وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
إِلَّا وَثَاقَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَكَانَ فِيهَا إِمَّا خَمْسِينَ وَإِمَّا أَرْبَعِينَ، قَالَ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ قَطُّ أَطْيَبَ عَيْشًا إِذْ كُنْتُ فِيهَا، وَدِدْتُ أَنَّ عَيْشِي وَحَيَاتِي كُلَّهَا مِثْلَ عيشي إذ كنت فيها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 77]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لُوطًا هُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ، فَحَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا أَنَّهُ نَجَّى إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَكَانَا بِالْعِرَاقِ، وَسَمَّاهَا سُبْحَانَهُ مُبَارَكَةً لِكَثْرَةِ خِصْبِهَا وَثِمَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَلِأَنَّهَا مَعَادِنُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَصْلُ الْبَرَكَةِ ثُبُوتُ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْبَعِيرُ إِذَا لَزِمَ مَكَانَهُ فَلَمْ يَبْرَحْ، وَقِيلَ: الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ مَكَّةُ وَقِيلَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ لِأَنَّ مِنْهَا بَعَثَ اللَّهُ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ أَيْضًا كَثِيرَةُ الْخِصْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسير العالمين. ثم قال سبحانه ممتنا على إبراهيم وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً النَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا، فَوَهَبَ لَهُ إِسْحَاقَ، ثُمَّ وَهَبَ لِإِسْحَاقَ يَعْقُوبَ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ، فَكَانَ ذَلِكَ نَافِلَةً، أَيْ: زِيَادَةً وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّافِلَةِ هُنَا الْعَطِيَّةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ:
النَّافِلَةُ هُنَا وَلَدُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَلَدِ، وَانْتِصَابُ نَافِلَةً عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: النَّافِلَةُ: يَعْقُوبُ خَاصَّةً لِأَنَّهُ وَلَدُ الْوَلَدِ وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ أَيْ: وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ: إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لَا بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ جَعَلْنَاهُ صَالِحًا عَامِلًا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَارِكًا لِمَعَاصِيهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاحِ هُنَا النُّبُوَّةُ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أَيْ: رُؤَسَاءَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ وَأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، وَمَعْنَى بِأَمْرِنَا: بِأَمْرِنَا لَهُمْ بِذَلِكَ، أَيْ: بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أَيْ: أَنْ يَفْعَلُوا الطَّاعَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرَاتِ شَرَائِعُ النُّبُوَّاتِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ أَيْ: كَانُوا لَنَا خَاصَّةً دُونَ غَيْرِنَا مُطِيعِينَ، فَاعِلِينَ لِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ، تَارِكِينَ مَا نَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً انْتِصَابُ لُوطًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ «آتَيْنَاهُ» ، أَيْ: وَآتَيْنَا لُوطًا آتَيْنَاهُ وَقِيلَ: بِنَفْسِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ وَقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ هُوَ اذْكُرْ، وَالْحُكْمُ: النُّبُوَّةُ، وَالْعِلْمُ: الْمَعْرِفَةُ بِأَمْرِ الدِّينِ وَقِيلَ: الْحُكْمُ: هُوَ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ بِالْحَقِّ وَقِيلَ: هُوَ الْفَهْمُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ الْقَرْيَةُ هِيَ سَدُومُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَعْنَى «تعمل الخبائث» : يعمل أهلها الخبائث، فوصفت الْقَرْيَةَ بِوَصْفِ أَهْلِهَا، وَالْخَبَائِثُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا هي(3/491)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
اللِّوَاطَةُ وَالضُّرَاطُ وَخَذْفُ الْحَصَى «1» كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ أَيْ: خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا بِإِنْجَائِنَا إِيَّاهُ مِنَ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ، وَمَعْنَى «فِي رَحْمَتِنَا» : فِي أَهْلِ رَحْمَتِنَا، وَقِيلَ: فِي النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: فِي الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: فِي الْجَنَّةِ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى وَنُوحاً إِذْ نَادَى أَيْ: وَاذْكُرْ نُوحًا إِذْ نَادَى رَبَّهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ دُعَاءَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أَيْ: مِنَ الْغَرَقِ بِالطُّوفَانِ، وَالْكَرْبُ: الْغَمُّ الشَّدِيدُ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ: نَصَرْنَاهُ نَصْرًا مُسْتَتْبَعًا لِلِانْتِقَامِ مِنَ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَنَعْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنْ بِمَعْنَى عَلَى. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: لَمْ نَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَدًا، بَلْ أَغْرَقْنَا كَبِيرَهُمْ وَصَغِيرَهُمْ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الذَّنْبِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها قَالَ: الشَّامُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لُوطٌ كَانَ ابْنَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ قَالَ: وَلَدًا وَيَعْقُوبَ نافِلَةً قَالَ: ابْنُ الِابْنِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَكَمِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن مُجَاهِدٍ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ قَالَ: أَعْطَيْنَاهُ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً قال: عطية.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 88]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
__________
(1) . أي: رميها.(3/492)
قَوْلُهُ: وَداوُدَ مَعْطُوفٌ عَلَى «نُوحاً» وَمَعْمُولٌ لِعَامِلِهِ الْمَذْكُورِ، أَوِ الْمُقَدَّرِ كَمَا مَرَّ وَسُلَيْمانَ مَعْطُوفٌ عَلَى دَاوُدَ، وَالظَّرْفُ فِي إِذْ يَحْكُمانِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا عَمِلَ فِي دَاوُدَ، أَيْ: وَاذْكُرْهُمَا وَقْتَ حُكْمِهِمَا، وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِهِمَا ذِكْرُ خَبَرِهِمَا. وَمَعْنَى فِي الْحَرْثِ في شأن الحرث، قيل: كَانَ زَرْعًا، وَقِيلَ: كَرْمًا، وَاسْمُ الْحَرْثِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ أَيْ: تَفَرَّقَتْ وَانْتَشَرَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
النَّفَشُ بِالتَّحْرِيكِ أَنْ تَنْتَشِرَ الْغَنَمُ بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ رَاعٍ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أَيْ: لِحُكْمِ الْحَاكِمَيْنِ، وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالرَّضِيِّ، وَتَقَدَّمَهُمَا إِلَى الْقَوْلِ بِهِ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْحَاكِمَانِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى «شَاهِدِينَ» : حَاضِرِينَ، وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «إِذْ يَحْكُمَانِ» لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَاضِي، وَالضَّمِيرُ فِي «فَفَهَّمْنَاهَا» يَعُودُ إِلَى الْقَضِيَّةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْكَلَامِ، أَوِ الْحُكُومَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِذِكْرِ الْحُكْمِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى دَاوُدَ، وَعِنْدَهُ ابْنُهُ سُلَيْمَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ، وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ: إِنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ لَيْلًا فَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ: لَكَ رِقَابُ الْغَنَمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ:
أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، يَنْطَلِقُ أَصْحَابُ الْكَرْمِ بِالْغَنَمِ فَيُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَيَقُومُ أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْكَرْمِ، حَتَّى إِذَا كَانَ كَلَيْلَةِ نَفَشَتْ فِيهِ دَفَعَ هَؤُلَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ غَنَمَهُمْ، وَدَفَعَ هَؤُلَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ كَرْمَهُمْ، فَقَالَ دَاوُدُ:
الْقَضَاءُ مَا قَضَيْتَ، وَحَكَمَ بِذَلِكَ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِنَّمَا قَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ لِأَنَّ ثَمَنَهَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، وَأَمَّا فِي حُكْمِ سُلَيْمَانَ فَقَدْ قِيلَ: كَانَتْ قِيمَةُ مَا نَالَ مِنَ الْغَنَمِ، وَقِيمَةُ مَا أَفْسَدَتِ الْغَنَمُ، سَوَاءً. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ دَاوُدَ حَكَمَ بِوَحْيٍ، وَحَكَمَ سُلَيْمَانُ بِوَحْيٍ نَسَخَ اللَّهُ بِهِ حُكْمَ دَاوُدَ، فَيَكُونُ التَّفْهِيمُ عَلَى هَذَا بِطْرِيقِ الْوَحْيِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ بِاجْتِهَادٍ، وَكَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ مَعْرُوفٌ وَهَكَذَا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَلْ كَلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوِ الْحَقُّ مَعَ وَاحِدٍ؟
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمُسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ على أنّ كلّ مجتهد مصيب، ولا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيبا، فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا غَيْرُهَا، بَلْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، فَسَمَّاهُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُخْطِئًا، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ مُوَافِقٌ لَهُ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِلَّا لَزِمَ تَوَقُّفُ حُكْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى اجْتِهَادَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ، واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضا يُسْتَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الَّتِي اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ المجتهدين فيها بالحلّ والحرمة حلالا وحراما في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كُلُّ مُجْتَهِدٍ لَهُ اجْتِهَادٌ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَلَا يَنْقَطِعُ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا إِلَّا بِانْقِطَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا لَا مَزِيدَ عليه في المؤلّف الَّذِي سَمَّيْنَاهُ «الْقَوْلَ الْمُفِيدَ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ» وَفِي «أَدَبِ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ» فَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِمَا.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا حُكْمُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَالْمِلَّةِ(3/493)
الْإِسْلَامِيَّةِ؟ قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّهُ شَرَّعَ لِأُمَّتِهِ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ، وَعَلَى أَصْحَابِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ مَضْمُونٌ عَلَى أَهْلِهَا، وَهَذَا الضَّمَانُ هُوَ مِقْدَارُ الذَّاهِبِ عَيْنًا أَوْ قِيمَةً. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ الْبَهَائِمَ إِذَا أَفْسَدَتْ زَرْعًا فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهَا شَيْءٌ، وَأَدْخَلُوا فَسَادَهَا فِي عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» «1» قِيَاسًا لِجَمِيعِ أَفْعَالِهَا عَلَى جُرْحِهَا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ رَبُّ الْمَاشِيَةِ مَا أَفْسَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ كَانَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا بِاجْتِهَادٍ. قَوْلُهُ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُمَا إِنْ كَانَا خَاصَّيْنِ فَصِدْقُهُمَا عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى صِدْقِهِمَا عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَا عَامَّيْنِ فَهَذَا الْفَرْدُ مِنَ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ، وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَحَقُّ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ بِدُخُولِهِ تَحْتَهُ وَدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، وَمِمَّا يستفاد من دَفْعُ مَا عَسَى يُوهِمُهُ تَخْصِيصُ سُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ، مِنْ عَدَمِ كَوْنِ حُكْمِ دَاوُدَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، أَيْ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْطَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا كَثِيرًا، لَا سُلَيْمَانَ وَحْدَهُ. وَلَمَّا مَدَحَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، ذَكَرَ مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَبَدَأَ بِدَاوُدَ فَقَالَ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ التَّسْبِيحُ إِمَّا حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ، وَقَدْ قَالَ بِالْأَوَّلِ جَمَاعَةٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَذَلِكَ أَنَّ دَاوُدَ كَانَ إِذَا سَبَّحَ سَبَّحَتِ الْجِبَالُ مَعَهُ وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي مَعَهُ إِذَا صَلَّى، وَهُوَ مَعْنَى التَّسْبِيحِ. وَقَالَ بِالْمَجَازِ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ، وَحَمَلُوا التَّسْبِيحَ عَلَى تَسْبِيحِ مَنْ رَآهَا تَعَجُّبًا مِنْ عَظِيمِ خَلْقِهَا وَقُدْرَةِ خَالِقِهَا وَقِيلَ: كَانَتِ الْجِبَالُ تَسِيرُ مَعَ دَاوُدَ، فَكَانَ مَنْ رَآهَا سَائِرَةً مَعَهُ سَبَّحَ. وَالطَّيْرَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجِبَالِ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَالطَّيْرُ مُسَخَّرَاتٌ، وَلَا يَصِحُّ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي «يُسَبِّحْنَ» لِعَدَمِ التَّأْكِيدِ وَالْفَصْلِ.
وَكُنَّا فاعِلِينَ يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفْهِيمِ، وَإِيتَاءِ الْحُكْمِ وَالتَّسْخِيرِ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اللَّبُوسُ عِنْدَ الْعَرَبِ السِّلَاحُ كُلُّهُ دِرْعًا كَانَ أَوْ جَوْشَنًا «2» ، أَوْ سَيْفًا، أَوْ رُمْحًا. قَالَ الْهُذَلِيُّ:
وَعِنْدِي لَبُوسٌ فِي اللِّبَاسِ كأنه، إلخ «3»
......
__________
(1) . «العجماء» : الدابة. و «الجبار» : الهدر.
(2) . «الجوشن» : الدرع.
(3) . في تفسير القرطبي (11/ 321) : ومعي لبوس للبئيس كأنه.
وعجزه: روق بجبهة ذي نعاج مجفل.
«البئيس» : الشجاع. «الروق» : القرن. «ذو نعاج» : الثور الوحشي.(3/494)
وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الدُّرُوعُ خَاصَّةً، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَلْبُوسِ، كَالرَّكُوبِ وَالْحَلُوبُ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ أَعْنِي «لَكُمْ» متعلّق ب «علّمناه» ليحصنكم مِنْ بَأْسِكُمْ قَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَرَوْحٌ «لِتُحْصِنَكُمْ» بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى الصَّنْعَةِ، أَوْ إِلَى اللَّبُوسِ بِتَأْوِيلِ الدِّرْعِ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «لِنُحَصِّنَكُمْ» بِالنُّونِ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّبُوسِ، أَوْ إِلَى دَاوُدَ، أَوْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَمَعْنَى مِنْ بَأْسِكُمْ مِنْ حَرْبِكُمْ، أَوْ مِنْ وَقْعِ السِّلَاحِ فِيكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمْنَا بِهَا عَلَيْكُمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا خَصَّ بِهِ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أَيْ: وسخرنا الرِّيحَ عاصِفَةً أَيْ: شَدِيدَةَ الْهُبُوبِ. يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ، أَيِ: اشْتَدَّتْ، فَهِيَ رِيحٌ عَاصِفٌ وَعَصُوفٌ، وَانْتِصَابُ الرِّيحِ عَلَى الْحَالِ.
وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ وَالسُّلَمِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ» بِرَفْعِ الرِّيحِ عَلَى الْقَطْعِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ «تَجْرِي» . وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ فَيَكُونُ مَحَلُّ تَجْرِي بِأَمْرِهِ النَّصْبَ أَيْضًا عَلَى الْحَالِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي:
بتدبير كُلِّ شَيْءٍ وَمِنَ الشَّياطِينِ أَيْ: وَسَخَّرْنَا مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبِحَارِ وَيَسْتَخْرِجُونَ مِنْهَا مَا يَطْلُبُهُ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ «مِنْ» مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَا قَبْلَهُ، وَالْغَوْصُ: النُّزُولُ تَحْتَ الْمَاءِ، يُقَالُ: غَاصَ فِي الْمَاءِ، وَالْغَوَّاصُ: الَّذِي يَغُوصُ فِي الْبَحْرِ عَلَى اللُّؤْلُؤِ. وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ سِوَى ذَلِكَ، وقيل: يراد بِذَلِكَ الْمَحَارِيبَ وَالتَّمَاثِيلَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُسَخِّرُهُمْ فِيهِ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أَيْ: لِأَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَافِظِينَ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَهْرُبُوا أَوْ يَتَمَنَّعُوا، أَوْ حَفِظْنَاهُمْ مِنْ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ أَمْرِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ يَحْفَظُهُمْ مِنْ أَنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا، وَكَانَ دَأْبُهُمْ أَنْ يُفْسِدُوا بِاللَّيْلِ مَا عَمِلُوا بِالنَّهَارِ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ: إِمَّا الْمَذْكُورُ أَوِ الْمُقَدَّرُ كَمَا مَرَّ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ وَهُوَ «إِذْ نَادَى رَبَّهُ» هُوَ الْعَامِلُ فِي أَيْوبَ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ أَيْ: بِأَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ. وَقُرِئَ بِكَسْرِ «إِنِّي» .
وَاخْتُلِفَ فِي الضُّرِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ مَاذَا هُوَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ قَامَ لِيُصَلِّيَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَجْزِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِلصَّبْرِ وَقِيلَ: انْقَطَعَ الْوَحْيُ عَنْهُ أربعين عاما وَقِيلَ: إِنَّ دُودَةً سَقَطَتْ مِنْ لَحْمِهِ فَأَخَذَهَا وَرَدَّهَا فِي مَوْضِعِهَا فَأَكَلَتْ مِنْهُ، فَصَاحَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَقِيلَ: كَانَ الدُّودُ تَنَاوَلَ بَدَنَهُ فَيَصْبِرُ حَتَّى تَنَاوَلَتْ دُودَةٌ قَلْبَهُ وَقِيلَ: إِنَّ ضُرَّهُ قَوْلُ إِبْلِيسَ لِزَوْجَتِهِ اسْجُدِي لِي، فَخَافَ ذَهَابَ إِيمَانِهَا وَقِيلَ:
إِنَّهُ تَقَذَّرَهُ قَوْمُهُ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالضُّرِّ الشَّمَاتَةَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَلَمَّا نَادَى رَبَّهُ مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ وَصَفَهُ بِغَايَةِ الرَّحْمَةِ فَقَالَ: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِاسْتِجَابَتِهِ لِدُعَائِهِ، فَقَالَ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ أَيْ: شَفَاهُ اللَّهُ مِمَّا كَانَ بِهِ، وَأَعَاضَهُ بِمَا ذَهَبَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قِيلَ: تَرَكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، وَأَعْطَاهُ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْإِسْنَادُ بِذَلِكَ صَحِيحٌ، وَقَدْ كَانَ مَاتَ أَهْلُهُ جَمِيعًا إِلَّا امْرَأَتَهُ، فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفِ الْبَصَرِ، وَآتَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ(3/495)
ذَلِكَ بِأَنْ وُلِدَ لَهُ ضِعْفُ الَّذِينَ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: آتَيْنَاهُ مِثْلَ أَهْلِهِ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَانْتِصَابُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: آتَيْنَاهُ ذَلِكَ لِرَحْمَتِنَا لَهُ وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أَيْ: وَتَذْكِرَةً لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَابِدِينَ لِيَصْبِرُوا كَمَا صَبَرَ.
وَاخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ عَلَى الْبَلَاءِ، فَقِيلَ: سَبْعُ سِنِينَ وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةُ أَيامٍ وَسَبْعُ لَيَالٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ أَيْ: وَاذْكُرْ هَؤُلَاءِ، وَإِدْرِيسَ هُوَ أَخْنُوخُ، وَذَا الْكِفْلِ إِلْيَاسُ، وَقِيلَ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقِيلَ: زَكَرِيَّا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَا يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَتَابَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَقِيلَ: إِنَّ الْيَسَعَ لَمَّا كَبِرَ قَالَ: مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي بِكَذَا وَكَذَا مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ حَتَّى أَسْتَخْلِفَهُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَاسْتَخْلَفَهُ وَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ. وَقِيلَ: كَانَ رَجُلًا يَتَكَفَّلُ بِشَأْنِ كُلِّ إِنْسَانٍ إِذَا وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ نَبِيٌّ. ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا كَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا أَيْ: فِي الْجَنَّةِ، أَوْ فِي النُّبُوَّةِ، أَوْ فِي الْخَيْرِ عَلَى عُمُومِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيِ: الْكَامِلِينَ فِي الصَّلَاحِ وَذَا النُّونِ أَيْ: وَاذْكُرْ ذَا النُّونِ، وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، وَلُقِّبَ «ذَا النُّونِ» لِابْتِلَاعِ الْحُوتِ لَهُ، فَإِنَّ النُّونَ مِنْ أَسْمَاءِ الْحُوتِ وَقِيلَ: سُمِّيَ «ذَا النُّونِ» لِأَنَّهُ رَأَى صَبِيًّا مَلِيحًا فَقَالَ دَسِّمُوا نُونَتَهُ لِئَلَّا تُصِيبَهُ الْعَيْنُ.
وَحَكَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ نُونَةَ الصَّبِيِّ هِيَ الثُّقْبَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي ذَقَنِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَمَعْنَى دَسِّمُوا:
سَوِّدُوا إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أَيِ: اذْكُرْ ذَا النُّونِ وَقْتَ ذَهَابِهِ مُغَاضِبًا، أي: مراغما. قال الحسن والشعبي وسعيد بْنُ جُبَيْرٍ: ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جرير والقتبي وَالْمَهْدَوِيُّ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرُبَّمَا أَنْكَرَ هَذَا مِنْ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ. وَالْمَعْنَى: مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ، كَمَا تَقُولُ غَضِبْتُ لَكَ، أَيْ: مِنْ أَجْلِكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا خَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ الَّذِي كَانَ فِي وَقْتِهِ وَاسْمُهُ حِزْقِيَا وَقِيلَ: لَمْ يُغَاضِبْ رَبَّهُ وَلَا قَوْمَهُ وَلَا الْمَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ غَضِبَ إِذَا أَنِفَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ قَوْمَهُ بِالْعَذَابِ وَخَرَجَ عَنْهُمْ تَابُوا وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَلَمَّا رَجَعَ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُهْلَكُوا أَنِفَ مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الْغَضَبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَغْضَبُ أَنْ تُهْجَى تَمِيمٌ بِعَامِرٍ «1» أَيْ: آنَفُ. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «نَقْدِرَ» بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الدَّالِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقِيلَ: مَعْنَاهَا: أَنَّهُ وَقَعَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى مُعَاقَبَتِهِ.
وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ هَذَا الظَّنَّ بِاللَّهِ كُفْرٌ، ومثل ذلك
__________
(1) . في تفسير القرطبي (11/ 331) : بدارم.(3/496)
لَا يَقَعُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَعْنَاهَا: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ:
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ «1» أَيْ: يُضَيِّقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يُقَالُ: قَدَرَ وَقَدَّرَ، وَقَتَرَ وَقَتَّرَ أَيْ: ضَيَّقَ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ أَيْ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَدَرِ وَهُوَ الْحُكْمُ دُونَ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: هُوَ مِنَ التَّقْدِيرِ لَيْسَ مِنَ الْقُدْرَةِ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدَّرَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ يُقَدِّرُهُ قَدَرًا، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ اللَّوَى بِرَوَاجِعٍ ... لَنَا أَبَدًا مَا أَبْرَمَ «2» السَّلْمَ النَّضِرُ
وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يقع وذلك «3» الشُّكْرِ
أَيْ: مَا تُقَدِّرُهُ وَتَقْضِي بِهِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهَرِيِّ «فَظَنَّ أَنْ نُقَدِّرَ» بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، مِنَ التَّقْدِيرِ. وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قِرَاءَةُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالْأَعْرَجِ «أَنْ لَنْ يُقَدَّرَ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا للمفعول، وقرأ يعقوب وعبد الله ابن إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ «يُقْدَرُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ لِأَهْلِهِ أَنْ يَحْرِقُوهُ إذا مات، ثم قال: فو الله لَئِنْ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ ... الْحَدِيثَ. كَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَطُولُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَاهُنَا مَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ النَّاظِرُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ فَصِيحَةٌ أَيْ: كَانَ مَا كَانَ مِنِ الْتِقَامِ الْحُوتِ لَهُ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَكَانَ نِدَاؤُهُ: هُوَ قَوْلُهُ: أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ:
بِأَنْ لَا إِلَهَ إلّا أنت ... إِلَخْ، وَمَعْنَى سُبْحَانَكَ: تَنْزِيهًا لَكَ مِنْ أَنْ يُعْجِزَكَ شَيْءٌ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هَذَا الْقَوْلُ مِنْ يُونُسَ اعْتِرَافٌ بِذَنْبِهِ وَتَوْبَةٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ، قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَالَ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ دُعَاءَهُ الَّذِي دَعَانَا بِهِ فِي ضِمْنِ اعْتِرَافِهِ بِالذَّنْبِ عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ بِإِخْرَاجِنَا لَهُ مَنْ بَطْنِ الْحُوتِ حَتَّى قَذَفَهُ إِلَى السَّاحِلِ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: نُخَلِّصُهُمْ مَنْ هَمِّهِمْ بِمَا سَبَقَ مِنْ علمهم، وَمَا أَعْدَدْنَاهُ لَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهَذَا هُوَ معنى الآية الأخرى، وهي قَوْلُهُ: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ- لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «4» . قَرَأَ الْجُمْهُورُ نُنَجِّي بِنُونَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «نُجِّي» بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ وَتَسْكِينُ الْيَاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَإِضْمَارُ الْمَصْدَرِ، وَكَذَلِكَ نُجِّي النجاء الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا تَقُولُ ضَرَبَ زَيْدًا، أَي: ضَرَبَ
__________
(1) . الرعد: 26 وفي غيرها.
(2) . في تفسير القرطبي (11/ 332) : أورق. [.....]
(3) . في تفسير القرطبي (11/ 332) : ولك.
(4) . الصافات: 143- 144.(3/497)
الضَّرْبَ زَيْدًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
وَلَوْ وَلَدَتْ قفيرة «2» جِرْوَ كَلْبٍ ... لَسُبَّ بِذَلِكَ الْجِرْوِ الْكِلَابَا
هَكَذَا قَالَ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عبيد وثعلب، وخطأها أَبُو حَاتِمٍ وَالزَّجَّاجُ وَقَالَا: هِيَ لَحْنٌ لِأَنَّهُ نَصَبَ اسْمَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ نُجِّيَ الْمُؤْمِنُونَ. وَلِأَبِي عُبَيْدَةَ قَوْلٌ آخَرُ، وهو أنه أدغم النون في الجيم، وبه قال القتبي. وَاعْتَرَضَهُ النَّحَّاسُ فَقَالَ: هَذَا الْقَوْلُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ لِبُعْدِ مَخْرَجِ النُّونِ مِنْ مَخْرَجِ الْجِيمِ فَلَا يُدْغَمُ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ النَّحَّاسُ: لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا أَحْسَنَ مِنْ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ قَالَ: الْأَصْلُ نُنْجِي، فَحُذِفَ إِحْدَى النُّونَيْنِ لاجتماعهما، كما تحذف إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِاجْتِمَاعِهِمَا، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَفَرَّقُوا «3» وَالْأَصْلُ: وَلَا تَتَفَرَّقُوا. قُلْتُ: وَكَذَا الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النُّونَ الثَّانِيَةَ تَخْفَى مَعَ الْجِيمِ، وَلَا يَجُوزُ تَبْيِينِهَا، فَالْتَبَسَ عَلَى السَّامِعِ الْإِخْفَاءُ بِالْإِدْغَامِ، فَظَنَّ أَنَّهُ إِدْغَامٌ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا إِسْكَانُهُ الْيَاءَ مِنْ نَجَّى وَنَصْبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مَا سَكَّنَ الْيَاءَ وَلَوَجَبَ أَنْ يَرْفَعَ الْمُؤْمِنِينَ. قُلْتُ: وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَهُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَبْيِينُهَا فَقَدْ بُيِّنَتْ فِي قراءة الجمهور، وقرأ محمد بن السّميقع وأبو العالية وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ: نَجَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُرَّةَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ قَالَ: كَانَ الْحَرْثُ نَبْتًا فَنَفَشَتْ فِيهِ لَيْلًا، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَمَرُّوا عَلَى سُلَيْمَانَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: لَا، تُدْفَعُ الْغَنَمُ فَيُصِيبُونَ مِنْهَا، وَيَقُومُ هَؤُلَاءِ عَلَى حَرْثِهِمْ، فَإِذَا كَانَ كَمَا كَانَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَتْ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ الْغَنَمُ، فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرُ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ:
وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: يُدْفَعُ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَتُدْفَعُ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنْهَا، حَتَّى إِذَا عَادَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ وَالْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْكَرْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا نَفَشَتْ قَالَ: رَعَتْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ: أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا. وَقَدْ عُلِّلَ هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي «شَرْحِ الْمُنْتَقَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مردويه من حديث عائشة نحوه،
__________
(1) . هو جرير.
(2) . أم الفرزدق.
(3) . آل عمران 103.(3/498)
وَزَادَ فِي آخِرِهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَانِ، جَاءَ الذِّئْبُ فأخذ أحد الاثنين، فتحا كما إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا فَدَعَاهُمَا سُلَيْمَانُ فَقَالَ: هَاتُوا السِّكِّينَ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: رَحِمَكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا لَا تَشُقَّهُ، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيمَا حَكَتْهُ الْآيَةُ مِنْ حُكْمِهِمَا، لَكِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا وَقَعَ لَهُمَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ قَالَ: يُصَلِّينَ مَعَ دَاوُدَ إِذَا صَلَّى، وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ قَالَ: كَانَتْ صَفَائِحَ، فَأَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وحلّقها داود عليه السَّلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ يُوضَعُ لَهُ سِتُّمِائَةُ أَلْفِ كُرْسِيِّ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْإِنْسِ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِيهِ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْجِنِّ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِي أَشْرَافَ الْإِنْسِ، ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَدْعُو الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُمْ، تَسِيرُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ عُقْبَةَ ابن عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ لِأَيُّوبَ: تَدْرِي مَا جُرْمَكَ عَلَيَّ حَتَّى ابْتَلَيْتُكَ؟ قَالَ: لَا، يَا رَبِّ، قَالَ: لِأَنَّكَ دَخَلْتَ عَلَى فِرْعَوْنَ فَدَاهَنْتَ عِنْدَهُ فِي كَلِمَتَيْنِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكِينٌ عَلَى ظَالِمٍ يَدْرَؤُهُ فَلَمْ يُعِنْهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يَنْهَ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِ الْمِسْكِينِ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ. وَفِي إِسْنَادِهِ جُوَيْبِرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لِأَيُّوبَ أَخَوَانِ، جَاءَا يَوْمًا فَلَمْ يَسْتَطِيعَا أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ رِيحِهِ، فَقَامَا مِنْ بَعِيدٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَوْ كَانَ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِهَذَا، فَجَزِعَ أَيْوبُ مِنْ قَوْلِهِمَا جَزَعًا لَمْ يَجْزَعْ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ مِثْلَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً قَطُّ شَبْعَانَ، وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَلْبَسْ قَمِيصًا قَطُّ وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ فَصَدِّقْنِي، فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ، ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لَا أَرْفَعُ رَأْسِي حَتَّى تَكْشِفَ عَنِّي، فَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى كَشْفَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قَالَ: قِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ إِنَّ أَهْلَكَ لَكَ في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوّضناك مثلهم، قال: لا، بل اتركهم لي في الجنة، قال: فتركوا له في الجنة، وعوّض مثله فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: بَلَغَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قَالَ: أُوتِيَ أَهْلًا غَيْرَ أَهْلِهِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بَلْ أُوتِيَ أَهْلَهُ بِأَعْيَانِهِمْ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالرُّويَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ(3/499)
وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ، كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ ذَاتَ يَوْمٍ: تَعْلَمُ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذَنَبَهُ أَحَدٌ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةٍ لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفْ عَنْهُ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَى أَيُّوبَ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ أَيُّوبُ:
لَا أدري ما تقول غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنِّي أَمُرُّ بِالرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ يَذْكُرَانِ اللَّهَ فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ إِلَّا فِي حَقٍّ، وَكَانَ يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ أَنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ، بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ الْمُبْتَلَى، وَاللَّهِ على ذاك مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ «1» : أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ، وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ «2» حَتَّى فَاضَ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَذَا الْكِفْلِ قَالَ: رَجُلٌ صَالِحٌ غَيْرُ نَبِيٍّ تَكَفَّلَ لِنَبِيِّ قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له، وَيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قَاضٍ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: مَنْ يَقُومُ مَقَامِي عَلَى أَنْ لَا يَغْضَبَ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ، فَكَانَ لَيْلُهُ جَمِيعًا يُصَلِّي، ثُمَّ يصبح صائما فيقضي بين الناس، وذكر قصة. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: مَا كَانَ ذُو الْكِفْلِ نَبِيًّا، وَلَكِنْ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ صَالِحٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ فَتُوُفِّيَ، فَتَكَفَّلَ لَهُ ذُو الْكِفْلِ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، مِنْ طَرِيقِ سَعْدٍ مَوْلَى طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ الْكِفْلُ «3» مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ ارْتَعَدَتْ وَبَكَتْ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ أَكْرَهْتُكِ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجَةُ، فَقَالَ: تَفْعَلِينَ أَنْتِ هَذَا وَمَا فَعَلْتِهِ؟! اذْهَبِي فَهِيَ لَكِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَعْصِي اللَّهَ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَمَاتَ مِنْ ليلته فأصبح مكتوبا عَلَى بَابِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِلْكِفْلِ» .
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعْدٍ مَوْلَى طَلْحَةَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ من
__________
(1) . «الأندر» : البيدر.
(2) . أي الفضّة.
(3) . رواه ابن حبان بلفظ (ذو الكفل) برقم (387) ورواه الترمذي برقم: (2496) وأحمد برقم (2/ 23) بلفظ:
(الكفل) .(3/500)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
طَرِيقِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: فِيهِ ذُو الْكِفْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً يَقُولُ: غَضِبَ عَلَى قَوْمِهِ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يَقُولُ: أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً وَلَا بَلَاءً فِيمَا صَنَعَ بِقَوْمِهِ فِي غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ وَفِرَارِهِ، قَالَ: وَعُقُوبَتُهُ أَخَذُ النُّونِ «1» إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قَالَ: ظَنَّ أَنْ لَنْ يَأْخُذَهُ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَنادى فِي الظُّلُماتِ قَالَ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«اسْمَ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى: دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى، قَلَّتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً إِذَا دَعَوْا بِهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ شَرْطٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ دَعَاهُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا نَحْوَهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خير من يونس بن مَتَّى» . وَرُوِيَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حديث أبي هريرة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 97]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
قَوْلُهُ: وَزَكَرِيَّا أَيْ: وَاذْكُرْ خَبَرَ زَكَرِيَّا وَقْتَ نِدَائِهِ لِرَبِّهِ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً أَيْ:
مُنْفَرِدًا وَحِيدًا لَا وَلَدَ لِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أي:
__________
(1) . أي الحوت.(3/501)
خَيْرُ مَنْ يَبْقَى بَعْدَ كُلِّ مَنْ يَمُوتُ، فَأَنْتَ حَسْبِي إِنْ لَمْ تَرْزُقْنِي وَلَدًا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تُضَيِّعُ دِينَكَ، وَأَنَّهُ سَيَقُومُ بِذَلِكَ مِنْ عِبَادِكَ مَنْ تَخْتَارُهُ لَهُ وَتَرْتَضِيهِ لِلتَّبْلِيغِ فَاسْتَجَبْنا لَهُ دُعَاءَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى. وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا فَجَعَلَهَا اللَّهُ وَلُودًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِإِصْلَاحِ زَوْجِهِ وَقِيلَ: كَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَسَنَةَ الْخُلُقِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَاتَهَا، فَتَكُونُ وَلُودًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَاقِرًا، وَيُصْلِحُ أَخْلَاقَهَا، فَتَكُونُ أَخْلَاقُهَا مَرْضِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ لِلتَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ إِحْسَانِهِ سُبْحَانَهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَالضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ:
هُوَ رَاجِعٌ إِلَى زَكَرِيَّا وَامْرَأَتِهِ وَيَحْيَى. ثُمَّ وَصَفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُ رَغَباً وَرَهَباً أَيْ:
يَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَحَالِ الشِّدَّةِ، وَقِيلَ: الرَّغْبَةُ: رَفْعُ بُطُونِ الْأَكُفِّ إِلَى السَّمَاءِ، وَالرَّهْبَةُ رَفْعُ ظُهُورِهَا. وَانْتِصَابُ رَغَبًا وَرَهَبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: يَرْغَبُونَ رَغَبًا وَيَرْهَبُونَ رَهَبًا، أَوْ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: لِلرَّغَبِ وَالرَّهَبِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: رَاغِبِينَ وَرَاهِبِينَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَيَدْعُونَا بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِضَمِّ الرَّاءِ فِيهِمَا وَإِسْكَانِ مَا بَعْدَهُ، وَقَرَأَ ابْنُ وثّاب بفتح الراء فيهما مع إسكان ما بعده، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، وقرأ الباقون بفتح الراء وَفَتْحِ مَا بَعْدَهُ فِيهِمَا. وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أَيْ: مُتَوَاضِعِينَ مُتَضَرِّعِينَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أَيْ: وَاذْكُرْ خَبَرَهَا، وَهِيَ مَرْيَمُ، فَإِنَّهَا أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَمْ يَمْسَسْهَا بَشَرٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ، لِأَجْلِ ذِكْرِ عِيسَى، وَمَا فِي ذِكْرِ قِصَّتِهَا مِنَ الْآيَةِ الْبَاهِرَةِ فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أَضَافَ سُبْحَانَهُ الرُّوحَ إِلَيْهِ، وَهُوَ لِلْمَلَكِ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَهُوَ يُرِيدُ رُوحَ عِيسَى وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ قال الزجّاج: الآية فيهما وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ: وَجَعَلْنَاهَا آيَةً وَجَعَلْنَا ابْنَهَا آيَةً، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ قِصَّتَهُمَا آيَةً تَامَّةً مَعَ تَكَاثُرِ آيَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْآيَةِ الْجِنْسَ الشَّامِلَ، لِمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَعْنَى أَحْصَنَتْ: عَفَّتْ فَامْتَنَعَتْ مِنَ الْفَاحِشَةِ وَغَيْرِهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَرْجِ جَيْبُ الْقَمِيصِ أَيْ: أَنَّهَا طَاهِرَةُ الْأَثْوَابِ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَمَرْيَمَ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْأَنْبِيَاءَ بَيَّنَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَالْأُمَّةُ: الدِّينُ كَمَا قال ابن قتيبة، ومنه: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «2» أَيْ: عَلَى دِينٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي التَّوْحِيدِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا الْكَفَرَةُ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بَيَّنْتُهَا لَكُمْ فِي كِتَابِكُمْ شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
إِنَّ هَذِهِ مِلَّتُكُمْ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ. وَانْتِصَابُ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَّفِقَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، وَقُرِئَ: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ بِنَصْبِ أُمَّتَكُمْ عَلَى الْبَدَلِ مِنِ اسْمِ إِنَّ وَالْخَبَرُ «أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ» . وَقُرِئَ بِرَفْعِ أُمَّتُكُمْ وَرَفْعِ أُمَّةٌ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ وَقِيلَ: عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هِيَ أمة واحدة. وقرأ
__________
(1) . التوبة: 62.
(2) . الزخرف: 22.(3/502)
الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ أُمَّتُكُمْ عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ وَنَصْبِ أُمَّةً عَلَى الْحَالِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ عَلَى الْقَطْعِ بِسَبَبِ مَجِيءِ النَّكِرَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ خَاصَّةً لَا تَعْبُدُوا غَيْرِي كَائِنًا مَا كَانَ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أَيْ: تَفَرَّقُوا فِرَقًا فِي الدِّينِ حَتَّى صَارَ كَالْقِطَعِ الْمُتَفَرِّقَةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَيْ: تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِمْ، فَنَصَبَ أَمْرَهُمْ بِحَذْفِ فِي، وَالْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ الْمُشْرِكُونَ، ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِمُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَمْرَهُمْ فِي أَدْيَانِهِمْ قِطَعًا وَتَقَسَّمُوهُ بَيْنَهُمْ، فَهَذَا مُوَحِّدٌ، وَهَذَا يَهُودِيٌّ، وَهَذَا نَصْرَانِيٌّ، وَهَذَا مَجُوسِيٌّ، وَهَذَا عَابِدُ وَثَنٍ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ مَرْجِعَ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ فَقَالَ: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ رَاجِعٌ إِلَيْنَا بِالْبَعْثِ، لَا إِلَى غَيْرِنَا. فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أَيْ: مَنْ يَعْمَل بَعْضَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَا كُلَّهَا، إِذْ لَا يَطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أَيْ:
لَا جُحُودَ لِعَمَلِهِ، وَلَا تَضْيِيعَ لِجَزَائِهِ، وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ أَيْضًا: جُحُودُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ، يُقَالُ: كَفَرَ كُفُورًا وَكُفْرَانًا، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «فَلَا كُفْرَ لِسَعْيِهِ» . وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ أَيْ: لِسَعْيِهِ حَافِظُونَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى «1» . وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها قَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَرامٌ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ «وَحَرَمٌ» وَقَدِ اخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَرُوِيَتِ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ حِلٌّ وَحَلَالٌ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «وَحَرِمَ» بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ «حَرُمَ» بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ. وَمَعْنَى أَهْلَكْناها: قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهَا، وَجُمْلَةُ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ حَرَامٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لَهُ سَادٌّ مَسَدَّ خَبَرِهِ. وَالْمَعْنَى: وَمُمْتَنِعٌ أَلْبَتَّةَ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ إِلَيْنَا لِلْجَزَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ لَا فِي «لَا يَرْجِعُونَ» زَائِدَةٌ، أَيْ: حَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ الْهَلَاكِ إِلَى الدُّنْيَا. وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ حَرَامٌ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاجِبِ: أَيْ وَاجِبٌ عَلَى قَرْيَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا عَلَى شَجْوهِ إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى صَخْرِ وَقِيلَ: حَرَامٌ، أَيْ: مُمْتَنِعٌ رُجُوعُهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، عَلَى أَنَّ «لَا» زَائِدَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْآيَةُ مُشْكِلَةٌ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهَا وَأَجَلِّهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَهُشَيْمٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ وَمُحَمَّدُ بن فضيل وسليمان بن حيان وَمُعَلًّى عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَالَ: وَاجِبٌ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، أَيْ: لَا يَتُوبُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ إِضْمَارًا، أَيْ: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ حَكَمْنَا بِاسْتِئْصَالِهَا، أَوْ بِالْخَتْمِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِهَا، أَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ عَمَلٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، أَيْ: لَا يَتُوبُونَ. حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ «حَتَّى» هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُحْكَى بَعْدَهَا الكلام، ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس، والمراد بفتح يأجوج ومأجوج فتح السدّ الذي عليهم، على حذف المضاف وقيل: إنّ «حتى»
__________
(1) . آل عمران: 195.(3/503)
هَذِهِ هِيَ الَّتِي لِلْغَايَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا مُسْتَمِرُّونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ يَوْمُ فَتْحِ سَدِّ يأجوج ومأجوج وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ الضَّمِيرُ لِيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَالْحَدَبُ:
كُلُّ أَكَمَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مُرْتَفِعَةٍ وَالْجَمْعُ أَحْدَابٌ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَدَبَةِ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى يَنْسِلُونَ: يُسْرِعُونَ، وَقِيلَ: يَخْرُجُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالنَّسَلَانُ: مِشْيَةُ الذِّئْبِ إِذَا أَسْرَعَ. يُقَالُ: نَسَلَ فُلَانٌ فِي الْعَدْوِ يَنْسِلُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ نَسْلًا وَنُسُولًا وَنُسْلَانًا أَيْ: أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ كُلِّ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ يُسْرِعُونَ الْمَشْيَ، وَيَتَفَرَّقُونَ فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: «وَهُمْ» لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ إِلَى أَرْضِ الْمَوْقِفِ وَهُمْ يُسْرِعُونَ مِنْ كُلِّ مُرْتَفَعٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَقُرِئَ بِضَمِّ السِّينِ، حَكَى ذَلِكَ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَيْضًا الثَّعْلَبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الصَّهْبَاءِ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ عَطْفٌ عَلَى «فُتِحَتْ» ، وَالْمُرَادُ مَا بَعْدَ الْفَتْحِ مِنَ الْحِسَابِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْمُرَادُ بِالْوَعْدِ الْحَقِّ الْقِيَامَةُ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى:
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ وَهُوَ الْقِيَامَةُ، فَاقْتَرَبَ جَوَابُ إِذَا، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى «1»
............... ..
