا لمرضاتنا ما فَعَلُوهُ اى المأمور به إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ الا وهم الموفقون المخلصون المبادرون الى الفناء في الله ليفوزوا بشرف بقائه ولقائه وَلَوْ أَنَّهُمْ من شدة تشوقهم وتعطشهم بمرتبة الفناء فيه سبحانه قد فَعَلُوا عموم ما يُوعَظُونَ ويؤمرون بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في أولاهم وأخراهم وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً لقدمهم في طريق التوحيد وصراط العرفان
وَإِذاً اى حين ثبتوا على طريق التوحيد أشد تثبيتا لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا تفضلا منا إياهم بلا صنع منهم أَجْراً عَظِيماً الا وهو الفوز بمرتبة الكشف والشهود
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يوصلهم الى وحدة ذاتنا بلا اعوجاج ولا انحراف اهدنا بلطفك صراطا مستقيما يوصلنا الى ذروة توحيدك يا هادي المضلين
وَاعلموا ايها المؤمنون مَنْ يُطِعِ اللَّهَ حق أطاعته سبحانه وَيطع الرَّسُولَ المستخلف عنه سبحانه فَأُولئِكَ المطيعون لله ولرسوله مصاحبون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الذين يجمعون بين مرتبتي الكمال والتكميل الفائزين بمقام الكشف والشهود بحيث لا يرون غير الله في الوجود لذلك يدبرون الأمور الجارية في العالم الظاهر والباطن وَالصِّدِّيقِينَ وهم الذين يصلون الى مقام المشاهدة ويتحيرون في مطالعة وجه الله الكريم الى حيث لا يلتفتون الى الكمال والتكميل بل يهيمون ويستغرقون من كمال شوقهم وحضورهم وَالشُّهَداءِ وهم الذين يرفعون حجب انانيتهم ومزاحمة هويتهم عن البين مطلقا وَالصَّالِحِينَ وهم الذين يستعدون نفوسهم لفيضان المراتب السابقة لهم في علم الله ولوح قضائه ويترصدون لها ايمانا واحتسابا وَبالجملة قد حَسُنَ أُولئِكَ المقربون المجتهدون المجاهدون في طريق التوحيد حسب مقدورهم رَفِيقاً شفيقا للسالكين المتوجهين نحوه
ذلِكَ الْفَضْلُ والهداية والرفاقة مع هؤلاء الأمناء العظام والكبراء الكرام والتفضل والانعام كرامة مِنَ اللَّهِ المفضل الكريم وامتنانا من لدنه بلا تصنع(1/158)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
للعباد فيه ولا علم لاحد منا في كميته وكيفيته وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً في عموم مقدوراته وموهوباته هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب ومن أجل اسباب المرافقة مع هؤلاء المقربين الجهاد لذلك أمرهم سبحانه بتهيئة أسبابه والتهيئ له فقال مناديا لهم اهتماما بشأن الجهاد
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ترويج دينكم ونصرة نبيكم خُذُوا حِذْرَكُمْ اى عدتكم التي أنتم بها تحذرون عن العدو واستعدوا للقتال وبعد ما تم اعدادكم فَانْفِرُوا واخرجوا قبل العدو ثُباتٍ فرقة بعد فرقة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مجتمعين مختلطين إذ الاجتماع ادخل في المهابة
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ان أناسا منكم ليتكاسلن ويتثاقلن في الاقدام على الجهاد لنفاقهم ومرض قلوبهم فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قتل وهزيمة قالَ المنافق المتكاسل قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بسبب البطء والتأخير إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً حاضرا ليصيبني ما أصابهم
وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ظفر وغنم لَيَقُولَنَّ متمنيا من فرط تحسره وتحسده بكم كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ من الله يعنى كتحسر الأعداء للأعداء يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً كما فاز هؤلاء.
ثم ان ابطأ المنافقون في امر القتال وتكاسلوا فيه لمرض قلوبهم فَلْيُقاتِلْ المؤمنون المخلصون المبادرون الى الفناء فِي سَبِيلِ اللَّهِ ألا وهم الَّذِينَ يَشْرُونَ ويستبدلون الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ويبيعونها بها ابتغاء لمرضاة الله تعالى وَبالجملة مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ترويجا لدينه وإعلاء لكلمة توحيده مع المشركين المعاندين المصرين على الشرك فَيُقْتَلْ في أيديهم أَوْ يَغْلِبْ عليهم فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ من لدنا أَجْراً عَظِيماً تفضلا وإحسانا لا كأجور الدنيا ولا كأجور الآخرة المترتبة على الأعمال الصالحة إذ شهداءهم احياء عند الله واصلون اليه فرحون بما آتاهم الله من فضله والغزاة منهم في حمى الله وكنف حفظه وجواره
وَماذا عرض ولحق لَكُمْ ايها المؤمنون المبشرون بهذه البشارة العظمى لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع اعداء الله ورسوله وَلا تنقذون الإسراء الْمُسْتَضْعَفِينَ منكم من أيديهم مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ قد بقوا في مكة أسارى بعد الهجرة فآذوهم أهلها واستذلوهم الى ان استعبدوهم. وهم الذين يَقُولُونَ من غاية حزنهم واسفهم ونهاية مذلتهم وضعفهم متضرعين الى الله مشتكين نحوه رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها إذ لا طاقة لنا بظلمهم وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يولى أمورنا وينقذنا من أيدي هؤلاء الغواة والطغاة ويخرجنا من بينهم سالمين وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً يا ربنا ينصرنا عليهم لننتقم عنهم فاستجاب الله دعاءهم بان الحق بعضهم الى المهاجرين ونصر بعضهم بالنبي والمؤمنين حين فتحوا مكة شرفها الله فوصلوا الى ما طلبوا من الله
واعلموا ايها المكلفون الَّذِينَ آمَنُوا بالله يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تقربا اليه وطلبا لمرضاته وترويجا لدينه ونصرة على نبيه المبعوث لإعلاء كلمة توحيده فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ المضل عن طريق الحق وسبيل الهداية الى متابعة الشيطان وموالاته فلهم عذاب اليم لا عذاب أشد ايلاما منه فَقاتِلُوا ايها المؤمنون المخلصون بنصر الله أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ولا تبالوا بعددهم وعددهم إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ ومكره بالنسبة الى كيد الله ومكره قد كانَ ضَعِيفاً بحيث لا عبرة له ولا تأثير أصلا
أَلَمْ تَرَ إِلَى المؤمنين الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ عند ضعفهم ورثاثة حالهم حين كانوا في مكة قبل الهجرة يريدون ان يقاتلوا كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن القتال الى ان يأذن الله(1/159)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
لكم به ويرد الأمر عليه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ اى داوموا على الميل والتوجه المقرب لكم نحو الحق بجميع الأعضاء والجوارح وَآتُوا الزَّكاةَ المصفية لأموالكم ولنفوسكم عن الميل الى زخرفة الدنيا وحطامها وانتظروا للأمر الإلهي المتعلق بالقتال والجهاد فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ونزل الوحى بعد ما قوى حالهم وزال ضعفهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ لضعف اعتقادهم وقلة وثوقهم واعتمادهم بنصر الله وتأييده يَخْشَوْنَ النَّاسَ ويخافون من الكفار كَخَشْيَةِ اللَّهِ اى مثل خوفهم من الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً يعنى بل خشيتهم من الناس أشد من خشيتهم من الله لوهن اعتقادهم وضعف اعتمادهم على الله ونصره وعونه إذ هم في أوائل ظهور الإسلام كانوا متزلزلين بحيث لا يصفو يقينهم عن شوب الظن والتخمين وَمن عدم وثوقهم وشدة تذبذبهم وتزلزلهم قالُوا حين سمعوا نزول امر القتال مسوفين مستأخرين رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ مع انا بعد باقون على ضعفنا لَوْلا وهلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يزداد فيه قوتنا ويكثر شوكتنا وعدتنا وانما قالوا ما قالوا خوفا من إلمام الموت وفوات المال قُلْ لهم يا أكمل الرسل تذكيرا وتنبيها مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وعمره قصير بالنسبة الى ما عند الله من العطاء الغير المجذوذ وشرف اللقاء وَبالجملة الْآخِرَةُ المعدة للجزاء والعطاء خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وحفظ نفسه عما يشغله عن لقائه وعطائه سبحانه وَاعلموا ايها المؤمنون انكم لا تُظْلَمُونَ اى لا تنقصون ولا تهملون مما قدر لكم الحق في لوح قضائه فَتِيلًا اى مقدار فتيل النواة واعلموا ايضا ان تسويفكم وتأخيركم هذا لا يفيدكم نفعا في حلول الأجل ونزوله بل وقته مبهم وامره مبرم وحكمه محكم
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ عند انقضاء الأجل المقدر للحياة من لدنه سبحانه وَلَوْ كُنْتُمْ أنتم متحصنين فِي بُرُوجٍ قلاع وحصون مُشَيَّدَةٍ بأنواع التجصيصات والتشييدات والتحصينات إذ لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه بل الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ارادة واختيارا وَمن غاية تزلزلهم وتذبذبهم وعدم رسوخهم وتقررهم في جادة التوحيد واليقين إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ فتح وغنيمة تسر بها نفوسهم وتنبسط بها قلوبهم يَقُولُوا فرحين هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تفضلا علينا وامتنانا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بلية واختبار بها تنقبض نفوسهم وتتألم قلوبهم يَقُولُوا متطيرين هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ اى أضافوها إليك يا أكمل الرسل متشأمين بك كما تشأمت اليهود حيث قالوا منذ دخل محمد صلّى الله عليه وسلّم المدينة قد نقصت ثمارها وغلت أسعارها قُلْ لهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة والإيقان كُلٌّ من الحوادث الكائنة سواء كانت مفرحة او مملة مقبضة او مبسطة نازلة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حسب قدرته وارادته لا يسأل عن فعله ولا يشارك في امره بل له التصرف مطلقا في ملكه وملكوته فَماذا عرض اى اى شيء لحق لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ المنحطين عن درجة التوحيد والعرفان لا يَكادُونَ ولا يقربون يَفْقَهُونَ يعلمون ويفهمون حَدِيثاً في ملكه وملكوته واضحا جليا يخلصهم عن التزلزل والتردد المترتب على الإضافات المنافية لصفاء التوحيد ولو انهم من اهل التدبر والتأمل في سرائر كلام الله ومرموزاته لفتح الله عليهم منه ما يخلصهم عن دغدغة الكثرة مطلقا فكيف عن إضافات الحسنة والسيئة. ثم لما أراد سبحانه ان ينبه على خلص عباده طريق توحيده وان ظهوره سبحانه في عموم مظاهره خير محض ونفع صرف وان الشر الموهوم انما يحصل من الاضافة المعدومة العارضة بسبب التعينات العدمية فقال مخاطبا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم لان تحمل أمثال هذه(1/160)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
الخطابات: الصادرة عن محض الحكمة المتقنة انما يليق بجنابه ليصل منه الى أمته
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ مسرة لنفسك يا أكمل الرسل فَمِنَ اللَّهِ وعلى مقتضى سنته وجرى عادته وظهوره على مظاهره بأنواع الخير والحسنى وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ محزنة مملة لنفسك فَمِنْ نَفْسِكَ تظهر ومن اضافتك تحصل وإلا فكل ما ظهر في فضاء الوجود خير كله إذ لا شر في الوجود أصلا بل هو انما يحصل من الإضافات الحاصلة من الكثرة وَاعلم انا قد أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل هاديا لِلنَّاسِ رَسُولًا منبها نبه لهم ما نبهت به من لدنا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ارسالك وتبليغك نبه وبلغ جميع ما أرسلت به ونبهت عليه على من أرسلت إليهم وما عليك الا البلاغ المبين
ثم قال سبحانه مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ويؤمن به ويصدقه بعموم ما جاء به من عند ربه فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه المظهر الكامل الجامع لجميع أوصافه وأسمائه تعالى وللمظهر الكامل حكم الظاهر فيه وَمَنْ تَوَلَّى واعرض عن اطاعتك اعرض أنت ايضا عنهم ولا تلتفت نحوهم فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظهم عما يشينهم بل ما أرسلناك الا مبلغا لهم وحى الله داعيا لهم الى طريق الحق وصراط توحيده باذنه
وَممن يحوم حولك يا أكمل الرسل من المنافقين قوم إذا امرتهم بامتثال امر الله يَقُولُونَ في جوابك طاعَةٌ اى اطاعة وامتثال منا لعموم ما أمرت به فَإِذا بَرَزُوا وخرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ اى افترت وزورت ولبست غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ عندك او قلت لهم وَبالجملة اللَّهُ المجازى لهم والمحاسب عليهم أعمالهم يَكْتُبُ في صحائفهم ويجازيهم بمقتضى ما يُبَيِّتُونَ ويزورون فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تبال بإطاعتهم وقبولهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في جميع الأمور واتخذه وليا ونصيرا في عموم الأحوال وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكفيك مؤنة ضرهم وشرهم وينتقم لك منهم. ومن جملة نفاقهم وشقاقهم انهم يطعنون في القرآن بأنواع المطاعن تارة ينسبونه الى غير الله وتارة يكذبونه وتارة يقولون هو من أساطير الأولين
أَيترددون أولئك الحمقاء في امره ويطعنون في شانه فَلا يَتَدَبَّرُونَ ولا يتأملون الْقُرْآنَ لفظا ومعنى ظهرا وبطنا دلالة وحكما اقتضاء ونصا اشارة وإيماء تلويحا ورمزا حتى يتفطنوا انه ما هو من جنس كلام البشر وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ اى من جنس كلام البشر لَوَجَدُوا فِيهِ البتة اخْتِلافاً كَثِيراً حسب تفاوت درجات اشخاص البشر
وَمن ضعفة المؤمنين قوم إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ موجبات الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ اى أفشوه ونشروه سواء كان مطابقا للواقع او اراجيف كاذبة ولحق للمسلمين بسبب تلك الإذاعة والاشاعة ما لا يليق بشأنهم وَلَوْ انهم حين سمعوا الخبر رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ اى اصحاب الرأى والتدبير مِنْهُمْ ليتأملوا فيه ويتبصروا لَعَلِمَهُ ولاستخرج له البتة المجتهدون والمجاهدون الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ويستخرجون له ولأمثاله مِنْهُمْ ومن علمائهم وجها وجيها موجبا للافشاء او الأسرار ولكان اولى وأليق بحالهم هذا. وبالجملة لا تغتروا ايها المؤمنون بعقولكم ولا تستبدوا بآرائكم وَاعلموا انه لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بإرسال الرسل فيكم وإنزال الكتب عليكم وَرَحْمَتُهُ الشاملة بكم بتوفيقكم على الايمان ومتابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لَاتَّبَعْتُمُ أنتم بأجمعكم البتة الشَّيْطانَ المغوى المضل عن طريق الحق إِلَّا قَلِيلًا منكم. الا وهم الذين استثناهم الله سبحانه في سابق علمه تفضلا عليهم وامتنانا. وبالجملة ان انصرفوا عنك يا أكمل الرسل بالمرة وانفضوا عن حولك بالكلية
فَقاتِلْ أنت يا أكمل الرسل وحدك منفردا بنفسك فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذ لا تُكَلَّفُ(1/161)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
إِلَّا نَفْسَكَ ولا تحمل أعباء الرسالة الا عليك فعليك ان تشمر ذيلك بنفسك لأمر الجهاد بلا مبالاة بإعانة احد منهم وانتصارهم ولا بتقاعدهم وانتشارهم فان الله ناصرك ومعينك لا الجنود والأحزاب يكفيك مؤنة عموم أعدائك ويكف عنك شرورهم وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ورغبهم على القتال إذ ما عليك الا الترغيب والتبليغ سواء قبلوا او لم يقبلوا ولا تخف من كثرة المشركين وشوكتهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ اى يمحو عن قلبك بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى قريشا وَاللَّهُ المنتقم المقتدر بالقدرة التامة الكاملة أَشَدُّ بَأْساً هيبة ومهابة وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا وتعذيبا من هؤلاء الغواة الطغاة يكفيك مؤنة شرورهم عن قريب وقد كفاه بان القى في قلوبهم الرعب فرجعوا خائبين خاسرين
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يراعى بها حق الله وحقوق عباده ويرغبهم بها على الخير ويبعدهم بها عن الشر خالصا لرضا الله بلا تغرير لنفسه او جلب نفع لها او دفع ضر عنها يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها اى من ثواب الشفاعة التي تسبب لها. والدعاء الخير للأخ المسلم من هذا القبيل. قال عليه السّلام من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يحمل بها عباد الله الى ارتكاب محرم او يوقعهم في فتنة وبلية يَكُنْ لَهُ ايضا كِفْلٌ ونصيب مِنْها ومن أوزارها وآثامها المترتبة عليها مثل فاعلها بل أزيد منه وَكانَ اللَّهُ المجازى لعباده عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الحسنة والسيئة مُقِيتاً مقتدرا على جزاء كل منهما فضلا وعدلا
وَإِذا حُيِّيتُمْ ايها المؤمنون بِتَحِيَّةٍ ناشئة من أخيكم المسلم فَحَيُّوا أنتم بِأَحْسَنَ مِنْها وزيدوا عليها وفاء لحق المبادرة أَوْ رُدُّوها كمثلها بلا نقصان شيء منها وفاء لحق المروءة والمواخاة إِنَّ اللَّهَ المراقب لعموم حالاتكم كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ صدر عنكم من خير وشر ونفع وضر حَسِيباً يحاسبكم بلا فوت شيء ويجازيكم على مقتضى حسابه
اللَّهُ المطلع لجميع مراتب الأسماء الموجدة المرتبة لمسمياتكم وهو يأتكم لا إِلهَ اى لا موجد ولا مربى لكم في الوجود إِلَّا هُوَ الحي القيوم الذي لا يعرض له التغير مطلقا لَيَجْمَعَنَّكُمْ وليحشرنكم من قبور تعيناتكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ التي قد عرضتم فيها الى الله وحشرتم نحوه منسلخين عن هوياتكم الباطلة لا رَيْبَ فِيهِ اى في يوم حلول القيمة وجمعكم فيه فلكم بعد ما أخبرتم ان تصدقوه وتؤمنوا له سيما قد اخبر الله به وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً حتى تصدقوا حديثه وتؤمنوا له فعليكم ان لا تخالفوا حكم الله وامره سيما بعد وروده.
وإذا كان الأمر على هذا فَما لَكُمْ واى شيء عرض لكم ايها المؤمنون فِي شأن الْمُنافِقِينَ حتى تكونوا فِئَتَيْنِ وفرقتين لم لم تتفقوا على كفرهم وشركهم وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ اى والحال انه سبحانه قد قلبهم وردهم الى كفرهم بِما كَسَبُوا لأنفسهم من شؤم الشرك بالله العياذ بالله والبغض مع رسوله والنفاق مع المؤمنين أَتُرِيدُونَ بهذا التفرق والتردد في أمرهم أَنْ تَهْدُوا وترشدوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وتخالفوا حكمه كأنكم لم تصدقوه سبحانه وَاعلم ايها الرسول الكامل في امر الرسالة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ويبعده عن نور الايمان والهداية فَلَنْ تَجِدَ أنت مع كونك مأذونا بالشفاعة لَهُ سَبِيلًا الى الهداية فضلا عن ان يجده غيرك
وبالجملة هم من غاية بغضهم معكم ايها المؤمنون وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ اى تمنوا كفركم كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ أنتم معهم سَواءً في الكفر والضلال والبعد من جوار الله وكنف حفظه وحضانته وإذا كان الأمر على هذا فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ اى من أعدائكم(1/162)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
أَوْلِياءَ توالونهم وتوادونهم حَتَّى يُهاجِرُوا اى الى ان يسلموا ويهاجروا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ويبعدوا عن ديارهم وعشائرهم تقربا الى الله وتوجها الى رسوله فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن الإسلام والتقرب الى الله بعد ما هاجروا عن ديارهم فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ كسائر المشركين وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ اى من هؤلاء المهاجرين المصرين على شركهم وكفرهم وَلِيًّا توالونه وَلا نَصِيراً تنتصرون به فعليكم ان تجانبوهم وتتركوا ولايتهم وودادتهم
إِلَّا المهاجرين الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ غليظ وعهد وثيق على ان لا تستعينوا منهم ولا تعينوا عليهم والواصلون إليهم هم في حكمهم وعلى عهدهم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم حتى ينقضوا الميثاق أَوْ جاؤُكُمْ حال كونهم قد حَصِرَتْ ضاقت وانقبضت صُدُورُهُمْ من الرعب والمهابة وحينئذ كره لكم 3 ولم يؤذن أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ لان المروة تأبى عن ذلك حينئذ لأنهم ليسوا على عدة القتال فعليكم ان لا تبادروا اليه إذ القتال انما فرض مع المقاتلين المجترئين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ قتالكم لَسَلَّطَهُمْ وجرأهم عَلَيْكُمْ وأزال رعبهم عنكم فَلَقاتَلُوكُمْ ولم ينصرفوا عنكم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ وانصرفوا عنكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ ولم يتعرضوا لكم وَمع ذلك أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ اى الاستسلام والانقياد فَما جَعَلَ اللَّهُ الميسر لَكُمْ جميع أموركم عَلَيْهِمْ اى على قتلهم واسرهم سَبِيلًا بل اصبروا حتى يأذن الله لكم
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ من الكفار يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ بإظهار الهدنة والمحبة غيلة والاستسلام وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ايضا عن شركم وقتالكم هم عدو لكم لا تغفلوا عنهم وعن هجومهم بغتة وغيلة إذ هم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ اى الكفر والعدوان أُرْكِسُوا فِيها وعادوا إليها وصاروا على ما كانوا بل أشد منهم فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ إظهارا لودادتكم وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ تخديعا لكم وتأمينا وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم تغريرا لكم حتى يعدوا ويهيئوا أسبابهم فَخُذُوهُمْ واسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وصادفتموهم في داركم او دارهم وَأُولئِكُمْ المخادعون المزورون الذين يغرونكم بمكرهم وخداعهم قد جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ اى على أخذهم وقتلهم سُلْطاناً مُبِيناً وحجة واضحة فعليكم ان لا تبالوا بدعواهم المحبة ولا تغتروا بصلحهم وكفهم والقائهم السلم إذ هم من غاية بغضهم معكم يريدون ان يخدعوكم وينتهزوا الفرصة لمقتكم
وَما كانَ وما صح وما جاز لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً قصدا واختيارا مطلقا إِلَّا إذا صدر عنه القتل خَطَأً بلا تعمد وقصد وَمَنْ قَتَلَ منكم مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ اى قد لزم عليه شرعا تحرير رقبة متصفة بالإيمان محكومة به ليكون كفارة مسقطة لحق الله وَلزم عليه ايضا دِيَةٌ كاملة مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وورثته الذين يرثون منه حفظا لحقوقهم وجبرا لما انكسر من قلوبهم إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا اى يسقطوا حقوقهم متصدقين فَإِنْ كانَ المقتول مَنْ عداد قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ عداوة دينية وَهُوَ اى المقتول مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ اى فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة فقط إذ لا مواساة حينئذ مع اهله ولا وراثة لهم منه وَإِنْ كانَ المؤمن المقتول مِنْ قَوْمٍ ذوى ذمة بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وعهد وثيق فَدِيَةٌ اى فاللازم حينئذ دية كاملة مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ حفظا للميثاق ومواساة معهم رجاء ان يؤمنوا إذ سر الوفاء على المواثيق والعهود الواقعة بين اهل الايمان والكفر انما هو المواساة والمداراة(1/163)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
معهم ملاطفة رجاء ان يرغبوا الى الايمان طوعا وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لإسقاط حق الله وجبر ما انكسر من حدوده فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة مملوكة ولا ما يتوصل به إليها فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ اى يلزم عليه شرعا ان يصوم شهرين كاملين على التوالي بلا فصل كسرا لما جرأه على هذا الخطأ وليكون تَوْبَةً وندامة مقبولة عند الله مكفرة لخطئه ناشئة مَنْ خوف اللَّهِ وخشيته لاجترائه على تخريب بيته وَكانَ اللَّهُ المطلع بضمائر عباده عَلِيماً بحالهم وقت انابتهم ورجوعهم حَكِيماً فيما أمرهم به وحكمه عليهم لازالة ما صدر عنهم
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً مباشرا على قتله ارادة واختيارا. والعمد على هذا الوجه من امارات الاستحلال فَجَزاؤُهُ اى جزاء المستحل ووبال وزره لا يسقط عنه لا بالتحرير ولا بالدية ولا بالصوم ولا بالصدقة بل ما جزاؤه الا جَهَنَّمُ البعد عن جوار الله بحيث يصير خالِداً فِيها مؤبدا الى ما شاء الله وَمع خلوده في جحيم الخذلان وسعير الحرمان قد غَضِبَ اللَّهُ المنتقم الغيور عَلَيْهِ دائما اى اخذله واخزاه بأنواع المذلة والخزي والهوان وَلَعَنَهُ اى طرده عن ساحة عز حضوره واسقطه عن مرتبة خلافته وَأَعَدَّ لَهُ
وهيأ لأجله عَذاباً عَظِيماً بحيث لا يصفو معه ابدا ولا ينظر اليه بنظر الرحمة والمغفرة أصلا. نعوذ بك من غضبك وسخطك يا ارحم الراحمين ومن عظم امر القتل عند الله وازالة الحيوة التي قد حصلت من نفخ الروح الذي قد اضافه الحق الى نفسه امر سبحانه على المؤمنين الذين يقصدون بالقتال والجهاد رضا الله وإعلاء دينه وترويج كلمة توحيده بالتبيين والتفتيش فيه على وجه المبالغة حتى لا يؤدى الى تخريب بنائه سبحانه وابطال صنعه بلا رخصة شرعية
فقال مناديا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم إِذا ضَرَبْتُمْ وسافرتم للجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة توحيده وانتصار دينه ونبيه فَتَبَيَّنُوا اى فاطلبوا بيان الأمر ووضوح الحال من كل من استقبل عليكم ولا تبادروا الى قتل احد بغتة بلا تفتيش حاله وَخصوصا لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ اظهر الإطاعة والانقياد لَسْتَ مُؤْمِناً بمجرد إلقاء السّلام واظهار الوفاق بل ما أنت الا كافر مداهن خائف تبادر علينا بالاطاعة والايمان حفظا لدمك ومالك وأنتم تقولون له هكذا حال كونكم تَبْتَغُونَ وتطلبون بهذا القول عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا اى متاعها التي هي حطام زائلة وأثاث باطلة فَعِنْدَ اللَّهِ لكم ان امتثلتم لأمره ورضيتم لحكمه مَغانِمُ كَثِيرَةٌ مما يتلذذ به نفوسكم وقلوبكم يغنيكم عن حطام الدنيا ومزخرفاتها بادروا إليها ولا تميلوا الى لذات الدنيا الفانية كَذلِكَ اى مثل من القى إليكم السلم قد كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فيما مضى اى قبل رسوخكم على الايمان وقبل اطمينانكم على شعائر الإسلام قد تفوهتم أنتم ايضا بكلمتي الشهادة وأظهرتم الايمان والإطاعة لحفظ دمائكم وأموالكم بلا ملكة ورسوخ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالتمكن والاطمينان والعزيمة الصحيحة والاستقامة التامة الكاملة في شعائر الإسلام فَتَبَيَّنُوا أنتم ايضا عن حالهم واقبلوا منهم ما قالوا كما قبل الله منكم من قبل رجاء ان يكشفوا بما كوشفتم إِنَّ اللَّهَ المطلع بسرائركم وضمائركم قد كانَ في سابق علمه بِما تَعْمَلُونَ من الأغراض المؤدية الى الحطام الدنية الدنيوية خَبِيراً عليما لا يعزب عن علمه وخبرته شيء. روى ان سرية من اصحاب رسول الله غزت اهل فدك فهربوا وبقي فيها مرداس اعتمادا على إسلامه فلما رأى الخيل الجأ غنمه الى شعب الجبل وصعد عليه فلما تلاحقوا كبروا وكبر ايضا ونزل وقال لا اله الا الله(1/164)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
محمد رسول الله السّلام عليكم يا اصحاب رسول الله مرحبا بكم وبقدومكم فقتله اسامة وساق غنمه فنزلت
ثم قال سبحانه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن الحرب مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حال كونهم غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ من الهرم والمرض والزمانة وغيرها وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ابتغاء لوجه الله وطلبا لمرضاته بل قد فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً بل درجات عظيمة وفاء لحق ما اجتهدوا في سبيله وَان كُلًّا منهم ممن قد وَعَدَ اللَّهُ لهم المثوبة الْحُسْنى والمرتبة العظمى والدرجة العليا وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ زيادة عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً هو الفوز بمرتبة الشهادة
وقد فضل الله لهم في تلك المرتبة دَرَجاتٍ مِنْهُ بعضها قريب وبعضها اقرب الى ما شاء الله وَمَغْفِرَةً لذنوبهم بالمرة كيوم الولادة وَرَحْمَةً خاصة لهم بان يكونوا احياء عند ربهم وفي كنف جواره يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله وَكانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده غَفُوراً لذنوبهم رَحِيماً لهم يرحمهم حسب فضله وطوله.
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وهم الذين بقوا في مكة ولم يهاجروا مع رسول الله ولا بعده فاستذلهم العدو وأخرجوهم الى قتال رسول الله يوم بدر فقتلهم الملائكة حين امدادهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بتوطينها بين العدو مع القدرة على الهجرة مع انه حينئذ لا يقبل منهم الايمان بلا هجرة ثم نسخ بعد الفتح لذلك قال عليه الإسلام لا هجرة بعد الفتح قالُوا اى الملائكة لهم حين أظهروا الايمان بمحمد عليه السّلام يوم بدر فِيمَ كُنْتُمْ في اى امر وشأن من دينكم مع كونكم بين اعداء الله واعداء رسوله قالُوا في جوابهم معتذرين قد كُنَّا يومئذ مُسْتَضْعَفِينَ محبوسين فِي الْأَرْضِ اى ارض العدو حتى استذلونا وأخرجونا الى قتال رسول الله قالُوا اى الملائكة موبخين لهم مقرعين عليهم تبكيتا وإلزاما أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها مع كونكم غير ملجئين على القعود وبالجملة فَأُولئِكَ البعداء المداهنون مع الأعداء المظاهرون لهم مَأْواهُمْ ومثواهم جَهَنَّمُ البعد عن جوار الله وسعة رحمته وَساءَتْ جهنم مَصِيراً مآبا ومنقلبا لهم
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ الذين قد استضعفهم المرض او الهرم او عدم المكنة وَالنِّساءِ لأنهن لسن مكلفات بالهجرة الا مع أزواجهن وَالْوِلْدانِ وهم ليسوا من اهل التكليف وبالجملة المستضعفون هم الذين لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً اى لا يقدرون على احداث حيلة تنجيهم عن أعدائهم وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا يوصلهم الى أوليائهم حتى يهاجروا
فَأُولئِكَ المضطرون في امر الهجرة المستضعفون في يد العدو عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ اى يمحو عن صحائف أعمالهم زلاتهم الاضطرارية ويغفر ذنوبهم كسائر المؤمنين ان كانوا مخلصين في الايمان وَكانَ اللَّهُ المطلع بسرائر عباده ونياتهم عَفُوًّا لمن أخلص غَفُوراً لمن تاب ورجع
وَمَنْ يُهاجِرْ عن بقعة الإمكان التي هي ارض الطبيعة سالكا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو صراط الله الأقوم الموصل الى الفناء فيه سبحانه متوجها الى الفوز ببقائه الأزلي السرمدي يَجِدْ فِي الْأَرْضِ اى ارض الطبيعة مُراغَماً كَثِيراً اى بوادي واودية من اللذات الوهمية قد كثر وقوعه فيها الى ان ينجو وَيجد ايضا سَعَةً اى مخرجا من تلك المضايق حسب إخلاصه في سلوكه الى ان يفوز بمطلوبه وَبالجملة مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ اى عن بلد بنيته وديار هويته الباطلة في نفسها(1/165)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
حال كونه مُهاجِراً إِلَى توحيد اللَّهِ وَمتابعة رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ الإرادي فمات عن لوازم بشريته وانسلخ منها مطلقا فَقَدْ وصل الى الله ووَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ كما قال سبحانه في الحديث القدسي من أحبني أحببته ومن أحببته قتلته ومن قتلته فعلى ديته ومن على ديته فانا ديته. ومن هذا تفطن العارف ان ليس وراء الله مرمى ومنتهى وإياك إياك ان تتقيد بهويتك ولوازمها ومتى تخلصت عنها وعن لوازمها فقد وصلت الى ما وصلت بل اتصلت وَكانَ اللَّهُ المرشد لعباده الى توحيده الذاتي غَفُوراً لذنوب انانياتهم العاطلة وهوياتهم الباطلة رَحِيماً لهم يوصلهم الى نهاية ما يتوجهون اليه
ثم قال سبحانه وَإِذا ضَرَبْتُمْ وسافرتم فِي الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة لا لمعصية دنيوية بل لمصلحة دينية من غزو او تجارة او حج او صلة او طلب علم او غير ذلك فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اى ضيق لكم ووزر أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ الرباعية ركعتين سيما إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالاحتيال والاغتيال عليكم إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ دائما عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة مترصدين للفرصة
وَإِذا كُنْتَ يا أكمل الرسل فِيهِمْ اى في المؤمنين فَأَقَمْتَ أنت لَهُمُ الصَّلاةَ اى قد كنت أنت اماما لهم مقتدا به فرقهم أولا طائفتين فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ متابعين لك مؤتمين بك وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اى جميعها احتياطا فَإِذا سَجَدُوا اى هؤلاء المؤتمون فَلْيَكُونُوا اى الطائفة الاخرى مِنْ وَرائِكُمْ حارسين حافظين لكم وَلْتَأْتِ بعد ما صلوا هؤلاء طائِفَةٌ أُخْرى منهم وهم لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ كما صلوا وَلْيَأْخُذُوا معهم حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ كما أخذوا فليكن المصلون من ورائكم كما كانوا فيصلى الامام صلاة الخوف مرتين مع الطائفتين ويوزعها عليهما على الوجه الذي بينه الفقهاء فعليكم ايها المؤمنون ان لا تغفلوا من العدو سيما عند شدة الخوف إذ قد وَدَّ وتمنى القوم الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ أنتم عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ بصلاة ونحوها فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ بغتة مَيْلَةً واحِدَةً فيصادفونكم عزلا لا سلاح معكم فيستأصلونكم بالمرة وَليس هذا الأمر للوجوب بل لا جُناحَ ولا ضيق ولا حرج عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ وغيره أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى يشق عليكم أخذها أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ لدفع الحرج وَخُذُوا حين وضعها حِذْرَكُمْ اى من حذركم مقدار ما تحذرتم به ان ألمّوا عليكم بغتة إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانتقام قد أَعَدَّ وهيأ لِلْكافِرِينَ به وبرسوله عَذاباً مُهِيناً بأيدي المؤمنين حيث يغلبهم ويذلهم وانما وعد سبحانه للمؤمنين النصر والظفر بعد ما أمرهم بالاحتياط والتيقظ لئلا ييأسوا من عون الله ونصره
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ عند الخوف على الوجه المأمور فَاذْكُرُوا اللَّهَ بعد الفراغ منها قِياماً قائمين وَقُعُوداً قاعدين وَعَلى جُنُوبِكُمْ مضطجعين جبرا لما فوتم من أركانها وأبعاضها وآدابها حالة اضطرابكم واضطراركم فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ وزال خوفكم وارتفع رعبكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ واتموها وأدوها مراعين جميع شرائطها وآدابها محافظين عليها مهتمين بشأنها إِنَّ الصَّلاةَ المقربة لكم الى ربكم قد كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدانية الله المتوجهين نحو فردانيته بجميع الأعضاء والجوارح كِتاباً مَوْقُوتاً اى فرضا موقتا محدودا لازم الأداء لكل مكلف جبل على نشأة التوحيد
وَلا تَهِنُوا ولا تضعفوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ اى في وقت طلب الكفار قتالكم(1/166)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
إذ هم أمثالكم إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ ايضا يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وفائدة القتال وَربحه عائد بكم إذ أنتم تَرْجُونَ مِنَ فضل اللَّهِ بانتصار دينه وإعلاء كلمته ما لا يَرْجُونَ أولئك المسرفون المفسدون فما لكم تضعفون وتجبنون عنه وَكانَ اللَّهُ الموفق لكم على القتال والآمر به عَلِيماً بقوتكم ومقاومتكم حَكِيماً فيما أمركم به ونهاكم عنه فاتخذوه سبحانه وقاية لأنفسكم وفوضوا أموركم كلها اليه وامتثلوا بجميع ما أمرتم به طائعين راغبين.
ثم قال سبحانه إِنَّا أَنْزَلْنا من مقام جودنا وإحساننا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الفارق بين الحق والباطل ملتبسا بِالْحَقِّ الصريح لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بالعدل الذي هو صراط الله الأعدل الأقوم سيما بِما أَراكَ اللَّهُ اى قد عرفك واوحى إليك به يا أكمل الرسل وَبالجملة لا تَكُنْ أنت بنفسك لِلْخائِنِينَ اى لأجلهم ورعاية جانبهم خَصِيماً زعيما لأهل البراءة في حال من الأحوال وامر من الأمور
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ المنتقم الغيور سيما من رمى البرئ والميل الى الخائن الغوى البغي إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده قد كانَ غَفُوراً لمن استغفر له رَحِيماً لمن أخلص في استغفاره. نزلت في طعمة ابن أبيرق من بنى ظفر سرق درعا من جاره قتادة ابن النعمان هو في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه واودعها عند زيد بن سمين اليهودي فلما وقف قتادة ظن انه عند طعمة وطلب منه فأنكره وتفحص في بيته فلم يجدها وحلف ايضا ما أخذها وما له بها علم وخبر فتركه واتبع اثر الدقيق حتى انتهى الى منزل اليهودي فوجدها في بيته فقال اودعها عندي طعمة وشهد له ناس من اليهود فقال بنو اظفر انطلقوا بنا الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالتمسوا منه صلّى الله عليه وسلّم ان يجادل عن صاحبهم وقالوا له صلى الله عليه وسلّم ان لم تجادل عنه هلك وافتضح فهم رسول الله ان يميل ويفعل ما التمسوا مداهنة ومجادلة فجاء جبرئيل عليه السّلام بهذه الآية فندم صلّى الله عليه وسلّم عما هم واستغفر ورجع وتضرع
وَلا تُجادِلْ
يا من أرسل بالحق على الحق مع المحقين عَنِ
جانب المبطلين سيما الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
باقتراف الخيانة ونسبتها الى الغير افتراء إِنَّ اللَّهَ
المرسل لك على الحق بالحق لإظهار الحق وتغليبه على الباطل الزاهق الزائغ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
مقترفا للخيانة مبالغا في اقترافها أَثِيماً
معزيا لغيره تنزيها لنفسه عند الناس استخفاء منهم وهم من غاية حمقهم وجهلهم
يَسْتَخْفُونَ
خيانتهم مِنَ النَّاسِ
مع بعدهم عنهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ
والرقيب المراقب عليهم اقرب إليهم من وريدهم إِذْ يُبَيِّتُونَ
اى يلبسون ويزورون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
اى ما لا يرضى الله من القول الكاذب ورمى البرئ وشهادة الزور والحلف الكاذب وغير ذلك وَكانَ اللَّهُ
المطلع بسرائرهم وضمائرهم بِما يَعْمَلُونَ
من أمثال هذه الأباطيل الزائقة مُحِيطاً
علمه بها لا يعزب عن علمه شيء منها
وبالجملة ها أَنْتُمْ
ايها المجادلون المبطلون هؤُلاءِ
الخائنون المفترون قد جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
فسترتم ما عرض لهم من الخيانة والعار في هذه الدار فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ
المنتقم الغيور عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
ومن يستر زلتهم عنه سبحانه فيها أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
يظاهرهم وينقذهم من عذاب الله وبطشه يومئذ
وَ
بالجملة مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
اى معصية متعدية يسوء به غيره رميا وافتراء أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بالخروج عن حدود الله بلا تعدية الى الغير ثُمَ
بعد ما تفطن بوخامة عاقبته يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
الغفور الرّحيم بالتوبة والندامة الناشئة عن محض الخلوص والتيقظ يَجِدِ اللَّهَ(1/167)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
الموفق له على التوبة غَفُوراً
يغفر ذنوبه رَحِيماً
يقبل منه توبته تفضلا عليه وامتنانا
وَمَنْ يَكْسِبْ
منكم إِثْماً
موجبا للعذاب والنكال فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
لا يتعدى وباله عنه وَكانَ اللَّهُ
المجازى لعباده عَلِيماً
بعموم ما صدر عنهم حَكِيماً
متقنا فيما يجازى عليهم
وَمَنْ يَكْسِبْ
منكم خَطِيئَةً
اى معصية صادرة عن خطأ لا عن قصد وتعمد أَوْ إِثْماً
صادرا عن قصد واختيار ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
منزها عنه لتنزيه نفسه فَقَدِ احْتَمَلَ
وتحمل الرامي المفترى برميه بُهْتاناً
اى افتراء وَإِثْماً مُبِيناً
ظاهرا في إسقاط العدالة واستجلاب العذاب
وَ
بالجملة لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
يا أكمل الرسل بانزال الوحى وَرَحْمَتُهُ
بإعلام ما هممت به من رمى البرئ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
عن منهج الرشاد وسبيل السلامة والسداد وعن مقتضى حكم الله وامره
وَبعد ما أدركك الوحى والإلهام ما يُضِلُّونَ
بتلبيسهم وتزويرهم إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
إذ قد عاد وباله ونكاله عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
اى شيأ من الضرر لان الله يعصمك عما لبسوه وزوروه عليك ويأخذهم
وَعليك ان تجتنب عن تلبيساتهم مطلقا وعن الإصغاء الى أكاذيبهم ومفترياتهم رأسا إذ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ
من غاية لطفه الْكِتابَ
المبين للوقائع والاحكام وَالْحِكْمَةَ
المتقنة الكاشفة عن سرائرها وَعَلَّمَكَ
من الحقائق والمعارف ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
أنت من قبل
وَبالجملة قد كانَ فَضْلُ اللَّهِ
المنعم المفضل عَلَيْكَ
بإعطاء أمثال هذه الفضائل عَظِيماً
إذ لا فضل أعظم منه وإذا كان شأنك عند الله هذا وهكذا لا تبال بهم وبمعاونتهم ومصاحبتهم
إذ لا خَيْرَ ولا نفع فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ اى دعواتهم ومناجاتهم في خلواتهم إِلَّا مَنْ أَمَرَ نفسه بِصَدَقَةٍ على الفقراء موجبة لرحمة الله له أَوْ مَعْرُوفٍ مستحسن عقلا وشرعا من الأخلاق الحميدة والخصال المرضية أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ على الوجه الأحسن الا وفق وَمَنْ يَفْعَلْ كل واحد من ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ خالصا لرضاه بلا تخلل الرياء والسمعة وقصد الرياسة والجاه بين العوام فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ من وفور فضلنا وجودنا إياه أَجْراً عَظِيماً فوق ما يستحقه
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ويخالفه سيما مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ وظهر لَهُ ان الْهُدى ما جاء به الرسول لدلالة المعجزات الساطعة والبراهين القاطعة على صدقه وَمع ظهور هذه الدلائل الواضحة يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ المتابعين له مكابرة وعنادا نُوَلِّهِ نسلطه ونمكنه على ما تَوَلَّى ونجعله قادرا ومقتدرا على الغي والضلال في النشأة الاولى وَفي النشأة الاخرى نُصْلِهِ وندخله جَهَنَّمَ البعد وسعير الخذلان وَساءَتْ جهنم مَصِيراً منقلبا ومرجعا ومآبا لأهلها اجرنا منها يا مجير.
ثم قال سبحانه تسلية للعصاة وترغيبا لهم الى الانابة والرجوع إِنَّ اللَّهَ المطلع لسرائر عباده لا يَغْفِرُ ولا يعفو ولا يمحو أَنْ يُشْرَكَ بِهِ شيء من مصنوعاته في استحقاق العبادة إياه واسناد الحوادث نحوه وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ان تاب عنه واستكرهه بسره واستنكره وندم عنه ندامة مؤبدة ولم يرجع اليه قط وَبالجملة مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ بنسبة الحوادث الكائنة الى غير الله فَقَدْ ضَلَّ عن جادة التوحيد ضَلالًا بَعِيداً بحيث لا يرجى هدايته أصلا
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اى ما يدعون من دون الله آلهة إِلَّا إِناثاً وهي اللات والعزى والمناة وَإِنْ يَدْعُونَ وما يعبدون من دونه إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وبالجملة ما يدعون من دون الله الا(1/168)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
شيطانا مطرودا مردودا لا خير فيه أصلا إذ هو قد حملهم وأغراهم على عبادة الأصنام الجامدة والأوثان الخامدة ولا شك ان عبادة هؤلاء الهلكى انما هي عائدة اليه لعنة الله راجعة نحوه وكيف يعبدونه ويدعون له
وقد لَعَنَهُ اللَّهُ وطرده عن عز حضوره وأخرجه من زمرة خلص عباده بواسطة تغريره وتلبيسه عباد الله واغرائهم الى الشرك والطغيان وَبعد ما ايس الشيطان عن روح الله وقنط عن رحمته بسبب تضليل عباده قالَ لَأَتَّخِذَنَّ يا ربي مِنْ عِبادِكَ الذين هم سبب طردي وتبعيدى منتقما منهم نَصِيباً مَفْرُوضاً مفروزا وحظا كاملا مما فضلت عليهم وقدرت لهم من معارفك وتوحيدك وتقديسك بحيث اغريهم والبس عليهم وأزين لهم الفسوق والعصيان وأبالغ في تضليلهم الى ان يشركوا بك وينسبوا إليك ما لا يليق بشأنك وجنابك فينحطوا بذلك عن كنف حفظك وجوارك ويستحقوا بسخطك وغضبك
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ بأنواع الخداع والوسوسة عن طريق توحيدك وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ بما يتعلق بمعاشهم في دار الغفلة والغرور من الحرص وطول الأمل وسائر مشتهيات النفس ومستلذاتها وَلَآمُرَنَّهُمْ بتغيير اوضاعك وحدودك وتنقيص مصنوعاتك وتخريب بنيانك ومخترعاتك فَلَيُبَتِّكُنَّ وليشقن آذانَ الْأَنْعامِ وانوف الخيول وغير ذلك من الأعمال التي قد عملوها مع مخلوقاتك بلا رخصة شرعية وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ بموالاتي إياهم وبمواساتى معهم ومظاهرتى عليهم الى ان يغيروا ما خلق على مقتضى الحكمة المتقنة من الأمور التي قد خرجوا بها عن مقتضى الفطرة الإلهية وانحرفوا بسببها عن الطريق الأعدل الا قوم وَبالجملة مَنْ يَتَّخِذِ يؤثر ويختر الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ المتولى لعموم امور عباده فَقَدْ خَسِرَ لنفسه خُسْراناً مُبِيناً ظاهر الخسارة والحرمان إذ بدل المتخذ ولاية الله الهادي بولاية الشيطان المضل المغوى ولا خسران أعظم منه وكيف لا يكون ولاية الشيطان خسرانا
إذ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ الشيطان شيأ لا ينالون ولا يصلون اليه أصلا وَكيف يصلون والى اى شيء ينالون إذ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ وما يغريهم عليه ما هو إِلَّا غُرُوراً واوهاما وخيالات باطلة لا وجود لها أصلا لا حالا ولا مآلا
وبالجملة أُولئِكَ المغرورون بغرور الشيطان والضالون بإضلاله واغرائه مَأْواهُمْ ومثواهم جَهَنَّمُ البعد ونيران الإمكان وَهم لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً ملجأ ومهربا أصلا بل يبقون فيها مخلدا مؤبدا
وَالَّذِينَ آمَنُوا بولاية الله إياهم وتوحيده وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على مقتضى ما امر الله به ويسرهم عليه سَنُدْخِلُهُمْ بمقتضى فضلنا وجودنا جَنَّاتٍ اى متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق والكشوفات والشهودات المتجددة بتجددات التجليات وتطورات الشئونات المترتبة على الأسماء والصفات الإلهية خالِدِينَ فِيها أَبَداً مؤبدا مخلدا على هذا المنوال وبالجملة وَعْدَ اللَّهِ العليم الحكيم الذي قد وعده لخلص عباده حَقًّا ثابتا مثبتا في حضرة علمه الحضوري قبل خلقهم بمدة لا يعرفها الا هو فعليكم ايها المؤمنون ان تصدقوا وعده الثابت عنده وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وقولا فصدقوه قوله وثقوا به
واعلموا ايها المؤمنون المحمديون ان ما ينالكم ويصل إليكم مما وعد لكم ربكم لَيْسَ وصوله وحصوله لكم بِأَمانِيِّكُمْ اى بمجرد الأماني والميل النفساني منكم بلا قدم واقدام ونسك وسلوك وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ اى ليس ايضا ما يصل وينال إليهم بامانيهم كذلك فلا تخالفوا ولا تنازعوا معهم بل الأمور والمواعيد الواصلة إليكم وإليهم كلها انما(1/169)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
هي بمقتضى فضل الله وعدله وبحسب توفيقه وتيسيره وبالجملة مَنْ يَعْمَلْ منكم ومنهم سُوءاً يسوء به نفسه او غيره يُجْزَ بِهِ على مقتضى عدل الله عاجلا وآجلا وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينقذه من عذاب الله وَلا نَصِيراً يحمل بعض عذابه تخفيفا له
وَكذا مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ المأمورة له كلها او بعضها سواء كان العامل مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَالحال انه هُوَ مُؤْمِنٌ بالله وبكتبه ورسله وبعموم ما جاءوا به من عنده فَأُولئِكَ الصلحاء الأمناء يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ المعدة لأهل الايمان والصلاح وَلا يُظْلَمُونَ ولا ينقصون من جزاء ما عملوا نَقِيراً مقدار نقر النواة بل يزادون عليها ما شاء الله تفضلا وامتنانا لا حول ولا قوة الا بالله
وَبالجملة مَنْ أَحْسَنُ دِيناً وأقوم طريقا وسبيلا مِمَّنْ أَسْلَمَ وسلم وَجْهَهُ المفاض له لِلَّهِ المفيض لوجود الأشياء الموجودة وَالحال انه هُوَ في حالة التسليم مُحْسِنٌ مع الله متأدب معه سبحانه مستغرق بمطالعة جلاله وجماله وَمع ذلك قد اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التي هي أقوم الملل وأحسنها إذ هو في نفسه حَنِيفاً مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مطلقا وَلذلك قد اتَّخَذَ اللَّهُ العليم المطلع لضمائر عباده إِبْراهِيمَ خَلِيلًا كأنه قد تخلل سبحانه فيه من كمال محبته وخلته الى حيث صار سمعه وبصره ويده ورجله على ما نطق به الحديث القدسي ولا يظن ان تخلّله فيه على وجه الحلول والاتحاد بل على سبيل التوحيد الصرف الخالي عن مطلق الكثرة والثنوية قطعا
وَلِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ اى العلويات وَكذا عموم ما ظهر فِي الْأَرْضِ اى السفليات إذ كل ما ظهر وبطن غيبا وشهادة منه بدأ واليه يعود وَكانَ اللَّهُ المتجلى في الآفاق والأنفس بالاستقلال والاستحقاق بِكُلِّ شَيْءٍ من مظاهره مُحِيطاً لا كاحاطة الظرف بالمظروف بل كاحاطة الشمس بالاضواء والاظلال واحاطة الأرواح بالأشباح والماء بالأمواج. ذقنا بلطفك حلاوة توحيدك يا أكرم الأكرمين
ثم قال سبحانه وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ميراث النِّساءِ هل ترثن أم لا قُلِ في جوابهم يا أكمل الرسل اللَّهُ الحكيم العليم يُفْتِيكُمْ ويبين لكم فِيهِنَّ وفي ميراثهن وَهو ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ اى القرآن فِي حق يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وتحرمونهن عن حقوقهن ظلما وَمع ذلك تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ او تعضلوهن كرها وَايضا في حق الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ إذ هم كانوا لا يورثونهم كمالا يورثون النسوان وَعليكم ايها الحكام أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ والعدل بلا حيف وميل لهم في مالهم وعرضهم وَبالجملة ما تَفْعَلُوا معهم مِنْ خَيْرٍ وشر فَإِنَّ اللَّهَ الرقيب عليكم كانَ بِهِ وبماله وعرضه عَلِيماً بعلمه الحضوري يجازيكم بمقتضى علمه وخبرته ان خيرا فخير وان شرا فشر
وَإِنِ اضطرت امْرَأَةٌ الى السراح والفرقة بان خافَتْ مِنْ بَعْلِها بسوء عشرته معها وعدم رعاية حقوقها نُشُوزاً تجافيا عنها ميلا الى غيرها أَوْ إِعْراضاً طلاقا وسراحا فَلا جُناحَ ولا ضيق ولا تعب ولا اثم عَلَيْهِما اى على الزوجين أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما بان أسقط كل منهما عما استحق له شيأ أو زاد عليه الى ان يتصالحا صُلْحاً ناشئا عن التراضي من الجانبين ولا يؤدى أمرهما الى الفرقة والطلاق وَبالجملة الصُّلْحُ والالفة بينهما خَيْرٌ من الطلاق والفرقة وَلكن قلما يقع إذ قد أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ(1/170)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
الامارة بالسوء من الجانبين الشُّحَّ اى قد صارت الأنفس حينئذ مطبوعة مرغوبة على إحضار الشح والبخل فيما وجب عليها فلا يسمح كل منهما شيأ من حقه لذلك لم يرتفع النزاع والخصومة وَبالجملة إِنْ تُحْسِنُوا ايها المؤمنون في المعاشرة مع الأزواج وَتَتَّقُوا عن غضب الله بالخروج عن مقتضى حدوده فَإِنَّ اللَّهَ المجازى لعباده كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الميل الى المحارم والاعراض عن حدود الله والمخالفة لأمره خَبِيراً يجازيكم على مقتضى خبرته وان كنتم ذوى ازواج متعددة فوق واحدة
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا وتعاشروا بالقسط بحيث لا يقع التفاوت والتفاضل بَيْنَ النِّساءِ أصلا وَلَوْ حَرَصْتُمْ وبالغتم في رعاية العدل إذ الميل الطبيعي يأبى عن اقامة العدل لذلك قيل لا وجود للاعتدال الحقيقي سيما في أمثاله فَلا تَمِيلُوا اى فعليكم ان لا تميلوا وتجانبوا عن من تميلون عنه كُلَّ الْمَيْلِ حتى تؤدى الى امارات الفرقة فَتَذَرُوها وتتركوها تلك المتروكة كَالْمُعَلَّقَةِ لا أيما ولا ذات بعل وَإِنْ تُصْلِحُوا بعد ما أفسدتم على انفسكم وَتَتَّقُوا عن غضب الله في اضاعة حقها فَإِنَّ اللَّهَ المطلع بعموم ما صدر ويصدر عنكم كانَ غَفُوراً لكم بعد ما تبتم ورجعتم عما صدر عنكم رَحِيماً لكم يقبل توبتكم ان اخلصتم فيها
وَإِنْ يتنازعا حتى يَتَفَرَّقا وارتفع علقة النكاح من بينهما يُغْنِ اللَّهُ المنعم المتفضل كُلًّا منهما عن الآخر مِنْ سَعَتِهِ اى من سعة رحمته وبسطة رزقه وفسحة مملكته وَكانَ اللَّهُ المتفضل على عباده واسِعاً لهم في عطائه حَكِيماً في إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي
وَكيف لا يكون سبحانه واسع العطاء إذ لِلَّهِ المنعم المتفضل جميع ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وما بينهما ملكا وخلقا تدبيرا وتصرفا إيجادا واعداما إبقاء وافناء وإذا كان الأمر هذا وهكذا فعليكم ان تتقوا من الله في السراء والضراء والخصب والرخاء وَاعلموا انا لَقَدْ وَصَّيْنَا من مقام فضلنا وجودنا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى اليهود والنصارى وجميع من انزل إليهم الكتاب في كتبهم مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ايضا ايها المحمديون في كتابكم هذا أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ المالك لازمة الأمور بالاستحقاق وأطيعوا امره وتوجهوا نحوه ولا تكفروا به وَإِنْ تَكْفُرُوا به وتعرضوا عنه من غاية جهلكم وعنادكم ولا تعملوا ولا تأتوا بما فرض عليكم إصلاحا لحالكم فاعلموا ان الله الغنى بذاته لا يبالى بكفركم ولا بايمانكم ولا بعملكم ولا بعصيانكم فكيف لا يكون كذلك فَإِنَّ لِلَّهِ المالك للملك بالأصالة والاستقلال رجوع عموم ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ارادة وطوعا وَمع ذلك قد كانَ اللَّهُ القادر المقتدر غَنِيًّا مستغنيا في ذاته عن عموم العالمين وعن جميع اوصافهم ايمانا وكفرا إحسانا وعصيانا حَمِيداً في نفسه حمدا ولم يحمد
وَكيف لا يكون سبحانه غنيا في ذاته حميدا في نفسه إذ ليس في الوجود غيره ولا شيء سواه ليحمده بل لِلَّهِ المنزه المستغنى عن عموم الأكوان الباطلة العاطلة في حدود ذواتها مطلقا كافة ما ظهر فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات المترتبة على تجليات الذات وتشعشعاتها وَكذا عامة ما انعكس منها فِي الْأَرْضِ اى طبيعة العدم التي هي بمنزلة المرآة المقابلة لها وَبالجملة كَفى بِاللَّهِ اى قد كفى الله المتجلى لذاته بذاته في ملابس أسمائه وصفاته وَكِيلًا في مظاهره ومصنوعاته وفي اظلال أوصافه وعكوس أسمائه وبالجملة ليس نسبتكم الى الله ايها المنهمكون في بحر الغفلة والغرور المحجوبون بحجاب التعينات العدمية الا بالمظهرية والظلية
إِنْ يَشَأْ سبحانه ويرد يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ اى الاظلال المحجوبون عن شمس(1/171)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
الذات بالناسوت في ظلمة العدم ونور الوجود وَيَأْتِ بدلكم بِآخَرِينَ اى باظلال أخر يتذكرون لها ويتوجهون نحوها على الوجه الذي أمرهم به ووفقهم عليه وَبالجملة ما ذلك على الله بعزيز بل قد كانَ اللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء في ذاته عَلى ذلِكَ الاذهاب والتبديل وأمثاله قَدِيراً في ذاته لا يفتر قدرته دون مقدور أصلا بل قد جرت سنته سبحانه على مثل هذا دائما إذ هو في كل يوم وآن في شأن الا ان المحجوب لم يتنبه ولم يتفطن ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. نور قلوبنا بمعرفتك وأبصارنا بمشاهدتك وأرواحنا بمعاينتك انك على ما تشاء قدير وبالاجابة جدير
مَنْ كانَ يُرِيدُ بالقتال والجهاد وكذا بعموم الأعمال المأمورة من عند الله ثَوابَ الدُّنْيا وما يصل اليه فيها من الغنيمة والرياسة والتفوق على الأقران وعلو المرتبة والشان بين العوام فَعِنْدَ اللَّهِ القادر المقتدر على إعطاء عموم النعم ثَوابَ الدُّنْيا انجاحا لمطلوبه وَالْآخِرَةِ ايضا تفضلا وامتنانا وَكانَ اللَّهُ المطلع لسرائر عباده سَمِيعاً لمناجاتهم بَصِيراً لحاجاتهم يوصلهم الى غاية متمنياتهم مع زيادة انعام وإفضال من لدنه
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ مداومين محافظين على سبيل المداومة والمواظبة بِالْقِسْطِ اى بإقامة العدل والإنصاف بينكم وان كنتم شُهَداءَ في الوقائع والخطوب كونوا مخلصين لِلَّهِ في أدائها وآدابها بلا ميل وزور وإخفاء والحاف وَلَوْ كنتم شاهدين عَلى أَنْفُسِكُمْ مقرين معترفين بما على ذمتكم من حقوق الغير أَوِ لذمة الْوالِدَيْنِ وَذمم الْأَقْرَبِينَ فعليكم ايها الشهداء ان تقسطوا في أداء الشهادة بلا حيف وميل إِنْ يَكُنْ المشهود عليه والمشهود له غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً يعنى ليس لكم ان تراعوا جانب الفقير وتجانبوا عن الغنى او بالعكس بل ما عليكم الا أداء ما عندكم من الشهادة على وجهها فَاللَّهُ المطلع بحالهما أَوْلى بِهِما وبرعايتهما واصلاحهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى اى ليس لكم الانصراف الى ما تهوى نفوسكم وتميل قلوبكم اليه ان أردتم أَنْ تَعْدِلُوا في أداء الشهادة وَإِنْ تَلْوُوا اى تغيروا وتحرفوا السنتكم عما ثبت وتحقق عندكم أَوْ تُعْرِضُوا عن أدائها مطلقا الجمتم في النشأة الاخرى بلجام من النار على ما نطق به الحديث صلوات الله على قائله فَإِنَّ اللَّهَ المجازى لعباده كانَ بِما تَعْمَلُونَ من تغييركم وأعراضكم خَبِيراً يجازيكم على مقتضى خبرته
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اى الذين يدعون الايمان ويجرون كلمة التوحيد على اللسان على سبيل التقليد والحسبان وينكرون طريق ارباب الوحدة والعرفان وينسبون اهله الى الإلحاد والطغيان آمَنُوا أيقنوا وأذعنوا بِاللَّهِ المتفرد في ذاته المتوحد في أسمائه وصفاته حتى تعاينوا وتكاشفوا بتوحيده وَرَسُولِهِ اى خليفته المصور بصورته المبعوث على كافة بريته الجامع لجميع مراتب أسمائه وأوصافه وَالْكِتابِ المبين لطريق توحيده الَّذِي نَزَّلَ وانزل من كمال فضله ولطفه عَلى رَسُولِهِ المظهر لتوحيده الذاتي وَكذا بجميع الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ من عنده مِنْ قَبْلُ على الرسل الماضين المبعوثين على الأمم الماضين الظاهرين بتوحيد أوصافه وأفعاله وَبالجملة مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في التحقق والوجود باعتقاد الوجود لغيره من الاظلال والعكوس المستهلكة في حدود ذواتها وَمَلائِكَتِهِ اى أوصافه وأسمائه المنتشئة من انواع شئونه واصناف كمالاته وَكُتُبِهِ المنتخبة من تجلياته المتخذة من تطوراته وتنزلاته على هيئة الصوت والحرف ليبين بها طريق وحدة(1/172)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
ذاته وكمالات أسمائه وصفاته على التائهين في بيداء الغفلة المنهمكين في تيه الحيرة والضلال وَرُسُلِهِ المكاشفين بمقاصد كتبه المتحققين المتصفين بعموم ما امر ونهى فيها المأمورين بالتبليغ والإرشاد الى مقاصدها وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء من يتنبه ويتفطن من إنزال الكتب وإرسال الرسل ومن لم يتنبه ولم يتفطن إذ الحكمة تقتضي التفضل والترحم على من تنبه الى طريق الحق سيما بعد ورود المنبه والمبين والانتقام على من لم يتنبه ولم يؤمن بل ينكر ويكفر ومن يكفر فَقَدْ ضَلَّ عن طريق التوحيد ضَلالًا بَعِيداً بحيث لا يتمنى هدايته وفلاحه أصلا من يضلل الله فلا هادي له نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين.