أَيِ: انْتَحَى. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ- وَنادَيْناهُ «2» ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذَا فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا يَا وَيْلَنَا. وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ، وَالضَّمِيرُ فِي فَإِذا هِيَ لِلْقِصَّةِ، أَوْ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ وَقِيلَ إِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ هِيَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا هِيَ، يَعْنِي الْقِيَامَةَ بَارِزَةٌ وَاقِعَةٌ كَأَنَّهَا آتِيَةٌ حَاضِرَةٌ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى المبتدأ، أي: أبصار الذين كفروا شاخصة، ويا وَيْلَنا عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا أَيْ: مِنْ هَذَا الَّذِي دَهَمَنَا مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أَضْرَبُوا عَنْ وَصْفِ أَنْفُسِهِمْ بِالْغَفْلَةِ، أَيْ: لَمْ نَكُنْ غَافِلِينَ، بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِنَا بِالتَّكْذِيبِ وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ لِلرُّسُلِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ قَالَ: كَانَ فِي لِسَانِ امْرَأَةِ زَكَرِيَّا طُولٌ فَأَصْلَحَهُ اللَّهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَهَبْنَا لَهُ وَلَدَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ عَاقِرًا فجعلها الله وَلُودًا، وَوَهَبَ لَهُ مِنْهَا يَحْيَى، وَفِي قَوْلِهِ: وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ قَالَ: أَذِلَّاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابن جريج في قوله: يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً قَالَ: رَغَبًا فِي رَحْمَةِ اللَّهِ ورهبا من
__________
(1) . البيت لامرئ القيس، وتمامه: بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل.
«البطن» : مكان مطمئن حوله أماكن مرتفعة. «الخبت» أرض مطمئنة. «الحقف» : رمل مشرف معوج.
«العقنقل» : الرمل المنعقد المتلبّد.
(2) . الصافات: 103، 104. [.....](3/504)
عَذَابِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:
وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً قَالَ: «رَغَبًا هَكَذَا وَرَهَبًا هَكَذَا، وَبَسَطَ كَفَّيْهِ، يَعْنِي جَعْلَ ظَهَرَهُمَا لِلْأَرْضِ فِي الرَّغْبَةِ وَعَكَسَهُ فِي الرَّهْبَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حكيم قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَنْ تُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَأَنْ تَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً قَالَ:
إِنَّ هَذَا دِينُكُمْ دِينًا وَاحِدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ قَالَ: تَقَطَّعُوا:
اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها قَالَ: وَجَبَ إِهْلَاكُهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ قَالَ: لَا يَتُوبُونَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: وَحَرُمَ عَلَى قَرْيَةٍ قَالَ: وَجَبَ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ كَمَا قَالَ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ حَدَبٍ قَالَ: شَرَفٍ يَنْسِلُونَ قَالَ: يُقْبِلُونَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَفِي وَقْتِ خُرُوجِهِمْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لا يتعلّق بذكرها هنا كثير فائدة.
__________
(1) . يس: 31.(3/505)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 112]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (112)
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ مَعْبُودِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «وَمَا تَعْبُدُونَ» : الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ حَصَبُ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: وَقُودُ جَهَنَّمَ وَحَطَبُهَا، وَكُلُّ مَا أَوْقَدْتَ بِهِ النَّارَ أَوْ هَيَّجْتَهَا بِهِ فَهُوَ حَصَبٌ، كَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ مَا قَذَفْتَهُ فِي النَّارِ فَقَدْ حَصَبْتَهَا بِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «1» وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَائِشَةُ حَطَبُ جَهَنَّمَ بِالطَّاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «حَضَبُ» بِالضَّادِ المعجمة. قال القراء: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَضَبَ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ الْحَطَبُ، وَوَجْهُ إِلْقَاءِ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ، مَعَ كَوْنِهَا جَمَادَاتٍ لَا تَعْقِلُ ذَلِكَ وَلَا تُحِسُّ بِهِ: التَّبْكِيتُ لِمَنْ عَبَدَهَا، وَزِيَادَةُ التَّوْبِيخِ لَهُمْ، وَتَضَاعُفُ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: إِنَّهَا تُحْمَى فَتُلْصَقُ بِهِمْ زِيَادَةً فِي تَعْذِيبِهِمْ، وَجُمْلَةُ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ «حَصَبُ جَهَنَّمَ» ، وَالْخِطَابُ لَهُمْ وَلِمَا يَعْبُدُونَ تَغْلِيبًا، وَاللَّامُ فِي «لَها» لِلتَّقْوِيَةِ لِضَعْفِ عَمَلِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى عَلَى، وَالْمُرَادُ بِالْوُرُودِ هُنَا الدُّخُولُ. قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ لِأَنَّ مَا لِمَنْ لَا يَعْقِلُ، وَلَوْ أَرَادَ الْعُمُومَ لَقَالَ: «وَمَنْ يَعْبُدُونَ» .
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُشْرِكُو مَكَّةَ دُونَ غَيْرِهِمْ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها أَيْ:
لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ آلِهَةً كَمَا تَزْعُمُونَ مَا وَرَدُوهَا، أَيْ: مَا وَرَدَ الْعَابِدُونَ هُمْ وَالْمَعْبُودُونَ النَّارَ وَقِيلَ: مَا وَرَدَ الْعَابِدُونَ فَقَطْ، لَكِنَّهُمْ وَرَدُوهَا فَلَمْ يَكُونُوا آلِهَةً، وَفِي هَذَا تَبْكِيتٌ لِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَتَوْبِيخٌ شَدِيدٌ، وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ أَيْ: كُلُّ الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ فِي النَّارِ خَالِدُونَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أَيْ:
لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَرَدُوا النَّارَ، وَالزَّفِيرُ: صَوْتُ نَفَسِ الْمَغْمُومِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَنِينُ وَالتَّنَفُّسُ الشَّدِيدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي هُودٍ. وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ أَيْ: لَا يَسْمَعُ بَعْضُهُمْ زَفِيرَ بَعْضٍ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ وَقِيلَ: لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ صُمًّا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «2» وَإِنَّمَا سُلِبُوا السَّمَاعَ لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ تَرَوُّحٍ وَتَأَنُّسٍ وَقِيلَ: لَا يَسْمَعُونَ مَا يَسُرُّهُمْ، بَلْ يَسْمَعُونَ مَا يَسُوءُهُمْ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ هَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حَالِ السُّعَدَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أَيِ: الْخَصْلَةُ الْحُسْنَى الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْخِصَالِ وَهِيَ السَّعَادَةُ، وَقِيلَ: التَّوْفِيقُ، أَوِ التَّبْشِيرُ بِالْجَنَّةِ، أَوْ نَفْسُ الْجَنَّةِ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ عَنْها أَيْ: عَنْ جَهَنَّمَ مُبْعَدُونَ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا فِي الْجَنَّةِ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها الْحِسُّ وَالْحَسِيسُ: الصَّوْتُ تَسْمَعُهُ مِنَ الشَّيْءِ يَمُرُّ قَرِيبًا مِنْكَ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْمَعُونَ حَرَكَةَ النَّارِ وَحَرَكَةَ أَهْلِهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنْ مُبْعَدُونَ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ أَيْ: دَائِمُونَ، وَفِي الْجَنَّةِ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وتلذّ
__________
(1) . البقرة: 24.
(2) . الإسراء: 97.(3/506)
بِهِ الْأَعْيُنُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
«1» . لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «لَا يُحْزِنُهُمْ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: حَزَنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَأَحْزَنَهُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْفَزَعُ الْأَكْبَرُ: أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أَيْ: تَسْتَقْبِلُهُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُهَنِّئُونَهُمْ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أَيْ: تُوعَدُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَتُبَشَّرُونَ بِمَا فِيهِ، هَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى إِلَى هُنَا هُمْ كَافَّةُ الْمَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، لَا الْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ الْآيَةَ أَتَى ابْنُ الزِّبَعْرَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عُزَيْرًا رَجُلٌ صَالِحٌ، وَأَنَّ عِيسَى رَجُلٌ صَالِحٌ، وَأَنَّ مَرْيَمَ امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ؟ قَالَ: بَلَى، فَقَالَ: فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى وَعُزَيْرًا وَمَرْيَمَ يُعْبَدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَنْ أَخْرَجَ هَذَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قرأ أبو جعفر ابن الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَالزُّهْرِيُّ «تُطْوَى» بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَرَفْعِ السَّمَاءِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ «يَطْوِي» بِالتَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ عَلَى مَعْنَى يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاءَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نَطْوِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَانْتِصَابِ يَوْمَ بِقَوْلِهِ: نُعِيدُهُ أَيْ: نُعِيدُهُ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ في «تُوعَدُونَ» ، والتقدير: الذي كُنْتُمْ تُوعَدُونَهُ يَوْمَ نَطْوِي وَقِيلَ بِقَوْلِهِ «لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ» وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ «تَتَلَقَّاهُمُ» وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ اذْكُرْ، وَهَذَا أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ، وَالطَّيُّ: ضِدُّ النَّشْرِ، وَقِيلَ: الْمَحْوُ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ الْجِنْسُ، وَالسِّجِلِّ:
الصَّحِيفَةُ، أَيْ: طَيًّا كَطَيِّ الطُّومَارِ «2» وَقِيلَ: السِّجِلُّ: الصَّكُّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُسَاجَلَةِ وَهِيَ الْمُكَاتَبَةُ، وَأَصْلُهَا مِنَ السَّجْلِ، وَهُوَ الدَّلْوُ، يُقَالُ: سَاجَلْتُ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعْتَ دَلْوًا وَنَزَعَ دَلْوًا، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ لِلْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِدًا ... يَمْلَأُ الدَّلْوَ إِلَى عَقْدِ الْكَرَبِ «3»
وَقَرَأَ أَبُو زُرْعَةَ بن عمرو بن جَرِيرٍ: «السُّجُلِّ» بِضَمِّ السِّينِ وَالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَالطَّيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الطَّيُّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّشْرِ، ومنه قوله: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، وَالثَّانِي الْإِخْفَاءُ وَالتَّعْمِيَةُ وَالْمَحْوُ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَمْحُو وَيَطْمِسُ رُسُومَهَا وَيُكَدِّرُ نُجُومَهَا. وَقِيلَ: السِّجِلُّ اسْمُ مَلَكٍ، وَهُوَ الَّذِي يَطْوِي كُتُبَ بَنِي آدَمَ وَقِيلَ:
هُوَ اسْمُ كَاتِبٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ والكسائي ويحيى وخلف «للكتب» جمعا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «لِلْكِتَابِ» ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنَ السِّجِلِّ، أَيْ: كَطَيِّ السِّجِلِّ كَائِنًا لِلْكُتُبِ، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، أَيِ: الْكَائِنُ لِلْكُتُبِ، فَإِنَّ الْكُتُبَ عِبَارَةٌ عَنِ الصَّحَائِفِ وَمَا كُتِبَ فِيهَا، فسجلها
__________
(1) . فصلت: 31.
(2) . الطومار: الصحيفة.
(3) . «الكرب» : حبل يشدّ على عراقي الدلو، ثم يثنى ثم يثلث ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير.(3/507)
بَعْضُ أَجْزَائِهَا، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الطَّيُّ حَقِيقَةً. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَالْكِتَابُ مَصْدَرٌ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: كَمَا يُطْوَى الطُّومَارُ لِلْكِتَابَةِ، أَيْ: لِيُكْتَبَ فِيهِ، أَوْ لِمَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّيِّ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَهُوَ ضِدُّ النَّشْرِ. كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أَيْ: كَمَا بَدَأْنَاهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَأَخْرَجْنَاهُمْ إِلَى الْأَرْضِ حُفَاةً عُرَاةً غرلا، كذلك نعيدهم يوم القيامة، ف «أول خَلْقٍ» مَفْعُولُ «نُعِيدُ» مُقَدَّرًا يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ الْمَذْكُورُ، أو مفعول ل «بدأنا» ، و «ما» كَافَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَالْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ:
نُعِيدُ مِثْلَ الَّذِي بَدَأْنَاهُ نُعِيدُهُ، وَعَلَى هَذَا الوجه يكون أوّل ظرف لبدأنا، أو حال، وَإِنَّمَا خَصَّ أَوَّلَ الْخَلْقِ بِالذِّكْرِ تَصْوِيرًا لِلْإِيجَادِ عَنِ الْعَدَمِ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ صِحَّةِ الْإِعَادَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَبْدَأِ لِشُمُولِ الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ لَهُمَا وَقِيلَ:
مَعْنَى الْآيَةِ: نُهْلِكُ كُلَّ نَفْسٍ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى نُغَيِّرُ السَّمَاءَ، ثُمَّ نُعِيدُهَا مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ طَيِّهَا وَزَوَالِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «1» ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ انْتِصَابُ «وَعْدًا» عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَيْ: وَعَدْنَا وَعْدًا عَلَيْنَا إِنْجَازُهُ وَالْوَفَاءُ بِهِ. وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْإِعَادَةُ، ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ: إِنَّا كُنَّا قَادِرِينَ عَلَى مَا نَشَاءُ وَقِيلَ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ مَا وَعَدْنَاكُمْ، ومثله قوله: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا «2» - وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ الزُّبُرُ فِي الْأَصْلِ الْكُتُبُ، يُقَالُ زَبَرْتُ: أَيْ كَتَبْتُ، وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الزَّبُورِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَلَى كِتَابِ دَاوُدَ الْمُسَمَّى بِالزَّبُورِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا كِتَابُ دَاوُدَ، وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَيِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ هُوَ التَّوْرَاةُ: أَيْ والله لقد كَتَبْنَا فِي كِتَابِ دَاوُدَ مِنْ بَعْدِ مَا كَتَبْنَا فِي التَّوْرَاةِ أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا كَتَبْنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. قال الزجاج: الزبور جميع الْكُتُبِ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ، لِأَنَّ الزَّبُورَ وَالْكِتَابَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ زَبَرْتُ وَكَتَبْتُ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فِي الزُّبُورِ بِضَمِّ الزَّايِ، فَإِنَّهُ جَمْعُ زُبُرٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ أَرْضُ الْجَنَّةِ، وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ «3» وَقِيلَ: هِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، وَقِيلَ:
هِيَ أَرْضُ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ يَرِثُهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ بِفَتْحِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، بِدَلِيلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها «4» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَبْشِيرٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِوِرَاثَةِ أَرْضِ الْكَافِرِينَ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ عِبَادِي بِتَسْكِينِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَحْرِيكِهَا. إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً أَيْ: فِيمَا جَرَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْوَعْظِ وَالتَّنْبِيهِ لَبَلَاغًا لَكِفَايَةً، يُقَالُ: فِي هَذَا الشَّيْءِ بلاغ وبلغة وتبلغ، أَيْ: كِفَايَةٌ، وَقِيلَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ لِقَوْمٍ عابِدِينَ أَيْ: مَشْغُولِينَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُهْتَمِّينَ بِهَا، وَالْعِبَادَةُ: هِيَ الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَسُ الْعِبَادَةِ الصَّلَاةُ. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ
__________
(1) . الأنعام: 94.
(2) . المزمل: 18.
(3) . الزمر: 74.
(4) . الأعراف: 137.(3/508)
بِالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ إِلَّا رَحْمَةً لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ وَالْعِلَلِ، أَيْ: مَا أَرْسَلْنَاكَ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِرَحْمَتِنَا الْوَاسِعَةِ، فَإِنَّ مَا بُعِثْتَ بِهِ سَبَبٌ لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. قِيلَ: وَمَعْنَى كَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْكُفَّارِ:
أَنَّهُمْ أَمِنُوا بِهِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالِاسْتِئْصَالِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «1» ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الرَّحْمَةِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ، فَقَالَ: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إِنْ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي يُوحَى إِلَيَّ هُوَ أَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى مَقْصُورٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى مَا يُنَاقِضُهَا أَوْ يُضَادُّهَا، وَإِنْ كَانَتْ «مَا» كَافَّةً فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْوَحْيَ إِلَيَّ مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِالْوَحْدَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَصْرَ أَبَدًا يَكُونُ لِمَا يَلِي إِنَّمَا، فَإِنَّمَا الْأُولَى: لِقَصْرِ الْوَصْفِ عَلَى الشَّيْءِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، أَيْ: مَا يَقُومُ إِلَّا زَيْدٌ. وَالثَّانِيَةُ:
لِقَصْرِ الشَّيْءِ عَلَى الْحُكْمِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، أَيْ: لَيْسَ بِهِ إِلَّا صِفَةُ الْقِيَامِ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مُنْقَادُونَ مُخْلِصُونَ لِلْعِبَادَةِ وَلِتَوْحِيدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ فَقُلْ لَهُمْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ أَيْ: أَعْلَمْتُكُمْ أَنَّا وَإِيَّاكُمْ حَرْبٌ لَا صُلْحَ بَيْنَنَا كَائِنِينَ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْإِعْلَامِ لَمْ أَخُصَّ بِهِ بَعْضَكُمْ دُونَ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ
«2» أَيْ:
أَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ نَقَضْتَ الْعَهْدَ نَقْضًا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَعْلَمْتُكُمْ مَا يُوحَى إِلَيَّ عَلَى اسْتِوَاءٍ فِي الْعِلْمِ بِهِ، وَلَا أُظْهِرُ لِأَحَدٍ شَيْئًا كَتَمْتُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ أي: ما أدري ما تُوعَدُونَ بِهِ قَرِيبٌ حُصُولُهُ أَمْ بَعِيدٌ، وَهُوَ غلبة الإسلام وأهله عَلَى الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا تُوعَدُونَ الْقِيَامَةُ، وَقِيلَ: آذَنْتُكُمْ بِالْحَرْبِ، وَلَكِنْ لَا أَدْرِي مَا يُؤْذَنُ لِي فِي مُحَارَبَتِكُمْ. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ أَيْ: يَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا تُجَاهِرُونَ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَمَا تَكْتُمُونَهُ مِنْ ذَلِكَ وَتُخْفُونَهُ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أَيْ: مَا أَدْرِي لَعَلَّ الْإِمْهَالَ فِتْنَةٌ لَكُمْ واختبار ليرى كيف صنيعكم وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أَيْ: وَتَمْتِيعٌ إِلَى وَقْتٍ مُقَدَّرٍ تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دعاء نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أَيِ: احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَكَ، فَفَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «رَبُّ» بضم الباء. قال النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَحْنٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لَا يَجُوزُ عندهم: رجل أقبل، حتى تقول: يَا رَجُلُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَطَلْحَةُ وَيَعْقُوبُ «أَحْكَمُ» بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ: قال محمد: ربي أحكم بالحقّ من كل حاكم. وقرأ الجحدري «أحكم» بصيغة الماضي أي: أحكم الأمور بِالْحَقِّ. وَقُرِئَ «قُلْ» بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، أَيْ: قُلْ يا محمد. قال أبو عبيدة: الصفة هنا أقيمت مقام الموصوف، والتقدير: ربّ احكم بحكمك الحق، وَرَبِّ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّهُ مُنَادًى مُضَافٌ إِلَى الضَّمِيرِ، وَقَدِ اسْتَجَابَ سُبْحَانَهُ دُعَاءَ نَبِيِّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَعَذَّبَهُمْ بِبَدْرٍ، ثُمَّ جَعَلَ الْعَاقِبَةَ وَالْغَلَبَةَ وَالنَّصْرَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ مُتَمِّمًا لِتِلْكَ الْحِكَايَةِ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، فَرَبُّنَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الرَّحْمَنُ، أَيْ: هُوَ كثير الرحمة
__________
(1) . الأنفال: 33.
(2) . الأنفال: 58.(3/509)
لِعِبَادِهِ، وَالْمُسْتَعَانُ خَبَرٌ آخَرُ، أَيِ: الْمُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا تَصِفُونَهُ مِنْ أَنَّ الشَّوْكَةَ تَكُونُ لَكُمْ، وَمِنْ قَوْلِكُمْ: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ «1» وقولكم: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً «2» وَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ الْوَصْفُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، كَقَوْلِهِ: وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ «3» ، وقوله:
سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ «4» وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ وَالسُّلَمِيُّ «عَلَى مَا يَصِفُونَ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: فَالْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ يُعْبَدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْهُ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: قَدْ عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْمَلَائِكَةُ وَعُزَيْرٌ وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ مَعَ آلِهَتِنَا، فَنَزَلَتْ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ- وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ «5» ، ثُمَّ نَزَلَتْ:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قَالَ: «عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: حَصَبُ جَهَنَّمَ قَالَ: شَجَرُ جَهَنَّمَ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ حَصَبُ جَهَنَّمَ: وَقُودُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ حَطَبُ جَهَنَّمَ بِالزِّنْجِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها قَالَ: «حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ تَقُولُ: حَسِّ حَسِّ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها قَالَ: حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ تَلْسَعُهُمْ، فَإِذَا لَسَعَتْهُمْ قَالُوا:
حَسِّ حَسِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قَالَ: هُوَ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها يَقُولُ: لَا يَسْمَعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ حَسِيسَ النَّارِ إذا نزلوا منزلهم من الجنة.
__________
(1) . الأنبياء: 3.
(2) . الأنبياء: 26. [.....]
(3) . الأنبياء: 18.
(4) . الأنعام: 139.
(5) . الزخرف: 57- 58.(3/510)
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ قَالَ:
النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ لَا يَهُولُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ رَاضُونَ، وَرَجُلٌ كَانَ يُؤَذِّنُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: كَطَيِّ السِّجِلِّ قَالَ: مَلَكٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطِيَّةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: السِّجِلُّ: مَلَكٌ، فَإِذَا صَعِدَ بِالِاسْتِغْفَارِ قَالَ: اكْتُبُوهَا نُورًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ: السِّجِلُّ: مَلَكٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السِّجِلُّ: كَاتِبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِبٌ يُسَمَّى السِّجِلَّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قَالَ: كَمَا يَطْوِي السِّجِلُّ الْكِتَابَ كَذَلِكَ نَطْوِي السَّمَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِبٌ يُقَالُ لَهُ السِّجِلُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَهَذَا مُنْكَرٌ جِدًّا مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، لَا يَصِحُّ أَصْلًا. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَقَدْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنِ الْحُفَّاظِ بِوَضْعِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، مِنْهُمْ شَيْخُنَا الحافظ الكبير أبو الحجّاج المزي، وقد أفردت لهذا الْحَدِيثِ جُزْءًا لَهُ عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قال: وقد تصدّى الإمام أبو جعفر ابن جَرِيرٍ لِلْإِنْكَارِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَدَّهُ أَتَمَّ رَدٍّ، وَقَالَ: وَلَا نَعْرِفُ فِي الصَّحَابَةِ أَحَدًا اسْمُهُ سِجِلُّ، وَكُتَّابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ اسْمُهُ السِّجِلُّ، وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى نَكَارَةِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَمَّا مَنْ ذَكَرَ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ هَذَا فَإِنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجِلَّ هُوَ الصَّحِيفَةُ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ عَنْهُ. وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ، أَيْ: عَلَى الْكِتَابِ، يَعْنِي الْمَكْتُوبَ، كقوله:
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ «1» أَيْ: عَلَى الْجَبِينِ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: أَمَّا كَوْنُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَا، فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيَّ ضَعِيفَانِ، فَالْأَوْلَى التَّعْوِيلُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
السِّجِلِّ هُوَ الرَّجُلُ، زَادَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ عَلَى الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ يَقُولُ: نُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
__________
(1) . الصافات: 103.(3/511)
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قَالَ: الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَرْضَ قَالَ: أَرْضُ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ قَالَ: الْكُتُبِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قَالَ: التَّوْرَاةِ. وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: الزَّبُورُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ. وَالذِّكْرُ: الْأَصْلُ الَّذِي نُسِخَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْكُتُبُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ. وَالْأَرْضُ: أَرْضُ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ قَالَ: أَرْضُ الْجَنَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ في التوراة والزبور وسابق علمه قَبْلَ أَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَنْ يُورِثَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ الْأَرْضَ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُمُ الصَّالِحُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قَالَ: عَالِمِينَ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قَالَ: «فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ شُغْلًا لِلْعِبَادَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قَالَ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمَاعَةٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قَالَ: مَنْ آمَنَ تَمَّتْ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ عُوفِيَ مِمَّا كَانَ يُصِيبُ الْأُمَمَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالْقَذْفِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» .
وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
«أن اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَهُدًى لِلْمُتَّقِينَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي سَبَبْتُهُ سَبَّةً فِي غَضَبِي، أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً، فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَاجْعَلْهَا عَلَيْهِ صَلَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فُلَانًا، وَهُوَ بَعْضُ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ يَقُولُ:
هَذَا الْمَلِكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ يَقُولُ: مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالسَّاعَةِ، لَعَلَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فِتْنَةٌ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ قَالَ: لَا يَحْكُمُ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَإِنَّمَا يَسْتَعْجِلُ بِذَلِكَ فِي الدنيا يسأل ربّه [على قومه] «1» .
__________
(1) . من تفسير ابن جرير (17/ 108) .(3/512)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
سورة الحجّ
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ هِيَ مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ؟ فَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْحَجُّ غَيْرَ أَرْبَعِ آيَاتٍ مَكِّيَّاتٍ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ، إِلَى: عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعُ آيَاتٍ إِلَى قَوْلِهِ: عَذابَ الْحَرِيقِ. وَحُكِيَ عَنِ النَّقَّاشِ أَنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا عَشْرُ آيَاتٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ السُّورَةَ مُخْتَلِطَةٌ، مِنْهَا مَكِّيٌّ، وَمِنْهَا مدني. قال: وهذا هو الصحيح. قال الغزنوي: وَهِيَ مِنْ أَعَاجِيبِ السُّورِ، نَزَلَتْ لَيْلًا وَنَهَارًا، سَفَرًا وَحَضَرًا، مَكِّيًّا وَمَدَنِيًّا، سِلْمِيًّا وَحَرْبِيًّا، نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى الْقُرْآنِ بسجدتين» . وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ فِي الْحَجِّ وَقَالَ:
إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَّتْ عَلَى سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ، وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ فِيهَا سَجْدَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)(3/513)
لَمَّا انْجَرَّ الْكَلَامُ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى ذِكْرِ الْإِعَادَةِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، بَدَأَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، حَثًّا عَلَى التَّقْوَى الَّتِي هِيَ أَنْفَعُ زاد، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أَيِ:
احْذَرُوا عِقَابَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَفْظُ «النَّاسِ» يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْمَوْجُودِينَ وَمَنْ سَيُوجَدُ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ تَحْقِيقِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَالزَّلْزَلَةُ: شِدَّةُ الْحَرَكَةِ، وَأَصْلُهَا مِنْ زَلَّ عَنِ الْمَوْضِعِ، أَيْ: زَالَ عَنْهُ وَتَحَرَّكَ، وَزَلْزَلَ اللَّهُ قَدَمَهُ، أَيْ: حَرَّكَهَا، وَتَكْرِيرُ الْحَرْفِ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْمَعْنَى، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَهِيَ عَلَى هذه الزَّلْزَلَةُ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمِنْ بَعْدِهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا مُضَافٌ إِلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ السَّاعَةُ، إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْمَفْعُولِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ فِي كَمَا فِي قَوْلِهِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها «2» قِيلَ: وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالشَّيْءِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْعُقُولَ قَاصِرَةٌ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهَا. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
انْتِصَابُ الظَّرْفِ بِمَا بَعْدَهُ، وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الزَّلْزَلَةِ، أَيْ: وَقْتَ رُؤْيَتِكُمْ لَهَا تَذْهَلُ كُلُّ ذَاتِ رَضَاعٍ عَنْ رَضِيعِهَا وَتَغْفُلُ عَنْهُ. قَالَ قُطْرُبٌ: تَذْهَلُ: تشتغل، وأنشد قول الشاعر «3» :
ضربا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
وَقِيلَ: تَنْسَى، وَقِيلَ: تَلْهُو، وَقِيلَ: تَسْلُو، وَهَذِهِ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ «مَا» فِيمَا أَرْضَعَتْ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: تَذْهَلُ عَنِ الْإِرْضَاعِ، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ فِي الدُّنْيَا إِذْ لَيْسَ بَعْدَ الْقِيَامَةِ حَمْلٌ وَإِرْضَاعٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مَنْ مَاتَتْ حَامِلًا فَتَضَعُ حَمْلَهَا لِلْهَوْلِ، وَمَنْ مَاتَتْ مُرْضِعَةً بُعِثَتْ كَذَلِكَ، وَيُقَالُ هَذَا مَثَلٌ كَمَا يُقَالُ: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً «4» . وقيل: يكون مع النَّفْخَةِ الْأُولَى، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ عِبَارَةً عَنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا فِي قوله: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا «5» . ومعنى وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
أَنَّهَا تُلْقِي جَنِينَهَا لِغَيْرِ تَمَامٍ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ، كَمَا أَنَّ الْمُرْضِعَةَ تَتْرُكُ وَلَدَهَا بِغَيْرِ رَضَاعٍ لِذَلِكَ. وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ خِطَابٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَيْ: يَرَاهُمُ الرَّائِي كَأَنَّهُمْ سُكَارَى وَما هُمْ بِسُكارى
حَقِيقَةً، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سَكْرَى بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِثْبَاتِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ يُجْمَعُ بِهِمَا سَكْرَانُ، مِثْلُ كَسْلَى وَكُسَالَى. وَلَمَّا نَفَى سُبْحَانَهُ عَنْهُمُ السُّكْرَ أوضح السبب
__________
(1) . سبأ: 33.
(2) . الزلزلة: 1.
(3) . هو عبد الله بن رواحة.
(4) . المزمل: 17.
(5) . البقرة: 214.(3/514)
الَّذِي لِأَجْلِهِ شَابَهُوا السُّكَارَى فَقَالَ: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
فَبِسَبَبِ هَذِهِ الشِّدَّةِ وَالْهَوْلِ الْعَظِيمِ طَاشَتْ عُقُولُهُمْ، وَاضْطَرَبَتْ أَفْهَامُهُمْ فَصَارُوا كَالسُّكَارَى، بِجَامِعِ سَلْبِ كَمَالِ التَّمْيِيزِ وَصِحَّةِ الْإِدْرَاكِ. وَقُرِئَ «وَتُرَى» بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مُسْنَدًا إِلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ أَرَأَيْتُكَ، أَيْ: تَظُنُّهُمْ سُكَارَى. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهٌ جَيِّدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً تَشْمَلُ أَهْلَ الْجِدَالِ كُلَّهُمْ، فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ إِعْرَابُ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ «1» . وَمَعْنَى فِي اللَّهِ فِي شَأْنِ اللَّهِ وَقَدْرَتِهِ، وَمَحَلُّ بِغَيْرِ عِلْمٍ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُخَاصِمُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْبَعْثِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ، وَلَا حُجَّةٍ يُدْلِي بِهَا وَيَتَّبِعُ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَتَعَاطَاهُ وَيَحْتَجُّ بِهِ وَيُجَادِلُ عَنْهُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ أَيْ: مُتَمَرِّدٍ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْعَاتِي، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِخُلُوِّهِ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمُرَادُ إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، أَوْ رُؤَسَاءُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَدْعُونَ أَشْيَاعَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْجِدَالِ، وَكَانَ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ أَيْ: كُتِبَ عَلَى الشَّيْطَانِ وَفَاعِلُ «كُتِبَ» «أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ» ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، أَيْ: من اتخذه وَلِيًّا فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ أَيْ: فَشَأْنُ الشَّيْطَانِ أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، فَقَوْلُهُ: «أَنَّهُ يُضِلُّهُ» جَوَابُ الشَّرْطِ إِنْ جُعِلَتْ مَنْ شَرْطِيَّةً، أَوْ خَبَرُ الْمَوْصُولِ إِنْ جُعِلَتْ مَوْصُولَةً، فَقَدْ وُصِفَ الشَّيْطَانُ بِوَصْفَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَرِيدٌ، وَالثَّانِي مَا أَفَادَهُ جُمْلَةُ كُتِبَ عَلَيْهِ إِلَخْ. وَجُمْلَةُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُضِلُّهُ أَيْ:
يَحْمِلُهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ مَا يَصِيرُ بِهِ فِي عَذَابِ السَّعِيرِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْكُفَّارِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ، فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ قَرَأَ الْحَسَنُ «الْبَعَثُ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالسُّكُونِ، وَشَكُّهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي وُقُوعِهِ أَوْ فِي إِمْكَانِهِ.. وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْإِعَادَةِ فَانْظُرُوا فِي مَبْدَأِ خَلْقِكُمْ، أَيْ: خَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ، لِيَزُولَ عَنْكُمُ الرَّيْبُ وَيَرْتَفِعَ الشَّكُّ وَتُدْحَضُ الشُّبْهَةُ الْبَاطِلَةُ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ فِي ضِمْنِ خَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ ثُمَّ خَلَقْنَاكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ أَيْ: مِنْ مَنِيٍّ، سُمِّيَ نُطْفَةً لِقِلَّتِهِ، وَالنُّطْفَةُ: الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ. وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهُ، وَالنُّطْفَةُ: الْقَطْرَةُ، يُقَالُ: نَطَفَ يَنْطِفُ، أَيْ: قَطَرَ، وليلة نطوفة، أَيْ: دَائِمَةُ الْقَطْرِ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ وَالْعَلَقَةُ: الدَّمُ الْجَامِدُ، وَالْعَلَقُ: الدَّمُ الْعَبِيطُ، أَيِ: الطَّرِيُّ أَوِ الْمُتَجَمِّدِ، وَقِيلَ: الشَّدِيدُ الْحُمْرَةِ، وَالْمُرَادُ: الدَّمُ الْجَامِدُ الْمُتَكَوِّنُ مِنَ الْمَنِيِّ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ، قَدْرُ مَا يَمْضُغُ الْمَاضِغُ تَتَكَوَّنُ مِنَ الْعَلَقَةِ مُخَلَّقَةٍ بِالْجَرِّ صِفَةً لِمُضْغَةٍ، أَيْ: مُسْتَبِينَةِ الْخَلْقِ، ظَاهِرَةِ التَّصْوِيرِ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أَيْ: لَمْ يَسْتَبِنْ خَلْقُهَا وَلَا ظَهَرَ تَصْوِيرُهَا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: «مُخَلَّقَةٍ» يُرِيدُ قَدْ بدا خلقه، و «غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» لَمْ تُصَوَّرْ. قَالَ الْأَكْثَرُ: مَا أُكْمِلَ خَلْقُهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَهُوَ الْمُخَلَّقَةُ وَهُوَ الذي
__________
(1) . البقرة: 8.(3/515)
وُلِدَ لِتَمَامٍ، وَمَا سَقَطَ كَانَ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، أَيْ: غَيْرَ حَيٍّ بِإِكْمَالِ خِلْقَتِهِ بِالرُّوحِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مُخَلَّقَةٌ تَامُّ الْخَلْقِ، وَغَيْرُ مُخَلَّقَةٍ: السَّقْطُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَفِي غَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ الْبُكَاءُ ... فَأَيْنَ الْحَزْمُ وَيْحَكَ وَالْحَيَاءُ؟
وَاللَّامُ فِي لِنُبَيِّنَ لَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِخَلَقْنَا، أَيْ: خَلَقْنَاكُمْ عَلَى هَذَا النمط البديع لِنُبَيِّنَ لَكُمْ كَمَالَ قُدْرَتِنَا بِتَصْرِيفِنَا أَطْوَارَ خَلْقِكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ رَوَى أَبُو حاتم عن أبي يزيد عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِنَصْبِ «نُقِرَّ» عَطْفًا عَلَى نُبَيِّنَ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُقِرُّ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: وَنَحْنُ نُقِرُّ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
نُقِرُّ بِالرَّفْعِ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى فَعَلْنَا ذَلِكَ لِنُقِرَّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَنُثَبِّتُ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ فَلَا يَكُونُ سَقْطًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ وَقْتُ الْوِلَادَةِ، وَقَالَ مَا نَشَاءُ وَلَمْ يَقُلْ مَنْ نَشَاءُ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْحَمْلِ وَهُوَ جَمَادٌ قَبْلَ أَنْ يَنْفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَقُرِئَ لِيُبَيِّنَ وَيُقِرُّ وَ: يُخْرِجُكُمْ بِالتَّحْتِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي وَثَّابٍ «مَا نَشَاءُ» بِكَسْرِ النُّونِ. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أَيْ:
نُخْرِجُكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ طِفْلًا، أَيْ: أَطْفَالًا، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ إِرَادَةً لِلْجِنْسِ الشَّامِلِ لِلْوَاحِدِ وَالْمُتَعَدِّدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: طِفْلًا فِي مَعْنَى أَطْفَالًا، وَدَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْجَمَاعَةِ يَعْنِي فِي نُخْرِجُكُمْ، وَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تُطْلِقُ اسْمَ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَلْحَيْنَنِي مِنْ حُبِّهَا وَيَلُمْنَنِي ... إِنَّ الْعَوَاذِلَ لَسْنَ لِي بِأَمِيرٍ
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ اسْمٌ يُسْتَعْمَلُ مَصْدَرًا كَالرِّضَا وَالْعَدْلِ، فَيَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا «1» . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً «2» وَفِيهِ بُعْدٌ، وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَالطِّفْلُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّغِيرِ مِنْ وَقْتِ انْفِصَالِهِ إِلَى الْبُلُوغِ. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ قِيلَ: هُوَ عِلَّةٌ لِنُخْرِجَكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ أُخْرَى مُنَاسِبَةٍ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: نُخْرِجُكُمْ لِتَكْبُرُوا شَيْئًا فشيئا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا إِلَى الْأَشُدِّ وَقِيلَ: إِنَّ ثُمَّ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ لِتَبْلُغُوا وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى نُبَيِّنَ، وَالْأَشُدُّ هُوَ كَمَالُ الْعَقْلِ وَكَمَالُ الْقُوَّةِ وَالتَّمْيِيزِ، قِيلَ: وَهُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْأَنْعَامِ. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى يَعْنِي قَبْلَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ، وَقُرِئَ «يَتَوَفَّى» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الجمهور يُتَوَفَّى مبنيا المفعول وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أَيْ: أَخَسِّهِ وَأَدْوَنِهِ، وَهُوَ الْهَرَمُ وَالْخَرَفُ حَتَّى لَا يَعْقِلَ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَعْدِ أَنْ كَانَ ذَا عِلْمٍ بِالْأَشْيَاءِ وَفَهْمٍ لَهَا، لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا فَهْمَ، وَمِثْلهُ قَوْلُهُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ- ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ «3» وقوله: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ «4» . وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى عَلَى الْبَعْثِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ احْتَجَّ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَالْهَامِدَةُ: الْيَابِسَةُ الَّتِي لا تنبت
__________
(1) . النور: 31.
(2) . النساء: 4.
(3) . التين: 4 و 5. [.....]