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله حين ظهر موسى كليم الله وبعث إليهم ثُمَّ كَفَرُوا به وبدينه حين ظهر عليهم السامري بالعجل ثُمَّ آمَنُوا بعد رجوع موسى من الميقات ثُمَّ لما طال الزمان وانقطع الوحى والإرسال والإنزال ووقع في امر الدين فترة وضعف قد أرسل الله تعالى إليهم عيسى عليه السّلام وانزل عليه الإنجيل ليبين لهم طريق توحيده كَفَرُوا به وكذبوا بكتابه عنادا واستكبارا وبعد ما انقرض جيل عيسى عليه السّلام اظهر سبحانه النبي الموعود في الكتب السالفة بأنه سيأتى نبي مبعوث على كافة البرية بالتوحيد الذاتي وله دين ناسخ لجميع الأديان وكتاب ناسخ لعموم الكتب وبه يختم امر النبوة والوحى والإرسال والإنزال إذ بظهوره قد تم وكمل طريق التوحيد والعرفان ثُمَّ لما ظهر وتحقق عندهم ظهوره ازْدادُوا له كُفْراً وتكذيبا وأصروا على ما هم عليه عتوا وعنادا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ الهادي لعباده الماحي لذنوبهم لِيَغْفِرَ لَهُمْ ان بقوا على كفرهم وإصرارهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ان انهمكوا في الغي والضلال
وبالجملة بَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُنافِقِينَ منهم وهم الذين يدعون الإسلام والايمان بك وبدينك وكتابك على طرف اللسان وقلبهم مختوم مطبوع على الشقاق والطغيان الأصلي بِأَنَّ لَهُمْ عند ربهم عَذاباً أَلِيماً وحذر منهم ومن سراية خبثهم ونفاقهم المؤمنين
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر بالله وتكذيب رسله أَوْلِياءَ أحباء أصدقاء يصاحبونهم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قل يا أكمل الرسل للمتخذين من المؤمنين اولياء منهم نيابة عنا أَيَبْتَغُونَ ويطلبون عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ويعتقدون انهم اعزة وهم ايضا يتعززون بهم وبمصاحبتهم وموالاتهم مع انه لا عزة لهم لا حقيقة ولا صورة بل قد ضربت عليهم الذلة والهوان فَإِنَّ الْعِزَّةَ الحقيقية والغلبة المعنوية والبسطة الاصلية والكبرياء الحقيقية لِلَّهِ المتعزز برداء العظمة والبهاء جَمِيعاً بحيث لا يليق لغيره أصلا ان يتعزز في نفسه الا بفضله وطوله
وَمن فضل الله لكم انه قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ المبين لدينكم المنزل على نبيكم أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ اى انه إذا سمعتم وعلمتم حين تلاوتكم آياتِ اللَّهِ على رؤس الملأ انه يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها العياذ بالله فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ اى مع هؤلاء الكافرين المستهزئين بل اتركوهم واعرضوا عن مجالستهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فان لم تتركوهم ولم تخرجوا من بينهم قد صرتم أنتم ايضا أسبابا لكفرهم واستهزائهم بآيات الله إِنَّكُمْ إِذاً اى حين لم تتركوهم بل تقعدون معهم مِثْلُهُمْ في استحقاق العذاب والنكال إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء المجد والبهاء القادر على كل ما أراد وشاء جامِعُ الْمُنافِقِينَ المداهنين وَالْكافِرِينَ المكذبين المستهزئين المجاهرين فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان وسعير الطرد والحرمان جَمِيعاً مجتمعين بلا تفاوت في العقوبة وكيف لا يجمع المنافقين المداهنين مع(1/173)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
الكافرين المجاهرين
وهم الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ وينتظرون لمقتكم وهلاككم ايها المؤمنون المخلصون فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ وغنيمة حاصلة مِنَ نصر اللَّهِ عليكم قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وفي جندكم وعسكركم لم لم تسهموا علينا ولم تخرجوا حقنا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ المقاتلين نَصِيبٌ حظ من الاستيلاء والغلبة قالُوا للكفرة إظهارا للمظاهرة والمواخاة أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ ولم نستعن عَلَيْكُمْ بالتكاسل والتواني وعدم الإعانة والمظاهرة عليكم وإلقاء الرعب في قلوبهم وَنَمْنَعْكُمْ بهذه الحيل مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فعليكم ان تشاركونا فيما أصبتم منهم إذ كنا متسببين له وبالجملة لا تبالوا ايها المؤمنون بإيمان هؤلاء المنافقين وادعاء وفاقهم ولا بنفاقهم وشقاقهم فَاللَّهُ المطلع لضمائرهم يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للفصل والانتقام وَان احتجوا عليكم وادعوا الايمان تلبيسا في هذه النشأة لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ المولى لأمور عباده لِلْكافِرِينَ المنافقين الملبسين عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الموقنين المخلصين سَبِيلًا اى حجة ودليلا في النشأة الاخرى إذ فيها تبلى السرائر وتكشف الضمائر وتجزى كل نفس بما تسعى
ثم قال سبحانه إِنَّ الْمُنافِقِينَ
المصرين على النفاق يتخيلون انهم يُخادِعُونَ اللَّهَ
ويلبسون عليه كتخديعهم وتلبيسهم على آحاد المؤمنين
وَالحال انه هُوَ خادِعُهُمْ
وماكرهم باقدارهم على هذا الخداع إذ يترتب عليه من الجزاء ما لو علموا لهلكوا
وَمن جملة نفاقهم وشقاقهم انهم إِذا قامُوا إِلَى
أداء الصَّلاةِ
مع المؤمنين قامُوا كُسالى
مبطئين متكاسلين وليس غرضهم منها سوى انهم يُراؤُنَ
بها النَّاسَ
حتى يظنوا انهم مؤمنون مخلصون
وَمع ذلك لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
في الصلاة إِلَّا قَلِيلًا
منهم وهم الذين قد أخلصوا الايمان في أنفسهم ولم يظهروا به خوفا من إخوانهم وبالجملة اهل النفاق ليسوا من الكافرين عند الكافرين وايضا ليسوا من المؤمنين عند المؤمنين
بل قد صاروا مُذَبْذَبِينَ مترددين بَيْنَ ذلِكَ بحيث لا يعدون ولا ينسبون لا إِلى هؤُلاءِ المؤمنين المخلصين وَلا إِلى هؤُلاءِ الكافرين المصرين المجاهرين بل هم في أنفسهم ضالون وعند الله مردودون وعند الناس مغبونون ملعونون وَبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ المذل المضل ويجبله على الضلال فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا الى الهداية أصلا اهدنا بلطفك الى صراطك المستقيم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أحباء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ باتخاذكم وصنيعكم هذا أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ المحاسب المجازى لاعمال عباده عَلَيْكُمْ ايها المتخذون سُلْطاناً مُبِيناً وحجة واضحة على كفركم ونفاقكم واخذكم وانتقامكم إذ من صنيعكم هذا يلوح اثر النفاق والشقاق مع المؤمنين فعليكم ان لا تصاحبوهم ولا تتخذوهم اولياء سيما بعد ورود النهى حتى لا تلحقوا بهم ولا تحشروا في زمرتهم
إِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على النفاق فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ والدرجة الأرذل الأنزل مِنَ النَّارِ المعدة المسعرة لجزاء العصاة الطغاة الضالين عن طريق الحق وصراطه المستقيم وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ينصرهم او يشفع لهم وينجيهم منها
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وندموا عما جرى عليهم من امارات النفاق وَأَصْلَحُوا بالتوبة ما أفسدوا بالنفاق من شعائر الايمان والإسلام وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ الرءوف الرّحيم واتكلوا بفضله ولطفه حين رجعوا اليه وتوجهوا نحوه وَبعد ما تابوا واعتصموا بالله وفضله قد أَخْلَصُوا دِينَهُمْ اى اطاعتهم وانقيادهم لِلَّهِ المنزه عن الشريك والنظير المقدس عن المشير والظهير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فَأُولئِكَ(1/174)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
السعداء المقبولون عند الله مصاحبون مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين المتمكنين في روح الله وكنف لطفه ورحمته وَبالجملة سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ المنعم المتفضل الْمُؤْمِنِينَ المخلصين في يوم الجزاء أَجْراً عَظِيماً هو الفوز بشرف اللقاء في دار البقاء
واعلموا ايها المكلفون ما يَفْعَلُ اللَّهُ المتجلى في الآفاق بالاستحقاق المستغنى عن عموم مظاهره على الإطلاق بِعَذابِكُمْ اى طردكم وحرمانكم إِنْ شَكَرْتُمْ وتحققتم بظهوره سبحانه بهويته الحقة في هوياتكم الباطلة واسندتم جميع ما صدر وظهر عنكم اليه اصالة واستقلالا وَآمَنْتُمْ اى عرفتم وحدته واعترفتم به وَبعد ما فنيتم أنتم بهوياتكم المزخرفة الباطلة العاطلة في هوية الحق الحقة الثابتة الدائمة قد كانَ اللَّهُ الحميد بذاته شاكِراً لنعمه الفائضة من سجال فضله وكرمه على مرايا مظاهره ومصنوعاته عَلِيماً بمقتضاها وأنتم باقون على ما قد كنتم عليه من العدم ولقد احسن من قال
لقد كنت دهرا قبل ان يكشف الغطا ... إخال بانى شاكر لك ذاكر
فلما أضاء الصبح أصبحت شاهدا ... بانك مذكور وذكر وذاكر
ومن مقتضيات التوحيد واليقين ايها الموحدون الموقنون المتوجهون نحو الحق ان لا تظهروا ولا تبثوا الى الله الشكوى في الأمور المتعلقة بالدنيا والاخرى ولا تلحوا له في المناجاة والدعاء فان ناقدكم بصير بحاجاتكم عليم بنياتكم فيها وعليكم الرضا بما جرى عليكم من القضاء فنعم القرين الرضا
واعلموا ايها المكلفون انه لا يُحِبُّ اللَّهُ المتجلى باسم الرّحمن على ذرائر الأكوان معتدلا مستويا بالقسط بلا تفاوت ولا يحسن الْجَهْرَ والاشاعة بِالسُّوءِ اى لا يحب ولا يرضى ان يشاع ويجهر بالقبيح المستهجن عقلا وشرعا ويبالى بشأنه ويستدعى لأجله إذ لا يجرى في ملكه وملكوته الا العدل والخير سيما الجهر مِنَ الْقَوْلِ على سبيل الإلحاد والاقتراح بأنواع الصوت والصراخ إِلَّا قول مَنْ ظُلِمَ فانه سبحانه يحب قول المظلوم وجهره به ليبادر بإجابته ويستعجل بانتقامه عن من ظلمه إذ الظلم خروج عن مقتضى العدل الإلهي وطريقه الأقوم وَكانَ اللَّهُ المتجلى على العدل القويم سَمِيعاً لجهر المظلوم عَلِيماً بظلم الظالم وبما استحق عليه من الجزاء يجازيه على مقتضى علمه
إِنْ تُبْدُوا وتظهروا ايها المؤمنون خَيْراً على رؤس الملأ والاشهاد أَوْ تُخْفُوهُ اى تفعلوه خفية عن الناس أَوْ تَعْفُوا وتجاوزوا عن الظالم ولم ينتقموا منه ولم يتضرعوا الى الله المنتقم عَنْ سُوءٍ اى عن فعل الظالم بكم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لسرائركم ونياتكم كانَ عَفُوًّا عنكم ماحيا لذنوبكم مع كونه قَدِيراً على وجوه الانتقام من اجلكم.
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ويشركون له بإثبات الوجود لغيره وَرُسُلِهِ اى يكفرون ايضا برسله ويكذبون إياهم مع كونهم مبعوثين على الحق لتبين الحق بالحق من عند الحق وَمع كفرهم وتكذيبهم يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ المتوحد المتفرد بذاته المستقل في وجوده وَبين رُسُلِهِ المستخلفين عنه من عنده بظهوره عليهم بجميع أسمائه وصفاته وَيَقُولُونَ من غاية جهلهم بظهور الله واستيلائه على مظاهره نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الرسل وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ آخر مع ان ظهوره في الكل على السواء بلا تفاوت وَيُرِيدُونَ اى يزعمون ويتوهمون أَنْ يَتَّخِذُوا ويثبتوا بَيْنَ ذلِكَ اى ارتباط الظاهر بالمظهر والمظهر بالظاهر سَبِيلًا غير سبيل الحق المطابق للواقع
أُولئِكَ البعداء المتوغلون في الكفر والضلال هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا اى الكافرون المنهمكون المتوغلون فيه المنتهون الى مرتبة لا يعبأ بايمانهم(1/175)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
أصلا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ المستغرقين في الغي والضلال عَذاباً مُهِيناً مذلا مسقطا لهم عن المرتبة الانسانية بعد ما جبلوا عليها صورة إذ لا اهانة أشد من ذلك
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ المتوحد المتفرد في الوجود وَاعترفوا بظهوره سبحانه في رُسُلِهِ بعموم أوصافه وأسمائه وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالإيمان والكفر بل يؤمنون بجميعهم على السوية أُولئِكَ السعداء الموفقون بهذه الكرامة في هذه النشأة سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ تفضلا عليهم في النشأة الاخرى أُجُورَهُمْ بأضعاف ما استحقوا عليه بأعمالهم ونياتهم فيها وَلا تستبعدوا من الله أمثال هذا إذ كانَ اللَّهُ الموفق لهم على الهداية غَفُوراً لذنوبهم المبعدة عن طريق توحيده رَحِيماً لهم يوصلهم الى ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
يَسْئَلُكَ يا أكمل الرسل أَهْلُ الْكِتابِ من غاية جهلهم بالله وغفلتهم عنه أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ على مقتضى ما تهوى نفوسهم وترضى عنه عقولهم ولا تستكبر منهم أمثال هذا يا أكمل الرسل فَقَدْ سَأَلُوا أخاك مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ وأشد بعدا واستحالة فَقالُوا من غاية بعدهم عن الله ونهاية حجابهم عن مطالعة جماله أَرِنَا اللَّهَ الذي تدعونا اليه وترشدنا نحوه جَهْرَةً ظاهرة معاينة كالموجودات الاخر وهم من فرط انهماكهم في الغفلة والجهالة ما قدروا الله حق قدره لذلك أرادوا ان يحصروه في مرئى محسوس ويحيطوا به إحساسا وإدراكا مع انه سبحانه أجل وأعلى من ان يشار اليه او يدرك ويحاط به على ما هو عليه إذ الإشارة والاحاطة والإدراك انما هو منه وبه وفيه واليه ومن هذا شأنه كيف يدرك ويحس به ونهاية حال الواصلين اليه انهم قد انخلعوا عن هوياتهم الباطلة بالمرة وفنوا في هويته واضمحلوا في عينه إذ لا اله الا هو ولا موجود سواه وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الأمواج الى الماء فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ النازلة من السماء بِظُلْمِهِمْ فهلكوا ثُمَّ بعد ما تابوا ورجعوا الى الله واستشفع لهم موسى صلوات الله عليه وسلامه قد اتَّخَذُوا الْعِجْلَ واعتقدوه آلها وحصروا الألوهية فيه حين لبس عليهم السامري وخادعهم به مع ان اتخاذهم هذا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحة الدالة على توحيد الله وتقدسه وتنزهه في ذاته من الحصر والاحاطة فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ايضا بعد ما رجعوا إلينا والتجؤا نحونا متذللين وَآتَيْنا بعد ذلك أخاك مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً اى حجة واضحة ومعجزة ملجئة لهم الى الايمان
وَذلك انه قد رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ معلقا عليهم بِمِيثاقِهِمْ اى بسبب ان نأخذ منهم العهد الوثيق ان جاءوا به وأوفوا عليه أزلنا عنهم الطور وان أبوا ولم يوفوا اسقطناه عليهم وَقُلْنا لَهُمُ ايضا بعد ما أخذنا الميثاق عنهم على لسان موسى عليه السّلام ادْخُلُوا الْبابَ اى بيت المقدس سُجَّداً حال كونكم ساجدين واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان هينين لينين فدخلوا مسرعين مزحفين فنقضوا العهد الوثيق المعهود وَقُلْنا لَهُمُ ايضا ميثاقا ومعاهدة على لسان داود عليه السّلام لا تَعْدُوا اى لا تجاوزوا ولا تخرجوا عن حدودنا مطلقا سيما فِي السَّبْتِ اى في اصطياد الحيتان فيه فاحتالوا في اصطيادها فنقضوا ما عهدوا وَبالجملة قد أَخَذْنا مِنْهُمْ مرارا مِيثاقاً غَلِيظاً اى مواثيق غلاظا على ارادة الجنس فنقضوا الكل وخالفوا الجميع
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ اى بسبب نقضهم المواثيق الغلاظ والعهود المؤكدة قد فعلنا بهم ما فعلنا من الابتلاءات(1/176)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
والاختبارات وتحريم المباحات عليهم وانواع البليات والأذيات وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده المنزلة على خلص عبيده وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ المعصومين عن الجرائم مطلقا بِغَيْرِ حَقٍّ اى بلا رخصة شرعية وَقَوْلِهِمْ للأنبياء والرسل حين دعوتهم الى الايمان عتوا واستكبارا قُلُوبُنا غُلْفٌ يعنى اوعية مملوة بالحقائق والمعارف مختومة عليها لا يسع فيها ما جئتم به والحال انه ليس في قلوبهم ما يتعلق بأمور الدين مقدار خردلة بَلْ قد طَبَعَ اللَّهُ المضل المذل باسمه المنتقم وختم عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ بشؤم شركهم وكفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ ولا يوفقون على الايمان منهم إِلَّا قَلِيلًا
وَبِكُفْرِهِمْ اى بسبب سترهم الحق عنادا ومكابرة واظهارهم الباطل عتوا واستكبارا وَقَوْلِهِمْ رميا وافتراء عَلى مَرْيَمَ المنزهة عن مطلق الكدورات البشرية بُهْتاناً عَظِيماً حيث يبهتونها ويرمونها بالزنا مع كمال عصمتها وعفتها وطهارة ذيلها عن مطلق الجرائم والآثام
وَقَوْلِهِمْ ايضا ارجافا واسماعا تبجحا إِنَّا قد قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الذي زعمتموه رَسُولَ اللَّهِ وكلمته وروحا منه وَالحال انه ما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ إذ هو في حماية الله وفوق سمائه وَلكِنْ قد شُبِّهَ لَهُمْ رجل منهم اى القى الله شبهه على حارس منهم يحرسه ليظفروا عليه فرفع المشبهة به يعنى عيسى عليه السّلام نحو السماء وبقي المشبه يعنى الحارس فقتل وصلب. ثم اختلفوا فقالوا ان كان هذا عيسى فأين صاحبنا وان كان صاحبنا فأين عيسى وَبالجملة إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وفي قتله وصلبه ورفعه الى السماء لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى في تردد وارتياب في حقه ما لَهُمْ بِهِ وبشأنه مِنْ عِلْمٍ تصديق ويقين إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ والظن لا يغنى من الحق شيأ وَالحق انه ما قَتَلُوهُ يَقِيناً كما زعموه
بَلْ الحق انه قد رَفَعَهُ اللَّهُ الرقيب عليه المتولى لحفظه وامره إِلَيْهِ اى الى كنف حفظه وجواره انجازا لوعده في قوله انى متوفيك ورافعك الى الآية وَكانَ اللَّهُ القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء عَزِيزاً غالبا قادرا على رفعه حَكِيماً في قتل من شبه له ليرجفوا بها
ثم قال سبحانه وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ اى ما من جميع من انزل اليه الكتاب من المسلمين والنصارى واليهود وسائر من انزل إليهم احد مكلف إِلَّا ويجب له ويلزم عليه بايجابنا والزامنا إياه لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ اى بعيسى صلوات الله عليه وسلامه حين نزوله الى الأرض لتقوية دين محمد صلّى الله عليه وسلّم وترويجه إذ هو جامع لجميع الأديان الحقة لابتنائها على التوحيد الذاتي المشتمل على توحيد الصفات والأفعال وعند ظهوره صلّى الله عليه وسلّم قد اتحدت الأديان كلها الا ان المحجوبين لا يفهمون اتحادها لان عيسى عليه السّلام في نفسه من عجائب صنع الله وبدائع مخترعاته ومن اعزة أنبيائه واجلة رسله فلا بد ان يكون الايمان به قَبْلَ مَوْتِهِ إذ حكى في الحديث النبوي صلوات الله على قائله انه ينزل من السماء ويعيش في الأرض زمانا ويؤمن له جميع من في الأرض ثم يموت قبيل الساعة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ اى على جميع من آمن به واتبع هداه شَهِيداً يشهد لهم بالإيمان عند الله
فَبِظُلْمٍ اى بسبب ظلم وخروج عن حدود الله ونقض لعهوده قد صدر وظهر مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ في كتابهم طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فيما مضى وَكذا بِصَدِّهِمْ ايضا بسبب اعراضهم وذبهم المؤمنين عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وطريق توحيده سبحانه اعراضا كَثِيراً
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا من المضطرين أضعافا مضاعفة وَالحال انه قَدْ نُهُوا عَنْهُ في دينهم وكتابهم وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بلا رخصة شرعية مثل السرقة والغصب والربوا(1/177)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
والرشوة وحيل الفقهاء وتزويراتهم التي ينسبونها الى الشرع الشريف افتراء وتلبيسات اصحاب التشيخ والتدليس ايضا من هذا القبيل ومن عظم جرم هؤلاء أسند سبحانه انتقامهم الى نفسه بقوله وَأَعْتَدْنا صيرنا وهيأنا لِلْكافِرِينَ الساترين طريق الحق مِنْهُمْ عَذاباً تبعيدا وطردا أَلِيماً مؤلما لتحسرهم على مرتبة اهل القرب والعناية
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وهم الذين يرتقون من مرتبة العلم الى العين والحق وَالْمُؤْمِنُونَ المصدقون منهم الذين يُؤْمِنُونَ ايضا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ بلا تفريق وتفاوت ايمانا واحتسابا وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وهم الذين يديمون الميل والتوجه نحو الحق بجميع الأعضاء والجوارح اطاعة وانقيادا إذ رجوع الكل اليه وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وهم الذين يؤتون بما نسب إليهم من مزخرفات الدنيا طلبا لمرضاة الله وهربا عن التعلق بغيره وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ اى الذين يوقنون بوحدة الله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لثمرة الأعمال الصالحة المعمولة في طريقها أُولئِكَ السعداء الأمناء الموحدون المخلصون سَنُؤْتِيهِمْ من لدنا أَجْراً عَظِيماً الا وهو الفوز بشرف اللقاء. ربنا آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب. واعلموا ان رسوخ الراسخين المتمكنين في الايمان وطريق التوحيد والعرفان انما يحصل من الهامنا ووحينا واعلامنا وايقاظنا إياهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان وإرشادنا لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم من عندنا وذلك من سنتنا المستمرة وعادتنا القديمة لا يحتاج فيها الإلحاح والاقتراح
إِنَّا قد أَوْحَيْنا من مقام جودنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الكتاب الجامع لجميع ما في الكتب السالفة على الوجه الأبلغ الأبين لطريق التوحيد كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ صحفا مبينة لطريق التوحيد والتنزيه قدمه لكونه أول من انزل اليه واقدم من سائر الأنبياء وَقد أوحينا ايضا بعد نوح الى النَّبِيِّينَ الذين جاءوا مِنْ بَعْدِهِ بما يبينون به طريق الحق من الكتب والصحف وَأَوْحَيْنا خصوصا إِلى آبائك يا أكمل الرسل إِبْراهِيمَ المتخلق بالأخلاق الإلهية المتحقق بمقام الخلة وَإِسْماعِيلَ المتمكن بمقام الرضا والتسليم وَإِسْحاقَ المترقب المتوجه الى الحق من كل صورة وشكل لتحققه بمقام التوحيد وَيَعْقُوبَ المتوجه الى الله في السراء والضراء لتحققه في مقام التفويض وَالْأَسْباطِ المتوجهين الى الله في جميع حالاتهم منهم يوسف المترقى من الصور الخيالية الى الأمور العينية والغيبية لصفاء ظاهره وباطنه عن الكدورات البشرية وَعِيسى المؤثر في العالم بالتأثيرات الإلهية والنفسانية الرحمانية لاضمحلال ناسوتيته في لاهوتية الحق وَأَيُّوبَ المتحقق المتمكن في مقام الصبر والرضا بما جرى عليه من القضاء لتحققه بمقام العبودية وَيُونُسَ المتحقق في مقام الخوف والرجاء مع الله وَهارُونَ المتمكن في مرتبة الامانة والديانة واطمئنان النفس وَسُلَيْمانَ الجامع لجميع مراتب عالم الغيب والشهادة لتحققه بمقام البسطة والاستيلاء وَقد آتَيْنا من كمال فضلنا وجودنا داوُدَ المتحقق بمقام الحكمة المقتضية لعموم التدبيرات الواقعة بين المراتب الإلهية زَبُوراً يفصل به بين الحق والباطل والخطأ والصواب
وَكما أرسلنا الى هؤلاء المذكورين قد أرسلنا رُسُلًا ايضا قد قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ في كتابك مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَقد كمل امر الوحى نوع تكميل في موسى الكليم إذ كَلَّمَ اللَّهُ المرسل للرسل المنزل للكتب مع مُوسى المتحقق بمقام القرب والوصول تَكْلِيماً لا يدرك كيفيته ولا(1/178)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
يكتنه لميته
وانما أرسلنا رُسُلًا وأنزلنا معهم كتبا ليكونوا مُبَشِّرِينَ للناس بالتوحيد وبسائر المأمورات الواردة في الطريقة المؤدية اليه وَمُنْذِرِينَ لهم عن الشرك المنافى له وكذا عن جميع المحرمات المفضية اليه لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ المجبولين على الجدال والنزاع عَلَى اللَّهِ المنزه عن المجادلة والمراء حُجَّةٌ متمسك ودليل يتشبثون بها وقت أخذهم وانتقامهم يوم الجزاء ولا يبقى لهم حينئذ مجال مجادلة ومراء سيما بَعْدَ إرسال الرُّسُلِ لاهتدائهم الى طريق الحق وسبيل التوحيد مع كونهم مؤيدين من عنده سبحانه بالكتب والصحف والمعجزات الخارقة للعادات وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المستقل في الألوهية عَزِيزاً غالبا في جميع أوامره ونواهيه حَكِيماً في عموم تدبيراته المتعلقة بها ومن غاية جدالهم ونزاعهم يجادلون معك يا أكمل الرسل في رسالتك وكتابك ولا يشهدون بك وبحقية كتابك وبصدقك في رسالتك مع كونك مشهودا في كتبهم وعلى لسان رسلهم مكابرة وعنادا لا تبال بهم وبعدم شهادتهم
لكِنِ اللَّهُ المطلع بالسرائر والخفيات يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ اى بحقيته وصدقك فيه بانه قد أَنْزَلَهُ إليك ملتبسا بِعِلْمِهِ المتعلق بتأليف كلماته وكيفية ترتيبه ونظمه على وجه يعجز عنه جميع من تحدى وتعارض معه وَالْمَلائِكَةُ ايضا يَشْهَدُونَ بانه منزل من الحق بالحق على الحق وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً سواء شهدوا او لم يشهدوا.
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك وَصَدُّوا اى اعرضوا وانصرفوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ المبين فيه قَدْ ضَلُّوا عن طريق التوحيد ضَلالًا بَعِيداً بحيث لا يرجى هدايتهم أصلا وكيف يرجى هدايتهم وقد أضلهم الله باسمه المضل
وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا طريق الحق وأظهروا الشرك وَمع ذلك قد ظَلَمُوا وخرجوا عن مقتضى حدود الله بالمرة لَمْ يَكُنِ اللَّهُ الهادي لعباده لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذنوبهم لعظم جرمهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً من طرق النجاة لانهماكهم في الغفلة والضلالة
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ البعد والخذلان خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا ينجون منها أصلا وَلا تستبعد يا أكمل الرسل عن الله أمثال هذه التبعيدات والتخذيلات إذ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ المنتقم المضل للغواة الطغاة يَسِيراً ثم لما بين سبحانه حقية الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصدقه في دعواه وأوعد على من كذبه وخالف كتابه ما أوعد أراد ان ينبه على عامة اهل التكليف من ارباب الملل وغيرهم ان يؤمنوا به وبجميع ما جاء به من عند ربه جميعا
فقال مناديا ليقبلوا عليه يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ المبعوث الى كافة الخلق ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع مرسلا مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بنعمة العقل الذي هو مناط عموم التكاليف وبه الوصول الى الايمان والتوحيد فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ اى فان تؤمنوا به بعد ما قد ظهر صدقه وحقيته كان خيرا لكم عند ربكم يوصلكم الى توحيده وَإِنْ تَكْفُرُوا به عنادا ولم تؤمنوا له مكابرة لا يبالى الله بكم لا بكفركم ولا بايمانكم فَإِنَّ لِلَّهِ اى يسجد ويخضع له جميع ما فِي السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ ارادة وطوعا وَكانَ اللَّهُ المكلف الآمر لعباده عَلِيماً بقابلياتهم حَكِيماً في ما أمرهم به وكلفهم عليه ليفوزوا فوزا عظيما
يا أَهْلَ الْكِتابِ اى الإنجيل المبالغين في امر عيسى عليه السّلام الى حيث ينتهى مبالغتكم الى الغلو المذموم عقلا وشرعا لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ونبيكم ولا تبالغوا في الإغراء في وصفه عليه السّلام وَعليكم ان لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد(1/179)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا إِلَّا الْحَقَّ الحقيق اللائق لجنابه المتعالي من سمة النقائص مطلقا إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ كسائر رسله وَغاية امره انه كَلِمَتُهُ اى حصل وتكوّن من كلمته التي قد أَلْقاها سبحانه حسب حكمته وقدرته إِلى مَرْيَمَ وَهي اى تلك الكلمة رُوحٌ يتجلى مِنْهُ سبحانه ويظهر فيه عليه السّلام كظهوره في سائر الأشخاص والمظاهر غاية الأمر فيه عليه السّلام ان حصة لاهوته قد غلبت على ناسوته لحكمة قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها لذلك ظهرت منه عليه السّلام من الخوارق ما خلت عنه الأنبياء فَآمِنُوا بِاللَّهِ المنزه عن الأهل والولد وَرُسُلِهِ المؤيدين من عنده لتبليغ حكمه وأحكامه الى عباده ومن جملة الرسل عيسى عليه السّلام وَلا تَقُولُوا لله المنزه عن التعدد مطلقا ما لا يليق بجنابه سبحانه بأنه ثَلاثَةٌ الله والمسيح ومريم انْتَهُوا ايها المجبولون على فطرة التكليف والتوحيد عن التثليث في حق الله بل عن التعدد مطلقا واقصدوا خَيْراً لَكُمْ يرشدكم الى سبيل التوحيد إِنَّمَا اللَّهُ المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق إِلهٌ واحِدٌ اى وجود بحت وموجود واحد فرد لا يمكن التعدد ولا يجرى التكثر في ذاته أصلا سُبْحانَهُ بذاته وتعالى حسب أسمائه وصفاته عن أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كما يقول الظالمون بل لَهُ باعتبار تجلياته على صفحات الاعدام بجميع أوصافه وأسمائه مظاهر ما فِي السَّماواتِ من عكوس شئونه ومرايا أوصاف جماله وجلاله وَما فِي الْأَرْضِ ايضا منها وكذا فيما بينهما وكذا فيما شاء الله وما يعلم جنود ربك الا هو وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا اى كفى الله المتجلى بجميع أوصافه وأسمائه وكيلا على مظاهره موليا لامورها اصالة واستقلالا ومن غاية إغراء النصارى في وصف المسيح ونهاية غلوهم في حقه قد ادعوا استنكافه واستكباره عليه السّلام عن كونه عبد الله لذلك نسبوه اليه سبحانه بالنبوة وعبدوا له كعبادة الله
لذلك رد الله عليهم بقوله نْ يَسْتَنْكِفَ
ولن يستكبر ويترفعْ مَسِيحُ
وان ترقى الى السماء برفع الله إياه حسب قوة لاهوتيته نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
عند الله المترقون من السماء ايضا الى ما شاء الله إذ لا ناسوت لهم أصلا
كيف يستنكف ويستكبر عن عبادته احد من مظاهره ومخلوقاته إذنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فلا بد ان يخرج عن حيطة تصرفه سبحانه ولا يسع لهم هذا بل سَيَحْشُرُهُمْ
الله لَيْهِ جَمِيعاً
ويحاسبهم بما صنعوا ويجازيهم على مقتضى حسابه باشد العذاب وأسوأ النكال
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتبه ورسله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم اطاعة وانقيادا فَيُوَفِّيهِمْ الله أُجُورَهُمْ بأضعاف ما استحقوا وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لا يسع في عقولهم وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا عن عبادة الله تعالى فَيُعَذِّبُهُمْ الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بعلو المجد والبهاء عَذاباً أَلِيماً بطردهم عن ساحة عز حضوره ولا الم أشد من ذلك وَمع ذلك لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يدفع عنهم الأذى وَلا نَصِيراً يخفف عنهم العذاب
يا أَيُّهَا النَّاسُ المتوجهون الى توحيد الله لم يبق لكم عذر في الوصول اليه والرجوع نحوه إذ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ واضح نازل مِنْ رَبِّكُمْ على لسان نبيكم يبين لكم طريق الشرائع والاحكام المتعلقة بدين الإسلام فخذوا منه صلّى الله عليه وسلّم واقتدوا به وتدينوا بدينه وشريعته كي تصلوا الى ما جبلكم الحق لأجله وَمع ذلك قد أَنْزَلْنا من مقام جودنا إِلَيْكُمْ لإرشادكم وإصلاح حالكم وأبقينا بينكم ابدا(1/180)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
نُوراً مُبِيناً الا وهو القرآن العظيم المرشد لكم الى مرتبة التوحيد والعرفان
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا منكم بِاللَّهِ المتوحد في ذاته وَاعْتَصَمُوا بِهِ وبكتابه ورسوله فَسَيُدْخِلُهُمْ الله بمقتضى فضله فِي رَحْمَةٍ عظيمة وروح دائم ومسرة مستمرة إشفاقا مِنْهُ سبحانه إياهم لا استحقاقا منهم وَفَضْلٍ واحسان امتنانا عليهم وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ اى الى وحدة ذاته صِراطاً مُسْتَقِيماً موصلا الى ذروة توحيده بحيث لا يعرض لهم فيها ضلال وإضلال أصلا.
ثم قال سبحانه يَسْتَفْتُونَكَ يا أكمل الرسل عن ميراث الكلالة كيف يقسم قُلِ لهم اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ في أوائل السورة ويعيدها ايضا في آخرها تأكيدا ومبالغة وهي آخر ما نزلت من الاحكام إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ وحين هلك لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ لا ذكر ولا أنثى وَالحال انه لَهُ أُخْتٌ من الأبوين او الأب فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ الهالك وَكذا ان هلكت امرأة كذلك ولها أخ كذلك هُوَ يَرِثُها جميع مالها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ لا ذكر ولا أنثى فَإِنْ كانَتَا الأختان اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أخوهما وَإِنْ كانُوا اى الوارثون إِخْوَةً وأخوات مختلطين رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ من متروكات أخيهم وانما يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ حكم الكلالة هاهنا مع انه قد بينها فيما مضى كراهة أَنْ تَضِلُّوا وتغفلوا عنها وَبالجملة اللَّهُ المدبر لعموم مصالحكم بِكُلِّ شَيْءٍ من حوائجكم المتعلقة لحياتكم ومماتكم عَلِيمٌ يعلمكم وينبهكم عليه كيلا تذهلوا وتغفلوا عنه
خاتمة سورة النساء
عليك ايها الطالب لتحقيق الحق القاصد نحو توحيده أوصلك الله الى أقصى مرامك ان تتمسك بالبرهان الواضح الذي وصل إليك من قبل الرسول الهادي صلّى الله عليه وسلّم الدال على توحيد الحق وتستضيء دائما من نور القرآن الفارق بين الحق الواقع والباطل في طريقه وتمتثل بما فيه من الأوامر المؤدية اليه وتجتنب ايضا عن نواهيه المضلة المبعدة عنه وتتخلق بعزائمه المكنونة في ضمن الاحكام والقصص المذكورة فيه لتتحقق أنت بما رمز فيه من غوامض سر التوحيد وسريان الوحدة في ملابس الكثرة وتتمكن في مقر الوحدة الذاتية المفنية للهويات الباطلة الزائلة في أنفسها ولا يتيسر لك هذا الا بطول خدمة المرشد الكامل المكمل الذي يرشدك الى سر حبل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات الا وهو القرآن المنزل على خير الأنام كما قال صلى الله عليه وسلّم القرآن حبل الله الممدود من السماء الى الأرض. ومن أراد ان يغوص في لجج بحار القرآن لاستخراج فرائد اليقين والعرفان فعليه أولا ان يتمسك بالاحكام الشرعية الفرعية التي قد استنبطها ارباب العزائم الصحيحة عن ظواهر كلم القرآن ليكون مهذبا بظواهر اصحاب اليقظة من اهل الطلب والارادة حتى تستعد بها نفوسهم وتتصفى بواطنهم لان يفيض عليها رشحات بحر التوحيد وتصير قابلا لان ينزل عليها سلطان العشق والمحبة إذ الوقاية للب التوحيد والصدف لدر المعرفة انما هي احكام الشريعة وآداب الطريقة للسالكين القاصدين نحو الحقيقة من طريق المجاهدة والسلوك. واما البدلاء المجذوبون المنجذبون المستغرقون في بحر الذات الهائمون بمطالعة جمال الله الفانون فيه مطلقا فهم هو وهو هم مالنا ومالهم حتى نتكلم عنهم جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم فعليك ايها المريد العازم لسلوك طريق الفناء الحازم الجازم في هذا(1/181)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
العزم ان تصفى أولا سرك وسريرتك عن التوجه الى غير الحق وتجعل مطلبك ومقصدك الاستغراق والفناء في بحر الوحدة ولا يتيسر لك هذا الا بعد كسر سفينة هويتك الباطلة وتخريب اركان بدنك العاطلة ولا يتأتى لك هذا الكسر والتخريب الا بالرياضات الشاقة والمجاهدات الشديدة من الجوع والعطش والسهر المفرط والانقطاع عن اللذات الحسية والمشتهيات النفسية وكذا بالتلذذ بالموت الإرادي والفناء الاختياري وبالصبر على البلاء الاضطراري والرضا على عموم ما قد جرى عليه القضاء الإلهي ومتى تحقق هذه الأمور فيك قد وهن هويتك وضعف سفينتك وحينئذ يمكنك كسرها ان وفقت بها. اللهم زين بلطفك ظواهرنا بشريعتك وبواطننا بحقيقتك وأسرارنا بمشاهدتك وأرواحنا بمعاينتك انك على ما تشاء قدير وبإنجاح رجاء المؤملين حقيق جدير
[سورة المائدة]
فاتحة سورة المائدة
لا يخفى على المقيمين بحدود الله الموفين بعهوده المحافظين بعقوده المنعقدة بين أوصافه الذاتية بمناسبة بعضها مع بعض ومقابلة بعضها ببعض ان منشأ جميع الأوامر والنواهي الموردة في الشرع انما هي الأوصاف المتقابلة والأسماء المتخالفة الإلهية فإذا الاختلافات الواقعة بين الآثار المترتبة على تلك الأوصاف الذاتية انما تنشأ منها وتتفرع عليها والسر في ورود الأوامر والنواهي انما هو حصول الاعتدال والقسط الإلهي المعد لاستحقاق الخلافة والنيابة المقصودة من الظهور والإظهار والخلق والإيجاد لذلك كلف سبحانه خواص عباده المجبولين على هذه الفطرة بالتكليفات الشاقة والرياضات القالعة لعرق الكثرة والثنوية قطعا من قطع المألوفات وترك المشتهيات والمستلذات العائقة عن الاعتدال الفطري الإلهي وهداهم الى صراط مستقيم موصل الى توحيده بإسقاط الإضافات الطارئة من كثرة الأسماء والصفات المنتشئة من تطورات الذات وتجليات الحبية المتشعشعة ازلا وابدا بلا علل وأغراض ومالنا منها الا الحيرة والاستغراق والعجز والوله والهيمان ان وفقنا بها من عنده ولهذه المصلحة العلية قد امر سبحانه في هذه السورة عباده وأوصاهم أولا بإيفاء العهود ومحافظة العقود ليستعدوا بما لأجله جبلوا وخلقوا فقال مناديا متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المستوي على عرشه بالعدل القويم الرَّحْمنِ لعباده بهدايتهم الى الصراط المستقيم الرَّحِيمِ لهم بايصالهم الى روضة الرضا وجنة التسليم
[الآيات]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الوفاء بالعهود والعقود الموضوعة فيكم من لدنا لإصلاح حالكم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وواظبوا على اقامة الحدود ومحافظة المواثيق التي وضعها الحق بينكم المتعلقة لتدابير امور معاشكم ومعادكم من حملتها انها قد أُحِلَّتْ لَكُمْ في دينكم هذا بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وهي الأزواج الثمانية التي ستذكر في سورة الانعام وما يشبهها تقويما لأمزجتكم وتقوية لها لتتمكنوا على إتيان ما كلفتم به إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في كتاب الله تحريمه حال كونكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ مطلقا وَأَنْتُمْ في تلك الحالة حُرُمٌ محرمين للحج مأمورين بحبس القوى الشهوية والغضبية عن مقتضياتهما بل أنتم بارادتكم واختياركم معطلين لهما حتى تتمكنوا وتقدروا على الموت الإرادي الذي هو عبارة عن الحج الحقيقي عند العارف المحقق إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده يَحْكُمُ بمقتضى حكمته ومصلحته ما يُرِيدُ لهم من التحليل والتحريم بحسب الأوقات والحالات لا يسأل عن فعله بل لا بد لهم الانقياد تعبدا سيما في اعمال الحج
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله اطاعة وتعبدا مقتضى ايمانكم ان لا تُحِلُّوا ولا تبيحوا لأنفسكم شَعائِرَ اللَّهِ اى المحرمات التي قد حرمها سبحانه في اوقات(1/182)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
الحج تعظيما لأمره وبيته وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ اى لا تحلوا ايضا قواكم الحيوانية عن الحبس والزجر في الازمنة التي حرم سبحانه إطلاقها فيها لتعظيم بيته وَلَا تبيحوا ايضا لأنفسكم فيها الْهَدْيَ اى التعرض لما اهدى نحو البيت قبل بلوغه الى محله وَايضا لا تتعرضوا الْقَلائِدَ وهي ما يعلم ويقلد من الحيوانات المباحة بقلادة دالة على انه من هدايا بيت الله على ما هو عادة العرب وَعليكم ايضا ان لا تتعرضوا ولا تتقاتلوا مع المؤمنين الموقنين الذين توجهوا نحو الكعبة الحقيقية مريدين ان يخرجوا من بقعة الإمكان سالكين سبيل المجاهدة مجتهدين فيها طالبين الوصول الى كعبة الوحدة وفضاء الوجوب تقربا وتشوقا مع كونهم آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يعنى قاصدين التقرب والتحقق نحو كعبة الذات والوقوف بعرفات الأسماء والصفات إذ لا بد من وقوفها لمن قصد زيارة بيت الله الأعظم بل الركن الأصلي لزيارة بيت الله هو هذا الوقوف عند المنجذبين نحو الحق من طريق المجاهدة المستتبعة للكشف والمشاهدة لأهل العناية واما المنجذبون نحوه بالاستغناء والفناء والاستغراق التام الذي لا يحوم حوله شائبة الكثرة أصلا فهم متمكنون في مقعد صدق عند مليك مقتدر حال كونهم يَبْتَغُونَ ويطلبون هؤلاء الزوار المريدون التحقق بهذه المرتبة العلية والمنزلة السنية فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ بلا وسائل الأعمال والنسك ووسائط الأوامر والنواهي وان كانوا ممتثلين بهما متصفين بمقتضياتهما وَيطلبون ايضا من فضل الله رِضْواناً من جانب الحق وقبولا من قبله فيما يأتونه من الشعائر المكتوبة لهم في الحج الحقيقي والوقوف المعنوي إذ لا وثوق للعبد في سلوكه هذا سوى الرضا منك يا أكرم الأكرمين ويا ارحم الراحمين وَاعلموا انكم ايها المكلفون إِذا حَلَلْتُمْ وأطلقتم قوى حيوانيتكم عن عقال التكاليف المفروضة المقدرة لكم في الحج بخروج أيامها وأوقاتها مع متمماتها فَاصْطادُوا اى ابيحوا على انفسكم اصطياد ما أحل الله لكم واباحه عليكم من صيد البر والبحر وَبعد ما علمتم فوائد الحج ومناسكه وعرفتم عرفاته وميقاته لا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يوقعنكم في الجريمة شَنَآنُ قَوْمٍ بغضهم وحسدهم إياكم وخوفكم منهم الى أَنْ صَدُّوكُمْ وصرفوكم عَنِ التوجه نحو الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرمت عنده سجود السوى 2 والأغيار مطلقا فعليكم ايها القاصدون زيارة الكعبة المعظمة والقبلة المكرمة التي هي عبارة عن بيت الوحدة أَنْ تَعْتَدُوا اى تتمرنوا وتعتادوا على المقاتلة والمقابلة مع الكفار المانعين عن الزيارة من القوى الشهوية والغضبية والمستلذات الوهمية والخيالية وَتَعاوَنُوا وتناصروا عَلَى جنود الْبِرِّ المورث للرجاء وحسن الظن بربكم وَكذا على جنود التَّقْوى المشعر للخوف من قهر الله وغضبه وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ اى الخصلة الذميمة عقلا وشرعا وَالْعُدْوانِ اى التجاوز عن الحدود الشرعية العياذ بالله وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ان تجرؤا عليه بنقض عهوده ومجاوزة حدوده إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على كل ما يشاء ويريد شَدِيدُ الْعِقابِ اليم العذاب على كل من ظلم نفسه بالإثم على الله والعدوان عن مقتضى حدوده. ثم لما كان الأصل في الأشياء الحل والاباحة والحرمة انما عرضت من التكاليف الشرعية بين سبحانه أولا حكم المحللات مطلقا وما يتفرع عليها
ثم عين المحرمات التي استثناها بقوله الا ما يتلى فقال حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ في دينكم الْمَيْتَةُ المائت حتف انفه بلا سبب مزيل لحياته وَالدَّمُ المسفوح السائل بالتذكية او بغيرها وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ النجس الظاهر خباثته عقلا وشرعا وَمن جملة(1/183)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
المحرمات ايضا ما أُهِلَّ وصوت عند ذبحه لِغَيْرِ اسم اللَّهِ من اسماء الأصنام بِهِ وَكذا الْمُنْخَنِقَةُ الزائلة حياتها بالخنق وحبس النفس بلا تذكية كما يفعله المشركون وَكذا الْمَوْقُوذَةُ المضروبة بالخشب والأحجار الى ان يزول منها الروح وَالْمُتَرَدِّيَةُ اى التي سقطت من علو او في بئر فزالت حياته وَالنَّطِيحَةُ وهي التي نطحها ووطئها الحيوان الآخر فماتت وَكذا قد حرمت عليكم ما أَكَلَ السَّبُعُ منه فزال حياته إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ اى قطعتم حلقومه مهللين حين أحسستم الرمق منه فانه يحل لكم حينئذ وَكذا قد حرمت عليكم ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ اى على الأصنام المنصوبة الموضوعة حول البيت كانوا يعظمونها ويتقربون نحوها بالذبائح والقرابين وَايضا من جملة المحرمات أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ اى الأقداح. وذلك انهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي وعلى الآخر نهاني ربي وعلى الآخر غفل فان خرج الأمر مضوا عليه وان خرج النهى انصرفوا عنه وان خرج الغفل اجالوها ثانيا. ومعنى الاستقسام بها الاستخبار والاستفسار عن القسمة الغيبية التي قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها. وأمثال هذا ما هي الا كهانة وكفر صدرت عن ذوى الأحلام السخيفة الخبيثة الناشئة من عدم الرضا بالقضاء ذلِكُمْ اى استقسامكم واستخباركم من ازلامكم وأقداحكم فِسْقٌ خروج عما عليه الأمر والشرع وديدنة الجاهلية فعليكم ان تجتنبوا عن أمثالها سيما الْيَوْمَ يَئِسَ وقنط بالمرة القوم الَّذِينَ كَفَرُوا عن انصرافكم مِنْ دِينِكُمْ لظهوره وغلبته على عموم الأديان فَلا تَخْشَوْهُمْ عن غلبتهم بترك رسومهم وعاداتهم المستقبحة بل وَاخْشَوْنِ عن بطشى وانتقامي بترك ما أمرت لكم ونهيت عنكم في جميع أحوالكم وازمانكم سيما الْيَوْمَ الذي قد أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأعنت عليكم وغلبتكم على مخالفيكم مطلقا وأظهرت دينكم على الأديان كلها وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ظاهرة وباطنة بالاستيلاء والغلبة على الأعداء وقمع عموم الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة بالكلية وَمن إتمام نعمتي عليكم وتوفيرها لكم انى رَضِيتُ اى اخترت وانتخبت لَكُمُ الْإِسْلامَ اى الإطاعة والانقياد على سبيل التعبد والتسليم دِيناً اى ديدنة ومذهبا إذ لا دين أعز عند الله من دين الإسلام وبعد إكمال دينكم وإتمام النعم عليكم وتحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم فَمَنِ اضْطُرَّ منكم فِي مَخْمَصَةٍ مجاعة مفرطة ملجئة الى تناول الجيف والمحرمات حال كونه غَيْرَ مُتَجانِفٍ مائل لِإِثْمٍ وقاصد لمعصية رخص له التناول منها شرعا مقدار سد جوعة فَإِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم غَفُورٌ لما صدر عنكم حين اضطراركم ومخمصتكم رَحِيمٌ لا يؤاخذكم عليه بعد ما رخص لكم
يَسْئَلُونَكَ من آمن بك يا أكمل الرسل ماذا اى اى شيء من الأشياء المأكولة المتعارفة أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ لهم قد أُحِلَّ لَكُمُ في دينكم هذا الطَّيِّباتُ التي مضى ذكرها في أول السورة من البهائهم المذكاة وما شابهها من الوحشيات وَكذا أحل لكم صيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ الكواسب لكم الصيد من ذوات القوائم والمخالب حال كونكم مُكَلِّبِينَ معلمين مؤدبين أنتم اياهن الصيد بحيث تُعَلِّمُونَهُنَّ أنتم مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من مقتضيات العقل المفاض لكم بأنواع الحيل اياهن وبعد ما علمتموهن فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ من صيدهن حلالا طيبا وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ اى وعليكم ان تذكروا اسم الله حين إرسال الجوارح المكلبة نحو الصيد وَاتَّقُوا اللَّهَ ان لا تهلوا على الصيد والذبائح ولا تحلوها(1/184)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
بذكر اسم الله تعالى عليها سيما بعد ورود الأمر به إِنَّ اللَّهَ المطلع بجميع حالاتكم سَرِيعُ الْحِسابِ شديد العقاب لمن لم يمتثل بأوامره ولم يجتنب عن نواهيه
الْيَوْمَ اى حين انتشر وظهر دينكم على عموم الأديان كلها قد أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ المذكورة المحللة فيها وَايضا طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى اليهود والنصارى وذبائحهم حِلٌّ لَكُمْ في دينكم وَكذا طَعامُكُمْ واطعامكم حِلٌّ لَهُمْ لأنهم من ذوى الملل واولى الأديان وَكذا قد أحل لكم الْمُحْصَناتُ الحرائر العفائف مِنَ الْمُؤْمِناتِ اى نكاحكم اياهن وَكذا الْمُحْصَناتُ ايضا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مهورهن بلا تنقيص وتكسير حال كونكم مُحْصِنِينَ محافظين على حقوق الزواج والنكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ مجاهرين بالزنا وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مستترين به وَمَنْ يَكْفُرْ منكم وينكر بِالْإِيمانِ وبلوازمه وحدوده الدالة على صحته فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ثم لما بين سبحانه ما يتعلق بمعاش عباده من الحل والحرمة والزواج والنكاح وحسن المعاشرة ورعاية الآداب والحقوق المشروعة فيها أراد ان يرشدهم الى طريق الرجوع نحو المعاد الذي هو المبدأ بعينه ليميلوا اليه ويتوجهوا نحوه على نية التقرب الى ان وصلوا بل اتصلوا
فقال مناديا لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بوحدة ذات الحق وتنزهه عن وصمة الكثرة مطلقا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اى إذا قصدتم ان تخرجوا عن بقعة الإمكان مهاجرين وأردتم ان تميلوا نحو فضاء الوجوب متحننين متشوقين فَاغْسِلُوا أولا اى فعليكم ان تغسلوا بماء المحبة والشوق والجذب الإلهي المحبى المنبت نبات المعارف والحقائق من أراضي استعداداتكم ومزارع تعيناتكم وُجُوهَكُمْ التي تلى الحق عن رين الإمكان وشين الكثرة مطلقا وَطهروا أَيْدِيَكُمْ ثانيا اى قصروها عن ادناس الأخذ والإعطاء من حطام الدنيا ونظفوها عن اقذارها إِلَى الْمَرافِقِ اى مبالغين في تطهيرها الى أقصى الغاية وَبعد ما غسلتم الوجوه وطهرتم الأيدي امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اى امحوا وحكوا انانيتكم وهويتكم التي منها طلبكم واربكم وبسببها ومقتضاها تعبكم في الدنيا وَامحوا ايضا أَرْجُلَكُمْ واقطعوا اقدامكم التي بها سلوككم واقدامكم نحو مزخرفاتها إِلَى الْكَعْبَيْنِ مبالغين فيها الى ان ينقطع توجهكم وطلبكم عن غير الحق ويتمحض سيركم وسلوككم بالفناء في الله وَإِنْ كُنْتُمْ ايها المائلون نحو الحق جُنُباً منغمسين في خبائث الإمكان وقاذوراتها غاية الانغماس فَاطَّهَّرُوا اى فعليكم المبالغة في التطهير بالرياضات الشاقة والمجاهدات الشديدة القالعة لعروق التعلقات واصول المألوفات والمشتهيات وبالركون الى الموت الإرادي والخروج عن الأوصاف البشرية مطلقا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى اى من الأبرار الذين مرضوا بسموم الإمكان ويحموم نيرانه وصاروا محبوسين مسجونين فيه بلا قدم واقدام أَوْ عَلى سَفَرٍ من السالكين السائرين نحو الحق بلا بدرقة الجذبة أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ اى عاد ورجع عن التدلس والتلوث بغلاظ ادناس الدنيا من جاهها ومالها ورئاستها أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ التي هي كناية عن الدنيا الدنية ومزخرفاتها البهية وشهواتها الشهية واستكرهتموهن لأنهن من أقوى حبائل الشيطان وشباكها يصرف بها اهل الارادة عن جادة السلامة فَلَمْ تَجِدُوا في عموم هذه الصور المذكورة من لدن نفوسكم وقلوبكم ماءً اى محبة وشوقا الى الحق مطهرا(1/185)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
لخباثة نفوسكم قالعا لها مطلقا او جذبة صادقة مزيلة لدرن التعلقات عن أصلها او خطفة مفرطة بارقة من جانب الحق مزعجة ملجئة الى الفناء فيه فَتَيَمَّمُوا اى فعليكم ان تقصدوا وتتوجهوا صَعِيداً طَيِّباً اى مرشدا كاملا وهاديا مكملا طاهر عن جميع الرذائل والآثام العائقة عن الوصول الى جنة الوحدة فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ اى بهوياتكم الباطلة وَأَيْدِيَكُمْ اى اوصافكم الذميمة العاطلة مِنْهُ اى من تراب اقدامه وثرى سدته السنية وعتبته العلية لعله بيمن أنفاسه المتبركة يرشدكم الى النجاة عن مضيق التعينات ويهديكم نحو فضاء الذات. واعلموا ايها المكلفون القاصدون للتحقق نحو فضاء الوحدة الذاتية والقبلة الحقيقية ما يُرِيدُ اللَّهُ المدبر لعموم مصالحكم المتعلقة لمبدئكم ومعادكم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ ويبقى فيكم مِنْ حَرَجٍ يمنعكم عن الوصول الى ما جبلتم لأجله وَلكِنْ يُرِيدُ بمقتضى فضله ولطفه لِيُطَهِّرَكُمْ ويصفيكم أولا من اقذار التعينات وادناسها وَلِيُتِمَّ ويوفر نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ثانيا مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اى رجاء ان تشكروا له حين تفوزون ما تفوزون
وَبعد ما سمعتم من الحق ما سمعتم ووعدتم من عنده ما وعدتم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ التي أنعمها عَلَيْكُمْ وقوموا بمواظبة شكرها وَتذكروا مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ في أزل استعدادكم بالسنة قابلياتكم حين سمعتم قوله سبحانه الست بربكم سَمِعْنا قولك يا ربنا أنت أظهرتنا بفضلك وجودك من كتم العدم وربيتنا في كنف حفظك وجوارك بأنواع اللطف والكرم وَأَطَعْنا ما امرتنا به طوعا وَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور من نقض ميثاقه إِنَّ اللَّهَ المطلع بالسرائر والخفايا عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بمكنونات صدوركم يجازيكم على مقتضى علمه وخبرته
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ مستقيمين في عموم ما أمركم به في طريق توحيده شُهَداءَ حضراء مستحضرين بِالْقِسْطِ والعدل بحقوق آلائه ونعمائه الفائضة عليكم من عنده تفضلا وامتنانا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ اى لا يحملنكم ولا يبعثنكم شَنَآنُ قَوْمٍ اى شدة عداوة قوم وبعضهم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ولا تقسطوا فيما أنعم الله تعالى عليكم بان تتجاوزوا عن حدود الله حين القدرة والاقتدار على الانتقام تشفيا لصدوركم بل عليكم ان تقسطوا في كل الأحوال سيما عند المكنة والقدرة والاقتدار وبالجملة اعْدِلُوا ايها المنعمون بالقدرة والظفر هُوَ اى عدلكم أَقْرَبُ لِلتَّقْوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته وَاتَّقُوا اللَّهَ المراقب لكم في عموم أحوالكم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من مقتضيات نفوسكم وتسويلاتها
وَعَدَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيده وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة نحوه المأمورة من عنده ان قد حصل لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم تفضلا منه وامتنانا وَمع ذلك لهم عند ربهم أَجْرٌ عَظِيمٌ الا وهو الفوز بشرف اللقاء ان أخلصوا واعتدلوا في عموم ما جاءوا.
وبعد ما قد وعد سبحانه للمؤمنين ما وعد اردفه بوعيد الكفار جريا على مقتضى سنته المستمرة في دعوة عباده فقال وَالَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيدنا واثبتوا الوجود لغيرنا مكابرة وعنادا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا اى دلائلنا الدالة على وحدة ذاتنا المنزلة على رسلنا أُولئِكَ البعداء المنهمكون الكفر والضلال أَصْحابُ الْجَحِيمِ اى مصاحبوها وملازموها لا نجاة لهم منها أصلا لكمال توغلهم وانهماكهم في اسبابها
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ كيف ينجيكم من يد العدو وقت إِذْ هَمَّ وقصد قَوْمٌ من عدوكم أَنْ يَبْسُطُوا ويمدوا إِلَيْكُمْ(1/186)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
أَيْدِيَهُمْ حين كنتم مشغولين في الصلاة ويفاجئوا عليكم بغتة ويستأصلوكم مرة فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ بالوحي على نبيكم امتنانا وتفضلا عليكم وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ الحفيظ الرقيب عليكم من ان تخالفوا امره وَعَلَى اللَّهِ في كل الأمور فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الموقنون بوحدانيته بحفظه وحمايته. ثم لما أراد سبحانه تقرير المؤمنين على الايمان وتثبيت قدمهم على جادة التوحيد والعرفان استشهد عليهم تزلزل بنى إسرائيل وعدم رسوخ قدمهم في الايمان والإطاعة مع أخذ المواثيق الوثيقة والايمان الغلاظ منهم على لسان نبيهم صلوات الرّحمن على نبينا وعليه
فقال وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ العليم الحكيم بلسان موسى الكليم مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ اى العهد الوثيق منهم بعد ما خلصوا من فرعون وورثوا منه ما ورثوا واستقروا على ملك مصر وَذلك انا قد بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً من نجبائهم ونخبائهم من كل فرقة نقيب مسلم بينهم رئاسة ووجاهة وجاها وثروة وبالجملة كل من النقباء يولى امر فرقته عند نبينا موسى عليه السّلام فعهدوا بأجمعهم ان يسيروا مع موسى الى اريحاء في الشام حين أوحينا اليه بالسير والسفر نحوه فساروا الى ان وصلوا اليه وكان فيه الجبابرة الكنعانيون فلما أراد موسى عليه السّلام ان يفتش عن أحوالهم ويفحص عن اخبارهم أرسل النقباء جواسيس وعيونا يتجسسون العدو ولا يظهرون ما اطلعوا عليه من حال العدو على فرقهم فذهبوا وتجسسوا فلما رأوا العدو ذوى قوة واولى بئس شديد هابوا منهم وترهبوا فرجعوا الى قومهم فأخبروا لهم ما ظهر عليهم من شوكة العدو وبالجملة نقضوا العهود والمواثيق الا قليلا منهم فانصرفوا ورجعوا جميعا وَمع ذلك قالَ اللَّهُ الرقيب الحفيظ عليهم حين أمرهم إِنِّي مَعَكُمْ أنصركم على عدوكم وأخرجهم منها صاغرين فو عزتي وجلالي لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ على الوجه الذي وصل إليكم من نبيكم وامر في كتابكم وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ على الوجه المشروع وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي بلا تفريق بينهم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ عظمتموهم ونصرتموهم في إعلاء كلمة الحق واشاعة احكام الدين القويم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ الحكيم العليم مما في أيديكم من مزخرفة الدنيا قَرْضاً حَسَناً اى إنفاقا للفقراء والمساكين بلا شوب المن والأذى لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ ولأمحون عن ديوان أعمالكم سَيِّئاتِكُمْ بأسرها البتة وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جزاء إخلاصكم وانفاقكم جَنَّاتٍ منتزهات ثلثة العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مملوة بمياه الحقائق والمعارف فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ اى بعد ما سمع التذكير والعظة من الله فَقَدْ ضَلَّ وفقد سَواءَ السَّبِيلِ لا دواء لدائه ولا رجاء لإنجائه. اللهم اهدنا بجودك الى سواء السبيل
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وبعدم وفائهم للعهود الوثيقة المؤكدة قد لَعَنَّاهُمْ وطردناهم عن ساحة فضاء التوحيد وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً مظلمة مكدرة بظلمة الإمكان الى حيث يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ المثبتة في كتاب الله لإعلاء كلمة توحيده عَنْ مَواضِعِهِ التي وضعها الحق فيها وَنَسُوا حَظًّا ونصيبا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ اى بالتورية ووعظوا عنه واستفادوا منه مع انهم مجبولون على فطرة العظة والتذكير وَصاروا من غاية القساوة والنسيان بحيث لا تَزالُ تَطَّلِعُ دائما مستمرا عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ متبالغ في الخيانة إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا بك وأنصفوا حيث أظهروا جميع ما في التورية ولم يحرفوها فَاعْفُ عَنْهُمْ يا أكمل الرسل بعد ما أنصفوا ورجعوا عن التحريف وان حرفوها زمانا وَاصْفَحْ وانصرف عن انتقامهم الى الإحسان(1/187)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
معهم إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على الانعام والانتقام يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المتجاوزين عن الانتقام سيما بعد الاقتدار عليه
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى مدعين نصرة الدين وإعلاء كلمة الحق المبين قد أَخَذْنا ايضا كما أخذنا من اليهود مِيثاقَهُمْ فنقضوا ايضا كما نقضوا فَنَسُوا كما نسوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ اى بالإنجيل المنزل على عيسى عليه السّلام فَأَغْرَيْنا اى قد ألقينا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ المستمرة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بحيث لا يصفو نفاقهم وشقاقهم أصلا بان جعلناهم فرقا متخالفين متخاصمين وهم اليعقوبية والمسطورية والملكائية وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ المنتقم العليم كلا الفريقين اى اليهود والنصارى بِما كانُوا يَصْنَعُونَ في الدنيا من البغض والنفاق وبما يكسبون به في الآخرة من العذاب والعقاب
يا أَهْلَ الْكِتابِ اى اليهود والنصارى المجبولين على الكفر والعناد قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا اضافه الى نفسه تعظيما وتوقيرا يُبَيِّنُ ويظهر لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ من أوامره ونواهيه واخباره المتعلقة بالزمان الماضي والآتي سيما نعت خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله عليه وسلامه وانما يبين لكم المذكورات لئلا يفوت منكم شيء من امور الدين ولا تؤاخذوا به وَمع ذلك يَعْفُوا ويصفح عَنْ تبيين كَثِيرٍ من مخفياتكم من الكتب مما لا يترتب عليه العذاب والنكال فعليكم ان تؤمنوا به وبما جاء به لهدايتكم الى طريق التوحيد إذ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ معه نُورٌ واضح الا وَهو كِتابٌ مُبِينٌ ظاهر لائح هدايته وإرشاده
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ الهادي لعباده مَنِ اتَّبَعَ منهم رِضْوانَهُ اى ما يرضى به سبحانه سُبُلَ السَّلامِ اى طرق التوحيد الموصولة الى سلامة الوحدة المسماة عنده سبحانه بدار السّلام وَيُخْرِجُهُمْ اى المتبعين رضوانه مِنَ الظُّلُماتِ المتراكمة ظلمة العدم وظلمة الإمكان وظلمة التعينات إِلَى النُّورِ اى الوجود البحت الخالص عن شوب الظلمة إذ هو نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء من اهل العناية بِإِذْنِهِ وتوفيقه وجذب من جانبه وَبالجملة يَهْدِيهِمْ به ان سبق لهم العناية منه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده
ثم قال سبحانه والله لَقَدْ كَفَرَ واعرض عن الحق ولم يعرف حق قدره وقدر حقيته الغلاة الَّذِينَ بالغوا في وصف عيسى عليه السّلام وغلوا في شأنه مبالغين الى ان قالُوا عن سبيل الحصر والتخصيص إِنَّ اللَّهَ المتجلى في الآفاق بكمال الإطلاق والاستحقاق هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما فَمَنْ يَمْلِكُ اى يدفع ويمنع مِنَ اللَّهِ القادر المقتدر العالم بالسرائر والخفايا شَيْئاً من مراداته ومقدوراته إِنْ أَرادَ وشاء أَنْ يُهْلِكَ اى يبقى على الهلاك الأصلي والفناء الجبلي بلا مد من ظله ورش من نوره الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ايضا بل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَبالجملة لا يبالى الله الغنى المستغنى بذاته عن مطلق المظاهر والأكوان لا به ولا بها ولا بهم جميعا إذ لِلَّهِ المنزه عن مطلق الكوائن والفواسد الكائنة الثابتة مطلقا مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يتصرف فيها حسب ارادته واختياره كيف يشاء إيجادا واعداما احياء وافناء بحيث يَخْلُقُ ويظهر ما يَشاءُ بلطفه ويعدم ويخفى ما يشاء بقهره وَبالجملة اللَّهَ المتصف بعموم أوصاف الكمال عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيرٌ لا تفتر قدرته عند مقدور ولا ينتهى ارادته ومشيئته دون مراد
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى من غاية مبالغتهم وغلوهم في حق عزير وعيسى عليهما السّلام نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ(1/188)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
إذ نعبد ابنيه عزيرا وعيسى عليهما السّلام وَأَحِبَّاؤُهُ إذ نحن نحبهما وهما محبوباه سبحانه قُلْ لهم يا أكمل الرسل فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ الله المنتقم الغيور بِذُنُوبِكُمْ ان كنتم صادقين في هذه الدعوى وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والسبي والاجلاء وضرب الذلة والمسكنة وفي الآخرة بأضعاف ما في الدنيا وآلافها فعليكم ان لا تغلوا في دينكم ونبيكم ولا تفتروا على الله الكذب بَلْ أَنْتُمْ ونبيكم ايضا بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ اى من جنس ما خلق الله بقدرته وأظهره حسب ارادته فله التصرف فيكم وفيهم بحيث يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ تفضلا وامتنانا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ عدلا وانتقاما وَاعلموا انه لِلَّهِ المتصرف المطلق مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يتصرف فيها كيف يشاء ارادة واختيارا وَإِلَيْهِ لا الى غيره الْمَصِيرُ والمرجع إذ الكل منه بدأ واليه يعود
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تفتروا في امور دينكم ولا تضعفوا فيها إذ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا الموعود في كتابكم يُبَيِّنُ لَكُمْ امور دينكم مع كونه عَلى فَتْرَةٍ انقطاع وحى مِنَ الرُّسُلِ وانما أرسلناه كراهة أَنْ تَقُولُوا وتعتذروا حين وهن دينكم وضعف يقينكم ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ حتى يصلح امور ديننا فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ اى يبشر وينذر لئلا تعتذروا على ما تقتصروا فيه فكذبتموه ولم تقبلوا منه عموم ما جاء به من اسرار الدين والايمان وَاللَّهُ المقتدر المجازى عَلى كُلِّ شَيْءٍ من انواع الجزاء قَدِيرٌ يجازيكم على مقتضى قدرته وخبرته
وَاذكروا إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وهم اسلافكم وآباءكم حين أراد أن يذكرهم نعم الله التي أنعمها عليهم ليقوموا بشكرها يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تفضلا وامتنانا إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ منكم أَنْبِياءَ كانوا يرشدونكم ويهدونكم الى طريق التوحيد وَجَعَلَكُمْ ايضا مُلُوكاً متصرفين في اقطار الأرض وَآتاكُمْ من الخوارق والارهاصات من فلق البحر وظل الغمام وسقى الحجر ونزول المن والسلوى وغير ذلك ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ حين ظهوركم واستيلائكم
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ المطهرة عن شوائب الفتن الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ اى قدرها في حضرة علمه القديم لمقركم ومسكنكم إذ هي منازل الأنبياء ومقر الأولياء والأصفياء فعليكم ان تقبلوا إليها تاركين ديار العمالقة والفراعنة التي هي محل انواع الجور والعناد ومجمع اصناف البغي والفساد وَعليكم ان لا تَرْتَدُّوا بعد ما سمعتم الوحى عَلى أَدْبارِكُمْ خوفا من الجبابرة قيل لما سمعوا أوصاف جبابرة الكنعان من نقبائهم خافوا واستوحشوا وفزعوا وقالوا ليتنا نرد على أعقابنا تعالوا ننصب رأسا ينصرف بنا الى مصر إذ موتنا فيها خير من الحيوة في موضع آخر وان ترتدوا وترجعوا فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ خسرانا عظيما لذلك صاروا بعد انقلابهم في الدنيا تائهين حائرين وفي الآخرة خاسرين خائبين وبعد ما سمعوا من موسى ما سمعوا
قالُوا على صورة الاعتذار واظهار العجز وعدم الاقتدار وما هي الا من عدم تثبتهم على الايمان وعدم رسوخهم في مقتضياته وعدم وثوقهم بنصر الله واعانته سيما بعد ما أمرهم بالنقل والترحال ووعدهم ما وعدهم من النصر والظفر يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ لا يتأتى منا مقاومتهم ومقاتلتهم وَبالجملة إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها بقتال او غيره فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها على اى وجه فَإِنَّا داخِلُونَ إذ لا طاقة ولا قدرة لنا معهم
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ من قهر الله وغضبه سيما بعد ورود امره إذ هما من اهل الوثوق بنصر الله وانجاز وعده إذ قد أَنْعَمَ اللَّهُ المنعم المفضل عَلَيْهِمَا بالإيمان والإذعان وبإعطاء الحكمة والمعرفة(1/189)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ اى ضيقوا على عدوكم باب بلدهم وقربوهم الى حيث يضطرون ويخافون من جسامتهم وضيق أمكنتهم فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ على هذا الوجه فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ غانمون البتة وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بما وعدتم
قالُوا مستهزئين مصرحين بما تكن صدورهم من الكفر وعدم الوثوق والإخلاص ومناقضة العهود والمواثيق الإلهية يا مُوسى لا تحملنا ما لا طاقة لنا به إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها وان شئت فَاذْهَبْ أَنْتَ ايها الداعي وَرَبُّكَ الذي دعوتنا اليه وادعيت الإعانة والانتصار منه فَقاتِلا مع العدو إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ منتظرون الى ان يظهر الأمر
قالَ موسى بعد ما سمع منهم ما سمع يؤسا قنوطا باثا الشكوى مع ربه رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ ولا أثق لامتثال أمرك إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى أمرك التاركين الامتثال به من عدم وثوقهم بإعانتك وتأييدك.
ثم لما سمع سبحانه من موسى ما سمع من بث الشكوى وكان حالهم وصلاحهم معلومة عنده سبحانه قالَ مهددا إياهم فَإِنَّها اى الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ مدة أَرْبَعِينَ سَنَةً خص هذا العدد لأنهم لما أعادوا نفوسهم بعدم امتثال امر الله والاستهزاء به وبرسوله الى ما هم عليه قبل ايمانهم والايمان ما يكمل غالبا الا بعد الأربعين لذلك خص هذه المدة لمجازاتهم ومجاهداتهم ليكمل الايمان فيها وبعد ما ارتدوا من الشأم وتوجهوا نحو المصر يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ المقدرة بستة فراسخ تائهين حائرين مذبذبين لا الى مصر ولا الى الشأم في تلك المدة وموسى سار معهم فيها ليرشدهم الى ان يخرجهم من الحيرة والضلال الصوري والمعنوي ثم لما رأى موسى اضطرار قومه وحزنهم وقلقهم واضطرابهم رحمهم وندم عما دعا عليهم فدعا لهم بمقتضى شفقة النبوة ومرحمتها لذلك رد الله سبحانه عليه بقوله فَلا تَأْسَ اى لا تحزن ايها النبي الشاكي عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى التصديق والايمان التاركين سبيل اليقين والعرفان
وَاتْلُ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ اى على من تبعك من المؤمنين نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ اى قصة قابيل وهابيل واختلافهما وقربانهما وقتل قابيل هابيل ليعتبروا ويتنبهوا من قصتهما على ما هو الأقوم من السبل والأليق بحال المؤمن من حسن المعاشرة مع الخلان وآداب المصاحبة مع الاخوان ورعاية الغبطة والتصبر على البلية والمحنة وان ادى الى بذل المهجة والإخلاص مع الله في عموم الأحوال تلاوة ملتبسة بِالْحَقِّ مطابقة للواقع موافقة لما في الكتب السالفة وذلك انهما تنازعا في تزوج كل منهما توأمة الآخر على ما هو شرع أبيهم فقال قابيل توأمتى احسن صورة من توأمتك انا أحق بتزوجها منك فترافعا الى أبيهما فامرهما بالقربان المقرب الى الله اذكروا وقت إِذْ قَرَّبا باذن أبيهما كل واحد منهما بمقتضى اخلاصهما مع الله قُرْباناً كان قابيل صاحب زرع قرب مقدارا من أردإ قمحه وهابيل صاحب ضرع قرب شاة سمينة حسناء فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وقد كان علامة القبول حينئذ انه تنزل نار من جانب السماء وتأكل جميع ما يتقربوا به فأخذا قرباناهما وذهبا الى جبل فطرحا عليه وانتظرا القبول فنزلت نار فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان أخيه فاشتد غضبه وسخطه على أخيه وزاد حسده بقبول الله قربانه الى حيث قالَ من شدة غضبه والله لَأَقْتُلَنَّكَ البتة إذ قد ظهر مزيتك على وفضلك عند الله منى وبذلك تفتخر وتتفوق على بين الناس قالَ هابيل يا أخي مالي في هذا التقرب الا الإخلاص والرجوع الى الله والإطاعة والانقياد لأمره والاجتناب(1/190)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
والتحرز عن سخطه وغضبه بلا غرض نفسانى وميل شهوانى فتقبل منى بمقتضى فضله ولطفه إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ اى ما يتقبل الله المطلع لسرائر عباده أعمالهم التي يتقربون بها الى الله الا مِنَ الْمُتَّقِينَ المتقربين اليه بين طرفي الخوف والرجاء المخلصين فيما جاءوا به خالصا لوجهه الكريم بلا ميل منهم الى ما تهوى نفوسهم
ثم اقسم هابيل بعد ما أوعده اخوه بالقتل والله يا أخي لَئِنْ بَسَطْتَ أنت إِلَيَّ يَدَكَ من افراط غيظك وغضبك وشؤم امارة نفسك وطغيان طبعك لِتَقْتُلَنِي ظلما بلا رخصة شرعية بل عن محض عناد ومكابرة ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لدفع ضررك وصولتك عن نفسي او لِأَقْتُلَكَ على مقتضى امارتى وكيف اقعل كذا إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ من تخريب بنيته لمجرد دفع الصائل وان رخص شرعا ولا أخاف على نفسي من القتل إذ الشهداء المقتولون ظلما احياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله
بل إِنِّي من غاية اشفاقى واعطافى معك يا أخي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ اى لان تذهب ولان ترجع أنت الى الله بِإِثْمِي اى بإثمك المنسوب الى قتلى وَإِثْمِكَ الذي كنت فيه فَتَكُونَ حينئذ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ عند الله بهذا الظلم الصريح وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ عنده سبحانه
فَطَوَّعَتْ لَهُ اى لقابيل نَفْسُهُ اى هيجت نفسه حسده الى حيث رضى طوعا وحسن له الشيطان قَتْلَ أَخِيهِ رغبة فَقَتَلَهُ ظلما بلا مدافعة منه كما شرط فندم دفعة فَأَصْبَحَ وصار مِنَ جملة الْخاسِرِينَ خسرانا عظيما مبينا في الدنيا والآخرة وبعد ما وقع ما وقع تحير في دفعه واخفائه إذ لم يمت احد من بنى آدم الى تلك المدة فحمله على عاتقه ضرورة وسار معه الى حيث انتفخ وأنتن
فَبَعَثَ اللَّهُ تعالى المدبر الحكيم حينئذ أعلا ماله غُراباً فقتل غرابا آخر من جنسه عنده فأراد ان يدفنه لذلك يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ اى يضرب بمنقاره ورجله عليها ليحفرها لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي يدفع ويستر سَوْأَةَ أَخِيهِ اى جسده وجثته التي يسوءه بنتنه ونفخه فتفرس قابيل منه الأعلام قالَ حينئذ متحسرا متحزنا قلقا حائرا يا وَيْلَتى ويا هلكتا احضرى أَعَجَزْتُ وعزلت عن مقتضى العقل وعن الاهتداء به الى حيث أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ المنعزل عن مقتضى العقل والإدراك بل صرت انا متابعا له متلمذا منه فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي بتعليمه فواراه ودفعه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ندامة مؤبدة بحيث لا يضحك مدة حياته أصلا وعاش مائة سنة واسود لونه الى حيث لم يعرف اهوام غيره
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وبسبب وقوع هذا بين بنى آدم كَتَبْنا اى قد قضينا والزمنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ اى بلا قصاص شرعي أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ مرخص موجب لقتله من شرك وبغى وقطع طريق وغير ذلك من الفسادات العامة السارى شرها وضرها فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً إذ كل فرد من افراد الإنسان مستجمع لكمالات الجميع بسعة قلبه وعلو رتبته وفسحة استعداده وقابليته لمظهرية الحق وخلافته فكان قتله قتل الجميع وَكذا مَنْ أَحْياها اى خلصها وأنجاها من المهلكة والمتلفة فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً على الوجه المذكور وَبعد ما قضينا على بنى إسرائيل ما قضينا لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا تأكيدا له وتشديدا إياه بِالْبَيِّناتِ الدالة على عظم جريمة القتل عند الله وعظم الجزاء والنكال المترتب عليها في الآخرة ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل سيما بَعْدَ ذلِكَ التأكيد والتشديد فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ على أنفسهم بالقتل بلا رخصة شرعية من غير مبالاة بالآيات البينات
ثم قال سبحانه إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ(1/191)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
يُحارِبُونَ اللَّهَ العليم الحكيم ويقاتلون له بعدم امتثال امره وحكمه وانقياد شرعه وَرَسُولَهُ بتكذيبه وتكذيب ما جاء به من عند ربه والقتال معه ومع من تابعه وَمع ذلك يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يعنى يترددون في أقطارها مفسدين بأنواع الفسادات السارى ضررها في الآفاق أَنْ يُقَتَّلُوا حيث وجدوا دفعة أَوْ يُصَلَّبُوا حيا ليعتبر منهم من في قلبه مرض مثل مرضهم ثم يقتلوا على أفظع وجه واقبحه أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ متبادلتين ليعيشوا بين الناس كذلك لينزجر منهم نفوس اهل الاهوية الفاسدة أَوْ يُنْفَوْا ويخرجوا مِنَ الْأَرْضِ الى حيث يؤمن من شرورهم ذلِكَ المذكور من البغاة الطغاة المترددين بين الناس بالفساد لَهُمْ خِزْيٌ تدليل وتفضيح فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ اى طرد وتبعيد عن مرتبة اهل التوحيد
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ورجعوا الى الله عما كانوا عليه مخلصين نادمين خائفين من بطشه راجين من عفوه وجوده مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ اى غرماؤهم وتأخذوهم مطالبين القصاص عنهم فحينئذ يسقط عنهم حق الله بالتوبة ان أخلصوا فيها فَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ الموفق لهم على التوبة غَفُورٌ لهم يغفر ذنوبهم رَحِيمٌ لهم يقبل توبتهم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم التقوى عن محارم الله اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور عن ارتكاب ما حرم عليكم ونهاكم عنه وَابْتَغُوا واطلبوا منه سبحانه إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ المقربة لكم الى ذاته لتتوسلوا به الى توحيده وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لقطع العلائق ورفع الموانع مع القوى البشرية الشاغلة عن التوجه نحوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بفضاء توحيده وصفاء تجريده وتفريده. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعد بالوعيد
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة الله وأصروا على ما هم عليه من الكفر والشقاق لَوْ أَنَّ لَهُمْ اى لو تحقق وثبت ان لهم وفي تصرفهم ملك ما فِي الْأَرْضِ من الزخارف والكنوز جَمِيعاً بل وَمِثْلَهُ مَعَهُ بل أضعاف أمثاله كل ذلك لِيَفْتَدُوا بِهِ ويخلصوا مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ونكاله المترتب على كفرهم المعد لهم بشركهم ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ لعظم جرمهم وإصرارهم عليه وَلَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مؤبد مخلد بحيث لا يرجى نجاتهم منه أصلا
يُرِيدُونَ متمنين أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَالحال انه ما هُمْ بِخارِجِينَ مخرجين مِنْها لاستحالة الخروج عن مقتضى الحكم المبرم الإلهي بل وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم متجدد متلون لئلا يعتادوا بنوع منه
ثم قال سبحانه وَالسَّارِقُ المتجاوز عن حدود الله وَكذا السَّارِقَةُ المتجاوزة عنها فَاقْطَعُوا ايها الحكام أَيْدِيَهُما اى اليمين منهما ان اخرجا المسروق من الحزر المتعارف جَزاءً بِما كَسَبا معهما نَكالًا عقوبة وتعذيبا صادرا مِنَ اللَّهِ المنتقم الغيور لتصرفهم في ملك الغير بلا رخصة شرعية وَاللَّهُ المتصرف في ملكه وملكوته بكمال الاستيلاء والاستقلال عَزِيزٌ غالب قادر على انواع الانتقام حَكِيمٌ متقن في تقديره وتعيينه
فَمَنْ تابَ ورجع الى الله مخلصا خائفا مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وخروجه عن حدود الله وَأَصْلَحَ بالتوبة ما أفسد على نفسه من مجاوزة حكم الله فَإِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده يَتُوبُ عَلَيْهِ ويقبل منه توبته بعد ما وفقه عليها إِنَّ اللَّهَ الميسر لأمور عباده غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ لهم بعد ما رجعوا اليه راجين عفوه
أَلَمْ تَعْلَمْ ايها الداعي للخلق الى الحق أَنَّ اللَّهَ المتوحد المستقل بالالوهية والتصرف لَهُ مُلْكُ(1/192)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
السَّماواتِ من الكائنات والفاسدات فيها وَالْأَرْضِ وما يتكون عليها وكذا ملك ما بينهما من بدائع الكوائن والفواسد الكائنة في الجو يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ من اهل التكاليف على ما صدر عنهم من الجرائم عدلا منه سبحانه وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ فضلا ولطفا وَاللَّهُ المتصرف المطلق بكمال الاستقلال والاستحقاق في ملكه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الانعام والانتقام قَدِيرٌ له الارادة والاختيار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ المبعوث بالحق على كافة الخلق بشيرا ونذيرا لا يَحْزُنْكَ ولا يشوشك صنيع الفرق الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ اى يسرعون اليه عند الفرصة لكون جبلتهم عليه وميلهم بالطبع نحوه وهم اى المسارعون المسرعون مِنَ المداهنين المنافقين الَّذِينَ قالُوا حفظا لدمائهم وأموالهم آمَنَّا قولا مجردا بِأَفْواهِهِمْ وَالحال انه لَمْ تُؤْمِنْ ولم تذعن قُلُوبُهُمْ بل قد ختم عليها بالكفر وَكذا المسارعون المجاهرون بالكفر مِنَ الَّذِينَ هادُوا ونسبوا الى اليهود صريحا إذ كلا الفريقين سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ اى للكذب المعهود المفترى بالتورية بانك يا أكمل الرسل ليس النبي الموعود فيها وهم يصدقون هذا القول الكاذب الصادر من احبار اليهود وهم من أعدى عدوك يا أكمل الرسل وأشدهم بغضا وغيظا ومع ذلك ايضا سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ممن آمن بك من أقاربهم وعشائرهم ليضلوهم عن طريق الحق وكذا ممن لم يؤمن بك لكن يميلون بقلوبهم الى الايمان ليقعدوهم ويصرفوهم عما نووا في نفوسهم وكيف لا يكون احبار اليهود من أعدى عدوك يا أكمل الرسل وهم من غاية بغضهم معك لَمْ يَأْتُوكَ ولم يحضروا عندك ومع إتيانهم بك يُحَرِّفُونَ ويغيرون الْكَلِمَ المنزلة في التورية لبيان بعثتك ووصفك وحليتك ومنشأك وحسبك ونسبك وعلو شانك وسمو برهانك وتكميلك امر النبوة والرسالة ونسخك جميع الأديان مِنْ بَعْدِ كون كل منها مثبتا في مَواضِعِهِ في كتاب الهى بوضع الهى وايضا هم من غاية بغضهم معك يَقُولُونَ لإخوانهم حين حكموك في امر لشهرة أمانتك ووثوقهم برأيك وعزيمتك سيما في قطع الخصومات وفصل الوقائع والخطوب إِنْ أُوتِيتُمْ وحكمتم طبق هذا اى المحرف المسموع لكم فَخُذُوهُ واقبلوه وامضوا عليه وارضوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ موافقا له بل افتى بخلافه فَاحْذَرُوا منه واعرضوا عنه. ثم قال سبحانه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ اى كفره وفساده فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ ولن تدفع أنت يا أكمل الرسل عنه مِنَ غضب اللَّهُ المنتقم الغيور شَيْئاً أصلا لأنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ويضل من يشاء وبالجملة أُولئِكَ البعداء عن منهج الرشد من زمرة الكافرين الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ المدبر الحكيم ولم يتعلق مشيته أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من خباثة الكفر والشرك بل لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هوان وصغار وجزية ومذلة ومسكنة اضطرارية وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ الا وهو الخلود في نيران الحرمان عن مرتبة الإنسان
وما هو الا انهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ المذكور معتقدون صدقه ومطابقته للواقع وهم ايضا يريدون ان يسمعوه لضعفاء الأنام إغراء وتغريرا ألا وهم الأحبار المحرفون المبغضون أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ اى الحرام الذي يرتشون منهم بسبب تحريفهم نعتك يا أكمل الرسل من كتابهم ليبقى ويدوم رئاستهم وجاههم وبالجملة اعرض أنت عنهم وعن ايمانهم فَإِنْ جاؤُكَ ليحكموك في الوقائع ان شئت فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالعدل أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وعن حكمهم بالمرة فلك الخيار وَلا(1/193)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
تبال بهم وبعداوتهم إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فإنهم وان عادوك أشد عداوة وبغض فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً من المكروه فان الله يعصمك ويكفيك مؤنة شرهم وضرهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ على الوجه الذي امره الحق ونطق به الفرقان إِنَّ اللَّهَ المستوي باسم الرّحمن على عروش مطلق الذرائر الكائنة معتدلا بلا تفاوت يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ المعتدلين من عباده المائلين عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المنتهيين الى قعر الجحيم وبالجملة ليس غرضهم من تحكيمك يا أكمل الرسل الإطاعة بك وبحكمك والوثوق لأمانتك ووقوفك بل ليس غرضهم الا التسهيل والتيسير والاعراض عن بعض الاحكام مداهنة
وَالا كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ مع عدم ايمانهم بك وبكتابك وَالحال انه عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ وقد ثبت فِيها حُكْمُ اللَّهِ على التفصيل وهم يدعون العلم والايمان به ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ وينصرفون عن حكمك مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد ما حكمت فيما حكموك فيه مع انه مطابق لكتابهم وَبالجملة ما أُولئِكَ المعرضون المنصرفون عن حكمك هذا بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم ايضا والا فلا وجه لاعراضهم وانصرافهم عن الحكم المطابق له
إِنَّا من مقام جودنا قد أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ على موسى وادرجنا فِيها هُدىً يهدى به الى الحق من ضل عن طريقه وَنُورٌ يكشف طريق التوحيد لمن استكشف منه يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ من أنبياء بنى إسرائيل الَّذِينَ أَسْلَمُوا لله وفوضوا أمورهم كلها اليه بعد ما تحققوا بتوحيده لِلَّذِينَ هادُوا ونسبوا الى اليهود وَكذا يحكم بها الرَّبَّانِيُّونَ اى المؤمنون المخلصون المنسوبون الى الرب بمتابعة الأنبياء ألا وهم الأولياء منهم وَكذا الْأَحْبارُ المتفقهة منهم يحكمون بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ واستنبطوه منه وَقد كانُوا عَلَيْهِ اى على ما استحفظوا واستنبطوا من التورية شُهَداءَ مستحضرين يراقبون ويداومون على حفظه فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ اى عليكم ايها الحكام ان لا تميلوا في الاحكام عن طريق الحق من أجل الناس المتعظمين بجاههم ورئاستهم ولا تداهنوا فيها رعاية لجانبهم بل وَاخْشَوْنِ عن حلول غضبى عليكم حين مخالفتكم امرى وحكمى مداهنة وَعليكم ايضا انه لا تَشْتَرُوا بِآياتِي واحكامى المنسوبة الى الشريعة ثَمَناً قَلِيلًا من الرشى وَاعلموا ان مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ اىّ بمقتضاه موافقا له فَأُولئِكَ البعداء المداهنون المرتشون هُمُ الْكافِرُونَ الساترون مقتضى الحكمة البالغة الإلهية باهويتهم الباطلة الخارجون عن ربقة العبودية بمخالفة حكم الله وامره
وَمن جملة الاحكام التي قد كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها القصاص فاعلموا ايها الحكام أَنَّ النَّفْسَ القاتلة تقتص بِالنَّفْسِ المقتولة عدوانا وَالْعَيْنَ الصحيحة تفقؤ بِالْعَيْنِ المفقوءة ظلما وَالْأَنْفَ يقطع بِالْأَنْفِ المقطوع وَالْأُذُنَ تصلم بِالْأُذُنِ المصلومة وَالسِّنَّ تقلع بِالسِّنِّ المقلوعة وَاعلموا ايضا ان الْجُرُوحَ مطلقا تجرى فيها قِصاصٌ مثلا بمثل على قياس ما ذكر في المذكورات فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ اى بالقصاص وعفا عنه طوعا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ اى عفوه وتصدقه عن القصاص ما هو الا كفارة لذنوبه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ العليم الحكيم في حكم من الاحكام ميلا وارتشاء مداهنة ومراء فَأُولئِكَ الحاكمون المتجازون عن مقتضى احكام الله هُمُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضيات الايمان والإطاعة والانقياد
وَبعد ما انقرض أولئك الأنبياء الحاكمون قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ واتبعناهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خلفا لهم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ(1/194)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ حاكما باحكامه ممتثلا بأوامره ونواهيه وَآتَيْناهُ تأييدا له وامتنانا عليه الْإِنْجِيلَ فِيهِ ايضا هُدىً وَنُورٌ للمستهدين المستكشفين منه وَمع كونه مشتملا على الهداية والإنارة مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً هاديا لأهل العناية وَمَوْعِظَةً وتذكيرا لِلْمُتَّقِينَ المتوجهين نحو الحق بين الخوف والرجاء
وَلْيَحْكُمْ ايضا أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ المطلع لمقتضيات كل زمان من الازمنة بمقتضى ما فِيهِ من الاحكام وَبالجملة مَنْ لَمْ يَحْكُمْ منهم ايضا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فيه لغرض من الأغراض الفاسدة المذكورة فَأُولئِكَ البعداء المنصرفون عن منهج الرشد هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن ربقة الايمان المنهمكون في بحر الضلال والطغيان ومآل هذه الصفات الثلث لهؤلاء الحاكمين المتجاوزين عما حكم الله في كتبه واحد إذ الكفر هو ستر حكم الله. والظلم عبارة عن التجاوز عنه الى غيره من الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة. والفسق كناية عن الخروج عن حكمه سبحانه عنادا ومكابرة فمآل الكل الى الشرك بالله والإلحاد عن توحيده أعاذنا الله وعموم عباده منه
وَبعد ما انقرض زمان نبوة عيسى صلوات الرّحمن عليه وسلامه قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل وخاتم النبيين الْكِتابَ الجامع لجميع فوائد الكتب السالفة ملتبسا بِالْحَقِّ متصفا بالصدق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ جنس الْكِتابَ الإلهي المنزل على الرسل الماضين وَمع كونه مصدقا قد صار مُهَيْمِناً عَلَيْهِ مستحضرا لما فيه يحفظه عن التحريف والتغيير إذ من خواص الكتب الإلهية ان كل لاحق منها يحفظه حكم سابقه ويصونه عن تطرق التحريف وان كان مشتملا على نسخ وتغيير الهى بحسب الزمان ومقتضيات المراتب والشان فَاحْكُمْ أنت ايضا يا أكمل الرسل بَيْنَهُمْ مطابقا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الحكيم المفضل إليك في كتابه هذا وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة ميلا ومداهنة ولا تنحرف عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الصريح المطابق للحكمة المتقنة الإلهية المقتضية للاحكام. واعلموا ايها الأمم المتوجهون نحو توحيد الذات المسقط لعموم الإضافات لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً موردا وشرعا تردون أنتم منها الى بحر الوحدة وَمِنْهاجاً اى طريقا واضحا واسعا وجادة مستقيمة قد بينها الحق لأنبيائه ورسله بانزال الكتب عليهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده لَجَعَلَكُمْ وصيركم أُمَّةً واحِدَةً متحدة في المنهج والمقصد بحسب الظاهر ايضا وَلكِنْ كثركم وعدد طرقكم لِيَبْلُوَكُمْ ويجربكم فِي رعاية مقتضيات ما آتاكُمْ من المواهب والعطايا الفائضة من تجلياته الحبية فَاسْتَبِقُوا ايها المتعرضون لنفحات الحق المستنشقون من نسمات روحه ورحمته الْخَيْراتِ وبادروا الى الحسنات الفائضة عليكم من محض جوده وسارعوا نحوها وتعرضوا بها واعلموا ايها التائهون في سراب الإمكان إِلَى اللَّهِ المتوحد المتفرد بالجود والوجود مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ايها الاظلال الباطلة والتماثيل العاطلة المنعدمة في أنفسها وحدود ذواتها فَيُنَبِّئُكُمْ سبحانه بعد رفع تعيناتكم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الإضافات المترتبة على الهويات الباطلة. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا
وَامرناك ايضا فيما أنزلنا إليك يا أكمل الرسل أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ مطابقا موافقا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الرقيب عليكم في كتابه الذي أنزله إليك على الوجه المنزل فيه بلا ميل وانحراف عنه وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ المضلة وَاحْذَرْهُمْ عن أَنْ يَفْتِنُوكَ ويلبسوا عليك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ بمواساتك(1/195)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
واظهار محبتك ومودتك قاصدين انحرافك وميلك الى ما تهواه أنفسهم فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عنك وعن حكمك بواسطة ثبات قدمك على جادة العدالة فَاعْلَمْ ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المدبر الحكيم ويتعلق مشيته أَنْ يُصِيبَهُمْ ويأخذهم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وهو التولي والاعراض عنك وعن حكمك لأنهم قد خرجوا بالإعراض عن حكمك عن جميع احكام الله وحدوده وَلا تتعجب من خروجهم هذا بل إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الناسين للعهود الاصلية الناقضين للمواثيق الفطرية لَفاسِقُونَ خارجون عن مقتضى الاحكام الإلهية وحكمه المكنونة فيها بمتابعة الاهوية الباطلة
أَتعرضون وتنصرفون عن حكمك فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ الناشئة من الآراء الفاسدة والأهواء الكاسدة الزائغة الحاصلة من تمويهات عقولهم القاصرة واوهامهم الباطلة كاحكام متفقهة هذا العصر خذلهم الله يَبْغُونَ ويطلبون منك يا أكمل الرسل ويعتقدون ان الحسن والحق هو ما هم عليه من تلقاء أنفسهم وَبالجملة مَنْ أَحْسَنُ واسد واحكم مِنَ اللَّهِ المتفرد بذاته المطلع على سرائر عموم الأمور وحكمها حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ توحيده وتفريده حتى يعاد اليه ويرجع نحوه في الوقائع والخطوب
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم انه لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ توالونهم وتصاحبونهم مثل موالاة المؤمنين ولا تعتمدوا ولا تثقوا بمحبتهم ومودتهم إذ هم في أنفسهم بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ متظاهرون متعاونون ينتهزون الفرصة لمقتكم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ ويعتمد عليهم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ومن زمرتهم وعدادهم عند الله إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة من لدنه فكيف لا يكون المتوالون معهم منهم ومن زمرتهم
فَتَرَى ايها الرائي القوم الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى كفر ونفاق يُسارِعُونَ ويبادرون فِيهِمْ في مودتهم ومواخاتهم بحيث يَقُولُونَ معتذرين لكم نفاقا ومداهنة نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ من دوائر الزمان كان الأمر منها لهم والدولة تتوجه نحوهم فنداريهم ونواليهم مداراة معهم خوفا منها فَعَسَى اللَّهُ المنعم المتفضل أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ والظفر على رسوله ليظهر دينه على الأديان كلها أَوْ أَمْرٍ عظيم نازل فيه مِنْ عِنْدِهِ يكفى مؤنة كفرهم ونفاقهم فَيُصْبِحُوا ويصيروا سيما أولئك المنافقون الموالون عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من بغض رسول الله وانكار رسالته وتكذيب كتابه نادِمِينَ خائبين خاسرين
وَحينئذ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا وأخلصوا في ايمانهم بعضهم لبعض مستهزئين لأولئك المنافقين أَهؤُلاءِ المفسدون المنافقون الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ المنزه عن سمات النقص مطلقا جَهْدَ أَيْمانِهِمْ اى أغلظها وأوكدها إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ مؤمنين بنبيكم مظاهرين لكم في إعلاء كلمة الحق وانتشار الدين القويم كيف حَبِطَتْ واضمحلت أَعْمالُهُمْ وضاعت الى حيث لا تفيدهم أصلا فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ خسرانا عظيما مبينا في الدنيا والآخرة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تحزنوا بصنيع مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بعد عرض الايمان وقبول الإسلام ولا تبالوا بشأنهم هذا فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ المولى لأمور عباده المؤيد إياهم بنصره حسب لطفه وفضله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ الله في حضرة علمه ويوفقهم على الايمان حسب ما كتب لهم في لوح قضائه ويوصلهم الى مرتبة اليقين والعرفان وَيُحِبُّونَهُ ايضا حسب استعداداتهم وقابلياتهم الفطرية الجبلية الى حيث قد بذلوا مهجهم في سبيله طوعا ورضا إعلاء لكلمة توحيده ونصرا لدينه القويم(1/196)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
ومع ذلك أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تواضعا وإخاء أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ غلبة واستيلاء يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق توحيده باذلين نفوسهم فيه طالبين رضاه وَمع ذلك لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ وملامة مفرط مليم كهؤلاء المنافقين الذين يخافون من الملامة حفظا لجاههم ورئاستهم وحماية لما في نفوسهم من الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة ذلِكَ الأوصاف المذكورة والنعوت المستحسنة فَضْلُ اللَّهِ الهادي لعباده الى قضاء توحيده يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من اهل العناية وَبالجملة اللَّهُ المتفضل المحسن لأرباب المحبة والولاء واسِعٌ في فضله وطوله عَلِيمٌ بمن يستحق الانعام والإفضال.
ثم لما نهى سبحانه المؤمنين عن موالاة الكفار ومواخاتهم وبالغ فيه أراد أن ينبه على من يستحق الولاية والودادة حقيقة فقال إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ المتولى لأموركم بالولاية العامة وَرَسُولُهُ النائب عنه المستخلف منه وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله بالولاية الخاصة بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم الا وهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ ويديمون الصَّلاةَ اى الميل المقرب نحو الحق وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ المصفية لبواطنهم عن التوجه نحو الغير وَالحال انه هُمْ حينئذ راكِعُونَ خاضعون خاشعون في صلاتهم متذللون فيها نزلت في على كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فرمى له خاتمه
وَبالجملة مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ الحفيظ المراقب عليه ويفوض امره كله اليه ويتخذه وكيلا وَيتول ايضا رَسُولَهُ الذي قد استخلف منه سبحانه وأظهره على صورته حيث انزل في شأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله وَيتول ايضا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأخلصوا في ايمانهم طلبا لمرضاته فهم من حزب الله وجنوده يحفظهم في كنف حفظه وحمائه ويغلبهم مطلقا على من يصول إليهم فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ القادر المقتدر على عموم الانعام والانتقام هُمُ الْغالِبُونَ الفائزون الواصلون الى عموم مقاصدهم ومراداتهم بفضل الله وسعة جوده
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم ان لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا من غاية بغضهم ونفاقهم معكم دِينَكُمْ الذي هو أقوم الأديان وأقسطها هُزُواً وَلَعِباً اى محل استهزاء وملاعبة يستهزؤن ويستسخرون به استخفافا له واستهانة لأهله سيما مِنَ القوم الَّذِينَ يدعون الدين والايمان والإطاعة والانقياد مراء وافتراء لأنهم وان أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ملتبسا بالحق الا انهم من خباثة طينتهم وركاكة فطنتهم لم يمتثلوا به ولم يعملوا بمقتضاه ولم يصدقوا الرسل الذين انزل إليهم الكتاب بل هم كانوا يكذبونهم ويقتلونهم ظلما وعنادا من كفرهم الأصلي وشركهم الجبلي وَلا سيما الْكُفَّارَ الذين أشركوا بالله المتوحد بذاته المنزه عن عموم ما ينسبونه اليه افتراء ومراء أَوْلِياءَ توالونهم وتحبونهم كموالاة بعضكم بعضا إذ هم اعداء لله المتوحد ولرسوله ولعموم المؤمنين وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المقتدر الغيور واحذروا عن موالاة أعدائه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بوحدة الله مصدقين لرسله
وَكيف تتخذون منهم اولياء وهم قوم من غاية بغضهم وغيظهم معكم إِذا نادَيْتُمْ واذنتم إِلَى الصَّلاةِ المقربة نحو الحق اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ الملاعبة والاستهزاء والمجادلة والمراء مع الأمناء العرفاء بالله بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ جهلاء بمقتضى الربوبية غفلاء عن لوازم المرتبة الألوهية وبالجملة هم سفهاء في أنفسهم لا يَعْقِلُونَ ولا يصرفون العقل الجزئى المفاض لهم من الحق لمعرفة المبدأ والمعاد الى ما خلق لأجله ومع ذلك ينكرون العقلاء الشاكرين الصارفين عقولهم وعموم جوارحهم وأعضائهم الى ما جبلت لأجله(1/197)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
من الأعمال والأحوال المقربة نحو التوحيد الإلهي
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا وما تنكرون علينا وما تستهزؤن بنا وما حواكم وحملكم على الانتقام والاستهزاء إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ المتوحد المتفرد بذاته المتجلى على عموم الآفاق والأنفس بكمال الإطلاق والاستحقاق وَآمنا ايضا بجميع ما أُنْزِلَ إِلَيْنا لتبيين توحيده وَكذا قد آمنا بجميع ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ من الكتب الإلهية على الرسل الماضين لهداية طريق الحق وَايضا من جملة ما بعثكم على الانتقام علمنا بكم أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ خارجون عن منهج الايمان وجادة التوحيد والعرفان حقيقة ولا تظهرونه خشية وخوفا ولهذا تستهزؤن مع اهل الحق خفية تجاهلا وتغافلا وحفظا لجاهكم ورئاستكم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما هَلْ أُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ الذي أنتم تنقمون منه وتنكرون له مكابرة مَثُوبَةً عائدة وجزاء مرتبا عليه ثابتا عِنْدَ اللَّهِ العليم الحكيم قبحه وشرارته ديدنة مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ المنتقم الغيور وطرده من ساحة عزه وقبوله وَغَضِبَ عَلَيْهِ حيث أخرجه عن مرتبة خلافته ونيابته وَكيف لا قد جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ المنعزلة عن درك الحق ومعرفته وَجعل ايضا منهم من عَبَدَ الطَّاغُوتَ اى الاهوية الباطلة المصلة عن الاهتداء الى طريق الحق وبالجملة أُولئِكَ المطرودون المغضوبون الممسوخون عن مقتضى الانسانية شَرٌّ مَكاناً منزلة ومكانة عند الله وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ الذي هو الاعتدال الإنساني المنعكس عن الاعتدال الإلهي
وَبالجملة إِذا جاؤُكُمْ ايها المؤمنون أولئك المراؤون المعاندون مدعين محبة لكم ولدينكم مداهنة ونفاقا حيث قالُوا آمَنَّا بنبيكم وبجميع ما جاء به من عند ربه لا نبالوا بهم وبايمانهم ولا تصاحبوا معهم وَالحال انه قَدْ دَخَلُوا حين دخلوا عليكم ملتبسين بِالْكُفْرِ والإصرار وَهُمْ ايضا قَدْ خَرَجُوا بِهِ كما كانوا بل ما زادوا الا إصرارا بعد صرار وعنادا فوق عناد وان أظهروا خلافه وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من الكفر والنفاق وبغض رسول الله والذين آمنوا معه
وَتَرى ايها الرائي كَثِيراً مِنْهُمْ اى من اليهود والنصارى يُسارِعُونَ ويبادرون فِي الْإِثْمِ اى الخصلة الذميمة عقلا وشرعا وَالْعُدْوانِ اى الظلم المتجاوز عن الحدود الشرعية وَلا سيما أَكْلِهِمُ السُّحْتَ اى الحرام والله لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى بئس شيأ ما يكسبونه لأنفسهم من الأمور المستجلبة لأنواع العذاب والنكال
ثم قال سبحانه لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ اى هلا يمنعهم المنسوبون الى الرب العائدون له وَالْأَحْبارُ العالمون بسرائر الأمور وحكمها على زعمهم عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ افتراء على الله وعلى كتابه وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ زاعمين اباحته والله لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ اى لبئس شيأ صنيعهم هذا برأيهم الفاسد وعقلهم القاصر الكاسد
وَمن غاية جهلهم بالله ونهاية غفلتهم من مقتضيات أوصافه قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ مقبوضة يقتر بالزرق وانما قالوا ذلك حين فقدوا البسطة والرخاء الذي كانوا فيه قبل تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال سبحانه في جوابهم دعاء عليهم قد غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ عن عموم الخيرات والمبرات بضرب الذلة والمسكنة عليهم في الدنيا وفي الآخرة بالاغلال والسلاسل يسبحون نحو النار وَأعظم منها انهم قد لُعِنُوا وطردوا عن المرتبة الانسانية بِما قالُوا اى بقولهم هذا على الله الكريم مع انه لا يليق بجنابه العظيم وبشأنه الأعلى بَلْ يَداهُ اى أوصافه اللطفية والقهرية(1/198)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
مَبْسُوطَتانِ ازلا وابدا دائما يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ويتعلق ارادته لمن يشاء فضلا وجودا ويمنع عن من يشاء عدلا وقهرا وَالله لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ حقدا وحسدا ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل انعاما وإكراما لك مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً اجتراء على الله ظلما ومراء بما لا يليق بشأنه وَكُفْراً اى إصرارا وتشددا على ما هم عليه من الشرك والعناد وَبسبب طغيانهم وكفرهم أَلْقَيْنا واوقعنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بحيث لا يتفقون ولا يوافقون أصلا بل كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ مع المؤمنين وصمموا العزم والجزم أَطْفَأَهَا اللَّهُ المدبر الحكيم بإيقاع المخالفة والعدوان بينهم وَبالجملة هم في أنفسهم يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ دائما مستمرا فَساداً اى لأجل الفساد واثارة الفتن والعناد وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ المعاندين منهم المجترئين على الله وعلى رسوله مكابرة وعنادا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بك وبكتابك وَاتَّقَوْا عما اجترءوا عليه في حق الله وحقك لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ اى محونا عن ديوان أعمالهم عموم سيئاتهم التي كانوا عليها وَلَأَدْخَلْناهُمْ تفضلا منا إياهم وامتنانا لهم جَنَّاتِ النَّعِيمِ منتزهات العلم والعين والحق ان أخلصوا في ايمانهم
وَلَوْ أَنَّهُمْ اى اهل الكتاب أَقامُوا التَّوْراةَ وامتثلوا باوامرها وأظهروا ما فيها من الاحكام والعبر والتذكيرات سيما بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته وَأقاموا ايضا الْإِنْجِيلَ وأحكامه على وجهها وعملوا بمقتضاها وَكذا جميع ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لوسع عليهم سبحانه الرزق الصوري والمعنوي الى حيث لَأَكَلُوا الرزق مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ذكر الجهتين الحقيقيتين يغنى عن الجهات كلها اى كوشفوا بوحدة الله من جميع الجوانب والجهات ولا يرون غير الله في مظاهره ومجاليه مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ معتدلة لا من اهل الإفراط ولا من اهل التفريط يرجى ايمانهم وكشفهم وَان وجد كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ اى ساء عملهم في الإفراط والتفريط عن جادة الاعتدال والتوحيد
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ المبعوث لي كافة الخلق بالعدالة والرسالة العامة والدعوة الى توحيد الذات بَلِّغْ وأوصل عموم ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لتبيين طريق توحيده الذاتي على جميع من كلف به وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم تبلغ امهالا وخوفا فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ التي كلفك سبحانه بتبليغها وبالجملة اعتصم بالله وتوكل عليه في أدائها وَاللَّهُ المراقب لعموم احوالك يَعْصِمُكَ ويحفظك مِنْ شرور النَّاسِ القاصدين مقتك ومساءتك يكفى مؤنة شرورهم ويكف عنك إذا هم بحوله وقوته إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده ومخايلهم لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ القاصدين مقتك ولا يوصلهم الى ما يدومون بك من المضرة والمساءة
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على رؤس الاشهاد بلا مبالاة لهم ولعداوتهم يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من امر الدين والايمان والإطاعة والانقياد حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَجميع ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وتمتثلوا باحكامها وتتصفوا بما فيها من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم المرضية عند الله وتحققوا بحقائقها ومعارفها المودعة فيها وَالله لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ حين سمعوا منك أمثال هذا ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لتأييدك ونصرك طُغْياناً وَكُفْراً من غاية غيظهم وبغضهم معك ومع من تبعك من المؤمنين وبالجملة فَلا تَأْسَ ولا تحزن أنت يا أكمل الرسل عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين طريق الحق باهويتهم الباطلة وآراءهم الزائغة الفاسدة.