(4) . يس: 68.(3/516)
شَيْئًا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ: مَيْتَةٌ يَابِسَةٌ كَالنَّارِ إِذَا طُفِئَتْ، وَقِيلَ: دَارِسَةٌ، وَالْهُمُودُ: الدُّرُوسُ، وَمِنْهُ قَوْلِ الْأَعْشَى:
قَالَتْ قُتَيْلَةُ مَا لِجِسْمِكَ شاحبا ... وأرى ثيابك باليات همّدا
وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي ذَهَبَ عَنْهَا النَّدَى، وَقِيلَ: هالكة، ومعاني هَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ الْمُرَادُ بِالْمَاءِ هُنَا الْمَطَرُ، وَمَعْنَى اهْتَزَّتْ تَحَرَّكَتْ، وَالِاهْتِزَازُ: شِدَّةُ الْحَرَكَةِ، يُقَالُ:
هَزَزْتُ الشَّيْءَ فَاهْتَزَّ، أَيْ: حَرَّكْتُهُ فَتَحَرَّكَ. وَالْمَعْنَى: تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ لِأَنَّ النَّبَاتَ لَا يُخْرَجُ مِنْهَا حَتَّى يُزِيلَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ إِزَالَةً حَقِيقَةً، فَسَمَّاهُ اهْتِزَازًا مَجَازًا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَعْنَى اهْتَزَّ نَبَاتُهَا، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَاهْتِزَازُهُ: شِدَّةُ حَرَكَتِهِ، وَالِاهْتِزَازُ فِي النَّبَاتِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ، وَمَعْنَى رَبَتِ: ارْتَفَعَتْ، وَقِيلَ:
انْتَفَخَتْ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَأَصْلُهُ الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو رَبْوًا إِذَا زَادَ، وَمِنْهُ الرِّبَا وَالرَّبْوَةُ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ «وَرَبَأَتْ» أَيِ: ارْتَفَعَتْ حَتَّى صارت بمنزلة الربيئة، وَهُوَ الَّذِي يَحْفَظُ الْقَوْمَ عَلَى مَكَانٍ مُشْرِفٍ، يُقَالُ لَهُ رَابِئٌ وَرَابِئَةٌ وَرَبِيئَةٌ. وَأَنْبَتَتْ أَيْ: أَخْرَجَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أَيْ: مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ وَلَوْنٍ مُسْتَحْسَنٍ، وَالْبَهْجَةُ: الْحُسْنُ، وَجُمْلَةُ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ مُسْتَأْنَفَةٌ. لَمَّا ذَكَرَ افْتِقَارَ الْمَوْجُودَاتِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَسْخِيرِهَا عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ وَاقْتِدَارِهِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ، وَهِيَ إِثْبَاتُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَنَّهَا مِنْ شَأْنِهِ، لَا يَدَّعِي غَيْرَهُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَدَلَّ سُبْحَانَهُ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ الْحَقِيقِيُّ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ وَأَنَّ وُجُودَ كُلِّ مَوْجُودٍ مُسْتَفَادٌ مِنْهُ، وَالْحَقُّ: هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَزُولُ وَقِيلَ: ذُو الْحَقِّ عَلَى عِبَادِهِ، وَقِيلَ: الْحَقُّ فِي أَفْعَالِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ:
الْأَمْرُ مَا وَصَفَهُ لَكُمْ وَبَيَّنَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَصْبًا، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَيْ: فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، قِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: وَلِتَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها أَيْ: لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا تَرَدُّدَ، وَجُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيها خَبَرٌ ثَانٍ لِلسَّاعَةِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْبَعْثِ فَقَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ:
«لما نزلت يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: أَتُدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ ذَلِكَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعَثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النار، وواحد إِلَى الْجَنَّةِ. فَأَنْشَأَ الْمُسْلِمُونَ يَبْكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَارِبُوا وَسَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهَا جَاهِلِيَّةٌ، فيؤخذ العدد مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنْ تَمَّتْ وَإِلَّا كَمُلَتْ(3/517)
مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَمَا مَثَلُكُمْ وَالْأُمَمِ إِلَّا كَمَثَلِ الرَّقْمَةِ «1» فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، أَوْ كَالشَّامَةِ «2» فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: إني لأرجو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرُوا، قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ الثُّلُثَيْنِ أَمْ لَا» .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا نحوه، وقال في آخره:
«اعملوا وأبشروا، فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَمَعَ خَلِيقَتَيْنِ مَا كانتا مَعَ شَيْءٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنْ بَنِي إِبْلِيسَ، فَسُرِّيَ عَنِ الْقَوْمِ بَعْضُ الَّذِي يَجِدُونَ، قَالَ: اعملوا وأبشروا، فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَفِي آخِرِهِ فَقَالَ: «مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ، وَهَلْ أَنْتُمْ فِي الْأُمَمِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ» .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْهِ قَالَ: كُتِبَ عَلَى الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ: أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ قَالَ: اتَّبَعَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فو الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قَالَ: الْمُخَلَّقَةُ مَا كَانَ حَيًّا، وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ مَا كَانَ سَقْطًا. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ قَالَ: حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، دَخَلَ الجنة.
__________
(1) . «الرقمة» : الرقمتان: هما الأثران في باطن عضد الحمار، وقيل: هي الدائرة في ذراعيه، وقيل: هي الرمّة الناتئة في ذراع الدابة من داخل.
(2) . «الشامة» : الخال والعلامة في الجسد.(3/518)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 16]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أَيْ: فِي شَأْنِ اللَّهِ، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ، وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ يَتَصَدَّى لِإِضْلَالِ النَّاسِ وَإِغْوَائِهِمْ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالِاعْتِبَارُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا. وَمَعْنَى اللَّفْظِ: وَمِنَ النَّاسِ فَرِيقٌ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مُجَادِلٍ فِي ذَاتِ اللَّهِ، أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ شَرَائِعِهِ الْوَاضِحَةِ، وبِغَيْرِ عِلْمٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا بِغَيْرِ عِلْمٍ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُوَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، وَبِالْهُدَى هُوَ الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ الِاسْتِدْلَالِيُّ. والأولى حمل العلم عَلَى الْعُمُومِ، وَحَمْلُ الْهُدَى عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ الْإِرْشَادُ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمُنِيرُ: النَّيِّرُ الْبَيِّنُ الْحُجَّةِ الْوَاضِحُ الْبُرْهَانِ، وَهُوَ وَإِنْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ فَإِفْرَادُهُ بالذكر كإفراد جبريل بالذكر عند ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ الْفَرْدَ الْكَامِلَ الْفَائِقَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا مَنْ حَمَلَ الْعِلْمَ عَلَى الضَّرُورِيِّ وَالْهُدَى عَلَى الِاسْتِدْلَالِيِّ، فَقَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ هُنَا عَلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةً لِنَفْيِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ ضَرُورِيًّا كَانَ أَوِ اسْتِدْلَالِيًّا، وَمُتَضَمِّنَةً لِنَفْيِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ بِأَقْسَامِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمُجَادِلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمُجَادِلُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، أَعْنِي قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ، وَبِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالتَّكْرِيرُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ تَذُمُّهُ وَتُوَبِّخُهُ: أَنْتَ فَعَلَتْ هَذَا، أَنْتَ فَعَلَتْ هَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ لِكَوْنِهِ وَصَفَهُ فِي كُلِّ آيَةٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اه. وَقِيلَ: الْآيَةُ الْأُولَى فِي الْمُقَلِّدِينَ اسْمُ فَاعِلٍ. وَالثَّانِيَةُ فِي المقلدين اسم مفعول. ولا وجه لهذا، كما أنه لا وجه لقول من قال: إن الآية الأولى خاصة بإضلال المتبوعين لتابعيهم، وَالثَّانِيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ إِضْلَالٍ وَجِدَالٍ. وَانْتِصَابُ ثانِيَ عِطْفِهِ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يُجَادِلُ، وَالْعِطْفُ: الْجَانِبُ، وَعِطْفَا الرَّجُلِ:
جَانِبَاهُ مِنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، وَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ يَلْوِي عُنُقَهُ مَرَحًا وَتَكَبُّرًا، ذَكَرَ معناه الزجّاج، وقال: وَهَذَا يُوصَفُ بِهِ الْمُتَكَبِّرُ. وَالْمَعْنَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ مُتَكَبِّرًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: العطف ما(3/519)
انْثَنَى مِنَ الْعُنُقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ثانِيَ عِطْفِهِ الْإِعْرَاضُ، أَيْ: مُعْرِضًا عَنِ الذَّكَرِ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمُفَضَّلُ وَغَيْرُهُمَا، كَقَوْلِهِ تعالى: وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها «1» وقوله: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ «2» ، وقوله: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ «3» ، وَاللَّامُ فِي لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِيُجَادِلُ، أَيْ: إِنَّ غَرَضَهُ هُوَ الْإِضْلَالُ عَنِ السَّبِيلِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ. وَقُرِئَ «لِيَضِلَّ» بِفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى أَنْ تَكُونَ اللَّامُ هِيَ لَامَ الْعَاقِبَةِ، كَأَنَّهُ جَعَلَ ضَلَالَهُ غَايَةً لِجِدَالِهِ، وَجُمْلَةُ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ جِدَالِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ. وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ، وَذَلِكَ بِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ الْمُعَجَّلِ وَسُوءِ الذِّكْرِ عَلَى أَلْسُنِ النَّاسَ. وَقِيلَ: الْخِزْيُ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الْقَتْلُ كَمَا وَقَعَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أَيْ: عَذَابَ النَّارِ الْمُحْرِقَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ الْعَذَابُ النَّازِلُ بِكَ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَعَبَّرَ بِالْيَدِ عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ لِكَوْنِ مُبَاشَرَةِ الْمَعَاصِي تَكُونُ بِهَا فِي الْغَالِبِ، وَمَحَلُّ أَنَّ وَمَا بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَالْأَمْرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ عِبَادَهُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ. وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ آلِ عِمْرَانَ فَلَا نُعِيدُهُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ هَذَا بَيَانٌ لِشِقَاقِ أَهْلِ الشِّقَاقِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْحَرْفُ:
الشَّكُّ، وَأَصْلُهُ مِنْ حَرْفِ الشَّيْءِ وَهُوَ طَرَفُهُ، مِثْلُ حَرْفِ الْجَبَلِ وَالْحَائِطِ، فَإِنَّ الْقَائِمَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٌّ، وَالَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ قَلِقٌ فِي دِينِهِ، عَلَى غَيْرِ ثَبَاتٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، كَالَّذِي هُوَ عَلَى حَرْفِ الْجَبَلِ وَنَحْوِهِ يَضْطَرِبُ اضْطِرَابًا وَيَضْعُفُ قِيَامُهُ، فَقِيلَ لِلشَّاكِّ فِي دِينِهِ إِنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ يَعْبُدُهُ عَلَى يَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى حَرْفٍ. وَقِيلَ: الْحَرْفُ: الشَّرْطُ، أَيْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى شَرْطٍ، وَالشَّرْطُ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ أَيْ: خَيْرٌ دُنْيَوِيٌّ مِنْ رَخَاءٍ وَعَافِيَةٍ وَخِصْبٍ وَكَثْرَةِ مَالٍ، وَمَعْنَى اطْمَأَنَّ بِهِ ثَبَتَ عَلَى دِينِهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى عِبَادَتِهِ، أَوِ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِذَلِكَ الْخَيْرِ الَّذِي أَصَابَهُ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ أَيْ: شَيْءٌ يَفْتَتَنُ بِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ يُصِيبُهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ نَفْسِهِ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أَيِ: ارْتَدَّ وَرَجَعَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَهُ بَعْدَ انْقِلَابِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ:
خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ أي: ذهبا منه وفقد هما، فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْأَجْرِ وَمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَالْأَعْرَجُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ خَاسِرًا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى خُسْرَانِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وخبره هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أَيِ: الْوَاضِحُ الظَّاهِرُ الَّذِي لا خسران مثله. يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ أَيْ: هَذَا الَّذِي انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ وَرَجَعَ إِلَى الْكُفْرِ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ: يَعْبُدُ مُتَجَاوِزًا عِبَادَةَ اللَّهِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مَا لَا يَضُرُّهُ إِنْ تَرَكَ عِبَادَتَهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ إِنْ عَبَدَهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْبُودُ جَمَادًا لَا يَقْدِرُ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نفع،
__________
(1) . الإسراء: 83.
(2) . سبأ: 24.
(3) . لقمان: 7.(3/520)
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الدُّعَاءِ الْمَفْهُومِ مِنِ الْفِعْلِ وَهُوَ يَدْعُو، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أَيْ: عَنِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ، مُسْتَعَارٌ مِنْ ضَلَالِ مَنْ سَلَكَ غَيْرَ الطَّرِيقِ، فَصَارَ بِضَلَالِهِ بَعِيدًا عَنْهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَعِيدُ: الطويل. يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ يَدْعُو بِمَعْنَى يَقُولُ، وَالْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مَنْ كَوْنِ ذَلِكَ الدُّعَاءَ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَالْأَصْنَامُ لَا نَفْعَ فِيهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، بَلْ هِيَ ضَرَرٌ بَحْتٌ لِمَنْ يَعْبُدُهَا، لِأَنَّهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا، وَإِيرَادُ صِيغَةُ التَّفْضِيلِ مَعَ عَدَمِ النَّفْعِ بِالْمَرَّةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَقْبِيحِ حَالِ ذَلِكَ الدَّاعِي، أَوْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» اللام هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَمَنْ: مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَضَرُّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أَقْرَبُ، وَالْجُمْلَةُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ. وَجُمْلَةُ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَعْبُودِهِ الَّذِي ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ:
لَبِئْسَ الْمَوْلَى أَنْتَ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ. وَالْمَوْلَى: النَّاصِرُ، وَالْعَشِيرُ: الصَّاحِبُ، وَمِثْلَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّهَا ... أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لِبَانِ الْأَدْهَمِ «2»
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «يَدْعُو» فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَفِيهِ هَاءٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدَّعُوهُ، وَعَلَى هَذَا يُوقَفُ عَلَى يَدْعُو، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ «لَبِئْسَ الْمَوْلى» . قَالَ: وَهَذَا لِأَنَّ اللَّامَ لِلْيَمِينِ وَالتَّوْكِيدِ فَجَعَلَهَا أَوَّلَ الْكَلَامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «يَدْعُو» مُكَرَّرَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا عَلَى جِهَةِ تَكْثِيرِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ أَيْ: يَدْعُو مَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ يَدْعُو، مِثْلَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا ضَرَبْتُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْكَلَامِ الْقَسَمُ، وَاللَّامُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَوْضِعِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، فَمَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَيَدْعُو، وَاللَّامُ جَوَابُ القسم وضرّه مبتدأ، و «أقرب» خَبَرُهُ، وَمِنَ التَّصَرُّفِ فِي اللَّامِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
خَالِيَ لَأَنْتَ وَمَنْ جَرِيرٌ خَالُهُ ... يَنَلِ الْعَلَاءَ وَيُكْرِمِ الْأَخْوَالَا
أَيْ لَخَالِي أَنْتَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى لَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إِلَهًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَحْسَبُ هَذَا الْقَوْلَ غلطا على مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ مَا قبل اللام هذه لا يعمل فيهما بَعْدَهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا وَالْقَفَّالُ: اللَّامُ صِلَةٌ، أَيْ: زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، أَيْ: يَعْبُدُهُ، وَهَكَذَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِحَذْفِ اللَّامِ، وَتَكُونُ اللَّامُ فِي لَبِئْسَ الْمَوْلى وَفِي لَبِئْسَ الْعَشِيرُ عَلَى هَذَا مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
لَمَّا فَرَغَ مَنْ ذِكْرِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حِرَفٍ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُدْخِلُهُمْ هَذِهِ الْجَنَّاتِ الْمُتَّصِفَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
__________
(1) . المنافقون: 5.
(2) . «أشطان» : جمع شطن وهو الحبل الذي يستقى به. «اللبان» : الصدر. «الأدهم» : الفرس.(3/521)
الكلام في جرى الأنهار من تحت الجنات، وبيّنّا أنه إن أريد بها الأشجار المتكاثفة الساترة لما تحتها، فَجَرَيَانُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا ظَاهِرٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَرْضُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: يفعل ما يريده من الأفعال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ فَيُثِيبُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قَالَ النَّحَّاسُ: مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ النَّصْرَ الَّذِي أُوتِيَهُ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أَيْ: فَلْيَطْلُبْ حِيلَةً يَصِلُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ أَيْ: ثُمَّ لِيَقْطَعَ النَّصْرَ إِنْ تَهَيَّأَ لَهُ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وَحِيلَتُهُ مَا يَغِيظُ مِنْ نَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا حَتَّى يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فَلْيَمُتْ غَيْظًا، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أَيْ: فَلْيَشْدُدْ حَبْلًا فِي سَقْفِ بَيْتِهِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ أَيْ: ثُمَّ لِيَمُدَّ الْحَبْلَ حَتَّى يَنْقَطِعَ فَيَمُوتَ مُخْتَنِقًا، وَالْمَعْنَى: فَلْيَخْتَنِقْ غَيْظًا حَتَّى يَمُوتَ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ وَمُظْهِرُهُ، وَلَا يَنْفَعَهُ غَيْظُهُ وَمَعْنَى «فَلْيَنْظُرْ هَلْ يذهبن كيده» : أي صنيعه وحيله، «ما يغيظ» : أي غيظه، و «ما» مَصْدَرِيَّةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «يَنْصُرُهُ» يَعُودُ إِلَى «مَنْ» ، وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْزُقُهُ فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى الدِّينِ، أَيْ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ دِينَهُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ فِي: «ثُمَّ لِيَقْطَعْ» قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ بَعِيدَةٌ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ «1» . وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ الْبَدِيعِ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ هِدَايَتُهُ ابْتِدَاءً أَوْ زِيَادَةً فِيهَا لِمَنْ كَانَ مَهْدِيًّا مِنْ قَبْلُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ثانِيَ عِطْفِهِ قَالَ: لَاوِيَ عُنُقِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وابن يزيد وَابْنِ جُرَيْجٍ: أَنَّهُ الْمُعْرِضُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: ثانِيَ عِطْفِهِ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ ثانِيَ عِطْفِهِ قال: مستكبرا في نفسه. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَأَنْتَجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتَهُ وَلَمْ تُنْتِجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الأعراب يأتون النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُسْلِمُونَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوا عَامَ غَيْثٍ وَعَامَ خِصْبٍ وَعَامَ وِلَادٍ حَسَنٍ قَالُوا: إِنَّ دِينَنَا هَذَا لِصَالِحٌ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَإِنْ وَجَدُوا عَامَ جَدْبٍ وَعَامَ وِلَادِ سُوءٍ وَعَامَ قَحْطٍ قَالُوا: مَا فِي دِينِنَا هَذَا خَيْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ.
__________
(1) . وذلك لأن «لمّ» ليست مثل الواو والفاء لأنها يوقف عليها وتنفرد.(3/522)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَذَهَبَ بَصَرُهُ وَمَالُهُ وَوَلَدُهُ فَتَشَاءَمَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقِلْنِي أَقِلْنِي، قَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُقَالُ، فَقَالَ: لَمْ أُصِبْ مِنْ دِينِي هَذَا خَيْرًا ذَهَبَ بَصَرِي وَمَالِي وَمَاتَ وَلَدِي، فَقَالَ: يَا يَهُودِيُّ الْإِسْلَامُ يَسْبِكُ الرِّجَالَ كَمَا تَسْبِكُ النَّارَ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَنَزَلَتْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ قَالَ:
فَلْيُرْبَطْ بِحَبْلٍ إِلَى السَّماءِ قَالَ: إِلَى سَمَاءِ بَيْتِهِ السقف ثُمَّ لْيَقْطَعْ قال: ثم يختنق بِهِ حَتَّى يَمُوتَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ يَقُولُ: أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ فَلْيَأْخُذْ حَبْلًا فَلْيَرْبُطْهُ فِي سَمَاءِ بَيْتِهِ فَلْيَخْتَنِقْ بِهِ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ قَالَ: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ أَوْ يَأْتِيهِ برزق.
[سورة الحج (22) : الآيات 17 الى 24]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي: بالله وبرسوله، أَوْ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِينَ هادُوا هُمُ الْيَهُودُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى مِلَّةِ مُوسَى وَالصَّابِئِينَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ النُّجُومَ، وَقِيلَ: هُمْ مِنْ جِنْسِ النَّصَارَى وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هُمْ فِرْقَةٌ مَعْرُوفَةٌ لَا تَرْجِعُ إِلَى مِلَّةٍ مِنِ الْمِلَلِ الْمُنْتَسِبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّصارى هُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى مِلَّةِ عِيسَى وَالْمَجُوسَ هُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النار، ويقولون: إن للعالم أصلين النور والظلمة. وقيل:
هم قوم يعبدون الشمس والقمر، وقيل: هم قوم يَسْتَعْمِلُونَ النَّجَاسَاتِ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ النَّصَارَى اعْتَزَلُوهُمْ وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَخَذُوا بَعْضَ دِينِ الْيَهُودِ وَبَعْضَ دِينِ النَّصَارَى وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدَّمَ هُنَالِكَ النَّصَارَى عَلَى الصَّابِئِينَ، وَأَخَّرَهُمْ عَنْهُمْ هُنَا. فَقِيلَ: وَجْهُ تَقْدِيمِ النَّصَارَى هُنَالِكَ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ دُونَ الصَّابِئِينَ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الصَّابِئِينَ(3/523)
هُنَا أَنَّ زَمَنَهُمْ مُتَقَدِّمٌ عَلَى زَمَنِ النَّصَارَى. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لَإِنَّ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَعْنَى الْفَصْلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْضِي بَيْنَهُمْ فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ الْجَنَّةَ وَالْكَافِرِينَ مِنْهُمُ النَّارَ. وَقِيلَ:
الْفَصْلُ هُوَ أَنْ يُمَيَّزَ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ بِعَلَّامَةٍ يُعْرَفُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ خَلْقِهِ وَأَقْوَالِهِمْ شَهِيدٌ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهَا. وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ خَبَرًا لَإِنَّ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ: إِنَّ زَيْدًا إِنَّ أَخَاهُ مُنْطَلِقٌ، وَرَدَّ الزَّجَّاجُ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَأَنْكَرَهُ وَأَنْكَرَ مَا جَعَلَهُ مُمَاثِلًا لِلْآيَةِ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ قولك:
إن زيدا إن الْخَيْرُ عِنْدَهُ، وَإِنَّ زَيْدًا إِنَّهُ مُنْطَلَقٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ الرُّؤْيَةُ هُنَا هِيَ الْقَلْبِيَّةُ لَا الْبَصَرِيَّةُ، أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَهُوَ مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ، وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ هُنَا هُوَ الِانْقِيَادُ الْكَامِلُ، لَا سُجُودُ الطَّاعَةِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ، سَوَاءً جُعِلْتَ كَلِمَةُ مَنْ خَاصَّةً بِالْعُقَلَاءِ، أو عامة لهم ولغيرهم، ولهذا عطف الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ عَلَى مَنْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ السُّجُودَ هُوَ الِانْقِيَادُ لَا الطَّاعَةُ الْخَاصَّةُ بِالْعُقَلَاءِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ هَذِهِ الْأُمُورَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهَا دَاخِلَةً تَحْتَ مَنْ، عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِهَا عَامَّةً لِكَوْنِ قِيَامِ السُّجُودِ بِهَا مُسْتَبْعَدًا فِي الْعَادَةِ، وَارْتِفَاعُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، أَيْ: وَيَسْجُدُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَقِيلَ: مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَرْتَفِعْ بِالْعَطْفِ عَلَى «مَنْ» لِأَنَّ سُجُودَ هَؤُلَاءِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ هُوَ سُجُودُ الطَّاعَةِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الْمُتَقَدِّمِ هُوَ الِانْقِيَادُ، فَلَوِ ارْتَفَعَ بِالْعَطْفِ عَلَى «مَنْ» لَكَانَ فِي ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ لَا مُلْجِئَ إِلَى هَذَا بَعْدَ حَمْلِ السُّجُودِ عَلَى الِانْقِيَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مِنْ سُجُودِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ هُوَ انْقِيَادُهُمْ لَا نَفْسُ السُّجُودِ الْخَاصِّ، فَارْتِفَاعُهُ عَلَى الْعَطْفِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَمُتَابِعُوهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «كَثِيرٍ» الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْجُدُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَأْبَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الْجَنَّةِ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ.
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أَيْ: مَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَهُ كَافِرًا شَقِيًّا، فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يُكْرِمُهُ فَيَصِيرُ سَعِيدًا عَزِيزًا. وَحَكَى الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، أَيْ إِكْرَامٍ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ هذانِ خَصْمانِ الْخَصْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْجَسُ الْفِرَقِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئُونَ وَالْمَجُوسُ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَالْخَصْمُ الْآخَرُ الْمُسْلِمُونَ، فَهُمَا فَرِيقَانِ مُخْتَصِمَانِ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَصْمَيْنِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ.
قَالَتِ الْجَنَّةُ: خَلَقَنِي لِرَحْمَتِهِ، وَقَالَتِ النَّارُ: خَلَقَنِي لِعُقُوبَتِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَصْمَيْنِ هُمُ الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ، وَمِنَ الْكَافِرِينَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. وَقَدْ كَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقْسِمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَبَارِزِينَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ بِمِثْلِ هَذَا جَمَاعَةٌ(3/524)
مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِمْ بِأَسْبَابِ النُّزُولِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «هَذَانِّ» بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: اخْتَصَمُوا وَلَمْ يَقُلِ اخْتَصَمَا.
قَالَ الْفَرَّاءُ: لِأَنَّهُمْ جَمْعٌ، وَلَوْ قَالَ اخْتَصَمَا لَجَازَ، وَمَعْنَى فِي رَبِّهِمْ فِي شَأْنِ رَبِّهِمْ، أَيْ: فِي دِينِهِ، أَوْ فِي ذَاتِهِ، أَوْ فِي صِفَاتِهِ، أَوْ فِي شَرِيعَتِهِ لِعِبَادِهِ، أَوْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. ثُمَّ فَصَلَ سُبْحَانَهُ مَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ: يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَيْ سُوِّيَتْ وَجُعِلَتْ لَبُوسًا لَهُمْ، شُبِّهَتِ النَّارُ بِالثِّيَابِ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِمْ كَاشْتِمَالِ الثِّيَابِ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الثِّيَابَ مِنْ نُحَاسٍ قَدْ أُذِيبَ فَصَارَ كَالنَّارِ، وَهِيَ السَّرَابِيلُ الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةٍ أُخْرَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَحَاطَتِ النَّارُ بِهِمْ. وَقُرِئَ «قُطِعَتْ» بِالتَّخْفِيفِ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ وَالْحَمِيمُ: هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ الْمَغْلِيُّ بِنَارِ جَهَنَّمَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ هِيَ خَبَرٌ ثَانٍ لِلْمَوْصُولِ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ الصَّهْرُ: الْإِذَابَةُ، وَالصُّهَارَةُ: مَا ذَابَ مِنْهُ، يُقَالُ: صَهَرْتُ الشيء فانصهر، أي: أذابته فَذَابَ، فَهُوَ صَهِيرٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُذَابُ بِذَلِكَ الْحَمِيمِ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الْأَمْعَاءِ وَالْأَحْشَاءِ وَالْجُلُودُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا، أَيْ: وَيُصْهَرُ بِهِ الْجُلُودُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: إِنِ الْجُلُودَ لَا تُذَابُ، بَلْ تُحْرَقُ، فَيُقَدَّرُ فِعْلٌ يُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَيُقَالُ: وَتُحْرَقُ بِهِ الْجُلُودُ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا «1»
أَيْ: وَسَقَيْتُهَا مَاءً. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مُلْجِئَ لِهَذَا، فَإِنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ يُذِيبُ مَا فِي الْبُطُونِ فَإِذَابَتُهُ لِلْجِلْدِ الظَّاهِرِ بِالْأَوْلَى وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ الْمَقَامِعُ: جَمْعُ مَقْمَعَةٍ وَمَقْمَعٌ، قَمَعْتُهُ: ضَرَبْتُهُ بِالْمِقْمَعَةِ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ. وَالْمَعْنَى: لَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ يُضْرَبُونَ بِهَا، أَيْ: لِلْكَفَرَةِ، وَسُمِّيَتِ الْمَقَامِعُ مَقَامِعَ لِأَنَّهَا تَقْمَعُ الْمَضْرُوبَ، أَيْ: تُذَلِّلُهُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَقَمَعْتُ الرَّجُلَ عَنِّي إِقْمَاعًا إِذَا اطلع عَلَيْكَ فَرَدَدْتُهُ عَنْكَ.
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أَيْ: مِنَ النَّارِ أُعِيدُوا فِيها أَيْ: في النار بالضرب بالمقامع، ومِنْ غَمٍّ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «مِنْهَا» بِإِعَادَةِ الْجَارِّ أَوْ مَفْعُولٍ لَهُ، أَيْ: لِأَجْلِ غَمٍّ شَدِيدٍ مِنْ غُمُومُ النَّارِ.
وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ هُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: أُعِيدُوا فِيهَا، وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، أَيِ:
الْعَذَابَ الْمُحْرِقَ، وَأَصْلُ الْحَرِيقِ الِاسْمُ مِنَ الِاحْتِرَاقِ، تَحْرِقُ الشَّيْءَ بِالنَّارِ وَاحْتَرَقَ حُرْقَةً وَاحْتِرَاقًا، وَالذَّوْقُ مُمَاسَّةٌ يَحْصُلُ مَعَهَا إِدْرَاكُ الطَّعْمِ، وَهُوَ هُنَا تَوَسُّعٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِدْرَاكُ الْأَلَمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ.
وَقَالَ فِي الْخَصْمِ الْآخَرِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ بَيَانِهِ لِحَالِ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ فَقَالَ: يُحَلَّوْنَ فِيها قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُحَلَّونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقُرِئَ مُخَفَّفًا، أَيْ: يُحَلِّيهِمُ اللَّهُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ بأمره. و «من» فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَساوِرَ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: يُحَلَّونَ بعض أساور،
__________
(1) . وعجزه: حتى شتت همّالة عيناها.(3/525)
أو للبيان، أو زائدة، و «من» فِي مِنْ ذَهَبٍ لِلْبَيَانِ، وَالْأَسَاوِرُ: جَمْعُ أَسْوِرَةٍ، وَالْأَسْوِرَةُ: جَمْعُ سِوَارٍ، وَفِي السُّوَارِ لُغَتَانِ كَسْرُ السِّينِ وَضَمُّهَا، وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ أَسْوَارٌ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَشَيْبَةُ وَلُؤْلُؤاً بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ أَسَاوِرَ، أَيْ: وَيُحَلُّونَ لؤلؤا، أو بفعل مقدّر ينصبه، وَهَكَذَا قَرَأَ بِالنَّصْبِ يَعْقُوبُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمُوَافِقَةُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَإِنَّ هَذَا الْحَرْفَ مَكْتُوبٌ فِيهِ بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَسَاوِرَ، أَيْ: يُحَلُّونَ من أساور ومن لؤلؤ، واللؤلؤ: ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ سُوَارٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ مُصْمَتٍ «1» كَمَا أَنَّ فِيهَا أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أَيْ: جَمِيعُ مَا يَلْبَسُونَهُ حَرِيرٌ كَمَا تُفِيدُهُ هَذِهِ الْإِضَافَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَلْبُوسِ الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا حَلَالٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَلْبَسُونَهُ فِيهَا، فَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُعْطَى مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ، وَيَنَالُ مَا يُرِيدُهُ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: أُرْشِدُوا إِلَيْهِ، قِيلَ: هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْبِشَارَاتِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُجْمَلِ هُنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «2» .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «3» . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «4» . وَمَعْنَى: وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أَنَّهُمْ أُرْشِدُوا إِلَى الصِّرَاطِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، أَوْ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ دِينُهُ الْقَوِيمُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَالصَّابِئِينَ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ يعبدون الملائكة، ويصلّون القبلة، وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ وَالْمَجُوسَ عَبْدَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنِّيرَانِ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ قَالَ: الْأَدْيَانُ سِتَّةٌ فَخَمْسَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَدِينُ لله عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: فَصَلَ قَضَاءَهُ بَيْنَهُمْ فَجَعَلَ الْخَمْسَةَ مُشْتَرِكَةً وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَاحِدَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ هَادُوا: الْيَهُودُ، وَالصَّابِئُونَ:
لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَالْمَجُوسُ: أَصْحَابُ الْأَصْنَامِ، وَالْمُشْرِكُونَ: نَصَارَى الْعَرَبِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هذانِ خَصْمانِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الثَّلَاثَةِ وَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تبارزوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، قَالَ عَلِيٌّ: وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو فِي الْخُصُومَةِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ يَوْمَ القيامة.
وأخرجه الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:
قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قَالَ: مِنْ نُحَاسٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْآنِيَةِ شَيْءٌ إِذَا حَمِيَ أشدّ حرّا منه، وفي قوله:
__________
(1) . «المصمت» : الذي لا يخالط غيره.
(2) . الزمر: 74.
(3) . الأعراف: 43.
(4) . فاطر: 34. [.....](3/526)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ قال: النحاس يذاب على رؤوسهم، وَقَوْلُهُ: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ قَالَ: تَسِيلُ أَمْعَاؤُهُمْ وَالْجُلُودُ قَالَ: تَتَنَاثَرُ جُلُودُهُمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ فَقَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم فَيَنْفُذُ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلِتُ «1» مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ وَهُوَ الصَّهْرُ، ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ قَالَ: يمشون وأمعاءهم تَتَسَاقَطُ وَجُلُودُهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ: يَضْرِبُونَ بِهَا، فَيَقَعُ كُلُّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ فَيَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُسْقَونَ مَاءً إِذَا دَخَلَ فِي بُطُونِهِمْ أَذَابَهَا وَالْجُلُودُ مَعَ الْبُطُونِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ مَقْمَعًا مِنْ حَدِيدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ فَاجْتَمَعَ الثَّقَلَانِ مَا أَقَلُّوهُ «2» مِنَ الْأَرْضِ، وَلَوْ ضُرِبَ الْجَبَلُ بِمَقْمَعٍ مِنْ حَدِيدٍ لَتَفَتَّتَ ثُمَّ عَادَ كَمَا كَانَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وسعيد بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: النَّارُ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا وَلَا جَمْرُهَا، ثُمَّ قَرَأَ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ قَالَ: أُلْهِمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ فِي الْخُصُومَةِ إِذْ قَالُوا:
اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن أَبِي خَالِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْقُرْآنُ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ قَالَ: الْإِسْلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْإِسْلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ.
__________
(1) . «يسلت» : يقطع ويستأصل.
(2) . أي: ما استطاعوا حمله.
[سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 29]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)(3/527)
قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عَطَفَ الْمُضَارِعَ عَلَى الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُضَارِعِ مَا مَضَى مِنَ الصَّدِّ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «1» ، أَوِ الْمُرَادُ بِالصَّدِّ هَاهُنَا الِاسْتِمْرَارُ لَا مُجَرَّدُ الِاسْتِقْبَالِ، فَصَحَّ بِذَلِكَ عَطْفُهُ عَلَى الْمَاضِي، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي وَيَصُدُّونَ وَاوَ الْحَالِ، أَيْ: كَفَرُوا وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ. وَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَالْمُضَارِعُ خَبَرُ إِنَّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ خَبَرُ إِنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالْبادِ وَذَلِكَ نَحْوَ خَسِرُوا أَوْ هَلَكُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْخَبَرَ: نذقه مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خبرا لأن لم يجزم، وأيضا لَوْ كَانَ خَبَرًا لِإِنَّ لَبَقِيَ الشَّرْطُ وَهُوَ وَمَنْ يُرِدْ بِغَيْرِ جَوَابٍ فَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ كما ذكرنا. والمراد بالصدّ المنع، وبسبيل اللَّهِ: دِينُهُ، أَيْ: يَمْنَعُونَ مِنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي دِينِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مَعْطُوفٌ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدُ نَفْسُهُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ، وَقِيلَ: الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عنه يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَكَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ أَيْ: جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ يُصَلُّونَ فِيهِ وَيَطُوفُونَ بِهِ مُسْتَوِيًا فِيهِ الْعَاكِفُ، وَهُوَ الْمُقِيمُ فِيهِ الْمُلَازِمُ لَهُ، وَالْبَادِ: أَيِ الْوَاصِلُ مِنَ الْبَادِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الطَّارِئُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَانْتِصَابُ سَوَاءً عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلْنَاهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى مُسْتَوِيًا، وَالْعَاكِفُ مُرْتَفِعٌ بِهِ، وُصِفَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِذَلِكَ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِلصَّادِّينَ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ سَواءً عَلَى الْحَالِ. وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَبِهَا قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ سَوَاءٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْعاكِفُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالْمُبْتَدَأُ الْعاكِفُ أَيِ: الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي سَوَاءٌ، وَقُرِئَ بِنَصْبِ سَواءً وَجَرِّ الْعَاكِفِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلنَّاسِ، أَيْ: جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ الْعَاكِفِ وَالْبَادِي سَوَاءً، وَأَثْبَتَ الْيَاءَ فِي «الْبَادِي» ابْنُ كَثِيرٍ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَحَذَفَهَا أَبُو عَمْرٍو فِي الْوَقْفِ، وَحَذَفَهَا نَافِعٌ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى الِاسْتِوَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَفْسَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَّةَ فَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَمَالِكٌ إِلَى أَنَّ دُورَ مَكَّةَ وَمَنَازِلَهَا يَسْتَوِي فِيهَا الْمُقِيمُ وَالطَّارِئُ. وَذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْقَادِمِ أَنْ يَنْزِلَ حَيْثُ وَجَدَ، وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ أَنْ يُؤْوِيِهِ شَاءَ أَمْ أَبَى. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ دُورَ مَكَّةَ وَمَنَازِلَهَا لَيْسَتْ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلِأَهْلِهَا مَنْعُ الطَّارِئِ مِنَ النُّزُولِ فِيهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا رَاجِعٌ إِلَى أَصْلَيْنِ: الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلِ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمَسْجِدُ نَفْسُهُ، أَوْ جَمِيعُ الْحَرَمِ، أَوْ مَكَّةُ عَلَى الْخُصُوصِ؟ وَالثَّانِي: هَلْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً؟ وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ فَتْحَهَا كَانَ عَنْوَةً هَلْ أَقَرَّهَا النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي يَدِ أَهْلِهَا عَلَى الْخُصُوصِ؟ أَوْ جَعَلَهَا لِمَنْ نَزَلَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ؟
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي شَرْحِنَا عَلَى «الْمُنْتَقَى» بِمَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى زِيَادَةٍ. وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ
__________
(1) . النحل: 88.(3/528)
مَفْعُولُ يُرِدْ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ مُرَادًا أَيْ مُرَادٍ بِإِلْحَادٍ، أَيْ: بِعُدُولٍ عَنِ الْقَصْدِ، وَالْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلُ، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ الْمَيْلُ بِظُلْمٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الظُّلْمِ مَاذَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ، وَقِيلَ: الشِّرْكُ وَالْقَتْلُ، وَقِيلَ: صَيْدُ حَيَوَانَاتِهِ وَقَطْعُ أَشْجَارِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَلِفُ فِيهِ بِالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَعَاصِي فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، حَتَّى قَالُوا: لَوْ هَمَّ الرَّجُلُ فِي الْحَرَمِ بِقَتْلِ رَجُلٍ بِعَدَنَ لَعَذَّبَهُ اللَّهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَأْخُوذًا بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِلظُّلْمِ، فَهِيَ مُخَصَّصَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنْ إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِرَادَةَ فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبَحْثُ عَنْ هَذَا وَتَقْرِيرُ الْحَقِّ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَيَرْفَعُ الْإِشْكَالَ يَطُولُ جِدًّا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثُ:
«إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟
قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» فَدَخَلَ النَّارَ هُنَا بِسَبَبِ مُجَرَّدِ حِرْصِهِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ. وَقَدْ أَفْرَدْنَا هَذَا الْبَحْثَ بِرِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: «بِإِلْحَادٍ» إِنْ كَانَ مَفْعُولُ يُرِدْ مَحْذُوفًا كَمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَقِيلَ إِنَّهَا زَائِدَةٌ هُنَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجِ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجِ
أَيْ: نَرْجُو الْفَرَجَ.
وَمِثْلُهُ:
أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادٍ «1»
أَيْ مَا لَاقَتْ.
وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا زَائِدَةٌ الْأَخْفَشُ وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ إِلْحَادًا بِظُلْمٍ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: دَخَلَتِ الْبَاءُ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِأَنْ يُلْحِدَ، وَالْبَاءُ مَعَ أَنَّ تَدْخُلُ وَتُحْذَفُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُرِدِ النَّاسَ بِإِلْحَادٍ.
وَقِيلَ إِنْ يُرِدْ مُضَمَّنٌ مَعْنَى يَهُمُّ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يَهُمُّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ. وَأَمَّا الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ «بِظُلْمٍ» فَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِسَبَبِ الظُّلْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِظُلْمٍ بَدَلًا مِنْ بِإِلْحَادٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ. وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَيْ: وَاذْكُرْ وَقْتَ ذَلِكَ يُقَالُ: بَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا وَبَوَّأْتُ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: مَكَّنْتُكَ وَمَكَّنْتُ لَكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ جَعَلْنَا مَكَانَ الْبَيْتِ مُبَوَّأً لِإِبْرَاهِيمَ، وَمَعْنَى بَوَّأْنَا:
بَيَّنَّا لَهُ مَكَانَ الْبَيْتِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» :
كَمْ مِنْ أَخٍ لي ماجد ... بوّأته بيديّ لحدا
__________
(1) . البيت القيس بن زهير العبسي.