ثم قال سبحانه(1/199)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اى اسلموا وانقادوا وامتثلوا بعموم أوامر كتابك واجتنبوا عن نواهيه وآمنوا ايضا بجميع الكتب والرسل وجميع الأنبياء ذوى الأديان وغيرهم لتمكنهم في مقر التوحيد البحت الخالص عن شوب الكثرة وَالَّذِينَ هادُوا اى الممتثلون بجميع ما امر في التورية ونهى عنه الى ان وصلوا الى مرتبة التوحيد المسقط للاختلافات الصورية والمعنوية وَالصَّابِئُونَ الذين يتوسلون بالملائكة في عموم عباداتهم لا الصابئون الطبيعيون الذين هم يعبدون الكواكب من قصور نظرهم وكثافة حجبهم وَالنَّصارى الذين يعملون على مقتضى الإنجيل بلا فوت شيء من أوامره ونواهيه مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ المتوحد بذاته المستغنى عن الأشباه والأنداد مطلقا ووصل بمتابعة كتبه المنزلة ورسله المبينين لكتبه الى توحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد للكشف والوصول وَعَمِلَ عملا صالِحاً بطريق توحيده فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في سلوكهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بعد ما وصلوا إذ كل ما جاء من عند الله انما هو بمقتضى توحيده مبين له وان كانت الطرق متعددة بتعدد الأوصاف والأسماء الإلهية لكن كل منها موصلة اليه سبحانه إذ ليس وراء الله مرمى ومنتهى لذلك قيل التوحيد إسقاط الإضافات رأسا حتى يتحقق الفناء فيه والبقاء به بل لا فناء ولا بقاء في مرتبة العماء أصلا حارت في ملكوتك عميقات مذاهب التفكر
والله لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ على لسان أنبياءهم ان لا تشركوا بالله ولا تخاصموا مع أنبيائه ورسله وَبعد ما أخذنا منهم الميثاق أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا مبشرين ومنذرين وصاروا من خبث بواطنهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ الله بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ وبما لا ترضى به عقولهم فَرِيقاً منهم كَذَّبُوا الرسل وعموم ما جاءوا به من عندنا عنادا ومكابرة وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ الأنبياء ظلما وعدوانا
وَهم من غاية عمههم واعراضهم عن الحق حَسِبُوا وظنوا بل تيقنوا أَلَّا تَكُونَ ولا تدور عليهم فِتْنَةٌ مصيبة وبلاء بواسطة التكذيب والقتل فَعَمُوا لذلك عن امارات الدين وعلامات التوحيد واليقين وَصَمُّوا عن استماع دلائل التوحيد والعرفان ثُمَّ بعد ما تنبهوا وتابوا مخلصين تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اى قد عفا عنهم وقبل توبتهم ثُمَّ بعد ما تابوا عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ مرة اخرى لخباثتهم الجبلية وَبالجملة اللَّهُ المطلع بعموم حالاتهم بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ اى بعموم أعمالهم التي عملوها بمقتضى اهويتهم الباطلة وآرائهم الفاسدة يجازيهم عليها بمقتضى علمه وخبرته
والله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا من غاية جهلهم بالله وبما لا يليق بشأنه إِنَّ اللَّهَ المتجلى على عروش عموم ما كان ويكون شهادة وغيبا هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ اى متحد به محصور عليه افراطا وغلوا وَقالَ الْمَسِيحُ لهم حين سمع منهم ما قالوا في حقه وغلوا يا بَنِي إِسْرائِيلَ التائهين في تيه الجهل والضلال اعْبُدُوا اللَّهَ المنزه عن الحصر والحلول والاتحاد وعن مطلق التعينات والفضول ولا تحصروه لا في ولا في غيرى بل انقادوا رَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم وَرَبَّكُمْ ايضا بافاضة العقل الموصل لكم الى معرفته وتوحيده واعلموا انه لا فرق بيني وبينكم في العبودية والمربوبية ولا تشركونى معه إذ انا ايضا من جملة عبيده إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ المنزه عن الشريك مطلقا غيره من مخلوقاته فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الغنى بذاته عن مطلق الشرك والايمان عَلَيْهِ الْجَنَّةَ المعدة للسعداء الموحدين بل وَمَأْواهُ وما يأوى اليه النَّارُ المعدة للأشقياء المردودين المشركين وَاعلموا ان ما لِلظَّالِمِينَ المفترين على الله ما هو بريء(1/200)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
عنه بذاته مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم ويشفعون لهم عند أخذ الله إياهم وبطشه
والله ايضا لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا من عدم تحققهم بمقام التوحيد وعدم تنبههم بمرتبة الفناء في الله إِنَّ اللَّهَ المنزه عن التعدد بل عن العدد مطلقا ثالِثُ ثَلاثَةٍ اى واحد منها وأرادوا بالثلثة إياه سبحانه ومريم وعيسى وَالحال انه ما مِنْ إِلهٍ في الوجود والتحقق إِلَّا إِلهٌ اى وجود وموجود واحِدٌ احد صمد فرد وتر محير للعقول والأبصار ماح لظلال السوى والأغيار وَبالجملة إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا اى هؤلاء الظلمة الغالون عَمَّا يَقُولُونَ من التثليث والتعدد في الألوهية لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ اى بقوا على كفرهم بلا ايمان الى ان ماتوا عليه عَذابٌ أَلِيمٌ لا عذاب أشد منه الا وهو حرمانهم عن مرتبة التوحيد التي هي مرتبة الخلافة والنيابة
أَيصرون على هذا الكفر والضلال فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ المنتقم الغيور ولا يؤمنون له وَلا يَسْتَغْفِرُونَهُ عما صدر عنهم من الجرائم العظام حتى يقبل توبتهم وايمانهم وَبالجملة اللَّهِ المنزه في ذاته عن كفرهم وايمانهم غَفُورٌ لهم ان أخلصوا في توبتهم وايمانهم رَحِيمٌ لهم يقبل توبتهم ولا يأخذهم على ما صدر عنهم بعد ما تابوا ورجعوا نادمين
ثم قال سبحانه مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ من الرسل العظام قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أمثاله في العظمة والكرامة ولم ينسبهم احد الى ما نسبوه وَأُمُّهُ ايضا صِدِّيقَةٌ مقبولة عند الله قد مضت كثيرة مثلها من الصديقات ومن الصادقات المقبولات ولم ينسبها احد ما نسبوها وبالجملة كيف ينسبونهما الى الألوهية مع انهما قد كانا بشرين مركبين يَأْكُلانِ الطَّعامَ ليكون بدلا بما يتحلل والا له مطلقا منزه عن التركيب والتحليل والاكل والشرب والبنوة والأبوة والأمومة وغيرها من أوصاف البشر انْظُرْ ايها الناظر المتعجب كَيْفَ نُبَيِّنُ ونوضح لَهُمُ الْآياتِ اى الدلائل القاطعة الدالة على عدم لياقتهما بمرتبة الألوهية مع انه لكمال ظهور هذه الدعوى ووضوحها لا حاجة الى الدليل أصلا عند من له ادنى مسكة ثُمَّ انْظُرْ وازدد في تعجبك أَنَّى يُؤْفَكُونَ والى اين يصرفون وجوه عقولهم عن طريق الحق وعن سماع كلمة التوحيد
قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا أَتَعْبُدُونَ وتؤمنون مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد المتفرد بالالوهية والوجود ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ اى اظلالا وتماثيل لا تملك لكم ولأنفسهم لا ضَرًّا وَلا نَفْعاً ولا وجودا ولا حيوة بل ما هي الا تماثيل موهومة وعكوس معدومة تنعكس من اشعة التجليات الإلهية ليس لها في أنفسها ذوات ولا أوصاف ولا آثار وَاللَّهُ المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق هُوَ السَّمِيعُ في مظاهره لا غير إذ لا غير في الوجود الْعَلِيمُ هو ايضا فيها ولا عالم سواه فله الاستقلال والتصرف التام في ملكه وملكوته بلا مشاركة احد ومظاهرته
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعنى النصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ونبيكم غَيْرَ الْحَقِّ افتراء ومراء سيما بعد ظهور المبين المؤيد المصدق وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ من اسلافكم إذ هم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ عن طريق الحق وَمع ذلك ما اقتصروا على الضلال بل أَضَلُّوا كَثِيراً من ضعفاء العوام ايضا وَبالجملة هم قوم قد ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ بلا هداية هاد مهتد وتنبيه منبه نبيه يهديهم اليه وينبههم عليه وما لكم تضلون أنتم مع وجود المنبه النبيه والهادي المؤيد من عند الله بالهداية العامة الى صراط مستقيم موصل الى مقر التوحيد.
ثم قال سبحانه لُعِنَ اى طرد(1/201)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
ورد عن مقر العز ومرتبة النيابة الانسانية القوم الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ايضا ذلِكَ الطرد واللعن عليهم بِما عَصَوْا على الله بعدم امتثال أوامره واجتناب نواهيه وَهم في أنفسهم قوم قد كانُوا يَعْتَدُونَ ويتجاوزون عن المرتبة الانسانية بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الى ما تهوى أنفسهم وترضى به عقولهم
ومن جملة خصالهم المذمومة انهم كانُوا من غاية غفلتهم وانهماكهم في الضلال لا يَتَناهَوْنَ ولا يمنعون أنفسهم عَنْ مُنكَرٍ مخالف للشرع فَعَلُوهُ مرة او مرارا بعد تنبههم بمخالفته بل يصرون عليه عنادا واستكبارا والله لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ لأنفسهم ذلك المنكر والإصرار الجالب لانواع العذاب والنكال
ولذلك تَرى ايها المعتبر الرائي كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اى يوادون ويوالون الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأشركوا له ويصاحبون معهم على طريق المحبة والمودة لذلك يسرى شرور شركهم وكفرهم عليهم والله لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعنى بئس شيأ ما كسبت لهم أنفسهم أَنْ سَخِطَ اللَّهُ المنتقم الغيور عَلَيْهِمْ بسببه وَبالجملة فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ دائمون بشؤم ما كسبوا
وَلَوْ كانُوا يعنى أولئك المنافقين يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ المتوحد في ذاته وَالنَّبِيِّ المؤيد من عنده المبعوث الى كافة الأنام وَيؤمنون ايضا بعموم ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من الفرقان الفارق بين الحق والباطل مَا اتَّخَذُوهُمْ يعنى المشركين أَوْلِياءَ أحباء أصدقاء وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عما فيه صلاحهم وسدادهم من الحكم والاحكام المنزلة في القرآن
لَتَجِدَنَّ ايها الداعي للخلق الى الحق أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا بك وبكتابك الْيَهُودَ وهم الذين قد جبلوا على النفاق والشقاق سيما معك ومع من تبعك وَكذا الَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله بإثبات الوجود لغيره لبغضهم مع الموحدين الموقنين بتوحيد الله ووحدة ذاته القاطعين عرق الشركة عن أصله وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً واوكدهم محبة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا للمؤمنين من محض ودادهم وصميم فؤادهم بعد ما تنبهوا لحقية الدين المصطفوى والشرع المحمدي الموصل الى التوحيد الذاتي إِنَّا نَصارى ننصركم ونقوى عضدكم ذلِكَ اى سبب ودادتكم ومحبتكم في قلوبهم بِأَنَّ مِنْهُمْ جمعا قِسِّيسِينَ اى طالبين للعلم اللدني الذي هو ثمرة عموم الشرائع والأديان المنزلة وَان منهم جمعا آخر رُهْباناً متحققين بمرتبة العين لذلك صاروا متصرفين في الأمور الدنيوية بلا تصرف منتظرين لظهور مرتبة الحق اليقين التي أنت تظهر بها يا أكمل الرسل وَأَنَّهُمْ بعد ما وجدوا في وجدانهم ما وجدوا لا يَسْتَكْبِرُونَ ولا يستنكفون عن نصرك وودادتك ايها الجامع لجميع مراتب الحق
وَمن غاية تشوقهم ونهاية تعطشهم الى زلال مشرب اليقين الحقي إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ من الحكم والاحكام والتذكيرات والرموز والإشارات والعبر والأمثال المنبئ كل منها عن مرتبة اليقين الحقي تَرى ايها الرائي أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ وتسيل مِنَ الدَّمْعِ من غاية تلذذهم ونهاية تشوقهم بتلك المرتبة وذلك التلذذ والتشوق ناشئة مِمَّا عَرَفُوا بقدر وسعهم وطاقتهم مِنَ امارات مرتبة الْحَقِّ اليقين فكيف إذا تحققوا بها وتمكنوا في مقعد الصدق ولهذا يَقُولُونَ من غاية تحننهم وتشوقهم منادين مناجين قلقين حائرين خائفين راجين رَبَّنا آمَنَّا اى صدقنا وتحققنا بما وهبت لنا من مرتبتي العلم والعين وبعد ما تحققنا بتوفيقك بهما فَاكْتُبْنا بفضلك ولطفك مَعَ الشَّاهِدِينَ المتمكنين في مرتبة(1/202)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
اليقين الا وهم الذين قد حضروا ووصلوا بل اتصلوا وانقطع سيرهم وحاروا الى ان تاهوا وفنوا لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهة
وَيقولون ايضا من غاية تحسرهم وتعطشهم ما لَنا لا نُؤْمِنُ اى اى شيء عرض لنا ولحق بنا ان لا نصدق ولا نذعن بِاللَّهِ المتوحد المتجلى في الأكوان المستغنى عن مطلق الدلائل والبرهان وَلا نتبع ولا نمتثل لعموم ما جاءَنا مِنَ دلائل الْحَقِّ وبيناته وَمع ذلك قالوا راجين ذلك نَطْمَعُ ونرجو أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا بلطفه في مقعد صدق عنده مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ لتلك المرتبة العليا وبعد ما توجهوا الى الله وأخلصوا فيما أظهروا
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ العليم الحكيم الجواد الكريم وأورثهم بِما قالُوا راجين مناجين متمنين متحسرين جَنَّاتٍ منتزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعنى انهار المعارف والحقائق المنتشئة من جداول السنة ارباب الكشف واليقين ليحيى بها بلدة ميتا من قلوب المحجوبين المسجونين بسلاسل التقليدات وأغلال الدلائل الواهية والتخمينات الغير الكافية خالِدِينَ فِيها دائمين مستمرين ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله وَبالجملة ذلِكَ الفوز العظيم والفضل الكريم جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الواصلين الى مرتبة حق اليقين
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة ذاتنا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة عليها المبينة لطريقها أُولئِكَ البعداء المحبوسون في مضيق الإمكان أَصْحابُ الْجَحِيمِ وملازموها لا نجاة لهم منها ولا خلاص لهم من غوائلها ثم لما بالغ النصارى في الاعراض والترهب عن حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها الى حيث يحرمون لأنفسهم ما أحل الله لهم وافرطوا فيه الى حيث لم يبق مزاجهم على الاعتدال الذي جبلوا عليه أراد سبحانه ان ينبه على المؤمنين طريقا مستقيما وسبيلا واضحا متوسطا بين طرفي الإفراط والتفريط ليلا يؤدى الى تخريب المزاج وتحريفه إذ للحق سبحانه في إيجاد الأمزجة وإظهارها حكم وصنائع عجيبة وبدائع غريبة منتشئة من محض الحكمة المتقنة الجامعة لجميع الأوصاف الذاتية الإلهية من العلم والقدرة والارادة وغيرها من أمهات الأوصاف والأسماء
فقال مناديا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وصدقوا دين الإسلام وامتثلوا بجميع ما أمروا ونهوا عنه عليكم ان لا تُحَرِّمُوا لأنفسكم طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ العليم الحكيم لَكُمْ وأباحها عليكم في دينكم وَعليكم ان لا تَعْتَدُوا ولا تجاوزوا عن حدوده سبحانه ترهبا وتزهدا مفضيا الى الرياء والسمعة إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن مقتضى تدبيره وإصلاحه
وَبعد ما سمعتم ايها المؤمنون المكلفون ما سمعتم كُلُوا من طيبات مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ المتكفل لأرزاقكم حَلالًا غير مسرفين في أكلها طَيِّباً من كد يمينكم مقدار ما يقوم مزاجكم ويقويكم على اقامة أوامر الله وأحكامه وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ موقنون بوحدته مخلصون في توحيده واحذروا منه سبحانه عن مجاوزة حدوده وارتكاب محظوراته واعلموا ان خير قرينكم في دنياكم واخراكم تقواكم ورضاكم لذلك أوصاكم سبحانه ومن جملة الأمور التي تجب محافظتها عليكم في معاشكم لتكونوا من المتقين المبرورين عند الله ان لا تجترؤا على اليمين والحلف بالله في الوقائع والعقود سيما على الوجه الكذب وترويج الشيء قصدا واختيارا حتى لا تنحطوا عن مرتبة العدالة الفطرية الخلقية ولا تلحقوا بالأخسرين الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا الا ان يصدر الحلف عنكم هفوة بغتة بلا قصد على ما هو المتعارف عند العرب في أثناء اكثر الكلام لا والله بلا إغراء وتمويه فانه معفو عنكم
كما قال سبحانه لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ(1/203)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
المجازى على أعمالكم بِاللَّغْوِ الصادر منكم فِي أَيْمانِكُمْ بلا قصد وتغرير وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ ويعذبكم بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ اى بالعقود التي أوثقتموها بالإيمان الكاذبة وحنثتم فيها فعليكم بعد ما حنثتم ان تجبروها بالكفارة فَكَفَّارَتُهُ المسقطة لنكاله إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ يعنى لزمكم اطعام هؤلاء مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ على أَهْلِيكُمْ أَوْ لزمكم كِسْوَتُهُمْ اى كسوة هؤلاء على الوجه المذكور ايضا أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ على تفاوت رتبكم ودرجاتكم عسرا ويسرا فَمَنْ لَمْ يَجِدْ منكم شيأ منها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ اى لزم عليه ان يصوم ثلثة ايام متتالية زجرا للنفس وجبرا لما انكسر من المروءة الفطرية تعمدا وقصدا ذلِكَ المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ جازمين حقيته وحنثتم فيها واما إذا حلفتم كذبا وزورا تعمدا وقصدا العياذ بالله فنكاله لا يسقط عنكم الا بخلوص التوبة والندامة المؤكدة وَبالجملة احْفَظُوا ايها المؤمنون أَيْمانِكُمْ التي حلفتم بها في مواقعها عن شوب الكذب والريب بل عن شوب الظن ايضا ان أردتم ان تبروا فيها وتقسطوا عند الله كَذلِكَ اى مثل ذلك الذي قد وعظتم به يُبَيِّنُ اللَّهُ المصلح لَكُمْ ولأحوالكم آياتِهِ الدالة على توحيده لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تتحققوا في مقام الشكر وتصرفوا عموم ما وهب لكم من العطايا الى ما اقتضته حكمته
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم محافظة حدود الله الموضوعة فيكم لإصلاحكم امرا ونهيا كراهة وندبا حلا وحرمة إِنَّمَا الْخَمْرُ اى مطلق ما يترتب عليه السكر وازالة العقل من اى شيء أخذتم وَالْمَيْسِرُ القمار مع اى شيء لعبتم وَالْأَنْصابُ اى الأصنام الموضوعة لتضليل العباد وَالْأَزْلامُ الموضوعة للاستعلام مما استأثر الله به من غيبه كل من المذكورات رِجْسٌ قذر نجس بواسطة وبلا واسطة إذ الكل مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ حاصل من تغريراته وتسويلاته فَاجْتَنِبُوهُ وابعدوا انفسكم عن كل منها واحفظوها منه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بما يرضى الله به عنكم ثم أشار سبحانه الى علل تحريمها ودلائلها
فقال إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ المضل المغوى أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الى حيث يفضى الى المقاتلة والمشاجرة وَيريد ايضا ان يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلا سيما عَنِ الصَّلاةِ التي هي معراج المؤمن نحو الحق فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ منها ايها المؤمنون أم مهلكون بارتكابها إذ لا واسطة بينهما ولا عذر
وَبالجملة أَطِيعُوا اللَّهَ المدبر لأموركم في عموم ما أمركم به ونهاكم عنه وَأَطِيعُوا ايضا الرَّسُولَ المبين لكم امر الله ونهيه وَاحْذَرُوا عن جميع ما حذركم الله ورسوله ان كنتم مؤمنين موقنين فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم بعد وضوح البرهان فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الظاهر والواضح وعلينا الحساب والأخذ والانتقام والعذاب والنكال. نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين
ثم قال سبحانه مرخصا لَيْسَ عَلَى المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم جُناحٌ حرج وضيق فِيما طَعِمُوا من المحرمات المذكورة قبل ورود تحريمها إِذا مَا اتَّقَوْا بعد الورود عن غضب الله وَآمَنُوا اى صدقوا تحريمها وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المرخصة المأمورة على وجهها بلا إخلال ثُمَّ اتَّقَوْا عن رخصها ايضا وَآمَنُوا اى أخلصوا بعزائمها ثُمَّ اتَّقَوْا عن عزائمها ايضا طالبين رضا الله وَأَحْسَنُوا في هذه التقوى ويعبدون الله كأنهم يرونه وَاللَّهُ المحسن المفضل لعباده يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ منهم الطالبين رضاه المتشوقين لقاءه ومن جملة الأمور المحرمة(1/204)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
عليكم في دينكم الاصطياد حال كونكم محرمين للحج
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ وليختبرنكم ويجربنكم اللَّهُ المصلح لأحوالكم بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ وقت إحرامكم والصيد يغشاكم بحيث تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ من غاية قربه لكم هل تأخذونه وتشوشونه أم تحفظون امر التحريم وتراعون حقه وما ذلك الابتلاء والاختبار الا لِيَعْلَمَ اللَّهُ العليم الحكيم وليميز ويفصل منكم مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ اى عن انتقامه واخذه في يوم الجزاء عن من لا يخافه ولا يبالى بامره وشأنه وان كان الكل عنده معلوما مميزا فَمَنِ اعْتَدى وتجاوز بَعْدَ ذلِكَ اى بعد ما سمع من الحق ما سمع فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وعقاب مؤلم عظيم باعتدائه واجترائه
ثم اردفه سبحانه بما يدل على جبره بعد انكساره رفعا للحرج عن عباده مصرحا بتحريمه ونهيه أولا فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَالحال انه أَنْتُمْ حُرُمٌ محرمون للحج وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ في اوقات إحرامه مُتَعَمِّداً قاصدا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يعنى قد لزمه جبرا لما انكسر ذبح مثل ما قتل من النعم الأهلي في النفع والفائدة لسد جوعة الفقراء والمساكين يَحْكُمُ بِهِ اى بمماثلته ومقابلته ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ حال كون ذلك المجازى ناويا به هَدْياً اى مهدى به يذبح لله وفي سبيله طلبا لرضاه بالِغَ الْكَعْبَةِ اى عندها ويتصدق به للفقراء والمساكين أَوْ لزم عليه كَفَّارَةٌ وهي طَعامُ مَساكِينَ يعنى يشترى بثمن ذلك المثل الذي يحكم به ذوا عدل طعاما ويتصدق به للفقراء ويعطى كل واحد منهم مدا من الطعام أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً يعنى او لزمه صيام مدة مساوية لعدد الفقراء إذا اطعمتم بثمنه عليهم سر كل تلك التكاليف لِيَذُوقَ المسرف الجاني وَبالَ أَمْرِهِ اى ثقله وشدته وفظاعته ووخامة عاقبته إذ هو ابطال لصنع الحق سيما حين حماه الحق ونهى عن التعرض له وعليكم ان تحافظوا على النهى بعد الورود ولا تخافوا عما قبله إذ عَفَا اللَّهُ عنكم عَمَّا سَلَفَ منكم من الجرائم ومحا عن ديوان أعمالكم وأسقط عن الحساب ما اكتسبتم من الآثام حين كونكم تائهين في بيداء الغفلة قبل ورود النهى وَمَنْ عادَ عليها بعد ما نبه ونهى فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ العزيز المقتدر مِنْهُ ويؤاخذه عليه ويحاسبه عنه ويجازيه على مقتضى حسابه وَلا تغتروا بحلمه سبحانه وامهاله ومجاملته إذ اللَّهُ المستغنى في ذاته عن آثار جميع الشئون والنشأة عَزِيزٌ غالب غيور متكبر قهور ذُو انْتِقامٍ عظيم وبطش شديد على من تخلف عن حكمه وأصر عليه. نعوذ بفضلك من عدلك يا ذا القوة المتين
أُحِلَّ لَكُمْ ايها المحرمون صَيْدُ الْبَحْرِ يعنى مائي المتولد مطلقا الا ما تستكرهه طباعكم وَطَعامُهُ اى اكله قد صار مَتاعاً لَكُمْ تتمتعون به مجانا وَكذا لِلسَّيَّارَةِ مطلقا للتجارة او الزيارة او غيرها يتزودون منه متى شاءوا وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً اى من أول مدة إحرامكم من الميقات الى أول الحل وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وتساقون ايها المؤمنون للعرض والحساب وعليكم الحذر والاتقاء عن التعرض بمصنوعاته بقهر وغلبة في عموم أحوالكم سيما في أوان الحج عند لبس الإحرام الذي هو كفن الفناء المعنوي والموت الإرادي الحقيقي عند ذوى الألباب الناظرين الى لب الاحكام وزبدتها فكما لا يبقى عند عروض الموت الصوري للقوى والأوصاف والآلات الظاهرة آثار وافعال بل قد تعطلت وانمحت وتلاشت بحيث لا يتوقع منها ذلك أصلا كذلك في الموت الإرادي الذي هو عبارة عن حج العارف بالله لا بد من إحرامه(1/205)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
وتعطيل أعضائه وجوارحه عن مقتضيات الأوصاف البشرية والقوى الحيوانية وعن جميع لوازم التعينات الجسمانية والروحانية والغيبية والشهادية والظاهرية والباطنية مطلقا وبالجملة عن عموم الإضافات والكثرات الحاجبة لصرافة الوحدة الذاتية المستهلك دونها جميع ما يتوهم من أشباح الاظلال والعكوس والأمثال لذلك صار الموت الإرادي أشد في الانمحاء وأغرق في الفناء من الموت الصوري عند العارف المكاشف المشاهد إذ منتهى الأمر في الموت الإرادي والفناء الاختياري الى العدم الصرف والفناء المحض المطلق الذي ما شم رائحة الوجود أصلا فكيف تخلل الموت والحيوة والوجود والعدم للوجود الأزلي الأبدي والبقاء السرمدي الذي لا يعرضه الموت والفوت مطلقا تاهت في بيداء صمديتك انظار العقل واراؤه
واعلموا ايها الأحرار المكلفون بشعائر الحج وأركانه انما جَعَلَ وصير اللَّهِ الحكيم المستغنى بذاته عن عموم الأمكنة والجهات وعن الحلول فيها مطلقا الْكَعْبَةَ المكعبة المعينة في ارض الحجاز الْبَيْتَ الْحَرامَ اى المكان الذي يحرم فيه اكثر ما يحل في غيرها من الأمكنة بل جميعها عند العارف ليكون قِياماً لِلنَّاسِ اى محلا يقومون بها ويتيقظون بأركانها ومناسكها ويتنبهون بآدابها ومشاعرها عن منام الغفلة ورقود النسيان وَكذا قد صير سبحانه الشَّهْرَ الْحَرامَ ميقاتا واوانا لزيارتها وطوافها ليقوموا فيها بتهيئة اسباب الفناء وتخلية الضمير عن الميل الى الغير والسوى مطلقا وَايضا قد عين سبحانه فيها الْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ يعنى الذبائح والقرابين جبرا لما انكسر من رعاية نسكه وآدابه لئلا يتقاعدوا عن إتمامها ذلِكَ اى جعلها وتصييرها مرجعا لقاطبة الأنام وقبلة لهم بحيث يجب عليهم التوجه نحوها من كل مكان سحيق وفج عميق انما هو لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المحيط بذرائر الأكوان يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما فِي السَّماواتِ اى علويات الأعيان الثابتة وَما فِي الْأَرْضِ اى سفليات عالم الطبائع والأكوان وَلتعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المنزه المتعالي عن ان يحاط بتجلياته ومجاليه بِكُلِّ شَيْءٍ مما استأثر الله باطلاعه إذ ما يعلم جنوده الا هو عَلِيمٌ بحيث لا يعزب عن علمه وحضوره شيء. كلت الألسن عن تفسير صفتك وانحسرت العقول عن كنه معرفتك فكيف يوصف كنه صفتك يا رب سيما بلسان عبادك
وبالجملة اعْلَمُوا ايها المكلفون المتوجهون نحو الحق وزيارة بيته أَنَّ اللَّهَ المطلع باعمال عموم عباده وبنياتهم فيها شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام اليم العذاب على من تساهل وتكاسل فيها فعليكم ان لا تغتروا بامهاله بمقتضى لطفه وجماله بل احذروا عن سطوة سلطنة قهره وجلاله وَاعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ ستار لذنوبهم رَحِيمٌ لهم يرحمهم بمقتضى جماله ونواله يعنى عليكم ان تكونوا مقتصدين معتدلين بين طرفي الخوف والرجا لتكونوا من زمرة عباده الشاكرين وان جادلوا معك يا أكمل الرسل وعاندوك يعنى اهل البدع والأهواء الفاسدة في هذه الإلهامات والاخبارات الإلهية المترشحة من بحر الحكمة لا تبال بهم ولا بمعاندتهم ومعاداتهم بل قل لهم قولا صادرا عن محض الحكمة
ما عَلَى الرَّسُولِ الهادي للخلق الى الحق باذنه إِلَّا الْبَلاغُ والتبليغ على الوجه المأمور والأسماع والقبول مفوض الى الله والتوفيق من لدنه وَاللَّهُ المطلع لضمائركم يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ تظهرون وتعلنون من الايمان والإطاعة وَما تَكْتُمُونَ وتخفون من الكفر والبدعة
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ عند الله وَلَوْ أَعْجَبَكَ ايها المعتبر المتعجب كَثْرَةُ الْخَبِيثِ إذ لا عبرة بالقلة والكثرة(1/206)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
بل العبرة انما هي بالجودة والردائة في الأعمال والأفعال والمواجيد والأحوال فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور حق تقاته يا أُولِي الْأَلْبابِ الناظرين في لب الأمور المعرضين عن قشورها لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون من عنده فوزا عظيما بعد ما تجودون أعمالكم بالإخلاص والتقوى
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَسْئَلُوا ولا تقترحوا عن رسولكم سيما عَنْ أَشْياءَ قبل ورود الوحى إِنْ تُبْدَ وتظهر لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وتغمكم وتورث فيكم حزنا وكآبة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ وفي زمان نزول الوحى والإلهام تُبْدَ لَكُمْ وتظهر عندكم بلا سوء وحزن وبالجملة عَفَا اللَّهُ عنكم بمقتضى لطفه عما سلف عَنْها وعن أمثالها قبل ورود النهى فعليكم ان تحافظوا عليها بعد ورود النهى وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده غَفُورٌ لهم عما سبق من ذنوبهم قبل ورود الزاجر حَلِيمٌ ايضا لا يعجل العقوبة لما اكتسبوا بعدها الى ان يتوبوا
واعلموا انه قَدْ سَأَلَها عنها وعن أمثالها قَوْمٌ مثلكم من الذين مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ عن أنبيائهم ثُمَّ بعد ما ظهر ما اقترحوا عنه أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ جاحدين مكذبين لأنبيائهم بعد ظهورها لعدم امتثالهم وانقيادهم بما ظهر وعدم أعمالهم بمقتضاه
واعلموا ايها المؤمنون ما جَعَلَ اللَّهُ العليم الحكيم وما وضع وشرع لكم في دينكم هذا ما في الجاهلية الاولى مِنْ بَحِيرَةٍ وهي انهم إذ أنتجت ناقتهم خمسة ابطن خامسها ذكر بحروا اذنها وشقوها وخلوا سبيلها فلا تركب ولا تحمل ولا تحلب ابدا فسموها بحيرة وَلا سائِبَةٍ وهي انهم قالوا ان شفيت فناقتى سائبة اى ممنوعة عن الانتفاع بها كالبحيرة وَلا وَصِيلَةٍ وهي انهم إذا ولدت شاتهم اثنى كان لهم وإذا ولدت ذكرا كان لآلتهم وإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن واحد يتبعون الأنثى بالذكر ويتقربون بهما وسموها وصيلة وَلا حامٍ وهو انهم إذ أنتجت من صلب فحل عشرة ابطن حرموا انتفاعه بالكلية ولم يمنعوه من الماء والمرعى وقالوا قد حمى ظهره ويسمونه حاميا وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اعرضوا عن الايمان والإطاعة يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ المنزه عن عموم النقائص الْكَذِبَ يعنى ينسبون اليه أمثال هذه المزخرفات الباطلة افتراء ومراء وَبالجملة أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الله ولا يعرفونه ولا يفهمونه أصلا ولا يعلمون حق قدره وقدر حقيته ومقتضى حكمته مطلقا
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح تَعالَوْا هلموا إِلى امتثال ما أَنْزَلَ اللَّهُ المصلح لأحوالكم وَإِلَى متابعة الرَّسُولِ الهادي لكم المنقذ عن ورطة الضلال قالُوا من غاية انهماكهم في الغفلة حَسْبُنا ويكفينا ما قد وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وأسلافنا قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا في شأنهم إلزاما وتبكيتا أَيقلدون آباءهم ويقتفون أثرهم وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من أنفسهم وَلا يَهْتَدُونَ ايضا طريقا واسعا مستقيما بهدى هاد نبيه وارشاد مرشد منبه مع انهم عقلاء من اهل التمييز والاختبار فالعار كل العار فاعتبروا يا اولى الأبصار
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ ان تحفظوا أَنْفُسَكُمْ وتلازموها على الطاعات وتداوموها على التوجه نحو الحق في عموم الأوقات والحالات ومالكم الاحفظ انفسكم عن ورطة الهلاك والضلال وبعد ما حفظتم أنتم انفسكم لا يَضُرُّكُمْ ضلال مَنْ ضَلَّ عن طريق الحق إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أنتم اليه سبحانه واعلموا ايها المؤمنون إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الوجود والتحقق مَرْجِعُكُمْ ومرجعهم ايضا جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ وإياهم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دنياكم من شر وخير ومعصية وطاعة ويجازيكم(1/207)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
عليها ان خيرا فخير وان شرا فشر
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من جملة الأمور التي تجب محافظتها عليكم شَهادَةُ بَيْنِكُمْ اى شهادتكم واشهادكم بين بنى نوعكم سيما إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ عليكم ان تشهدوا حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ اى من رجالكم أقاربكم وعشائركم أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ اى من أجانب المسلمين او من اهل الذمة إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ وسافرتم فِي الْأَرْضِ متباعدين عن الأقارب والعشائر فَأَصابَتْكُمْ فيها مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما اى الشاهدين من الأجانب وتقفونهما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ عند الجماعة فَيُقْسِمانِ اى الشاهدان بِاللَّهِ على رؤس الاشهاد إِنِ ارْتَبْتُمْ وشككتم ايها الوارثون في شهادتهما بانا لا نَشْتَرِي بِهِ ولا نرتشى بشهادتنا هذه ثَمَناً ولا نشهد بالزور وَلا سيما لَوْ كانَ المقسم له ذا قُرْبى اى صاحب قرابه وَايضا يقسمان تغليظا وتوكيدا بانا لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ العالم بالسرائر والخفايا التي هي وديعة الله عندنا بل يؤديها على وجهها بلا تحريف وكتمان وبلا زيادة ونقصان وان كتماها وحرفناها ظلما وزورا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ المعترفين لأنفسنا إثما عظيما
فَإِنْ عُثِرَ اى أشعر واطلع عَلى أَنَّهُمَا اى الشاهدين قد اسْتَحَقَّا إِثْماً بواسطة تحريفهما او كتمانهما فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما اى يقسم آخران بدل الشاهدين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ يعنى من الورثة اى المشهورين لهم بل هما الْأَوْلَيانِ الأحقان بالتحليف من الشاهدين فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ واصدق مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا وما تجاوزنا في هذه الشهادة عن الحق أصلا وان اعتدينا فيها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العدالة الإلهية التي وضعها الحق بين عباده
وبالجملة ذلِكَ التخفيف والتغليظ أَدْنى واقرب الى الاحتياط من أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ ويؤدوها عَلى وَجْهِها اى على وجه يحملونها من غير تحريف وخيانة فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ على المدعين بَعْدَ أَيْمانِهِمْ الكاذبة فيفتضحوا بظهور الخيانة على رؤس الملأ وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ايها الشهود واحذروا عن الكتمان والتحريف وَاسْمَعُوا عموم ما يقول المحتضر سمع تحفظ وتيقن وادوه على وجهه وَاللَّهُ المطلع بضمائر عباده لا يَهْدِي الى قضاء وحدته الذاتية الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى او امره ومنهياته واذكروا وتذكروا واعتبروا من خطاب الله وعتابه لرسله لاجلكم ايها المسرفون المفرطون
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ المستوي على عروش عموم المظاهر بالاستيلاء التام والعدالة الكاملة الرُّسُلَ في يوم العرض الأكبر فَيَقُولُ لهم على سبيل التوبيخ ماذا أُجِبْتُمْ اى باى شيء أجبتم أنتم ايها الرسل من قبل هؤلاء العصاة المتجاوزين عن حدودنا الموضوعة فيهم قالُوا اى الرسل معتذرين متذللين لا عِلْمَ لَنا يا ربنا بحالهم ولا عذر لنا نعتذر عنهم إِنَّكَ بذاتك وأسمائك واوصافك بل أَنْتَ بخصوصيتك واستقلالك إذ لا غير في الوجود معك عَلَّامُ الْغُيُوبِ التي غابت عن عقولنا وأبصارنا واسماعنا فلك الحكم والأمر في ملكك وملكوتك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد
اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك وقت إِذْ قالَ اللَّهُ المتردي برداء العظمة والكبرياء يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ امتنانا عليه اذْكُرْ نِعْمَتِي التي أنعمت عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ وأقم بشكرها وأد حقها سيما إِذْ أَيَّدْتُكَ اى قويت عضدك وخصصتك بِرُوحِ الْقُدُسِ اى بالنفس الزكية القدسية اللاهوتية المطهرة عن شوب القوى الناسوتية مطلقا لذلك أنت(1/208)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
تُكَلِّمُ النَّاسَ حال كونك صبيا محبوسا فِي الْمَهْدِ وَايضا حال كونك كَهْلًا على السوية بلا تفاوت يعنى قد جعلت لك جميع كمالاتك بالفعل في عموم اوقات وجودك بلا تفاوت بين طفولتك وكهولتك وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ اى التدابير المتعلقة لظواهر الشرع وَالْحِكْمَةَ المتعلقة لبواطنها واسرارها وَالتَّوْراةَ الجامعة بين الظاهر والباطن والحكم والاحكام وَالْإِنْجِيلَ الغالب فيه ما يتعلق بالباطن وَإِذْ تَخْلُقُ اى تصور وتقدر أنت مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي اى بمقتضى امرى وتعليمي إياك فَتَنْفُخُ فِيها من روحي الذي قد أيدتك به ونفخته فيك فَتَكُونُ طَيْراً طائرا قد طارت بِإِذْنِي وَإذ تُبْرِئُ وتبصر أنت الْأَكْمَهَ المكفوف العينين بإلقاء ريقك في عينيه وَإذ تشفى الْأَبْرَصَ ايضا بدعائك له بِإِذْنِي وَأعظم من الكل إِذْ تُخْرِجُ أنت بإعانة منا لك الْمَوْتى القديمة من قبورهم وتحييهم بتعويذك عليهم ونداءك إياهم بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ ومنعت شر بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ وقت إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحات والمعجزات الباهرات فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من خبث باطنهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وما هو الا ساحر عليم
وَإِذْ أَوْحَيْتُ وألهمت إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي عيسى بن مريم قالُوا عن صميم فؤادهم آمَنَّا بك وبرسولك وَاشْهَدْ أنت يا ربنا بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ منقادون بدينك ونبيك نستودع عندك يا ربنا هذه الشهادة الى وقت الحاجة
اذكر إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ لك حين أرادوا الترقي من مرتبة العلم الى العين يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أضافوه اليه لتحققه في مرتبة العين والحق أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً رزقا معنويا حقيقيا مِنَ السَّماءِ اى من جانب العلو الذي هو مرتبة العين والحق فلما سمع عيسى منهم ما سمع ايس منهم فقطع أمرهم واوجس في نفسه خيفة من الله العزيز الغيور لأنهم ليسوا في تلك الحالة مستعدين للكشف والشهود لذلك قالَ عيسى اتَّقُوا اللَّهَ المتعزز بكمال العظمة والكبرياء عن أمثال هذه الأسئلة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بكمال قدرته وارادته واختياره واستقلاله بالتصرف في ملكه وملكوته
قالُوا معتذرين ملتجئين نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ اى نذوق ونستغذي مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وتتمكن أقدامنا في جادة توحيد ربنا وَنَعْلَمَ يقينا عينيا أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في جميع ما أرشدتنا وهديتنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ اى من اهل الشهود والحضور بلا حجاب العلم في البين فلما أحس عيسى ابتلاء الله وافتتانه إياهم بادر الى المناجاة مع الله
حيث قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً فرحا وسرورا لِأَوَّلِنا اى متقدمينا وَآخِرِنا اى متأخرينا وَتكون آيَةً نازلة مِنْكَ ننكشف بها بتوحيدك زيادة انكشاف وَارْزُقْنا من لدنك حظا يخلصنا من ظلام اظلالنا وغيوم هوياتنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ على من سبقت عنايتك من عبادك
قالَ اللَّهُ المطلع لاستعداداتهم إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وان لم تكونوا قابلين لها فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ اى بعد نزولها مِنْكُمْ فَإِنِّي بعزتي وجلالي وبكمال حولي وقوتي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ اى لا أعذب مثله أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فكفروا بعد ذلك فمسخوا عن لوازم الانسانية بالمرة وردوا الى مرتبة أرذل الحيوانات واخبثها العياذ بالله من غضب الله
وَاذكر إِذْ قالَ اللَّهُ المتعزز بكمال العظمة والكبرياء حين فشا غلو النصارى في حق عيسى وامه ونسبتهما الى الألوهية وقولهم بالتثليث والأقانيم والحلول والاتحاد معاتبا مخاطبا(1/209)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد واعبدوني مثل عبادته أم اتخذوك أولئك المسرفون المفرطون الها من تلقاء أنفسهم قالَ عيسى منزها لله مبعدا نفسه عن أمثاله سُبْحانَكَ اى انزهك تنزيها بليغا عن ان يكون لك شريك ما يَكُونُ وكيف يصح ويليق لِي أَنْ أَقُولَ ما اى قولا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ لائق جائز ان أقول به بل ادوره في خلدي سيما بعد كمال لطفك وإحسانك الى ونهاية فضلك وامتنانك على يا رب وبالجملة إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ اى هذا القول او عزمت عليه حلية او اجلته في صدري فَقَدْ عَلِمْتَهُ البتة يا ربي إذ تَعْلَمُ أنت بعلمك الحضوري عموم ما فِي نَفْسِي وَانا لا أَعْلَمُ شيأ من ما فِي نَفْسِكَ من مقتضيات ذاتك وصفاتك وأسمائك وكمالات شئونك وتجلياتك الا ما علمتني إِنَّكَ أَنْتَ وحدك بخصوصيتك عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا احد غيرك يعلم غيبك وانما خاطبه سبحانه بما خاطبه وعاتبه بما عاتبه مع ان الأمر كله معلوم عنده مكشوف لديه حاضر دونه ليوبخ ويقرع على الغالين المتخذين لعلهم يتنبهون بسوء صنيعهم وقبح معاملتهم مع الله المتوحد المتفرد المنزه بذاته عن الأهل والولد الصمد المقدس الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد
ثم بسط عيسى عليه السّلام الكلام مع ربه تشفيا وتشوقا فقال ما قُلْتُ لَهُمْ يا ربي قولا إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وبتبليغه وإيصاله إليهم وهو أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي هو رَبِّي قد أوجدني من كتم العدم ورباني بأنواع اللطف والكرم وَرَبَّكُمْ ايضا أوجدكم من العدم مثلي ورباكم كذلك فيكون نسبة إيجاده سبحانه وتربيته على وعليكم على السواء إذ ما ترى من تفاوت في خلقه وَقد كُنْتُ يا ربي بمقتضى أمرك ووحيك وارسالك عَلَيْهِمْ شَهِيداً حاضرا حافظا احفظهم بتوفيقك عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ورفعتني بجودك من حضيض عالم الناسوت الى ما رفعتني من حظائر عالم لاهوتك كُنْتُ بذاتك وأسمائك واوصافك كما كنت قبل ذلك أَنْتَ الرَّقِيبَ المحافظ عَلَيْهِمْ المتولى لأمورهم اصالة وتضلهم وتهديهم وترشدهم وتغويهم وَبالجملة أَنْتَ وان تنزهت وتقدست في ذاتك عن عموم الأمكنة والأكوان عَلى كُلِّ شَيْءٍ قدير من الأمور الكائنة فيها شَهِيدٌ حاضر غير مغيب إذ لا يجرى في ملكك وملكوتك الا ما تشاء حسب شئونك وتجلياتك المترتبة على أسمائك وصفاتك
وبالجملة إِنْ تُعَذِّبْهُمْ عدلا منك فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ فلك ان تتصرف فيهم على اى وجه تتعلق ارادتك ومشيتك به وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فضلا وطولا فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم الانعام والانتقام الْحَكِيمُ المتقن في إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ومنعه عنه بلا مشاركة ولا مظاهرة. ثم لما بث وبسط عيسى عليه السّلام مع الله الكلام وبالغ في التفويض والتسليم والرجوع اليه سبحانه في عموم الأمور سيما في امر قومه
قالَ اللَّهُ المطلع لعموم ما في استعدادات عباده ولجميع ما يئول اليه عواقب أمورهم مناديا يا عيسى هذا اى يوم الجزاء المعد للعرض والحساب وتنقيد الأعمال يوم لا يكتسب فيه الخير ولا يستجلب النفع ولا يدفع الضر بل يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ اى الذين صدقوا في النشأة الاولى صِدْقُهُمْ السابق فيها لَهُمْ اى لأولئك الصادقين السابقين في هذه النشأة الاخرى التي هي نشأة الجزاء جَنَّاتٌ اى منتزهات المعارف والحقائق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مملوة بمياه العلوم اللدنية التي هي عبارة عن المكاشفات والمشاهدات المثمرة للحياة الازلية الابدية والبقاء(1/210)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
السرمدي خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون عنها أصلا وبالجملة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لتحققهم بمقام الصدق والإخلاص فيما مضى وَرَضُوا ايضا عَنْهُ سبحانه لإيصالهم الى غاية ما جبلوا لأجله بلا ترقب وانتظار ذلِكَ الوصول والتحقق هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل العميم لأهل العناية الفائزين من عنده بهذه المرتبة العلية ولا تستبعد عن الله أمثال هذه الكرامات سيما مع ارباب المحبة والولاء الباذلين مهجهم في سلوك طريق الفناء فيه
إذ لِلَّهِ المستغنى عن عموم الأماكن والأكوان مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إيجادا واعداما وَما فِيهِنَّ من الكوائن والفاسدات فله التصرف فيها بالاستقلال كيف يشاء حسب ارادته واختياره وَهُوَ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من عموم مراداته ومقدوراته قَدِيرٌ فله ان يوصل خلص عباده الى فضاء فنائه بافنائهم عن هوياتهم الباطلة وابقائهم بهوية الحق الحقيقية السارية في عموم الأكوان في كل يوم وآن وشأن
خاتمة سورة المائدة
عليك ايها المحمدي المتوجه لمرتبة الفناء المثمرة للبقاء الأبدي شكر الله سعيك وأوصلك الى غاية مبتغاك ان تجعل قرينك الرضا في جميع ما جرى عليك من مقتضيات القضاء إذ كل ما يجرى في عالم الكون والفساد انما هو على مراد الله وبمقتضى مشيئته وارادته حسب تجلياته الجمالية والجلالية واللطفية والقهرية. والعارف إذا تحقق بمقام الرضا الذي هو نهاية مراتب العبودية فقد خلص عن قيود الإضافات مطلقا ومتى ارتفعت الإضافات لا يشوشه لا السراء ولا الضراء ولا اللذة ولا العناء ولا الفقر ولا الغناء إذ كل ذلك من لوازم الإمكان وامارات البعد والخذلان. فعليك ان تصفى نفسك من جميع الأمراض الباطنة من العجب والرياء والرعونة والهوى وتلازم العزلة والاعراض عن أبناء الدنيا وعن الالتجاء إليهم والمخالطة معهم وتقلل عن حوائجك وحظوظك سوى سد جوعة وكن ولباس خشن كيف اتفق ولك ان تروض نفسك في زاوية الخمول وكهف القناعة ومنزل الفراغة وإياك إياك ان تصاحب مع اهل البدع والأهواء وتراجعهم سيما في الأمور التي تتعلق بالمعاش المستعار وبالجملة كن في ورطة الدنيا كانت غريب ليس لك ألف وموانسة مع من فيها وما فيها او كعابر سبيل يروح فيها ويغدو بلا تمكن وقرار وبالجملة عد نفسك من اصحاب القبور وافعل فيها مثل ما تشاهد منهم بالنسبة إليها بل موتك الإرادي لا بد ان يكون أعرق في قطع التعلق وترك المألوف عن الموت الصوري لان اكثر الأموات بالموت الصوري يخرجون من الدنيا متحسرين بحسرة عظيمة والعارف المتحقق بمرتبة الموت الإرادي له مسرة عظيمة ولذة دائمة بحيث لو عاد على ما عليه كان يغم غما شديدا بل قد هلك حزنا وكآبة. فلك ان تشمر ذيلك عنها وعن لذاتها بالمرة وتداوم الاستفادة والاسترشاد من كتاب الله وأحاديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكذا من ملتقطات المشايخ العظام التي استنبطوها منهما بسعي بليغ وجد تام شكر الله مساعيهم وتصرف عنان عزمك عما سواها من الأباطيل الزائغة المنسوبة الى اصحاب الحجج والاستدلالات الضالين بتغريرات عقولهم القاصرة وتزويرات اوهامهم الخاسرة وخيالاتهم الباطلة عن منهج الحق ومحجة اليقين جعلنا الله ممن أيد من عنده فتأيد واطلق عنان عزمه نحو الحق ولم يتقيد بمنه وجوده(1/211)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
[سورة الأنعام]
فاتحة سورة الأنعام
لا يخفى على المستضيئين المستنيرين من اشعة نور الوجود اللائح عن مشكوة العدم التي هي عبارة عن طلسمات التعينات وشباك الهويات الظاهرة في عالم الكون والفساد المنعكسة من آثار الأسماء والصفات ان سر ظهور كمالات الوجود من سراب العدم انما هو لغاية جلاء الوجود وصفائه الى حيث لم يدرك لو لم يكن في مقابلة مرآة مجلوة يتراءى فيها ما انعكس منه ولو لم يكن له مقابل غير العدم لذلك ما انعكس كمالاته إلا منه والمحجوب المقيد بسجن الطبيعة ما يرى الوجود والموجود الا هذه العكوس المنعكسة والاظلال المرئية المستحدثة في سراب العدم من الأمواج الحادثة في بحر الوجود حسب التجليات الحبية ولم يتفطن الى مبدئها ومنشئها ولهذا عدل عن طريق الحق وضل عن سواء السبيل ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور والمكاشف المشاهد بنور الله المستغرق بمطالعة جماله لا يرى في الوجود الا هو وكل ما ظهر في العالم من الآثار فمن تجلياته المنتشئة من أوصافه الذاتية ومن تطورات أسمائه الكمالية الجمالية والجلالية وسر التكاليف الموردة في الكتب الإلهية والآثار النبوية انما هو للتحقق والتقرب الى ما عليه الوجود الحقي من الاعتدال والاستواء الذي هو صراط الله الا قوم الا عدل لذلك الهم سبحانه خلص عباده الذين تحققوا بوحدة الوجود وانكشفوا بنوره المستقل ان يواظبوا على حمده وثنائه دائما مستمرا ليتمكنوا بمقام الشكر الذي هو أعلى مقام العارف بالله إذ الشكر انما يحصل بقدر رفع حجب التعينات رأسا ورؤية عموم ما ظهر وبطن من نعم الوجود وما يتفرع عليه من مقتضيات الكرم والجود من المنعم الحقيقي والمفضل المعنوي وذلك لا يكون الا بالفناء فيه والبقاء ببقائه ومتى فنى العارف فيه فقد تحقق بمقام الشكر وتكلم لسان حاله ومقاله بشكر منعمه وهو ايضا بحول الله وقوته ولهذا اخبر سبحانه من حمده وشكره لنفسه تعليما لعباده قائلا متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المستغنى بذاته عن عموم الأكوان الرَّحْمنِ عليها بافاضة نور الوجود من محض الجود والامتنان الرَّحِيمِ عليها باقدارها على مواظبة الحمد والثناء له أداء لحق شيء من الانعام والإحسان
[الآيات]
الْحَمْدُ الثناء المشعر بالاطاعة والانقياد التام المنبئ عن كمال التعظيم والتبجيل الذاتي الصادر عن السنة عموم ما ظهر من شئون الوجود وانعكس من اظلال أسمائه وصفاته ودخل في حيطة الوجود الحق واعترف بتوحيده وحمده حالا ومقالا وباستقلاله وتوحده سبحانه في ملكه وملكوته ازلا وابدا ثابت لِلَّهِ المستقل بالالوهية المتفرد في ربوبيته المستحق بأنواع العبودية ذاتا وصفات وكيف لا يستحق سبحانه بالعبودية والتعظيم إذ هو القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ وقدر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى علويات الأسماء والصفات الفعالة وسفليات الطبائع والأركان القابلة لآثار العلويات وَجَعَلَ ايضا الظُّلُماتِ اى حجب التعينات وَالنُّورَ اى ظل الوجود المنبسط عليها ثُمَّ بعد ما ظهر اشراق نور الوجود ولمع شمس الذات على صفحات الكائنات المحجوبون الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ اى ستروا بهويتهم الباطلة هوية الحق السارية في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق ازلا وابدا يَعْدِلُونَ يميلون وينحرفون عن طريق الحق واستقلاله جهلا وعنادا
وكيف يسترون هويته ويعدلون عن طريقه مع انه هُوَ الخالق الموجد الَّذِي خَلَقَكُمْ وقدر وجودكم أولا مِنْ طِينٍ جماد قريب من العدم ثُمَّ قَضى وقدر أَجَلًا لحياتكم المستعارة الظلية في النشأة الاولى(1/212)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
وَأَجَلٌ مُسَمًّى مقدر عِنْدَهُ لفنائكم الحقيقي فيه سبحانه في النشأة الاخرى ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ما علمتم وتحققتم منشأكم ونشأتكم الاولى الصورية تَمْتَرُونَ تشكون وترددون في النشأة الاخرى المعنوية الحقيقية جهلا وعنادا
وَكيف تشكون فيها ايها الشاكون الجاهلون مع انه هُوَ اللَّهُ القادر المقتدر المتوحد المتفرد المتجلى فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ بكمال الاستقلال والاستيلاء يَعْلَمُ منكم بعلمه الحضوري سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من خير وشر ونفع وضر في نشأتكم الاولى
وَمن امارات كفرهم وسترهم وامترائهم ومرائهم ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ عظيمة دالة على توحيد الحق بلسان رسول من الرسل العظام مع انها قد كانت مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ المتوحد في الربوبية إِلَّا كانُوا من غاية كفرهم وجهلهم عَنْها مُعْرِضِينَ
ومن غاية اعراضهم والحادهم عن طريق الرشد فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ المطابق للواقع الذي هو القرآن الجامع لَمَّا جاءَهُمْ بلسان من هو أعلى مرتبة ومكانة عند الله وأكمل دينا وأقوم طريقا فكذبوه واستهزؤا به فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ وسيظهر لهم في النشأة الاولى والاخرى أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ واخبار ما يفترون لأنفسهم حين نزول العذاب عليهم في الدنيا بضرب الذلة والمسكنة المستمرة والجزية والصغار المؤبد وفي الآخرة بالعذاب والنكال المخلد
أَيشكون في نزول العذاب الآجل والعاجل ويترددون فيه أولئك الشاكون المترددون ولَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ من اهل القرون الماضية كعاد وثمود وغيرهما مع انا قد مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ وقررناهم فيها قادرين على امور عظام وآثار جسام ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ولم نجعل في وسعكم من السعة وطول المكث والترفه والاستيلاء التام وكمال البسطة والرخاء وَمع ذلك أَرْسَلْنَا السَّماءَ اى المطر عَلَيْهِمْ مِدْراراً مغرارا كثيرا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ دائما متجددا تتميما لترفههم وتنعمهم وبالجملة امهلناهم زمانا طويلا كذلك فَأَهْلَكْناهُمْ بعد ذلك بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم من تكذيب الأنبياء وبعموم ما جاءوا به من لدنا وافسادهم في الأرض بأنواع الفسادات وَبعد ما استأصلناهم بالمرة قد أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
وَبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بتكذيباتهم واقتراحاتهم ولا ترج منهم الايمان بك وبكتابك لأنهم من غاية انهماكهم في الغي والضلال لَوْ نَزَّلْنا من مقام جودنا عَلَيْكَ كِتاباً مكتوبا فِي قِرْطاسٍ ورق فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ حين نزوله لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من خبث بواطنهم وجهلهم الجبلي إِنْ هذا اى ما هذا الذي جئت به إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ عظيم ظاهر سحريته وكذبه إذ الورق لا تنزل من السماء الا بسحر
وَايضا قالُوا من شدة شقاقهم ونفاقهم معك يا أكمل الرسل ان كان هذا المدعى نبيا لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يصدق نبوته فنصدقه قل لهم في جوابهم نيابة عنا وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً على مقتضى سنتنا في الأمم الماضية لَقُضِيَ الْأَمْرُ اى لتحقق امر إهلاكهم البتة إذ ما ننزل الملك الا للاهلاك والتعذيب بمقتضى سنتنا المستمرة في الأمم الماضية ثُمَّ بعد نزول الملك لينكرون له ويكذبونه البتة وبعد ذلك لا يُنْظَرُونَ ولا يمهلون ساعة بل يعذبون كالأمم السالفة
وَايضا لَوْ جَعَلْناهُ اى الرسول المنزل إليهم مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا اى على صورته إذ لا يمكن للبشر ان يرى الملك على صورته لمهابته لذلك ما جاء جبرائيل عليه السّلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الا على صورته دحية الكلبي رضى الله عنه وَايضا لم يمكنهم الاستفادة منه لعدم الجنسية وان أنزلنا(1/213)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
على صورة البشر لَلَبَسْنا ولخلطنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ اى مثل ما يخلطون على أنفسهم من ان البشر لا يليق بالرسالة فلم يصدقوه ايضا
وَبالجملة لا تحزن ولا تضطرب يا أكمل الرسل من إيذائهم واستهزائهم معك واصبر على أذاهم فانه لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فصبروا على ما كذبوا واستهزؤا وأوذوا فَحاقَ وأحاط من الجوانب بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فاهلكوا واستؤصلوا مما استهزؤا وان أنكروا قصة إهلاكهم
قُلْ لهم سِيرُوا فِي الْأَرْضِ التي هي مقر الفراعنة ومنزل الاكاسرة والقياصرة ومضرب خيام الخواقين المعتبرة معتبرين ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا الرسل عتوا وعنادا بحيث لم يبق من رسومهم وآثارهم واطلالهم وارباعهم أصلا مع انهم كانوا اولى قوة وذوى بأس شديد
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا تبكيتا وإلزاما لِمَنْ ما ظهر فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تصرفا وتملكا إيجادا وإظهارا اعداما وافناء قُلْ ايضا أنت يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا وتحيروا في الجواب لِلَّهِ المتوحد المتفرد بالتجلى والظهور والتصرف مطلقا إذ قد كَتَبَ أوجب والزم سبحانه عَلى نَفْسِهِ وذاته حين كان ولم يكن معه شيء الرَّحْمَةَ العامة اى التجلي والاستيلاء بمقتضى اسمه الرّحمن العام على عروش درائر الأكوان المنعكسة من أوصافه الذاتية لَيَجْمَعَنَّكُمْ سبحانه ايها العكوس والاظلال بمقتضى اسمه الرّحيم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ التي هي الطامة الكبرى المرتفعة فيها نقوش الغير والسوى مطلقا واعلموا انه لا رَيْبَ فِيهِ اى في جمعه ورفعه عند ذوى البصائر والنهى المتأملين في سرائر الظهور والإظهار والبطون والإخفاء واما القوم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ باقتصار النظر في هذه الاظلال والتماثيل الزائغة الزائلة التي لإقرار لها ولا مدار للذاتها وشهواتها أصلا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالرجوع الى مأمن التوحيد ومقر التجريد والتفريد وأولئك هم الضالون في تيه الحرمان الباقون في ظلمة الإمكان
وَكيف تنكرون جمعه وتوحيده سبحانه مع ان لَهُ ما سَكَنَ اى عموم ما بطن فِي اللَّيْلِ اى مرتبة الباطن والغيب المطلق وَكذا ما ظهر وانكشف في النَّهارِ اى مرتبة الظاهر والشهادة المطلقة وَهُوَ بذاته السَّمِيعُ بكل ما سمع الْعَلِيمُ بكل ما علم وأدرك لا يخفى عليه شيء مما ظهر وبطن
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر توحيد الحق واثبت له شريكا ومع ذلك يريد ان يرغبك الى الشرك عتوا وعنادا إلزاما له وتبكيتا أَغَيْرَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له أصلا أَتَّخِذُ وَلِيًّا مولّيا ووكيلا لا كون مشركا مثلك مع كونه سبحانه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى موجدهما ومظهرهما من كتم العدم بالاستقلال بلا مظاهرة ومشاركة وَهُوَ يُطْعِمُ المحتاجين وَلا يُطْعَمُ لتنزهه عن الاكل والشرب خص سبحانه بعدم الاتصاف بهذه الصفة لأنها من أقوى اسباب الإمكان وأجل امارات الحدوث وأظهرها والباقي متفرع عليها قُلْ يا أكمل الرسل المرسل لعموم البرايا إِنِّي أُمِرْتُ من عند ربي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وأطاع وانقاد واظهر التوحيد الذاتي وادعوا الناس جميعا اليه وَايضا قد نهيت انا خاصة على وجه المبالغة والتأكيد من عنده سبحانه بقوله لا تَكُونَنَّ أنت يا أكمل الرسل بحال من الأحوال وشأن من الشئون مِنَ الْمُشْرِكِينَ المثبتين الوجود لغير الحق اصالة من الاظلال والعكوس
وبعد ما أمرت يا أكمل الرسل بما أمرت ونهيت ايضا عما نهيت قُلْ لمن تبعك لعلهم ينتبهون ايضا إِنِّي بعد ما تحققت بمقام(1/214)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
الكشف والشهود أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي وخرجت عن مقتضى توحيده الذاتي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم العرض الأكبر الذي تجزى فيه كل نفس بما تسعى
مَنْ يُصْرَفْ العذاب عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ الحق له وحققه بمقام الكشف والشهود وَذلِكَ التحقق والانكشاف هو الْفَوْزُ الْمُبِينُ لأهل العناية والوصول
وَبعد ما تحققت أنت يا أكمل الرسل بمقام المعرفة وتقررت في مقر التوحيد إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ المدبر المراقب عليك بِضُرٍّ بلية وعناء لحكمة ومصلحة فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ إذ لا شيء سواه ولا متصرف غيره وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ عطية وغناء وبذل وعطاء فَهُوَ ايضا منه إذ هو عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الخير والشر والنفع والضر قَدِيرٌ مقتدر يحيط قدرته بعموم المقدورات والمرادات
وَكيف لا يكون قديرا على كل ما أراد إذ هُوَ الْقاهِرُ العزيز الغالب فَوْقَ عِبادِهِ يتصرف فيهم كيف يشاء بالإرادة والاختيار وَهُوَ الْحَكِيمُ المتقن في تدبيراتهم الْخَبِيرُ بحوائجهم يعطيهم ما ينبغي لهم ويمنعهم عما يضرهم بالإرادة والاختيار وان جادلوك واستشهدوا منك شاهدا على نبوتك ورسالتك
قُلْ لهم إلزاما وتبكيتا أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ وأتم شَهادَةً من الله قُلْ بعد ما تعين ذلك اللَّهُ المحيط بعموم مظاهره ومصنوعاته شَهِيدٌ حاضر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمن جملة شهادته وحضوره انه قد أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ الجامع لفوائد الكتب السالفة من عنده لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ايها المكلفون الموجودون حين نزوله عما يضركم ويغويكم وأبشركم به بما ينفعكم ويهديكم وَكذا مَنْ بَلَغَ له خبر وحيه ونزوله من الأسود والأحمر الى انقراض النشأة الاولى إذ انا ما أرسلت الا الى كافة البرايا بشيرا ونذيرا على مقتضى التوحيد الذاتي أَإِنَّكُمْ ايها المنهمكون في بحر الحيرة والضلال لَتَشْهَدُونَ بعد وضوح البرهان أَنَّ مَعَ اللَّهِ المتوحد بذاته المستقل بالالوهية آلِهَةً أُخْرى مشاركة له في ملكه ووجوده قُلْ لا أَشْهَدُ انا ما تشهدون به أنتم ظلما وزورا بل قُلْ بمقتضى ما كوشفت به إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ متفرد بالالوهية والربوبية ليس لغيره وجود حتى يشارك معه بل لا موجود الا هو ولا اله سواه وَبالجملة إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أنتم بالله الواحد الأحد من الاظلال الباطلة والتماثيل العاطلة
ثم قال سبحانه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ من اليهود والنصارى يَعْرِفُونَهُ اى محمدا صلّى الله عليه وسلّم بحليته وأوصافه المذكورة في كتبهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بلا شائبة شك ووهم وبالجملة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالشرك والتحريف فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ به وبنبوته ورسالته عنادا ومكابرة
وَمَنْ أَظْلَمُ عند الله وأوجب للبطش والانتقام مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وحرف كتابه عنادا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة على رسوله المبين لطريق توحيده مكابرة بلا سند ودليل عقلي او نقلي ومع ذلك يطلبون ويتوقعون الفوز والفلاح من عنده سبحانه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العقل والنقل التاركون ايضا متابعة من أيده الحق وأرسله الى الخلق لإشاعة توحيده وتبليغ أحكامه اللائقة بوحدة ذاته ولإزاحة الشرك وإزالته بالمرة
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ونجمعهم جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا استهزاء وتفضيحا وتعريضا لهم على رؤس الملأ أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انهم آلهة مستحقة للعبادة والايمان وتعتقدون انهم يشفعون لكم وينقذونكم من العذاب ائتوا بهم واحضروهم لينقذوكم من عذابنا
ثُمَّ بعد ما سمعوا ما سمعوا لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ(1/215)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
وحيلتهم للخلاص إِلَّا أَنْ قالُوا مقسمين معتذرين وَاللَّهِ رَبِّنا وبحقك يا مولانا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ لك غيرك عابدين لسواك
انْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في مقعد الصدق ومحل اليقين وَانظر ايضا كيف ضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عن نظرهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ به على الله من الشركاء الذين يعتقدون انهم شفعاء عند الله يخلصونهم من عذاب الله
وَمِنْهُمْ اى من جملة أولئك المشركين المعتذرين مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل حين تلاوتك القرآن وهم وان لم يفهموه قد أنكروا عليه واستهزؤا به عنادا ومكابرة كيف يفهمونه وَقد جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً اى اغطية واغشية كثيفة كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وصمما يمنع عن استماعه وَمن غاية انكارهم وعنادهم إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ دالة على توحيد الحق وتمجيده لا يُؤْمِنُوا بِها عنادا ومكابرة حَتَّى إِذا جاؤُكَ من افراط عتوهم وعنادهم يُجادِلُونَكَ في آيات الله بما لا يليق بشأنها حيث يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا سترا للحق وترويجا للباطل إِنْ هذا اى ما هذا الكتاب الذي اتى به محمد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وأكاذيبهم القديمة انما سطروها لتضليل ضعفاء العوام
وَهُمْ بهذا الطعن والقدح يَنْهَوْنَ عَنْهُ اى يقصدون إضلال المسلمين عن متابعة الرسول والايمان به وبكتابه وَلكن لا يعلمون انهم في أنفسهم يَنْأَوْنَ عَنْهُ اى يبعدون عنه وعن هدايته عتوا واستكبارا وَإِنْ يُهْلِكُونَ اى ما يهلكون بهذا التضليل والخداع إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ان ضرر اضلالهم وخداعهم لا يتجاوز عنهم لأنهم هم قد ختم الله العليم الحكيم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم في الدنيا والآخرة
وَلَوْ تَرى ايها الرائي إِذْ وُقِفُوا اى حين أشرفوا عَلَى النَّارِ وتحققوا الوقوع والإيقاع عنوة وعنفا لرأيت امرا فظيعا فجيعا فَقالُوا حينئذ من غاية تفزعهم وتفجعهم متمنين يا لَيْتَنا نُرَدُّ على أعقابنا التي قد كنا فيها وَلا نُكَذِّبَ يومئذ بِآياتِ رَبِّنا التي قد جاءتنا فيها فكذبناها عتوا واستكبارا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بمن جاءنا بها
بَلْ بَدا وظهر لَهُمْ ومنهم حينئذ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ من حقية الكتب والرسل عنادا واستكبارا فتمنوا حين البأس واليأس ضجرا لا عزما صادقا صحيحا بحيث لو ردوا لآمنوا البتة بل وَالله لَوْ رُدُّوا اى لو فرض ردهم الى الدنيا بعد علمهم ووقوفهم على اهوال الآخرة لما آمنوا ايضا بل لَعادُوا ورجعوا البتة من خبث طينتهم لِما نُهُوا عَنْهُ يعنى الى الكفر ايضا عنادا ومكابرة وَبالجملة إِنَّهُمْ في هذا التمني ايضا لَكاذِبُونَ البتة لكون جبلتهم واصل فطرتهم على الكذب لا يزول عنهم أصلا
وَكيف لا يكونون مجبولين على فطرة الكذب والعناد إذ هم قالُوا من خبث بواطنهم حين دعاهم الرسول الى الايمان بالله وباليوم الآخر إِنْ هِيَ اى ما الحيوة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا اى التي كنا عليها فيها وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ من قبورنا كما زعم هؤلاء السفهاء
وَلَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ اى حين وقفوا وصفوا عند ربهم ليحاسبوا بما عملوا لرأيتهم حيارى سكارى مضطرين مضطربين قالَ لهم حينئذ سبحانه من وراء سرادقات العز والإجلال تقريعا وتوبيخا أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ايها الحمقاء الكافرون المكذبون به قالُوا بعد ما كوشفوا وعوينوا معتذرين متفجعين مصدقين مقسمين بَلى وَرَبِّنا قد آمنا به وصدقنا قالَ سبحانه منكرا عليهم مقرعا الآن لن ينفعكم ايمانكم ايها المسرفون المفرطون فيما مضى(1/216)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
بل فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وتكذبون به في النشأة الاولى التي هي دار الفتن والاختبار. ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتقريعا
قَدْ خَسِرَ وخاب خيبة ابدية الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ المتجلى في عموم الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق سيما بعد نزول الآيات الدالة عليه وارشاد الرسل والأنبياء والأولياء لهم اليه حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ المعدة للعرض والجزاء بَغْتَةً فجاءة قالُوا بعد ما انكشفوا به وتيقنوا له متحسرين خائبين خاسرين يا حَسْرَتَنا كلمة تحسر وتأسف عَلى ما فَرَّطْنا فِيها اى في النشأة الاولى من الإنكار والتكذيب وعدم الايمان وَهُمْ في تلك الحالة يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ وآثامهم اى وبالها وما يترتب عليها عَلى ظُهُورِهِمْ خائبين محرومين عن مطالعة وجه الله الكريم أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أولئك البعداء الوازرون المفرطون في الدنيا ويحرمون به في العقبى عن لقاء المولى
وَبالجملة مَا الْحَياةُ الدُّنْيا التي هم يحصرون الحيوة عليها ويحرمون أنفسهم عن الحيوة الحقيقية لأجلها إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ يلعب بهم ويلهيهم ويشغلهم عن الحيوة الازلية الابدية السرمدية وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ وحياتها الحقيقية ولذّاتها المعنوية خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ عن محارم الله ومنهياته في الحيوة الصورية أَفَلا تَعْقِلُونَ ولا تميزون ايها العقلاء المميزون بين الحياتين ولا تعلمون اى اللذتين خير لكم وألذ عندكم وأدوم دونكم.
ثم قال سبحانه قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ اى الشان لَيَحْزُنُكَ ويؤذيك القول الَّذِي يَقُولُونَ في حقك يا أكمل الرسل أولئك المعاندون المكابرون من انك كاذب ساحر مجنون شاعر وغيرها لا تبال بهم وبقولهم فَإِنَّهُمْ في الحقيقة لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن حدود الله المنصرفين عن مقتضى أحكامه بِآياتِ اللَّهِ المنزلة عليك من عنده سبحانه لهداية التائهين من عباده يَجْحَدُونَ ينكرون ويعاندون جحودا وعنادا على سبيل الإصرار والاستكبار وبالجملة فاصبر على أذاهم يا أكمل الرسل الى ان يحل عليهم غضب من الله المنتقم الغيور
وَالله يا أكمل الرسل لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ مثل ما كذبت أنت فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا الذي قد وعدناهم ونصرناهم وانتقمنا لهم عن عدوهم فكانوا هم الغالبين المقصورين على الغلبة والنصر وَبالجملة لا تيأس من نصر الله وتأييده لك من امهال الله إياهم إذ لا مُبَدِّلَ ولا محول لِكَلِماتِ اللَّهِ المنتقم المقتدر التي قد سبقت منه سبحانه لنصر أنبيائه ورسله وَكيف تيأس أنت وتقنط لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ومن قصصهم وحكاياتهم المشهورة المعروفة ما يكفيك عن التردد فيه
وَإِنْ كانَ قد كَبُرَ وشق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الايمان والانقياد لك وضاق صدرك وقل صبرك من عدم ايمانهم بك وحضورهم عندك فَإِنِ اسْتَطَعْتَ من غاية حرصك لإيمانهم وانقيادهم أَنْ تَبْتَغِيَ وتطلب أنت نَفَقاً ومنفذا فِي الْأَرْضِ وتأتى اليه أَوْ سُلَّماً ومرقاة فِي السَّماءِ لتعرج نحوها فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ يعنى حتى تأتيهم بآية دالة على الجائهم الى الايمان فافعل على مقتضاها والا فاصبر حتى يأتى الله بامره من عنده إذ الأمور مرهونة بأوقاتها ومالك الا التبليغ وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ الحكيم العليم هدايتهم لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ أنت مِنَ الْجاهِلِينَ بان الأمور كلها بيد الله واختياره يهدى من يشاء ويضل من يشاء فلا تحرص على ايمانهم وهدايتهم ولا تجتهد فيما لا يسع فيه جهدك وطاقتك لأنك لا تهدى من أحببت هذا تأديب من الله لرسوله وتنبيه منه عليه وأمثال هذا في القرآن كثيرة(1/217)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
فكيف تتطلب وتتوقع أنت هدايتهم ايها الرسول الداعي
إِنَّما يَسْتَجِيبُ اى ما يطلب اجابة الدعوة وقبولها الا الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الدعوة عن رضى ويلقون السمع وقلوبهم حاضرة بفهمها وهم بأنفسهم يطلبون الحيوة الحقيقية وهؤلاء الهلكى ليسوا من الطالبين للحياة الحقيقية بل ما هم الا الموتى حقيقة وان كانوا في صورة الأحياء وَالْمَوْتى صورة يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ القادر المقتدر في النشأة الاخرى ويحييهم بالحيوة الحقيقية في يوم الحشر والجزاء حتى يطلعوا حينئذ على ما فاتهم في النشأة الاولى لكن ما تنفعهم تلك الحيوة والاطلاع الا الحسرة والندامة على ما فات عنهم في دار العمل والاختبار ثُمَّ بعد ما أحياهم واطلعهم سبحانه إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال يُرْجَعُونَ ويساقون لجزاء ما عملوا في الدنيا من تكذيب الآيات والرسل ومن الاستهزاء بهم
وَمن غاية بغضهم وعنادهم معك يا أكمل الرسل قالُوا اى بعضهم لبعض ان كان محمد نبيا صلّى الله عليه وسلّم لَوْلا وهلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ اى آية اقترحناها منه او آية تلجئنا الى الايمان به او آية تستأصلنا بالمرة مع ان دعواه ان ربه يقوى ويقدر على جميعها قُلْ لهم يا أكمل الرسل إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء قادِرٌ بالقدرة الغالبة التامة الكاملة عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً من أية آية اقترحتموها أنتم متى تعلقت ارادته ومشيئته وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ان الله فعال لما يريد ولو أنزلها لأنزل البتة عقيبها البلاء كما انزل على الأمم الماضية
وَكيف لا يقدر سبحانه على عموم المرادات والمقدورات مع انه ما مِنْ دَابَّةٍ تتحرك فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ في الجو بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ محفوظة أحوالها وأرزاقها وآجالها عندنا بحيث لا نهمل شيأ من حوائجها بل تثبت ونكتب الكل في لوحنا المحفوظ وكتابنا المبين على التفصيل بحيث ما فَرَّطْنا وأفرطنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ من حوائجهم وأحوالهم ثُمَّ بعد ما حفظوا ورزقوا زمانا حسب تعيناتهم وهوياتهم إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ويرجعون رجوع الظل الى ذي الظل
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على قدرتنا الغالبة الكاملة صُمٌّ عن استماع كلمة الحق من السنة الرسل وَبُكْمٌ عن التنطق بها مع انهم قد تيقنوا بها وبالجملة هم مغمورون فِي الظُّلُماتِ اى الحجب الكثيفة الناشئة من هوياتهم الباطلة وهياكلهم الفاسدة العاطلة وبالجملة مَنْ يَشَأِ اللَّهُ المدبر الحكيم إضلاله بمقتضى اسمه المذل المضل يُضْلِلْهُ حتما بلا تأثير هداية وارشاد أصلا وَمَنْ يَشَأْ هدايته يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده بلا تأثير ضلال وإضلال مطلقا إذ كل ميسر لما خلق له
قُلْ لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح أَرَأَيْتَكُمْ اى أخبروني صريحا إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ في يوم الجزاء أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ الموعودة التي أنتم تحشرون فيها الى الله هائمين حائرين أَغَيْرَ اللَّهِ المنقذ من العذاب المنجى من الحيرة والهيمان تَدْعُونَ للانقاذ والإنجاء أم تدعونه تضرعا وتلتجئون نحوه استعاذة بينوا الى أمركم في حين اضطراركم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في الأقوال والاخبار
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ وتتضرعون إذ لا ملجأ ولا ملاذ لكم سواه فَيَكْشِفُ عنكم ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ من الضر والبلاء إِنْ شاءَ وتعلق مشيته وارادته وَلا شك انكم تَنْسَوْنَ حينئذ ما تُشْرِكُونَ له من الاظلال الباطلة والتماثيل العاطلة وقل لهم ايضا متى سمعتم مآل أمركم وغاية حالكم وشأنكم فتضرعوا الى الله في جميع أحوالكم والتجؤا نحوه ومع ذلك لم يقبلوا منك قولك ونصحك البتة لخبث(1/218)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
باطنهم
وَاعلم انا لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا من مقام جودنا ولطفنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ وايدناهم بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة فكذبوهم فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ رجاء ان يتضرعوا إلينا ويلتجئوا نحونا فلم يتضرعوا ولم يلتجئوا
فَلَوْلا وهلا إِذْ جاءَهُمْ اى لهؤلاء المصرين المعاندين بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وما هو من عدم تأثرهم من البأساء والضراء بل يتأثرون وينزعجون وَلكِنْ قد قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وغلظت غشاوتهم وَزَيَّنَ اى حبب وحسن لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عدم المبالات بآيات الله وتكذيب رسله والاعراض عن دينه
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ من البأساء والضراء ولم يتذكروا ولم يتعظوا بها فَتَحْنا عَلَيْهِمْ ابتلاء وفتنة أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ نافع لهم وخير وامهلناهم عليها زمانا حَتَّى إِذا فَرِحُوا واعجبوا بِما أُوتُوا مترفهين متنعمين بطرين مغرورين بالنعم ناسين المنعم بالمرة أَخَذْناهُمْ بأنواع البلاء بَغْتَةً فجاءة فَإِذا هُمْ حينئذ مُبْلِسُونَ متحسرون آيسون خائبون محرومون
فَقُطِعَ واستؤصل هكذا دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وصاروا بترا مقطوعين العقب بحيث لم يبق من خلفهم من استخلفهم واستدبرهم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاكهم واستئصالهم الى حيث لم يبق منهم ومن شؤم كفرهم ونفاقهم على وجه الأرض شائبة
قُلْ لهم يا أكمل الرسل ايضا امحاضا للنصح لعلهم ينتبهون أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ فاصمكم وَأَبْصارَكُمْ فاعماكم وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بغطاء الغفلة بحيث لا تحسون ولا تفهمون شيأ أصلا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ الواحد الأحد القادر المقتدر يَأْتِيكُمْ ويرجعكم بِهِ اى بالمأخوذ انْظُرْ ايها الناظر المعتبر كَيْفَ نُصَرِّفُ ونكرر لهم الْآياتِ كي يتنبهوا تارة عقلا وتارة تذكيرا وعظة وتارة عبرا وأمثالا ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ اى ثم انظر كيف يعرضون عن جميعها من قساوة قلوبهم وخبث طينتهم
قُلْ لهم ايضا أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ المنتقم الغيور بَغْتَةً بلا سبق مقدمة وامارة أَوْ جَهْرَةً اى بسبق المقدمات والأمارات هَلْ يُهْلَكُ اى ما يهلك بأمثال هذا العذاب الفجائى والجهرى إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى أوامر الله ونواهيه الجارية على السنة رسله المؤيدين من عنده
وَكيف لا نهلك الظالمين ولا نعذبهم إذ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ لمن آمن بنا وامتثل باوامرنا واجتنب عن نواهينا وَمُنْذِرِينَ لمن لم يؤمن ولم يمتثل ولم يجتنب فَمَنْ آمَنَ منهم بعد ما سمع الدعوة من السنة الرسل وَأَصْلَحَ بالإيمان والتوبة ما أفسد من قبل من الكفر والعصيان فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين وصولهم إلينا وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من سوء المنقلب والمآب
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا ولم يعملوا بمقتضاها منكرين عليها يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ اى يحيطهم العذاب من جميع جوانبهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بشؤم فسقهم وخروجهم عن مقتضى الأوامر والنواهي
قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة تليينا لقلوبهم القاسية لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ العليم الحكيم اى جميع مراداته ومقدوراته وَلا أَعْلَمُ انا ايضا الْغَيْبَ اى جميعه إذ هما مما استأثر الله به لا يحوم حوله احد من خلقه وَايضا لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إذ انا بشر من جنسكم بل أقول لكم إِنْ أَتَّبِعُ اى ما اتبع وما اقتدى إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من عنده سبحانه لابلغكم وأخبركم باذنه والهداية والضلال بيد الله الكبير المتعال يهدى من يشاء ويضل من يشاء وان أنكروا لياقة البشر لوحى الله(1/219)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
والهامه قُلْ لهم على سبيل الإلزام هَلْ يَسْتَوِي عندكم البشر الْأَعْمى عن مطالعة عجائب مصنوعات الحق وغرائب مخترعاته وَالبشر الْبَصِيرُ المطالع المشاهد لها أَتشكون في ان ما بينهما من التفاوت الفاحش فَلا تَتَفَكَّرُونَ ولا تتأملون حتى ينكشف ويتميز عندكم الحق الصريح من الباطل الزائل الزائغ
وَبالجملة أَنْذِرْ بِهِ اى بما يوحى إليك يا أكمل الرسل المؤمنين الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ وهم في أنفسهم معتقدون ان لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يولى أمرهم غيره وَلا شَفِيعٌ يشفع لهم عنده حتى ينقذهم من عذابه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يتقوا ويحسنوا العمل لرضاه
وَبعد ما أرسلناك يا أكمل الرسل لترويج الحق وتقوية اهله لا تَطْرُدِ ولا تبعد من عندك الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ اى في جميع اوقات النهار وَالْعَشِيِّ اى في جميع اوقات الليل وبالجملة هم مستغرقون جميع أوقاتهم بالتوجه نحوه سبحانه ما يُرِيدُونَ وما يقصدون بتوجههم هذا غير ان يطالعوا وَجْهَهُ الكريم وبالجملة لا تطرد هؤلاء الكرام من عندك بسبب ميلك الى ايمان اهل البدع والأهواء ومصاحبتهم ومجالستهم مع انهم ليسوا من اهل الفلاح ولا قابلين له بالإرشاد والإصلاح بل ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ وايمانهم مِنْ شَيْءٍ يعود إليك نفعه وايضا وَما مِنْ حِسابِكَ وإيمانك عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ينفعهم او يضرهم بل كل منك ومنهم مجزى بما عمل مسئول محاسب عما فعل مالك فَتَطْرُدَهُمْ اى هؤلاء المؤمنين المريدين وجه الله في عموم أوقاتهم وحالاتهم سيما لأجل أولئك الحمقاء المنهمكين في الغي والضلال فَتَكُونَ أنت بواسطة طردهم وتبعيدهم مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العقل والشرع والمروة بالمرة روى ان قريشا قالوا لو طردت يا محمد هؤلاء السفلة أرادوا عمارا وصهيبا وسلمان وغيرهم من ضعفاء الأصحاب قد جلسنا إليك وحادثنا معك فقال عليه السّلام ما انا بطارد المؤمنين قالوا فاقمهم عن مجلسنا حين جلسنا معك. قال له عمر رضى الله عنه لو فعلت حتى ننظر الى ماذا يصيرون فقبل عليه السّلام قالوا فاكتب بذلك كتابا فدعا بالصحيفة وبعلى ليكتب فنزلت اى الآية فالقى عليه السّلام الصحيفة من يد
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ اى مثل ما فتنا بعض الناس ببعض في الأمور المتعلقة بمعاش الدنيا من المال والجاه والرياسة فتناهم في امور دينهم ايضا لِيَقُولُوا من غاية استبعادهم واستحقارهم أَهؤُلاءِ الضعفاء الفقراء الأراذل قد مَنَّ اللَّهُ المنعم المفضل عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا قال سبحانه توبيخا وتقريعا لهم بل هم أولئك الفقراء الصابرون على بلاء الله الشاكرون لنعمائه أَلَيْسَ اللَّهُ العالم بضمائر عباده بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ الصابرين منهم ومنكم ايها الشرفا الكافرون لنعمه
وَإِذا جاءَكَ يا أكمل الرسل اى المؤمنون الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ويمتثلون بها بالغداة والعشى وهم يريدون وجهنا فَقُلْ لهم قبل تسليمهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها المقبولون عند الله الراضون المرضيون ثم بشرهم بأنه قد كَتَبَ اى قضى وأوجب رَبُّكُمْ لاجلكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ والشفقة والمرحمة الى حيث أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً به يسيء نفسه عند الله مع كونه صادرا عنه تلك المساءة بِجَهالَةٍ لا عن قصد وإصرار ثُمَّ بعد ما علم وخامة عاقبته تابَ مِنْ بَعْدِهِ واستغفر ربه منيبا اليه وَأَصْلَحَ بالتوبة ما أفسد بالجهالة فَأَنَّهُ سبحانه غَفُورٌ يستر تلك المعصية عنكم رَحِيمٌ يقبل توبتكم بسبب إخلاصكم فيها
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ ونوضح الْآياتِ ليظهر طريق الحق وَلِتَسْتَبِينَ وتتميز سَبِيلُ(1/220)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
الْمُجْرِمِينَ المنحرفين عن منهج الرشد ومسلك السداد وعن طريق اهل الحق
قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين الذين يعبدون آلهة غير الله إِنِّي نُهِيتُ وزجرت وصرفت بالدلائل القاطعة الدالة على توحيد الحق وكذا بالكشوف والمشاهدات الواردة الى من عنده سبحانه الصارفة عن الميل والتوجه الى الغير والسوى مطلقا أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتسمون أنتم ايها المسرفون المفرطون مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الهة باطلة باهويتكم الفاسدة قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ التي اخترعتموها أنتم من تلقاء انفسكم الهة وان اتبعت بمتابعتكم تلك التماثيل العاطلة قَدْ ضَلَلْتُ انا إِذاً مثل ما قد ضللتم أنتم وَبعد ما ضللت ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أصلا في شيء من الهداية كمثلكم
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ واضحة مِنْ معرفة رَبِّي وتوحيده وَأنتم قد كَذَّبْتُمْ بِهِ وبتوحيده وأشركتم له غيره واستوجبتم العقوبة العظيمة بشرككم ومع ذلك قد استهزأتم بي باستعجال العذاب مع انه ما عِنْدِي وليس بيدي وقبضة قدرتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب والنكال بل إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ الحكيم العليم وما الأمر الا له وبيده وتحت قبضة قدرته ومشيته هو يَقُصُّ الْحَقَّ ويحكم فيه وهو يدمغ الباطل ويدفعه وَبالجملة هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ الحاكمين في عموم الوقائع والخطوب وجميع المصائب والملمات
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي وتحت قدرتي وبمقتضى مكنتى وطاقتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من نزول العذاب والعقاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ اى لأهلككم اليوم بالمرة ولا رفع النزاع الواقع بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَلكن ليس لي هذه القدرة والمكنة بل اللَّهُ المطلع بسرائر عباده أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ المستوجبين للعذاب والنكال يأخذهم بظلمهم متى تعلقت ارادته
وَكيف لا يعلم ولا يطلع سبحانه على سرائر الأمور ومخفياتها إذ عِنْدَهُ وتحته قدرته وارادته مَفاتِحُ مطلق الْغَيْبِ ومقاليد عموم السرائر والخفيات لا يَعْلَمُها ولا يعلم اوقات ظهورها من الغيب الى الشهادة إِلَّا هُوَ إذ هو المحيط بجميع ما كان وما يكون ازلا وابدا حيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء ثم لما كانت الافهام قاصرة عن ادراك الغيب تنزل سبحانه عن تلك المرتبة الى ما هو اقرب الى الافهام فقال وَيَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من الكائنات والفاسدات وتنزل منها ايضا فقال وَما تَسْقُطُ وتهوى مِنْ وَرَقَةٍ من اغصان الشجر إِلَّا يَعْلَمُها كيف تنزل ومتى تنزل والى اين تنزل ولأي شيء تنزل وَلا حَبَّةٍ ساقطة فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ اى مكا منها ومطاويها الى ان تصل الى مرتبتها الاصلية التي كانت عليها قبل سقوطها وَبالجملة لا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ من الكوائن والفواسد إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو عبارة عن حضرة علمه الحضوري المتحد بعينه وذاته الظاهرة في نفسها المظهرة لنفسها بنفسها إذ لا هو الا هو ولا شيء سواه ليس مثله شيء ولا دونه حي
وَكيف يخرج عن حيطة علمه شيء من الكائنات والفاسدات إذ هُوَ القادر المقتدر الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ اى يستر ويغيب استعداداتكم بِاللَّيْلِ اى في مقر البطون والغيب المطلق وَفي تلك المرتبة يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما جَرَحْتُمْ اى كسبتم واكتسبتم باستعداداتكم الجبلية وقابلياتكم الفطرية بِالنَّهارِ اى في فضاء البروز وعالم الشهادة من المعارف والحقائق المقتضية الباعثة للظهور والإظهار لو ظهرتم ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ويظهركم في فضاء الظهور وعالم الشهادة لِيُقْضى ويتم أَجَلٌ مُسَمًّى مقدر عنده لاكتسابكم(1/221)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
واقترافكم وظهور ما في استعدادكم ثُمَّ بعد انقضاء الأجل المسمى إِلَيْهِ لا الى غيره مَرْجِعُكُمْ رجوع الظل الى ذي الظل ثُمَّ بعد رجوعكم اليه يُنَبِّئُكُمْ اى يخبركم ويجازيكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وتكسبون في نشأة ظهوركم وشهادتكم من الأعمال الصالحة للقبول والثواب والفاسدة المستوجبة للرد والعقاب
وَبالجملة عليكم ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة ان لا تغفلوا عن مقتضيات توحيد الله ولا تخرجوا عن امتثال أحكامه الجارية على السنة رسله إذ هُوَ الْقاهِرُ القادر المقتدر العزيز الغالب فَوْقَ عِبادِهِ الرقيب المحافظ المراقب عليهم يحفظهم عما لا يعنيهم وَمن جملة محافظته سبحانه انه يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً من الملائكة يكتبون ويجمعون عموم ما صدر عنكم حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اى الوقت الذي قدر الله المدبر الحكيم لانقضاء الأجل المسمى عنده تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا اى قد وفى عليه حسابه الملائكة الموكلون منا وَهُمْ اى الرسل الأمناء الموكلون لا يُفَرِّطُونَ ولا يفرطون ايضا أصلا فيما صدر عنهم
ثُمَّ بعد ما وفي الرسل حسابهم على الوجه الا عدل الا قوم رُدُّوا للجزاء إِلَى اللَّهِ المجازى الذي هو مَوْلاهُمُ الْحَقِّ العدل السوى القائم بالقسط العالم بجميع احوال عباده ليجازى كلا منهم على مقتضى علمه وخبرته أَلا لَهُ الْحُكْمُ والأمر والجزاء وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ لاعمال عباده بحيث لا يغيب عن حفظه وحسابه شيء منها
قُلْ لهم يا أكمل الرسل مَنْ يُنَجِّيكُمْ ويخلصكم مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ اى من شدائدها وأهوالها حين تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً متضرعين مجاهرين وَخُفْيَةً مناجين مسرين قائلين لَئِنْ أَنْجانا بلطفك يا مولانا مِنْ هذِهِ الأهوال والمخاوف لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمك الصارفين لها الى مقتضى ما امرتنا به ورضيت عنا بصرفها
قُلِ اللَّهُ المصلح لعموم أحوالكم يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَكذا مِنْ كُلِّ كَرْبٍ هم وغم قد الم بكم ثُمَّ بعد ما أنجاكم الله ايها المنهمكون في بحر الضلال أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ به سبحانه ما لا وجود له من العكوس والاظلال والتماثيل العاطلة وتكفرون بنعمة العقل المفاض من عنده لتتنبهوا به الى توحيده
قُلْ هُوَ الْقادِرُ المقتدر عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً نازلا مِنْ فَوْقِكُمْ مثل الرعد والبرق والصواعق الكائنة في الجو أَوْ حادثا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ مثل الزلزلة والغرق وغير ذلك أَوْ يَلْبِسَكُمْ ويخلط عليكم اهوائكم ويجعلكم شِيَعاً فرقا متخالفة متقابلة وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتل والسبي والاجلاء انْظُرْ ايها الرائي كَيْفَ نُصَرِّفُ نجدد ونكرر لهم الْآياتِ اى دلائل توحيدنا وشواهده لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ رجاء ان يتفطنوا الى سرائر توحيدنا وسريان هويتنا الذاتية في مظاهرنا ومع ذلك لم يتنبهوا
وَمن عدم تنبههم وتفطنهم قد كَذَّبَ بِهِ اى بعموم ما جاء من عندنا إليك يا أكمل الرسل في الكتاب الجامع لفوائد جميع الكتب السالفة قَوْمُكَ يعنى قريشا خذلهم الله ونسبوا إلينا وإليك ما لا يليق بشأننا وشأنك وَالحال انه هُوَ الْحَقُّ المطابق للواقع نزوله منا إليك قُلْ لهم في مقابلة تكذيبهم لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ موكل لحفظكم حتى احفظكم عما يضركم بل ما على الا البلاغ والوقاية والحفظ بيد الله وفي قبضة قدرته
واعلموا انه لِكُلِّ نَبَإٍ اى خبر وآيات نازلة من الله مُسْتَقَرٌّ مقر ومورد قرار وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ حين تقرره ونزوله في مورده في الدنيا والآخرة
وَإِذا رَأَيْتَ أنت يا أكمل الرسل المسرفين الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالطعن والتكذيب فَأَعْرِضْ(1/222)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
عَنْهُمْ ولا تصاحبهم واخرج من بينهم حَتَّى لا تكون أنت سببا لاستهزائهم واستحقارهم وطعنهم ويَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ اى غير القدح والطعن فيه وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ الخروج من بينهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى والتذكر البتة مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الطاعنين على الله المنزه في ذاته عن عموم النقائص بما لا يليق بجنابه
وَان اتفق مجالسة المؤمنين معهم أحيانا ما يلزم ويعود عَلَى المؤمنين الَّذِينَ يَتَّقُونَ عن محارم الله مِنْ حِسابِهِمْ الذي هم يحاسبون عليه ويعاقبون لأجله مِنْ شَيْءٍ من الخطر والذلل وَلكِنْ ان اتفق جمعهم لزمهم ذِكْرى والموعظة الحسنة الناشئة من محض الحكمة إياهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ويحذرون عماهم عليه من الاستهزاء والتكذيب تأثرا واستحياء
وَان لم يتأثروا ولم يستحيوا ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي يدعون الهداية بسببه اى اتركهم مع دينهم يلعبون به لَعِباً وَلَهْواً ويجعلونه ملعبا وملهى ليس لهم منه تأثر أصلا بل يجرونه على اللسان ويلقونه على طرف اللثام وَكيف يتأثرون منه ولا يلعبون معه مع انهم هم قد غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بحيث عموا وصموا عن الأمور الاخروية بالمرة وَان أردت ان تذكر بالقرآن ذَكِّرْ بِهِ على من هو على خطر من الله مخافة أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ اى تسلمه وتوقعه النفس العاصية الى الهلاك الأبدي والبوار السرمدي بِما كَسَبَتْ له من العقائد الزائغة والمعاصي العائقة عن اقامة حدود الله إذ لَيْسَ لَها اى للنفس أية نفس كانت مِنْ دُونِ اللَّهِ المدبر المصلح وَلِيٌّ يولى أمرها وينقذها من العذاب وَلا شَفِيعٌ يشفع لها عند الله لتنجو من عذابه وَإِنْ تَعْدِلْ وتفد كُلَّ عَدْلٍ وكل ما يفدى به من امتعة الدنيا وزخارفها لا يُؤْخَذْ ولا يقبل شيء مِنْها اى من الفدية المفداة وبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن روح الله هم الَّذِينَ أُبْسِلُوا وسلموا نفوسهم الى الهلاك بِما كَسَبُوا اى بشؤم ما اقترفت نفوسهم من المعاصي والآثام بحيث يعد ويهيأ لَهُمْ في الآخرة شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ يحرق بطونهم منه ومن مسرة المؤمنين فيها وَعَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم منه ومن رفعة مكانتهم عند الله كل ذلك بِما كانُوا يَكْفُرُونَ اى بسبب كفرهم وخروجهم عن حدود الله وان ادعى المشركون حقية دينهم ويدعوا المسلمين اليه
قُلْ لهم يا أكمل الرسل تعليما لمن تبعك أَنَدْعُوا ونعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ الخالق الرازق الفاعل المختار بالإرادة والاختيار ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا اى شيأ لا يقدر على جلب النفع ودفع الضر لنفسه فكيف لغيره وَبعبادة هؤلاء الهياكل لهلكى نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا التي كنا عليه من الشرك والطغيان سيما بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ للطيف الحكيم بنور التوحيد والعرفان كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ اى كالشخص الذي ذهب بعقله اى قد خبلته الشَّياطِينُ والاغوال المضلة وطرحته فِي الْأَرْضِ اى المهاوى العميقة والمهامة البعيدة وصار بسبب هذا حَيْرانَ قلقا حائرا تائها هائما وقد كان لَهُ أَصْحابٌ ورفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى اى الى الطريق السالم الواضح المستقيم صائحا عليه قائلا له ائْتِنا ايها التائه الحائر حتى تهتدى الى الطريق الأقوم ونحن على الجادة المستقيمة ولم يسمع كلامهم ولم يقبل قولهم بل اقتفى اثر الغول المغوى حتى يضل ويهلك قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الهادي لعباده الى توحيده الذاتي هُوَ الْهُدى المقصور على الهداية الحقيقية الا وهو دين الإسلام المنزل على خير الأنام وَقد أُمِرْنا من عنده سبحانه حسب هدايته وإرشاده إيانا لِنُسْلِمَ(1/223)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
ونفوض جميع أمورنا لِرَبِّ الْعالَمِينَ إذ هو المستقل بتربية عموم مظاهره بحيث لا يجرى في ملكه الا ما يشاء
وَقد أمرنا ايضا من عنده سبحانه أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ واديموا الميل والتقرب نحوه وَاتَّقُوهُ واحذروا من سخطه وغضبه بارتكاب منهياته وَاعلموا انه سبحانه هُوَ الموجد المظهر الَّذِي إِلَيْهِ لا الى غيره من وسائل الاظلال والعكوس تُحْشَرُونَ وترجعون
وَكيف لا هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى أوجدهما واظهرهما من كتم العدم ملتبسا بِالْحَقِّ على مقتضى الحكمة المتقنة التي ما ترى فيها من فطور وفتور وَذلك يَوْمَ يَقُولُ بعد تعلق ارادته سبحانه ومشيئته بتكوينهما كُنْ فَيَكُونُ على الفور بلا تراخ ومهلة تنفيذا لسرعة نفوذ قضائه وبالجملة قَوْلُهُ سبحانه لاعدامهما ايضا في قيام الساعة الْحَقُّ المطابق للواقع بلا تخلف وَكيف يتصور التخلف في قوله سبحانه مع انه لَهُ الْمُلْكُ والملكوت كلها اصالة وله التصرف فيها بالاستقلال إيجادا واعداما ارادة واختيارا اذكر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لإعدام ما في الوجود وافنائه غيبا وشهادة إظهارا للقدرة الغالبة إذ هو عالِمُ الْغَيْبِ وجميع ما جرى ويجرى فيه وَكذا عالم الشَّهادَةِ وعموم ما ظهر ويظهر عليها ازلا وابدا وَهُوَ بذاته الْحَكِيمُ المتقن في إبداء عموم مظاهره من الغيب الْخَبِيرُ بجميع ما يترتب عليها في الشهادة بعد إعادتها
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين وقت إِذْ قالَ جدك إِبْراهِيمُ الخليل الجليل حين استيقظ من منام الغفلة وانتبه من نعاس النسيان لِأَبِيهِ المسمى آزَرَ العابد للأصنام أَتَتَّخِذُ وتأخذ يا أبت أَصْناماً تنحتها أنت بيدك آلِهَةً مستحقة للعبادة قادرة للإيجاد والاعدام والله إِنِّي قد تنبهت وتفطنت من ان هؤلاء الهياكل الهلكى لا تليق بالالوهية والربوبية مطلقا إذ الإله لا بد وان يكون متصفا بعموم أوصاف الكمال بلا وصمة تغير وزوال وتوهم تحول وانتقال أَراكَ يا أبت وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة بعبادة هذه التماثيل العاطلة الباطلة واعتقادها معبودات حقة
وَكَذلِكَ اى ومثل ما نوقظه من منام الغفلة في امر الأصنام نُرِي ايضا إِبْراهِيمَ الخليل الجليل مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عجائبهما وغرائبهما المودعة فيهما ليتأمل فيهما ويتفكر في كيفية تدبيراتهما وتصريفاتهما حتى ينكشف بكمال قدرة مبدعهما وقوة مخترعهما وَلِيَكُونَ هو مِنَ الْمُوقِنِينَ المنكشفين بأمرها لا من المشطرين المترددين المتحذين بعضها آلهة كعبدة الكواكب والمجسمة وغيرها
فَلَمَّا جَنَّ واظلم عَلَيْهِ اى على ابراهيم اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قد استنار بنوره وانكشف عنه الظلمة بسببه وظن ان انكشافه ذاتى مطلق دائم قالَ على مقتضى ظنه به هذا رَبِّي إذ هو نور يتجلى في الظلمة فيستحق الربوبية والعبودية فَلَمَّا أَفَلَ وغاب وانمحى قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فكيف اعبده وأخص العبادة له إذ الأفول والتغير انما هو من امارات الحدوث والحادث لا يستحق العبودية ولا يليق بالالوهية
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً مبتدأ في الطلوع منيرا له إشراقا واضاءة وانكشافا خيله انه هو سبحانه وحصره عليه لذلك قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ انمحق وانكسر قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي ولم ينكشف على امره لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ باعتقاد هذا البازغ الآفل الها واحدا أحدا فردا صمدا
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قاهرة لجميع الكواكب غالبة عليها مضيئة بنفسها مشرقة بحيث لا يتحقق انكشافها بسائر الكواكب أصلا بل وهي اى عموم(1/224)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
الكواكب قد انمحقت بها قالَ هذا رَبِّي إذ هو أتم انكشافا وأكمل اضاءة وانارة هذا أَكْبَرُ من الجميع فهي المستحق بالالوهية والربوبية فَلَمَّا أَفَلَتْ وتغيرت وانمحقت انكشف حينئذ الى نور لا افول له ولا تغير بل هو نور على نور يهد الله لنوره من يشاء قالَ يا قَوْمِ انى بعد ما كوشفت بنور الحق وعوينت بوجهه الكريم قد تحققت بتوحيده وتمكنت بمقر تجريده إِنِّي بَرِيءٌ جميع مِمَّا تُشْرِكُونَ أنتم به سبحانه من التماثيل الباطلة والاظلال الهالكة الآفلة
إِنِّي بعد ما اجتهدت في طريق التوحيد وبذلت جهدي في مسالكه وَجَّهْتُ وَجْهِيَ اى وجه قلبي الذي هو يلي الحق نحوه سبحانه بتوفيق منه وجذب من جانبه وتوجهت لِلَّذِي فَطَرَ قدر واظهر بلا مادة ومدة السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العالم العلوي والسفلى حَنِيفاً مائلا عن عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة وَبعد ما تحققت بما تحققت ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بحال من الأحوال بإثبات الوجود لغير الحق بل الوجود مطلقا منحصر به وما سواه انما هو اظلال أوصافه وعكوس تجلياته إذ لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الظل الى ذي الظل
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ اى قد خاصموا معه في ادعائه التوحيد وعارضوه حيث قالوا أنترك ما يعبد آباؤنا بتسويلات نفسك يا ابراهيم قالَ أَتُحاجُّونِّي وتخاصمونى فِي اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد وتجادلون أنتم معى في توحيده وتخوفوننى من هذه التماثيل الباطلة العاطلة وَالحال انه قَدْ هَدانِ الله بلطفه الى مقر توحيده ومكنني فيه وَبعد ما قد انكشفت بتوحيد الله وباستقلاله بالتصرف في عموم مظاهره لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إذ لا نفع منه ولا ضر إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً مكروها يلحقني من جهته إذ هو ايضا بمشيته وهو من جملة مظاهره وهو سبحانه اعلم به إذ قد وَسِعَ وأحاط رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وتتفكرون لتميزوا بين المظهر والظاهر والعاجز والقادر
وَكَيْفَ أَخافُ انا من ما أَشْرَكْتُمْ مع انه لا ضرر يتوقع منه وَلا تَخافُونَ أنتم من غضب الله المنتقم الغيور مع أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ المتوحد بالالوهية المنزه في ذاته عن الشريك والنظير ما لَمْ يُنَزِّلْ الله بِهِ اى بشركته وألوهيته عَلَيْكُمْ سُلْطاناً اى حجة وبرهانا وبالجملة فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ اى الموحدون او المشركون أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وأليق بالقبول بينوا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى من ذوى العلوم والعقول.
ثم قال سبحانه الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وَبعد ما آمنوا لَمْ يَلْبِسُوا ولم يخلطوا ولم يستروا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وخروج عن مقتضى الايمان والتوحيد أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله لَهُمُ الْأَمْنُ في مأمن الوحدة وَهُمْ مُهْتَدُونَ مقصورون على الهداية والتوحيد لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وَتِلْكَ القصة التي سمعت يا أكمل الرسل حُجَّتُنا ودليل وحدتنا قد آتَيْناها إِبْراهِيمَ امتنانا له وإرشادا ليغلب بها عَلى قَوْمِهِ ومن سننا القديمة انا نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ من عبادنا في العلم والحكمة والإيقان والمعرفة إِنَّ رَبَّكَ ايها المظهر الجامع للحق حَكِيمٌ في رفع درجات بعض عباده عَلِيمٌ باستعداداتهم وقابلياتهم
وَمن جملة تعظيمنا لإبراهيم عليه السّلام ورفعنا له درجته انا قد وَهَبْنا لَهُ من محض فضلنا وجودنا إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا اى هدينا كلا منهما الى توحيدنا وَكذلك نُوحاً هو جد ابراهيم قد هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ فيكون ابراهيم عليه السّلام وارثا لهداية نوح ومورثا لهداية اسحق ويعقوب وهو من أعظم النعم والهداية أكرم الكرم والعناية وَ(1/225)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
كذا قد هدينا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ اى ذرية ابراهيم داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ اى مثل جزاء هؤلاء الأنبياء المذكورين نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ مع الله المتشوقين بشرف لقائه
وَقد هدينا ايضا زَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ منهم مِنَ الصَّالِحِينَ لعناية الله وهدايته
وَايضا قد هدينا من ذرية ابراهيم إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَبالجملة كلًّا من هؤلاء المذكورين قد فَضَّلْنا بالحكمة والنبوة عَلَى الْعالَمِينَ اى على عموم الناس الموجودين في زمانهم
وَكذلك مِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ ممن لم يبلغ منهم مرتبة النبوة والحكمة فضلناهم بأنواع النعم وَاجْتَبَيْناهُمْ وانتخبناهم من بين الناس بأصناف الكرم وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيدنا
ذلِكَ اى سبب تقرب هؤلاء الأمناء الكرام هُدَى اللَّهِ اى محض هدايته وعنايته تفضلا عليهم وامتنانا يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ارادة واختيارا وَالله لَوْ أَشْرَكُوا بالله هؤلاء المهتدون المهديون بان اثبتوا الوجود والتحقق لغيره لَحَبِطَ اى ضاع واضمحل عَنْهُمْ ثواب ما كانُوا يَعْمَلُونَ مدة اعمارهم من الخيرات والمبرات وكانوا في حبوط أعمالهم كسائر المشركين. نعتصم بك من إنزال قهرك يا ذا القوة المتين
أُولئِكَ السعداء الأمناء الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ الجامع المبين لهم طريق تهذيب الظاهر والباطن وَالْحُكْمَ الفارق بين الحق والباطل في الوقائع على مقتضى الحكمة الإلهية وَالنُّبُوَّةَ المقتضية لاهتداء التائهين في بيداء الغفلة والضلال الى طريق التوحيد فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ المضلون الضالون عن طريق الحق يعنى قريشا خذلهم الله فَقَدْ وَكَّلْنا بِها وبمراعاتها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ من اهل العناية والتوفيق
أُولئِكَ المذكورون من الأنبياء هم الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ الهادي إياهم الى توحيده تفضلا عليهم فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ إذ مقصد اهل التوحيد واحد وان كانت الطرق مختلفة متفاوتة قُلْ يا أكمل الرسل لعموم من بعثت اليه كلاما صادرا عن محض الحكمة إشفاقا لهم لا أَسْئَلُكُمْ ولا أطمع منكم عَلَيْهِ اى على تبيين طريق التوحيد وتبليغ أوامر الحق ونواهيه أَجْراً جعلا إِنْ هُوَ وما الغرض من التبيين والتبليغ إِلَّا ذِكْرى وموعظة لِلْعالَمِينَ كي يتنبهوا على مبدأهم ومعادهم وما جبلوا وخلقوا لأجله
وَالقوم الذين أنكروا بعثتك وكذبوا موعظتك يا أكمل الرسل ما قَدَرُوا اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء حَقَّ قَدْرِهِ ولا قدر حقيته وما عرفوا ظهوره في الآفاق والأنفس واستقلاله بالتصرف فيها إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ الحكيم عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ اى التورية الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى من عند ربه ومن جعله نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ يستنيرون ويستكشفون منه ويهتدون به الى توحيد الله مع انكم تَجْعَلُونَهُ بأيديكم قَراطِيسَ وقد كانت ألواحا تُبْدُونَها وتظهرون منها ما يصلح لكم ويعين على مدعاكم وَتُخْفُونَ كَثِيراً مما لا يصلح لكم عنادا ومكابرة وَكيف تنكرون انزاله إذ عُلِّمْتُمْ منه ما لَمْ تَعْلَمُوا لا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ من الأمور المتعلقة بالظاهر والباطن قُلْ يا أكمل الرسل في الجواب بعد ما بهتوا اللَّهَ إذ هو المتعين للجواب ولا شيء غيره ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ مع أباطيلهم واراجيفهم يَلْعَبُونَ ويترددون وفي سكرتهم يعمهون فما بقي عليك شيء بعد ما بلغت رسالتك.