(2) . هو عمرو بن معديكرب الزبيدي.(3/529)
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ اللَّامَ زَائِدَةٌ، وَمَكَانَ ظَرْفٌ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ فِيهِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ هِيَ مُفَسِّرَةٌ لَبَوَّأْنَا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى تَعَبَّدْنَا لِأَنَّ التَّبْوِئَةَ هِيَ لِلْعِبَادَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: لِأَنْ لَا تُشْرِكَ بِي. وَقِيلَ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ لَا تَعْبُدْ غَيْرِي. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ وَحِّدْنِي فِي هَذَا الْبَيْتِ لِأَنَّ مَعْنَى لَا تُشْرِكْ بِي: وَحِّدْنِي وَطَهِّرْ بَيْتِيَ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَفِي الآية طعن على من أَشْرَكَ مِنْ قُطَّانِ الْبَيْتِ، أَيْ: هَذَا كَانَ الشَّرْطَ عَلَى أَبِيكُمْ فَمَنْ بَعْدَهُ وَأَنْتُمْ فَلَمْ تَفُوا، بَلْ أَشْرَكْتُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: أَنْ لَا تُشْرِكْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَمَعْنَى وَطَهِّرْ بَيْتِيَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْأَوْثَانِ وَالدِّمَاءِ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَقِيلَ: عَنَى بِهِ التَّطْهِيرَ عَنِ الْأَوْثَانِ فَقَطْ، وَذَلِكَ أَنَّ جُرْهُمًا وَالْعَمَالِقَةَ كَانَتْ لَهُمْ أَصْنَامٌ فِي مَحَلِّ الْبَيْتِ، وَقَدْ مَرَّ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، والمراد بالقائمين هنا هم المصلون وَذكر الرُّكَّعِ السُّجُودِ بَعْدَهُ لِبَيَانِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ دَلَالَةً عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَقَرَنَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُشْرَعَانِ إِلَّا فِي الْبَيْتِ، فَالطَّوَافُ عِنْدَهُ وَالصَّلَاةُ إِلَيْهِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «وَآذِنْ» بِتَخْفِيفِ الذَّالِ وَالْمَدِّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَالْأَذَانُ: الْإِعْلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَرَاءَةٍ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ البيت جاء جِبْرِيلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فقال: يا ربّ وما يُبَلِّغُ صَوْتِي؟ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، فَعَلَا الْمَقَامَ فَأَشْرَفَ بِهِ حَتَّى صَارَ كَأَعْلَى الْجِبَالِ، فَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَشَرْقًا وَغَرْبًا، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ إِلَى الْبَيْتِ فَأَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَأَجَابَهُ مَنْ كَانَ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَعْلِمْهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ لِإِبْرَاهِيمَ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَقِيلَ: إِنَّ خِطَابَهُ انْقَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي وَمَا بَعْدَهُ خِطَابٌ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْحَجِّ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ بِكَسْرِهَا. يَأْتُوكَ رِجالًا هذا جواب الأمر، وعده اللَّهُ إِجَابَةَ النَّاسِ لَهُ إِلَى حَجِّ الْبَيْتِ مَا بَيْنَ رَاجِلٍ وَرَاكِبٍ، فَمَعْنَى رِجَالًا مُشَاةً جَمْعُ رَاجِلٍ، وَقِيلَ جَمْعُ رَجُلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «رُجَالًا» بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ «رُجَالَى» عَلَى وَزْنِ فُعَالَى مِثْلِ كُسَالَى، وَقَدَّمَ الرِّجَالَ عَلَى الرُّكْبَانِ فِي الذِّكْرِ لِزِيَادَةِ تَعَبِهِمْ فِي الْمَشْيِ، وَقَالَ: يَأْتُوكَ وَإِنْ كَانُوا يَأْتُونَ الْبَيْتَ لِأَنَّ مَنْ أَتَى الْكَعْبَةَ حَاجًّا فَقَدْ أَتَى إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ أَجَابَ نِدَاءَهُ. وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ عُطِفَ عَلَى رِجَالًا، أَيْ: وَرُكْبَانًا عَلَى كُلِّ بَعِيرٍ، وَالضَّامِرُ: الْبَعِيرُ الْمَهْزُولُ الذي أتعبه السفر، يقال: ضَمُرَ يَضْمُرُ ضُمُورًا، وَوَصَفَ الضَّامِرَ بِقَوْلِهِ: يَأْتِينَ باعتبار المعنى، لأن ضامر فِي مَعْنَى ضَوَامِرِ، وَقَرَأَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالضَّحَّاكُ «يَأْتُونَ» عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِرِجَالًا. وَالْفَجُّ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ، الْجَمْعُ: فِجَاجٌ، وَالْعَمِيقُ:
الْبَعِيدُ، وَاللَّامُ فِي لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يَأْتُوكَ، وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ وَأَذِّنْ. وَالشُّهُودُ: الحضور، والمنافع: هي التي تعمّ منافع الدنيا والآخرة. وقيل: المراد بها الْمَنَاسِكُ، وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ، وَقِيلَ: التِّجَارَةُ، كَمَا(3/530)
فِي قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ «1» . وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ أَيْ: يَذْكُرُوا عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا اسْمَ اللَّهِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الذِّكْرَ كِنَايَةٌ عَنِ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ.
وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ هِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ كَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ وَقِيلَ: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ فِي الْبَقَرَةِ فَلَا نُعِيدُهُ، وَالْكَلَامُ فِي وَقْتِ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ، وَمَعْنَى: «عَلى مَا رَزَقَهُمْ» : عَلَى ذَبْحِ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: هِيَ الْأَنْعَامُ، فَالْإِضَافَةُ فِي هَذَا كَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَصَلَاةُ الْأُولَى. فَكُلُوا مِنْها الْأَمْرُ هُنَا لِلنَّدْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَهَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ الْبَائِسُ: ذُو البؤس، وهو شدة الفقر، فذكر الفقير بَعْدَهُ لِمَزِيدِ الْإِيضَاحِ، وَالْأَمْرُ هُنَا لِلْوُجُوبِ، وَقِيلَ: لِلنَّدْبِ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ هُنَا هُوَ التَّأْدِيَةُ، أَيْ: لِيُؤَدُّوا إِزَالَةَ وَسَخِهِمْ، لِأَنَّ التَّفَثَ هُوَ الْوَسَخُ وَالْقَذَارَةُ مِنْ طُولِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ كَمَا حَكَّاهُ النَّيْسَابُورِيُّ عَلَى هَذَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَ التَّفَثَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
لَمْ يأت في الشرع مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي مَعْنَى التَّفَثِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ التَّفَثِ فِي اللُّغَةِ كُلُّ قَاذُورَةٍ تَلْحِقُ الْإِنْسَانَ.
وَقِيلَ: قَضَاؤُهُ ادِّهَانُهُ لِأَنَّ الْحَاجَّ مُغَبَّرٌ شَعِثٌ لَمْ يَدَّهِنْ وَلَمْ يَسْتَحِدَّ، فَإِذَا قَضَى نُسُكَهُ وَخَرَجَ مِنْ إِحْرَامِهِ حَلَقَ شَعْرَهُ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ، فَهَذَا هُوَ قَضَاءُ التَّفَثِ. قَالَ الزجاج: كأنه خروج من الإحرام إلى الإحلال وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أَيْ: مَا يَنْذُرُونَ بِهِ مِنَ الْبَرِّ فِي حَجِّهِمْ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنُّذُورِ هُنَا أَعْمَالُ الْحَجِّ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ هَذَا الطَّوَافُ هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَالْعَتِيقُ: الْقَدِيمُ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ «2» الْآيَةَ، وَقَدْ سُمِّيَ الْعَتِيقُ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ جَبَّارٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ يُعْتِقُ فِيهِ رِقَابَ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنْ غَرَقِ الطُّوفَانِ، وَقِيلَ: الْعَتِيقُ: الْكَرِيمُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ: الْحَرَمُ كُلُّهُ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ قَالَ: خَلْقُ اللَّهِ فِيهِ سَوَاءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ فِي مَنَازِلِ مَكَّةَ سَوَاءٌ، فَيَنْبَغِي لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُمْ حَتَّى يَقْضُوا مَنَاسِكَهُمْ. وَقَالَ: الْبَادِي وَأَهْلُ مَكَّةَ سَوَاءٌ، يَعْنِي فِي الْمَنْزِلِ وَالْحَرَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَنْ أَخَذَ مَنْ أَجُورِ بُيُوتِ مَكَّةَ إِنَّمَا يَأْكُلُ فِي بُطُونِهِ «3» نَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْطِعْنِي مَكَانًا لِي وَلِعَقِبِي، فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُمَرُ وَقَالَ: هُوَ حَرَمُ اللَّهِ سَوَاءٌ الْعَاكِفُ فِيهِ الباد. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَمْنَعُ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يَجْعَلُوا لَهَا أَبْوَابًا حَتَّى يَنْزِلَ الْحَاجُّ فِي عَرَصَاتِ الدُّورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قال
__________
(1) . البقرة: 198.
(2) . آل عمران: 96.
(3) . لعلّ الصواب: بطنه.(3/531)
السُّيُوطِيُّ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله: «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ قَالَ: «سَوَاءٌ الْمُقِيمُ وَالَّذِي يَدْخُلُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَكَّةُ مُبَاحَةٌ لَا تُؤَجَّرُ بُيُوتُهَا وَلَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ:
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ «1» إِلَّا السَّوَائِبَ «2» ، مَنِ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ «3» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حسين، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ أَكْلَ نَارًا» وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أِبْيَنَ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَوَقْفُهُ أَشْبَهُ مِنْ رَفْعِهِ، وَلِهَذَا صَمَّمَ شُعْبَةُ عَلَى وَقْفِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فِي سِوَى الْبَيْتِ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، وَمَنْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ فِي الْبَيْتِ لَمْ يُمِتْهُ اللَّهُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يُذِيقَهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مَعَ رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا مُهَاجِرٌ وَالْآخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَافْتَخَرُوا فِي الْأَنْسَابِ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَقَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ يَعْنِي مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ بِإِلْحَادٍ، يَعْنِي بِمَيْلٍ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ قَالَ: بشرك. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إِلْحَادٌ فِيهِ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ بِظُلْمٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْعُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشِّعْبِ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ خَرَجَ مَعَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهَاجَرُ، فلما قدم مكة رأى على رابية في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم! ابن على ظلّي أو على قدري، ولا تزد ولا تنقص، فلما بنى خرج وخلّف إِسْمَاعِيلُ وَهَاجَرُ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ وَالْقائِمِينَ قَالَ: الْمُصَلِّينَ عِنْدَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ معناه. وأخرج ابن
__________
(1) . أي: بيوتها.
(2) . «السوائب» : أي غير المملوكة لأهلها، بل المتروكة لله تعالى لينتفع بها المحتاج إليها.
(3) . أي: أسكن غيره بلا إجارة.(3/532)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ: رَبِّ قَدْ فَرَغْتُ، فَقَالَ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَالَ: رَبِّ وَمَا يُبَلِّغُ صَوْتِي؟ قَالَ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، قَالَ: رَبِّ كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَسَمِعَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ. وَفِي الْبَابِ آثَارٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قَالَ: أَسْوَاقًا كَانَتْ لَهُمْ، مَا ذَكَرَ اللَّهُ مَنَافِعَ إِلَّا الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مَنَافِعُ فِي الدُّنْيَا وَمَنَافِعُ فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا مَنَافِعُ الْآخِرَةِ فَرِضْوَانُ اللَّهِ، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَمِمَّا يُصِيبُونَ مِنْ لُحُومِ الْبُدْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ والذبائح والتجارات. وأخرج أبو بكر المروزي فِي «كِتَابِ الْعِيدَيْنِ» عَنْهُ أَيْضًا قَالَ:
الْأَيَّامُ المعلومات: أيام العشر. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ:
يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ قَالَ: قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْبَائِسُ: الزَّمِنُ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
التَّفَثُ الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: التَّفَثُ: حَلْقُ الرَّأْسِ، وَالْأَخْذُ مِنَ الْعَارِضَيْنِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَالذَّبْحُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ: هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.
وَوَرَدَ فِي وَجْهِ تَسْمِيَةِ الْبَيْتِ بِالْعَتِيقِ آثَارٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ سَابِقًا، وَوَرَدَ فِي فَضْلِ الطَّوَافِ أَحَادِيثُ لَيْسَ هذا موضع ذكرها.
[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 35]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
__________
(1) . أي: المريض مرضا يطول شفاؤه.(3/533)
مَحَلُّ ذلِكَ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: الْأَمْرُ ذَلِكَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: افْعَلُوا ذَلِكَ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا سَبَقَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يُطْلَقُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ أَوْ بَيْنَ طَرَفَيْ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَالْحُرُمَاتُ: جَمْعُ حُرْمَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُرْمَةُ مَا وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ وَحُرِّمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ، وَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا نُهِيَ عَنْهَا وَمُنِعَ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ عُمُومُ كُلِّ حُرْمَةٍ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ كَمَا يفيده اللفظ وإن كانا السَّبَبُ خَاصًّا، وَتَعْظِيمُهَا تَرْكُ مُلَابَسَتِهَا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أَيْ: فَالتَّعْظِيمُ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ هُنَا لَا يُرَادُ بها معناه الْحَقِيقِيُّ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ خَيْرٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، فَهِيَ عِدَةٌ بِخَيْرٍ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ أَيْ: فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهِيَ الْمَيْتَةُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ «1» . فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ الرِّجْسُ: الْقَذَرُ، وَالْوَثَنُ: التِّمْثَالُ، وَأَصْلُهُ مِنْ وَثَنَ الشَّيْءَ، أَيْ: أَقَامَ فِي مَقَامِهِ، وَسُمِّيَ الصَّلِيبُ وَثَنًا لِأَنَّهُ يُنْصَبُ وَيُرْكَزُ فِي مَقَامِهِ، فَلَا يَبْرَحُ عَنْهُ وَالْمُرَادُ اجْتِنَابُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَسَمَّاهَا رِجْسًا لِأَنَّهَا سَبَبُ الرِّجْسِ، وَهُوَ الْعَذَابُ. وَقِيلَ: جَعَلَهَا سُبْحَانَهُ رِجْسًا حُكْمًا، وَالرِّجْسُ: النَّجَسُ، وَلَيْسَتِ النَّجَاسَةُ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهَا وَلَكِنَّهَا وَصْفٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا تَزُولُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ، كَمَا أَنَّهَا لَا تَزُولُ النَّجَاسَةُ الْحِسِّيَّةُ إِلَّا بِالْمَاءِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: «مِنْ» هُنَا لِتَخْلِيصِ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسٍ، أَيْ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ وَثَنٌ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ الَّذِي هُوَ الْبَاطِلُ، وَسُمِّيَ زُورًا لِأَنَّهُ مَائِلٌ عَنِ الْحَقِّ، ومنه قوله تعالى: تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ «2» ، وَقَوْلُهُمْ مَدِينَةٌ زَوْرَاءَ، أَيْ: مَائِلَةٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا قَوْلُ الزُّورِ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِ الزُّورِ هَاهُنَا تَحْلِيلُهُمْ بَعْضَ الْأَنْعَامِ وَتَحْرِيمُهُمْ بَعْضَهَا، وَقَوْلُهُمْ: هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ «3» ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَانْتِصَابُ حُنَفاءَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُسْتَقِيمِينَ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ مَائِلِينَ إِلَى الْحَقِّ. وَلَفْظُ حُنَفَاءَ مِنَ الْأَضْدَادِ، يَقَعُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَيَقَعُ عَلَى الْمَيْلِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حُجَّاجًّا، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ هُوَ حَالٌ كَالْأَوَّلِ، أَيْ: غَيْرُ مُشْرِكِينَ بِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ كَمَا يُفِيدُهُ الْحَذْفُ مِنَ الْعُمُومِ، وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ مُبْتَدَأَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ، وَمَعْنَى خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ: سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ: انْحَطَّ مِنْ رَفِيعِ الْإِيمَانِ إِلَى حَضِيضِ الْكُفْرِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ، يُقَالُ: خَطَفَهُ يَخْطَفُهُ إِذَا سَلَبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ أَيْ: تَخْطَفُ لَحْمَهُ وَتَقْطَعُهُ بِمَخَالِبِهَا. قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَبِكَسْرِ التَّاءِ مَعَ كَسْرِهِمَا أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أَيْ: تَقْذِفُهُ وَتَرْمِي بِهِ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أَيْ: بِعِيدٍ، يُقَالُ: سحق يسحق سحقا فهو سحيق إِذَا بَعُدَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ بُعْدَ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ كَبُعْدِ مَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَذْهَبُ بِهِ الطَّيْرُ، أَوْ هَوَتْ بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْإِشَارَةِ قَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَالشَّعَائِرُ: جَمْعُ الشَّعِيرَةِ، وَهِيَ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى شعار، ومنه شعار القوم في الحرب،
__________
(1) . المائدة: 3.
(2) . الكهف: 17. [.....]
(3) . النحل 114.(3/534)
وَهُوَ عَلَامَتُهُمُ الَّتِي يَتَعَارَفُونَ بِهَا، وَمِنْهُ إِشْعَارُ البدنة، وَهُوَ الطَّعْنُ فِي جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ، فَشَعَائِرُ اللَّهِ أَعْلَامُ دِينِهِ، وَتَدْخُلُ الْهَدَايَا فِي الْحَجِّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ رَاجِعٌ إِلَى الشَّعَائِرِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، أَيْ: مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ مِنَ التَّقْوَى، فَإِنَّ هَذَا التَّعْظِيمَ نَاشِئٌ مِنَ التَّقْوَى لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أَيْ: فِي الشَّعَائِرِ عَلَى الْعُمُومِ، أَوْ عَلَى الْخُصُوصِ، وَهِيَ الْبُدْنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَمِنْ مَنَافِعِهَا: الرُّكُوبُ وَالدَّرُّ وَالنَّسْلُ وَالصُّوفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ وَقْتُ نَحْرِهَا ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَيْ: حَيْثُ يَحُلُّ نَحْرُهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى الْبَيْتِ وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْحَرَمِ، فَمَنَافِعُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْهَا مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى وَقْتِ نَحْرِهَا، ثُمَّ تَكُونُ مَنَافِعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ دِينِيَّةً. وَقِيلَ: إِنَّ مَحِلَّهَا هَاهُنَا مَأْخُوذٌ مِنْ إِحْلَالِ الْحَرَامِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ شَعَائِرَ الْحَجِّ كُلَّهَا مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ تَنْتَهِي إِلَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِالْبَيْتِ، فَالْبَيْتُ عَلَى هَذَا مُرَادٌ بِنَفْسِهِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً الْمَنْسَكُ هَاهُنَا الْمَصْدَرُ مِنْ نَسَكَ يَنْسَكُ إِذَا ذَبَحَ الْقُرْبَانَ، وَالذَّبِيحَةُ نَسِيكَةٌ، وَجَمْعُهَا نُسُكٌ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْسَكِ فِي الْآيَةِ مَوْضِعُ النَّحْرِ، وَيُقَالُ: مَنْسِكٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ، قَرَأَ بِالْكَسْرِ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَنْسَكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمَوْضِعُ الْمُعْتَادُ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً: أَيْ مَذْهَبًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْمَنْسَكَ الْعِيدُ، وَقِيلَ: الْحَجُّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ، وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْمُجْتَمِعَةُ عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: وَجَعَلَنَا لِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ ذَبْحًا يَذْبَحُونَهُ وَدَمًا يُرِيقُونَهُ، أَوْ مُتَعَبَّدًا أَوْ طَاعَةً أَوْ عِيدًا أَوْ حَجًّا يَحُجُّونَهُ، لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَيَجْعَلُوا نُسُكَهُمْ خَاصًّا بِهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أَيْ: عَلَى ذَبْحِ مَا رَزَقَهُمْ مِنْهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقُرْبَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَنْعَامِ دُونَ غَيْرِهَا، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الذَّبْحِ الْمَذْكُورِ هُوَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْإِسْلَامِ لَهُ، وَالِانْقِيَادِ لِطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفِعْلِ لِلْقَصْرِ، وَالْفَاءُ هُنَا كَالْفَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَشِّرَ الْمُخْبِتِينَ مِنْ عِبَادِهِ أَيْ: المتواضعين الخاشعين المخلصين، وهو مأخوذ من الخبت، وَهُوَ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى: بَشِّرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ وَجَلِيلِ عَطَائِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْبِتِينَ هُمُ الذي لَا يَظْلِمُونَ غَيْرَهُمْ وَإِذَا ظَلَمَهُمْ غَيْرُهُمْ لَمْ يَنْتَصِرُوا، ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الْمُخْبِتِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ: خَافَتْ وَحَذَرَتْ مُخَالَفَتُهُ، وَحُصُولُ الْوَجَلِ مِنْهُمْ عِنْدَ الذِّكْرِ لَهُ سُبْحَانَهُ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ يَقِينِهِمْ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَوَصَفَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلى مَا أَصابَهُمْ مِنَ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلاةِ أَيِ: الْإِتْيَانِ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ» بِالْجَرِّ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالنَّصْبِ عَلَى تَوَهُّمِ بَقَاءِ النُّونِ، وأنشد سيبويه على ذلك قول الشاعر:
الحافظو عورة العشيرة «1»
............... .....
__________
(1) . البيت بتمامه:
الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائنا نطف(3/535)
الْبَيْتَ بِنَصْبِ عَوْرَةَ. وَقِيلَ: لَمْ يَقْرَأْ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَبُو عَمْرٍو، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ «وَالْمُقِيمِينَ» : بإثبات النون في الْأَصْلِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ: يَتَصَدَّقُونَ بِهِ وَيُنْفِقُونَهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَيَضَعُونَهُ فِي مَوَاضِعِ الْخَيْرِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ «1» .
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: حُرُماتِ اللَّهِ قَالَ: الْحُرْمَةُ مَكَّةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ كُلِّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ يَقُولُ: اجْتَنِبُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ يَعْنِي الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ وَالتَّكْذِيبَ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَيْمَنِ بْنِ خُرَيْمٍ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ شِرْكًا بِاللَّهِ- ثَلَاثًا- ثُمَّ قَرَأَ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قَالَ أَحْمَدُ: غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سفيان بن زياد. وَقَدِ اخْتُلِفَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا نَعْرِفُ لِأَيْمَنِ بْنِ خُرَيْمٍ سَمَاعًا مِنَ النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد أخرجه أحمد وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ حَدِيثِ خُرَيْمٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلَ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس فِي قَوْلِهِ: حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ قَالَ: حُجَّاجًا لِلَّهِ. غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَحُجُّونَ مُشْرِكِينَ، فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، قَالَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ: حُجُّوا الْآنَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ قَالَ: الْبُدْنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ قَالَ: الِاسْتِسْمَانُ وَالِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِعْظَامُ، وَفِي قَوْلِهِ: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالَ: إِلَى أَنْ تُسَمَّى بُدْنًا. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَفِيهِ قَالَ: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، فِي ظُهُورِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَصْوَافِهَا إِلَى أَنْ تُسَمَّى هَدْيًا، فَإِذَا سُمِّيَتْ هَدْيًا ذَهَبَتِ الْمَنَافِعُ ثُمَّ مَحِلُّها يَقُولُ: حِينَ تُسَمَّى إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِذَا دَخَلَتِ الْحَرَمَ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قال: عيدا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِهْرَاقُ الدِّمَاءِ. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة
__________
(1) . الأنفال: 2.(3/536)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
قَالَ: ذَبْحًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَكَّةُ لم يجعل الله لأمة قط مَنْسَكًا غَيْرَهَا.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي الْأُضْحِيَةِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ قَالَ: الْمُطَمْئِنِينَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْغَضَبِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ قَالَ: الْمُخْبِتُونَ فِي الْآيَةِ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَإِذَا ظُلِمُوا لَمْ ينتصروا.
[سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
قَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «وَالْبُدُنَ» بِضَمِّ الْبَاءِ وَالدَّالِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِسْكَانِ الدَّالِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهَذَا الِاسْمُ خَاصٌّ بِالْإِبِلِ، وَسَمِّيَتْ بَدَنَةً لِأَنَّهَا تَبْدُنُ، وَالْبَدَانَةُ: السِّمَنُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْإِبِلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْإِبِلِ، وَلِمَا تُفِيدُهُ كُتُبُ اللُّغَةِ مِنِ اخْتِصَاصِ هَذَا الِاسْمِ بِالْإِبِلِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَقَرَةِ على قولين: أصحهما أنه يطلق عليها ذَلِكَ شَرْعًا كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ. جَعَلْناها لَكُمْ وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أَيْ: مَنَافِعُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أَيْ: عَلَى نحرها، وَمَعْنَى صَوافَّ أَنَّهَا قَائِمَةٌ قَدْ صُفَّتْ قَوَائِمُهَا، لِأَنَّهَا تُنْحَرُ قَائِمَةً مَعْقُولَةً، وَأَصْلُ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْخَيْلِ، يُقَالُ: صَفَنَ الْفَرَسُ فَهُوَ صَافِنٌ إِذَا قَامَ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ وَثَنَى الرَّابِعَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَمُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ «صَوَافِي» أَيْ: خَوَالِصُ لِلَّهِ لا يشركون بِهِ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى نَحْرِهَا أَحَدًا، وَوَاحِدُ صَوَافٍّ صَافَّةٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَوَاحِدُ صَوَافِي صَافِيَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عباس وأبو جعفر محمد بْنُ عَلِيٍّ «صَوَافِنَ» بِالنُّونِ جَمْعُ صَافِنَةٍ، وَالصَّافِنَةُ: هِيَ الَّتِي قَدْ رَفَعَتْ إِحْدَى يَدَيْهَا بِالْعَقْلِ لِئَلَّا تَضْطَرِبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
الصَّافِناتُ الْجِيادُ «1» ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
تَرَكْنَا الْخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْهِ ... مُقَلَّدَةً أَعِنَّتُهَا صُفُونَا
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ على الثّلاث كسيرا
فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها الوجوب: السقوط، أي: فإذا سَقَطَتْ بَعْدَ نَحْرِهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهَا فَكُلُوا مِنْها ذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ للندب وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ هذا الأمر قبل هُوَ لِلنَّدْبِ كَالْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّخْعِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ سُرَيْجٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: هو للوجوب.
__________
(1) . ص: 31.(3/537)
وَاخْتُلِفَ فِي الْقَانِعِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ السَّائِلُ، يُقَالُ: قَنَعَ الرَّجُلُ بِفَتْحِ النُّونِ يَقْنِعُ بِكَسْرِهَا «1» إِذَا سَأَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ:
لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنَ الْقُنُوعِ
أَيِ: السُّؤَالِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُتَعَفِّفُ عَنِ السُّؤَالِ المستغني ببلغة، ذكر معناه الْخَلِيلُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
مِنَ الْعَرَبِ مَنْ ذَكَرَ الْقُنُوعَ بِمَعْنَى الْقَنَاعَةِ، وَهِيَ الرِّضَا وَالتَّعَفُّفُ وَتَرْكُ الْمَسْأَلَةِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِالثَّانِي قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. وَأَمَّا المعترّ، فقال محمد ابن كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْكَلْبِيُّ وَالْحَسَنُ أَنَّهُ الَّذِي يَتَعَرَّضُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَعْتَرِيكَ وَيَسْأَلُكَ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ أَنَّ الْقَانِعَ: الْفَقِيرُ، وَالْمُعْتَرَّ: الزَّائِرُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ كِلَاهُمَا الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَلَكِنَّ الْقَانِعَ الَّذِي يَرْضَى بِمَا عِنْدَهُ وَلَا يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَكَ وَلَا يَسْأَلُكَ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ
«وَالْمُعْتَرِي»
وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى الْمُعْتَرِّ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمْ ... وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ
يُقَالُ: اعْتَرَّهُ وَاعْتَرَاهُ وَعَرَّهُ وَعَرَّاهُ إِذَا تَعَرَّضَ لِمَا عِنْدَهُ أو طلبه، ذكر النَّحَّاسُ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ الْبَدِيعِ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ، فَصَارَتْ تَنْقَادُ لَكُمْ إِلَى مَوَاضِعِ نَحْرِهَا فَتَنْحَرُونَهَا وَتَنْتَفِعُونَ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُسَخَّرَةً لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا وَالرُّكُوبِ عَلَى ظَهْرِهَا وَالْحَلْبِ لَهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها أَيْ: لَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهِ، وَلَا يَبْلُغَ رِضَاهُ، وَلَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْقَبُولِ مِنْهُ لُحُومُ هَذِهِ الْإِبِلِ الَّتِي تَتَصَدَّقُونَ بِهَا، وَلَا دِمَاؤُهَا الَّتِي تَنْصَبُّ عِنْدَ نَحْرِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لُحُومٌ وَدِمَاءٌ وَلكِنْ يَنالُهُ أَيْ: يَبْلُغُ إِلَيْهِ تَقْوَى قُلُوبِكُمْ، وَيَصِلُ إِلَيْهِ إِخْلَاصُكُمْ لَهُ وَإِرَادَتُكُمْ بِذَلِكَ وَجْهَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُهُ اللَّهُ وَيُجَازِي عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَصْحَابُ اللُّحُومِ وَالدِّمَاءِ، أَيْ: لَنْ يَرْضَى الْمُضَحُّونَ وَالْمُتَقَرِّبُونَ إِلَى رَبِّهِمْ بِاللُّحُومِ وَالدِّمَاءِ وَلَكِنْ بِالتَّقْوَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِ تَقْوَاهُ وَطَاعَتُهُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ تَعُودُ إِلَى الْقَبُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَقْبَلُهُ الْإِنْسَانُ يُقَالُ قَدْ نَالَهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ، فَخَاطَبَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَعَادَتِهِمْ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كَرَّرَ هَذَا لِلتَّذْكِيرِ، وَمَعْنَى لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ هُوَ قَوْلُ النَّاحِرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ عِنْدَ النَّحْرِ، فَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْأَمْرَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ هُنَا التَّكْبِيرَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّكْبِيرِ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ. وَمَعْنَى عَلى مَا هَداكُمْ عَلَى مَا أَرْشَدَكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِكُمْ بِكَيْفِيَّةِ التَّقَرُّبِ بها، و «ما» مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ مَوْصُولَةٌ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُخْلِصُونَ، وَقِيلَ: الْمُوَحِّدُونَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ كُلُّ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَصِحُّ بِهِ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُحْسِنِ عَلَيْهِ.
__________
(1) . لعلّ الصواب: قنع يقنع- بفتح النون-: إذا سأل. وقنع يقنع إذا رضي.(3/538)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا نَعْلَمُ الْبُدْنَ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْبُدْنُ ذَاتُ الجوف. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَيْسَ الْبُدْنُ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ، وَأَخْرَجُوا عَنِ الْحَكَمِ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجُوا عَنْ عَطَاءٍ نَحْوَ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عن يعقوب الرّياحي عن أبيه قال: أوصى إليّ رجل، وأوصى بِبَدَنَةٍ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا أَوْصَى إِلَيَّ وَأَوْصَى بِبَدَنَةٍ، فَهَلْ تُجْزِئُ عَنِّي بَقَرَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: مِمَّنْ صاحبكم؟ فقلت:
من بني رياح، فقال: ومتى اقتنى بنو رياح الْبَقَرَ إِلَى الْإِبِلِ؟ وَهِمَ صَاحِبُكُمْ، إِنَّمَا الْبَقَرُ لأسد وَعَبْدِ الْقَيْسِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْأَضَاحِي، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي ظِبْيَانٍ قَالَ: سَأَلَتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ قَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْحَرَ الْبَدَنَةَ فَأَقِمْهَا عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ مَعْقُولَةٍ، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
صَوافَّ قَالَ: قِيَامًا مَعْقُولَةً. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ وَهُوَ يَنْحَرُهَا، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج أبو عبيدة وعبد بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «صَوَافِنَ» يَعْنِي قِيَامًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِذا وَجَبَتْ قَالَ: سَقَطَتْ عَلَى جَنْبِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: نُحِرَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْقانِعَ الْمُتَعَفِّفُ وَالْمُعْتَرَّ السَّائِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْقَانِعُ الَّذِي يَقْنَعُ بِمَا آتَيْتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقَانِعُ الَّذِي يَقْنَعُ بِمَا أُوتِيَ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِضُ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْقَانِعُ الَّذِي يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: أَمَّا الْقَانِعُ فَالْقَانِعُ بِمَا أَرْسَلْتَ إِلَيْهِ فِي بَيْتِهِ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْقَانِعُ الَّذِي يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَتَعَرَّضُ وَلَا يَسْأَلُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ التَّابِعِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَالْمَرْجِعُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ لَا سِيَّمَا مَعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا ذَبَحُوا اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ بِالدِّمَاءِ فَيَنْضَحُونَ بِهَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نحوه.
[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)(3/539)
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ «يَدْفَعُ» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يُدَافِعُ، وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنْ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى. وَقَدْ تَرِدُ هَذِهِ الصِّيغَةُ وَلَا يُرَادُ بِهَا مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ كَثِيرًا، مِثْلُ عَاقَبْتُ اللِّصَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ إِيرَادَ هَذِهِ الصِّيغَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ:
لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ الْوَاقِعِ. والمعنى: يدفع عَنِ الْمُؤْمِنِينَ غَوَائِلَ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: يُعْلِي حُجَّتَهُمْ، وَقِيلَ:
يُوَفِّقُهُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِلْمُدَافَعَةِ عَنْهُمْ، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ الْمُدَافَعَةَ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مُشْعِرَةٌ أَتَمَّ إِشْعَارٍ بِأَنَّهُمْ مُبْغَضُونَ إِلَى اللَّهِ غَيْرُ مَحْبُوبِينَ لَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ ذَكَرَ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ وَتَقَرَّبَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِذَبِيحَتِهِ فَهُوَ خَوَّانٌ كَفُورٌ، وَإِيرَادُ صِيغَتَيِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ لَا لِإِخْرَاجِ مَنْ خَانَ دُونَ خِيَانَتِهِمْ، أَوْ كَفَرَ دُونَ كُفْرِهِمْ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا قُرِئَ «أُذِنَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَمَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَكَذَلِكَ «يُقَاتَلُونَ» ، قُرِئَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَمَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَلَى كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْإِذْنُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ إِذَا صَلَحُوا لِلْقِتَالِ، أَوْ قَاتَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ قَاتَلُوهُمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
كَانَ مُشْرِكُو مَكَّةَ يُؤْذُونَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ، فَيَشْكُونَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بِالْقِتَالِ» حَتَّى هَاجَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَرِّرَةٌ أَيْضًا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ فَإِنَّ إِبَاحَةَ الْقِتَالِ لَهُمْ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ دَفْعِ اللَّهِ عَنْهُمْ، وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ظُلِمُوا بِمَا كَانَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ سَبٍّ وَضَرْبٍ وَطَرْدٍ، ثُمَّ وَعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ النَّصْرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَا مَرَّ مِنَ الْمُدَافَعَةِ أَيْضًا. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ يُقَاتَلُونَ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ مَحَلِّ رَفْعٍ بِإِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَالْمُرَادُ بِالدِّيَارِ مَكَّةُ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ لِقَوْلِهِمْ رَبُّنَا اللَّهُ، أَيْ أُخْرِجُوا بِغَيْرِ حَقٍّ يُوجِبُ إِخْرَاجَهُمْ لَكِنْ لِقَوْلِهِمْ رَبُّنَا اللَّهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالتَّقْدِيرُ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِلَا حَقٍّ إِلَّا بِأَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا «1» وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولُ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ قَرَأَ نَافِعٌ «وَلَوْلَا دِفَاعُ» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَلَوْلا دَفْعُ وَالْمَعْنَى: لَوْلَا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ قِتَالِ الْأَعْدَاءِ لَاسْتَوْلَى أَهْلُ الشِّرْكِ، وَذَهَبَتْ مَوَاضِعُ الْعِبَادَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى لَهُدِّمَتْ لَخُرِّبَتْ بِاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ فَالصَّوَامِعُ: هِيَ صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ، وَقِيلَ: صَوَامِعُ الصَّابِئِينَ، وَالْبِيَعُ: جَمْعُ بِيعَةٍ، وَهِيَ كَنِيسَةُ النَّصَارَى، وَالصَّلَوَاتُ هِيَ كنائس اليهود، واسمها بالعبرانية صلوثا
__________
(1) . الأعراف: 126.(3/540)
بِالْمُثَلَّثَةِ فَعُرِّبَتْ، وَالْمَسَاجِدُ هِيَ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْلَا هَذَا الدَّفْعُ لَهُدِّمَتْ فِي زَمَنِ مُوسَى الْكَنَائِسُ، وَفِي زَمَنِ عِيسَى الصَّوَامِعُ وَالْبِيَعُ، وَفِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ الْمَسَاجِدُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا أَصْوَبُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ ظُلْمَ الظَّلَمَةِ بِعَدْلِ الْوُلَاةِ وَقِيلَ: لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ الْعَذَابَ بِدُعَاءِ الْأَخْيَارِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالصَّوَامِعُ: جَمْعُ صَوْمَعَةٍ، وَهِيَ بِنَاءٌ مُرْتَفِعٌ، يُقَالُ: صَمَعَ الثَّرِيدَةَ إذا رفّع رأسها، ورجل أَصْمَعَ الْقَلْبِ: أَيْ حَادَّ الْفِطْنَةِ، وَالْأَصْمَعُ مِنَ الرِّجَالِ: الْحَدِيدُ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: الصَّغِيرُ الْأُذُنِ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤَذَّنُ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي صَلَوَاتٌ تِسْعَ قِرَاءَاتٍ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ مَوَاضِعِ عِبَادَاتِ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى مَوْضِعِ عِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ كَوْنُهَا أَقْدَمَ بِنَاءً وَأَسْبَقَ وُجُودًا. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْهَدْمِ الْمَذْكُورِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ، وَهُوَ تُعَطُّلُهَا مِنَ الْعِبَادَةِ، وَقُرِئَ «لَهُدِّمَتْ» بِالتَّشْدِيدِ، وَانْتِصَابُ كَثِيرًا فِي قَوْلِهِ: يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذِكْرًا كَثِيرًا، أَوْ وَقْتًا كَثِيرًا، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْمَسَاجِدِ، وَقِيلَ: لِجَمِيعِ الْمَذْكُورَاتِ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ اللَّامُ هِيَ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاللَّهِ لَيَنْصُرُ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ يَنْصُرُ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُ دِينَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَالْقَوِيُّ: الْقَادِرُ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْعَزِيزُ: الْجَلِيلُ الشَّرِيفُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: الْمُمْتَنِعُ الَّذِي لَا يُرَامُ وَلَا يُدَافَعُ وَلَا يُمَانَعُ، وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةٌ لِمَنْ فِي قَوْلِهِ مَنْ يَنْصُرُهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ «لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ» . وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَقِيلَ: أَهْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَقِيلَ: وُلَاةُ الْعَدْلِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَفِيهِ إِيجَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَنْ مَكَّنَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ وَأَقْدَرَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ، وَمَعْنَى وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أَنَّ مَرْجِعَهَا إِلَى حُكْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نبيهم: إنّا لله وإنا إليه راجعون، لَيَهْلِكَنَّ الْقَوْمُ، فَنَزَلَتْ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَلَيْسَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، انْتَهَى. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أَيْ: مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْآيَةُ بَعْدَهَا، أخرجنا من ديارنا بغير حق، ثم مكّنّا في الأرض، فأقمنا الصَّلَاةَ، وَآتَيْنَا الزَّكَاةَ، وَأَمَرْنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْنَا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهِيَ لِي وَلِأَصْحَابِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن عليّ ابن أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الْآيَةَ: قَالَ لَوْلَا دَفْعُ(3/541)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)
اللَّهِ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَنِ التَّابِعِينَ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ الْآيَةَ قَالَ: الصَّوَامِعُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الرُّهْبَانُ، وَالْبِيَعُ مَسَاجِدُ الْيَهُودِ وَصَلَوَاتٌ كَنَائِسُ النَّصَارَى، وَالْمَسَاجِدُ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ قَالَ: الْبِيَعُ بِيَعُ النَّصَارَى، وَصَلَوَاتٌ كَنَائِسُ الْيَهُودِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ قَالَ: أَرْضُ الْمَدِينَةِ أَقامُوا الصَّلاةَ قَالَ: الْمَكْتُوبَةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ قَالَ: الْمَفْرُوضَةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ قال: بلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ: عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ قَالَ: وعند الله ثواب ما صنعوا.