ثم قال سبحانه وَهذا كِتابٌ جامع لعموم(1/226)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
ما في الكتب السالفة من الفوائد على ابلغ وجه وآكده مع زيادات شريفة قد أَنْزَلْناهُ إليك يا أكمل الرسل مُبارَكٌ كثير الخير والبركة لك ولمن تبعك مُصَدِّقُ للكتاب الَّذِي أحكامه بَيْنَ يَدَيْهِ اى التورية والإنجيل وجميع الكتب والصحف النازلة من عند الله وَانما أنزلناه إليك لِتُنْذِرَ به أنت أُمَّ الْقُرى اى اهل مكة وَمَنْ حَوْلَها اى جميع اقطار الأرض وأرجائها إذ قد دحيت الأرض من تحتها على ما قيل لذلك صارت قبلة لجميع اهل الأرض وفرض حجها وطوافها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ من اهل الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بالقرآن ايضا وَسبب ايمانهم به انهم هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ اى يراقبون ويداومون على الميل والتوجه نحو الحق مؤمنين بجميع شئونه وتجلياته ومن جملتها بل من أجلتها إنزال القرآن البالغ أعلى درجات اليقين في تبيين احوال النشأة الاولى والاخرى إذ هو منتخب منهما مخبر عنهما على وجه يعجز عنه عموم ارباب اللسان والبيان من البشر ومن له ادنى مسكة من ذوى العقول لا بد ان يؤمن به وبإعجازه الا من أضله الله وختم على قلبه
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان قال بعثني الله نبيا كمسيلمة والأسود العنسي أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كعبد الله بن ابى سرح وَمَنْ قالَ من كفار قريش سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ولو نشاء لقلنا مثل هذا وَلَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي إِذِ الظَّالِمُونَ المفترون على الله المكذبون لكتبه ورسله مغمورون فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وسكراته وأهواله وَالْمَلائِكَةُ قائمون مسلطون عليهم باسِطُوا أَيْدِيهِمْ كالمتقاضي قائلين لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ وأرواحكم ايها المفترون الكاذبون بأيديكم حتى تخلصوا عن أيدينا واعلموا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ اى المشتمل على انواع الهوان والمذلة بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَقد كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ عتوا وعنادا
وَالآن لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى عارين منفردين عما استكبرتم به من المال والجاه والثروة والرياسة كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عارين عن جميعها وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وما تفضلنا وابتليناكم به في النشأة الاولى ليكون سبب بطركم وخيلائكم وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَايضا ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ معبوداتكم الَّذِينَ قد زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ اى في ايجادكم واظهاركم شُرَكاءُ معنا الآن لَقَدْ تَقَطَّعَ وانفصل بَيْنَكُمْ وبينهم وَضَلَّ اى قد غاب وخفى عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انها شفعاؤكم ينقذونكم من عذاب الله قل يا أكمل الرسل للمنكرين للبعث والحشر المستبعدين المستحيلين احياء الأموات من العظام الرفات
إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم ما أراد وشاء فالِقُ الْحَبِّ بالنبات وَفالق النَّوى بالشجرة وبفلقه وشقه وبكمال حكمه وحكمته يُخْرِجُ الْحَيَّ اى الحيوان والنبات مِنَ الْمَيِّتِ اى الحبة والنطفة وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ اى الحبة والنطفة مِنَ الْحَيِّ اى الحيوان والنبات ذلِكُمُ اللَّهُ المحي المميت الحي القيوم المستحق للالوهية والربوبية والمعبودية فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وتصرفون عنه الى غيره من الاظلال الباطلة ايها الحمقى العمي الآفكون وكيف تصرفون عنه مع انه هو بكمال قدرته وقوته
فالِقُ الْإِصْباحِ وشاق ظلام الليل يفلج الصبح لتكسبوا فيها اقواتكم ومعاشكم ايضا وَقد جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً لتستريحوا فيها من تعب الكد وهما من أقوى اسباب حياتكم وَايضا قد جعل لكم ولمعاشكم الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذواتي أدوار واطوار مختلفة وأوضاع متفاوتة شتاء وصيفا ربيعا وخريفا تتميما لأرزاقكم(1/227)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
واقواتكم وذلِكَ التدوير والتدبير كله تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ القادر الغالب على عموم صور التداوير والتدابير الْعَلِيمِ الحكيم في وضع هذا التدوير المخصوص المتعارف النافع لمعاش عباده
وَكيف تصرفون عنه سبحانه مع انه هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ولتدبير مصالحكم النُّجُومَ الزاهرات مرتكزة في السموات لِتَهْتَدُوا بِها وتوصلوا بهدايتها الى مطالبكم حين كنتم تائهين ضالين فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ اى في مفاوزه وبيادره وَالْبَحْرِ اى لججه واغواره وبالجملة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ الدالة على توحيدنا واستقلالنا في التصرفات والتدبيرات الواردة في عالم الكون والفساد لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يستدلون وينتفعون بها ويتنبهون الى وحدة موجدها ومصرفها
وَايضا كيف يصرفون عنه سبحانه مع انه هُوَ القادر المقتدر الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وأظهركم بالتجلى الحبى مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي طبيعة العدم فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ اى قد قدر لكم أطوارا مختلفة وشئونا شتى متفاوتة لبعض قرار واستقرار ولبعض استيداع واستتار تتبدلون وتتحولون من حال الى حال على مقتضى تطوراتها وتجلياتها قَدْ فَصَّلْنَا وأوضحنا الْآياتِ الدالة على ان لا وجود لغيرنا من الاظلال ولا قرار ولا مدار لها أصلا لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ يتأملون ويتدبرون لينكشفوا بكيفية سريان الهوية الإلهية في صفحات المظاهر الكونية والكيانية
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء التفت سبحانه لئلا يتوهم اسناد الإخراج الى الماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ يعنى ينبت كل صنف من أوصاف النباتات فَأَخْرَجْنا مِنْهُ اى من النبات خَضِراً وهو الساق نُخْرِجُ مِنْهُ اى من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً وهو السنبلة وَأخرجنا ايضا مِنَ النَّخْلِ طلعها وقد ظهر مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ عنقود دانِيَةٌ قريبة للمتناول كثيرة وافرة ملتفة بعضها ببعض وَايضا قد أخرجنا وأظهرنا بالماء جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَكذا قد أخرجنا به الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ من أشجارها مُشْتَبِهاً بعضها ببعض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ يعنى أنواعا مختلفة وأصنافا متفاوتة انْظُرُوا ايها الناظرون إِلى ثَمَرِهِ اى ثمر كل من المذكورات إِذا أَثْمَرَ اى حين خرج أولا صغيرا بلا لذة وانتفاع وَانظروا الى يَنْعِهِ نضجه وصلاحه ونفعه وكبره يوما فيوما ثم اعتبروا يا اولى الباب منها إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ اى دلائل واضحات على وجود الفاعل المختار الحكيم المتقن في فعله بلا مشاركة احد وممانعة ضد وند العليم الخبير بتطوراتها وتبدلاتها من حال الى حال متدرجا من كمال الى أكمل المربى لكل منها بما يناسبها ويلائمها على وجه الاعتدال الى ان يعود الى ما بدا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويوقنون بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته
وَمع عجائب صنع هذا الصانع القديم وبدائع حكم هذا العليم الحكيم قد جَعَلُوا من غاية جهلهم ونهاية غفلتهم واثبتوا لِلَّهِ المتوحد في ذاته المنزه عن الشركة مطلقا شُرَكاءَ خصوصا الْجِنَّ الشياطين فيعبدونهم كعبادة الله ويمتثلون أوامرهم كاوامر الله وَالحال انهم عالمون بان الله خَلَقَهُمْ ومعبوداتهم وَمن جملة شركهم انهم خَرَقُوا لَهُ سبحانه اى اثبتوا له خرقا لعادة الله وسنته افتراء ومراء بَنِينَ كما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وَبَناتٍ كما قالت العرب الملائكة بنات الله كل ذلك مختلق صادر منهم بِغَيْرِ عِلْمٍ ومعرفة بذات الصمد المنزه عن الأهل والولد سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ هؤلاء الظالمون المفرطون المفرطون
إذ هو سبحانه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مبدعهما ومظهرهما(1/228)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة وزواج وازدواج بل بالتجلى عليهما ومد الظل إليهما أَنَّى من اين يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وليس غيره احد وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ والولد انما يتصور بين المتجانسين وَهو سبحانه قد خَلَقَ اى أوجد واظهر كُلَّ شَيْءٍ بامتداد اظلال أوصافه الذاتية وعكوس شئونه الغيبية وتجلياته الحبية وعكوس شئونه العينية وَهُوَ بذاته بِكُلِّ شَيْءٍ مما ظهر من تجليات صفاته عَلِيمٌ لا يخفى عليه شيء
ذلِكُمُ اللَّهُ اى الظاهر المكشوف بحسب الذات الاحدية الموصوفة بالصفات الازلية الابدية السرمدية المتجلى بالتجليات اللطفية والقهرية رَبُّكُمْ موجدكم ومربيكم ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الباطلة لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ بذاته الوحدانية وهو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إذ كل ما ظهر وبدا انما هو من اظلال أسمائه وعكوس صفاته فَاعْبُدُوهُ إذ هو المستحق للعبادة والرجوع اليه لا غير وفوضوا أموركم كلها اليه وَكيف لا تفوضونها اليه مع انه هُوَ بذاته وأوصافه وأسمائه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الكوائن والفواسد الحادثة في مظاهره وَكِيلٌ كفيل يوليها ويصرفها كيف يشاء حسب قدرته وارادته بالاختيار والاستقلال
وان كان لا تُدْرِكُهُ من غاية ظهوره وجلائه الْأَبْصارُ القاهرة عن ابصار انواره الباهرة وَكيف تدركه الأبصار إذ هُوَ بذاته يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ويبصرها ومبصر الأبصار لا يبصره الأبصار إذ هو سبحانه من غاية لطافته عين نور العين والعين لا تدرك نورها الذي به ابصارها وَكيف يدرك ويبصر سبحانه إذ هُوَ اللَّطِيفُ الدقيق الرقيق المنزه المتعالي عن المحاذاة والمقابلة والانطباع والانتقاش والمحاكاة مطلقا الْخَبِيرُ هو بخصوصه وانفراده عن عموم الاخبار الكائنة كيف يخبر عنه وبالجملة ما يرى الله الا الله وما يخبر عنه الا هو وما يطلع عليه سواه كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الظل الى ذي الظل
قَدْ جاءَكُمْ وحصل عندكم ولاح دونكم ايها المجبولون على فطرة التوحيد بَصائِرُ كواشف وشواهد ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ الذي أوجدكم وأظهركم عليها ورباكم بها ولها فَمَنْ أَبْصَرَ اى شهد وانكشف بها فَلِنَفْسِهِ اى عاد نفعه إليها وَمَنْ عَمِيَ واحتجب ايضا فَعَلَيْها عائد وبالها وَبالجملة ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ رقيب مصرف بل منبه مبلغ والوقاية بيد الله والتصرف تحت قدرته وارادته يهدى من يشاء ويضل من يشاء حسب اختياره.
ثم قال سبحانه وَكَذلِكَ اى ومثل ذلك المذكور نُصَرِّفُ ونكرر الْآياتِ الدالة على توحيدنا مرارا ونقررها كذلك تكرارا رجاء ان يتنبهوا بها فلم يتنبه منهم الا قليل بل اقل من القليل وغاية أمرهم ونهاية قدحهم وطعنهم في كتابك يا أكمل الرسل ان يصرفوا ضعفاء العوام عنك وعن قبول كتابك وَلِيَقُولُوا لك وفي حقك عند من آمن بك انك قد دَرَسْتَ وتعلمت هذه الأساطير الكاذبة القديمة من اهل الكذب فعليك ان لا تبالي بهم وبقولهم هذا وَبالجملة ما نصرفها ونكررها الا لِنُبَيِّنَهُ ونوضحه اى التوحيد الذاتي المدلول عليه بتصريف الآيات والدلائل لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ويستدلون بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة على وحدة الصانع الحكيم القادر العليم فخروج العوام وانصرافهم لا يخل بهذا المرام وان انصرفوا عنك ولم يقبلوا منك ما جئت به من الآيات دعهم وحالهم
اتَّبِعْ أنت بنفسك عموم ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ دلائل توحيد رَبِّكَ واستيقن بانه لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ بذاته وأسمائه وصفاته بالاستقلال والانفراد وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ واتركهم مع شركهم بعد ما تحققت وتمكنت(1/229)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
أنت في مقر عز التوحيد
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده عدم اشراكهم ما أَشْرَكُوا وَبالجملة ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً مصرفا عنهم عموم ما لا يعنيهم بل ما جعلناك الا هاديا لهم مبلغا إياهم امارات الهداية وآيات السعادة وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ كفيل تقوم أنت بأمرهم وتشفع لهم وتتعب نفسك في إصلاحهم وصلاحهم
ثم قال سبحانه وَلا تَسُبُّوا اى لا تذكروا بالمساوى والمقابح ايها المؤمنون الموحدون الَّذِينَ يَدْعُونَ ويعبدون اى المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد يعنى أصنامهم وآلهتهم إذ هم من جملة المجالى والمظاهر لله مع انكم ان تسبوهم وآلهتهم فَيَسُبُّوا اللَّهَ ايضا من غاية جهلهم وحميتهم الجاهلية فأنتم حينئذ تكونون سببا لسب الله فيكون سبكم وتسببكم هذا عَدْواً تجاوزا وعدولا عن الحق الى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ بعاقبته ومآله وبالجملة كَذلِكَ اى مثل تزييننا لكم دينكم وإلهكم وعملكم ايها المؤمنون قد زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم عَمَلَهُمْ والهم سواء كان حقا او باطلا إذ كل حزب بما لديهم فرحون وكل يعمل على شاكلته ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ اى يجازيهم على مقتضى ما عملوا من خير وشر وايمان وكفر
وَمن شدة نفاقهم واستهزائهم معك يا أكمل الرسل وتهكمهم بما جئت به من الآيات قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ اى مغلظين فيها مؤكدين لها تهكما والله لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها اى بالآيات كلها البتة وبك ايضا قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما خاليا من وصمة الكذب ناشئا عن محض الحكمة إِنَّمَا الْآياتُ كلها لله ونزولها وانزالها عِنْدَ اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء وبقبضة قدرته وليس في وسعى وطاقتي شيء منها ومن لوازمها وَما يُشْعِرُكُمْ ويظهر لكم ايها المؤمنون الطالبون لإيمان هؤلاء الكفرة مع انكم لو تأملتم أنتم في شأنهم وظاهر حالهم لتفرستم أنتم بسيماهم ومن ظاهر حالهم بنور الايمان أَنَّها إِذا جاءَتْ إياهم ونزلت جميع مقترحاتهم لا يُؤْمِنُونَ بها البتة إذ قد طبع الله على قلوبهم بالكفر والنفاق
وَكيف يؤمنون بها مع انا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عن الميل نحو الحق مطلقا وَأَبْصارَهُمْ عن احساس شواهده وعلاماته وبالجملة هم لا يؤمنون بمطلق الآيات المقترحة النازلة أصلا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ اى بعموم ما جاء من الحق أَوَّلَ مَرَّةٍ قبل اقتراحهم إذ لا تفاوت بين حقية الآيات سواء كانت مقترحة أم لا وَبالجملة نَذَرُهُمْ نمهلهم وندعهم فِي طُغْيانِهِمْ وعدوانهم المتجاوز عن الحد يَعْمَهُونَ يتحيرون ويترددون الى ان نأخذهم وننتقم عنهم
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ كما اقترحوا وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ببعثهم من قبورهم واوصوهم بالإيمان وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا اى جمعنا كل شيء عليهم وجعلناهم كفلاء لهم ليرشدوهم بأجمعهم الى الايمان ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا من خباثة بواطنهم وقساوة قلوبهم إذ قد ختم الله المقتدر الحكيم على قلوبهم بالكفر في سابق علمه إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ العليم الحكيم ايمانهم وقد كتبهم في لوح قضائه من المؤمنين وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس يَجْهَلُونَ قضاء الله ومشيئته فيتمنون ايمانهم
وَكَذلِكَ اى مثل ما جعلنا لك يا أكمل الرسل عدوا يعاديك قد جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ من الأنبياء الماضين عَدُوًّا كذلك يعاديهم ويخاصمهم ويريد مقتهم وهلاكهم كمثل عدوك يعنى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بالمظاهرة والمعاونة بحيث يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ اى اباطيله واراجيفه غُرُوراً وتغريرا لضعفاء الأنام حتى يقدموهم على مخاصمة الأنبياء ومعاداتهم(1/230)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
ويظهروهم على الأنبياء بأنواع التغرير والتلبيس وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ايمانهم ما فَعَلُوهُ اى هذا الغرور يعنى ما قالوا هذا القول الزور المزخرف المموه وبالجملة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ اى اتركهم مع كفرهم وفريتهم على الله بما لا يليق بشأنه وزخرفتهم وتلبيسهم فيه
وَما ذلك الغرور والزخرفة الا لِتَصْغى تميل وتركن إِلَيْهِ اى الى غرورهم وافترائهم وتتوجه نحوه أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ اى ليرضي كل منهم أنفسهم عما يزخرفون به لذلك الغرض الفاسد لكون جبلتهم عليه وَلِيَقْتَرِفُوا ويكتسبوا بسببه ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ مكتسبون من العقائد الرائغة المورثة لهم اصناف الآثام المثمرة إياهم انواع العذاب والآلام قل لهم يا أكمل الرسل ان أرادوا ان يتحاكموا ويتصالحوا معك بعد ما ظهر لك ولاح عندك تلبيسهم وتغريرهم إنكارا عليهم وتقريعا
أَفَغَيْرَ اللَّهِ المستقل بالحكم المبرم والتصرف المحكم أَبْتَغِي واطلب حَكَماً وحاكما عادلا يفصل بيني وبينكم ايها المعاندون المكابرون وَالحال انه سبحانه هُوَ العليم الحكيم الَّذِي قد أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ اى القرآن الفرقان مُفَصَّلًا مبينا واضحا مستغنيا عن التحاكم والترافع مطلقا وَبالجملة المكابرون المعاندون الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اى علمه ان أنصفوا في أنفسهم ولم يعاندوا يَعْلَمُونَ يقينا بشهادة كتبهم أَنَّهُ اى القرآن مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ السوى بلا ميل وانحراف الى الباطل أصلا فَلا تَكُونَنَّ أنت يا أكمل الرسل مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين المترددين في انهم عالمون بحقية القرآن وموافقته لكتبهم الا انهم يكابرون في تحريف كتبهم ويعاندون بادعاء تكذيب القرآن ظلما وزورا
وَبالجملة تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ اى قد انتهت وتناهت وبلغت الغاية القصوى ببيان كلمة التوحيد برسالتك يا أكمل الرسل اى قد ظهرت أنت في تبيينها وكشفها بما لم يظهر به احد من الأنبياء إذ الأنبياء انما ظهروا بتوحيد الصفات والأفعال دون توحيد الذات وأنت قد ظهرت به ولهذا ورد في شأنك من يطع الرسول فقد أطاع الله وان الذين يبايعونك انما يبايعون الله وقلت أنت بمقتضى وجدك ووجدانك وكشفك وشهودك من رآني فقد رآني فان الشيطان لا يتمثل بي وايضا قلت رأيت ربي في ليلة المعراج وغير ذلك من الآثار والاخبار الدالة على التوحيد الذاتي لذلك قلت أوتيت جوامع الكلم وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق صِدْقاً وَعَدْلًا بلا كذب وعدم مطابقة في الاخبار والمواعيد وبلا ميل وانحراف في الاقصية والاحكام ومتى تمت كلمة ربك كذلك وبلغت غايتها فاعلم يا أكمل الرسل انه لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ سبحانه هذه ولا محول لها أصلا لذلك قد ختم ببعثتك ورسالتك امر النبوة والرسالة وسد باب الوحى والنزول وصرت أنت خاتم النبيين وختم المرسلين وَحينئذ ظهر انه سبحانه هُوَ السَّمِيعُ بعموم أقواله الْعَلِيمُ بجميع شئونه وتجلياته الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله
وَمتى تحققت يا أكمل الرسل بمرتبة الكشف والشهود وتمكنت في المقام المحمود إِنْ تُطِعْ وتتفق أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من اهل البدع والأهواء يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ المتوحد بالذات والصفات والأسماء إِنْ يَتَّبِعُونَ يعنى هم من غاية انهماكهم في الغفلة عن الله ما يتبعون ويتفقون إِلَّا الظَّنَّ الفاسد والوهم المزخرف الكاسد ولا شك ان الظن لا يغنى من الحق شيأ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ اى ما هم في ظنونهم وجهالاتهم الكاذبة واوهامهم الباطلة وخيالاتهم العاطلة سيما في الاعتقادات والاحكام الدينية الا انهم يخلطون ويزورون ويلبسون على أنفسهم واتباعهم حسدا وعنادا
وبالجملة إِنَّ رَبَّكَ(1/231)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
يا أكمل الرسل هُوَ أَعْلَمُ بعلمه الحضوري مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ من اصحاب التخمين والتقليد وَايضا هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ من ارباب المكاشفة والشهود فلا يفيد تغريرهم واضلالهم شيأ يعتد به وإذا علمتم ايها المؤمنون ان الهداية والضلال انما هو بيد الله الكبير المتعال وبمقتضى ارادته واختياره لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا بتحريم المباح وتحليل الشبهات والحرام
فَكُلُوا حسب ما قد أباح الله عليكم من الأزواج الثمانية وما يشابهها من الوحوش مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عند تذكيته وذبحه مبيحين محللين على انفسكم إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وباحكامه مصدقين موقنين
وَما لَكُمْ واى شيء عرض لكم أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالحال انه قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ربكم ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ في دينكم وكتابكم هذا في قوله حرمت عليكم الميتة والدم الآية فعليكم ان لا تأكلوا من المحرمات إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ فحينئذ يباح لكم منها مقدار سد جوعة وَإِنَّ كَثِيراً من الناس لَيُضِلُّونَ بأنفسهم ويضلون غيرهم من الضعفاء بتحليل المحرمات وتحريم المباحات بلا سند شرعي بل بِأَهْوائِهِمْ الباطلة بِغَيْرِ عِلْمٍ لهم بما عند الله ولا تتبعوهم ولا تقتفوا أثرهم إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن حدود الله بمتابعة اهوائهم الفاسدة وآرائهم الباطلة فيجازيهم الله المنتقم الغيور على مقتضى علمه
وَذَرُوا ايها المؤمنون واتركوا بالإخلاص والندامة المؤكدة ظاهِرَ الْإِثْمِ اى الاقدام عليه والاتصاف به وَباطِنَهُ اى اخطاره واجراءه على القلب ايضا إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ ويميلون اليه متلذذين سَيُجْزَوْنَ في النشأة الاخرى بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ ويكسبون وبمقدار ما يتلذذون به
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حين ذبحه وَإِنَّهُ اى أكلكم منه لَفِسْقٌ خروج عن حكم الله بمتابعة اهل البدع والأهواء الضالين عن طريق الحق بوسوسة الشياطين وَلا تغفلوا عن وسوستهم بحال من الأحوال إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ يلقون ويوسوسون دائما إِلى أَوْلِيائِهِمْ من اهل الأهواء لِيُجادِلُوكُمْ ويزوروا عليكم ايها المؤمنون حتى يضلوكم عن منهج الحق سيما في المآكل والمشارب وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ايضا لان من أطاع غير الله سيما في معصيته فقد أشرك به العياذ بالله
أَوَمَنْ كانَ منكم ايها المكلفون مَيْتاً بالجهل والكفر وانواع الشرك والضلال فَأَحْيَيْناهُ بالمعرفة والايمان وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يتلألأ من جبينه يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ هاديا مهتديا كَمَنْ مَثَلُهُ شأنه ووصفه انه مغمور فِي الظُّلُماتِ المتراكمة المتزاحمة عليه إلا وهي ظلمة الجهل والكفر والفسوق والعصيان والحال انه لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ناج عنها لعدم تناهيها فهو ومن أنقذه الله من ظلمة الضلالة بنور الهداية وهداه الى صراط مستقيم بنور دين الإسلام سيان متساويان كلا وحاشا شتان ما بينهما كَذلِكَ اى مثل تزيين الايمان للمؤمن قد زُيِّنَ حبب وحسن لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والعصيان إذ كل حزب بما لديهم فرحون
وَكَذلِكَ اى كما جعلنا في مكة أكابر وصناديد يجرمون فيها جرائم عظيمة قد جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ اى صيرنا وقدرنا فيها أَكابِرَ كانوا مُجْرِمِيها ومترفيها وامهلناهم زمانا لِيَمْكُرُوا فِيها بأنواع المكر والحيل ليضلوا ضعفاء الأنام عن جادة الإسلام فيمكرون ويضلون وَهم بأجمعهم ما يَمْكُرُونَ حقيقة إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ إذ وبال مكرهم انما يعود عليهم وَهم ما يَشْعُرُونَ عوده حينئذ لشدة قساوتهم وعمههم وسيشعرون حين يؤخذون(1/232)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
عليها في النشأة الاخرى ويعلمون حينئذ اىّ منقلب ينقلبون
وَمن غاية جهلهم ونفاقهم ونهاية قسوتهم وشقاقهم إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ هادية لهم الى سبيل الرشد قالُوا من شدة بغضهم وعنادهم لَنْ نُؤْمِنَ بها ولن نصدقها ابدا حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ إذ نحن وهم سواء في البشرية بل نحن اولى منهم في الرياسة والنسب والحسب وانواع الفضائل والكمالات ومن اين يؤتى لهم ولم يؤت إلينا قل لهم يا أكمل الرسل الوحى والإيتاء بيد الله يؤتى من يشاء ما يشاء ويمنع ممن يشاء إذ اللَّهِ المدبر الحكيم أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ إذ لا عبرة عنده سبحانه بالرياسة والنسب بل قد تفضل على من تفضل من عباده بلا التفات منه سبحانه الى حسبه ونسبه بل يعطى سبحانه ما يعطى لمن يعطى حسب استعداده وقابليته المقدرة عنده سبحانه في سابق علمه ولوح قضائه وبالجملة لا تحزن يا أكمل الرسل عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ويقولون أولئك الماكرون المفرطون المسرفون واعلم انه سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا مغرورين على رئاستهم وجاههم ونسبهم ومالهم وينزل عليهم صَغارٌ مذلة وهوان عِنْدَ اللَّهِ المتعزز برداء المجد والجلال حين إحضارهم للحساب والجزاء وَبعد كشف حالهم وحسابهم لهم عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ وإذا كان الأمر بيد الله والشأن من عنده وحسب ارادته واختياره
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ المعز الهادي أَنْ يَهْدِيَهُ الى توحيده يَشْرَحْ صَدْرَهُ اى يفتحه ويوسعه لِلْإِسْلامِ اى التفويض والاستسلام وكمال الطاعة والانقياد الى حيث قد رضى لعموم ما قضى عليه المولى وبعد ما رضى بالقضاء فقد وسع الحق فيه فيستولى عليه فيفنيه عن هويته ويبقيه ببقائه السرمدي وَمَنْ يُرِدْ الله بمقتضى قهره وجلاله أَنْ يُضِلَّهُ عن فضاء توحيده وصفاء تجريده يَجْعَلْ الله صَدْرَهُ الذي من شأنه ان يسع الحق فيه ضَيِّقاً ضنكا حَرَجاً في غاية الضيق والقساوة باستيلاء لوازم الإمكان عليه بحيث قد ضاقت الأرض عليه من إلمام لوازم الإمكان فيتمنى الصعود الى عالم الأسباب من غاية اضطراره وتشتت باله واختلال حاله فصار كَأَنَّما يَصَّعَّدُ ويطلب الصعود فِي السَّماءِ من غاية اضطراره واحتياجه وهذا مثل يضرب لمن ضاق عليه طرق معاشه كَذلِكَ اى كحال من اضطر الى الصعود نحو السماء من إلمام لوازم الإمكان عليه يَجْعَلُ اللَّهُ المنتقم الغيور الرِّجْسَ اى خذلان الإمكان وخجل الحرمان في النشأة الاخرى عَلَى القوم الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بتوحيد الله وبسعة لطفه وجوده
وَهذا اى ما أنزلناه إليك يا أكمل الرسل من القرآن المبين لطريق المعرفة والايمان صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً لا عوج فيه أصلا موصلا الى توحيده الذاتي قَدْ فَصَّلْنَا وأوضحنا فيما أنزلناه إليك الْآياتِ الدالة على وحدة ذاتنا لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يتعظون بها ويتذكرون منها الى مبدئهم الذي قد نشئوا منه وظهروا عنه الا وهو الوحدة الذاتية الإلهية التي هي عبارة عن الوجود المطلق الخالص عن مطلق القيود والحدود
وبالجملة لَهُمْ دارُ السَّلامِ اى مقام التفويض والاستسلام عِنْدَ رَبِّهِمْ بعد ما تحققوا بتوحيده وَهُوَ سبحانه بذاته وَلِيُّهُمْ ومولى أمورهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ اى بجميع ما كانوا يعملون من الأعمال والنيات فيها وجميع الحركات والسكنات الواقعة منهم في صدورها إذ هو سبحانه قد صار سمعهم وبصرهم ويدهم ورجلهم وعموم جوارحهم التي صدرت عنها أعمالهم وأفعالهم على ما نطق به الحديث القدسي صلوات الله على قائله
وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ(1/233)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
جَمِيعاً اى جميع من يتأتى منهم الإطاعة ويتوجه إليهم التكليف من الثقلين قائلين لهم منادين عليهم يا مَعْشَرَ الْجِنِّ والشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ اى استتبعتم وأضللتم كثيرا مِنَ الْإِنْسِ بايقاعهم في مواقع الفتن وتغريرهم الى المعاصي والمهالك والخروج عن مقتضيات الأوامر والنواهي واغرائهم الى مستلذات نفوسهم ومقتضيات شهواتهم وَبعد ما سمع الانس هذا النداء قالَ أَوْلِياؤُهُمْ اى اولياء الجن ومتابعوهم مِنَ الْإِنْسِ متذللين متحسرين رَبَّنَا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم فكفرنا بك بمتابعة هؤلاء الغواة فالآن ظهر الحق واضمحل الباطل نحن مقر بعموم ما جرى بيننا وبينهم إذ قد اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا منهم باغوائهم واغرائهم الى خلاف ما امرتنا أنت عليه بالسنة رسلنا يا ربنا وايضا استمتع بعضهم بِبَعْضٍ منا بالمتابعة والموالاة وَبَلَغْنا الآن أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا على ألسنة رسلك وكتبك يا مولانا فالآن قد جئناك خائبين خاسرين قالَ سبحانه من وراء سرادقات العز والحلال الآن قد انقرض دار الابتلاء ومضى زمان التدارك والاهتداء النَّارُ مَثْواكُمْ جميعا تابعا ومتبوعا ومأويكم ابدا خالِدِينَ فِيها مؤبدا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ العليم الحكيم وقتا ينقذكم منها كيلا تتعودوا بعذابها ويدخلكم باشد منها واقطع إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل حَكِيمٌ متقن في عموم أفعاله عَلِيمٌ بمقدار جزاء العصاة
وَكَذلِكَ اى مثل قول اولياء الانس للجن نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ من الانس بَعْضاً منهم ايضا ليفتضحوا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من المظالم بتغرير بعضهم بعضا.
ثم قال سبحانه امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
المفتضحين على رؤس الاشهاد لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
غلب الانس على الجن إذ لم يبعث من الجن نبي بل بعث الأنبياء كلهم من الانس الى الثقلين قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
ويدعونكم الى توحيد ذاتى وكمالات أوصافي وأفعالي يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
اى يوم القيمة والجزاءالُوا
مضطرين معترفين هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
يا ربنا بأنواع الجرائم والعصيان اليوم بعد ما ظهر لنا الأمر وانكشف الحجاب وصرنا مستحقين بأنواع العذاب والعقاب
ما ذلك الا ان قدرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
بحيث لم يبالوا بعموم ما جاءهم من عند ربهم لهديهم وإصلاحهم بل كذبوه واستهزؤا به
قد ادى عاقبة أمرهم في عتوهم وعنادهم الى ان هِدُوا
واعترفوالى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
مستحقين بأنواع العقوبة والعذاب واعلم ان إرسال الرسل وإنزال الكتب انما هو ليتنبهوا وينبهوا اى الرسل العصاة على ما هم عليه
ذلِكَ التنبيه والإرسال أَنْ لَمْ يَكُنْ اى لان لم يكن رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ اى بسبب ظلم صدر عنهم وَالحال انه أَهْلُها غافِلُونَ عن طريق الحق بلا تنبيه منبه وارشاد مرشد نبيه
وَاعلم يا أكمل الرسل وعلم ايضا عموم من تبعك من المؤمنين وذكرهم ان لِكُلٍّ من اهل التكاليف دَرَجاتٌ ودركات عند الله العليم الحكيم معدة إياهم حاصلة لهم مِمَّا عَمِلُوا من الصالحات والفاسدات وبمقتضاها وَما رَبُّكَ المطلع بضمائر عموم عباده بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بمقتضى التكاليف التي كلفهم بها
وَالحال ان نفعه عائد إليهم إذ رَبُّكَ الْغَنِيُّ المستغنى بذاته عنهم وعن أعمالهم بالمرة صالحها وفاسدها الا انه سبحانه ذُو الرَّحْمَةِ والشفقة على من عمل بمقتضى التكليف امتنانا عليه وتفضلا بلا احتياج له سبحانه إليهم ولا الى عملهم بل إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ايها الناس الناسون حقوق ألوهيته وتوحيده سبحانه وعموم التكاليف الواقعة في طريقه وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ(1/234)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
ممن يعمل على مقتضى التكاليف الإلهية كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ قرنا بعد قرن بطنا بعد بطن مع انه يترحم عليكم ويبقيكم تفضلا وامتنانا قل لهم يا أكمل الرسل
إِنَّ ما تُوعَدُونَ ايها المكلفون من الحشر والنشر والجزاء لَآتٍ كائن ثابت لا محالة وبالجملة اعملوا على مقتضى التكليف الإلهي وَاعلموا انكم ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ عاجزين عن الإتيان بالمأمور حتى لا تؤاخذوا بترك التكاليف ولا تعذبوا به إذ لا تكلف نفس الا وسعها وبما في طاقتها وقدرتها
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل الترحم والتحنن وإرخاء العنان مبالغة في طريق التعريض يا قَوْمِ اعْمَلُوا من المعاصي عَلى مَكانَتِكُمْ ومقدار مكنتكم وطاقتكم إِنِّي عامِلٌ ايضا من الصالحات المأمورة بمقتضى مكنتى وطاقتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أنتم ونحن حين ينكشف الحجب ويرتفع الغشاء مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ اى العاقبة الحسنى والمثوبة العليا التي تترتب على أعمالنا في دار الجزاء يعنى أينا يفوز بها انا او أنتم غاية ما في الباب إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن حدود الله بمقتضى اهويتهم الفاسدة ولا يفوزون بسعادة وخير أصلا
وَمن جملة ما خرجوا عن مقتضى الحدود الإلهية بمتابعة اهويتهم الباطلة انهم قد جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ وبرأ وظهر مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا المعين المفروز لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا اى آلهتنا وشفعائنا فَما كانَ من أموالهم يفرز لِشُرَكائِهِمْ ان كان جيدا طيبا فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ولا يتجاوز عن شركائهم أصلا وَما كانَ لِلَّهِ ان كان جيدا فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ بأن استبدلوها بالرديء الذي كان لشركائهم وبالجملة ساءَ ما يَحْكُمُونَ هؤلاء الجاهلون إذ فعلهم واختيارهم هذا انما هو تفضيل المسترذل المفضول على الأجل الأفضل روى انهم كانوا يعينون شيأ من حرثهم ونتاجهم لله ويصرفونه الى الضيفان والمساكين وشيأ منهما لآلهتهم وينفقونه الى سدنة آلهتهم وخدامهم ويذبحون عندها ثم ان رأوا ما عينوا لله ازكى بدلوه بما لآلهتهم من الرديء وان رأوا ما لآلهتهم ازكى تركوه لها حبا لآلهتهم وترجيحا لجانبهم على جانب الله هذا مما اخترعوه من تلقاء أنفسهم وان افتروا الى كتبهم تغريرا وترويجا
وَكَذلِكَ اى مثل قسمتهم في القربات والصدقات قد زَيَّنَ اى حبب وحسن لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ اى آلهتهم الذين هم يعبدونهم من دون الله من الشياطين وما ذلك التزيين والتحسين الا لِيُرْدُوهُمْ اى يهلكوهم ويضلوهم بالإضلال والإغواء عن طريق الحق وَلِيَلْبِسُوا وليخلطوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ الذي وجب عليهم الانقياد والإطاعة ليصلوا الى طريق التوحيد وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده هدايتهم ما فَعَلُوهُ اى ما قبلوا تزيينهم وتلبيسهم فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ اى اتركهم مع افترائهم الى ان نأخذهم وننتقم عنهم
وَايضا من جملة ما اخترعوا من تلقاء أنفسهم ونسبوها الى الله والى كتابه ترويجا وتغريرا انهم قالُوا هذِهِ المعينة المفروزة أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ حرام لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ إطعامه يعنون سدنة الأوثان وخدمتها من الرجال دون النساء فإنها تحل عليهم وتحرم على غيرهم وما هي ايضا الا بِزَعْمِهِمْ الفاسد ورأيهم الكاسد بلا حجة عقلية او نقلية وَايضا قالوا هذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وأرادوا البحائر والسوائب والحوامي على ما سبق في سورة المائدة وَقالوا ايضا هذه أَنْعامٌ معدة للتجارة او الحمل والظعن لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا يعنى لا يركبونها للحج كل ذلك من مخترعاتهم التي قد اخترعوها من اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة ويفترون افْتِراءً عَلَيْهِ سبحانه ومراء بلا سند لهم نازل(1/235)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
من عنده سَيَجْزِيهِمْ الله المنتقم الغيور ويعذبهم بِما كانُوا يَفْتَرُونَ اى بشؤم افترائهم ومرائهم إياه سبحانه
وَمن جملة مفترياتهم على كتاب الله انهم قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ اى اجنة البحائر والسوائب ان كان حيا فهي خالِصَةٌ لِذُكُورِنا مخصوصة مباحة لهم أكلها وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا لا نصيب لهن فيها وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً يعنى ان يخرج ميتة فَهُمْ اى الذكور والإناث فِيهِ شُرَكاءُ بلا تفاوت وتخصيص سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ اى يجزيهم الله أقبح الجزاء على وصفهم وتفصيلهم هذا افتراء عليه إِنَّهُ حَكِيمٌ في جزاء المفترين عَلِيمٌ بمقداره وكيفيته
ثم قال سبحانه قَدْ خَسِرَ وخاب خيبة ابدية الاعراب الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً مخافة سبى او إملاق بِغَيْرِ عِلْمٍ منهم بما يئول أمرهم عليه ولا شك ان الرزاق والحافظ لعموم عباده هو الله لا هم وَايضا قد حَرَّمُوا على نفوسهم ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ واباحه عليهم من البحائر والسوائب وغيرها ونسبوا تحريمها افْتِراءً عَلَى اللَّهِ مراء وميلا الى الباطل وبالجملة قَدْ ضَلُّوا بارتكاب هذه الجرائم عن طريق الحق وَما كانُوا مُهْتَدِينَ الى توحيده ولا يرجى منهم الهداية والفلاح أصلا
وَكيف تضلون عن طريق الحق ايها الجاهلون المسرفون مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لمعاشكم في النشأة الاولى جَنَّاتٍ وحدائق من الكرم مَعْرُوشاتٍ مرتفعات من الأرض وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ بل مفروشات اى ملقيات على وجه الأرض وَانشأ لكم ايضا النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ اى أكل كل واحد منهما رطبا ويابسا وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً بعضها ببعض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ بل مختلف في الشكل والطعم ايضا كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ اى ثمرة كل من المذكورات حيث شئتم إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ اى اخرجوا حق الله منه على الوجه المفروض المبين في علم الاحكام يَوْمَ حَصادِهِ اى وقت إدراكه وبدوّ صلاحه وَلا تُسْرِفُوا في الاكل وان كان مباحا حتى لا تقسى قلوبكم ولا يكل ادراككم إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ولا يرضى عنهم وعن فعلهم هذا إذ الاكل انما هو لقوام البدن وتقوية الروح والقوى على فعله وإسرافه يفضى الى التعطيل والتكليل والكسل المخل للحكمة الإلهية
وَإنشاء لكم ايضا مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً تحملون أثقالكم عليها يوم ظعنكم وَفَرْشاً تفرشون من أصوافها واشعارها واوبارها المنسوجة تحتكم يوم اقامتكم كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ واباحه عليكم منها وَلا تَتَّبِعُوا اثر خُطُواتِ الشَّيْطانِ ولا تسمعوا وساوسه في تحليل المحرمات وتحريم المباحات وبالجملة لا تتبعوا مقتضيات اهويتكم وأمانيكم التي هي من جنود الشياطين إِنَّهُ اى الشيطان وجنوده لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة فاجتنبوا من اغوائه واغرائه
واعلموا ايها المؤمنون ان الله سبحانه قد أباح لكم من الانعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الكبش والنعجة وما يتولد منهما وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ التيس والعنز ايضا كذلك قُلْ يا أكمل الرسل لمن يدعى التحريم في هذين الجنسين إلزاما وتبكيتا آلذَّكَرَيْنِ الكبش والتيس حَرَّمَ منهما أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ النعجة والعنز أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ اى حرم في بطن الأنثيين من هذين الجنسين ذكرا كان او أنثى نَبِّئُونِي وأخبروني ايها المدعون تحريم شيء منها بِعِلْمٍ ثابت ومقدمة معلومة عندكم من نقل ونص دال على ان الله قد حرم شيأ من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم
وَايضا قد أباح لكم ربكم ايها المؤمنون مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ يا أكمل الرسل للمجرمين المفترين آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ(1/236)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
من الجنسين المذكورين أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعنى لم يحرم ايضا شيأ منهما ولا ما في بطنهما ذكرا كان او أنثى أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أتدعون أنتم ايها المدعون انكم قد كنتم حضراء وقت إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم لأنه ما اخبر به نبي وما جاء به كتاب فبقى ان تدعوا الحضور عنده سبحانه وقت التحريم وأنتم ايها المفترون من زمرة المردودين المطرودين عن ساحة عز حضوره سبحانه فظهر أنه ما هي الا مفتريات صدرت من تسويلات نفوسكم وتلبيسات شياطين أوهامكم وخيالاتكم تفترونها على الله عدوانا وظلما فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ عن طريق الحق مع انه بِغَيْرِ عِلْمٍ وحى ونقل وارد نازل من عند الله بل من تلقاء نفسه تلبيسا وتغريرا لضعفاء العوام إِنَّ اللَّهَ المطلع بمخايل المفسدين لا يَهْدِي الى طريق توحيده الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المفترين عليه سبحانه بأمثال هذه المفتريات الزائغة
قُلْ يا أكمل الرسل بمقتضى ما أوحينا إليك انا لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ اى في القرآن الجامع لأحكام الكتب السالفة المستحضر لها مُحَرَّماً اى طعاما قد حرمه الله عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ بل أجد كل ما يطعم حلالا مباحا إذ الأصل في الأشياء الحل إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً مات حتف انفه بلا ذكاة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً سائلا جاريا مفروزا عن اللحم أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ نجس في نفسه لا يقبل الذكاة أصلا أَوْ ما يذبح من المحللات فِسْقاً وخروجا عن مقتضى الشرع بان أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ حين ذبحه من اسماء الأصنام وغيرها وما سوى هذه المستثنيات المذكورة فهو مباح فَمَنِ اضْطُرَّ ايضا الى تناول تلك المستثنيات حال كونه غَيْرَ باغٍ خارج عن الإسلام ظلما وعدوانا وَلا عادٍ مجاوز عن سد الجوعة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ لمن تناولها ضرورة رَحِيمٌ لا يؤاخذه عليه بل ان لم يتناول في محل الاضطرار وهلك كان عاصيا البتة لأنه تخريب لبيت الله وابطال لصنعه سيما بعد ما رخص
وَان سألوا عنك يا أكمل الرسل من محرمات الأمم الماضية قل لهم نيابة عنا عَلَى الَّذِينَ هادُوا ونسبوا الى دين اليهود قد حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وحافر يمكن ان يجرح معها وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ قد حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ من الشحم ظُهُورُهُما وهي الثروب وشحوم الكلى أَوِ حملته الْحَوايا يعنى الأمعاء أَوْ مَا اخْتَلَطَ من الشحوم بِعَظْمٍ كالالية ذلِكَ اى تحريم هذه الأشياء إياهم وان كان الأصل في الأشياء الحل والاباحة قد جَزَيْناهُمْ بها بِبَغْيِهِمْ اى بسبب ظلمهم وخروجهم عن مقتضيات حدودنا بلا ورود نص منا وَإِنَّا لَصادِقُونَ في عموم ما أوحينا إليك من الأقوال والاخبار والمواعيد والوعيدات
فَإِنْ كَذَّبُوكَ وعاندوك فيما تلونا عليك من الآيات فَقُلْ لهم امحاضا للنصح على مقتضى مرتبة النبوة رَبُّكُمْ الذي أوجدكم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وشفقة كاملة وافرة يمهلكم على ما أنتم عليه ويوسع عليكم على مقتضى لطفه وجماله وَالحال انه لا يُرَدُّ بَأْسُهُ وبطشه على مقتضى غيرته وحميته وجلاله عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا على الله بالخروج عن مقتضى أحكامه النازلة على السنة رسله
ثم قال سبحانه على سبيل الاخبار عما سيقع سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا على سبيل التكذيب والإنكار في عموم ما جئت به أنت يا أكمل الرسل لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أنت ترويه عنه وتدعيه بالنسبة إلينا وتعلق ارادته بتوحيدنا إياه ما أَشْرَكْنا البتة مع انه القادر المقتدر على عموم ما أراد بل وَلا أشرك ايضا آباؤُنا من قبل بل ما ظهر وما لاح شيم(1/237)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
الكفر والشرك بين عموم العباد مطلقا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ مما أخبرت تحريمه عنه بالنسبة إلينا بل ما هي الا مخترعات تخترع أنت من عندك وتنسبها الى الله تلبيسا وترويجا كَذلِكَ اى مثل تكذيبهم لك يا أكمل الرسل بأمثال هذه الهذيانات الباطلة قد كَذَّبَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ الأنبياء وصاروا على تكذيبهم مصرين حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا الذي قد أنزلنا عليهم واستأصلناهم بتكذيبهم وان أردت إلزامهم وتبكيتهم قُلْ لهم مستفهما هَلْ حصل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ نقل صريح وحجة واضحة موردة من عند الله فَتُخْرِجُوهُ لَنا وتظهروه عندنا حتى نقبله ونتبعه فان لم يخرجوا ولم يظهروا فقل لهم إِنْ تَتَّبِعُونَ اى ما تتبعون أنتم إِلَّا الظَّنَّ الفاسد الذي لا يغنى من الحق شيأ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ وتكذبون على الله افتراء ومراء وقل لهم هذا ثم اعرض عنهم ودع مجادلتهم ومخاطبتهم
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما الزموا وأفحموا فَلِلَّهِ الحاكم على الإطلاق الفاعل بالاختيار والاستحقاق الْحُجَّةُ الواضحة الكاملة الْبالِغَةُ حد الكمال فَلَوْ شاءَ هدايتكم لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ اى لا وضح حجته عليكم ووفقكم الى قبوله ولكن لم يتعلق مشيئته على هدايتكم لذلك أصررتم واستكبرتم وإذا لم يتنبهوا بعد إلقاء الحجة عليهم بل قد أصروا على تقليد أحبارهم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ واحضروا أحباركم وعلماءكم الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ في كتابه هذا اى ما ادعيتم تحريمه فَإِنْ شَهِدُوا بعد ما حضروا افتراء على كتاب الله فَلا تَشْهَدْ أنت يا أكمل الرسل مَعَهُمْ ولا تقبل شهادتهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ونسبوا إليها ما هي خالية عنه ظلما وزورا فاعرض عنهم ودع مكالمتهم ومجالستهم وَاعلم يا أكمل الرسل ان الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولا بالمجازاة والمكافاة الواقعة فيها مطلقا ولا يبالون من أمثال هذه المفتريات الباطلة وَهُمْ من غاية جهلهم بِرَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم يَعْدِلُونَ يشركون ويجعلون له عديلا تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة تَعالَوْا هلموا وأتوا ايها التائهون في بيداء الضلال أَتْلُ وأعد لكم ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ في نشأة الدنيا أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من مظاهره ومصنوعاته إذ هو في نفسه واحد احد صمد فرد وتر ليس لغيره وجود حتى يشاركه ويماثله وَان لا تفعلوا بِالْوالِدَيْنِ اللذين هما سببان قريبان لظهوركم الا إِحْساناً لإحسانهما إليكم في حفظكم وحضانتكم وَان لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ ظلما ناشئا مِنْ خوف إِمْلاقٍ فقر وفاقة إذ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ ونتكفل لرزقكم وَإِيَّاهُمْ ايضا وَان لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ اى كبائر القبائح التي قد نهاكم الله عنها وحرمها عليكم ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَكذا لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ لكم قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ اى برخصة شرعية كالقود وقتل المرتد ورجم الزاني المحصن وغيرها من المحارم التي قد رخص الشرع بارتكابها كقتل اهل البغي وقطاع الطريق واهل الحرب إذ ارتكابها حينئذ من جملة المرخصات والمأمورات الشرعية ذلِكُمْ المذكور مفصلا مما وَصَّاكُمْ الله بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تسترشدوا منه وتهتدوا الى توحيده
وَ
من جملة المحرمات التي حرمها الحق عليكم وكررها في كتابه مرارا ان لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
ولا تتصرفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي
اى بالتصرفات التي هِيَ أَحْسَنُ
لليتيم واحوط لغبطته من تنمية ماله وحفظه(1/238)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
حَتَّى يَبْلُغَ
اليتيم أَشُدَّهُ
ورشده اى يسع منه التصرفات الشرعية شرعا وحينئذ يسلم اليه ماله بعد تجربته واختباره مرارا
وَمن جملتها ايضا ان لا تنقصوا ولا تخسروا في الكيل والوزن بل أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
والعدل السوى ولا تنقصوا منهما وان كان الوفاء في غاية الصعوبة والعسرة فعليكم ان تبذلوا وسعكم وطاقتكم في تعديلهما وايفائهما مهما أمكن لكم وما هو خارج عن وسعكم معفو عنكم إذ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
ومقدار طاقتها ومكنتها
وَمن جملتها ايضا ان لا تميلوا ولا تحيفوا في الاحكام ايها الحكام بل إِذا قُلْتُمْ
وحكمتم حال كونكم حاكمين بين الخصمين فَاعْدِلُوا
في الحكومة وَلَوْ كانَ
المحكوم عليه اوله ذا قُرْبى
من ذوى قرابتكم وحميمكم فعليكم الاحتياط والمبالغة فيه
وَعليكم ايها الحكام ان لا تتجاوزوا في الاحكام عما حكم الله به مطلقا بل بِعَهْدِ اللَّهِ
الحكيم العليم أَوْفُوا
وبمقتضى حكمه وحكمه وفوا ذلِكُمْ
المذكور مما وَصَّاكُمْ
الله بِهِ
فاتقوا الله واحذروا من بطشه لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
رجاء ان تتذكروا وتتعظوا به ايها المتوجهون الى توحيده
ثم قال سبحانه وَاعلموا ايها المائلون نحو توحيدي أَنَّ هذا المذكور في هذا الكتاب سيما في هذه السورة من الأوامر والنواهي وعموم المحرمات والمحللات والاحكام والإشارات والآداب والمعاملات صِراطِي الموصل الى توحيدي مُسْتَقِيماً سويا بلا ميل واعوجاج فَاتَّبِعُوهُ حتى تفوزوا اليه وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المتفرقة والطرق المختلفة المنحرفة المعوجة فَتَفَرَّقَ بِكُمْ وتضلكم عَنْ سَبِيلِهِ اى سبيل توحيده الذاتي ذلِكُمْ اى الاتباع المذكور مما وَصَّاكُمْ الله بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء ان تحذروا بسببه عن سبل الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة المضلة عن طريق الحق وتوحيده
ثُمَّ اعلموا أنا قد آتَيْنا من مقام جودنا مُوسَى عليه السّلام الكليم الْكِتابَ اى التورية المبين لطريق التوحيد وعلمناه تَماماً كاملا عَلَى الوجه الَّذِي أَحْسَنَ بيانه وتوضيحه وَقد بينا فيه تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ من الكوائن والفواسد المتعلقة بعالم الملك والشهادة وَهُدىً من الحقائق والمعارف المتعلقة بعالم الغيب والملكوت وَرَحْمَةً من المكاشفات والمشاهدات المسقطة لعموم الإضافات مطلقا المفنية لنقوش الغير والسوى رأسا لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ رجاء ان يتحققوا بمراتب العلم والعين والحق
وَهذا اى القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ متمما لمقاصد الكتب السالفة مروجا لحكمها وأحكامها مُبارَكٌ كثير الخير والبركة والنفع لمن آمن به وصدقه فَاتَّبِعُوهُ ايها المتوجهون نحو التوحيد الذاتي وامتثلوا بجميع أوامره واجتنبوا عن عموم نواهيه وَاتَّقُوا عن تكذيبه وعن القدح فيه وفي من انزل اليه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ تكشفون وتفوزون به الى فضاء التوحيد
وانما أنزلنا القرآن بعد التورية والإنجيل وان كان اكثر احكام الكتب الإلهية مشتركة كراهة أَنْ تَقُولُوا ايها المؤمنون إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اى اليهود والنصارى وعلى لسانهم ولغتهم فلا تقبلون الاحكام الإلهية معللين به قائلين وَإِنْ اى وانه قد كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم وتعلمهم لعدم علمنا بوضع لغتهم
لَغافِلِينَ أَوْ ان تَقُولُوا متحسرين متمنين لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما انزل عليهم لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهاننا وصفاء صدورنا ومتى علم واطلع سبحانه من استعداداتكم هذا فَقَدْ جاءَكُمْ من عنده سبحانه لهديكم وايصالكم الى مقر توحيده بَيِّنَةٌ واضحة لائحة ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بافاضة استعدادات(1/239)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
التوحيد وقابلياته الدالة عليه مبينة له كاشفة إياه بالنسبة الى ذوى العلوم اليقينية والمعارف اللدنية وَهُدىً يرشدكم الى مرتبة اليقين العيني وَرَحْمَةٌ جذبة نازلة بكم من ربكم تستر هويتكم عن عيون بصائركم وتفنيكم في هوية الحق وبالجملة لو امتثلتم بمقتضاها لصار علمكم عينا وعينكم حقا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ سيما بعد ما سمع أوصافها وخواصها من الله وَصَدَفَ اى صد واعرض عَنْها عنادا واستكبارا والله سَنَجْزِي حسب اسمنا المنتقم الَّذِينَ يَصْدِفُونَ ويعرضون عَنْ آياتِنا اعراضا وتكذيبا سُوءَ الْعَذابِ اى عذابا يسوءهم ويشتد عليهم بِما كانُوا اى بشؤم ما كانوا يَصْدِفُونَ ويعرضون عنها ويستنكفون عن قبولها عتوا وعنادا بلا حجة قطعية بل ظنية ايضا
وبالجملة هَلْ يَنْظُرُونَ يعنى اهل مكة وما ينتظرون وما يستوفون الايمان والإطاعة إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ اى ملائكة العذاب كما أتوا للأمم الهالكة فيلجئهم الى الايمان مع انه لا ينفعهم حينئذ ايمانهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ اى يطلبون إتيان ربك يا أكمل الرسل معاينة كما طلب اليهود من موسى صلوات الله عليه حيث قالوا أرنا الله جهرة أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الدالة على انقضاء النشأة الاولى المسماة بأشراط الساعة وبالجملة يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لكونها ملجئة اليه حين اضطرارها ولا عبرة للايمان حين البأس والإلجاء إذ الايمان امر تعبدي برهاني اختياري مع ان مدة التلافي قد انقضت وهي لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ يعنى سيما النفس التي لم تكن آمنت حين الدعوة وقبل ظهور الملجئ أَوْ لم تكن كَسَبَتْ وان آمنت من قبل على طرف اللسان منتظرين فِي إِيمانِها خَيْراً عملا مقبولا عند الله مشعرا بايقانها واطمينانها فيه وبالجملة قُلِ يا أكمل الرسل للمنتظرين المسرفين استهزاء انْتَظِرُوا الى ما تخيلتم وتوهمتم لحوقه علينا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ايضا الى حلول الوقت الموعود ونزول العذاب المعهود فيه عليكم بشؤم كفركم وشرككم.
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ الذي يوصلهم الى التوحيد الإلهي بلا منازعة ولا مخالفة وَكانُوا شِيَعاً اى صاروا فرقا وأحزابا مختلفة متعصبة كما قال صلّى الله عليه وسلّم افترقت اليهود الى احدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية الا واحدة وهي الناجية وافترقت النصارى الى ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية الا واحدة وهي الناجية وتفترق أمتي على ثلثة وسبعين فرقة كلها في الهاوية الا واحدة وبالجملة لَسْتَ أنت يا أكمل الرسل مِنْهُمْ اى من أمرهم وشأنهم وإصلاحهم فِي شَيْءٍ بل إِنَّما أَمْرُهُمْ وشأنهم مفوض إِلَى اللَّهِ المنتقم الغيور الحكيم حين عرضوا عليه وحشروا نحوه ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ ويخبرهم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ في النشأة الاولى التي هي دار الابتلاء والاختبار
وبالجملة مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فيها فَلَهُ على مقتضى الفضل الإلهي عَشْرُ أَمْثالِها في النشأة الاخرى جزاء له وامتنانا عليه وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فيها فَلا يُجْزى فيها إِلَّا مِثْلَها بمقتضى العدل الإلهي وَهُمْ في جزاء السيئة لا يُظْلَمُونَ بالزيادة مثل زيادة الحسنة بالأضعاف والآلاف إذ لا ظلم في ذلك اليوم سيما من الله القائم على جادة العدالة
قُلْ يا أكمل الرسل المبعوث الى كافة البرايا إِنَّنِي مع كوني بشرا أمثالكم قد هَدانِي رَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده الذاتي ولذلك آتاني من فضله دِيناً قِيَماً قويما مستقيما مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً مائلا عن عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1/240)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
في وقت من الأوقات
قُلْ يا أكمل الرسل المظهر للتوحيد الذاتي مفوضا جميع أمورك وما جرى عليك وظهر منك الى ربك إِنَّ صَلاتِي وميلى بعموم أعضائي وجوارحي وَسائر نُسُكِي وعباداتى التي هي سبب تقربي وتوسلي نحو الحق وَبالجملة لوازم مَحْيايَ وَمَماتِي كلها خالصة لِلَّهِ المتوحد المتصرف في ملكه وملكوته ما يشاء بالاستقلال والاختيار رَبِّ الْعالَمِينَ
لا شَرِيكَ لَهُ ينازعه ولا ضد له يكافئه ويماثله إذ لا موجود سواه ولا وجود لغيره أصلا وَبِذلِكَ التفويض والإخلاص والتسليم أُمِرْتُ من عنده سبحانه لسلوك طريق توحيده وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الموحدين المسلمين المخلصين المظهرين الظاهرين بالتوحيد الذاتي
قُلْ يا أكمل الرسل مستوبخا مستقرعا لمن عاند في طريق التوحيد الذاتي وحادل معك في اثبات الشركاء له سبحانه ومع ذلك قد توقع منك موافقتك في شركه أَغَيْرَ اللَّهِ المتوحد في ذاته المتفرد في ألوهيته أَبْغِي واطلب واتخذ رَبًّا مربيا موليا وَالحال انه هُوَ بذاته وبعموم أسمائه وصفاته رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وخالقه وموحده من كتم العدم بالاستقلال وَبعد ما قلت لهم من كلمة الحق ما قلت دعهم مع شركهم وكفرهم إذ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من الجرائم والآثام إِلَّا تحمل عَلَيْها آصارها واثقالها وَلا تَزِرُ لا تقترف ولا تحمل نفس وازِرَةٌ عاصية كافرة وِزْرَ أُخْرى بل كل منها رهينة بما كسبت ضمينة لما اقترفت ان خيرا فخير وان شرا فشر ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ عموما رجوع الظل الى ذي الظل فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ اى يميز لكم الحق من الباطل والهداية من الضلال وَكيف تنكرون توحيد الحق وتربيته إياكم ايها المكابرون المفرطون
مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ اى خلفاء قابلين لمظهرية الحق وآثار عموم أسمائه وصفاته وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الاتصاف بأوصافه والتخلق بأخلاقه كل ذلك لِيَبْلُوَكُمْ ويختبركم فِي ما آتاكُمْ من استعداداتكم وقابلياتكم هل تصرفونها الى ما حلقتم لأجله أم لا إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل سَرِيعُ الْعِقابِ على من ضيع استعداده الفطري فيما لا يعنيه وَإِنَّهُ ايضا لَغَفُورٌ لمن تنبه واستغفر رَحِيمٌ لمن تاب واستهدى بفضله وجوده
خاتمة سورة الانعام
عليك ايها المتوجه نحو الحق القاصد لسلوك طريق توحيده أنجح الله املك وأوصلك الى متبغاك ان تنتزع وتنحرف عن مقتضيات القوى النفسانية من عموم لذاتها الحسية الوهمية والخيالية وتتوجه بما فيك من مبادي القوى الروحانية الى مبدئها مقتفيا في توجهك هذا اثر ما وصل إليك من آثار النبي المختار الذي قد استخلفه الحق وأظهره على مقتضى جميع أوصافه وأسمائه واجتباه من عموم رسله وأنبيائه وأرسله مظهرا للتوحيد الذاتي وانزل عليه كتابا جامعا محتويا على عموم فوائد الكتب السالفة مع زيادات خلا عنها الجميع مبينا لطريق التوحيد على الوجه الأتم الأكمل الى حيث لم يبق بعد بعثته احتياج الى مبين آخر وهاد سواه لذلك قال سبحانه اليوم أكملت لكم دينكم الآية. وقال صلّى الله عليه وسلّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وبعد بعثته عليه صلوات الرّحمن ونزول كتابه لم يبق للمسترشد المستهدى نحو التوحيد الذاتي الا الاتصاف والامتثال بما جاء به خاتم الرسالة صلى الله عليه وسلّم لذلك لم يكن الاجتهاد بعد بعثته الا في جزئيات الاحكام دون المعتقدات الكلية(1/241)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
إذ قد ختم امر الرسالة والتشريع بإقامته صلّى الله عليه وسلّم ولا بد لك ان تربط قلبك بمحبته صلى الله عليه وسلّم وتجعلها قبلة مقصدك وتقتفى اثر ما ورد عليه وجاء به صلّى الله عليه وسلّم بحيث لا تهمل منها ولا بدان تكون في متابعته صلّى الله عليه وسلّم على وثوق تام واطمئنان كامل عار عن عموم ما يشوشك من ظلمات الشكوك والأوهام خال عن جميع الرعونات العارضة لك من وساوس شياطين الأهواء الفاسدة مثل العجب والرياء والسمعة وغيرها وبالجملة عليك ان تتوجه نحو التوحيد من طريق الفناء الاختياري والموت الإرادي بحيث لا يصدر عنك شيء من امارات الحيوة الصورية ومقتضيات القوى البشرية حتى يتيسر لك التحقق بمقام الخلة والخلافة والتخلق بأخلاق الله تعالى مع توفيق من قبل الحق وجذب من جانبه إذ كل ميسر لما خلق له من عنده ومتى صفت سرك وسريرتك عن جميع ما يشغلك عن الله ويضلك عن سبيله فقد تحققت بمقام التوحيد وفنيت عن مقتضيات امارات التخمين والتقليد وصرت على يقين كامل من ربك وكشف صريح وشهود تام ومشرب صاف لا تظمأ منه أصلا ولا تروى ابدا وحينئذ حق لك ان تقول حقا ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له آتنا ربنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا
[سورة الأعراف]
فاتحة سورة الأعراف
لا يخفى على المستبصر الخبير والمسترشد البصير ان سر إرسال الرسل وإنزال الكتب انما هو لتبيين طريق التوحيد وهدى اصحاب الضلال والتقليد من المتوغلين في تيه الغفلة والنسيان نحو فضاء الوحدة الذاتية ولا يتيسر ذلك الا بترك مألوفاتهم وقطع تعلقاتهم التي كانوا عليها بمقتضى بشريتهم وبإرشادهم وهديهم على التدريج بوضع التكاليف الشاقة المشتملة على الإنذارات الشديدة والتخويفات الغليظة المزيحة لموانع الوصول اليه حتى تستعد نفوسهم وتتهيأ سرهم وسريرتهم الى ان ينكشف لهم سر سريان الوحدة الذاتية المتشعشعة المتجلية دائما حسب أوصافه وأسمائه الذاتية على ذرائر المظاهر كلها لذلك انزل سبحانه على حبيبه الذي أظهره جامعا لجميع مراتب أوصافه وأسمائه الذاتية الكتاب الجامع المحتوى لعموم مراتب الوجود غيبها وشهادتها أولاها وأخراها رطبها ويابسها وأورد فيه اصناف الإنذارات والوعيدات البليغة لينزجر به اهل الغفلة والهوى وانواع المواعيد والتبشيرات ليرغب نحوه اهل المحبة والولاء ليتحققوا على ما جبلوا عليه من الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وبالجملة ليتأدبوا بآدابه حتى يتخلقوا بأخلاقه سبحانه فقال مناديا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم متيمنا متبركا بِسْمِ اللَّهِ المنزه في ذاته عن مطلق النقص والاستكمال الرَّحْمنِ لعباده بالإرشاد والتكميل لان يصلوا الى درجات القرب والوصال الرَّحِيمِ لهم بانزال القرآن الهادي الى سرادقات العز والجلال
[الآيات]
المص ايها الإنسان الكامل اللائق لتكميل الخلائق المكرم المؤيد من لدنا لهديهم وإرشادهم الى توحيد الذات والصفات والأفعال الصادق الصفي في نفسه عن كدورات اهل الزيغ والضلال هذه الآثار والآيات الانيقة اللطيفة اللائحة اللائقة لان يسترشد منها ويستكشف عنها ارباب الذوق والكمال المنزهة عن شوائب الشكوك وظلمات الأوهام الصافية عن تخليطات العقول وتخمينات الأحلام الصالحة لان يستبصر بها ويستشهد منها الى توحيد العليم العلام القدوس السّلام
كِتابٌ جامع لجميع فوائد الكتب المنزلة وأحكامها وإشاراتها ناطق لعموم الأحوال الواقعة في النشأة الاولى والاخرى قد(1/242)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا هادي المضلين تقوية لك وترويجا لما أمرت به فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ضيق وتعب حاصل مِنْهُ اى من نشره وتبليغه مخافة الأعداء بل انما انزل إليك لِتُنْذِرَ بِهِ اى بانذاراته وتخويفاته من ضل عن طريق الحق واعرض عنه جهلا وعنادا وَتذكر بمواعيده وتبشيراته من وفقه بتذكر الموطن الأصلي والمنزل الحقيقي إذ هو ذِكْرى وتذكرة نافعة لِلْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدة الحق المتوجهين نحوه بالعزيمة الصحيحة
اتَّبِعُوا ايها المؤمنون المتوجهون نحو توحيد الذات عموم ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ على لسان نبيكم وَلا تَتَّبِعُوا سيما بعد بعثته ودعوته مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءَ توالونهم وتراجعون إليهم في الوقائع والخطوب من الجن والانس إذ هو صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبوة فعليكم ان تتبعوه صلّى الله عليه وسلّم كافة وان كان قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ اى شر ذمة قليلة منكم تتعظون بعظته وتذكيره لميلكم الى اهوية نفوسكم من الجاه والمال والرياسة المستلزمة للتفوق على الأقران
وَعليكم ان لا تغتروا بها بل تذكروا كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ اى كثيرا من اهل قرية ذوى بطر وثروة أَهْلَكْناها بانزال قهرنا إليها حين استحقوا الهلاك بسبب كفرهم وظلمهم فَجاءَها بَأْسُنا غضبنا وقهرنا عليها بَياتاً حال كونهم راقدين في مضاجعهم ليلا رقود البطر والغفلة أَوْ هُمْ قائِلُونَ مستريحون وقت الضحوة الكبرى تنعما وحضورا
فَما كانَ دَعْواهُمْ اى دعاؤهم وتضرعهم حين إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا وظهر عليهم آثار قهرنا إِلَّا أَنْ قالُوا متضرعين مقرين معترفين إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وبعد ما اعترفوا بظلمهم ملحنين لا نبالى باعترافهم وإقرارهم
بل فَلَنَسْئَلَنَّ اى لنستكشفن ونظهرن في النشأة الاخرى أحوالهم التي كانوا عليها في النشأة الاولى أولا من الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ما فعلوا برسلهم حين دعوتهم الى اطاعتنا وانقيادنا وَبعد ما ظهر منهم ما ظهر لَنَسْئَلَنَّ ثانيا عن أحوالهم من الْمُرْسَلِينَ المبلغين لهم أوامرنا ونواهينا عن قبولهم وتكذيبهم وتصديقهم وبعد ما ظهر ايضا منهم ما ظهر
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ جميع أحوالهم وأعمالهم التي صدرت عنهم على التفصيل بِعِلْمٍ لا يعزب عنه شيء من صنائعهم وَكيف يخرج عن حيطة حضرة علمنا شيء من أعمالهم إذ ما كُنَّا غائِبِينَ عنهم بحال من الأحوال بل قد كنا حاضرين معهم شاهدين بعموم أحوالهم وأعمالهم مطلعين عليها بعد الكشف والسؤال على التفصيل
وَالْوَزْنُ الموضوع لانتقاد اعمال العباد يَوْمَئِذٍ اى وقت كشف السرائر وانكشاف الحجب الْحَقُّ اى الثابت المحقق لئلا يبقى للعصاة مجادلة مع الله فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بكثرة الطاعات ووفور الخيرات والمبرات فَأُولئِكَ السعداء المبرورون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بقلة الطاعات وكثرة المعاصي فَأُولئِكَ الأشقياء المردودون هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وما ربحوا لها في الابتلاء بِما كانُوا اى بشؤم ما كانوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا يَظْلِمُونَ ويكذبونها ظلما وعدوانا
وَمن كمال لطفنا وجودنا إياكم يا بنى آدم انا لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي مستقر الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ من الملايمات كي تعيشوا بها مترفهين متنعمين شاكرين لنعمنا صارفين عموم ما وهبنا لكم الى ما خلقناه لأجله ومع ذلك الفضل العظيم واللطف العميم قَلِيلًا ما اى في غاية القلة منكم تَشْكُرُونَ نعمنا بل تكفرون أكثرها وتصرفونها الى مقتضيات اهويتكم الفاسدة وآرائكم الباطلة
وَمن عموم جودنا وكرمنا معكم لَقَدْ(1/243)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
خَلَقْناكُمْ وقدرنا تعيناتكم وأظهرنا هوياتكم أولا من كتم العدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ وزيناكم بمقتضيات اوصافنا وأسمائنا وخلقناكم باخلاقنا ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ المهيمين المستغرقين بمطالعة جمالنا اسْجُدُوا اى تذللوا وتواضعوا لِآدَمَ المصور على صورتنا تعظيما لأمرنا وتكريما له إذ هو مرآة مجلوة تحاكى عن عموم اوصافنا وأسمائنا وترشدكم الى وحدة ذاتنا وبعد ما شاهدوا آثار عموم اوصافنا وأسمائنا عليه فَسَجَدُوا له جميعا متذللين إِلَّا إِبْلِيسَ الذي هو رأس جواسيس النفوس الخبيثة لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ مع كونه من زمرتهم ومن عدادهم حين أمروا
ثم لما امتنع إبليس عن سجود آدم قالَ سبحانه إظهارا لما تحقق في علمه وكمن في غيبه من خبث طينة إبليس ما مَنَعَكَ يا إبليس أَلَّا تَسْجُدَ لخليفتى ولا تمتثل بأمري وقت إِذْ أَمَرْتُكَ مع رفقائك قالَ إبليس في الجواب حسب هويته الباطلة واهويته الفاسدة أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وأفضل إذ قد خَلَقْتَنِي يا مولاي مِنْ نارٍ منير وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ مظلم كدر ولا يحسن تذلل الفاضل للمفضول المرذول وبعد ما امتنع إبليس عن مقتضى الأمر الوجوبي ولم يتفطن بسره الذي هو التوحيد الذاتي إذ الأمر بسجود المظهر الجامع والظل الكامل انما هو امر في الحقيقة بالتوجه نحو ذي الظل الذي هو الذات الاحدية والمعبود الحقيقي المتجلى عليه رده سبحانه وطرده عن ساحة عز حضوره
حيث قالَ سبحانه مهددا إياه مبعدا فَاهْبِطْ ايها المطرود الملعون وابعد مِنْها من ساحة عز التوحيد وجنة الذات المقتضية اللائقة المستحقة للتذلل والتخشع ورفض الالتفات الى الغير والسوى مطلقا فَما يَكُونُ اى ما يصح وما يجوز لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها بادعاء التفضل والتفوق المقتضى للاضافات الناشئة من انانيتك الباطلة فَاخْرُجْ منها مطرودا مخذولا إِنَّكَ حيث كنت واين أنت مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين المحرومين بل أنت بخباءتك هذه سبب صغار عموم الأذلاء وسائر الأشقياء ثم لما ايس إبليس عن القبول وحرم عليه ساحة عز الحضور بسبب إبائه عن سجود آدم وامتناعه قالَ إبليس منتقما من آدم متضرعا الى ربه أَنْظِرْنِي وأمهلني يا ربي فيما بينهم لاضلهم واغويهم إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
قالَ سبحانه إظهارا للسر الذي قد أسلفناه في سورة البقرة إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فيما بينهم ليتميز المحق منهم عن المبطل والمهدى عن الغوى
قالَ إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي اى بسبب ما بعدتنى وطردتني يا رب لأجلهم لَأَقْعُدَنَّ والزمن انا البتة لَهُمْ اى لإغوائهم واضلالهم صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ اى على دينك وطريقك الذي أنت حسب حكمتك قد وضعت فيما بينهم لتوصلهم الى طريق توحيدك فاغويهم وارديهم دائما وأوسوس عليهم مستمرا بأنواع الوسوسة بعضهم بالفسق والظلم وبعضهم بالرياء والسمعة وبعضهم بالمخايل الفاسدة من اللذات الوهمية والخيالية وبالجملة اوسوسهم والبس عليهم لاخرجهم بأنواع المكر والحيل عن جادة توحيدك وصراطك المستقيم
ثُمَّ بعد ما اثر وسوستي في نفوسهم وسرى الى سرهم وقلوبهم لَآتِيَنَّهُمْ من جميع جهاتهم وجوانبهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ اى لضلهم بالمعاصي الحاصلة من قدامهم وكذا بالمعاصي الحاصلة مِنْ خَلْفِهِمْ وَايضا عَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَبالجملة استسخرهم واحيط عليهم باغوائى ووسوستي الى حيث لا تَجِدُ يا معز كل ذليل ومذل كل عزيز حين رجعوا نحوك وحصلوا دونك أَكْثَرَهُمْ بعد رجوعهم إليك شاكِرِينَ صارفين ما أوليتهم من النعم الى ما امرتهم
ثم لما طرده الحق وأبعده وانظره ابتلاء لعباده قالَ سبحانه اخْرُجْ ايها المردود المطرود مِنْها اى(1/244)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
من عرصة اهل الوحدة وجنة التوحيد مَذْؤُماً حال كونك حاملا للمذمة والمذلة مَدْحُوراً مطرودا مستوجبا للعنة مستحقا بها وافعل بهم ما شئت والله لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ بعد ما أظهرتهم على صورتي وكرمتهم بكرامتي على جميع خليقتي ونفخت فيهم من روحي وتجليت عليهم بعموم أوصافي وأسمائي وأرسلت إليهم رسلي وانبيائى وأنزلت عليهم كتبي لتبيين طريق توحيدي ولا سيما قد نبهت لهم عداوتك وتضليلك إياهم ووسوستك عليهم وبالغت في تخويفهم عنك وعن اغرائك وتغريرك عليهم بما يذلهم ويغويهم ويزيلهم عن صراط توحيدي وجادة هدايتي لأطردنهم البتة عن عز حضورى واخرجنهم عن جنة سروري واعلموا يا بنى آدم انى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ البعد وسعير الخذلان مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ان اتبعتم عدوى وعدوكم إبليس فعليكم ان تجتنبوا عن غوائله
وَبعد ما طرد سبحانه إبليس بشؤم ما امتنع من تكريم آدم قال سبحانه لآدم ابتلاء له واختبارا وتوصية له بحفظ مرتبته مناديا له على سبيل الترحم يا آدَمُ المكرم المسجود اسْكُنْ أَنْتَ بمتابعة عقلك الموهوب لك المفاض من العقل الكل الذي هو حضرة علمنا وَزَوْجُكَ بمتابعة نفسها الفائضة عليها من النفس الكلية التي هي حضرة قدرتنا الْجَنَّةَ التي هي مقر اهل التوحيد ومنزل ارباب الولاء والتجريد من الواصلين الفائزين بشرف القبول والوصول فَكُلا منها مِنْ حَيْثُ شِئْتُما واحظظا من لذاتها الروحانية من حقائقها ومعارفها وشهوداتها وكشوفاتها وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ التي هي من اغذية انفسكم الامارة ومن اهوية هوياتكم البهيمية التي بها بعدكم وافتراقكم عن الله تعالى وانحرافكم عن طريق توحيده فَتَكُونا بتقربها وتناولها مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الأمر والحكم الإلهي المستحقين لطرده ومقته
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ اى أوقعهما في الدغدغة بأمر الشجرة وان كان وسوسته ايضا من مقتضيات الحكمة المتقنة الإلهية بعد ما وصاهما الحق سبحانه ونهاهما عنه وليس غرضه الا نزع لباس الصيانة والتقوى عنهما لِيُبْدِيَ اى يظهر لَهُما ما وُورِيَ اى غطى وستر عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما التي هي من مقتضيات بشريتهما ومن نتائج هويتهما الباطلة وَبعد ما اشربهما الوسوسة واثرت فيهما قالَ على وجه الشفقة والنصيحة وارادة الخير ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ المباركة المزيحة عنكم لوث بشريتكم إِلَّا كراهة أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ بتناولها أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ فيها
وَبعد ما نصحهما واشفقهما وسمعا منه ما سمعا قاسَمَهُما اى بادر الى القسم تأكيدا وترويجا لقوله إياهما ونصحه لهما قائلا والله إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ المشفقين المريدين خيركما
وبالجملة فَدَلَّاهُما اى اسقطهما عن معالى العز الى مهاوي الذل بِغُرُورٍ قد غرهما به على وجه الانتقام فَلَمَّا سمعا قوله وقبلا غروره ذاقَا الشَّجَرَةَ مطمعين على ما اغريهما من الشرف والخلود وبعد ما ذاقا منها بَدَتْ وظهرت لَهُما سَوْآتُهُما عوراتهما إذ قد نزع عنهما لباس التقوى وثياب العصمة أولا وَبعد ما نزع لباسهما وظهر سوآتهما طَفِقا وأخذا يَخْصِفانِ يلصقان ويلزقان عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ اى أشجارها قيل هي التينة وقيل الكرمة وَبعد ما بدى منهما ما بدى ناداهُما رَبُّهُما موبخا مقرعا أَلَمْ أَنْهَكُما ايها المسرفان المفسدان عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَالم أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ المضل المغوى لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة شديد الخصومة ولا تسمعا قوله ولا تتبعا امره
ثم لما سمعا من ربهما ما سمعا قالا متضرعين متذللين معترفين على زلتهما رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الهداية والرشد قد ظَلَمْنا(1/245)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
أَنْفُسَنا بمتابعة عدونا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا ولم تتجاوز عنا وَلم تَرْحَمْنا بفضلك وجودك لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا عظيما
ثم لما صدر منهما ما صدر بوسوسة عدوهما امر سبحانه باخراجهما عن دار السرور الى دار الابتلاء والغرور حيث قالَ سبحانه اهْبِطُوا اى انزلوا وانحطوا ايها المتجاوزون عن حدودنا أصلا وفرعا تابعا ومتبوعا عن مقر العز ومرتبة الإطلاق والتجريد الخالي عن عموم الإضافات والتقييد الى محل الكون والفساد ومنزل البغي والعناد إذ بَعْضُكُمْ في دار الدنيا التي هي نشأة الاختبار والابتلاء لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ابدا لا يرتفع الخصومة عنكم أصلا وَلَكُمْ ايها المتخاصمون فِي الْأَرْضِ التي هي مرتع الطبيعة ومحل الفتن مُسْتَقَرٌّ موضع قرار وَمَتاعٌ اى تمتع وتنعم من لذاتها وشهواتها إِلى حلول حِينٍ قدر الله سبحانه بمقتضى حكمته لانقضاء آجالكم وانقطاع آمالكم ثم لما تحيرا واضطربا في أمرهما وفساد حالهما
قالَ سبحانه منبها عليهما فِيها اى في ارض الطبيعة تَحْيَوْنَ بالحيوة المستعارة الطبيعية وَفِيها ايضا تَمُوتُونَ بالموت الطبيعي وَمِنْها ايضا تُخْرَجُونَ لجزاء ما اقترفتم من خير وشر وتقرب وتبعد عن الحق في حياتكم الطبيعية التي هي دار الابتلاء ومزرعة الأجر والجزاء ان خيرا فخير وان شرا فشر. ثم قال سبحانه مناديا لكم ايها المكلفون في مقام الامتنان وتعديد النعم والإحسان لتواظبوا بشكر نعمه وتداوموا على أداء حقوق كرمه وتحافظوا على انقياده وأطاعته بعد ما صدر عنكم الكفر والكفران والخروج عن مقتضى الأوامر والنواهي
يا بَنِي آدَمَ المجبولين على فطرة الخلافة والنيابة قَدْ أَنْزَلْنا من مقام فضلنا وجودنا عَلَيْكُمْ لِباساً اى عقلا مفاضا مدبرا يُوارِي ويستر بتدبيره سَوْآتِكُمْ اى عموم مقتضيات بشريتكم ولوازم بهيميتكم وَوهبنا لكم ايضا من وفور لطفنا عليكم رِيشاً اى معارف وحقائق نزينكم ونميزكم بها عن جميع المخلوقات ونستخلفكم بسببها من بين سائر البريات وَاعلموا ان أفضل اوصافكم وأكملها وأجملها لِباسُ التَّقْوى عن محارم الله والاجتناب عن عموم منهياته ومحظوراته فعليكم ان تلبسوها وتتحفظوا بها عن عموم ما لا يليق لمرتبتكم وفطرتكم وبالجملة ذلِكَ اى لباس التقوى خَيْرٌ لكم وحقيق بحالكم ورتبتكم ان أردتم ان تصلوا الى مرتبة التوحيد التي قد جبلتم لأجلها ذلِكَ اى المنزل المذكور مِنْ جملة آياتِ اللَّهِ الدالة على استقلاله سبحانه في ألوهيته وكمال استحقاقه في ربوبيته انما أنزلها عليهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ رجاء ان يتذكروا نعمه فيعرفوا المنعم وينكشفوا بتوحيده
ثم ناداهم سبحانه ثانيا وأوصاهم بقوله يا بَنِي آدَمَ مقتضى خلافتكم ونيابتكم ان لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ اى لا يوقعنكم في الغي والضلال بفتنته ووسوسته كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ بالفتنة والغرور مِنَ الْجَنَّةِ التي هي دار السرور ومنزل الحضور وأهبطهما بوسوسته الى الأرض التي هي محل المحن والشرور حيث يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما اى تسبب للنزع بتغريرهما واغرائهما الى تناول المنهي عنه لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما انتقاما عنهما وتفضيحا لهما فعليكم ايها الأبناء والذراري ان تجتنبوا عن غوائله وتتعوذوا الى الله عن عموم مخايله وتتخذوه سبحانه وقاية ووكيلا حتى تتخلصوا عن وسوسة شياطين الأهواء وتسويلات القوى الامارة المائلة الى المكر والمراء وعليكم ان لا تغفلوا عنه بحال إِنَّهُ دائما يَراكُمْ ويرقبكم هُوَ اى الشيطان نفسه وَقَبِيلُهُ اى جنوده الامارة بالسوء رؤية صادرة عن محض العداوة والطغيان مِنْ حَيْثُ اى من مكان(1/246)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
لا تَرَوْنَهُمْ أنتم إياهم إذ هم مرتكزون في نفوسكم يضلونكم ويغوونكم على صورة الهداية والإرشاد فعليكم ان تخالفوا اهوية نفوسكم مطلقا وتجانبوا عن مناها ومشتهياتها ومع ذلك تضرعوا نحونا وتعوذوا بنا من غوائلهم ومخايلهم إِنَّا جَعَلْنَا بمقتضى حكمتنا المتقنة الشَّياطِينَ اى عموم الطواغيت المضلة عن سواء السبيل أَوْلِياءَ مسلطين مستولين لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بوحدة ذاتنا واستقلال استيلائنا وبسطتنا على ذرائر عروش ملكنا وملكوتنا
وَمن علامة تسليطنا إياهم انهم إِذا فَعَلُوا اى الكافرون الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية بتغرير الشياطين ووسوستهم فاحِشَةً اى فعلة ذميمة قبيحة متناهية في القبح والشناعة فنهوا عنها وأمروا بالكف والترك على لسان رسلنا وانبيائنا قالُوا في الجواب مصرين قد وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَهم يقولون اللَّهُ أَمَرَنا بِها في ما انزل علينا على لسان نبينا فيما مضى قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا إِنَّ اللَّهَ العليم الحليم الهادي لعباده الى طريق توحيده لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ المنافية للعدالة الإلهية المسقطة للمروة مطلقا أَتَقُولُونَ ايها المفترون عَلَى اللَّهِ المنزه عن شوب النقص وسمته مطلقا ما لا تَعْلَمُونَ لياقته بشأنه تعالى عما يقول الظالمون
قُلْ يا أكمل الرسل قد أَمَرَ رَبِّي حسب فضله ولطفه على وعلى عموم من أمرهم ونهاهم من عباده بِالْقِسْطِ والعدل السوى في جميع مأموراته ومنهياته بلا ميل الى جانبي الإفراط والتفريط وَعليكم ايها المؤمنون ان أَقِيمُوا واستقيموا وُجُوهَكُمْ التي بها ميلكم وتوجهكم نحو الحق بلا ميل الى ما سواه سيما عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ومقام تتذللون فيه وتتوجهون نحوه وتبثونه لأجله وَبالجملة ادْعُوهُ وتوجهوا نحوه حال كونكم مستقيمين في إطاعتكم وانقيادكم مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ اى الطاعة والانقياد بلا شوب الميل الى الغير والسوى مطلقا واعلموا ايها الاظلال الزائلة والعكوس الهالكة المستهلكة في اشعة شمس الذات كَما بَدَأَكُمْ الله وأظهركم من كتم العدم بمد ظله إليكم ورش نوره عليكم تَعُودُونَ نحوه بقبض الظل وطيه فانظروا ما أنتم عليه ايها الاظلال الهلكى
ومع ذلك فَرِيقاً منكم هَدى بتوفيق الله الى مبدأه ومعاده وَفَرِيقاً آخر وقد ضل وغوى لذلك حَقَّ وثبت واستقر عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ في مكمن القضاء وكيف لا يحق ولا يحيط بهم الضلال إِنَّهُمُ من غاية غفلتهم وغرورهم قد اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ وأخذوهم أَوْلِياءَ آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد المتوحد بذاته وَيَحْسَبُونَ بسبب هذا الاتخاذ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ الى طريق النجاة بل هم ضالون تائهون
يا بَنِي آدَمَ المجبولين على زي التقوى ولباس السلامة خُذُوا زِينَتَكُمْ التي زينكم الله بها من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات سيما عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ومقام معد للميل والتوجه نحو الحق بوجوهكم التي تلى الحق وَمع ذلك لا تهملوا امر مراكبكم التي هي نفوسكم وهوياتكم لئلا تبطلوا صنع الله ولا تخربوا بنيانه بل كُلُوا مقدار سد الجوعة مما اباحه الله تعالى لكم وَاشْرَبُوا قدر دفع العطش من المباح وَلا تُسْرِفُوا فيهما بحيث يؤدى الى تقوية القوى البهيمية إِنَّهُ سبحانه حكيم في عموم افعال عباده عليم بمقاديرها لذلك لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين عن حد الحكمة والعدالة ولا يرضى عن فعلهم هذا لاخلال اسراف الاكل والشرب على الميل المعنوي الذي هم جبلوا لأجله إذ الشبع يميت القلب وينقص الجودة الانسانية ويزيد القوى البهيمية
قُلْ يا أكمل الرسل للمحجوبين من اهل الظاهر(1/247)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
المحرومين عن الرزق المعنوي المحرمين لأنفسهم التوجه نحو التوحيد الذاتي في هذه النشأة مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ واظهر لِعِبادِهِ الخلص المخصوصين المختصين من ذرائر الكائنات بتجليات الأسماء والصفات الذاتية وَكذا من حرم الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المعنوي والمستلذات الروحانية قُلْ لهم يا أكمل الرسل هِيَ حاصلة حاضرة مشهودة مشاهدة لِلَّذِينَ آمَنُوا بالتوحيد الإلهي فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والنشأة الاولى ايضا لكنها مشوبة مخلوطة بالقوى البشرية والكدورات البهيمية فتصير خالِصَةً ممتازة لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بلا شوب كدورة وخلط غفلة حين انتزعوا عن جلباب الهويات الباطلة في البسة التعينات العاطلة مطلقا كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ الدالة على توحيدنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ علما يقينا ويتوجهون نحو الكشف والعيان
قُلْ يا أكمل الرسل المولى لتدبير مصالح عموم العباد إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ والقبائح الصادرة عن ذوى الأحلام السخيفة والنفوس الخبيثة ما ظَهَرَ مِنْها وسرى أثرها الى الغير من الظلم وشهادة الزور ورمى المحصن والغيبة والنميمة وغيرها من القبائح التي قد صدرت من الالسنة والأيدي وتعدت آثارها الى الغير وَكذا ما بَطَنَ من القبائح التي صدرت من الفروج وما يترتب عليها ويؤدى إليها من مقدماتها وَبالجملة كل ما يوجب الْإِثْمَ المستلزم للانتقام والعقاب شرعا وَالْبَغْيَ اى الخروج على الولاة وجمهور المسلمين بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا رخصة شرعية وَاعلموا ان أعظم المحرمات جرما وأشدها انتقاما عند الله أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشركة مطلقا ما اى شيأ من مصنوعاته مع انه لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً اى حجة وبرهانا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ افتراء ومراء ما لا تَعْلَمُونَ ثبوته له لا عقلا ولا نقلا
وَاعلموا ان لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم العاصية الضالة أَجَلٌ مقدر من عند الله لمقتهم وهلاكهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المقدر المبرم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ اى لا يسع لهم فيه لا طلب التأخير بمقتضى اهويتهم ولا طلب التقديم تخليصا لنفوسهم من الأذى بل امره حتم نازل في وقته وحينه بلا تخلل تقدم وتأخر لكمال قدرته سبحانه ومتانة حكمه وحكمته
يا بَنِي آدَمَ المستكملين القابلين للإرشاد والتكميل المستعدين لفيضان كمال التوحيد إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ اى ان يأتينكم ويرسلن إليكم رُسُلٌ مِنْكُمْ اى من جنسكم وبنى نوعكم إذ هم ادخل لنصحكم وإرشادكم وانسب لجذب قلوبكم واشفق عليكم من الأجانب حال كونهم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي المنزلة من عندي الدالة على وحدة ذاتى فعليكم ان تصدقوهم وتؤمنوا لهم وبعموم ما جاءوا به من عندي من الأوامر والنواهي فَمَنِ اتَّقى منكم عن محارم الله بواسطة رسله وآياته وَأَصْلَحَ اى أخلص اعماله لله بلا ترقب على الأجر والجزاء فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لا في النشأة الاولى ولا في الاخرى وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عن سوء المنقلب والمثوى
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها وعن من أنزلت اليه عتوا وعنادا أُولئِكَ المكذبون المستكبرون أَصْحابُ النَّارِ المعدة لجزاء المخذولين من اهل الضلال هُمْ فِيها خالِدُونَ لا نجاة لهم منها أصلا نعوذ بك من سخطك يا ذا القوة المتين وبعد ما أرسل الرسل وانزل الكتب
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ المنزه عن عموم الفرية والمراء كَذِباً ونسب اليه سبحانه ما لم يصدر عنه افتراء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ الصادرة عنه عنادا ومكابرة أُولئِكَ المفترون المكذبون يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ اى مما كتب في اللوح المحفوظ وثبت فيه(1/248)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
من العذاب والنكال لذوي الجرائم والآثام حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ اى ملائكتنا الموكلون عليهم لقبض أرواحهم قالُوا لهم توبيخا وتقريعا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ وتعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ وتعتقدونهم شفعاء شركاء قالُوا متضرعين مضطرين قد ضَلُّوا عَنَّا وغابوا عن أعيننا بعد ما أضلونا عن طريق الحق وَشَهِدُوا حينئذ واعترفوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا في مدة حياتهم كافِرِينَ ضالين عن طريق الحق ساترين له
قالَ سبحانه من وراء سرادقات العز والجلال بمقتضى عدله السوى ادْخُلُوا ايها الضالون المكذبون فِي زمرة أُمَمٍ عاصية كافرة قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِكُمْ على الكفر والضلال أمثالكم كائنة مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ المعدة لجزاء العصاة الغواة الكفرة وبعد صدور الأمر الوجوبي منه سبحانه صار الأمر والشان بحيث كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ في نار الخذلان وسجن الحرمان لَعَنَتْ أُخْتَها التي اضلتها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا اى تداركوا وتلاحقوا فِيها جَمِيعاً مزدحمين مجتمعين قالَتْ أُخْراهُمْ اى تابعوهم ومتأخروهم لِأُولاهُمْ لأجل متبوعيهم ومقدميهم وفي حقهم مشيرين إليهم متضرعين الى الله رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الهداية والرشد هؤُلاءِ الضالون المضلون قد أَضَلُّونا عن طريق هدايتك وارشادك بوضع سنن الغي والضلال بيننا فاقتدينا بهم وبسننهم فضللنا فَآتِهِمْ الآن وانزل عليهم عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ اى مثلي عذابنا لأنهم ضالون مضلون قالَ سبحانه بمقتضى عدله القويم لِكُلٍّ منكم ايها الاتباع والمتبوعون ضِعْفٌ من النار اما المتبوعون فلضلالهم واضلالهم واما التابعون فاضلالهم في أنفسهم وتقليدهم بهؤلاء الغواة المضلين لا بالأنبياء الهادين وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أنتم لا استحقاقكم ولا استحقاقهم
وَبعد ما سمعت الاولى المتبوعون المضلون من الاخرى الضالين التابعين ما سمعت قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ انا وأنتم مستوون في الضلال فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ تستحقون به تخفيفا بل فَذُوقُوا الْعَذابَ أنتم بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كما نذوقه بما نكسب
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يؤمنوا بها عتوا وعنادا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ اى سماء الأسماء والصفات الإلهية والأعيان الثابتة الجبروتية حتى يفيض عليهم من الفيوضات والفتوحات اللاهوتية لينكشفوا بوحدة الذات الاحدية وَبالجملة هم لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ اى مقر الوحدة الذاتية حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ اى دخولهم في مقر الوحدة وحيطتها في الاستحالة كولوج الجمل في سم الخياط بل أشد استحالة وامتناعا منه هذا مثل يضرب في الممتنعات والمستحيلات مبالغة وَبالجملة كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ المخرجين عن ساحة عز الوحدة بجرائم اهوية هوياتهم الباطلة
وبالجملة لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ اى من لوازم الإمكان مِهادٌ وفراش يحترقون عليه بنيران الامنية والآمال الطويلة وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ اى اغشية وأغطية متخذة من سعير الجاه والمال ودعوى الفضل والكمال وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى الحدود الإلهية بمقتضيات نفوسهم المنغمسة في اللذات الحسية والوهمية والخيالية
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد وَالَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة نحوه بمقتضى استعداداتهم وقابلياتهم وبمقدار وسعهم وطاقتهم تأكيدا لإيمانهم مع انا لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ السعداء الباذلون مهجهم وجهدهم في سلوك سبيل الفناء أَصْحابُ الْجَنَّةِ المعدة لأرباب المحبة والولاء(1/249)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
المتمكنين في مقام الرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء هُمْ فِيها خالِدُونَ ما شاء الله إذ لا حول ولا قوة الا بالله
وَبعد ما دخلوا جنة الوحدة نَزَعْنا اى امطنا وأخرجنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ مشعر بالاثنينية والأنانية ليتمكنوا في مقر الوحدة مطمئنين متوجهين إذ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى جداول المعارف المترشحة من بحر الوجود وَبعد ما كوشفوا بفناء تعيناتهم وفوزوا بالبقاء السرمدي الإلهي قالُوا بلسان استعداداتهم بإلقاء الله إياهم بعد ما تحققوا بمقام الشكر الْحَمْدُ والثناء المنبعث عن محض التسليم والرضا ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي هَدانا لِهذا اى أوصلنا بمقام الرضا بالقضاء وشرف اللقاء والفوز بالبقاء وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ بأنفسنا لو بقينا في حبس هوياتنا وسجن تعيناتنا لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ المنعم المفضل بمقتضى لطفه وسعة رحمته وجوده وحين تمكنوا في مقام الكشف والشهود اقسموا بالله متبركا متيمنا لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا لإرشادنا وتكميلنا متلبسين بِالْحَقِّ المطابق للواقع وعموم ما جاءوا به وبعد ما تحققوا بمقام الشكر وَاعترفوا بما اعترفوا نُودُوا من وراء سرادقات المعظمة والجلال أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ اى الوحدة الذاتية أُورِثْتُمُوها اى قد أعطيتموها وتمكنتم فيها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بمقتضى أوامر الله ونواهيه وارشاد رسله وتذكير كتبه
وَبعد ما قد تمكن اهل الجنة في الجنة واهل النار في النار نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ليفتضحوا على رؤس الاشهاد أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من المواعيد والتبشيرات على السنة رسله وكتبه حَقًّا صدقا يقينا بعد ما تيقناه علما ويقينا في ما مضى فَهَلْ وَجَدْتُمْ ايها المحبوسون في سجن الإمكان ونار الحرمان ما وَعَدَ رَبُّكُمْ لكم من الوعيدات الهائلة والإنذارات الشديدة الجارية على السنة الرسل والكتب حَقًّا مطابقا للواقع أم لا قالُوا متحسرين متأسفين مضطرين مضطربين عما هم عليه نَعَمْ الآن قد أصبنا ما كذبنا وحققنا ما أبطلنا وأيقنا ما أنكرنا وبعد ما جرى بينهم من المقالة ما جرى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ اى هتف هاتف من وراء سرادقات العظمة والجلال الا أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ المنتقم الغيور وطرده وتبعيده نازل ثابت عَلَى الظَّالِمِينَ
الَّذِينَ يَصُدُّونَ ينصرفون وينحرفون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ المستقيم الموصل الى جنة الوحدة وروضة التسليم وَيَبْغُونَها اى يطلبون ان يحدثوا فيها عِوَجاً ويوقعوا فيها زيغا وضلالا وينصرفوا عنها انصرافا وانحرافا وَبالجملة هُمْ قد كانوا بِالْآخِرَةِ المعدة للجزاء وتنقيد الأعمال كافِرُونَ مكذبون لها منكرون بها
وَبَيْنَهُما اى بين الموحدين المتمكنين في نعيم الجنان المشرفين بشرف لقاء الرّحمن وبين المشركين المحبوسين في سجن الإمكان المحترقين بنيران الحرمان حِجابٌ لا يدرك كنهه الا العليم العلام وَعَلَى الْأَعْرافِ اى البرزخ المعهود رِجالٌ من الأبرار يَعْرِفُونَ كُلًّا من الفريقين بِسِيماهُمْ اى بوجوههم التي يلي الحق والباطل وهم متقررون في البرزخ لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء وَنادَوْا اى اهل البرزخ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ هنيئا لكم ما تتنعمون فيها وتتمتعون بها مع انهم وان لَمْ يَدْخُلُوها بعد وَهُمْ يَطْمَعُونَ دخولها اتكالا على فضل الله وسعة رحمته وجوده
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ بغتة اى ابصار اهل البرزخ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا متضرعين متخشعين رَبَّنا وان صدر عنا ما صدر من التقصير لا تَجْعَلْنا حسب لطفك وجودك مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات حدودك مطلقا عنادا وإصرارا
وَنادى(1/250)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
أَصْحابُ الْأَعْرافِ على سبيل التوبيخ والتقريع رِجالًا من صناديد اصحاب النار قد كانوا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ اى بوجوههم الباطلة العاطلة المبعدة عن الحق من المال والجاه والثروة والنخوة والرياسة وغيرها قالُوا لهم متهكمين متعرضين ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ اى ما أسقط جمعكم المال وجمعيتكم بسبب الجاه والثروة شيئا من عذاب الله وما دفع عنكم من نكاله وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ اى ما يفيدكم استكباركم على خلق الله وآياته اليوم انظروا ايها الحمقى الهالكون
أَهؤُلاءِ المترفهون المتنعمون في مقر العز والتمكين هم الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أنتم في النشأة الاولى مستهزئين لهم متهكمين لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ وفضل في النشأة الاخرى ايضا كما لم ينالوا في الاولى انظروا كيف حالهم فيها وكيف قيل لهم كرامة وتكريما من قبل الحق تفضلا عليهم وامتنانا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي هي دار الأمن والامان ومنزل الفرح والسرور لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ اليوم بعد ما دخلتم فيها وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ من فوت شيء وتعويقه
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ صارخين مستغيثين متمنين متحسرين أَنْ أَفِيضُوا وصبوا عَلَيْنا مِنَ رشحات الْماءِ الذي هو سبب حياتكم الحقيقية وبقائكم السرمدي أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الجواد الكريم من الرزق الصوري والمعنوي قالُوا في جوابهم بالهام الله إياهم إِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده قد حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي هو سبب حياتهم الحقيقية في هذه النشأة في الحيوة الدنيا والنشأة الاولى لَهْواً وَلَعِباً يلهون ويلعبون به ويكذبون من أرسل إليهم وانزل عليه الكتب لتبيينه متهكمين معه مستهزئين إياه وَما ذلك الا ان غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بمزخرفاتها من اللذات الجسمانية والشهوات النفسانية وصاروا بسبب تغريرها ناسين العهود والمواثيق التي جرت بيننا وبينهم في بدأ فطرتهم فَالْيَوْمَ اى حين انكشفت السرائر وارتفعت الحجب نَنْساهُمْ ولم نلتفت نحوهم كَما نَسُوا في النشأة الاولى لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا في النشأة الاخرى مع ورود الإنذارات والتخويفات الجارية على السنة الرسل والكتب وَما كانُوا اى وكما كانوا بِآياتِنا الدالة على أمثال هذه المثوبات والإنعامات يَجْحَدُونَ ينكرون ويصرون كذلك يخلدون في النار وينسون
وَكيف لا يخلدون في النار ولا ينسون لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ مبين لجميع احوال النشأتين واحكامهما مع انا قد فَصَّلْناهُ وأوضحنا معانيه وبينا ما فيه من العقائد والاحكام مفصلا عَلى عِلْمٍ حضورى منا متعلق بتفصيله بحيث لا يشذ عن علمنا شيء أصلا وانما فصلناه وأوضحناه وجئنا به ليكون هُدىً اى هاديا ومرشدا ودليلا يرشد ويهدى الى توحيدنا وَرَحْمَةً مخلصة عن سجن الطبيعة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به وبحقيته وبعد ما آمنوا به وبما فيه من احوال النشأة الاولى والاخرى
هَلْ يَنْظُرُونَ وما ينتظرون أولئك المؤمنون إِلَّا تَأْوِيلَهُ اى ما يئول اليه وما يترتب عليه بعد ما حصل لهم الإذعان بالوقوع يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ويظهر مآله يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ ونبذوه وراء ظهورهم مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ المطابق للواقع فكذبناهم نحن مكابرة وعنادا فَهَلْ لَنا اليوم مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا ليخلصونا من نكال ما أجرمنا أَوْ نُرَدُّ بشفاعتهم على أعقابنا فَنَعْمَلَ حينئذ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ في ايام الغفلة وبالجملة هم قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والشرك وعبادة الغير وَمع ذلك قد ضَلَّ اى غاب وخفى عَنْهُمْ لدى الحاجة ما كانُوا يَفْتَرُونَ لشركائهم من الشفاعة والمظاهرة وكيف لا تتنبهون ولا تنكشفون ايها العقلاء(1/251)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
المجبولون على فطرة التوحيد بوحدة الذات المتجلية في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ اظهر وأوجد السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما بينهما من كتم العدم بمد اظلال أوصافه وأسمائه عليها وبرش رشحات ماء الحيات المترشحة من بحر الوجود إياها فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اوقات تارات ودفعات ليشير بها الى احاطتها بالجهات كلها ثُمَّ اسْتَوى واستولى عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش عموم المظاهر والمكونات الكائنة في الأقطار والآفاق منزها عن جميع الحدود والجهات وكذا عن الاستواء والاستقرار والتمكن مطلقا ورتب امور المكونات على حركات الأفلاك بحيث يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يغطى ويستر بالليل وجه النهار مع ان النهار يَطْلُبُهُ ويعقبه حَثِيثاً سريعا وَبالجملة قد جعل الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وحكمه يتحركن حيث أمرها الحق سبحانه أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة في ذات الله الفانية المضمحلة في هويته الوحدانية انه لَهُ سبحانه وفي قبضة قدرته وتحت حكمه وارادته الْخَلْقُ اى عموم الإيجاد والإظهار وَالْأَمْرُ اى مطلق التدبير والتصرف بالاستقلال والاختيار تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ اى تعاظم وتعالى في ألوهيته عن ان يدركه العقول والافهام وفي ربوبيته عن المظاهرة والمشاركة بالأمثال والأشباه مطلقا
ادْعُوا ايها المجبولون على فطرة التوحيد رَبَّكُمْ الذي قد تفرد بتربيتكم وايجادكم تَضَرُّعاً متضرعين صائحين نحوه إذ لا ملجأ لكم سواه وَخُفْيَةً مناجين معه خائفين خاشعين من صولة قهره منيبين اليه عن ظهر القلب لا متقلقلين ملقلقين على طرف اللسان عادين حاسبين وبالجملة إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين المجاهرين الملحين المقترحين في الدعاء إذ علمه بحالهم يغنيهم عن سؤالهم
وَعليكم ايها المكلفون ان لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد سيما بَعْدَ إِصْلاحِها بإرسال الرسل وإنزال الكتب وَادْعُوهُ سبحانه ان أردتم الالتجاء اليه والمناجاة معه خَوْفاً وَطَمَعاً اى خائفين من رده حسب قهره وجلاله راجين من عفوه وقبوله حسب لطفه وجماله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ المجيب لدعوة المضطرين عناية وفضلا قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ويقومون بين يديه خائفين مستحين من سطوة سلطنة قهره وجلاله راجين طامعين من فضله ونواله وَكيف لا يكون رحمته قريبة من المحسنين الموقنين
مع انه هُوَ المنعم المفضل الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ ويثيرها بُشْراً نشرا ناشرات مبشرات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى قدام روحه ورحمته حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ اى حملت وأثقلت وجمعت وركبت من البخارات المتراكمة سَحاباً غليظا ثِقالًا بالاجزاء المائية سُقْناهُ من كمال فضلنا وجودنا لِبَلَدٍ مَيِّتٍ جامد يابس لأجل احيائه ونضارته فَأَنْزَلْنا بِهِ اى بالبلد الميت او بالسحاب او بالسوق الْماءَ المحيي فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اى أجناسها وأنواعها المختلفة بالطعوم والروائح والألوان كَذلِكَ اى مثل اخراجنا بالماء الصوري انواع الثمرات من البلد الميت الصوري نخرج ايضا بالماء المعنوي الذي هو العلم اللدني من أراضي القابليات من استعدادات الموتى المحجوبين بالحجب الظلمانية والجهل الجبلي الهيولاني بإرسال رياح أنفاس الأنبياء والأولياء المستنشقة من النفس الرحمانى مبشرات بالكشوف المشاهدات حتى إذا اجتمعت وتراكمت وصارت سحابا شرعيا تكليفيا ثقالا بمياه الحكمة والتقوى سقناه من كمال فضلنا وجودنا الى بلاد(1/252)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
النفوس الميتة بالجهل الجبلي اليابسة التي لا ينبت فيها نبات العلوم اللدنية مطلقا فاجرينا فيها منها انهار المعارف وجداول الحقائق المنتشئة من قلوب الأنبياء والأولياء المكملين فأخرجنا بها ثمرات اليقين العلمي والعيني والحقي نُخْرِجُ الْمَوْتى في النشأة الاخرى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعرفون قدرتنا على عموم مقدوراتنا ومراداتنا
وَبعد سوقنا مياه جودنا الى أموات الْبَلَدُ الطَّيِّبُ الذي هو نجيب المنبت لطيف الطينة قابل التربية يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ اى بتوفيقه سبحانه وبمقتضى تربيته جيدا نافعا كثيرا بمقتضى استعداده الفطري وَالبلد الَّذِي خَبُثَ طينته وقلت قابليته كالحرة والسبخة لا يَخْرُجُ نباته بعد اجراء المياه اللطيفة عليه إِلَّا نَكِداً قليلا غير نافع بل ضار مؤلم كالنفوس المنهمكة في الغي والضلال الى حيث لا يؤثر فيها مياه الحكم والمعارف الجارية على السنة الرسل لخباثة طينتها وقلة قابليتها كَذلِكَ نُصَرِّفُ نردد ونكرر الْآياتِ الدالة على استقلالنا في ملكنا وملكوتنا لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ بنعمائنا ويتفكرون في آلائنا ويعتبرون بها الى ان يستغرقوا في مطالعة جمالنا ثم أشار سبحانه الى تفاوت الاستعدادات واختلاف القابليات بتفصيل الأمم الهالكة بموت الجهل والعناد وخبث طينتهم وردائة فطرتهم
فقال مقسما والله لَقَدْ أَرْسَلْنا رسولنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ بعد ما انصرفوا عن جادة التوحيد وانحرفوا عن طريق الحق بالميل الى الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة فَقالَ لهم نوح عليه السّلام امحاضا للنصح على وجه الشفقة والنصيحة يا قَوْمِ اعْبُدُوا ايها المنهمكون في الغفلة اللَّهَ المتوحد في الألوهية المتفرد بالربوبية المستحق للعبودية واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق غَيْرُهُ ينقذكم من عذابه فان لم تعبدوه ولم توحدوه إِنِّي بعد ما اوحى الى هدايتكم وتنبيهكم على توحيده أَخافُ ان لم تقبلوا منى ان ينزل عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم الطوفان في النشأة الاولى ويوم القيمة في النشأة الاخرى وبعد ما سمعوا منه مقالته
قالَ الْمَلَأُ الأشراف مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر لائح تأمرنا أنت بترك عبادة الآلهة المحققة الموجودة بين أظهرنا وتدعونا الى عبادة اله واحد موهوم ابدعته من عند نفسك افتراء ومراء
قالَ ايضا على مقتضى شفقة النبوة لعلهم يتنبهون يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ كما زعمتم من جهلكم وَلكِنِّي رَسُولٌ هاد لكم مرسل إليكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي أوجدكم ورباكم بأنواع التربية حتى تعترفوا بربوبيته وتقروا بتوحيده
وانما جئت لكم أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ بآياته وتذكيراته سبحانه حتى تفوزوا من عنده بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا بهدايتى وإرشادي وَلا تضعفونى ولا تنسبونى الى الجهل والسفه انى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ الحكيم العليم بمقتضى توفيقه على وحيه الى ما لا تَعْلَمُونَ أنتم منه سبحانه ذلك
أَكذبتموني وانكرتمونى وَعَجِبْتُمْ من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ موعظة وتذكير لإرشادكم ناش مِنْ رَبِّكُمْ عَلى لسان رَجُلٍ مؤيد من عند الله مستحدث مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ به عن الكفر وعموم المعاصي ووخامة عاقبتهما وَلِتَتَّقُوا عن محارم الله بسبب إنذاره وتخويفه وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بإتيان مأموراته وترك منهياته عناية وتفضلا
فَكَذَّبُوهُ بعد ما ضعفوه ونسبوه الى الضلال والجنون فانتقمنا منهم وأخذناهم بالطوفان فَأَنْجَيْناهُ وَالمؤمنين الَّذِينَ مَعَهُ داخلين فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسولنا وبالجملة إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ غير مستبصرين بآيات الله الدالة على توحيده لقساوة قلوبهم وشدة عمههم(1/253)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
في الغفلة والضلال
وَلقد أرسلنا ايضا إِلى قوم عادٍ حين خرجوا عن ربقة الايمان وعروة التقوى أَخاهُمْ هُوداً اضافه إليهم بالاخوة المنبئة عن كمال الشفقة ووفور الاعطاف والمروءة قالَ مناديا مضيفا لهم الى نفسه ليقبلوا قوله ويمتثلوا بما جاء به من ربه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ المظهر الموجد لكم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم واعتقدوا يقينا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ موجد مرب غَيْرُهُ فعليكم ان تعبدوه ايمانا به وعملا بما جاء من لدنه على أنبيائه ورسله حتى تتحققوا بمقر التوحيد وتتمكنوا في مقعد الصدق أَتنكرون وحدة الحق وتعبدون غيره من الآلهة الباطلة العاطلة فَلا تَتَّقُونَ ولا تحذرون عن بطشه واخذه
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إذ بعض الأشراف قد آمن به كمرثد بن سعد إِنَّا لَنَراكَ يا هود فِي سَفاهَةٍ عظيمة في دعوى الإرشاد والتكميل وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ في ادعاء الرسالة والنبوة مِنَ الْكاذِبِينَ
قالَ يا قَوْمِ لا تسفهوني ولا تكذبوني إذ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ من الله مرسل إليكم لهدايتكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ
انما جئتكم أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ فعليكم ان تتعظوا بعظتى وتتصفوا بعموم ما نصحت لكم بالهام الله إياي ووحيه لتكونوا من زمرة المؤمنين الموقنين
أَانكرتم وكذبتم امرى وهداي وَعَجِبْتُمْ بانهماككم في الغي والضلال من أَنْ جاءَكُمْ لإصلاح حالكم وإرشادكم ذِكْرٌ اى عظة وتذكير مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ موفق مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ عما يضلكم ويغويكم تفضلا وامتنانا عليكم وَلا تستبعدوا من الله أمثال هذا ولا تنكروها بل اذْكُرُوا عظائم نعمه عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وأورثكم ارضهم وديارهم وأموالهم وَزادَكُمْ بسببها فِي بين الْخَلْقِ بَصْطَةً تفوقا واستعلاء وترفعا واستيلاء فَاذْكُرُوا ايها المترفهون بنعم الله المغمورون بموائد كرمه آلاءَ اللَّهِ الفائضة عليكم واشكروا لها لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون من عنده بشرف الرضا والتسليم ثم لما بالغ في نصحهم وإرشادهم وبلغ جهده في أداء الرسالة والتبليغ
قالُوا في جوابه من غاية قسوتهم ونهاية حميتهم مستفهما مقرعا أَجِئْتَنا ايها الكذاب السفيه لِنَعْبُدَ اللَّهَ الذي قد ادعيت أنت انه وَحْدَهُ لا شريك له ولا اله سواه وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الآلهة الموروثة لنا من أسلافنا عبادتهم فاذهب يا مجنون أنت وإلهك فانا لا نؤمن بك وبه أصلا وان شئت فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب والنكال وانواع الخسار والوبال إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك ثم لما ايس هود عليه السّلام من هدايتهم وصلاحهم
قالَ قَدْ وَقَعَ اى قد نزل ووجب وحق عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وعذاب شديد تضطربون به وَغَضَبٌ نازل من عنده بحيث يستأصلكم بالمرة أَتُجادِلُونَنِي ايها المغضوبون عليكم بغضب الله سيما فِي أَسْماءٍ وأشياء قد سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ آلهة من تلقاء انفسكم وتعبدونها كعبادة الله عنادا مع انه ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ اى حجة وبرهان تستدلون بها على عبادة هؤلاء التماثيل الباطلة العاطلة وبعد ما ظهر الحق فلم تقبلوه ايها المسرفون فَانْتَظِرُوا نزول العذاب إِنِّي مَعَكُمْ ايضا مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ روى انهم كانوا يعبدون الأصنام فلما بعث إليهم هود كذبوه وأصروا على ما هم عليه عتوا وعنادا بل زادوا على ما كانوا فامسك الله القطر عنهم ثلث سنين حتى جهدهم وكان من عادتهم إذا نزل عليهم البلاء توجهوا نحو البيت الحرام وتقربوا عنده وطلبوا من الله الفرج فجهزوا نحوه قيل بن عنز(1/254)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم فلبثوا عنده شهرا ثم قصدوا البيت ليدعوا الله فقال مرثد والله لا تسقون بدعائكم هذا ولكن ان أطعتم نبيكم وتبتم الى الله ورجعتم نحوه ليسقيكم فقالوا لمعاوية احبس عنا مرثدا لا يقدمنّ معنا مكة فانه قد اتبع دين هود وترك ديننا فحبسه ثم دخلوا مكة فقال قيل اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم فانشأ الله بقدرته سحابات ثلثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم نادى مناد من جانب السماء اختر يا قيل لنفسك ولقومك منها فقال اخترت السواد لأنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد المغيث فاستبشروا بها واستعجلوا لنزولها فقالوا هذا عارض ممطرنا قيل حينئذ من قبل الحق بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم فجاءتهم ريح عقيم فأهلكتهم بالمرة