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 51]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
قَوْلُهُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ إِلَخْ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْزِيَةٌ لَهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْوَعْدِ لَهُ بِإِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ، كَمَا أَهْلَكَ سُبْحَانَهُ الْمُكَذِّبِينَ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ. وَفِيهِ إِرْشَادٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى قَوْمِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأُمَمِ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ وَمِنْ أَنْبِيَائِهِمْ وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ، وَإِنَّمَا غَيَّرَ النَّظْمَ فِي قَوْلِهِ: وَكُذِّبَ مُوسى فَجَاءَ بِالْفِعْلِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّ قَوْمَ مُوسَى لَمْ يُكَذِّبُوهُ وَإِنَّمَا كَذَّبَهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْقِبْطِ فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أَيْ: أَخَّرْتُ عَنْهُمُ الْعُقُوبَةَ وَأَمْهَلَتْهُمْ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الْإِمْهَالِ عَلَى التَّكْذِيبِ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أَيْ: أَخَذْتُ كُلَّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْعَذَابِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِمْهَالِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، أي: فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتغيير مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَإِهْلَاكُهُمْ، وَالنَّكِيرُ اسْمٌ مِنَ الْمُنْكَرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: ثُمَّ أَخَذَتُهُمْ فَأَنْكَرْتُ أَبْلَغَ إِنْكَارٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: النَّكِيرُ وَالْإِنْكَارُ: تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ كَيْفَ عَذَّبَ أَهْلَ الْقُرَى الْمُكَذِّبَةِ فَقَالَ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَيْ: أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَقُرِئَ: «أَهْلَكْتُهَا» ، وَجُمْلَةُ وَهِيَ ظالِمَةٌ حَالِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَطْفٌ عَلَى «أَهْلَكْناها» ، لَا عَلَى ظَالِمَةٌ لِأَنَّهَا حَالِيَّةٌ، وَالْعَذَابُ لَيْسَ فِي حَالِ الظُّلْمِ، وَالْمُرَادُ بِنِسْبَةِ الظُّلْمِ إِلَيْهَا نِسْبَتُهُ إِلَى أَهْلِهَا: وَالْخَوَاءُ: بِمَعْنَى السُّقُوطِ، أَيْ: فَهِيَ سَاقِطَةٌ عَلى(3/542)
عُرُوشِها
أي على سقوفها، وذلك بسب تَعَطُّلِ سُكَّانِهَا حَتَّى تَهَدَّمَتْ فَسَقَطَتْ حِيطَانُهَا فَوْقَ سُقُوفِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَرْيَةٍ، وَالْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، وَمِنْ أَهْلِ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ هَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْمُعَطَّلَةِ الْمَتْرُوكَةُ. وَقِيلَ:
الْخَالِيَةُ عَنْ أَهْلِهَا لِهَلَاكِهِمْ، وَقِيلَ: الْغَائِرَةُ، وَقِيلَ: مُعَطَّلَةٌ مِنَ الدِّلَاءِ وَالْأَرْشِيَةِ، وَالْقَصْرُ الْمَشِيدُ: هُوَ الْمَرْفُوعُ الْبُنْيَانِ كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
شَادَهُ مَرْمَرًا وجلّله كل ... سا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
شَادَهُ: أَيْ رَفَعَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ بِالْمَشِيدِ الْمُجَصَّصِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّيدِ، وَهُوَ الْجَصُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ «1» :
لَا تَحْسَبَنِّي وَإِنْ كُنْتُ امْرَأً غَمِرًا «2» ... كَحَيَّةِ الْمَاءِ بَيْنَ الطِّينِ وَالشِّيدِ
وَقِيلَ: الْمَشِيدُ الْحَصِينُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَشِيدُ الْمَعْمُولُ بِالشِّيدِ، وَالشِّيدُ بِالْكَسْرِ: كُلُّ شَيْءٍ طَلَيْتُ بِهِ الْحَائِطَ مِنْ جِصٍّ أَوْ بَلَاطٍ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، تَقُولُ: شَادَهُ يَشِيدُهُ: جَصَّصَهُ، وَالْمُشَيَّدُ بِالتَّشْدِيدِ الْمُطَوَّلُ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: لِلْوَاحِدِ مِنْ قوله تعالى: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. وَالْمَعْنَى الْمَعْنِيُّ: وَكَمْ مِنْ قَصْرٍ مُشَيَّدٍ مُعَطَّلٍ مِثْلِ الْبِئْرِ الْمُعَطَّلَةِ. وَمَعْنَى التَّعْطِيلُ فِي الْقَصْرِ هُوَ أَنَّهُ مُعَطَّلٌ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ آلَاتِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تفسيره: ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضر موت مَعْرُوفَانِ، فَالْقَصْرُ مُشْرِفٌ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ «3» لَا يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَالْبِئْرُ فِي سَفْحِهِ لَا تُقِرُّ الرِّيحُ شَيْئًا سَقَطَ فِيهَا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ، وَأَصْحَابُ الْقَصْرِ مُلُوكُ الْحَضَرِ، وَأَصْحَابُ الْبِئْرِ مُلُوكُ البوادي. حَكَى الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْبِئْرَ كَانَ بَعَدَنَ مِنَ الْيَمَنِ فِي بَلَدٍ يُقَالُ لَهَا حَضُورَاءُ، نَزَلَ بِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِمَّنْ آمَنَ بِصَالِحٍ، وَنَجَوَا مِنَ الْعَذَابِ، وَمَعَهُمْ صَالِحٌ، فَمَاتَ صَالِحٌ، فسمّي المكان حضر موت لِأَنَّ صَالِحًا لَمَّا حَضَرَهُ مَاتَ فَبَنَوْا حَضُورَاءَ وَقَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الْبِئْرِ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَمَّا الْقَصْرُ الْمُشَيَّدُ فَقَصْرٌ بَنَاهُ شَدَّادُ بْنُ عَادِ بْنِ إِرَمَ، لَمْ يُبْنَ فِي الْأَرْضِ مِثْلُهُ فِيمَا ذَكَرُوا وَزَعَمُوا، وَحَالُهُ أَيْضًا كَحَالِ هَذِهِ الْبِئْرِ الْمَذْكُورَةِ فِي إِيحَاشِهِ بَعْدَ الْأُنْسِ، وَإِقْفَارِهِ بَعْدَ الْعُمْرَانِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ عَلَى أَمْيَالٍ، لِمَا يَسْمَعُ فِيهِ مِنْ عَزِيفِ الْجِنِّ وَالْأَصْوَاتِ الْمُنْكَرَةِ بَعْدَ النَّعِيمِ وَالْعَيْشِ الرَّغَدِ وَبَهَاءِ الْمُلْكِ، وَانْتِظَامِ الْأَهْلِ كالسلك فبادوا وَمَا عَادُوا، فَذَكَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً.
قَالَ: وَقِيلَ إِنَّهُمُ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ بُخْتَنَصَّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ «4» فَتَعَطَّلَتْ بِئْرُهُمْ وَخُرِّبَتْ قُصُورُهُمُ، انْتَهَى.
ثُمَّ أَنْكَرَ سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بِهَذِهِ الْآثَارِ قَائِلًا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى السَّفَرِ لِيَرَوْا مَصَارِعَ تِلْكَ الْأُمَمِ فَيَعْتَبِرُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ سَافَرُوا وَلَمْ يَعْتَبِرُوا، فَلِهَذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، كَمَا فِي
__________
(1) . هو الشمّاخ.
(2) . «الغمر» : الغرّ الذي لم يجرّب الأمور.
(3) . قلة جبل: أعلاه.
(4) . الأنبياء: 11.(3/543)
قَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ- وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
«1» وَمَعْنَى: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَنَّهُمْ بِسَبَبِ مَا شَاهَدُوا مِنَ الْعِبَرِ تَكُونُ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَتَعَقَّلُوهُ، وَأَسْنَدَ التَّعَقُّلَ إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْعَقْلِ، كَمَا أَنَّ الْآذَانَ مَحَلُّ السَّمْعِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَقْلَ مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى إِدْرَاكِ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهُ خَارِجًا عَنْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ فِي مَحَلِّ الْعَقْلِ وَمَاهِيَّتِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أَيْ: مَا يَجِبُ أَنْ يَسْمَعُوهُ مِمَّا تَلَاهُ عَلَيْهِمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْأَخْبَارِ إِلَيْهِمْ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَاءُ عِمَادٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، التَّذْكِيرُ عَلَى الْخَبَرِ، وَالتَّأْنِيثُ عَلَى الْأَبْصَارِ أَوِ الْقِصَّةِ، أَيْ: فَإِنَّ الْأَبْصَارَ لَا تَعْمَى، أَوْ فَإِنَّ الْقِصَّةَ لَا تُعْمِي الْأَبْصَارَ: أَيْ أَبْصَارَ الْعُيُونِ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أَيْ: لَيْسَ الْخَلَلُ فِي مَشَاعِرِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي عُقُولِهِمْ، أَيْ: لَا تُدْرِكُ عُقُولُهُمْ مُوَاطِنَ الْحَقِّ وَمَوَاضِعَ الِاعْتِبَارِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ قَوْلَهُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ مِنَ التَّوْكِيدِ الَّذِي تَزِيدُهُ الْعَرَبُ فِي الْكَلَامِ كقوله: عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «2» ويَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ «3» ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «4» . ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَقَالَ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِمَجِيئِهِ أَشَدَّ إِنْكَارٍ، فَاسْتِعْجَالُهُمْ لَهُ هُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ لِمَا تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْوَعْدِ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِمْ وَحُلُولِهِ بِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدٌ لَهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَهُ وَأَلْفَ سَنَةٍ فِي قُدْرَتِهِ وَاحِدٌ، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَتَأَخُّرِهِ فِي الْقُدْرَةِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِالْإِمْهَالِ، انْتَهَى، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ: «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَدًا، وَقَدْ سَبَقَ الْوَعْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَجِيئِهِ حَتْمًا، أَوْ هِيَ اعْتِرَاضِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ جُمْلَةُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مَسُوقَةً لِبَيَانِ حَالِهِمْ فِي الِاسْتِعْجَالِ، وَخِطَابُهُمْ فِي ذَلِكَ بِبَيَانِ كَمَالِ حِلْمِهِ لَكَوْنِ الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ عِنْدَهُ كَالْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ عِنْدَهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً- وَنَراهُ قَرِيباً «5» قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِامْتِدَادِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِنَّ يَوْمًا مِنَ الْخَوْفِ وَالشِّدَّةِ فِي الْآخِرَةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا فِيهَا خَوْفٌ وَشِدَّةٌ، وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «ممّا يعدّون» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَبِيدٍ لِقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ. وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ هَذَا إِعْلَامٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَخَذَ قَوْمًا بَعْدَ الْإِمْلَاءِ وَالتَّأْخِيرِ. قِيلَ: وَتَكْرِيرُ هَذَا مَعَ ذِكْرِهِ قبله
__________
(1) . الصافات: 137- 138.
(2) . البقرة: 196.
(3) . آل عمران: 167.
(4) . الأنعام: 38. [.....]
(5) . المعارج: 6- 7.(3/544)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
لِلتَّأْكِيدِ، وَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سيق لبيان الإهلاك مناسبا لقوله: «فيكف كَانَ نَكِيرِ» ، وَلِهَذَا عُطِفَ بِالْفَاءِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ وَالثَّانِي سِيقَ لِبَيَانِ الْإِمْلَاءِ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ كَانُوا مِثْلَكُمْ ظَالِمِينَ قَدْ أَمْهَلْتُهُمْ حِينًا، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِالْعَذَابِ، وَمَرْجِعُ الْكُلِّ إِلَى حُكْمِي. فَجُمْلَةُ: «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» تَذْيِيلٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِأَنَّهُ نَذِيرٌ لَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مُبَيِّنٌ لَهُمْ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَازَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ الْكَرِيمِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِ اللَّهِ مُعَاجِزِينَ يُقَالُ: عَاجَزَهُ:
سَابَقَهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي طَلَبِ إِعْجَازِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَبَقَهُ قِيلَ أَعْجَزَهُ وَعَجَّزَهُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ:
مَعْنَى مُعَاجِزِينَ: ظَانِّينَ وَمُقَدِّرِينَ أَنْ يُعْجِزُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَفُوتُوهُ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: مُعَانِدِينَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قَالَ: خَرِبَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ عَطَّلَهَا أَهْلُهَا وَتَرَكُوهَا وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قَالَ: شَيَّدُوهُ وَحَصَّنُوهُ فَهَلَكُوا وَتَرَكُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ قَالَ: الَّتِي تُرِكَتْ لَا أَهْلَ لَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قَالَ: هُوَ الْمُجَصَّصُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قَالَ: مِنَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فيها السموات وَالْأَرْضَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ فِي الْآيَةِ:
هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الدُّنْيَا جُمْعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، فَقَدْ مَضَى مِنْهَا سِتَّةُ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعاجِزِينَ قَالَ: مُرَاغِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مُشَاقِينَ.
[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)
قَوْلُهُ: مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ قِيلَ: الرَّسُولُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى الْخَلْقِ بِإِرْسَالِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ عِيَانًا ومحاورته(3/545)
شِفَاهًا، وَالنَّبِيُّ: الَّذِي يَكُونُ إِلْهَامًا أَوْ مَنَامًا. وَقِيلَ: الرَّسُولُ: مَنْ بُعِثَ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، وَالنَّبِيُّ: مَنْ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ، وَلَا بُدَّ لَهُمَا جَمِيعًا مِنَ الْمُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ. إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ مَعْنَى تَمَنَّى: تَشَهَّى وَهَيَّأَ فِي نَفْسِهِ مَا يَهْوَاهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
مَعْنَى تَمَنَّى: تَلَا. قَالَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآية: إنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ إِعْرَاضُ قَوْمِهِ عَنْهُ تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَتِهِمْ وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ سُورَةُ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «1» فَأَخَذَ يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى- وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «2» وَكَانَ ذَلِكَ التَّمَنِّي فِي نَفْسِهِ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى، فَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ فَرِحُوا وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَتِهِ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَلَمَّا سَجَدَ فِي آخِرِهَا سَجَدَ مَعَهُ جَمِيعُ مَنْ فِي النَّادِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَتَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ مسرورين بذلك وقالوا: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ اللَّهِ، فَحَزِنَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَخَافَ خَوْفًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. هَكَذَا قَالُوا.
وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَلَا ثَبَتَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ بَلْ بُطْلَانُهُ فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، قَالَ اللَّهُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ- لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ- ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «3» وقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «4» وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ «5» فَنَفَى الْمُقَارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ. قَالَ الْبَزَّارُ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، ثُمَّ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ أَنَّ رُوَاةَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَطْعُونٌ فِيهِمْ. وَقَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ في «الشفا» : إِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَا قَصْدًا وَلَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَلَطًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ، وَمَا كَانَ مِنْ رُجُوعِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَدْ أَسْلَمُوا، وَلَكِنَّهَا مَنْ طُرُقٍ كُلِّهَا مُرْسَلَةٍ، وَلَمْ أَرَهَا مُسْنَدَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ بُطْلَانُ ذَلِكَ عَرَفْتَ أَنَّ مَعْنَى تَمَنَّى قَرَأَ وَتَلَا، كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ حِكَايَةِ الْوَاحِدِيِّ لِذَلِكَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا مَعْنَى تَمَنَّى تَلَا وَقَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ، وَمَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَيْ: فِي تِلَاوَتِهِ وَقِرَاءَتِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قوله: لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَقِيلَ: مَعْنَى تَمَنَّى حَدَّثَ، وَمَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فِي حَدِيثِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَمَنَّى:
قَالَ. فَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْقَعَ فِي مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ مِنْ دُونِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
(1) . النجم: 1.
(2) . النجم: 19- 20.
(3) . الحاقة: 44- 46.
(4) . النجم: 3.
(5) . الإسراء: 74.(3/546)
وَلَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لَا يَهُولَنَّكَ ذَلِكَ وَلَا يُحْزِنْكَ، فَقَدْ أَصَابَ مِثْلُ هَذَا مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مَعْنَى تَمَنَّى حَدَّثَ نَفْسَهُ، كَمَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: تَمَنَّى إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَأَلْقَاهُ فِي مَسَامِعِ النَّاسِ مِنْ دُونِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ أَنَّ إِلْقَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ لِأَلْفَاظٍ مَسْمُوعَةٍ وَقَعَتْ بِهَا الْفِتْنَةُ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْغَرَانِيقِ: الْمَلَائِكَةُ، وَيُرَدُّ بِقَوْلِهِ: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أَيْ: يُبْطِلُهُ، وَشَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ بَاطِلَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سَهْوًا وَنِسْيَانًا، وَهُمَا مُجَوَّزَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ السَّهْوَ وَالنِّسْيَانَ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاطِنِهِ، ثُمَّ لَمَّا سَلَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ التَّسْلِيَةِ، وَأَنَّهَا قَدْ وَقَعَتْ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ والأنبياء، بيّن سبحانه أن يُبْطِلُ ذَلِكَ، وَلَا يُثْبِتُهُ، وَلَا يَسْتَمِرُّ تَغْرِيرُ الشَّيْطَانِ بِهِ، فَقَالَ: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أَيْ: يُبْطِلُهُ وَيَجْعَلُهُ ذَاهِبًا غَيْرَ ثَابِتٍ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أَيْ: يُثْبِتُهَا وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي كُلِّ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَجُمْلَةُ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ:
ذَلِكَ الْإِلْقَاءُ الَّذِي يُلْقِيهُ الشَّيْطَانُ فِتْنَةً، أَيْ: ضَلَالَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ: شَكٌّ وَنِفَاقٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَلِينُ لِلْحَقِّ أَبَدًا، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى الصَّوَابِ بِحَالٍ، ثُمَّ سَجَّلَ سُبْحَانَهُ عَلَى هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُمَا: مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ قَسْوَةٌ بِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، فَقَالَ:
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أَيْ: عَدَاوَةٍ شَدِيدَةٍ، وَوَصْفُ الشِّقَاقِ بِالْبُعْدِ مُبَالَغَةٌ، وَالْمَوْصُوفُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْ قَامَ بِهِ. وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِلْقَاءَ كَانَ فِتْنَةً فِي حَقِّ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالشَّكِّ وَالشِّرْكِ بَيَّنَ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ الْعَالِمِينَ بِاللَّهِ الْعَارِفِينَ بِهِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، فَقَالَ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أَيِ: الْحَقُّ النَّازِلُ مِنْ عِنْدِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «أَنَّهُ» رَاجِعٌ إِلَى تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِنَ الإلقاء لأنه مما جرت به عادته مع أَنْبِيَائِهِ، وَلَكِنَّهُ يَرُدُّ هَذَا قَوْلُهُ: فَيُؤْمِنُوا بِهِ فإن المراد الإيمان بِالْقُرْآنِ، أَيْ: يَثْبُتُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أَيْ: تَخْشَعُ وَتَسْكُنُ وَتَنْقَادُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهِ وَإِخْبَاتَ الْقُلُوبِ لَهُ لَا يُمْكِنُ أن يكونا تمكين من الشيطان بل للقرآن وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي أُمُورِ دِينِهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: طَرِيقٍ صَحِيحٍ لَا عِوَجَ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالتَّنْوِينِ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ
أَيْ: فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: فِي الدِّينِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقِيلَ: فِي إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، فَيَقُولُونَ: مَا بَالُهُ ذَكَرَ الْأَصْنَامَ بِخَيْرٍ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ؟ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ «فِي مِرْيَةٍ» بِضَمِّ الْمِيمِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أَيِ: الْقِيَامَةُ بَغْتَةً أَيْ: فَجْأَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ لَا يَوْمَ بَعْدَهُ، فَكَانَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ عَقِيمًا، وَالْعَقِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ لَا يَكُونُ لَهُ ولد، ولما كانت الأيام نتوالى جُعِلَ ذَلِكَ كَهَيْئَةِ الْوِلَادَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمٌ وُصِفَ بِالْعُقْمِ وَقِيلَ: يَوْمُ حَرْبٍ يُقْتَلُونَ فِيهِ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَقِيلَ إِنَّ الْيَوْمَ وُصِفَ بِالْعُقْمِ لِأَنَّهُ لَا رَأْفَةَ فِيهِ وَلَا رَحْمَةَ، فَكَأَنَّهُ عَقِيمٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ «1» أي:
__________
(1) . الذاريات: 41.(3/547)
الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا تَأْتِي بِمَطَرٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أَيِ: السُّلْطَانُ الْقَاهِرُ وَالِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَلَا مُدَافِعَ لَهُ عَنْهُ، وَجُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَيْ: كَائِنُونَ فِيهَا، مُسْتَقِرُّونَ فِي أَرْضِهَا، مُنْغَمِسُونَ فِي نَعِيمِهَا وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ: عَذَابٌ مُتَّصِفٌ بِأَنَّهُ مُهِينٌ لِلْمُعَذَّبِينَ، بَالِغٌ مِنْهُمُ الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي «الْمَصَاحِفِ» عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ:
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ: فَنُسِخَتْ مُحَدَّثٍ، قَالَ: وَالْمُحَدَّثُونَ: صَاحِبُ يس، وَلُقْمَانُ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَصَاحِبُ مُوسَى. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ: أفرأيتم اللات والعزّى ومنات الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ وَقَالُوا: قَدْ ذَكَرَ آلِهَتَنَا، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ مَا جئت به، فقرأ: أفرأيتم اللات والعزّى ومنات الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لِتُرْتَجَى، فَقَالَ: مَا أَتَيْتُكَ بِهَذَا، هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ النَّجْمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيِّ عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا. ورواه عبد ابن حُمَيْدٍ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ نَحْوَهُ مُرْسَلًا أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ إِمَّا مُرْسَلَةٌ أَوْ مُنْقَطِعَةٌ لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدْ أَسْلَفْنَا عَنِ الْحُفَّاظِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ مَا فيه كفاية، وفي الباب روايات من أجبّ الْوُقُوفَ عَلَى جَمِيعِهَا فَلْيَنْظُرْهَا فِي «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» لِلسُّيُوطِيِّ، وَلَا يَأْتِي التَّطْوِيلُ بِذِكْرِهَا هُنَا بِفَائِدَةٍ، فَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أَنَّهَا جَمِيعَهَا لَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يَقُولُ: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: يَعْنِي بِالتَّمَنِّي التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ، «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» : فِي تِلَاوَتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ يَنْسَخُ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِذا تَمَنَّى قَالَ: تَكَلَّمَ فِي أُمْنِيَّتِهِ قَالَ: كَلَامِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قال: يوم بدر. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وعكرمة(3/548)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا لَيْلَةَ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الضحّاك مثله.
[سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 66]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)
أَفْرَدَ سُبْحَانَهُ الْمُهَاجِرِينَ بِالذِّكْرِ تَخْصِيصًا لَهُمْ بِمَزِيدِ الشَّرَفِ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنَ الْأَوْطَانِ فِي سَرِيَّةٍ أَوْ عَسْكَرٍ، وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ ذَلِكَ على الأمرين، والكلّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا أَيْ: فِي حَالِ الْمُهَاجَرَةِ، وَاللَّامُ فِي لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً
جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمَوْصُولِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، وَانْتِصَابُ رِزْقًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَيْ: مَرْزُوقًا حَسَنًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ:
هُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، وَقِيلَ: هُوَ الْغَنِيمَةُ لِأَنَّهُ حَلَالٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ كقول شعيب:
وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ «ثُمَّ قُتِّلُوا» بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَرْزُقُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَكُلُّ رِزْقٍ يَجْرِي عَلَى يَدِ الْعِبَادِ لِبَعْضِهِمُ الْبَعْضِ، فَهُوَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، لَا رَازِقَ سِوَاهُ وَلَا مُعْطِيَ غَيْرُهُ، وَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَجُمْلَةُ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ «مَدْخَلًا» بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ أُرِيدَ بِهِ الْجَنَّةُ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَوْ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ. وَفِي هَذَا مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ وَالتَّبْشِيرِ لَهُمْ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، فَإِنَّ الْمُدْخَلَ الَّذِي يَرْضَوْنَهُ هُوَ الْأَوْفَقُ لِنُفُوسِهِمْ وَالْأَقْرَبُ إِلَى مَطْلَبِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشَرٍ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَرْضَوْنَهُ وَفَوْقَ الرِّضَا. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بِدَرَجَاتِ الْعَامِلِينَ وَمَرَاتِبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ حَلِيمٌ عَنْ تَفْرِيطِ الْمُفَرِّطِينَ مِنْهُمْ لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ الْأَمْرُ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مِنْ إِنْجَازِ الْوَعْدِ لِلْمُهَاجِرِينَ(3/549)
خَاصَّةً إِذَا قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا، فَهُوَ عَلَى هَذَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَمَعْنَى وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ مَنْ جَازَى الظَّالِمَ بِمِثْلِ مَا ظَلَمَهُ، وَسُمِّيَ الِابْتِدَاءُ بِاسْمِ الْجَزَاءِ مُشَاكَلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «2» وَالْعُقُوبَةُ فِي الْأَصْلِ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ فِعْلٍ تَكُونُ جَزَاءً عَنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِيَّةِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي ظُلِمَ بِهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنَّ الظَّالِمَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ عَاوَدَهُ بِالْمَظْلَمَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْمَظْلَمَةِ الْأُولَى، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْبَغْيِ: هُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إِزْعَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَوْطَانِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ وَآذَوْا مَنْ آمَنَ بِهِ، وَاللَّامُ فِي لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ الْمَبْغِيَّ عَلَيْهِ عَلَى الْبَاغِي إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أَيْ: كَثِيرُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنِ الذُّنُوبِ. وَقِيلَ: الْعَفْوُ وَالْغُفْرَانُ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ تَرْجِيحِ الِانْتِقَامِ عَلَى الْعَفْوِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أَيْ: ثُمَّ كَانَ الْمُجَازِي مَبْغِيًّا عَلَيْهِ، أَيْ: مَظْلُومًا، وَمَعْنَى «ثُمَّ» تَفَاوُتُ الرُّتْبَةِ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْقِتَالِ مَعَهُ نَوْعُ ظُلْمٍ، كَمَا قِيلَ فِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ: الْبَادِي أَظْلِمُ.
وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَهِيَ فِي الْقِصَاصِ وَالْجِرَاحَاتِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِلْمَبْغِيِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ، وَمِنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ إِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَالنَّهَارِ فِي اللَّيْلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الزِّيَادَةِ بِالْإِيلَاجِ لِأَنَّ زِيَادَةَ أَحَدِهِمَا تَسْتَلْزِمُ نُقْصَانَ الْآخَرِ، وَالْمُرَادُ تَحْصِيلُ أَحَدِ الْعَرَضَيْنِ فِي مَحَلِّ الْآخَرِ. وَقَدْ مَضَى فِي آلِ عِمْرَانَ مَعْنَى هَذَا الْإِيلَاجِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يَسْمَعُ كُلَّ مَسْمُوعٍ بَصِيرٌ يُبْصِرُ كُلَّ مُبْصَرٍ، أَوْ سَمِيعٌ لِلْأَقْوَالِ مُبْصِرٌ لِلْأَفْعَالِ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ اتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِكَمَالِ القدرة الباهرة وَالْعِلْمِ التَّامِّ، أَيْ: هُوَ سُبْحَانَهُ ذُو الْحَقِّ، دينه حَقٌّ، وَعِبَادَتُهُ حَقٌّ، وَنَصْرُهُ لِأَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ حَقٌّ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ فِي نَفْسِهِ وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ حَقٌّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ «تَدْعُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عبيدة.
والمعنى: إن الذين تدعونه آلِهَةً، وَهِيَ الْأَصْنَامُ، هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا ثُبُوتَ لَهُ وَلَا لِكَوْنِهِ إِلَهًا. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ أَيِ: الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ الْمُتَقَدِّسُ عَلَى الْأَشْبَاهِ وَالْأَنْدَادِ الْمُتَنَزِّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ مِنَ الصِّفَاتِ الْكَبِيرُ أَيْ: ذُو الْكِبْرِيَاءِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ ذَاتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا بَيِّنًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى «أَنْزَلَ» ، وَارْتَفَعَ الفعل بعد الفاء لكون اسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ كَمَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ.
قَالَ الْخَلِيلُ: الْمَعْنَى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَكَانَ كَذَا وَكَذَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «3» :
ألم تسأل الرّبع القواء فينطق ... وهل تخبرنّك اليوم بيداء سملق «4»
__________
(1) . الشورى: 40.
(2) . البقرة: 194.
(3) . هو جميل بثينة.
(4) . «القواء» : القفر. «البيداء» : القفر أيضا. «السملق» : الأرض التي لا تنبت، وهي السهلة المستوية.(3/550)
مَعْنَاهُ: قَدْ سَأَلَتْهُ فَنَطَقَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «أَلَمْ تَرَ» خَبَرٌ كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: إِنِ اللَّهَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أَيْ: ذَاتِ خُضْرَةٍ، كَمَا تَقُولُ مُبْقِلَةٌ وَمُسْبِعَةٌ أَيْ: ذَوَاتِ بَقْلٍ وَسِبَاعٍ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِعْجَالِهَا أَثَرَ نُزُولِ الْمَاءِ بِالنَّبَاتِ وَاسْتِمْرَارِهَا كَذَلِكَ عَادَةً، وَصِيغَةُ الِاسْتِقْبَالِ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الِاخْضِرَارِ مَعَ الْإِشْعَارِ بِتَجَدُّدِ الْإِنْزَالِ وَاسْتِمْرَارِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَالرَّفْعُ هُنَا مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِبَ لَانْعَكَسَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ فَيَنْقَلِبُ إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ، وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
هَذَا لَا يَكُونُ، يَعْنِي الِاخْضِرَارُ فِي صَبَاحِ لَيْلَةِ الْمَطَرِ، إِلَّا بِمَكَّةَ وَتِهَامَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاخْضِرَارِ اخْضِرَارُ الْأَرْضِ فِي نَفْسِهَا لَا بِاعْتِبَارِ النَّبَاتِ فِيهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ «1» وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أَنَّهُ يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى كُلِّ دَقِيقٍ وَجَلِيلٍ، وَقِيلَ: «لَطِيفٌ» بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ، وَقِيلَ: «لَطِيفٌ» بِاسْتِخْرَاجِ النَّبَاتِ، وَمَعْنَى خَبِيرٌ أَنَّهُ ذُو خِبْرَةٍ بِتَدْبِيرِ عِبَادِهِ وَمَا يَصْلُحُ لَهُمْ، وَقِيلَ: «خَبِيرٌ» بِمَا يَنْطَوُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُنُوطِ عِنْدَ تَأْخِيرِ الْمَطَرِ، وَقِيلَ: «خَبِيرٌ» بِحَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ. لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَمُلْكًا وَتَصَرُّفًا، وَكُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى رِزْقِهِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ فَلَا يحتاج إلى شيء الْحَمِيدُ المستوجب للحمد فِي كُلِّ حَالٍ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ هَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَأَخْبَرَ عِبَادَهُ بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ وَالْأَنْهَارِ، وَجَعَلَهُ لِمَنَافِعِهِمْ وَالْفُلْكَ عَطْفٌ عَلَى «مَا» ، أَوْ عَلَى اسْمِ «أَنَّ» ، أَيْ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ فِي حَالِ جَرْيِهَا فِي الْبَحْرِ، وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ «وَالْفُلْكُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. وَمَعْنَى تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أَيْ: بِتَقْدِيرِهِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ تَقَعَ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ خَلَقَهَا عَلَى صِفَةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِلْإِمْسَاكِ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تَجْرِي إِلَّا بِإِذْنِهِ أَيْ: بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وذلك يوم القيامة إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ حَيْثُ سَخَّرَ هَذِهِ الْأُمُورَ لِعِبَادِهِ، وَهَيَّأَ لَهُمْ أَسْبَابَ الْمَعَاشِ، وَأَمْسَكَ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَتُهْلِكُهُمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نِعْمَةً أُخْرَى فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ جَمَادًا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَعْمَارِكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ عِنْدَ الْبَعْثِ للحساب والعقاب وإِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أَيْ: كَثِيرُ الْجُحُودِ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهَا ظَاهِرَةً غَيْرَ مُسْتَتِرَةٍ، وَلَا يُنَافِي هَذَا خُرُوجُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ عَنْ هَذَا الْجَحْدِ لِأَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُ جَمِيعِ الْجِنْسِ بِوَصْفِ مَنْ يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِهِ مُبَالَغَةً.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْأَجْرِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الرِّزْقَ وَأَمِنَ مِنَ الْفَتَّانِينَ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا إِلَى قَوْلِهِ: حَلِيمٌ» ، وَإِسْنَادُ ابْنِ أَبِي حاتم هكذا: حدّثنا المسيب ابن وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَارِثِ، عن أبي عقبة، يعني
__________
(1) . فصلت: 39.(3/551)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عُقْبَةَ قَالَ: قَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ: طَالَ رِبَاطُنَا وَإِقَامَتُنَا عَلَى حِصْنٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، فَمَرَّ بِي سَلْمَانُ يَعْنِي الْفَارِسِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ كَانَ بِرُودِسَ، فَمَرُّوا بِجِنَازَتَيْنِ أَحَدُهُمَا قَتِيلٌ وَالْآخَرُ مُتَوَفًّى، فَمَالَ النَّاسُ عَنِ القتيل، فقال فضالة: مالي أَرَى النَّاسَ مَالُوا مَعَ هَذَا وَتَرَكُوا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْقَتِيلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُبَالِي مِنْ أَيْ حُفْرَتَيْهِمَا بُعِثْتُ، اسْمَعُوا كِتَابَ اللَّهِ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا الْآيَةَ. وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ هَكَذَا: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ بِشْرٍ، أَخْبَرَنِي ضِمَامٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا قُبَيْلٍ وَرَبِيعَةَ بْنَ سَيْفٍ الْمُغَافِرِيَّ يَقُولَانِ: كُنَّا بِرُودُسَ وَمَعَنَا فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فِي لَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنَ الْمُحَرَّمِ فَلَقَوُا الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَاتِلُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَإِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ نَاشَدُوهُمْ وَذَكَّرُوهُمْ بِاللَّهِ أَنْ يَعْرِضُوا لِقِتَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا مَنْ بَادَأَهُمْ، وإن المشركين بدءوا فَقَاتَلُوهُمْ، فَاسْتَحَلَّ الصَّحَابَةُ قِتَالُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَاتَلُوهُمْ وَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عاقَبَ الْآيَةَ قَالَ: تَعَاوَنَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَأَخْرَجُوهُ، فَوَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَهُوَ فِي الْقِصَاصِ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ قَالَ: الشَّيْطَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ قَالَ: يَعُدُّ الْمُصِيبَاتِ وَيَنْسَى النِّعَمَ.
[سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 72]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
عَادَ سُبْحَانَهُ إِلَى بَيَانِ أَمْرِ التَّكَالِيفِ مَعَ الزَّجْرِ لِمُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ عَنْ مُنَازَعَتِهِ فَقَالَ:
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أَيْ: لِكُلِّ قَرْنٍ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَضَعْنَا شَرِيعَةً خَاصَّةً، بِحَيْثُ لَا تَتَخَطَّى أُمَّةٌ مِنْهُمْ شَرِيعَتَهَا الْمُعَيَّنَةَ لَهَا إلى شريعة أخرى، وَجُمْلَةُ هُمْ ناسِكُوهُ صِفَةٌ لِمَنْسِكًا، وَالضَّمِيرُ لِكُلِّ أمة، أي:
__________
(1) . النساء: 100.(3/552)
تِلْكَ الْأُمَّةُ هِيَ الْعَامِلَةُ بِهِ لَا غَيْرُهَا، فَكَانَتِ التَّوْرَاةُ مَنْسَكَ الْأُمَّةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ مَبْعَثِ مُوسَى إِلَى مَبْعَثِ عِيسَى، وَالْإِنْجِيلُ مَنْسَكُ الْأُمَّةِ الَّتِي مِنْ مَبْعَثِ عِيسَى إِلَى مَبْعَثِ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْقُرْآنُ مَنْسَكُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَنْسَكُ مَصْدَرٌ لَا اسْمُ مَكَانٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هُمْ نَاسِكُوهُ، وَلَمْ يُقِلْ نَاسِكُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمَنْسَكُ مَوْضِعُ أَدَاءِ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ:
هُوَ الذَّبَائِحُ، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ لِتَرْتِيبِ النَّهْيِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْأُمَمِ الْبَاقِيَةِ آثَارُهُمْ، أَيْ: قَدْ عَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ شَرِيعَةً، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأُمَمِ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِعَدَمِ مُنَازَعَةِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمُسْتَلْزِمٌ لِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَالنَّهْيُ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَوْ كِنَايَةً عَنْ نهيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى نِزَاعِهِمْ لَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
إِنَّهُ نَهْيٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُنَازَعَتِهِمْ، أَيْ: لَا تُنَازِعْهُمْ أَنْتَ، كَمَا تَقُولُ: لَا يُخَاصِمْكَ فُلَانٌ، أَيْ: لَا تُخَاصِمْهُ، وَكَمَا تَقُولُ لَا يُضَارِبَنَّكَ فُلَانٌ، أَيْ: لَا تُضَارِبْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي الْعَكْسَ ضِمْنًا، وَلَا يَجُوزُ: لَا يَضْرِبَنَّكَ فُلَانٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ لَا تَضْرِبْهُ. وَحُكِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قال في معنى الآية: «فلا ينزعنك» أَيْ: فَلَا يُجَادِلُنَّكَ. قَالَ: وَدَلَّ عَلَى هَذَا وَإِنْ جادَلُوكَ وَقَرَأَ أَبُو مِجْلِزٍ «فَلَا يَنْزِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» أَيْ: لَا يَسْتَخِفُّنَّكَ وَلَا يَغْلِبُنَّكَ عَلَى دِينِكَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يُنازِعُنَّكَ مِنَ الْمُنَازَعَةِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أَيْ: وَادْعُ هَؤُلَاءِ الْمُنَازِعِينَ، أَوِ ادْعُ النَّاسَ عَلَى الْعُمُومِ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أَيْ:
طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَإِنْ جادَلُوكَ أَيْ: وَإِنْ أَبَوْا إِلَّا الْجِدَالَ بعد البيان لهم وَظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ: فَكِلْ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقُلْ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْوَعِيدِ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أَيْ: بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَيَتَبَيَّنُ حِينَئِذٍ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعْلِيمٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا بِهِ مَنْ أَرَادَ الْجِدَالَ بِالْبَاطِلِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَجُمْلَةُ أَلَمْ تَعْلَمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ: قَدْ عَلِمْتَ يَا مُحَمَّدُ وتيقنت أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ إِنَّ ذلِكَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ فِي كِتابٍ أَيْ: مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيْ: إِنَّ الْحُكْمَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ يَسِيرٌ عَلَيْهِ غَيْرُ عَسِيرٍ، أَوْ إِنَّ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِمَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَسِيرٌ عَلَيْهِ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً هَذَا حِكَايَةٌ لِبَعْضِ فَضَائِحِهِمْ، أَيْ: إِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا لَمْ يَتَمَسَّكُوا فِي عِبَادَتِهَا بِحُجَّةٍ نَيِّرَةٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ مِنْ دَلِيلِ عَقْلٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يَنْصُرُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَجُمْلَةُ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «يَعْبُدُونَ» ، وَانْتِصَابُ «بَيِّنَاتٍ» عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا وَاضِحَاتٍ ظَاهِرَاتِ الدَّلَالَةِ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أَيِ: الْأَمْرَ الَّذِي يُنْكَرُ، وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعها، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمُنْكَرِ الْإِنْكَارُ، أَيْ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ إِنْكَارَهَا، وَقِيلَ: هُوَ التَّجَبُّرُ وَالتَّرَفُّعُ، وَجُمْلَةُ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا ذَلِكَ المنكر(3/553)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
الَّذِي يُعْرَفُ فِي وُجُوهِهِمْ؟ فَقِيلَ: يَكَادُونَ يَسْطُونَ، أَيْ: يَبْطِشُونَ، وَالسَّطْوَةُ: شِدَّةُ الْبَطْشِ، يُقَالُ:
سَطَا بِهِ يَسْطُو إِذَا بَطَشَ بِهِ بِضَرْبٍ، أَوْ شَتْمٍ، أَوْ أَخْذٍ بِالْيَدِ، وَأَصْلُ السَّطْوِ: الْقَهْرُ.
وَهَكَذَا تَرَى أَهْلَ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ إِذَا سَمِعَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَا يَتْلُوهُ الْعَالِمُ عَلَيْهِمْ مِنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، أَوْ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، مُخَالِفًا لِمَا اعْتَقَدَهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالَةِ رَأَيْتَ فِي وَجْهِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ مَا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَسْطُوَ بِذَلِكَ الْعَالِمِ لَفَعَلَ بِهِ مَا لَا يَفْعَلُهُ بِالْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ، وَاللَّهُ نَاصِرُ الْحَقِّ، وَمُظْهِرُ الدِّينِ، وَدَاحِضُ الْبَاطِلِ، وَدَامِغُ الْبِدَعِ، وَحَافِظُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِمَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمُ الْمُبَيِّنِينَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ أَيْ: أُخَبَّرُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ الَّذِي فِيكُمْ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى مَنْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ وَمُقَارَبَتُكُمْ لِلْوُثُوبِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ النَّارُ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لَكُمْ، فَالنَّارُ مُرْتَفِعَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ شَرٌّ مِمَّا نُكَابِدُهُ وَنُنَاهِدُهُ عِنْدَ سَمَاعِنَا مَا تَتْلُوهُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ هُوَ: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ: إِنَّ النَّارَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَفَأُخَبِّرُكُمْ بِشَرٍّ مِمَّا يَلْحَقُ تَالِي الْقُرْآنِ مِنْكُمْ مِنَ الْأَذَى وَالتَّوَعُّدِ لَهُمْ وَالتَّوَثُّبِ عَلَيْهِمْ، وَقُرِئَ «النَّارَ» بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، وَقُرِئَ بِالْجَرِّ بَدَلًا مِنْ شَرٍّ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَيِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تَصِيرُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ النَّارُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هُمْ ناسِكُوهُ قَالَ: يَعْنِي هُمْ ذَابِحُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ يَعْنِي فِي أَمْرِ الذَّبْحِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ قَوْلُ أَهْلِ الشِّرْكِ: أَمَّا مَا ذَبَحَ اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَلَا تَأْكُلُوهُ، وَأَمَّا مَا ذَبَحْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَهُوَ حَلَالٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ لمسيرة مِائَةِ عَامٍ، وَقَالَ لِلْقَلَمِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ: اكْتُبْ، قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: عِلْمِي فِي خَلْقِي إِلَى يَوْمِ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ قوله للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ إِنَّ ذلِكَ الْعِلْمُ فِي كِتابٍ يَعْنِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَكْتُوبٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يَعْنِي: هَيِّنٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس يَكادُونَ يَسْطُونَ يبطشون.
[سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 78]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)(3/554)
قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً قَالَ الْأَخْفَشُ: لَيْسَ ثَمَّ مَثَلٌ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى ضَرَبُوا لِي مَثَلًا فَاسْتَمِعُوا قَوْلَهُمْ، يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ جَعَلُوا لِلَّهِ مَثَلًا بِعِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلُوا لِي شَبَهًا فِي عِبَادَتِي فاستمعوا خبر هذا الشبه. وقال القتبي: إِنَّ الْمَعْنَى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَثَلُ مَنْ عَبَدَ آلِهَةً لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَخْلُقَ ذُبَابًا، وَإِنْ سَلَبَهَا شَيْئًا لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَسْتَنْقِذَهُ مِنْهُ. قَالَ النَّحَّاسُ:
الْمَعْنَى ضَرَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ مَثَلًا. قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ، أَيْ: بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ شَبَهًا وَلِمَعْبُودِكُمْ. وَأَصْلُ الْمَثَلِ: جُمْلَةٌ مِنَ الْكَلَامِ مُتَلَقَّاةٌ بِالرِّضَا وَالْقَبُولِ، مُسَيَّرَةٌ فِي النَّاسِ، مُسْتَغْرَبَةٌ عِنْدَهُمْ، وَجَعَلُوا مَضْرِبَهَا مَثَلًا لِمَوْرِدِهَا، ثُمَّ قَدْ يَسْتَعِيرُونَهَا لِلْقِصَّةِ أَوِ الْحَالَةِ أَوِ الصِّفَةِ الْمُسْتَغْرَبَةِ لِكَوْنِهَا مُمَاثِلَةً لَهَا فِي الْغَرَابَةِ كَهَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمُرَادُ بِمَا يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ: الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ السَّادَةُ الَّذِينَ صَرَفُوهُمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِيهِمْ. وَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ حَمَلُوهُمْ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ بِالْمَقَامِ وَأَظْهَرُ فِي التَّمْثِيلِ، وَالذُّبَابُ: اسْمٌ لِلْوَاحِدِ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ أَذِبَّةٌ، وَالْكَثْرَةِ ذِبَّانٌ، مِثْلُ غُرَابٍ وَأَغْرِبَةٍ وَغِرْبَانٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الذُّبَابُ مَعْرُوفٌ الْوَاحِدُ ذُبَابَةٌ. وَالْمَعْنَى: لَنْ يَقْدِرُوا عَلَى خَلْقِهِ مَعَ كَوْنِهِ صَغِيرَ الْجِسْمِ حَقِيرَ الذَّاتِ. وَجُمْلَةُ وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى شَرْطِيَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ: لَوْ لَمْ يَجْتَمِعُوا لَهُ لَنْ يَخْلُقُوهُ وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَنْ يَخْلُقُوهُ وَهُمَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَنْ يَخْلُقُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَمَالَ عَجْزِهِمْ وَضَعْفَ قُدْرَتِهِمْ، فَقَالَ: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أَيْ. إِذَا أَخَذَ مِنْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَخْلِيصِهِ مِنْهُ لِكَمَالِ عَجْزِهِمْ وَفَرْطِ ضعفهم، والاستنقاذ والإنقاذ:
التخليص، وَإِذَا عَجَزُوا عَنْ خَلْقِ هَذَا الْحَيَوَانِ الضَّعِيفِ، وَعَنِ اسْتِنْقَاذِ مَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ جُرْمًا وَأَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ. ثُمَّ عَجِبَ سُبْحَانَهُ مِنْ ضَعْفِ الْأَصْنَامِ وَالذُّبَابِ، فَقَالَ:
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فَالصَّنَمُ كَالطَّالِبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَطْلُبُ خَلْقَ الذُّبَابِ أَوْ يَطْلُبُ اسْتِنْقَاذَ مَا سَلَبَهُ مِنْهُ، وَالْمَطْلُوبُ الذُّبَابُ. وَقِيلَ: الطَّالِبُ عَابِدُ الصَّنَمِ، وَالْمَطْلُوبُ الصَّنَمُ. وَقِيلَ: الطَّالِبُ الذُّبَابُ وَالْمَطْلُوبُ الْآلِهَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً عَاجِزَةً إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فِي الْعَجْزِ مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، فَقَالَ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أَيْ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، حَيْثُ جَعَلُوا هَذِهِ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لَهُ مَعَ كَوْنِ حَالِهَا هَذَا الْحَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَلَى خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ عَزِيزٌ غَالِبٌ لَا يُغَالِبُهُ أَحَدٌ، بِخِلَافِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهَا جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا(3/555)
تَضُرُّ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. ثُمَّ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي النُّبُوَّاتِ وَالْإِلَهِيَّاتِ فَقَالَ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا كَجِبْرِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَعِزْرَائِيلَ وَيصطفي أَيْضًا رُسُلًا مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، فَيُرْسِلُ الْمَلَكَ إِلَى النَّبِيِّ، وَالنَّبِيَّ إِلَى النَّاسِ، أَوْ يُرْسِلُ الْمَلَكَ لَقَبْضِ أَرْوَاحِ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ لِتَحْصِيلِ مَا ينفعكم، أَوْ لِإِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ بَصِيرٌ بِمَنْ يَخْتَارُهُ مِنْ خَلْقِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أَيْ: مَا قَدَّمُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا يَتْرُكُونَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ «1» . وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَلَمَّا تَضَمَّنَ مَا ذَكَرَهُ- مِنْ أَنَّ الْأُمُورَ تُرْجَعُ إِلَيْهِ- الزَّجْرَ لِعِبَادِهِ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَالْحَضَّ لهم على طاعاته صرح بالمقصود، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أَيْ: صَلُّوا الصَّلَاةَ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لَكُمْ، وَخَصَّ الصَّلَاةَ لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ الْعِبَادَاتِ.
ثُمَّ عَمَّمَ فَقَالَ: وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ أَيِ: افْعَلُوا جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهَا وَافْعَلُوا الْخَيْرَ أَيْ: مَا هُوَ خَيْرٌ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ هُنَا الْمَنْدُوبَاتُ. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ: إِذَا فَعَلْتُمْ هَذِهِ كُلَّهَا رَجَوْتُمُ الْفَلَاحَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مَوَاطِنِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ السُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمَا هُوَ سَنَامُ الدِّينِ وَأَعْظَمُ أَعْمَالِهِ، فَقَالَ:
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أَيْ: فِي ذَاتِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ الْغَزْوُ لِلْكُفَّارِ وَمُدَافَعَتُهُمْ إِذَا غَزَوْا بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجِهَادِ هُنَا امْتِثَالُ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوِ امْتِثَالُ جَمِيعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَمَعْنَى حَقَّ جِهادِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْأَمْرِ بِهَذَا الْجِهَادِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْحَقَّ إِلَى الْجِهَادِ، وَالْأَصْلُ إِضَافَةُ الْجِهَادِ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ: جِهَادًا خَالِصًا لِلَّهِ، فَعَكَسَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَضَافَ الْجِهَادَ إِلَى الضَّمِيرِ اتِّسَاعًا، أَوْ لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لَهُ وَمِنْ أَجْلِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِحَقِّ جِهَادِهِ هُوَ أَنْ لَا تَخَافُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اسْتِفْرَاغُ مَا فِي وُسْعِهِمْ فِي إِحْيَاءِ دِينِ اللَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ:
إِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «2» كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «3» مَنْسُوخٌ بِذَلِكَ، وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمَصِيرِ إِلَى النَّسْخِ. ثُمَّ عَظَّمَ سُبْحَانَهُ شَأْنَ الْمُكَلَّفِينَ بِقَوْلِهِ: هُوَ اجْتَباكُمْ أَيِ: اخْتَارَكُمْ لِدِينِهِ، وَفِيهِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ عَظِيمٌ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي التَّكْلِيفِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ قَالَ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أَيْ: مِنْ ضِيقٍ وَشِدَّةٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَرَجِ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ، فَقِيلَ: هُوَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَمِلْكِ الْيَمِينِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ قَصْرُ الصَّلَاةِ، وَالْإِفْطَارُ لِلْمُسَافِرِ، وَالصَّلَاةُ بِالْإِيمَاءِ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِسْقَاطُ الْجِهَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَى وَالْمَرِيضِ، وَاغْتِفَارُ الْخَطَأِ فِي تَقْدِيمِ الصِّيَامِ وَتَأْخِيرِهِ لِاخْتِلَافِ الْأَهِلَّةِ، وَكَذَا فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا جَعَلَ عَلَيْهِمْ حرجا بتكليف ما يشقّ عليهم، ولكن
__________
(1) . يس: 12. [.....]
(2) . التغابن: 16.
(3) . آل عمران: 102.(3/556)
كلّفهم بما يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ التَّكَالِيفَ الَّتِي فِيهَا حَرَجٌ، فَلَمْ يَتَعَبَّدْهُمْ بِهَا كَمَا تَعَبَّدَ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الذَّنْبِ مَخْرَجًا بِفَتْحِ بَابِ التَّوْبَةِ وقبول الاستغفار وَالتَّكْفِيرِ فِيمَا شَرَعَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَالْأَرْشَ «1» ، أَوِ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَاتِ، وَرَدَّ الْمَالِ أَوْ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ فِي الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، فَقَدْ حَطَّ سُبْحَانَهُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ مِنَ التَّكَالِيفِ عَلَى عِبَادِهِ، إِمَّا بِإِسْقَاطِهَا مِنَ الْأَصْلِ وَعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهَا كَمَا كَلَّفَ بِهَا غَيْرَهُمْ، أَوْ بِالتَّخْفِيفِ وَتَجْوِيزِ الْعُدُولِ إِلَى بَدَلٍ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، أَوْ بِمَشْرُوعِيَّةِ التَّخَلُّصِ عَنِ الذَّنْبِ بِالْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ، وَمَا أَنْفَعَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَجَلَّ مَوْقِعَهَا وَأَعْظَمَ فَائِدَتَهَا، وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «2» وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «3» وَقَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ «4» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ» كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَانْتِصَابُ مِلَّةَ فِي مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَسَّعَ عَلَيْكُمْ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى اتَّبِعُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: انْتَصَبَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْكَافِ، أَيْ: كَمِلَّةِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ كَفِعْلِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، فَأَقَامَ الْمِلَّةَ مَقَامَ الْفِعْلِ، وَقِيلَ: عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ أَبَاهُمْ لِأَنَّهُ أَبُو الْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَلِأَنَّ لَهُ عِنْدَ غَيْرِ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ حُرْمَةً عَظِيمَةً كَحُرْمَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ لِكَوْنِهِ أبا لنبيهم صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أَيْ: فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَفِي هَذَا أَيِ: الْقُرْآنِ، وَالضَّمِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. وَالْمَعْنَى هُو: أَيْ إِبْرَاهِيمُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قبل النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، «وَفِي هَذَا» أَيْ: فِي حُكْمِهِ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا فَهُوَ مُسْلِمٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أَيْ: بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغَتْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَقَالَ: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَتَخْصِيصُ الْخَصْلَتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِمَزِيدِ شَرَفِهِمَا وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أَيِ: اجْعَلُوهُ عِصْمَةً لَكُمْ مِمَّا تَحْذَرُونَ، وَالْتَجِئُوا إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، وَلَا تَطْلُبُوا ذَلِكَ إِلَّا مِنْهُ هُوَ مَوْلاكُمْ أَيْ: نَاصِرُكُمْ وَمُتَوَلِّي أُمُورِكُمْ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ أَيْ: لَا مُمَاثِلَ لَهُ فِي الْوِلَايَةِ لِأُمُورِكُمْ وَالنُّصْرَةِ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» : تَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ، وَقِيلَ: ثِقُوا بِهِ تَعَالَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ قَالَ: نَزَلَتْ فِي صَنَمٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ قَالَ: الطَّالِبُ آلِهَتُهُمْ، وَالْمَطْلُوبُ الذُّبَابُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ قَالَ: لَا تَسْتَنْقِذُ الْأَصْنَامُ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنَ الذُّبَابِ. وأخرج الحاكم وصحّحه عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «إنّ الله اصطفى موسى
__________
(1) . «الأرش» : دية الجراحة.
(2) . التغابن: 16.
(3) . البقرة: 185.
(4) . البقرة: 286.(3/557)
بِالْكَلَامِ، وَإِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ وصحّحه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ صَفِيُّ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: أَلَسْنَا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ جِهَادَهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا جَاهَدْتُمْ فِي أَوَّلِهِ» ؟ قُلْتُ: بَلَى، فَمَتَى هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: إِذَا كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ الْأُمَرَاءَ، وَبَنُو الْمُغِيرَةِ الْوُزَرَاءَ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قَالَ: الضِّيقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَا عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فِي أَنْ نَسْرِقَ أَوْ نزني؟ قال: بلى، قال: فما وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ؟
قَالَ: الْإِصْرُ الَّذِي كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وُضِعَ عَنْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ تَوْسِعَةُ الْإِسْلَامِ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قَالَ: هَذَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ إِذَا شَكَّ فِيهِ النَّاسُ، وَفِي الْحَجِّ إِذَا شَكُّوا فِي الْأَضْحَى، وَفِي الْفِطْرِ وَأَشْبَاهِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْحَرَجِ فَقَالَ: ادْعُ لِي رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ قَالَ: الْحَرِجَةُ مِنَ الشَّجَرِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَخْرَجٌ، فَقَالَ ابن عباس: [هذا الحرج] «1» الذي ليس له مخرج. وأخرج سعيد ابن منصور وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْحَرَجِ فَقَالَ: هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ هُذَيْلٍ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ الْحَرِجَةَ فِيكُمْ؟ قَالَ: الشَّيْءُ الضَّيِّقُ، قَالَ: هُوَ ذَاكَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَذِهِ الآية وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ثُمَّ قَالَ لِي: ادْعُ لِي رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، قَالَ عُمَرُ:
مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ قَالَ: الضِّيقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ [قال: دين أَبِيكُمْ] «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: سَمَّاكُمْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَغَوِيُّ وَالْبَارُودِيُّ وَابْنُ قَانِعٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) . من (الدر المنثور 6/ 79) .
(2) . المصدر السابق.(3/558)
قَالَ: «مَنْ دَعَا بِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جثا جَهَنَّمَ «1» ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟
قَالَ: نَعَمْ، فَادْعُوا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سَمَّاكُمْ بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ» .
__________
(1) . «من جثا جهنم» : أي من جماعاتها. والجثا: جمع جثوة، وهو الشيء المجموع. وفي بعض الروايات: جثّي، جمع جاث، من جثا على ركبتيه يجثو ويجثي.(3/559)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
سورة المؤمنون
هي مكية بلا خلاف. قال القرطبي: كلّها مكيّة في قول الجميع، وآياتها مائة وتسع عشرة آية وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ الصُّبْحَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ، أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لَهَا تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ عَدِيٍّ وَالْحَاكِمُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي السُّنَّةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عباس مثله. وقد ورد في فَضَائِلُ الْعَشْرِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قال الفرّاء: قد ها هنا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَأْكِيدًا لِفَلَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَقْرِيبًا لِلْمَاضِي مِنَ الْحَالِ، لِأَنَّ قَدْ تُقَرِّبُ الْمَاضِيَ مِنَ الْحَالِ حَتَّى تُلْحِقَهُ بِحُكْمِهِ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ:
قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَبْلَ حَالِ قِيَامِهَا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ وأن الْفَلَاحَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَالْفَلَاحُ: الظَّفَرُ بِالْمُرَادِ وَالنَّجَاةُ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَقِيلَ: الْبَقَاءُ فِي الْخَيْرِ، وَأَفْلَحَ إِذَا دَخَلَ فِي الْفَلَاحِ، وَيُقَالُ:
أَفْلَحَهُ: إِذَا أَصَارَهُ إِلَى الْفَلَاحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْفَلَاحِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَدْ أَفْلَحَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ «أَفْلَحُوا الْمُؤْمِنُونَ» عَلَى الْإِبْهَامِ وَالتَّفْسِيرِ، أَوْ عَلَى لُغَةِ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْخُشُوعُ: مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ كَالْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ كَالسُّكُونِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ وَالْعَبَثِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: السُّكُونُ وَالتَّوَاضُعُ وَالْخَوْفُ وَالتَّذَلُّلُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْخُشُوعِ هَلْ هُوَ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ أَوْ مِنْ فَضَائِلِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ: الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: الثَّانِي. وَادَّعَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْ صَلَاتِهِ، حَكَاهُ(3/560)
النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ «1» وَالتَّدَبُّرُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَعْنَى، وكذا قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «2» وَالْغَفْلَةُ تُضَادُّ الذِّكْرَ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ «3» وقوله: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «4» نَهْيٌ لِلسَّكْرَانِ، وَالْمُسْتَغْرِقُ فِي هُمُومِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَتِهِ. وَاللَّغْوُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ كُلُّ بَاطِلٍ وَلَهْوٍ وهَزْلٍ وَمَعْصِيَةٍ وَمَا لَا يَجْمُلُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ اللَّغْوَ هُنَا الشِّرْكُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ الْمَعَاصِي كُلُّهَا. وَمَعْنَى إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ: تَجَنُّبُهُمْ لَهُ وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِمْ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ اتِّصَافُهُمْ بِصِفَةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، فَيَدْخُلُ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا كَمَا تُفِيدُهُ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ، وَبِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الضَّمِيرِ، وَمَعْنَى فِعْلِهِمْ لِلزَّكَاةِ تَأْدِيَتُهُمْ لَهَا، فَعَبَّرَ عَنِ التَّأْدِيَةِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهَا مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ هُنَا الْمَصْدَرُ لِأَنَّهُ الصَّادِرُ عَنِ الْفَاعِلِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَيْنُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: وَالَّذِينَ هُمْ لِتَأْدِيَةِ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ- وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الْفَرْجُ: يُطْلَقُ عَلَى فَرْجِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَمَعْنَى حِفْظِهِمْ لَهَا أَنَّهُمْ مُمْسِكُونَ لَهَا بِالْعَفَافِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ هُنَا الرِّجَالُ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ يَطَأَهَا مَنْ تَمْلِكُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ عَلَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ بِمَعْنَى مِنْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُلَامُونَ فِي إِطْلَاقِ مَا حُظِرَ عَلَيْهِمْ فَأُمِرُوا بِحِفْظِهِ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، وَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ ذِكْرُ اللَّوْمِ فِي آخِرِ الْآيَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ نَفْيِ الْإِرْسَالِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْحِفْظِ، أَيْ: لَا يُرْسِلُونَهَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى: إِلَّا وَالِينَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَقَوَّامِينَ عَلَيْهِمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: كَانَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةٍ فَمَاتَ عَنْهَا فَخَلَفَ عَلَيْهَا فُلَانٌ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ تَزَوُّجِهِمْ أَوْ تَسَرِّيهِمْ، وَجُمْلَةُ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْإِمَاءُ وَعَبَّرَ عَنْهُنَّ بِمَا الَّتِي لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فيهنّ الأنوثة المنبئة عَنْ قُصُورِ الْعَقْلِ وَجَوَازُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِنَّ كَسَائِرِ السِّلَعِ، فَأَجْرَاهُنَّ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مُجْرَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَجُمْلَةُ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حِفْظُ فُرُوجِهِمْ مِنْهُ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَمَعْنَى «الْعَادُونَ» : الْمُجَاوِزُونَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ، فَسَمَّى سُبْحَانَهُ مَنْ نَكَحَ مَا لَا يَحِلُّ عَادِيًا، وَوَرَاءَ هُنَا بِمَعْنَى سِوَى وَهُوَ مَفْعُولُ ابْتَغَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ فَمَنِ ابْتَغَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَفْعُولُ الِابْتِغَاءِ مَحْذُوفٌ، وَوَرَاءَ ظَرْفٌ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءِ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَرَاءِ «5» لِمَا ذُكِرَ، وَقَدْ جَمَعْنَا فِي ذَلِكَ رِسَالَةً سَمَّيْنَاهَا «بُلُوغَ المنى في حكم الاستمناء» ، وَذَكَرْنَا فِيهَا أَدِلَّةَ الْمَنْعِ وَالْجَوَازِ وَتَرْجِيحَ الرَّاجِحِ مِنْهُمَا وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ لِأَماناتِهِمْ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْإِفْرَادِ. وَالْأَمَانَةُ مَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ، وَالْعَهْدُ مَا يُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْ جِهَةِ
__________
(1) . النساء: 82.
(2) . طه: 14.
(3) . الأعراف: 205.
(4) . النساء: 43.
(5) . المقصود: الإشارة إلى قوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ. [.....](3/561)
عِبَادِهِ، وَقَدْ جَمَعَ الْعَهْدُ وَالْأَمَانَةُ كُلَّ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالْأَمَانَةُ أَعَمُّ مِنَ الْعَهْدِ، فَكُلُّ عَهْدٍ أَمَانَةٌ، وَمَعْنَى «رَاعُونَ» : حَافِظُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ صَلَواتِهِمْ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «صَلَاتِهِمْ» بِالْإِفْرَادِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِفْرَادِ فَقَدْ أَرَادَ اسْمَ الْجِنْسِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَاةِ: إِقَامَتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَإِتْمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَالْمَشْرُوعِ مِنْ أَذْكَارِهَا. ثُمَّ مَدَحَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ أَيِ: الْأَحِقَّاءُ بِأَنْ يُسَمَّوْا بِهَذَا الِاسْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمَوْرُوثَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ وَهُوَ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، كَمَا صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَهُوَ الْوَارِثُ الَّذِي يَرِثُ مِنَ الْجَنَّةِ ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْفِرْدَوْسَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مِنَ الْكُفَّارِ مَنَازِلَهُمْ حَيْثُ فَرَّقُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ. وَلَفْظُ الْفِرْدَوْسِ لُغَةٌ رُومِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ، وَقِيلَ: فَارِسِيَّةٌ، وَقِيلَ: حَبَشِيَّةٌ، وَقِيلَ: هِيَ عَرَبِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ هُمْ فِيها خالِدُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا، وَمَعْنَى الْخُلُودِ أَنَّهُمْ يَدُومُونَ فِيهَا لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ مَعَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْفِرْدَوْسِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَنَّةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْعُقَيْلِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «كَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً، فَسُرِّيَ عَنْهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى خَتَمَ الْعَشْرَ» وَفِي إِسْنَادِهِ يُونُسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْأَيْلِيُّ. قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ إِلَّا يُونُسَ بْنَ سُلَيْمٍ، وَيُونُسُ لَا نَعْرِفُهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ قَالَ: قُلْنَا لِعَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَتْ: تقرأ سورة المؤمنون؟ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فقرأ حَتَّى بَلَغَ الْعَشْرَ، فَقَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتِ:
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَزَادَ: فَأَمَرَهُ بِالْخُشُوعِ فَرَمَى بِبَصَرِهِ نَحْوَ مَسْجِدِهِ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيْضًا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ نَظَرَ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَمِينًا وَشِمَالًا، فَنَزَلَتِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فَحَنَى رَأْسَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ مُرْسَلًا هَكَذَا. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حاتم عن(3/562)
ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفعون رؤوسهم وَأَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ- الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فَمَالُوا بِرُءُوسِهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا أَبْصَارَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا يَمِينًا وَشِمَالًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قَالَ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ، وَأَنْ تُلِينَ كَتِفَكَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ، وَأَنْ لَا تَلْتَفِتَ فِي صَلَاتِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قَالَ: خَائِفُونَ سَاكِنُونَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ وَعَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ أَحَادِيثُ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قَالَ: الْبَاطِلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى تَحْرِيمَهَا فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ تَلَا وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ- إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يُكْثِرُ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ «1» وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَوَاقِيتِهَا، قَالُوا: مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَرْكِهَا، قَالَ: تَرْكُهَا كُفْرٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ قَالَ: يَرِثُونَ مَسَاكِنَهُمْ وَمَسَاكِنَ إِخْوَانِهِمُ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ:
مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَ قِصَّةً، وَفِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا» ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْوِرَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا «2» ، وَقَوْلُهُ: تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «3» . وَيَشْهَدُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» وَفِي لَفْظٍ لَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيَقُولُ:
هَذَا فكاكك من النار» .
__________
(1) . المعارج: 23.
(2) . مريم: 63.
(3) . الأعراف: 43.(3/563)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
لَمَّا حَثَّ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَوَعَدَهُمُ الْفِرْدَوْسَ عَلَى فِعْلِهَا، عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ لِيَتَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِ الْمُكَلَّفِينَ فَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إِلَى آخِرِهِ، وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأَةٌ، وَقِيلَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ فِي ضِمْنِ خَلْقِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ. وَالسُّلَالَةُ فُعَالَةٌ مِنَ السَّلِّ، وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: سَلَلْتُ الشَّعْرَةَ مِنَ الْعَجِينِ، وَالسَّيْفَ مِنَ الْغِمْدِ فَانْسَلَّ، فَالنُّطْفَةُ سُلَالَةٌ، وَالْوَلَدُ سَلِيلٌ، وَسُلَالَةٌ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الْأَدِيِمِ غَضَنْفَرًا ... سُلَالَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينِ
وَقَوْلُ الْآخَرِ «2» :
وَهَلْ هِنْدُ إِلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ... سليلة أفراس تجلّلها «3» بَغْلُ
ومِنْ فِي مِنْ سُلالَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقْنَا، وَفِي مِنْ طِينٍ بَيَانِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وَقَعَ صِفَةً لِسُلَالَةٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ طِينٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ جَوْهَرَ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا مِنْ طِينٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ آدَمُ، وَهُوَ مِنْ طِينٍ خَالِصٍ وَأَوْلَادُهُ مَنْ طِينٍ وَمَنِيٍّ. وَقِيلَ: السُّلَالَةُ: الطِّينُ إِذَا عَصَرْتَهُ انْسَلَّ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِكَ، فَالَّذِي يَخْرُجُ هُوَ السُّلَالَةُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ ثُمَّ جَعَلْناهُ أَيِ الْجِنْسَ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهِ الَّذِينَ هُمْ بَنُو آدَمَ، أَوْ جَعَلْنَا نَسْلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِنْ أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ نُطْفَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النُّطْفَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَرَارِ الْمَكِينِ: الرَّحِمُ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْقَرَارِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مُبَالِغَةً، وَمَعْنَى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أَيْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَالَ النُّطْفَةَ الْبَيْضَاءَ عَلَقَةً حَمْرَاءَ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أَيْ: قِطْعَةَ لَحْمٍ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أَيْ: جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَصَلِّبَةً لِتَكُونَ عَمُودًا لِلْبَدَنِ عَلَى أَشْكَالٍ
__________
(1) . هو حسان بن ثابت.
(2) . القائل: هند بنت النعمان.
(3) . «تجلّلها» : علاها. ويروى: تحلّلها.(3/564)
مَخْصُوصَةٍ فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً أَيْ: أَنْبَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ عَظْمٍ لَحْمًا عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ وَيُنَاسِبُهُ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أَيْ: نَفَخْنَا فِيهِ الرُّوحَ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمَادًا، وَقِيلَ: أَخْرَجْنَاهُ إِلَى الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُوَ نَبَاتُ الشَّعْرِ، وَقِيلَ: خُرُوجُ الْأَسْنَانِ، وَقِيلَ: تَكْمِيلُ الْقُوَى الْمَخْلُوقَةِ فِيهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْجَمِيعِ، وَالْمَجِيءُ بِثُمَّ لِكَمَالِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أَيِ: اسْتَحَقَّ التَّعْظِيمَ وَالثَّنَاءَ.
وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَرَكَةِ، أَيْ: كَثُرَ خَيْرُهُ وَبَرَكَتُهُ. وَالْخَلْقُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: خَلَقْتُ الْأَدِيمَ إِذَا قِسْتَهُ لِتَقْطَعَ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَعْنَى أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ: أَتْقَنُ الصَّانِعِينَ الْمُقَدِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْأُمُورِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَيْ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ تِلْكَ الْأُمُورِ لَمَيِّتُونَ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ لِلْحِسَابِ وَالْعِقَابِ. وَاللَّامُ فِي وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَيَانِ خَلْقِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ بَيَانِ خَلْقِهِمْ، وَالطَّرَائِقُ: هِيَ السَّمَاوَاتُ. قَالَ الْخَلِيلِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ:
سمّيت طَرَائِقَ لِأَنَّهُ طُورِقَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَمُطَارَقَةِ النَّعْلِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَارَقْتُ الشَّيْءَ جَعَلْتُ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ فَوْقَ شَيْءٍ طَرِيقَةً. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْكَوَاكِبِ. وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ الْمُرَادُ بِالْخَلْقِ هُنَا الْمَخْلُوقُ، أَيْ: وَمَا كُنَّا عَنْ هَذِهِ السَّبْعِ الطَّرَائِقِ وَحِفْظِهَا عَنْ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ بِغَافِلِينَ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ بِغَافِلِينَ، بَلْ حَفِظْنَا السَّمَاوَاتِ عَنْ أَنْ تَسْقُطَ، وَحَفِظْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ أَنْ تَسْقُطَ السَّمَاءُ عَلَيْهِمْ فَتُهْلِكَهُمْ أَوْ تَمِيدَ بِهِمُ الْأَرْضُ، أَوْ يَهْلِكُونَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسْتَأْصِلَةِ لَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ الْغَفْلَةِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِمْ وَمَا يَعِيشُونَ بِهِ، وَنَفْيُ الْغَفْلَةِ عَنْ حِفْظِهِمْ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَاءُ الْمَطَرِ، فَإِنَّ بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَاءُ الْأَنْهَارِ النَّازِلَةُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْعُيُونِ، وَالْآبَارُ الْمُسْتَخْرَجَةُ مِنَ الْأَرْضِ، فَإِنَّ أَصْلَهَا مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: أَرَادَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَنْهَارَ الْأَرْبَعَةَ:
سَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ الْعَذْبُ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ أَيْضًا فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَاءٌ إِلَّا وَهُوَ مِنَ السَّمَاءِ. وَمَعْنَى بِقَدَرٍ بِتَقْدِيرٍ مِنَّا أَوْ بِمِقْدَارٍ يَكُونُ بِهِ صَلَاحُ الزرع وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَثُرَ لَكَانَ بِهِ هَلَاكُ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَمَعْنَى فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ جَعَلْنَاهُ مُسْتَقِرًّا فِيهَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَقْتَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، كَالْمَاءِ الَّذِي يَبْقَى فِي الْمُسْتَنْقَعَاتِ وَالْغُدْرَانِ وَنَحْوِهَا وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أَيْ: كَمَا قَدَرْنَا عَلَى إِنْزَالِهِ فَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَذْهَبَ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلِهَذَا التَّنْكِيرِ حُسْنُ مُوقِعٍ لَا يَخْفَى، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى إِذْهَابِهِ وَتَغْوِيرِهِ حَتَّى يَهْلِكَ النَّاسُ بِالْعَطَشِ وَتَهْلِكَ مَوَاشِيهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ «2» . ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَتَسَبَّبُ عَنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ
__________
(1) . هو زهير بن أبي سلمى.
(2) . الملك: 30.(3/565)
فَقَالَ: فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أَيْ: أَوْجَدْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ جَنَّاتٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَكُمْ فِيها أَيْ: فِي هَذِهِ الجنّات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكّهون بها وتتطعمون مِنْهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمِنْ هَذِهِ الْجَنَّاتِ وُجُوهُ أَرْزَاقِكُمْ وَمَعَاشِكُمْ، كَقَوْلِهِ: فُلَانٌ يَأْكُلُ مِنْ حِرْفَةِ كَذَا، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَاقْتَصَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ لِأَنَّهَا الْمَوْجُودَةُ بِالطَّائِفِ وَالْمَدِينَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ. كَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَشْجَارِ ثَمَرَةً، وَأَطْيَبُهَا مَنْفَعَةً وَطَعْمًا وَلَذَّةً. قِيلَ: الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: لَكُمْ فِيها فَواكِهُ أَنَّ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْجَنَّاتِ فَوَاكِهَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ وَالنَّخِيلِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَكُمْ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ خَاصَّةً فَوَاكِهُ لِأَنَّ فِيهِمَا أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مُتَفَاوِتَةً فِي الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْفِقْهِ فِي لَفْظِ الْفَاكِهَةِ عَلَى مَاذَا يُطْلَقُ؟ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ إِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الثَّمَرَاتِ الَّتِي يَأْكُلُهَا النَّاسُ، وَلَيْسَتْ بِقُوتٍ لَهُمْ وَلَا طَعَامٍ وَلَا إِدَامٍ. وَاخْتُلِفَ فِي البقول هل تدخل فِي الْبُقُولِ هَلْ تَدْخُلُ فِي الْفَاكِهَةِ أَمْ لَا؟ وَانْتِصَابُ شَجَرَةً عَلَى الْعَطْفِ عَلَى جَنَّاتٍ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الرَّفْعَ عَلَى تَقْدِيرِ: وَثَمَّ شَجَرَةٌ فَتَكُونُ مُرْتَفِعَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ قَبْلَهَا، وَهُوَ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُفَسِّرُونَ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَاهَدُهَا أَحَدٌ بِالسَّقْيِ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ الدُّهْنُ مِنْهَا، فَذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ امْتِنَانًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ بِهَا، وَلِأَنَّهَا أَكْرَمُ الشَّجَرِ، وَأَعَمُّهَا نَفْعًا، وَأَكْثَرُهَا بَرَكَةً، ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ بِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وَهُوَ جَبَلٌ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالطُّورُ:
الْجَبَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: هُوَ ممّا عرّب من كلام العجم. واختلف في معنى سيناء فقيل: هو الحسن، وَقِيلَ: هُوَ الْمُبَارَكُ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْجَبَلِ كَمَا تَقُولُ: جَبَلُ أُحُدٍ. وَقِيلَ: سَيْنَاءُ حَجَرٌ بِعَيْنِهِ أُضِيفَ الْجَبَلُ إِلَيْهِ لِوُجُودِهِ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ جَبَلٍ يَحْمِلُ الثِّمَارَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سَيْناءَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ السِّينِ، وَلَمْ يُصْرَفْ لِأَنَّهُ جُعِلَ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ، وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنَّهَا تَنْبُتُ فِي نَفْسِهَا مُتَلَبِّسَةً بِالدُّهْنِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ، فَهِيَ لِلْمُصَاحَبَةِ.
قال أبو عليّ الفارسي: التقدير: تنبت جناها ومعه الدهن. وقيل: الباء زائدة. قال أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَحْمِرَةٍ «2» ... سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ
وَقَالَ آخَرُ:
............... ....
نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجِ «3»
__________
(1) . هو الراعي.
(2) . «أحمرة» : جمع حمار. وخصّ الحمير لأنها رذال المال وشرّه. وقال البغدادي في خزانة الأدب: وقد صحّف الدماميني هذه الكلمة بالخاء المعجمة.
(3) . وصدره: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج.(3/566)
وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ نَبَتَ وَأَنْبَتَ بِمَعْنًى، وَالْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُ أَنْبَتَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ
أَيْ: نَبَتَ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ «تُنْبَتُ» بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ جِنِّيٍّ:
أَيْ تَنْبُتُ وَمَعَهَا الدُّهْنُ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «تَخْرُجُ» بِالدُّهْنِ، وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ «تُنْبِتُ الدُّهْنَ» بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْأَشْهَبُ «بِالدِّهَانِ» . وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الدُّهْنِ، أَيْ:
تَنْبُتُ بِالشَّيْءِ الْجَامِعِ بَيْنَ كَوْنِهِ دُهْنًا يدهن به. وكونه صبغا يؤتدم به. قرأ الْجُمْهُورُ صِبْغٍ وَقَرَأَ قَوْمٌ «صِبَاغٍ» مِثْلُ لِبْسٍ وَلِبَاسٍ، وَكُلُّ إِدَامٍ يُؤْتَدَمُ بِهِ فَهُوَ صِبْغٌ وَصِبَاغٌ، وَأَصْلُ الصِّبْغِ مَا يُلَوَّنُ بِهِ الثَّوْبُ، وَشُبِّهَ الْإِدَامُ بِهِ لِأَنَّ الْخُبْزَ يَكُونُ بِالْإِدَامِ كَالْمَصْبُوغِ بِهِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً هَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَنْعَامِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَلَعَلَّ الْقَصْدَ بِالْأَنْعَامِ هُنَا إِلَى الْإِبِلِ خَاصَّةً لِأَنَّهَا هِيَ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا فِي الْعَادَةِ، وَلِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْفُلْكِ وَهِيَ سَفَائِنُ الْبَرِّ، كَمَا أَنَّ الْفُلْكَ سَفَائِنُ الْبَحْرِ. وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهَا عِبْرَةٌ لِأَنَّهَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِخَلْقِهَا وَأَفْعَالِهَا عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ فَصَّلَ سُبْحَانَهُ مَا فِي هَذِهِ الْأَنْعَامِ مِنَ النِّعَمِ بَعْدَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعِبْرَةِ فِيهَا لِلْعِبَادِ، فَقَالَ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها يَعْنِي سُبْحَانَهُ: اللَّبَنَ الْمُتَكَوِّنَ فِي بُطُونِهَا الْمُنْصَبَّ إِلَى ضُرُوعِهَا، فَإِنَّ فِي انْعِقَادِ مَا تَأْكُلُهُ مِنَ الْعَلَفِ وَاسْتِحَالَتِهِ إِلَى هَذَا الْغِذَاءِ اللَّذِيذِ، وَالْمَشْرُوبِ النَّفِيسِ أَعْظَمَ عِبْرَةٍ لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَأَكْبَرَ مَوْعِظَةٍ لِلْمُتَّعِظِينَ. قُرِئَ نُسْقِيكُمْ بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقُرِئَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الْأَنْعَامُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ إِجْمَالًا فَقَالَ: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ يَعْنِي فِي ظُهُورِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْفَعَةً خَاصَّةً فَقَالَ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ لِمَا فِي الْأَكْلِ مِنْ عظيم الانتفاع لهم، وكذلك ذَكَرَ الرُّكُوبَ عَلَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ العظيمة فقال: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
أَيْ: وَعَلَى الْأَنْعَامِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَنْعَامِ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَالْمُرَادُ: وَعَلَى بعض الأنعام، وهي الْإِبِلُ خَاصَّةً، فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الْأَنْعَامُ هِيَ غَالِبَ مَا يَكُونُ الرُّكُوبُ عَلَيْهِ فِي الْبَرِّ ضَمَّ إِلَيْهَا مَا يَكُونُ الرُّكُوبُ عليه في البحر، فقال:
عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
تَتْمِيمًا لِلنِّعْمَةِ وَتَكْمِيلًا لِلْمِنَّةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السُّلَالَةُ: صَفْوُ الْمَاءِ الرَّقِيقِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ طَارَتْ فِي شَعْرٍ وَظُفْرٍ فَتَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَنْحَدِرُ فِي الرَّحِمِ فَتَكُونُ عَلَقَةً. وَلِلتَّابِعِينَ فِي تَفْسِيرِ السُّلَالَةِ أَقْوَالٌ قَدْ قَدَّمَنَا الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ: الشَّعْرُ وَالْأَسْنَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ: نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَكَذَا قَالَ: مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ والشعبي والحسن وأبو العالية والربيع بن أنس والسدّي والضحّاك وَابْنِ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ: حِينَ اسْتَوَى بِهِ الشَّبَابُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ(3/567)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
الآية على النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ عُمَرُ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ قَالَ:
«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا خُتِمَتْ بِالَّذِي تَكَلَّمْتَ بِهِ يَا عُمَرُ» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي أَرْبَعٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ صَلَّيْنَا خَلْفَ الْمَقَامِ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «1» وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ عَلَى نِسَائِكَ حِجَابًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ والفاجر، فأنزل الله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» وَقُلْتُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيُبْدِلْنَهُ اللَّهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، فَنَزَلَتْ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ «3» الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَقُلْتُ أَنَا: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الأوسط، وابن مردويه عن زيد ابن ثَابِتٍ قَالَ: أَمْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إِلَى قَوْلِهِ: خَلْقاً آخَرَ فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فَضَحِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِهَا خُتِمَتْ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ وَفِي إِسْنَادِهِ: جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي خَبَرِهِ هذا نكارة شديدة، ذلك أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِنَّمَا كَتَبَ الْوَحْيَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ إِسْلَامُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ: سَيْحُونُ وَهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ، وَجَيْحُونُ وَهُوَ نَهْرُ بَلْخٍ، وَدِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ وَهُمَا نَهْرَا الْعِرَاقِ، وَالنِّيلُ وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ، أَنْزَلَهَا مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الْجَنَّةِ، مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، فَاسْتَوْدَعَهَا الْجِبَالَ، وَأَجْرَاهَا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ، فَرَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ، وَالْحَجَرَ مِنْ رُكْنِ الْبَيْتِ، وَمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَتَابُوتَ مُوسَى بِمَا فِيهِ، وَهَذِهِ الْأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ، فَيَرْفَعُ كُلَّ ذَلِكَ إِلَى السَّمَاءِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فَإِذَا رُفِعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدَ أَهْلُهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: طُورُ سَيْنَاءَ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي نُودِيَ مِنْهُ مُوسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ قَالَ: هُوَ الزَّيْتُ يُؤْكَلُ ويدهن به.
__________
(1) . البقرة: 125.
(2) . الأحزاب: 53.
(3) . التحريم: 5. [.....]