فَأَنْجَيْناهُ اى هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ مؤمنين بِرَحْمَةٍ نازلة مِنَّا إياهم لإيمانهم بنا وانقيادهم لرسولنا وَقَطَعْنا دابِرَ القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واستأصلناهم عن آخرهم وَهم ما كانُوا مُؤْمِنِينَ بنا وبنبينا وما كانوا ايضا قابلين مستعدين للايمان
وَلقد أرسلنا ايضا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ اى معجزة ظاهرة الدلالة على صدقى في دعواي نازلة مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ المنتقم الغيور قد أرسلها وأظهرها لَكُمْ آيَةً دالة على صدقى في قولي فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ من رزق الله من حيث شاءت وَعليكم ان لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ وان آذيتموها واخذتموها بسوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مقطع مستأصل فعليكم ان تحفظوها وتحافظوا عليها وعلى رعايتها حتى لا ينزل عليكم العذاب
وَاذْكُرُوا ايها المتنعمون نعم الله عليكم وأدوا حقوقها سيما إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ في الأرض مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ اى مكنكم ووطنكم فِي الْأَرْضِ التي هم فيها حال كونكم تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها لبنا وآجرا وتبنون قُصُوراً عاليات تسكنون فيها مترفهين وَتَنْحِتُونَ اى تشقون بالمعاول والفئوس الْجِبالَ المتحجرة وتتخذونها بُيُوتاً وأخاديد لحفظ أمتعتكم واقمشتكم من الغارة وغيرها وبالجملة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ المترادفة المتوالية عليكم وقوموا بشكرها ليزيد عليكم سبحانه ويديم لكم وَلا تَعْثَوْا اى ولا تظهروا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بغرور الأموال والأولاد والامتعة والعقار
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن الايمان به والاتباع له مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا اى ضعفائهم وأراذلهم سيما لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بصالح عليه السّلام على سبيل التهكم والاستهزاء أَتَعْلَمُونَ يقينا ايها الحمقى المصدقون له المؤمنون به أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ الذي ادعى وحدته واستقلاله في الألوهية والربوبية قالُوا اى المؤمنون المخلصون من صفاء عقائدهم ونجابة طينتهم على سبيل التأكيد والمبالغة إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ اى بعموم ما جاء به من عند ربه مُؤْمِنُونَ مصدقون موقنون
قالَ الملأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عنادا ومكابرة إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ بمتابعة هذا المدعى كافِرُونَ منكرون مكذبون ثم لما كفروا وكذبوا مصرين
فَعَقَرُوا ونحروا النَّاقَةَ المقترحة التي هي آية الله عليهم ووديعة عندهم قد أوصاهم سبحانه ان لا تمسوها بسوء وهم قد أهلكوها عنادا وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبارا وَقالُوا لنبيه بطرا واستهزاء ومراء يا صالِحُ الكذاب المدعى ائْتِنا بِما تَعِدُنا(1/255)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
من العذاب إِنْ كُنْتَ صدقت انك مِنَ الْمُرْسَلِينَ ثم لما فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا استحقوا بحلول ما وعدوا وأوعدوا
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى الصيحة الهائلة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ اى صار كل منهم جاثما جامدا الى حيث لا يتحرك منهم احد. روى انهم كانوا في منازل عاد يعيشون فيها متنعمين مترفهين الى ان كثرهم الله واعمرهم أعمارا طوالا واقتضى طول أملهم ان ينحتوا من الجبال بيوتا وأخاديد يخزنون فيها أمتعتهم ويبنوا قصورا عاليات في السهول إذ كانوا في خصب وسعة فاغتروا وغروا على ما هم عليه وأفسدوا في الأرض بأنواع الفسادات وبالغوا في عبادة الأصنام فبعث الله إليهم صالحا عليه السّلام وهو من اشرافهم فدعاهم الى الايمان والتوحيد فسألوا منه آية فقال أية آية تريدون قالوا له اخرج معنا الى عيدنا فادع إلهك وندعوا آلهتنا فمن استجيب منا اتبع فخرج معهم صالح فدعوا أصنامهم فلم يجابوا ثم أشار سيدهم جندع ابن عمرو الى صخرة منفردة يقال لها الكاتبة وقال لصالح أخرج من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء وان أخرجت صدقناك وآمنا بك فأخذ صالح عليه السّلام عليهم المواثيق انى ان أخرجت لتؤمنون بي فعهدوا معه فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون ثم أنتجت ولدا مثلها في الكبر فآمن له جندع في جماعة ومنع الباقين ذوار بن عمرو والخباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمغر كاهنهم فمكث الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبا فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفجج فيحلبون منها ما شاءوا حتى يمتلئ جميع أوانيهم ويدخرون وكانت تضيف في ظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتشتو في بطنه فتهرب أنعامهم الى ظهره فشق ذلك عليهم فهموا بقتلها وزينت لهم قتلها أم غنم وصدقة بنت المختار فعقروها واقتسموا لحمها فرقى وصعد ولدها جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى ان يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفتقت اى انشقت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال صالح عليه السّلام تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات التي اخبر بها هموا ان يقتلوه فأنجاه الله تعالى وأوصله الى ارض فلسطين ولما كانت ضحوة اليوم الرابع تكفنوا بالانطاع فاتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا
فَتَوَلَّى واعرض عَنْهُمْ صالح عليه السّلام بعد ما لاح عليهم امارات العذاب وعلامات الانتقام وَقالَ متحسرا متأسفا حين تجانب عنهم يا قَوْمِ المبالغين في الاعراض عن الحق لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وبذلت جهدي في هدايتكم وَنَصَحْتُ لَكُمْ إشفاقا عليكم حتى لا يلحقكم العذاب الموعود وَلكِنْ أنتم قوم مستكبرون في انفسكم مصرون معاندون لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فلحقكم ما أخاف عليكم بإعراضكم عما أمرتم
وَلقد أرسلنا ايضا لُوطاً عليه السّلام اذكروا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ المبالغين في ارتكاب الفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة على سبيل التوبيخ والتقريع أَتَأْتُونَ وترتكبون الْفاحِشَةَ المتناهية في الفحش والفضاحة مع انها ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ بل قد اخترعتموها أنتم من خباثة نفوسكم وسخافة أحلامكم ورداءة طباعكم
إِنَّكُمْ ايها المتجاوزون عن مقتضيات الحكم والحدود الإلهية لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً اى حال كونكم متلذذين مشتهين لإتيانهم مِنْ دُونِ النِّساءِ مع ان الحكمة تقتضي لإتيانهن وما هو الا من جهلكم بقبحها وخباثتها بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في الفساد والخروج عن مقتضى الحكمة والحدود(1/256)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
الإلهية بمتابعة اهويتكم الباطلة
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ حين سمعوا منه ما سمعوا إِلَّا أَنْ قالُوا مستكبرين متهكمين أَخْرِجُوهُمْ اى لوطا ومن آمن له مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ويدعون التطهر عن الخبائث ويجتنبون عن الفواحش فلا يناسبهم الاقامة فينا ثم لما لم يمتنعوا عن فعلهم بقوله بل زادوا على الإصرار والعداوة أخذناهم بظلمهم وإسرافهم وإصرارهم
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ ومن آمن له مما أصابهم إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنها تسر بالكفر والجحود بذلك قد كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين بقهر الله وغضبه
وَبعد ما أردنا أخذهم وقصدنا انتقامهم أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً اى مطرا هو حجارة مركومة مركبة من سجيل فاستأصلناهم به فَانْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ المصرين على الجرائم العظام سيما بعد إرسال الرسل الهادين لهم الى طريق النجاة الزاجرين لهم عن ما هم عليه من القبائح على ابلغ وجه وآكده
وَلقد أرسلنا ايضا إِلى قوم مَدْيَنَ وهو قرية شعيب عليه السّلام أَخاهُمْ وابن عمهم شُعَيْباً عليه السّلام حين افرطوا في التطفيف والتخسير قالَ لهم مناديا على وجه الشفقة والنصيحة يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ المستوي على العدل القويم والصراط المستقيم واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعبد بالحق انه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم دالة على القسط والعدالة في المعاملات الصورية لتفوزوا بها الى الاعتدال المعنوي والقسط الحقيقي الإلهي فَأَوْفُوا الْكَيْلَ ووفوا حقه كما ينبغي وَاقيموا الْمِيزانَ بالقسط واستقيموا فيه وَبالجملة لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ اى لا تنقصوا من حقوقهم شيأ وَعليكم ان لا تُفْسِدُوا ولا تنشئوا الفساد ولا تخترعوه مطلقا فِي الْأَرْضِ التي قد وضعت على كمال العدالة والصلاح سيما بَعْدَ إِصْلاحِها اى بعد اصلاحنا أمرها بإرسال الرسل وإنزال الكتب ذلِكُمْ اى العدل والصلاح وامتثال عموم الأوامر الناشئة من الحكمة الإلهية خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بعدل الله وصراطه المستقيم وعليكم ان تتوجهوا نحو الحق بالعزيمة الصحيحة الخالصة
وَلا تَقْعُدُوا ولا تترصدوا بِكُلِّ صِراطٍ طريق ومذهب من الطرق الباطلة حال كونكم تُوعِدُونَ وتخوفون الناس عن سلوك طريق الحق وَتَصُدُّونَ تعرضون وتصرفون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموصل الى توحيده مَنْ آمَنَ بِهِ بإلقاء الشبه والرخص في قلوبهم وَبالجملة تَبْغُونَها عِوَجاً اى تطلبون ان تنسبوا عوجا وانحرافا الى سبيل الحق والطريق المستقيم لينصرف الناس عنه وعليكم ان تميلوا عن مخالفة امر الله ونهيه وَاذْكُرُوا نعمه عليكم سيما إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددا وعددا فَكَثَّرَكُمْ قويكم الله وأظهركم واشكروا نعمه عليكم لتدوم وتزيد ولا تكفروها لتنقص وَبالجملة انْظُرُوا معتبرين كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ الكافرين لنعم الحق من الأمم الهالكة واعتبروا من حالهم ومآلهم وما جرى عليهم من المصيبات المستأصلة
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من العدالة الصورية والمعنوية وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا عنادا واستكبارا فَاصْبِرُوا وتربصوا وانتظروا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ العليم الحكيم بمقتضى عدله القويم بَيْنَنا بالنصر على من آمن والقهر على من كفر واستكبر وَهُوَ سبحانه في ذاته خَيْرُ الْحاكِمِينَ وأفضل الفاصلين يحكم بمقتضى حكمته المتقنة المتفرعة على العدالة الحقيقية
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ على وجه المبالغة والتأكيد وعدم(1/257)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
المبالات به وبشأنه لَنُخْرِجَنَّكَ البتة يا شُعَيْبُ وَكذا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ وصدقوا بهذياناتك مِنْ قَرْيَتِنا هذه ظلما وعدوانا كرها واجلاء أَوْ لَتَعُودُنَّ أنت ومن معك فِي مِلَّتِنا التي كنتم عليها من قبل قالَ شعيب عليه السّلام مستفهما مستبعدا أَوَلَوْ كُنَّا في الأيام السالفة ايضا كارِهِينَ منكرين ملتكم التي أنتم عليها فتعيدوننا إليها ايها الحمقى المسرفون
وكيف نعود قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا يعنى ان عدنا وصرنا فِي مِلَّتِكُمْ سيما بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ المنجى لعباده عن ظلمة الكفر مِنْها والهمنها بطلان ما أنتم عليه فقد افترينا على الله كذبا وكنا من المكذبين أمثالكم وَبالجملة ما يَكُونُ وما يجوز وما يصح لَنا أَنْ نَعُودَ ونرجع فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ العليم الحكيم عودنا ومصيرنا إليها إذ هو رَبُّنا يربينا بلطفه بما هو خير لنا وان كان فيها خيرا يعبدنا إليها إذ قد وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تحققا وحضورا لذلك عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر ذي العظمة والكبرياء وذي المجد والبهاء تَوَكَّلْنا في عموم ما جرى علينا لا على عيره من الوسائل والأسباب العادية وقد اتخدناه كفيلا لجميع أمورنا رَبُّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم افْتَحْ اى اقض واحكم بمقتضى ما قد جرى حكمك في لوح قضائك بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ المطابق للواقع والعدل السوى الموافق لما ثبت في لوح القضاء وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ الحافظين القاضين الحاكمين بين ذوى الخصومات ومن حسن محاورة شعيب عليه السّلام مع أمته ومجاملته معهم لقب بالخطيب بين الأنبياء
وَبعد ما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لتابعيهم وسفلتهم ترهيبا وتهديدا على سبيل المبالغة والله لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وآمنتم له وسمعتم قوله في ترك البخس والتطفيف إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ في بضائعكم ومعاملاتكم
ثم لما بالغوا في الضلال والإضلال استحقوا الانتقام والنكال فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى الزلزلة الشديدة فخر عليهم سقوف بيوتهم فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ التي يستقرون فيها وصاروا جاثِمِينَ جامدين ميتين
وبالجملة الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اى استوصلوا وانقرضوا الى حيث صاروا كأن لم يسكنوا ولم يكونوا في تلك الديار أصلا بل الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ المقصورين على الخسران الأبدي في النشأة الاولى والاخرى
فَتَوَلَّى واعرض عَنْهُمْ شعيب عليه السّلام بعد ما شاهد حالهم واستحقاقهم للعذاب والغضب الإلهي وَقالَ متأسفا متحزنا على مقتضى شفقته مضيفا لهم الى نفسه مناديا يا قَوْمِ المنهمكين في الغفلة المبالغين في الإصرار والاستكبار لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي حتى لا يلحق بكم ما لحق وَنَصَحْتُ لَكُمْ باذنه سبحانه وبالغت في نصحى فلم تقبلوا منى نصحى ولم تصدقوا قولي ثم كذب هواجس نفسه وأنكر عليها خوفا من غضب الله فقال فَكَيْفَ آسى واتحزن عَلى قَوْمٍ قد كانوا كافِرِينَ لنعم الحق مكذبين لأوامره مستحقين لما نزل عليهم بسوء معاملتهم مع الله سيما بعد ورود ما ورد من الوعد والوعيد من لدنه سبحانه
ثم لما ذكر سبحانه نبذا من احوال الأمم الماضية الهالكة وقبح صنائعهم مع الله وتكذيبهم كتبه ورسله سجل عليهم سبحانه بان ما لحقهم انما هو من سوء صنيعهم وشؤم نفوسهم فقال وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ من القرى الهالكة مِنْ نَبِيٍّ من الأنبياء إِلَّا أَخَذْنا أولا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ ازالة لقساوتهم وتليينا لقلوبهم لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ رجاء ان يتضرعوا إلينا ويتوجهوا نحونا
ثُمَّ بعد ما ضيقنا عليهم كشفنا عنهم بان بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ المضرة المؤلمة الْحَسَنَةَ النافعة(1/258)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
المسرة حَتَّى عَفَوْا الى ان كثروا وتكاثروا عددا وعددا وَقالُوا بعد ما صاروا مترفهين في سعة ورخاء مكان الشكر واظهار المنة منا قَدْ مَسَّ ولحق آباءَنَا كما لحقنا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أحيانا ومن عادة الزمان وديدن الدهر الخوان تعاقب السراء بالضراء والجدب بالرخاء ثم لما ظهر منهم كفران النعم دائما وعدم الرجوع إلينا بالشكر وبصوالح الأعمال فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة بلا سبق مقدمة وتقديم امارة وَهُمْ حينئذ من غاية عمههم وسكرتهم لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب وحلول الغضب
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى الهالكة العاصية آمَنُوا بالله الواحد الأحد المستقل بالالوهية وبعموم أنبيائه ورسله المبعوثين إليهم من عنده سبحانه وَاتَّقَوْا عن محارم الله بمقتضى أوامره ونواهيه التي قد جاءت بها الأنبياء لَفَتَحْنا ووسعنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ نازلة مِنَ السَّماءِ وَنابتة من الْأَرْضِ وَلكِنْ من خبث طينتهم ورداءة فطرتهم كَذَّبُوا بالله وبعموم أنبيائه ورسله وكتبه فَأَخَذْناهُمْ بعد ما أظهروا التكذيب والإنكار بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بأيديهم لأنفسهم وبالجملة ما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى من انتقامنا وبطشنا إياهم ولم يخافوا من أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا عذابنا وعقابنا إياهم بَياتاً في أثناء الليل ويحيط بهم وَهُمْ نائِمُونَ في مضاجعهم
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ولم يترقبوا من أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى في كمال اضاءة الشمس وإشراقها وَهُمْ حينئذ يَلْعَبُونَ بأمور دنياهم بمقتضى مخايلهم ومناهم
وبالجملة أَفَأَمِنُوا أولئك المنهمكمون في الغفلة والضلال مَكْرَ اللَّهِ المراقب بعموم أحوالهم ولم يخافوا ولم يحزنوا من اخذه وانتقامه ولم يتفطنوا ان من أمن من مكره واخذه فقد خسر خسرانا مبينا وبالجملة فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ المنتقم المقتدر الغيور إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والشقاوة السرمدية في اصل فطرتهم وقابليتهم
أَوَلَمْ يَهْدِ الم يذكر ولم يبين احوال الأمم الهالكة وأخذنا إياهم بما صدر عنهم من تكذيب الأنبياء وتكذيب ما جاءوا به من عندنا من الأوامر والنواهي لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ وصاروا خلفاء مِنْ بَعْدِ أَهْلِها الهالكين بالجرائم المذكورة أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بمقتضى قهرنا وجلالنا الخلفاء ايضا بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم مثل أسلافهم بل بأضعافهم وآلافهم وَمن علامات أخذنا وانتقامنا إياهم انا نَطْبَعُ ونختم أولا عَلى قُلُوبِهِمْ لكيلا يفهموا الآيات ليعتبروا منها فَهُمْ حينئذ لا يَسْمَعُونَ حتى يتعظوا بها
وبالجملة تِلْكَ الْقُرى الهالكة التي نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل في كتابنا هذا مِنْ بعض أَنْبائِها ومن قصصها واخبارها وجرائمها مع الله ورسله وَالله لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات القاطعة الساطعة من لدنا وهم من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ اى بما كذبوه قبل إرسال الرسل عليهم بل قد أصروا على ما هم عليه ولم يؤمنوا أصلا ولم يقبلوا من الرسل عموم ما جاءوا به وبالجملة ما تأثروا من دعوة الرسل وآياتهم ومعجزاتهم قط كَذلِكَ يَطْبَعُ ويختم اللَّهُ سبحانه حسب قهره وجلاله عَلى قُلُوبِ جميع الْكافِرِينَ فلا تعجبك يا أكمل الرسل حال اهل مكة وإصرارهم ولا تحزن منهم ولاتك في ضيق من مكايدهم إذ هي من الديدنة القديمة والخصلة الذميمة المستمرة بين الكفرة
وَمن جملة أخلاقهم الذميمة وخصالهم المستهجنة المستمرة ايضا نقض العهود والمواثيق لذلك ما وَجَدْنا وما صادفنا لِأَكْثَرِهِمْ(1/259)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
مِنْ عَهْدٍ عهدوا معنا على لسان رسلنا موفين له وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ اى بل ما وجدنا وما صادفنا أكثرهم بعد ما قد عهدنا معهم عهدا وثيقا الا فاسقين ناقضين لعهودنا ومواثيقنا مطلقا
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد انقراض أولئك الغواة الطغاة الهالكين بأنواع العذاب والنكال نبينا مُوسى المختص بتشريف تكليمنا مؤيدا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا مع انا قد أيدناه بالمعجزات الباهرة إِلى فِرْعَوْنَ المبالغ في العتو والاستكبار الى حيث يدعى الألوهية والربوبية لنفسه وَمَلَائِهِ المعاونين له المصدقين لدعواه الكاذبة وبعد ما ادعى الكليم النبوة واظهر الآيات فَظَلَمُوا بِها اى أنكروا بالآيات ونسبوها الى ما لا يليق بشأنها وكذبوا موسى فَانْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ في ارض الله الخارجين عن مقتضيات أوامره ونواهيه
وَاذكر يا أكمل الرسل إذ قالَ مُوسى حين أراد دعوتهم يا فِرْعَوْنُ المتكبر المتجبر المتجاوز عن مقتضى الحدود الإلهية المفسد بين عباده بأنواع الفسادات المفرط المفرط بدعوى الربوبية إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قد أرسلني الله واختارني لرسالته
وانا حَقِيقٌ جدير لائق عَلى أَنْ لا أَقُولَ ولا أسند عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر المتعزز الغيور من الأقوال والاحكام إِلَّا الْحَقَّ الذي قد علمني ربي بالوحي وبعثني لأجله وتبليغه لعباده واعلموا ايها البغاة الطغاة انى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ واضحة دالة على صدقى في دعواي صادرة مِنْ رَبِّكُمْ الذي أظهركم وأوجدكم من كتم العدم بعد ان لم تكونوا شيأ مذكورا فَأَرْسِلْ ايها الفرعون الطاغي مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ المقهورين تحت قهرك المظلومين بيدك ليذهبوا معى الى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم وفكك رقابهم عن رقك وخل سبيلهم بعد ما امر الحق به والا قد نزل عليك وعلى قومك عموم ما أوعدك الحق به من انواع العذاب والعقاب في العاجل والآجل
قالَ فرعون في جوابه مستكبرا مكذبا بل منهكما على وجه التكبر والخيلاء لا افك رقابهم ولا اخلى سبيلهم بل إِنْ كُنْتَ ايها المدعى الكاذب قد جِئْتَ بِآيَةٍ من عند ربك الذي قد ادعيت رسالته فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعويك هذا
ثم لما سمع موسى قوله وشاهد عتوه واستكباره فَأَلْقى بالهام الله له عَصاهُ من يده على الأرض بين أيديهم فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ بلا معالجة واستعمال اسباب وأدوات كما يفعله السحرة مُبِينٌ عظيم ظاهر بأضعاف مقدار العصا. روى انه لما ألقاها صارت ثعبانا أشقر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحاه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون فهرب وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات من الناس خمسة وعشرون الفا وصاح فرعون أنشدك بالذي أرسلك يا موسى خذه وانا او من بك وأرسل معك بنى إسرائيل فأخذه فعاد عصا
وَبعد ذلك نَزَعَ يَدَهُ اى ادخل يده في جيبه وكان لون بشرة موسى شديد الادمة ثم نزع فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ مشرقة مشعشعة محيرة لِلنَّاظِرِينَ مفرقة لابصارهم من كمال ضوئها وانارتها بحيث قد غلب ضوءها ضوء الشمس
ثم لما شاهدوا من معجزاته وآياته ما شاهدوا قالَ الْمَلَأُ اى الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ متعجبين من امره متشاورين مع فرعون حائرين مضطرين مضطربين خائفين من استيلائه إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ متناه في هذا العلم الى أقصى غايته لذلك ادعى الرسالة وأعجز الغير عن إتيان مثله
وبالجملة يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بسحره هذا فَماذا تَأْمُرُونَ ايها المتأملون المتفكرون في ضبط المملكة وحفظ(1/260)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
البلاد في دفع هذا العدو القوى
وبعد ما تشاوروا وتأملوا كثيرا في امره ودفعه فاستقر رأيهم واتفق حكمهم الى ان قالُوا مخاطبين لفرعون أَرْجِهْ وَأَخاهُ اى أخر وسوف قتلهما لئلا يظهر عجزك عنهما ولا يختل امر ربوبيتك وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ التي قد اشتهر السحر والسحرة فيها شرطاء حاشِرِينَ جامعين من فيها من السحرة
وبعد جمعهم يَأْتُوكَ ويحضروا عندك بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ماهر حاذق في هذا العلم ليتمكنوا على مغالبتها فأرسلهم فرعون فحشروا وانتخبوا من السحرة
وَجاءَ السَّحَرَةُ المنتخبة فِرْعَوْنَ متظاهرين بطرين جازمين على غلبتهما لذلك سألوا أولا من الجعل حيث قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ وهم وان كانوا جازمين في أنفسهم الغلبة أتوا بان المفيدة للشك للمبالغة في طلب الجعل
قالَ فرعون نَعَمْ ان لكم اجرا كثيرا وَمع ذلك إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي الحاضرين في مجلسي المصاحبين معى دائما انما قال ما قال تحريضا لهم وترغيبا وبعد ما تقرر عندهم وفي نفوسهم الغلبة وسمعوا منه ما سمعوا من الانعام والتقرب
قالُوا اى السحرة يا مُوسى نادوه استحقارا له واستهزاء معه وتسفيها إياه كيف اقدم مع ضعفه ورثاثة حاله في مقابلتهم إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أنت أولا ما جئت به وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ما جئنا به فلك الخيار والاختيار إذ كلاهما عند ناسيان
قالَ موسى بالهام الله له بل أَلْقُوا ما جئتم لإلقائه ايها الساحرون المبطلون فَلَمَّا أَلْقَوْا اى أرادوا الإلقاء سَحَرُوا أولا أَعْيُنَ النَّاسِ حتى لا يتخيلوا انها امور غير مطابقة للواقع بل اعتقدوا مطابقتها وَاسْتَرْهَبُوهُمْ اى بنى إسرائيل المنتظرين لغلبة موسى ليخلصوا من يد العدو ارهابا شديدا إذا القوا حبالهم حبالا غلاظا وخشبا طوالا وصار الكل حيات متراكمة متراكبة بعضها فوق بعض وَبالجملة قد جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ متناه فيه مبالغ أقصى غايته
وَبعد ما جاءوا بسحرهم العظيم أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فصارت ثعبانا عظيما مهيبا فَإِذا هِيَ أخذت تَلْقَفُ تبتلع وتلتقم ما يَأْفِكُونَ اى عموم ما يزورونه ويلبسونه سحرا وشعبذة
وبالجملة فَوَقَعَ الْحَقُّ وتحقق الاعجاز وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر والشعبذة في مقابلته
فَغُلِبُوا اى فرعون وملاؤه هُنالِكَ المجلس وَانْقَلَبُوا ورجعوا منه صاغِرِينَ ذليلين محزونين بعد ما قد خرجوا متكبرين مستعلين
وَبعد ما شاهد السحرة من امر موسى ما شاهدوا وانكشفوا بحقيته وصدقه بجذب رقيق من جانب الحق والهام لطيف تام من لدنه سبحانه لذلك أُلْقِيَ السَّحَرَةُ على الفور ساجِدِينَ متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والهوان وحين سجدوا
قالُوا عن ظهر قلوبهم وكمال إخلاصهم وقبولهم قد آمَنَّا أيقنا وتحققنا بِرَبِّ الْعالَمِينَ
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ اى اللذين هما ادعيا الرسالة من لدنه ودعوا الناس الى الايمان به والإطاعة له والتوجه نحوه.
ثم لما رأى فرعون سجود السحرة وسمع ايمانهم قالَ فِرْعَوْنُ مغاضبا لهم مستفهما على سبيل الإنكار والتهديد آمَنْتُمْ بِهِ اى برب موسى وهارون قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ اى قبل ان تشاوروا معى وتعترفوا عندي بغلبته عليكم وقبل ان تستأذنوا منى بالإيمان فظهر من صنيعكم هذا إِنَّ هذا اى ما جاء وظهر به موسى وهارون وادعاؤهما الرسالة والنبوة لَمَكْرٌ حيلة وخديعة عظيمة قد مَكَرْتُمُوهُ أنتم وموسى متفقين فِي الْمَدِينَةِ اى مصر لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعنى القبط وتستولوا أنتم وبنو إسرائيل على ملك مصر بهذه(1/261)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
الخديعة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة مكركم وخداعكم
لَأُقَطِّعَنَّ اليوم أولا على رؤس الاشهاد أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ متبادلتين ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ زمانا كما يصلب البغاة الذين خرجوا على الولاة واولى الأمر والطاعة وبعد ما سمع السحرة تهديده
قالُوا حين كوشفوا بمآل الأمر وشوهدوا بحقيقة الحال مستطيبين فرحين مستنشطين إِنَّا بعد خلاصنا من ربقة ناسوتنا وسلسلة إمكاننا إِلى رَبِّنا حسب حصة لاهوتنا وحظ وجوبنا مُنْقَلِبُونَ صائرون راجعون رجوع الظل الى ذي الظل
وَما تَنْقِمُ مِنَّا أنت ايها الطاغي المتجبر المتكبر وما تنكر وتغضب علينا إِلَّا أَنْ آمَنَّا أيقنا واذعنا بِآياتِ رَبِّنا الذي قد أظهرنا من كتم العدم وربانا بأنواع اللطف والكرم لَمَّا جاءَتْنا وحين ظهرت علينا حقيتها وانكشفنا بها بتوفيق منه وجذب من جانبه ولو كوشفت أنت ايضا بما انكشفنا قد ارتفع غطاء التعامي وعشاء الغفلة عن بصر بصيرتك فتشهد أنت حينئذ بما شهدنا وشاهدت ما شاهدنا الا انه سبحانه قد ختم على قلبك وسمعك وبصرك بالغشاوة الغليظة والحجب الكثيفة لذلك استكبرت علينا واستنكرت بنا وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم انصرفوا نحو الحق واشتغلوا بالمناجاة معه سبحانه ورفع الحاجات نحوه فقالوا متضرعين رَبِّنا يا من ربانا بلطفك وكرمك الى ان جعلتنا من زمرة شهدائك الذين بذلوا مهجهم في سبيلك طائعين راغبين أَفْرِغْ أفض واصبب عَلَيْنا صَبْراً من لدنك متواليا متتابعا حين اشتغل هذا الطاغي على إمضاء ما هددنا به بحيث لا يغيب عنا شوق لاهوتك ولا يغلب على قلوبنا الم ناسوتنا أصلا وَحين انقطع أنفاسنا عنا وخرج أرواحنا منا تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ مسلمين مستقرين متمكنين في مرتبة الرضا والتسليم ثابتين على جادة التوحيد واليقين بلا تزلزل وتلوين. ثبت أقدامنا على جادة معرفتك وتوحيدك يا خير الناصرين
وَبعد ما قد فعل فرعون اللعين بالسحرة أنار الله براهينهم ما هددهم به قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ يعنى بني إسرائيل لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ سيما بعد ما انتشر في اقطار الأرض غلبة موسى عليك ويغيروا طباع الناس عنك ويوقعوا الفتن بين رعايا بلادك وَبالجملة يؤدى أمرهم وإيقاعهم الى ان يَذَرَكَ اى كل واحد منهم عبادتك وَعبادة آلِهَتَكَ التي قد وضعتها أنت بين عبادك ليعبدوا لها من الأصنام والأوثان والتماثيل لتتخذوها معبودات وتتوجهوا نحوها قالَ فرعون لا ندعهم بعد اليوم على ما قد كانوا عليه من قبل ولا نستأصلهم ايضا لئلا ينسب العجز والظلم إلينا بل نستضعفهم على التدريج سَنُقَتِّلُ بعد اليوم أَبْناءَهُمْ اى ذكور أولادهم لئلا يتكثروا وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ اى نبقى إناث أولادهم حتى نتزوجهن وينزجروا بلحوق العار وبعد ما مضى زمان على هذا انقرضوا واستوصلوا وَكيف لا نفعل معهم هذا إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ قادرون غالبون وبالجملة نفعل بهم اليوم ما فعلنا معهم في ما مضى لئلا يتوهم ان موسى هو المولود الذي قد زعم الكهنة والمنجمون ان زوال ملكنا على يده
ثم لما سمع بنوا إسرائيل تهديد فرعون تفزعوا منه وتضجروا وبثوا الشكوى الى الله متضرعين قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تسلية لهم وازالة لضجرتهم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ لدفع مضارهم وَاصْبِرُوا على أذاهم ولا تقنطوا من نصر الله وعونه إياكم ولا تيأسوا من روح الله إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ إيجادا وتملكا وتصرفا يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَبالجملة الْعاقِبَةُ الحميدة لِلْمُتَّقِينَ منهم وهم الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله ويصبرون على عموم ما جرى عليهم(1/262)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
من القضاء
قالُوا اى بنو إسرائيل تشكيا قد أُوذِينا من أجلك يا موسى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة بقتل الأبناء واستحياء النساء وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ايضا كذلك قالَ موسى لا تيأسوا من نصر الله وانجاز وعده بل عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ اى قد قرب حكم ربكم وانجاز وعده باهلاك عدوكم وَبعد إهلاكهم يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ التي هم فيها فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أنتم هل تشكرون نعمه أم تكفرونها وتعملون من الصالحات أم تفسدون فيها أمثالهم
ثم أشار سبحانه الى إهلاك عدوهم وانجاز وعده إياهم على سبيل التدريج حيث قال وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ اى بعد ما تعلق ارادتنا بأخذهم وإهلاكهم أخذناهم أولا بالقحط وقلة الأقوات والغلات وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ التي هم يتفكهون بها لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ اى يتذكرون ايام الرخاء ويتضرعون نحونا لإعادتها ويصدقون رسولنا الذي أرسلنا إليهم ليدعوهم الى توحيدنا وهم من شدة عمههم وقسوتهم لا يتعظون بأمثال هذا
بل فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ الخصب والرخاء وكل ما يسرهم ويفرح نفوسهم قالُوا متفألين لَنا هذِهِ اى لأجلنا ومن سعادة طالعنا ونحن مستحقون بأمثالها وَإِنْ تُصِبْهُمْ أحيانا سَيِّئَةٌ مشقة وعناء مما يشوشهم ويملهم يَطَّيَّرُوا اى يتطيروا ويتشأموا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ وآمن له وقالوا انما عرض علينا هذا البلاء بشؤم هؤلاء الأرذال الساقطين عن درجة الاعتبار أَلا اى تنبهوا ايها المتنبهون المتوجهون نحو الحق في السراء والضراء إِنَّما طائِرُهُمْ ما يتطيرون به ويتشأمون بسببه ليس الا عِنْدَ اللَّهِ وفي قبضة قدرته ومشيته إذ له التصرف بالاستقلال في ملكه وملكوته والقبض والبسط من عنده وبيده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيرون الأسباب والوسائل العادية في البين ويسندون الحوادث الكائنة إليها عنادا ومكابرة
وَمن شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم ووفور قسوتهم وبغضهم قالُوا منهمكين مستهزئين مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ اى اى شيء تحضرنا أنت يا موسى لتغلب به علينا من سحرك الذي سميته آية نازلة من ربك عليك لِتَسْحَرَنا بِها أنت فأت به سريعا ان استطعت فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ اى متى تأخرت واستبطأت وتسوفت وبعد ما بالغوا في العتو والعصيان وأصروا على ما هم عليه من الطغيان والكفران
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ امدادا لموسى وانتقاما لهم الطُّوفانَ اى الماء الذي طاف حولهم ودخل بيوتهم ووصل الى تراقيهم ولم يدخل بيوت بنى إسرائيل مع انها متصلة ببيوتهم ولم يتضرروا من الماء أصلا ثم لما تضرروا واضطروا وكادوا ان يغرقوا تضرعوا الى موسى وقالوا ادع لنا ربك يا موسى ليكشف عنا فنأمن بك فدعا فكشف عنهم ونبت من الزرع والكلأ ما لم يعهد فنكثوا عهدهم ونسبوا دعاءه الى السحر وَبعد ذلك قد أرسلنا عليهم الْجَرادَ فأكلت زروعهم واثمارهم وأخذت تأكل السقوف والأبواب والثياب فتضرعوا الى موسى فدعا وانكشف حيث خرج الى الصحراء مشيرا بعصاه نحو الجراد يمنة ويسرة فتفرقت الى النواحي والأقطار فنكثوا وَأرسلنا بعدها الْقُمَّلَ هي دود أصغر من الجراد قيل انها حدثت من الجراد فأخذت ايضا تأكل ما بقي من الجراد وتقع في الأطعمة وتدخل بين أثوابهم فتمص دماءهم ففزعوا اليه فكشف عنهم بدعائه فقالوا له قد علمنا الآن انك ساحر عليم وَبعد ذلك قد أرسلنا عليهم الضَّفادِعَ بحيث لا يخلو مكان من الأمكنة منها وتثب في قدورهم وأوانيهم وأفواههم حين تكلموا ففزعوا نحوه معاهدين فخلصوا بدعائه ثم نقضوا وَبعد ذلك قد أرسلنا الدَّمَ(1/263)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
حيث صار المياه كلها عليهم دماء حتى كان القبطي والسبطى الإسرائيلي يجتمعان على اناء واحد فيصير ما يلي القبطي دما وما يلي الإسرائيلي السبطى ماء ويمص القبطي ماء من فم السبطى فيصير دما وانما أرسلنا عليهم هذه البليات لتكون آياتٍ اى دلائل وعلامات دالة على كمال قدرتنا مُفَصَّلاتٍ مبينات موضحات مميزات بين الهداية والضلالة والحق والباطل والرشد والغي فَاسْتَكْبَرُوا عنها مع وضوحها وسطوعها واعرضوا عن مدلولاتها وأصروا على ما هم عليه وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مستحقين بالعذاب والعقاب فلم ينفعهم الآيات والنذر لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم
وَهم قد كانوا لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ وحين حل عليهم البلاء والمصيبة قالُوا متضرعين متفزعين يا مُوسَى الداعي للخلق الى الحق ادْعُ لَنا رَبَّكَ الذي رباك بأنواع الكرامات بِما عَهِدَ عِنْدَكَ من اجابة دعواتك وقبول حاجاتك والله لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ بدعائك لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ مصدقين نبوتك ورسالتك وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ بلا ممانعة ولا مماطلة
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ بدعاء رسولنا موسى وبلغ الزمان إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ اى عينوه وقدروه لإيمانهم وارسالهم ليتأملوا ويتفكروا فيها إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ اى بعد ما وصل وقت الوفاء والإيفاء بالعهود والمواثيق بادروا الى النكث والنقض ثم لما بالغوا في النكث وخالفوا أمرنا وكذبوا بنبينا
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ اى أردنا انتقامهم وأخذهم فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ اى البحر العميق لانهماكهم في بحر الغفلة والطغيان كل ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة الموصلة الى وحدتنا الذاتية وَكانُوا بسبب استغراقهم في بحر الغفلة والضلال عَنْها غافِلِينَ محجوبين لا يهتدون بهداية الرسل والأنبياء
وَبعد ما أغرقناهم في يم العدم واستأصلناهم عن قضاء الوجود بالمرة أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالقهر والغلبة سيما بقتل الأبناء واستحياء النساء مَشارِقَ الْأَرْضِ المعهودة اى مصر ومشارقها الشام ونواحيها وَمَغارِبَهَا الصعيد ونواحيها الَّتِي بارَكْنا فِيها كثرنا فيها الخير والبركة وسعة الأرزاق وطيب العيش من جميع الجهات وَبعد ما اورثناهم قد تَمَّتْ اى كملت وحقت كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى يا موسى بإنجاز الوعد والنصر وايراث الديار والأموال وغير ذلك عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا اى بسبب ما صبروا على اذياتهم المتجاوزة عن الحد وَدَمَّرْنا اى خربنا وهدمنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من الابنية الرفيعة والقصور المشيدة وَما كانُوا يَعْرِشُونَ عليها مترفهين بطرين كمسرفي زماننا هذا احسن الله أحوالهم.
ثم أشار سبحانه الى قبح صنيع بنى إسرائيل وخبث طينتهم وجهلهم المركوز في جبلتهم وسخافة طبعهم وركاكة فطنتهم تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتذكيرا للمؤمنين ليحذروا عن أمثال ما اتى به هؤلاء فقال وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اى عبرناهم سالمين غانمين الْبَحْرَ الذي قد أهلك عدوهم فَأَتَوْا اى مروا في طريقهم عَلى قَوْمٍ من بقية العمالقة يَعْكُفُونَ ويعبدون عَلى أَصْنامٍ تماثيل كانت معبودات لَهُمْ من دون الله قالُوا اى بنوا إسرائيل من قساوة قلوبهم وضعف يقينهم بالله المنزه عن الأشباه والأمثال يا مُوسَى المبعوث المرسل إلينا من الله الواحد الأحد اجْعَلْ لَنا إِلهاً اى تمثالا واحدا مشابها لله نعبده ونتقرب نحوه كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها ويتقربون نحوها ونحن كيف نعبد وندعو الى اله موهوم لا نراه ولا نشاهده وكيف نتضرع اليه ونتوجه نحوه ونستحيي منه ونخاف عنه ثم لما تفرس منهم موسى(1/264)
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
ما تفرس من الحجب الكثيفة والاغشية الغليظة قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تستمرون على جهلكم الجبلي لم يؤثر فيكم الآيات الكبرى والبراهين العظمى. وبالجملة أنتم لم تتفطنوا بالوحدة الذاتية مع غاية وضوحها في ذاتها سيما بعد الإيضاح والتوضيح البليغ بالآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة
إِنَّ هؤُلاءِ العاكفين الضالين مُتَبَّرٌ مهلك معدوم ما هُمْ فِيهِ من عبادة التماثيل الباطلة العاطلة الهالكة المستهلكة في أنفسها إذ لا وجود لها أصلا وَبالجملة باطِلٌ عاطل ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى أعمالهم لها ولأجلها من الإطاعة والانقياد إذ هو اشراك بالله الواحد الواجب الوجود المستقل بالالوهية ما لا وجود له أصلا
ثم قالَ موسى متأسفا مقرعا أَغَيْرَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء أصلا أَبْغِيكُمْ واطلب لكم ايها الحمقى العمي الضالون في تيه الغفلة والغرور إِلهاً من مصنوعاته يعبد له بالحق ويتقرب اليه وَالحال انه هُوَ سبحانه قد فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ إذ لا مظهر له أكمل منكم فكيف تعبدون أنتم الفاضلون المكرمون المفضول المرذول وما عرض عليكم ايها الجاهلون الحمقى وما لحق بكم حتى لم تعرفوا مرتبتكم الجامعة الكاملة
وَعليكم ان تعدوا نعم الله التي قد أنعمها عليكم لعلكم تتنبهون على توحيد المنعم اذكروا إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ حين يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ اى يعلمونكم به وذلك انهم يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ حتى لا تستكثروا وتستظهروا بهم وَأقبح منه انهم يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ليلحق العار عليكم بتزويجهن بلا نكاح وَبالجملة لكم فِي ذلِكُمْ المذكور من العذاب بَلاءٌ واختبار مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ فأنجيناكم منهم لتقيموا بذكرنا وتواظبوا بشكر نعمنا وتتفطنوا بتوحيدنا واستيلائنا ومع ذلك لم تتنبهوا
وَاذكروا ايضا إذ واعَدْنا مُوسى والزمنا عليه على سبيل النذر والنفل قبل إهلاكنا فرعون بان أخلص لنا ثَلاثِينَ لَيْلَةً من شهر ذي القعدة بان صام فيها وصلّى ان ظفر على فرعون بعد هلاك عدوه حتى ننزل عليه من لدنا كتابا نبين له فيه التدابير المتعلقة لأمور معاش بنى إسرائيل ومعادهم ثم لما أهلكنا العدو ذهب موسى الى ميقاتنا انجازا للموعود المنذور وقبل ما تمت المدة المذكورة قد أنكر موسى خلوف فمه فتسوك قالت الملائكة له قد كنا نشم منك ريح المسك فافسدته بالسواك وَلذلك اى لتداركه وتلافيه قد أَتْمَمْناها اى مدة ميقاتها وأمرناه تلافيا لما أفسده بِعَشْرٍ اى بعشرة ايام أخر من ذي الحجة مضمومة الى ثلثى ذي القعدة كفارة لما فوته بالسواك فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وبعد ما أتمها أنزلنا التورية المبين لهم الاحكام المتعلقة بالأمور الدنيوية والاخروية انجازا لوعدنا إياه وذلك من أعظم النعم وأجل الكرم وَاذكروا ايضا إذ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي وصر خليفتي فِي قَوْمِي وذكر لهم مما يتعلق بأمور معاشهم ومعادهم نيابة عنى وَبالجملة أَصْلِحْ بينهم واحفظهم عن زيغ اهل الضلال والإضلال وَلا تَتَّبِعْ أنت ومن معك سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون عقائد ضعفاء الأنام بالتمويهات الباطلة والتغريرات العاطلة ومع ذلك قد اتبعتم السامري من خبث طينتكم ورداءة فطنتكم
وَاذكروا ايضا لَمَّا جاءَ مُوسى حين بعثنا إليكم لإصلاح حالكم لِمِيقاتِنا ليناجى معنا ويتوجه بنا وَمن كمال اللطف والجود إياه كَلَّمَهُ رَبُّهُ اى كلم معه لسان مرتبته التي قد حصل له عند الله وانكشف بها من الله إذ لكل ذرة من ذرائر المظاهر مرتبة خاصة وظن مخصوص وانكشاف مستقل بالنسبة الى الله لذلك قال(1/265)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
سبحانه انا عند ظن عبدى بي. وأعلى المراتب وابهاها مرتبة النبوة والرسالة مع تفاوت طبقاتها ثم الأمثل ثم لما انبسط موسى مع ربه وانكشف له من ربه ما انكشف بحيث سمع كلامه من جميع الجوانب والجهات بلا وسيلة آلة وواسطة من ملك وغيرها وبلا تلفظ كلمة حاصلة من تراكيب الحروف الحاصلة من تقطيع الأصوات قد اضطرب حينئذ موسى ووله وارتعد ومن غاية ولهه وسكره تسارع الى انكشاف اجلى منه واكشف حيث قالَ بعد سماع كلام الحق لا على الوجه المتعارف المعهود وانجذابه نحوه انجذابا لا على الوجه المعتاد رَبِّ يا رب أَرِنِي ذاتك التي قد تنزهت عن المقابلة والمحاذاة والمماثلة والمحاكات كما أسمعتني كلامك المنزه عن ترتيب الكلمات وتقاطع الحروف والأصوات أَنْظُرْ إِلَيْكَ ببصرى كما سمعت كلامك بسمعي قالَ سبحانه لَنْ تَرانِي يا موسى ما دمت في جلباب تعينك وغشاوة هويتك وَلكِنِ ان أردت ان تعرف استعدادك لرؤيتى انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ حين تجليت عليها بهويتى المسقطة للهويات مطلقا فَإِنِ اسْتَقَرَّ وثبت عندك انه تمكن مَكانَهُ بعد ما اتجلى عليه بذاتى اى بقي هو على هويته التي هو فيها قبل التجلي فَسَوْفَ تَرانِي اى فيمكن لك حينئذ ان تراني بهويتك فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ حسب أوصافه القهرية الجلالية جَعَلَهُ دَكًّا مدكوكا مفتتا متلاشيا كأنه لم يكن شيأ مذكورا وبالجملة قد اضمحلت تعيناته الباطلة مطلقا ورجع الى ما كان عليه من العدم واللاشيء المحض وَبعد ما رأى من قدرة الله ما رأى خَرَّ وسقط مُوسى الكليم بعد ما نظر نحوه ولم يره صَعِقاً حائرا هائما قلقا مغشيا عليه كأنه انفصل عنه لوازم هويته مطلقا فَلَمَّا أَفاقَ موسى عن ولهه وسكره وانكشف من ربه بما انكشف من انه لا يرى الله الا الله ولا يعرف الله الا الله ولا ينظر نحوه الا عينه ولا يدرك ذاته الا ذاته قالَ مستحيا منيبا خائفا مستنزها سُبْحانَكَ انزهك تنزيها بليغا وأقدسك تقديسا متناهيا من ان يحيط بك وباسمائك وصفاتك احد من مصنوعاتك تُبْتُ ورجعت إِلَيْكَ يا ربي مما اجترأت من سؤال ما ليس في وسعى وطاقتي وَبعد ما عرفتك الآن يا ربي عرفانا أكمل وانكشفت منك انكشافا أتم بحيث لم انكشف مثله من قبل أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بعظمتك وجلالك إذ لا اعتداد لإيماني بك من قبل
ثم لما استحيي موسى من الله وندم عن سؤاله بلا استيذان منه سبحانه تغمم وتحزن حزنا بليغا من اجترائه بما ليس في وسعه أزال سبحانه إشفاقا له ما عرض عليه من الندم والخجل حيث قالَ سبحانه مناديا له يا مُوسى المستخلف منى إِنِّي بمقتضى حولي وقوتي وحسب اختياري وإرادتي قد اصْطَفَيْتُكَ واخترتك من بين الناس وبعثتك عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وبحمل احكامى واوامرى وتذكيراتى حتى توصلها الى عبادي نيابة عنى وَقد خصصتك من بين الرسل بِكَلامِي اى بسماعه بلا كيف وحرف وبلا واسطة سفير وملك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ تفضلا عليك بقدر وسعك واستعدادك ولا تبادر الى سؤال ما لا طاقة لك به ولا يسع في وسعك الاستكشاف عنه وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمنا الواصلة إليك واصرفها على الوجه الذي امرناك به من المصارف ووفقناك عليه ولا تكن من الكافرين لنعمائنا المنصرفين عن أوامرنا وأحكامنا لتفوز عنا بالرضا الذي هو احسن احوال ارباب الكشف والشهود
وَمن جملة اصطفائنا له وانعامنا إياه انا قد كَتَبْنا لَهُ وأثبتنا لأجل تربيته وإرشاده فِي الْأَلْواحِ اى ألواح التورية مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يتعلق بتهذيب الظاهر والباطن مَوْعِظَةً تذكرة وتبيانا(1/266)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
يتعظ بها هو ومن تبعه وَتَفْصِيلًا توضيحا وتبيينا متعلقا لِكُلِّ شَيْءٍ اى لكل حكم من الاحكام المتعلقة بأمور معاشهم فَخُذْها اى فقلنا له خذها ايها الداعي للخلق الى الحق بِقُوَّةٍ عزيمة صادقة وجزم خالص وَأْمُرْ قَوْمَكَ ايضا يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها يعنى بعزائمها دون رخصها حتى تستعد نفوسهم لان يفيض عليها المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات التي هي عبارة عن الجنة المأوى والفردوس الأعلى والرتبة العليا عند العارف المحقق ولا يميلوا عنها وعن أحكامها حتى لا يلحقوا بزمرة الفساق المنحطين عن رتبة الخلافة الانسانية وبالجملة سَأُرِيكُمْ في النشأة الاخرى ايها المائلون عن مقتضى الاحكام الإلهية التي هي صراط الله الأقوم دارَ الْفاسِقِينَ التي هي عبارة عن جهنم الحرمان وجحيم الخذلان وسعير الخيبة والخسران أعاذنا الله وعموم عباده منها.
ثم قال سبحانه سَأَصْرِفُ أميل واغفل عَنْ آياتِيَ الظاهرة في الآفاق والأنفس الدالة على توحيدي واستقلالى في عموم التصرفات الكائنة في الآفاق والتدابير الجارية فيها بالاستقلال والاستحقاق القوم الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ ويمشون خيلاء فِي الْأَرْضِ وهم يظلمون عليها بِغَيْرِ الْحَقِّ لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم وَهم من نهاية جهلهم المركوز في جبلتهم إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ دالة على الصدق والصواب لا يُؤْمِنُوا بِها عتوا وعنادا وَبالجملة إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ والهداية لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لعدم موافقة طباعهم إياه وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ والضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لميل نفوسهم نحوه بالطبع ذلِكَ اى الصرف والانحراف العارض لهم والاهوية الباطلة والآراء الفاسدة كلها بِأَنَّهُمْ من غاية انهماكهم في الضلال قد كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا المنزلة على رسلنا وَكانُوا من غاية جهلهم عَنْها وعن الامتثال بها والعمل بمقتضاها والتدبر في معناها غافِلِينَ غفلة مؤبدة لا تيقظ لهم منها أصلا. نبهنا يا الله بلطفك عن نومة الغافلين يا ذا القوة المتين
وَبالجملة المسرفون المفرطون الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الظاهرة عن اوصافنا الذاتية حسب اسمنا الرّحمن في النشأة الاولى وَلِقاءِ الْآخِرَةِ اى كذبوا برجوع الكل إلينا حسب اسمنا الرّحيم في النشأة الاخرى أولئك الأشقياء البعداء المردودون المطرودون هم الذين قد حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وضاعت بضائعهم وأموالهم وهم قد خسروا فيها في الاولى والاخرى هَلْ يُجْزَوْنَ وما يجازون باحباط الأعمال إِلَّا بمقتضى ما كانُوا يَعْمَلُونَ يفترون ويكتسبون لأنفسهم من تكذيب الآيات والرسل المنبهين لها المبينين لمقتضاها ومن جملة الأسباب الموجبة لإحباط أعمالهم اتخاذهم العجل آلها
وَذلك انه قد اتَّخَذَ وأخذ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد ذهابه الى الميقات عند ربه مِنْ حُلِيِّهِمْ التي قد ورثوها من القبط بتعليم السامري إياهم عِجْلًا اى صورة عجل وبعد ما اذابوا الحلي وصاغوها على الوجه الذي خيلوه القى السامري عليها ما قبض من تراب حافر فرس جبرئيل عليه السّلام فصارت جَسَداً عجلا نيئا لَهُ خُوارٌ صوت كصوت البقر فقال لهم السامري هذا إلهكم واله موسى فاتخذوه آلها مع انهم قد صاغوه بأيديهم من حليهم أَيأخذون العجل المصوغ آلها أولئك الهالكون في تيه الغفلة والنسيان ولَمْ يَرَوْا ولم يعلموا ولم يتفطنوا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ اى العجل المصوغ المصنوع بكلام دال على صلاحهم وإصلاح حالهم وَلا يَهْدِيهِمْ ولا يرشدهم سَبِيلًا الى الخير والصواب حتى يستحق ان يعبد له. والمعبود لا بدان يأمر وينهى ويرشد ويهدى بل ما(1/267)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
اتَّخَذُوهُ الها معبودا الا ظلما وزورا وخروجا من مقتضى العقل والنقل وَبالجملة هم قد كانُوا في أنفسهم ظالِمِينَ خارجين متجاوزين عن مقتضى العقل والنقل
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ اى لما ظهر ندمهم عن فعلهم واشتد فيهم تجهيل نفوسهم وتخطئة عقولهم وبالجملة قد لاح عندهم قبح صنيعهم هذا وَرَأَوْا وعلموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا بارتكاب هذه الفعلة القبيحة عن مقتضى العقل والنقل ضلالا بعيدا بمراحل عن الرشد والهداية قالُوا متضرعين مسترجعين خائفين خجلين لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بسعة رحمته وجوده وَلم يَغْفِرْ لَنا ما جئنا به ولم يتجاوز عنا ما فرطنا فيه لَنَكُونَنَّ البتة مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا عظيما في الدنيا والآخرة
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما قد وقع فيهم ما وقع وقد سمع ما سمع صار غَضْبانَ اى استولى عليه غضبه حمية وغيرة أَسِفاً متأسفا متحزنا لضلال قومه فلما وصل إليهم قالَ لهم مغاضبا بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي اى بئس شيأ ابتدعتم خلفي مِنْ بَعْدِي اى من بعد ذهابي الى ربي لأزيد صلاحكم وإصلاحكم ايها المسرفون المفرطون فازددتم الضلال وقد استوجبتم العذاب والنكال أَعَجِلْتُمْ ايها الحمقى أَمْرَ رَبِّكُمْ اى عذابه وعقابه عليكم وَمن شدة غضبه وطغيان حميته وغيرته أَلْقَى الْأَلْواحَ التي قد كانت في يده من التورية فانكسرت منها وضاعت ما يتعلق بتفصيل الاحكام وبقي المواعظ والتذكيرات وَمن افراط قهره وغضبه أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون اى من شعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ اى الى نفسه زجرا عليه وتشددا معه قائلا له مملوا من الغيظ كيف لا تحفظهم ولا تنكر عليهم ولا تمنعهم عن فعلهم هذا حتى لا يضلوا ولا يكفروا باتخاذ العجل الها قالَ هارون معتذرا متحزنا يا ابْنَ أُمَّ اضافه الى الام استعطافا إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي حين أظهرت الإنكار عليهم وأردت ان نصرفهم عما هم عليه وحده وصاروا بأجمعهم أعدائي بل وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي لشدة غيظهم على وعداوتهم معى وأنت ايضا تغضب على علاوة وتجر رأسى حمية وغيرة وهم الآن تفرحون وتضحكون ببغضك على وزجرك إياي فَلا تُشْمِتْ ولا تفرح يا أخي بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي شريكا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العقل والنقل
ثم لما سمع موسى من هارون ما سمع ندم عن فعله وعن سوء الأدب مع أخيه مع انه اكبر سنا منه واسترجع الى الله حيث قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي عما صنعت مع أخي مع انه بريء مما نسبته اليه وَاغفر ايضا لِأَخِي فيما تقاعد وتقاصر في انكار هؤلاء الضالين المتخذين لك شريكا سيما من ادنى مخلوقاتك وأدون مصنوعاتك وَبالجملة أَدْخِلْنا بفضلك وجودك فِي سعة رَحْمَتِكَ وكنف حفظك وجوارك وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ المصوغ الها بمجرد الخوار الذي صدر عنه سَيَنالُهُمْ وينزل عليهم في النشأة الاخرى غَضَبٌ نازل مِنْ رَبِّهِمْ يطردهم ويبعدهم عن ساحة عز حضوره وَذِلَّةٌ صغار وهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَبالجملة كَذلِكَ في النشأة الاولى والاخرى نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ المشركين لنا غيرنا من مخلوقاتنا افتراء ومراء.
ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ قصدا أو خطأ ثُمَّ تابُوا ورجعوا نحونا نادمين مِنْ بَعْدِها اى من بعد سيئاتهم وَالحال انه قد كان توبتهم مقرونة بالإيمان بان آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل مِنْ بَعْدِها اى من بعد ما جاءوا بالتوبة والندامة عن ظهر القلب لَغَفُورٌ(1/268)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
لما صدر عنهم من الذنوب رَحِيمٌ يقبل توبتهم بعد ما قد وفقهم بها
وَلَمَّا سَكَتَ اى سكن وذهب عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ الذي قد استولى عليه الى حيث القى ألواح التورية وأخذ شعر أخيه يجره أَخَذَ الْأَلْواحَ المنكسرة المتلاشئة وان انكسر وضاع عنها ما فيها تفصيل كل شيء وَقد بقي منها ما فِي نُسْخَتِها اى فيما رقم ونسخ فيها سالمة عن الكسر والانكسار هُدىً اى أوامر ونواهى توصلهم الى توحيد الحق ان امتثلوا به وقبلوا وَرَحْمَةٌ تنجيهم عن الضلال ان اتصفوا بها كل ذلك حاصل لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ اى يخافون عن الله طلبا لمرضاته لا لغرض آخر من الرياء والسمعة بل من طلب الجنة وخوف العذاب ايضا بل لا يطلبون من الله الا الله ولا يأملون منه سواه
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك قصة الكليم حين اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ اى اختار وانتخب موسى باذن منا إياه من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا ومناجاتنا فانتخب من كل سبط من الأسباط الاثنى عشر ستة نفر فزاد على المبلغ اثنين فأمر موسى بتقاعدهما فتخاصموا وتشاجروا في تعيينهما الى ان قال موسى ان اجر من قعد مثل اجر من صعد بل اكثر فقعد كالب ويوشع وذهب موسى معهم فلما دخلوا شعب الجبل وأرادوا الصعود غشيه غمام مظلم كثيف فدخلوا الغمام وخروا سجدا فسمعوا يتكلم سبحانه مع موسى يأمره وينهاه وهو يناجى مع ربه فلما تم الكلام وانكشف الغمام قالوا بعد ما سمعوا كلامه سبحانه مستكشفين عن ذاته لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ظاهرة منكشفة ذاته لأبصارنا كما انكشف كلامه لأسماعنا فاخذتهم الرجفة بسبب سؤالهم هذا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى الصاعقة النازلة من قهر الله وغضبه لطلبهم ما ليس في وسعهم واستعدادهم قالَ موسى مشتكيا الى الله يا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ اى لو تعلقت مشيتك لإهلاكهم لم لم تهلكهم مِنْ قَبْلُ اى قبل اسماعهم كلامك وَإِيَّايَ ايضا لم لم تهلكني حتى لا ينسب الى إهلاكهم عند عوام بنى إسرائيل وهم لا يتشأمون بي ثم قال موسى من غاية اضطرابه أَتُهْلِكُنا بالصاعقة الشديدة يا رب بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا اى بسبب سؤال سئل سفهاءنا وصدر عنهم هذا هفوة بلا علم لهم بعظمتك وجلالك وحق قدرك وعزك بل إِنْ هِيَ اى هذه الفعلة المستبعدة والمسألة المستحيلة ايضا إِلَّا فِتْنَتُكَ اختبارك وابتلاؤك إياهم إذ أسمعت أنت لهم كلامك فاوقعتهم بهذه الفتنة العظيمة إذ أنت تُضِلُّ بِها اى بفتنتك مَنْ تَشاءُ من عبادك بان اجترءوا عليك بعد ما انكشفت عليهم نوع انكشاف وجذبتهم نحوك نوع انجذاب الى انكشاف أعلى منه واجلى فتضلوا وتكفروا بلا علم لهم الى مقتضيات استعداداتهم وَتَهْدِي بها ايضا مَنْ تَشاءُ بان سكتوا عن السؤال مطلقا وفوضوا أمورهم كلها إليك ولا يسألوا عنك ما لم يستأذنوا منك والكل بيدك وما صدر عموم ما صدر عمن صدر الا بتوفيقك واقدارك بل بك ومنك وبمقتضى قدرتك وارادتك وبالجملة أَنْتَ وَلِيُّنا ومولى أمورنا ومولى نعمنا فَاغْفِرْ لَنا عموم ما جرى علينا من المعاصي والآثام وَارْحَمْنا برحمتك الواسعة تفضلا علينا وامتنانا واعف عنا بفضلك وجودك وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ الساترين ذنوب عصاة المسرفين المفرطين
وَاكْتُبْ لَنا يا ربنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً لا توقعنا في فتنتك وَفِي الْآخِرَةِ ايضا حسنة توصلنا الى ذروة توحيدك إِنَّا بعد ما تحققنا بعلو شانك وسمو برهانك هُدْنا اى تبنا ورجعنا إِلَيْكَ من ان نسأل منك ما ليس لنا علم به سيما بما يتعلق بذاتك قالَ سبحانه متعززا برداء العظمة والكبرياء(1/269)