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 41]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32)
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)(3/568)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْفُلْكَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ نُوحٍ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهُ، وَذَكَرَ مَا صَنَعَهُ قَوْمُ نُوحٍ مَعَهُ بِسَبَبِ إِهْمَالِهِمْ لِلتَّفَكُّرِ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالتَّذَكُّرِ لِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وَفِي ذَلِكَ تعزية لرسول الله، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ بِبَيَانِ أَنَّ قَوْمَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يَصْنَعُونَ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ مَا يَصْنَعُهُ قَوْمُهُ مَعَهُ، وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أَيِ: اعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَاتِ الْآخِرَةِ، وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا، وَارْتِفَاعُ «غَيْرِهِ» لِكَوْنِهِ وَصْفًا لِإِلَهٍ عَلَى الْمَحَلِّ، لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ «لَكُمْ» ، أَيْ: مَا لَكُمْ فِي الْوُجُودِ إِلَهٌ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَقُرِئَ بِالْجَرِّ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ إِلَهٍ أَفَلا تَتَّقُونَ أَيْ أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْ تَتْرُكُوا عِبَادَةَ رَبِّكُمُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَهٌ سِوَاهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَفَلَا تخافون أن يرفع عنكم ما خوّلكم من النعم ويسلبها عنكم. وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
أَفَلَا تَقُونَ أَنْفُسَكُمْ عَذَابَهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ ذُنُوبُكُمْ؟ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أَيْ: قَالَ أَشْرَافُ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ: مِنْ جِنْسِكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أَيْ: يَطْلَبُ الْفَضْلَ عَلَيْكُمْ بِأَنْ يَسُودَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا تَابِعِينَ لَهُ مُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، ثُمَّ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْبَشَرَ لَا يَكُونُ رَسُولًا، فَقَالُوا: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ إِرْسَالَ رَسُولٍ لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْإِنْزَالِ عَنِ الْإِرْسَالِ لِأَنَّ إِرْسَالَهُمْ إِلَى الْعِبَادِ يَسْتَلْزِمُ نُزُولَهُمْ إِلَيْهِمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أَيْ: بِمِثْلِ دَعْوَى هَذَا الْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ مِنَ الْبَشَرِ، أَوْ بِمِثْلِ كَلَامِهِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، أَوْ مَا سَمِعْنَا بِبَشَرٍ يَدَّعِي هَذِهِ الدَّعْوَى فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ، أَيْ: فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ هَذَا. وَقِيلَ: الْبَاءُ فِي «بِهَذَا» زَائِدَةٌ، أَيْ: مَا سَمِعْنَا هَذَا كَائِنًا فِي الْمَاضِينَ، قَالُوا هَذَا اعْتِمَادًا مِنْهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ وَاعْتِصَامًا بِحَبْلِهِ، وَلَمْ يَقْنَعُوا بِذَلِكَ حَتَّى ضَمُّوا إِلَيْهِ الْكَذِبَ الْبَحْتَ، وَالْبَهْتَ الصُّرَاحَ، فَقَالُوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أَيْ: جُنُونٌ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أَيِ: انْتَظِرُوا بِهِ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ، بِأَنْ يَفِيقَ مِنْ جُنُونِهِ فَيَتْرُكَ هَذِهِ الدَّعْوَى، أَوْ حَتَّى يَمُوتَ فَتَسْتَرِيحُوا مِنْهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ يُرِيدُ بِالْحِينِ هُنَا وَقْتًا بِعَيْنِهِ، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِمْ:(3/569)
دَعْهُ إِلَى يَوْمٍ مَا، فَلَمَّا سَمِعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَلَامَهُمْ وَعَرِفَ تَمَادِيَهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَيْهِ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَيْهِمْ فَانْتَقِمْ مِنْهُمْ بِمَا تَشَاءُ وَكَيْفَ تُرِيدُ، وَالْبَاءُ فِي بِما كَذَّبُونِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ، أَيْ: أَرْسَلْنَا إِلَيْهِ رسولا من السماء أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ و «أن» هِيَ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ بِأَعْيُنِنا أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِحِفْظِنَا وَكَلَاءَتِنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي هُودٍ. وَمَعْنَى وَوَحْيِنا أَمْرِنَا لَكَ وَتَعْلِيمِنَا إِيَّاكَ لِكَيْفِيَّةِ صُنْعِهَا، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ صُنْعِ الْفُلْكِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْعَذَابُ وَفارَ التَّنُّورُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ عَطْفَ النَّسَقِ، وَقِيلَ: عَطْفَ الْبَيَانِ، أَيْ: إِنَّ مَجِيءَ الْأَمْرِ هُوَ فَوْرُ التَّنُّورِ، أَيْ: تَنُّورِ آدَمَ الصَّائِرُ إِلَى نُوحٍ، أَيْ: إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أَيِ: ادْخُلْ فِيهَا، يُقَالُ:
سلكه في كذا أدخله، وأسلكته: أدخلته. وقرأ حَفْصٌ مِنْ كُلٍّ بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مِنْ كُلِّ أُمَّةِ زَوْجَيْنِ، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ، وَهُمَا أُمَّةُ الذكر والأنثى اثنين، وانتصاب أَهْلَكَ بِفِعْلٍ مَعْطُوفٍ عَلَى «فَاسْلُكْ» ، لَا بِالْعَطْفِ عَلَى زَوْجَيْنِ، أَوْ عَلَى اثْنَيْنِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَدَائِهِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى، أَيْ: وَاسْلُكْ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أَيِ: الْقَوْلِ بِإِهْلَاكِهِمْ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِإِنْجَائِهِمْ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُخَاطَبَةِ، أَيْ:
إِنَّهُمْ مَقْضِيٌّ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْرَاقِ لِظُلْمِهِمْ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الدُّعَاءَ لَهُ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَيْ:
عَلَوْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ مِنْ أَهْلِكَ وَأَتْبَاعِكَ عَلَى الْفُلْكِ رَاكِبِينَ عَلَيْهِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ: حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَخَلَّصَنَا مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ هود على التمام والكمال، وإنما جعل سبحانه اسْتِوَاءَهُمْ عَلَى السَّفِينَةِ نَجَاةً مِنَ الْغَرَقِ جَزْمًا، لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ مِنَ الظَّلَمَةِ، وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ أَنْ يُصَابُوا بِمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَأَتَمُّ فَائِدَةً فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً أَيْ: أَنْزِلْنِي فِي السَّفِينَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مُنْزَلًا» بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ.
وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْمُفَضَّلُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى:
أَنْزِلْنِي إِنْزَالًا مُبَارَكًا، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: أَنْزِلْنِي مَكَانًا مُبَارَكًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْمَنْزَلُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالزَّايِ:
النُّزُولُ، وَهُوَ الْحُلُولُ، تَقُولُ: نَزَلْتُ نُزُولًا وَمَنْزَلًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَإِنْ ذَكَّرَتْكَ الدَّارُ مَنْزِلَهَا جُمْلُ ... بِكَيْتَ فَدَمْعُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرٌ سَجْلُ
بِنَصْبِ مَنْزِلِهَا لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. قِيلَ: أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ دُخُولِهِ السَّفِينَةَ، وَقِيلَ:
عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا، وَالْآيَةُ تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ إِذَا رَكِبُوا ثُمَّ نَزَلُوا أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ. وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ هَذَا ثَنَاءٌ مِنْهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِثْرَ دُعَائِهِ لَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إنّه أمر أن يقول عند استوائه
__________
(1) . الأنعام: 45.(3/570)
عَلَى الْفُلْكِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَعِنْدَ نُزُولِهِ مِنْهَا: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْآيَاتُ: الدَّلَالَاتُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، سُبْحَانَهُ، وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى عَظِيمِ شَأْنِهِ. وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أَيْ: لَمُخْتَبِرِينَ لَهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إليهم، ليظهر المطيع والعاصي للناس أو للملائكة. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّهُ يُعَامِلُهُمْ سُبْحَانَهُ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لِأَحْوَالِهِمْ، تَارَةً بِالْإِرْسَالِ، وَتَارَةً بِالْعَذَابِ. ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِهِمْ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْشَأَهُمُ اللَّهُ بَعْدَهُمْ هُمْ عَادٌ قَوْمُ هُودٍ، لِمَجِيءِ قِصَّتِهِمْ عَلَى إِثْرِ قِصَّةِ نُوحٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلِقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ «1» وَقِيلَ: هُمْ ثَمُودُ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ. وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ مَدْيَنَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ أُهْلِكَ بِالصَّيْحَةِ فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا عُدِّيَ فِعْلُ الْإِرْسَالِ بِفِي مَعَ أَنَّهُ يَتَعَدَّى بِإِلَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَشَأَ فِيهِمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، يَعْرِفُونَ مَكَانَهُ وَمَوْلِدَهُ، لِيَكُونَ سُكُونُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ أَكْثَرَ مِنْ سُكُونِهِمْ إِلَى مَنْ يَأْتِيهِمْ مِنْ غَيْرِ مَكَانِهِمْ. وَقِيلَ: وَجْهُ التَّعْدِيَةِ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بِفِي أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَيْ: قُلْنَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَلِهَذَا جِيءَ بِأَنْ الْمُفَسِّرَةِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ تَضْمِينَ أَرْسَلْنَا مَعْنَى قُلْنَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَعْدِيَتَهُ بِفِي، وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ أَفَلا تَتَّقُونَ عَذَابَهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ شِرْكِكُمْ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أَيْ: أَشْرَافُهُمْ وَقَادَتُهُمْ. ثُمَّ وَصَفَ الْمَلَأَ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ فَقَالَ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أَيْ: كَذَّبُوا بِمَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، أَوْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ وَأَتْرَفْناهُمْ أَيْ: وَسَّعْنَا لَهُمْ نِعَمَ الدُّنْيَا فَبَطَرُوا بِسَبَبِ مَا صَارُوا فِيهِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَرَفَاهَةِ الْعَيْشِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ: قَالَ الْمَلَأُ لِقَوْمِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَصَفُوهُ بِمُسَاوَاتِهِمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَفِي الْأَكْلِ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَالشُّرْبِ مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ مَعْنَى وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ عَلَى حَذْفِ مِنْهُ، أَيْ: مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عَائِدٍ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيْ: مَغْبُونُونَ بِتَرْكِكُمْ آلِهَتَكُمْ وَاتِّبَاعِكُمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فَضِيلَةٍ لَهُ عَلَيْكُمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ لِلْإِنْكَارِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَقْبِيحِ اتِّبَاعِهِمْ لَهُ. قُرِئَ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَنْ «مِتُّمْ» ، مِنْ مَاتَ يَمَاتُ، كَخَافَ يَخَافُ. وَقُرِئَ بِضَمِّهَا مِنْ مَاتَ يَمُوتُ، كَقَالَ يَقُولُ. وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَيْ: كَانَ بَعْضُ أَجْزَائِكُمْ تُرَابًا، وَبَعْضُهَا عِظَامًا نَخِرَةً لَا لحم فيها ولا أعصاب عليها، وقيل: وَتَقْدِيمُ التُّرَابِ لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ فِي عُقُولِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: كَانَ مُتَقَدِّمُوكُمْ تُرَابًا، وَمُتَأَخِّرُوكُمْ عِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أَيْ: مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً كَمَا كُنْتُمْ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: «أَنَّ» الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بوقوع «أيعدكم» عليها، و «أن» الثَّانِيَةَ بَدَلٌ مِنْهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْجَرْمِيُّ وَالْمُبَرِّدُ: إِنَّ «أَنَّ» الثَّانِيَةَ مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَحَسُنَ تَكْرِيرُهَا لِطُولِ الْكَلَامِ، وَبِمِثْلِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: «أن» الثانية
__________
(1) . الأعراف: 69.(3/571)
فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: يَحْدُثُ إِخْرَاجُكُمْ كَمَا تَقُولُ: الْيَوْمَ الْقِتَالُ، فَالْمَعْنَى: الْيَوْمَ يَحْدُثُ الْقِتَالُ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ أَيْ: بَعْدِ مَا تُوعَدُونَ، أَوْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيُّ: وَفِي هَيْهَاتَ عَشْرُ لُغَاتٍ ثُمَّ سَرَدَهَا، وَهِيَ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَدْ قُرِئَ بِبَعْضِهَا، وَاللَّامُ فِي «لِمَا تُوعَدُونَ» لِبَيَانِ الْمُسْتَبْعَدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَيْتَ لَكَ «1» ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَاذَا هَذَا الِاسْتِبْعَادُ؟ فَقِيلَ: لِمَا تُوعَدُونَ. وَالْمَعْنَى: بَعْدَ إِخْرَاجِكُمْ لِلْوَعْدِ الَّذِي تُوعَدُونَ، هَذَا عَلَى أَنَّ هَيْهَاتَ اسْمُ فِعْلٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، أَيِ: الْبُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، أَوْ بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُونَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَوَّنَ فَتَكُونُ عَلَى هَذَا مُبْتَدَأً خَبَرُهُ لِمَا تُوعَدُونَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ إِتْرَافَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أَيْ: مَا الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتَنَا الدُّنْيَا، لَا الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ الَّتِي تَعِدُنَا بِهَا، وَجُمْلَةُ نَمُوتُ وَنَحْيا مُفَسِّرَةٌ لِمَا ادَّعُوهُ مِنْ قَصْرِهِمْ حَيَاتَهُمْ عَلَى حَيَاةِ الدُّنْيَا. ثُمَّ صَرَّحُوا بِنَفْيِ الْبَعْثِ، وَأَنَّ الْوَعْدَ بِهِ مِنْهُ افْتِرَاءٌ على الله فقالوا: ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً
أَيْ: مَا هُوَ فِيمَا يَدَّعِيهِ إِلَّا مُفْتَرٍ لِلْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ أَيْ: بِمُصَدِّقِينَ لَهُ فِيمَا يَقُولُهُ: قالَ رَبِّ انْصُرْنِي أَيْ: قَالَ نَبِيُّهُمْ لَمَّا عَلِمَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَهُ أَلْبَتَّةَ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَيْهِمْ وَانْتَقِمْ لِي مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ أَيْ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُجِيبًا لِدُعَائِهِ وَاعِدًا لَهُ بِالْقَبُولِ لِمَا دَعَا بِهِ: عَمَّا قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَانِ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنِ التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَمَا فِي «عَمَّا قَلِيلٍ» مَزِيدَةٌ بَيْنَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلتَّوْكِيدِ لِقِلَّةِ الزَّمَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ «2» ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهَا أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وَحَاقَ بِهِمْ عَذَابُهُ وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ سَخَطُهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: صَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَعَ الرِّيحِ الَّتِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهَا فَمَاتُوا جَمِيعًا.
وَقِيلَ: الصَّيْحَةُ هِيَ نَفْسُ الْعَذَابِ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً ... خَرُّوا لِشِدَّتِهَا عَلَى الْأَذْقَانِ
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخْذِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا صَارُوا إِلَيْهِ بَعْدَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ، فَقَالَ:
فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أَيْ: كَغُثَاءِ السَّيْلِ الَّذِي يَحْمِلُهُ. وَالْغُثَاءُ: مَا يَحْمِلُ السَّيْلُ مِنْ بَالِي الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَاءِ. وَالْمَعْنَى: صَيَّرَهُمْ هَلْكَى فَيَبِسُوا كَمَا يَبِسَ الْغُثَاءُ فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ انْتِصَابُ «بُعْدًا» عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي لَا يُذْكَرُ فِعْلُهَا مَعَهَا، أَيْ: بَعُدُوا بُعْدًا، وَاللَّامُ لِبَيَانِ مَنْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاسْلُكْ فِيها يَقُولُ: اجْعَلْ مَعَكَ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً قَالَ لِنُوحٍ حِينَ أُنْزِلَ مِنَ السَّفِينَةِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُعَلِّمُكُمْ سُبْحَانَهُ كَيْفَ تَقُولُونَ إِذَا رَكِبْتُمْ، وَكَيْفَ تَقُولُونَ إذا نزلتم. أما عند الركوب:
__________
(1) . يوسف: 23.
(2) . آل عمران: 159.(3/572)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ- وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ «1» وَ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «2» ، وَعِنْدَ النُّزُولِ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: قَرْناً قَالَ: أُمَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَيْهاتَ هَيْهاتَ قَالَ: بِعِيدٌ بَعِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً قَالَ: جُعِلُوا كالشيء الميت البالي من الشجر.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 56]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46)
فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
قوله: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ قِيلَ: هُمْ قَوْمُ صَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ كَمَا وَرَدَتْ قِصَّتُهُمْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي الْأَعْرَافِ وَهُودٍ، وَقِيلَ: هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ، وَلَعَلَّ وَجْهُ الْجَمْعِ هُنَا لِلْقُرُونِ وَالْإِفْرَادِ فِيمَا سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّهُ أَرَادَ هَاهُنَا أُمَمًا مُتَعَدِّدَةً وَهُنَاكَ أُمَّةً وَاحِدَةً. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَمَالَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي شَأْنِ عِبَادِهِ، فَقَالَ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ أَيْ: مَا تَتَقَدَّمُ كُلُّ طَائِفَةٍ مُجْتَمِعَةٍ فِي قَرْنٍ آجَالَهَا الْمَكْتُوبَةَ لَهَا فِي الْهَلَاكِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «3» ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ رُسُلَهُ كَانُوا بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ مُتَوَاتِرِينَ، وَأَنَّ شَأْنَ أُمَمِهِمْ كَانَ وَاحِدًا فِي التَّكْذِيبِ لَهُمْ فَقَالَ: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِمَعْنَى أَنَّ إِرْسَالَ كُلِّ رَسُولٍ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْقَرْنِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ، لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ جَمِيعًا مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِنْشَاءِ تلك القرون جميعا، ومعنى تَتْرا تَتَوَاتَرُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَيَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مِنَ الْوِتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَاتَرْتُ كُتُبِي عَلَيْهِ: أَتْبَعْتُ بَعْضَهَا بَعْضًا إِلَّا أَنَّ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ الْآخَرِ مُهْلَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُتَوَاتِرَةُ: الْمُتَتَابِعَةُ بِغَيْرِ مُهْلَةٍ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَمْرٍو «تَتْرَى» بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ «تَتْرَى» بِكَسْرِ التَّاءِ الْأُولَى. لِأَنَّ مَعْنَى ثُمَّ أرسلنا: وواترنا،
__________
(1) . الزخرف: 13 و 14.
(2) . هود: 41.
(3) . الأعراف: 34.(3/573)
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مُتَوَاتِرِينَ كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَجِيءِ كُلِّ رَسُولٍ لِأُمَّتِهِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَجِيءِ التَّبْلِيغُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أَيْ: فِي الْهَلَاكِ بِمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ الْأَحَادِيثُ: جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ، وَهِيَ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، كَالْأَعَاجِيبِ جَمْعُ أُعْجُوبَةٍ، وَهِيَ مَا يَتَعَجَّبُ النَّاسُ مِنْهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا يُقَالُ «جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ» فِي الشَّرِّ وَلَا يُقَالُ فِي الْخَيْرِ، كَمَا يُقَالُ: صَارَ فُلَانٌ حَدِيثًا، أَيْ: عِبْرَةً، وَكَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
«1» . قُلْتُ: وَهَذِهِ الْكُلِّيَّةُ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ فَقَدْ يُقَالُ: صَارَ فُلَانٌ حَدِيثًا حَسَنًا، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ:
وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيثٌ بَعْدَهُ ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ وَصَفَهُمْ هُنَا بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَفِيمَا سَبَقَ قَرِيبًا بِالظُّلْمِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ صَادِرًا عَنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، أَوْ لِكَوْنِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ عَدَمِ التَّصْدِيقِ، وَأُولَئِكَ ضَمُّوا إِلَيْهِ تِلْكَ الْأَقْوَالَ الشَّنِيعَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ أَشَدِّ الظُّلْمِ وَأَفْظَعِهِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ مَا وَقَعَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عِنْدَ إِرْسَالِ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا هِيَ التِّسْعُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَا يَصِحُّ عَدُّ فَلْقِ الْبَحْرِ مِنْهَا هُنَا لِأَنَّ الْمُرَادَ الْآيَاتُ الَّتِي كَذَّبُوا بِهَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا. وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ:
الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ. قِيلَ: هِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ نَفْسُهَا، وَالْعَطْفُ مِنْ بَابِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ
............... ....
وَقِيلَ: أَرَادَ الْعَصَا لِأَنَّهَا أُمُّ الْآيَاتِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ جِبْرِيلَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالآيات التي كانت لهما، وبالسلطان: الدلائل، والمبين: التِّسْعُ الْآيَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَلَأِ فِي قَوْلِهِ: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ هُمُ الْأَشْرَافُ مِنْهُمْ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَاسْتَكْبَرُوا أَيْ: طَلَبُوا الْكِبْرَ وَتَكَلَّفُوهُ فَلَمْ يَنْقَادُوا لِلْحَقِّ وَكانُوا قَوْماً عالِينَ قَاهِرِينَ لِلنَّاسِ بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، مُسْتَعْلِينَ عَلَيْهِمْ، مُتَطَاوِلِينَ كِبْرًا وِعِنَادًا وَتَمَرُّدًا.
وَجُمْلَةُ فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا مَعْطُوفَةٌ على جملة فَاسْتَكْبَرُوا وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: كَيْفَ نُصَدِّقُ مَنْ كَانَ مِثْلَنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَالْبَشَرُ يطلق على الواحد كقوله: بَشَراً سَوِيًّا
«2» كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجَمْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً «3» فَتَثْنِيَتُهُ هُنَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَأَفْرَدَ الْمَثَلَ لِأَنَّهُ فِي حُكْمٍ الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَى وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ أَنَّهُمْ مُطِيعُونَ لَهُمْ، مُنْقَادُونَ لِمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ كَانْقِيَادِ الْعَبِيدِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْعَابِدُ: الْمُطِيعُ الْخَاضِعُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ دَانَ لِمَلِكٍ عَابِدًا لَهُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ فَدَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَتِهِ فَأَطَاعُوهُ، وَاللَّامُ فِي لَنا مُتَعَلِّقَةٌ بِعَابِدُونَ، قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. فَكَذَّبُوهُما أَيْ: فَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمَا فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بِالْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ مَا جَرَى عَلَى قَوْمِ مُوسَى بَعْدَ إِهْلَاكِ عَدْوِهِمْ فَقَالَ:
__________
(1) . سبأ: 19.
(2) . مريم: 17.
(3) . مريم: 26.(3/574)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي التَّوْرَاةَ، وَخَصَّ مُوسَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ فِي الطُّورِ، وَكَانَ هَارُونُ خَلِيفَتَهُ فِي قَوْمِهِ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أَيْ: لَعَلَّ قَوْمَ مُوسَى يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ إِيتَاءَ مُوسَى إِيَّاهَا إِيتَاءً لِقَوْمِهِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُنَزَّلَةً عَلَى مُوسَى فَهِيَ لِإِرْشَادِ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ ثَمَّ مُضَافًا مَحْذُوفًا أُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَيْ: آتَيْنَا قَوْمَ مُوسَى الْكِتَابَ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «لَعَلَّهُمْ» يَرْجِعُ «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» ، وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يُؤْتَ التَّوْرَاةَ إِلَّا بَعْدَ إِهْلَاكِ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى «1» ثُمَّ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى قِصَّةِ عِيسَى إِجْمَالًا فَقَالَ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً أَيْ: عَلَامَةً تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِنَا، وَبَدِيعِ صُنْعِنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «2» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، أَيْ: جَعَلْنَاهُمَا يَأْوِيَانِ إِلَيْهَا. قِيلَ: هِيَ أَرْضُ دِمَشْقَ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُقَاتِلٌ وَقِيلَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَكَعْبٌ وَقِيلَ: أَرْضُ فِلَسْطِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ ذاتِ قَرارٍ أَيْ: ذَاتِ مُسْتَقَرٍّ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ سَاكِنُوهُ وَمَعِينٍ أَيْ: وَمَاءٍ مَعِينٍ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الْمَاءُ الْجَارِي فِي الْعُيُونِ، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع، وَقِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
قَالَ عَلِيُّ بن سليمان الأخفش: معن الماء إذا جرى فهو معين ومعيون. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَقِيلَ:
هُوَ مَأْخُوذٌ من الماعون، وهو النفع، وبمثل ما قاله الزجاج قال الفراء. يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ مخاطبة لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَدَلَّ الْجَمْعُ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ كَذَا أُمِرُوا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ خُوطِبَ بِهَا كُلُّ نَبِيٍّ، لِأَنَّ هَذِهِ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي يَنْبَغِي لَهُمُ الْكَوْنُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَقُلْنَا يا أيها الرسل خطابا بكل وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ لِاخْتِلَافِ أَزْمِنَتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْخُطَّابَ لِعِيسَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَفُّوا عَنَّا. وَالطَّيِّبَاتُ: مَا يُسْتَطَابُ وَيُسْتَلَذُّ، وَقِيلَ: هِيَ الْحَلَالُ، وَقِيلَ: هِيَ مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. ثُمَّ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَقَالَ: وَاعْمَلُوا صالِحاً أَيْ:
عَمَلًا صَالِحًا وَهُوَ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنِّي مُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا خُوطِبَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ مِلَّتَكُمْ وَشَرِيعَتَكُمْ أَيُّهَا الرُّسُلُ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَشَرِيعَةً مُتَّحِدَةً يَجْمَعُهَا أَصْلٌ هُوَ أَعْظَمُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَأَنْزَلَ فِيهِ كُتُبَهُ، وَهُوَ دُعَاءُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى عبادة الله وحده لَا شَرِيكَ لَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ دِينُكُمْ وَمِلَّتُكُمْ فَالْزَمُوهُ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمَّةِ هُنَا الدِّينُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «3» ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ
__________
(1) . القصص: 43.
(2) . الأنبياء: 91.
(3) . الزخرف: 22.(3/575)
قُرِئَ بِكَسْرٍ إِنَّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْمُقَرِّرِ لِمَا تَقَدَّمَهُ، وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِهَا. قَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِمَا زَالَ الْخَافِضِ، أَيْ: أَنَا عَالِمٌ بِأَنَّ هَذَا دِينَكُمُ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
«إِنَّ» مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَتَقْدِيرُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ أَمَتُّكُمْ. وقال سيبويه: هي متعلقة ب «فاتقون» وَالتَّقْدِيرُ: فَاتَّقُونِ لِأَنَّ أُمَّتَكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَالْفَاءُ فِي فَاتَّقُونِ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِهِ رَبَّكُمُ الْمُخْتَصَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ، أَيْ: لَا تَفْعَلُوا مَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ عَلَيْكُمْ مِنِّي بِأَنْ تُشْرِكُوا بِي غَيْرِي، أَوْ تُخَالِفُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ أَوْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا وَقَعَ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، فَقَالَ: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ عِصْيَانِهِمْ عَلَى مَا سبق من الأمر بالتقوى، والضمير يرجع إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأُمَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَعَلُوا دِينَهُمْ مَعَ اتِّحَادِهِ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً مُخْتَلِفَةً. قَالَ الْمُبَرِّدُ: زُبُرًا: فِرَقًا وَقِطَعًا مُخْتَلِفَةً، وَاحِدُهَا زَبُورٌ، وَهِيَ الْفِرْقَةُ وَالطَّائِفَةُ، وَمِثْلُهُ الزُّبْرَةُ وَجَمْعُهَا زُبُرٌ، فَوَصَفَ سُبْحَانَهُ الْأُمَمَ بِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا، فَاتَّبَعَتْ فِرْقَةٌ التَّوْرَاةَ، وَفِرْقَةٌ الزَّبُورَ، وَفِرْقَةٌ الْإِنْجِيلَ، ثُمَّ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، وَفِرْقَةٌ مُشْرِكَةٌ تَبِعُوا مَا رَسَمَهُ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ. قُرِئَ زُبُراً بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ زَبُورٍ، وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا، أَيْ: قِطَعًا كَقِطَعِ الْحَدِيدِ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أَيْ: كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ بِمَا لَدَيْهِمْ، أَيْ: بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الدِّينِ فَرِحُونَ، أَيْ:
مُعْجَبُونَ بِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيِ: اتْرُكْهُمْ فِي جَهْلِهِمْ، فَلَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلْهِدَايَةِ، وَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، فَلِكُلِّ شَيْءٍ وَقْتٌ. شَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ بِالْمَاءِ الَّذِي يَغْمُرُ مَنْ دَخَلَ فِيهِ، وَالْغَمْرَةُ فِي الْأَصْلِ مَا يَغْمُرُكَ وَيَعْلُوكَ، وَأَصِلُهُ السِّتْرِ، وَالْغَمْرُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْأَرْضَ، وَغَمْرُ الرِّدَاءِ هُوَ الَّذِي يَشْمَلُ النَّاسَ بِالْعَطَاءِ، وَيُقَالُ لِلْحِقْدِ الْغَمْرِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْحَيْرَةُ وَالْغَفْلَةُ وَالضَّلَالَةُ، وَالْآيَةُ خَارِجَةٌ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ لَهُمْ، لَا مَخْرَجَ الْأَمْرِ لَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَمَعْنَى حَتَّى حِينٍ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْتُ عَذَابِهِمْ بِالْقَتْلِ، أَوْ حَتَّى يَمُوتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَيُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ أَيْ:
أَيَحْسَبُونَ أَنَمَا نُعْطِيهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْبَنِينِ نُسارِعُ بِهِ لَهُمْ فِيمَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَإِكْرَامُهُمْ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَلْ لَا يَشْعُرُونَ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَنْسَحِبُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: كَلَّا لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، بَلْ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِشَيْءٍ أَصْلًا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْهَمُ وَلَا تَعْقِلُ، فَإِنَّ مَا خَوَّلْنَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِهِ مِنَ الْخَيِّرَاتِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «1» . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى نُسَارِعُ لَهُمْ بِهِ فِي الخيرات، فحذفت به، وما فِي «إِنَّمَا» مَوْصُولَةٌ، وَالرَّابِطُ هُوَ هَذَا الْمَحْذُوفُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ إِنَّمَا هُنَا حَرْفٌ وَاحِدٌ فلا يحتاج إلى تقدير رابط.
قيل: يجوز الْوَقْفُ عَلَى «بَنِينَ» ، وَقِيلَ: لَا يَحْسُنُ لِأَنَّ «يَحْسَبُونَ» يَحْتَاجُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَتَمَامُ الْمَفْعُولَيْنِ «فِي الْخَيْرَاتِ» . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ «مَا» كَافَّةٌ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ «يُسَارِعُ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ «نمدّ» ، وهو الإمداد، ويجوز أن يكون
__________
(1) . آل عمران: 178. [.....](3/576)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
الْمَعْنَى: يُسَارِعُ اللَّهُ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نُسارِعُ بِالنُّونِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ الصَّوَابُ لقوله «نمدّهم» .
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا قَالَ:
يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: بَعْضُهُمْ عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جرير وابن المنذر وابن أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً قَالَ: وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ آيَةً قَالَ: عِبْرَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ قال: الربوة: المستوية، والمعنى: الْمَاءُ الْجَارِي، وَهُوَ النَّهْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ قَالَ: هِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِيهِ النَّبَاتُ ذاتِ قَرارٍ ذَاتَ خِصْبٍ، وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الظَّاهِرُ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حاتم وتمام الرازي وابن عَسَاكِرٍ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبْوَةٍ قَالَ: أَنْبَئَنَا أَنَّهَا دِمَشْقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِثْلَهُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مردويه وابن عساكر عن مرة البهزي، سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الرَّبْوَةُ: الرَّمَلَةُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: هِيَ الرَّمْلَةُ من فلسطين. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وابن السكن وابن مندة وأبو نعيم وابن عساكر عن الأقرع ابن شُفِيٍّ الْعَكِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ «2» ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ حَفْصٍ الْفَزَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ قَالَ: ذَلِكَ عِيسَى بن مَرْيَمَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدَانُ فِي «الصَّحَابَةِ» عَنْ حَفْصٍ مَرْفُوعًا، وَهُوَ مُرْسَلٌ لأن حفصا تابعي.
__________
(1) . مريم: 24.
(2) . البقرة: 172.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 67]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)(3/577)
لَمَّا نَفَى سُبْحَانَهُ الْخَيِّرَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ عَنِ الْكَفَرَةِ الْمُتَنَعِّمِينَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْخَيِّرَاتِ عَاجِلًا وَآجِلًا فَوَصَفَهُمْ بِصِفَاتٍ أَرْبَعٍ: الْأُولَى قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ الْإِشْفَاقُ: الْخَوْفُ، تَقُولُ أَنَا مُشْفِقٌ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ: خَائِفٌ. قِيلَ: الْإِشْفَاقُ هُوَ الْخَشْيَةُ، فَظَاهِرُ مَا فِي الْآيَةِ التَّكْرَارُ. وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْخَشْيَةِ عَلَى الْعَذَابِ، أَيْ: مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ خَائِفُونَ، وَبِهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ. وَأُجِيبَ أَيْضًا بِحَمْلِ الْإِشْفَاقِ عَلَى مَا هُوَ أَثَرٌ لَهُ، وَهُوَ الدَّوَامُ عَلَى الطَّاعَةِ، أَيْ: الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ دَائِمُونَ عَلَى طَاعَتِهِ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ الْإِشْفَاقَ كَمَالُ الْخَوْفِ فَلَا تَكْرَارَ، وَقِيلَ: هُوَ تَكْرَارٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ هِيَ التَّنْزِيلِيَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ التَّكْوِينِيَّةُ، وَقِيلَ:
مَجْمُوعُهُمَا، قِيلَ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِهَا هو التصديق بوجودها فقط، فإن ذلك معلوم بالضرورة ولا يوجب المدح، بل المراد التَّصْدِيقُ بِكَوْنِهَا دَلَائِلَ وَأَنَّ مَدْلُولَهَا حَقٌّ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ أَيْ: يَتْرُكُونَ الشِّرْكَ تَرْكًا كُلِيًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أَيْ: يَعْطُونَ مَا أَعْطُوا وَقُلُوبُهُمْ خَائِفَةٌ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَجُمْلَةُ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ قُلُوبَهُمْ خَائِفَةٌ أَشَدَّ الْخَوْفِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قُلُوبُهُمْ خَائِفَةٌ لِأَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، وَسَبَبُ الْوَجَلِ هُوَ أَنْ يَخَافُوا أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، لَا مُجَرَّدُ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ الرُّجُوعَ إِلَى الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ وَعَلِمَ أَنَّ الْمُجَازِيَ وَالْمُحَاسِبَ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ وَجَلٍ.
قَرَأَتْ عَائِشَةُ وابن عَبَّاسٍ وَالنَّخْعِيُّ «يَأْتُونَ مَا أَتَوْا» مَقْصُورًا مِنَ الْإِتْيَانِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَمْ تُخَالِفْ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُلْزِمُ فِي الْهَمْزِ الْأَلْفَ فِي كُلِّ الحالات. قال النحاس: معنى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَمَعْنَى يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يُبَادِرُونَ بِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: ينافسون فيها، وَقُرِئَ «يُسْرِعُونَ» . وَهُمْ لَها سابِقُونَ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ، وَالْمَعْنَى: هُمْ سَابِقُونَ إِيَّاهَا، وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «1» أَيْ: أَوْحَى إِلَيْهَا، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الشَّاعِرِ «2» :
تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي ... وَمَا قَصَدْتَ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا «3»
أَيْ: إِلَى سِوَائِكَا، وَقِيلَ: الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَهُمْ سَابِقُونَ النَّاسَ لِأَجْلِهَا. ثُمَّ لَمَّا انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ ذَكَرَ لَهُمَا حُكْمَيْنِ، الْأَوَّلُ قَوْلِهِ: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الْوُسْعُ: هو
__________
(1) . الزلزلة: 5.
(2) . هو الأعشى.
(3) . «تجانف» : تنحرف. «جو» : هو ما اتسع من الأودية.(3/578)
الطَّاقَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِي تَفْسِيرِ الْوُسْعِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الطَّاقَةُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ دُونَ الطَّاقَةِ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ. وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: لِأَنَّ الْوُسْعَ إِنَّمَا سمّي وسعا لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ عَلَى فَاعِلِهِ فِعْلُهُ وَلَا يَضِيقُ عليه، فمن لم يستطع الجلوس فليوم إِيمَاءً، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ فَلْيُفْطِرْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى مَا وُصِفَ بِهِ السَّابِقُونَ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ الْمُؤَدِّي إِلَى نَيْلِ الْكَرَامَاتِ بِبَيَانِ سُهُولَتِهِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ حَدِّ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ عَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي تَكْلِيفِ عِبَادِهِ، وَجُمْلَةُ وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ مِنْ تَمَامِ مَا قَبْلَهَا مِنْ نَفْيِ التَّكْلِيفِ بِمَا فَوْقَ الْوُسْعِ وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، أَيْ: عِنْدَنَا كِتَابٌ قَدْ أَثْبَتَ فِيهِ أَعْمَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى يَنْطِقُ بِالْحَقِّ يَظْهَرُ بِهِ الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ مِنْ دُونِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» ، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ لِلْعُصَاةِ وَتَأْنِيسٌ لِلْمُطِيعِينَ مِنَ الْحَيْفِ وَالظُّلْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَإِنَّهُ قَدْ كُتِبَ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْبِيهٌ لِلْكِتَابِ بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ الْبَيَانُ بِالنُّطْقِ بِلِسَانِهِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ يُعْرِبُ عَمَّا فِيهِ كَمَا يُعْرِبُ النَّاطِقُ الْمُحِقُّ. وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ. يَتَعَلَّقُ بِيَنْطِقُ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ، أَيْ: يَنْطِقُ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ تفضّله وعدله في جزاء عباده، أي: لا يظلمون بنقص ثواب أو بزيادة عِقَابٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «2» ، ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا فَقَالَ: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَالضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ، أَيْ: بَلْ قلوب الكفار في غمرة لَهَا عَنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي يَنْطِقُ بِالْحَقِّ، أَوْ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، يُقَالُ: غَمَرَهُ الْمَاءُ: إِذَا غَطَّاهُ، وَنَهْرٌ غَمْرٌ: يُغَطِّي مَنْ دَخَلَهُ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْغِطَاءُ وَالْغَفْلَةُ أَوِ الْحَيْرَةُ وَالْعَمَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَمْرَةِ قَرِيبًا. وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ لَهُمْ خَطَايَا لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ دُونِ الْحَقِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى وَلَهُمْ أَعْمَالٌ رَدِيئَةٌ لَمْ يَعْمَلُوهَا مِنْ دُونِ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا فَيَدْخُلُونَ بِهَا النَّارَ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِمَّا إِلَى أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ إِلَى أَعْمَالِ الْكُفَّارِ، أَيْ: لَهُمْ أَعْمَالٌ مَنْ دُونِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ، أَوْ مِنْ دُونِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ كَوْنِ قُلُوبِهِمْ فِي غَفْلَةٍ عَظِيمَةٍ مِمَّا ذُكِرَ، وَهِيَ فُنُونُ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا سَيَأْتِي مِنْ طَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصْحَابِ الْمَعَانِي عَلَى أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا سَيَعْمَلُونَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَجُمْلَةُ هُمْ لَها عامِلُونَ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا فَيَدْخُلُوا بِهَا النَّارَ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى وَصْفِ الْكُفَّارِ فَقَالَ:
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ حَتَّى هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ، وَالْكَلَامُ هُوَ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالضَّمِيرُ فِي مُتْرَفِيهِمْ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتْرَفِينَ الْمُتَنَعِّمِينَ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِمُ الرؤساء منهم.
__________
(1) . الجاثية: 29.
(2) . الكهف: 49.(3/579)
وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُوَ عَذَابُهُمْ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ بِالْجُوعِ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عليهم حَيْثُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» . وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَرَجَّحَ هَذَا بِأَنَّ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَنِ الْجُؤَارِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَذَابِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ الِاسْتِغَاثَةُ بِاللَّهِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَا فِي سِنِي الْجُوعِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْجُؤَارَ فِي اللُّغَةِ الصُّرَاخُ وَالصِّيَاحُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجُؤَارُ مِثْلُ الْخُوَارِ، يُقَالُ: جَأَرَ الثَّوْرُ يَجْأَرُ أَيْ صَاحَ، وَقَدْ وقع منهم ومن أهلهم وأولادهم عند ما عُذِّبُوا بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَبِالْجُوعِ فِي سِنِي الجوع، وليس الجؤار هاهنا مقيد بِالْجُؤَارِ الَّذِي هُوَ التَّضَرُّعُ بِالدُّعَاءِ حَتَّى يَتِمَّ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، وَجُمْلَةُ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَإِذَا هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، وَالْمَعْنَى: حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فاجؤوا بِالصُّرَاخِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ عَلَى جِهَةِ التَّبْكِيتِ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ فَالْقَوْلُ مُضْمَرٌ، وَالْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَبْكِيتِهِمْ وِإِقْنَاطِهِمْ وَقَطْعِ أَطْمَاعِهِمْ وَخَصَّصَ سُبْحَانَهُ الْمُتْرَفِينَ مَعَ أَنَّ الْعَذَابَ لا حق بِهِمْ جَمِيعًا، وَاقِعٌ عَلَى مُتْرَفِيهِمْ وَغَيْرِ مُتْرَفِيهِمْ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ بَعْدَ النِّعْمَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا صَارُوا عَلَى حَالَةِ تُخَالِفُهَا وَتُبَايِنُهَا، فَانْتَقَلُوا مِنَ النَّعِيمِ التَّامِّ إِلَى الشَّقَاءِ الْخَالِصِ، وَخُصَّ الْيَوْمُ بِالذِّكْرِ لِلتَّهْوِيلِ، وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ تعليل للنهي على الجوار، وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ مِنْ عَذَابِنَا لَا تُمْنَعُونَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ جَزَعُكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
إِنَّكُمْ لَا يَلْحَقُكُمْ مِنْ جِهَتِنَا نُصْرَةٌ تَمْنَعُكُمْ مِمَّا دَهَمَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ. ثُمَّ عَدَّدَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ قَبَائِحَهُمْ تَوْبِيخًا لَهُمْ فَقَالَ: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أَيْ: تَرْجِعُونَ وَرَاءَكُمْ، وَأَصْلُ النُّكُوصِ أَنْ يَرْجِعَ الْقَهْقَرَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
زعموا بأنّهم على سبل النّجا ... ة وإنّما نكص على الأعقاب
وهو هنا استعار لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ «عَلَى أَدْبَارِكُمْ» بَدَلَ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ بِضَمِّ الْكَافِ، وَعَلَى أَعْقَابِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِتَنْكِصُونَ، أَوْ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ الضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَقِيلَ: لِلْحَرَمِ، وَالَّذِي سَوَّغَ الْإِضْمَارَ قَبْلَ الذِّكْرِ اشْتِهَارُهُمْ بِالِاسْتِكْبَارِ بِهِ وَافْتِخَارُهُمْ بِوِلَايَتِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا يَظْهَرُ عَلَيْنَا أَحَدٌ لِأَنَّا أَهْلُ الْحَرَمِ وَخُدَّامُهُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ سَمَاعَهُ يُحْدِثُ لَهُمْ كِبْرًا وَطُغْيَانًا فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَبَيَّنَهُ بِمَا ذَكَرْنَا. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ بِهِ مُتَعَلِّقَا بِمُسْتَكْبِرِينَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِ سامِراً لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ بِاللَّيْلِ يَسْمُرُونَ، وَكَانَ عَامَّةُ سَمَرِهِمْ ذِكْرَ الْقُرْآنِ وَالطَّعْنَ فِيهِ، وَالسَّامِرُ كَالْحَاضِرِ فِي الْإِطْلَاقِ عَلَى الْجَمْعِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: السَّامِرُ: الْجَمَاعَةُ يَسْمُرُونَ بِاللَّيْلِ، أَيْ: يَتَحَدَّثُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ بِقَوْلِهِ: تَهْجُرُونَ وَالْهَجْرُ بِالْفَتْحِ الْهَذَيَانُ، أَيْ: تَهْذُونَ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْهُجْرِ بِالضَّمِّ، وَهُوَ الْفُحْشُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو حَيْوَةَ «سُمَّرًا» بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو رَجَاءٍ «سَمَارًا» وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَانْتِصَابُ سَامِرًا عَلَى الْحَالِ إِمَّا مِنْ فَاعِلِ تَنْكِصُونَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُسْتَكْبِرِينَ، وَقِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْفَاعِلِ،(3/580)
يُقَالُ قَوْمٌ سَامِرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ
قَالَ الرَّاغِبُ: وَيُقَالُ سَامِرٌ وَسُمَّارٌ وَسُمْرٌ وَسَامِرُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَهْجُرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ وَضَمِّ الْجِيمِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، مِنْ أَهْجَرَ، أَيْ: أَفْحَشَ فِي مَنْطِقِهِ. وقرأ زيد ابن عَلِيٍّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو نَهِيكٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مُشَدَّدَةً، مُضَارِعَ هَجَّرَ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ كَالْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي نَعْتِ الْخَائِفِينَ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْلُ اللَّهِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَهْوَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُصَلِّي، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ أَنْ لَا يَتَقَبَّلَ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا قَالَ: يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قَالَ: يَعْمَلُونَ خَائِفِينَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا قَالَ: الزَّكَاةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا قَالَتْ: هُمُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ وَيُطِيعُونَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ كَمَا أَقْرَأُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ، فَقَالَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا هِيَ قَالَتِ:
الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقَدْ قَدَّمْنَا ذكر قراءتها ومعناها. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قرأ: والذين يأتون مَا آتَوْا مَقْصُورًا مِنَ الْمَجِيءِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بن منصور وأحمد وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عبيد بن عمير أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا؟ قَالَتْ: أَيَّتُهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ. قُلْتُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَحَدِهِمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وما فيها جميعا، قالت: أيهما؟ قلت: الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، وَلَكِنَّ الْهِجَاءَ حَرْفٌ. وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ قَالَ: سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا يَعْنِي بِالْغَمْرَةِ الْكُفْرَ وَالشَّكَّ وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ يَقُولُ: أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ دُونَ الشِّرْكِ هُمْ لَها عامِلُونَ قَالَ: لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْهُ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ(3/581)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ قَالَ: يَسْتَغِيثُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ قَالَ: تُدْبِرُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: سامِراً تَهْجُرُونَ قَالَ: تَسْمُرُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَتَقُولُونَ هُجْرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ قال: بحرم الله أنه لا يظهر عليهم فيه أحد. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا سامِراً تَهْجُرُونَ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَتَحَلَّقُونَ حِلَقًا يَتَحَدَّثُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَهْجُرُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْقَوْلِ فِي سَمَرِهِمْ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
إِنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 الى 83]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
قَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ سَبَبَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ هُوَ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ:
الْأَوَّلُ عَدَمُ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ تَدَبَّرُوا مَعَانِيَهُ لَظَهَرَ لَهُمْ صِدْقُهُ وَآمَنُوا بِهِ وَبِمَا فِيهِ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: فَعَلُوا مَا فَعَلُوا فَلَمْ يَتَدَبَّرُوا، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْقُرْآنُ، وَمِثْلُهُ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ «1» . وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، أَيْ:
بل أجاءهم مِنَ الْكِتَابِ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؟ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِنْكَارِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَالْمَقْصُودُ تَقْرِيرُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ رَسُولٌ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ «2» وَقِيلَ: إِنَّهُ أَتَى آبَاءَهُمُ الْأَقْدَمِينَ رُسُلٌ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ. كَمَا هِيَ سُنَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى عِبَادِهِ، فَقَدْ عَرَفَ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ كَذَّبُوا هَذَا الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَمْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَمْنِ مِنْ عذاب
__________
(1) . النساء: 82.
(2) . يس: 6.(3/582)
اللَّهِ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ كَإِسْمَاعِيلَ وَمَنْ بَعْدَهُ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَفِي هَذَا إِضْرَابٌ وَانْتِقَالٌ مِنَ التَّوْبِيخِ بِمَا تَقَدَّمَ إِلَى التَّوْبِيخِ بِوَجْهٍ آخَرَ، أَيْ: بَلْ أَلَمْ يَعْرِفُوهُ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ فَأَنْكَرُوهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوهُ بِذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ وَهَذَا أَيْضًا انْتِقَالٌ مِنْ تَوْبِيخٍ إِلَى تَوْبِيخٍ، أَيْ: بَلْ أَتَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ، أَيْ: جُنُونٌ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ جَاءَ بِمَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ، فَدَفَعُوهُ وَجَحَدُوهُ تَعَصُّبًا وَحَمِيَّةً. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَالَ: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا فِي حَقِّ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ، بَلْ جَاءَهُمْ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ:
هُوَ الدِّينُ الْقَوِيمُ. وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّعَصُّبِ، وَالِانْحِرَافِ عَنِ الصَّوَابِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْحَقِّ، فَلِذَلِكَ كَرِهُوا هَذَا الْحَقَّ الْوَاضِحَ الظَّاهِرَ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ أَقَلَّهُمْ كَانُوا لَا يَكْرَهُونَ الْحَقَّ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا الْإِيمَانَ خَوْفًا مِنَ الْكَارِهِينَ لَهُ. وَجُمْلَةُ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الْحَقُّ عَلَى مَا يَهْوَوْنَهُ وَيُرِيدُونَهُ لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِلْفَسَادِ الْعَظِيمِ، وَخُرُوجِ نِظَامِ الْعَالَمِ عَنِ الصَّلَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: لَوْ جَعَلَ مَعَ نَفْسِهِ كَمَا يُحِبُّونَ شَرِيكًا لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ الْقُرْآنُ، أَيْ: لَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِمَا يُحِبُّونَ مِنَ الشِّرْكِ لَفَسَدَ نِظَامُ الْعَالَمِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ مَا يَقُولُونَ مِنَ اتِّحَادِ الْآلِهَةِ مَعَ اللَّهِ لَاخْتَلَفَتِ الْآلِهَةُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَكْثَرُونَ، وَلَكِنَّهُ يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو الحق المذكور قبله في قوله: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ ولا يصح أن يكون الْمُرَادَ بِهِ هُنَالِكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْحَقِّ هُنَا وَهُنَاكَ بِالصِّدْقِ الصَّحِيحِ مِنَ الدِّينِ الخالص من شرع الله، والمعنى: ولو وَرَدَ الْحَقُّ مُتَابِعًا لِأَهْوَائِهِمْ مُوَافِقًا لِفَاسِدِ مَقَاصِدِهِمْ لَحَصَلَ الْفَسَادُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ فِيهِنَّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «وَمَا بَيْنَهُمَا» وَسَبَبُ فَسَادِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ ظَاهِرٌ، وَهُوَ ذُنُوبُهُمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْهَوَى الْمُخَالِفُ لِلْحَقِّ، وَأَمَّا فَسَادُ مَا عَدَاهُمْ فَعَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِأَنَّهُمْ مُدَبَّرُونَ فِي الْغَالِبِ بِذَوِي الْعُقُولِ فَلَمَّا فَسَدُوا فَسَدُوا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ فَقَالَ: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْقُرْآنُ، أَيْ: بِالْكِتَابِ الَّذِي هُوَ فَخْرُهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «2» وَالْمَعْنَى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِفَخْرِهِمْ وَشَرَفِهِمُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْبَلُوهُ، وَيُقْبِلُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى بِذِكْرِهِمُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ ثَوَابُهُمْ وَعِقَابُهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: بِذِكْرِ مَا لَهُمْ بِهِ حَاجَةٌ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «أَتَيْتُهُمْ» بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ «أَتَيْتَهُمْ» بِتَاءِ الْخِطَابِ، أَيْ: أَتَيْتَهُمْ يَا مُحَمَّدُ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ «بِذِكْرَاهُمْ» وَقَرَأَ قَتَادَةُ «نُذَكِّرُهُمْ» بِالنُّونِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّذْكِيرِ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: الذِّكْرُ: هُوَ الْوَعْظُ وَالتَّحْذِيرُ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَيْ: هُمْ بِمَا فَعَلُوا مِنَ الِاسْتِكْبَارِ والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم
__________
(1) . الأنبياء: 22.
(2) . الزخرف: 44.(3/583)
مُعْرِضُونَ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ دَعْوَةَ نَبِيِّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لَيْسَتْ مَشُوبَةً بِأَطْمَاعِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً و «أم» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْمَعْنَى: أَمْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَسْأَلُهُمْ خرجا تأخذه على الرِّسَالَةِ، وَالْخَرْجُ:
الْأَجْرُ وَالْجَعْلُ، فَتَرَكُوا الْإِيمَانَ بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ لَمْ تَسْأَلْهُمْ ذَلِكَ وَلَا طَلَبْتَهُ مِنْهُمْ فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أَيْ: فَرِزْقُ رَبِّكَ الَّذِي يَرْزُقُكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَجْرُهُ الَّذِي يُعْطِيكَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا ذُكِرَ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «أَمْ تسألهم خراجا» وقرأ الباقون «خرجا» ، وكلّهم قرءوا فَخَراجُ إِلَّا ابْنَ عَامِرٍ وَأَبَا حَيْوَةَ فَإِنَّهُمَا قَرَآ: «فَخَرَجَ» بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَالْخَرْجُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُقَابِلًا لِلدَّخْلِ، يُقَالُ لِكُلِّ مَا تُخْرِجُهُ إِلَى غَيْرِكَ خَرْجًا، وَالْخَرَاجُ غَالِبٌ فِي الضَّرِيبَةِ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخَرْجُ الْمَصْدَرُ، وَالْخَرَاجُ الِاسْمُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ، فَقَالَ: الْخَرَاجُ: مَا لَزِمَكَ، وَالْخَرْجُ: مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْخَرْجُ مِنَ الرِّقَابِ، وَالْخَرَاجُ مِنَ الْأَرْضِ. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كون خراجه سبحانه خير. ثُمَّ لَمَّا أَثْبَتَ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِقَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ، وَنَفَى عَنْهُ أَضْدَادَ ذَلِكَ، قَالَ: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: إِلَى طَرِيقٍ وَاضِحَةٍ تَشْهَدُ الْعُقُولُ بِأَنَّهَا مُسْتَقِيمَةٌ غَيْرُ مُعْوَجَّةٍ، وَالصِّرَاطُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ، فَسُمِّيَ الدِّينُ طَرِيقًا لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَيْهِ. ثُمَّ وَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ يُقَالُ: نَكَبَ عَنِ الطَّرِيقِ يَنْكُبُ نُكُوبًا إِذَا عَدَلَ عَنْهُ وَمَالَ إِلَى غَيْرِهِ، وَالنُّكُوبُ وَالنَّكْبُ: الْعُدُولُ وَالْمَيْلُ، وَمِنْهُ النَّكْبَاءُ لِلرِّيحِ بَيْنَ رِيحَيْنِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعُدُولِهَا عَنِ المهابّ، و «عن الصِّرَاطِ» مُتَعَلِّقٌ بَنَاكِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَوْصُوفِينَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ عَنْ ذَلِكَ الصِّرَاطِ أَوْ جِنْسِ الصِّرَاطِ لَعَادِلُونَ عَنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ بِحَالٍ، فَقَالَ: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أَيْ: مِنْ قَحْطٍ وَجَدْبٍ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ أَيْ: لَتَمَادَوْا فِي طُغْيَانِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَعْمَهُونَ يَتَرَدَّدُونَ وَيَتَذَبْذَبُونَ وَيَخْبِطُونَ، وَأَصْلُ اللَّجَاجِ: التَّمَادِي فِي الْعِنَادِ، وَمِنْهُ اللَّجَّةُ بِالْفَتْحِ لِتَرَدُّدِ الصَّوْتِ، وَلُجَّةُ الْبَحْرِ: تَرَدُّدُ أَمْوَاجِهِ، وَلُجَّةُ اللَّيْلِ: تَرَدُّدُ ظلامه. وقيل: المعنى: رَدَدْنَاهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَلَمْ نُدْخِلْهُمُ النَّارَ وَامْتَحَنَّاهُمْ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا. وَالْعَذَابُ: قِيلَ هُوَ الْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ فِي سِنِي الْقَحْطِ، وقيل: المرض، وقيل: القتل يَوْمَ بَدْرٍ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: الْمَوْتُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ أَيْ: مَا خَضَعُوا وَلَا تَذَلَّلُوا، بَلْ أَقَامُوا عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ وَالِانْهِمَاكِ فِي مَعَاصِيهِ وَما يَتَضَرَّعُونَ أَيْ: وَمَا يَخْشَعُونَ لِلَّهِ فِي الشَّدَائِدِ عِنْدَ إِصَابَتِهَا لَهُمْ، وَلَا يَدْعُونَهُ لِرَفْعِ ذَلِكَ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ قِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ، وَقِيلَ: الْقَحْطُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أَيْ: مُتَحَيِّرُونَ، لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ، والإبلاس: التَّحَيُّرُ وَالْإِيَاسُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ مُبْلَسُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ(3/584)
مِنْ أَبْلَسَهُ، أَيْ: أَدْخَلَهُ فِي الْإِبْلَاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ النِّعَمِ الَّتِي أَعْطَاهُمْ، وَهِيَ نِعْمَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْأَفْئِدَةَ فَصَارَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مَعَهُمْ لِيَسْمَعُوا الْمَوَاعِظَ، وَيَنْظُرُوا الْعِبَرَ، وَيَتَفَكَّرُوا بِالْأَفْئِدَةِ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَلَمْ يَشْكُرُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ أَيْ: شُكْرًا قَلِيلًا حَقِيرًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّهُمْ لَا يَشْكُرُونَهُ أَلْبَتَّةَ، لَا أَنَّ لَهُمْ شُكْرًا قَلِيلًا. كَمَا يُقَالُ لِجَاحِدِ النِّعْمَةِ: مَا أقلّ شكره! أي: لا يشكره، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ «1» . وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: بَثَّكُمْ فِيهَا كَمَا تُبَثُّ الْحُبُوبُ لِتَنْبُتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ: تُجْمَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ تَفَرُّقِكُمْ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ عَلَى جهة الانفراد والاستقلال، وفي هذا تذكير بنعمة الْحَيَاةِ، وَبَيَانُ الِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ يَتَعَاقَبَانِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَقِيلَ:
اخْتِلَافُهُمَا: نُقْصَانُ أَحَدِهِمَا وَزِيَادَةُ الْآخَرِ، وَقِيلَ: تَكَرُّرُهُمَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ أَفَلا تَعْقِلُونَ كُنْهَ قُدْرَتِهِ وَتَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ إِلَّا التَّشَبُّثُ بِحَبْلِ التَّقْلِيدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادِ، فَقَالَ: بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ أَيْ: آبَاؤُهُمْ وَالْمُوَافِقُونَ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا قاله الأوّلون فقال: قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ فَهَذَا مُجَرَّدُ اسْتِبْعَادٍ لَمْ يَتَعَلَّقُوا فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الشُّبَهِ، ثُمَّ كَمَّلُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ أَيْ: وُعِدْنَا هَذَا الْبَعْثَ وَوُعِدَهُ آبَاؤُنَا الْكَائِنُونَ مِنْ قَبْلِنَا فَلَمْ نُصَدِّقْهُ كَمَا لَمْ يُصَدِّقْهُ مَنْ قَبْلَنَا، ثُمَّ صَرَّحُوا بِالتَّكْذِيبِ وَفَرُّوا إِلَى مُجَرَّدِ الزَّعْمِ الْبَاطِلِ، فَقَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَا هَذَا إِلَّا أَكَاذِيبُ الْأَوَّلِينَ الَّتِي سَطَرُوهَا فِي الْكُتُبِ، جَمْعُ أُسْطُورَةٍ كَأُحْدُوثَةٍ، وَالْأَسَاطِيرُ: الْأَبَاطِيلُ وَالتُّرَّهَاتُ وَالْكَذِبُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ قَالَ: عَرَفُوهُ وَلَكِنَّهُمْ حَسَدُوهُ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ قَالَ: الْحَقُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ قَالَ: بَيَّنَّا لَهُمْ. وَأَخْرَجُوا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ قَالَ: عَنِ الْحَقِّ لَحَائِدُونَ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، فَقَدْ أَكَلْنَا الْعِلْهِزَ، يَعْنِي: الْوَبَرَ بِالدَّمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ اسْتَعْصَوْا فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ابْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ لَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَهُوَ أَسِيرٌ فَخَلَّى سَبِيلَهُ لَحِقَ بِالْيَمَامَةِ، فَحَالَ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَيْنَ الْمِيرَةِ
__________
(1) . الأحقاف: 26.(3/585)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
مِنَ الْيَمَامَةِ حَتَّى أَكَلَتْ قُرَيْشٌ الْعِلْهِزَ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَقَدْ قَتَلْتَ الْآبَاءَ بِالسَّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْمَوَاعِظِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ قَالَ: أَيْ: لَمْ يتواضعوا في الدعاء ولو يَخْضَعُوا، وَلَوْ خَضَعُوا لِلَّهِ لَاسْتَجَابَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ قَالَ: قد مضى، كان يوم بدر.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 98]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ الْكُفَّارَ عَنْ أُمُورٍ لَا عُذْرَ لَهُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ فِيهَا، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ مِنْهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ، فَقَالَ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِأَهْلِ مَكَّةَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ الْخَلْقُ جَمِيعًا، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِمَنْ تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَأَخْبِرُونِي. وَفِي هَذَا تَلْوِيحٌ بِجَهْلِهِمْ وَفَرْطِ غَبَاوَتِهِمْ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ أَيْ: لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بَعْدَ اعْتِرَافِهِمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي التَّدَبُّرِ وَإِمْعَانِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَقُودُهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَرْكِ الْبَاطِلِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ- سَيَقُولُونَ لِلَّهِ جَاءَ سُبْحَانَهُ بِاللَّامِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى السُّؤَالِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: مَنْ رَبُّهُ، وَلِمَنْ هُوَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، كَقَوْلِكَ:
مَنْ رَبُّ هَذِهِ الدَّارِ؟ فَيُقَالُ: زَيْدٌ، وَيُقَالُ: لِزَيْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: «سَيَقُولُونَ اللَّهُ» بِغَيْرِ لَامٍ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ السُّؤَالِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْضَحُ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ بِاللَّامِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَيِّدُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ بِاللَّامِ بِدُونِ أَلِفٍ، وهكذا قرأ الجمهور في قوله: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- سَيَقُولُونَ لِلَّهِ بِاللَّامِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى السُّؤَالِ كَمَا سَلَفَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْعِرَاقِ بِغَيْرِ لَامٍ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ السؤال، ومثل هذا قول الشاعر:(3/586)
إذ قِيلَ مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ وَالْقُرَى ... وَرَبُّ الْجِيَادِ الجرد قلت لِخَالِدُ
أَيْ: لِمَنِ الْمَزَالِفُ. وَالْمَلَكُوتُ: الْمُلْكُ، وَزِيَادَةُ التاء للمبالغة، ونحو جَبَرُوتٍ وَرَهَبُوتٍ، وَمَعْنَى وَهُوَ يُجِيرُ أَنَّهُ يُغِيثُ غَيْرَهُ إِذَا شَاءَ وَيَمْنَعُهُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي: لا يمنع أحدا أَحَدًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ وَإِغَاثَتِهِ، يُقَالُ: أَجَرْتُ فُلَانًا إِذَا اسْتَغَاثَ بِكَ فَحَمَيْتَهُ، وَأَجَرْتُ عَلَيْهِ: إِذَا حَمَيْتُ عَنْهُ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ: تُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ وَتُخْدَعُونَ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يُخَيَّلُ لَكُمُ الْحَقُّ بَاطِلًا وَالصَّحِيحُ فَاسِدًا، وَالْخَادِعُ لَهُمْ هُوَ الشَّيْطَانُ أَوِ الْهَوَى أَوْ كِلَاهُمَا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَدْ بَالَغَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ أَيِ: الْأَمْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي يَحِقُّ اتِّبَاعُهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِيمَا يَنْسُبُونَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ، ثُمَّ نَفَاهُمَا عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ «مِنْ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مَا يَدَّعِيهِ الكفار من إِثْبَاتِ الشَّرِيكِ، فَقَالَ: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وفي الكلام حذف تقديره: لو كان مع الله آلهة لا نفرد كُلُّ إِلَهٍ بِخَلْقِهِ، وَاسْتَبَدَّ بِهِ، وَامْتَازَ مُلْكُهُ عَنْ مُلْكِ الْآخَرِ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمُ التَّطَالُبُ وَالتَّحَارُبُ وَالتَّغَالُبُ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أَيْ: غَلَبَ الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَقَهَرَهُ، وَأَخَذَ مُلْكَهُ، كَعَادَةِ الْمُلُوكِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَحِينَئِذٍ فَذَلِكَ الضَّعِيفُ الْمَغْلُوبُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَإِذَا تَقَرَّرَ عَدَمُ إِمْكَانِ الْمُشَارَكَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا وَاحِدٌ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَاحِدُ هُوَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا الدَّلِيلُ كَمَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ فَإِنَّهُ يدلّ على نفي الولد، لأن لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ وَإِنْ عَلِمَ الشَّهَادَةَ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ. قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عَالِمُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ عَالِمٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ كَانَ يُخْفِضُ إِذَا وَصَلَ وَيَرْفَعُ إِذَا ابْتَدَأَ فَتَعالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ مَعْطُوفٌ على معنى ما تقدّم كأنه قال: علم الْغَيْبِ فَتَعَالَى، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ شُجَاعٌ فَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ، أَيْ: شَجُعَ فَعَظُمَتْ، أَوْ يَكُونُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: أَقُولُ فَتَعَالَى اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ أَيْ:
إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ أَنْ تُرِيَنِّي مَا يُوعِدُونَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُسْتَأْصَلِ لَهُمْ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ:
قُلْ يَا رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِنْ أَنْزَلْتَ بِهِمُ النِّقْمَةَ يَا رَبِّ فَاجْعَلْنِي خَارِجًا عَنْهُمْ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ النداء معترض، و «ما» فِي «إِمَّا» زَائِدَةٌ، أَيْ: قُلْ رَبِّ إِنْ تُرِيَنِّي، وَالْجَوَابُ: «فَلَا تَجْعَلْنِي» ، وَذِكْرُ الرَّبَّ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً قَبْلَ الشَّرْطِ، وَمَرَّةً بَعْدَهُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّضَرُّعِ. وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ مَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَكُونُونَ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَبَدًا، تَعْلِيمًا له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ كَيْفَ يَتَوَاضَعُ. وَقِيلَ: يَهْضِمُ نَفْسَهُ، أَوْ لِكَوْنِ شُؤْمِ الْكُفْرِ قَدْ يَلْحَقُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «1» ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْعَذَابَ وَيَسْخَرُونَ من النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ وُقُوعَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ
أَيْ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ على أن يري رسوله
__________
(1) . الأنفال: 25.(3/587)
عَذَابَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُؤَخِّرُهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ سَيُؤْمِنُ، أَوْ لِكَوْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ وَالرَّسُولُ فِيهِمْ، وَقِيلَ:
قَدْ أَرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالصَّبْرِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لِلْعَذَابِ، فَقَالَ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ أَيِ: ادْفَعْ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ غيرها، وهي الصفح والإعراض عما يفعله الكافر مِنَ الْخَصْلَةِ السَّيِّئَةِ، وَهِيَ الشِّرْكُ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، مَنْسُوخَةٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أَيْ: مَا يَصِفُونَكَ بِهِ مِمَّا أَنْتَ عَلَى خِلَافِهِ، أَوْ بِمَا يَصِفُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ.
ثُمَّ عَلَّمَهُ سُبْحَانَهُ مَا يُقَوِّيهِ عَلَى مَا أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَمُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ الْهَمَزَاتُ جَمْعُ هَمْزَةٍ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الدَّفْعَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَهَمَزَاتُ الشَّيَاطِينِ: نَزَغَاتُهُمْ وَوَسَاوِسُهُمْ كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، يُقَالُ: هَمَزَهُ وَلَمَزَهُ وَنَخَسَهُ، أَيْ: دَفَعَهُ وَقِيلَ: الْهَمْزُ:
كَلَامٌ مِنْ وَرَاءِ الْقَفَا، وَاللَّمْزُ: الْمُوَاجَهَةُ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى التَّعَوُّذِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ سَوَرَاتُ الْغَضَبِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ فِيهَا نَفْسَهُ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ حُضُورِ الشَّيَاطِينِ بَعْدَ مَا أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنْ هَمَزَاتِهِمْ، وَالْمَعْنَى: وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَكُونُوا مَعِي فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا حَضَرُوا الْإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا الْوَسْوَسَةَ وَالْإِغْرَاءَ عَلَى الشَّرِّ وَالصَّرْفِ عَنِ الْخَيْرِ.
وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «وَقُلْ رَبِّ عَائِذًا بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ- وَعَائِذًا بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونَ» .
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ: خَزَائِنُ كُلِّ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ يَقُولُ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ إِيَّاكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ: بِالسَّلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ قَالَ: قَوْلُ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، فَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ نَقُولَهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ مِنَ الْفَزَعِ: بِسْمِ اللَّهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونَ» قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدَهُ أَنْ يَقُولَهَا عِنْدَ نَوْمِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَنْ يَحْفَظَهَا كَتَبَهَا لَهُ فَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ. وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ خالد بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً، قَالَ: إِذَا أَخَذَتْ مَضْجِعَكَ فَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يحضرون، فإنه لا يحضرك، وبالحريّ أن لا يضرّك» .(3/588)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 118]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108)
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113)
قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
حَتَّى هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ، دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ لَكَاذِبُونَ وَقِيلَ بِيَصِفُونَ، وَالْمُرَادُ بِمَجِيءِ الْمَوْتِ مَجِيءُ عَلَامَاتِهِ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ أي: قال ذلك الواحد الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ تَحَسُّرًا وَتَحَزُّنًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ رَبِّ ارْجِعُونِ، أَيْ: رَدُّونِي إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا قَالَ ارْجِعُونِ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ لِتَعْظِيمِ الْمُخَاطَبِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ: ارْجِعْنِي ارْجِعْنِي ارْجِعْنِي، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «1» قَالَ الْمَازِنِيُّ: مَعْنَاهُ أَلْقِ أَلْقِ، وَهَكَذَا قِيلَ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ «2»
............... ....
وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَجَّاجُ: يَا حَرَسِي اضْرِبَا عُنُقَهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَوْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَا فَارْحَمُونِي يَا إِلَهِ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِاللَّهِ قَالَ قَائِلُهُمْ: رَبِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً أَيْ: أَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا فِي الدُّنْيَا إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهَا مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَلَمَّا تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ لِيَعْمَلَ رَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها فَجَاءَ بِكَلِمَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، وَالضَّمِيرُ فِي «إِنَّهَا» يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: رَبِّ ارْجِعُونِ أَيْ: إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ هُوَ قائلها لا محالة، وليس
__________
(1) . ق: 24. [.....]
(2) . وعجزه: بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل.(3/589)
الْأَمْرُ عَلَى مَا يَظُنُّهُ مِنْ أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ لَمَا حَصَلَ مِنْهُ الْوَفَاءُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «قَائِلِهَا» يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: لَا خُلْفَ فِي خَبَرِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجْلُهَا وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ أَيْ: مِنْ أَمَامِهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَالْبَرْزَخُ: هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: حَاجِزٌ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
هُوَ الْأَجَلُ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الأجل، وإِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ قِيلَ: هَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَقِيلَ: الثَّانِيَةُ، وَهَذَا أَوْلَى، وَهِيَ النَّفْخَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَإِذَا نَفَخَ فِي الْأَجْسَادِ أَرْوَاحَهَا، عَلَى أَنَّ الصُّوَرَ جَمْعُ صُورَةٍ، لَا الْقَرْنُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ «الصُّوَرِ» بِفَتْحِ الْوَاوِ مَعَ ضَمِّ الصَّادِ جَمْعُ صُورَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو رَزِينٍ بِفَتْحِ الصَّادِ وَالْوَاوِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَيْ: لَا يتفاخرون بالأنساب ويذكرونها لما هم فِيهِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَيْ:
لَا يَتَفَاخَرُونَ بِالْأَنْسَابِ وَيَذْكُرُونَهَا لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ وَلا يَتَساءَلُونَ أَيْ: لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ لَهُمْ إِذْ ذَاكَ شُغْلًا شَاغِلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ- وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ- وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ «2» ، وقوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً «3» ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «4» فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَوَاقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْإِثْبَاتُ بِاعْتِبَارِ بَعْضِهَا، وَالنَّفْيُ بِاعْتِبَارِ بَعْضٍ آخَرَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي نَظَائِرِ هَذَا، مِمَّا أُثْبِتَ تَارَةً وَنُفِيَ أُخْرَى فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أَيْ:
مَوْزُونَاتُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْفَائِزُونَ بِمَطَالِبِهِمُ الْمَحْبُوبَةِ، النَّاجُونَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَخَافُونَهَا وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ وَهِيَ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْ:
ضيعوها وَتَرَكُوا مَا يَنْفَعُهَا فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ هَذَا بَدَلٌ مِنْ صِلَةِ الْمَوْصُولِ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فَلَا نُعِيدُهُ. وَجُمْلَةُ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ تَكُونُ خَبَرًا آخَرَ لِأُولَئِكَ، وَاللَّفْحُ: الْإِحْرَاقُ، يُقَالُ: لَفَحَتْهُ النَّارُ إِذَا أَحْرَقَتْهُ، وَلَفَحْتُهُ بِالسَّيْفِ إِذَا ضَرَبْتُهُ «5» ، وَخَصَّ الْوُجُوهَ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ. وَهُمْ فِيها كالِحُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْكَالِحُ: الَّذِي قَدْ تَشَمَّرَتْ شَفَتَاهُ وَبَدَتْ أَسْنَانُهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَدَهْرٌ كَالِحٌ: أَيْ شَدِيدٌ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْكُلُوحُ: تَكْنِيزٌ فِي عُبُوسٍ. وَجُمْلَةُ أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ هِيَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا، أَيْ: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وَجُمْلَةُ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا لَذَّاتُنَا وَشَهَوَاتُنَا، فَسَمَّى ذَلِكَ شِقْوَةً لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى الشَّقَاءِ. قَرَأَ أَهْلُ المدينة وأبو عمرو وعاصم شِقْوَتُنا
__________
(1) . الأنعام: 28.
(2) . عبس: 34- 36.
(3) . المعارج: 10.
(4) . الصافات: 27.
(5) . أي: ضربة خفيفة.(3/590)
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «شَقَاوَتُنَا» وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ. وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ ضَلُّوا عَنِ الْحَقِّ بِتِلْكَ الشِّقْوَةِ. ثُمَّ طَلَبُوا مَا لَا يُجَابُونَ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أَيْ: فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ فَإِنَّا ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِنَا بِالْعَوْدِ إِلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقوله: قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ أَيِ: اسْكُنُوا فِي جَهَنَّمَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ:
الْخَسْءُ: إِبْعَادٌ بِمَكْرُوهٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَبَاعَدُوا تَبَاعُدَ سَخَطٍ وَأُبْعِدُوا بُعْدَ الْكَلْبِ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أُبْعِدُوا فِي جَهَنَّمَ، كَمَا يُقَالُ لِلْكَلْبِ اخْسَأْ: أَيْ ابْعُدْ، خَسَأْتُ الْكَلْبَ خَسْأً طَرَدْتُهُ، وَلَا تُكَلِّمُونَ فِي إِخْرَاجِكُمْ مِنَ النَّارِ وَرُجُوعِكُمْ إِلَى الدُّنْيَا، أَوْ فِي رَفْعِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا تُكَلِّمُونِ رَأْسًا. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: الصَّحَابَةُ، يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ بِكَسْرِ إِنَّ اسْتِئْنَافًا تَعْلِيلِيًّا، وَقَرَأَ أُبَيٌّ بِفَتْحِهَا فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَبُو عَمْرٍو فجعل الكسر من جهة التهزؤ، والضم من جهة السّخرة. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَعْرِفُ هَذَا الْفَرْقَ الْخَلِيلُ وَلَا سِيبَوَيْهِ وَلَا الْكِسَائِيُّ وَلَا الْفَرَّاءُ، وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: أَنَّ الْكَسْرَ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْقَوْلِ، وَالضَّمَّ بِمَعْنَى التَّسْخِيرِ وَالِاسْتِبْعَادِ بِالْفِعْلِ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أَيِ: اتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَإِنَّهُمْ نَسُوا ذِكْرَ اللَّهِ لِشِدَّةِ اشْتِغَالِهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى:
حَتَّى نَسِيتُمْ ذِكْرِي بِاشْتِغَالِكُمْ بِالسُّخْرِيَةِ وَالضَّحِكِ، فَنَسَبَ ذَلِكَ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِكَوْنِهِمُ السَّبَبَ، وَجُمْلَةُ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا سَبَقَ، وَالْبَاءُ فِي «بِمَا صَبَرُوا» لِلسَّبَبِيَّةِ أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، أَيْ: لِأَنَّهُمُ الْفَائِزُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلْفِعْلِ قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَتَذْكِيرًا لَهُمْ كَمْ لَبِثُوا؟ لَمَّا سَأَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ كَائِنٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
اخْسَئُوا فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي طَلَبُوا الرُّجُوعَ إِلَيْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ جَمِيعِ مَا لَبِثُوهُ فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْقُبُورِ، وَقِيلَ: هُوَ سُؤَالٌ عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْقُبُورِ لِقَوْلِهِ: «فِي الْأَرْضِ» ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى الْأَرْضِ، وَرُدَّ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «1» وَانْتِصَابُ عَدَدَ سِنِينَ عَلَى التَّمْيِيزِ، لِمَا فِي كَمْ مِنَ الْإِبْهَامِ، وَسِنِينَ بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى أَنَّهَا نُونُ الْجَمْعِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُهَا وَيُنَوِّنُهَا قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَذَابَ رُفِعَ عَنْهُمْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، فَنَسُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي قُبُورِهِمْ وَقِيلَ: أَنْسَاهُمُ اللَّهُ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ مِنَ النَّفْخَةِ الْأُولَى إِلَى النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. ثُمَّ لَمَّا عَرَفُوا مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النِّسْيَانِ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ أَحَالُوا عَلَى غَيْرِهِمْ فَقَالُوا:
فَسْئَلِ الْعادِّينَ أَيِ: الْمُتَمَكِّنِينَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَدَدِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّهُمُ الْحَفَظَةُ الْعَارِفُونَ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ وَأَعْمَارِهِمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَاسْأَلِ الْحَاسِبِينَ الْعَارِفِينَ بِالْحِسَابِ مِنَ الناس. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي
__________
(1) . الأعراف 56 و 85.(3/591)
«قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ» عَلَى الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَفَّارِ، أَوْ يَكُونُ أَمْرًا لِلْمَلِكِ بِسُؤَالِهِمْ، أَوِ التَّقْدِيرُ: قُولُوا كَمْ لَبِثْتُمْ، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ لِلْوَاحِدِ، وَالْمُرَادُ الْجَمَاعَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوِ الْمَلَكُ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ» كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (قَالَ) عَلَى الْخَبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا لُبْثًا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَعَلِمْتُمُ الْيَوْمَ قِلَّةَ لُبْثِكُمْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الْقُبُورِ أَوْ فِيهِمَا، فَكُلُّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لُبْثِهِمْ. ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي تَوْبِيخِهِمْ فَقَالَ:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً الْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيرِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوَاضِعَ، أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمُوا شَيْئًا فَحَسِبْتُمْ، وَانْتِصَابُ عَبَثًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَابِثِينَ، أَوْ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: لِلْعَبَثِ. قَالَ بِالْأَوَّلِ سِيبَوَيْهِ وَقُطْرُبُ، وَبِالثَّانِي أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَجُمْلَةُ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «أَنَمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا» ، وَالْعَبَثُ فِي اللُّغَةِ: اللَّعِبُ، يُقَالُ: عَبَثَ يَعْبَثُ عَبَثًا فَهُوَ عَابِثٌ، أَيْ: لَاعِبٌ، وَأَصْلُهُ مِنْ قولهم عَبَثْتُ الْأَقِطَ: أَيْ خَلَطْتُهُ، وَالْمَعْنَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّ خَلْقَنَا لَكُمْ لِلْإِهْمَالِ كَمَا خُلِقَتِ الْبَهَائِمُ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تَرْجِعُونَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «تَرْجِعُونَ» بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ عَطْفُ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ عَلَى عَبَثًا، عَلَى مَعْنَى: أَنَمَا خَلَقْنَاكُمْ لِلْعَبَثِ وَلِعَدَمِ الرُّجُوعِ. ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ فَقَالَ: فَتَعالَى اللَّهُ أَيْ: تَنَزَّهَ عَنِ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ أَوْ عَنْ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا، أَوْ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَلِكُ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْمُلْكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَرَبًّا، لِمَا هُوَ دُونَ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَصْفُ الْعَرْشِ بِالْكَرِيمِ لِنُزُولِ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ مِنْهُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَنِ اسْتَوَى عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ بَيْتٌ كَرِيمٌ إِذَا كَانَ سَاكِنُوهُ كِرَامًا قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَإِسْمَاعِيلُ وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ الْكَرِيمُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِرَبٍّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَرْشِ. ثُمَّ زَيَّفَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا فَقَالَ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يَعْبُدُهُ مَعَ اللَّهِ أَوْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ، وَجُمْلَةُ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ إِلَهًا، وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ جِيءَ بِهَا لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَالدَّلِيلُ الْوَاضِحُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَجُمْلَةُ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَقَوْلِكَ: مَنْ أَحْسَنَ إِلَى زَيْدٍ لَا أَحَقَّ مِنْهُ بِالْإِحْسَانِ، فَاللَّهُ مُثِيبُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ قَوْلُهُ:
لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ عَلَى حَذْفِ فَاءِ الْجَزَاءِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ قَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِفَتْحِ «أَنَّ» عَلَى التَّعْلِيلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ «لَا يُفْلِحُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ مُضَارِعُ فَلَحَ بِمَعْنَى أفلح. ثم ختم هذه السورة بتعليم
__________
(1) . الأنعام: 38.(3/592)
رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ، وَقِيلَ: أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأُمَّتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِهِ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَوَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبِلَهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ أَمَرَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى غُفْرَانِهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا أُدْخِلَ الْكَافِرُ فِي قَبْرِهِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النار قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ أتوب أعمل صَالِحًا، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ عَمَّرْتَ مَا كُنْتَ مُعَمَّرًا، فَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، فَهُوَ كَالْمَنْهُوشِ يُنَازِعُ «1» وَيَفْزَعُ، تَهْوِي إِلَيْهِ حَيَّاتُ الْأَرْضِ وَعَقَارِبُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا عَايَنَ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: نُرْجِعُكَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: إِلَى دَارَ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، بَلْ قَدِّمَا إِلَى اللَّهِ وأما الكافر فَيَقُولُونَ لَهُ: نُرْجِعُكَ، فَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ هو مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَضَرَ الْإِنْسَانَ الْوَفَاةُ يُجْمَعُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ يَمْنَعُهُ عَنِ الْحَقِّ فَيُجْعَلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَعْمَلُ صالِحاً قَالَ: أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ حَيَّاتٌ سُودٌ، حَيَّةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَحَيَّةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، يَقْرُصَانِهِ حَتَّى تَلْتَقِيَا فِي وَسَطِهِ، فَذَلِكَ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ قال: حين ينفخ فِي الصُّورِ، فَلَا يَبْقَى حَيٌّ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وَقَوْلُهُ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «2» فَقَالَ: إِنَّهَا مَوَاقِفُ، فَأَمَّا الْمَوْقِفُ الَّذِي لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ عِنْدَ الصَّعْقَةِ الْأُولَى لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ فِيهَا إِذَا صُعِقُوا، فَإِذَا كَانَتِ النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَتَسَاءَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْآيَتَيْنِ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا يَتَساءَلُونَ فَهَذَا فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى حِينَ لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جمع الله الأوّلين والآخرين. وَفِي لَفْظٍ: يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ أَوِ الْأَمَةِ يوم القيامة على رؤوس الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ قِبَلَهُ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ. وَفِي لَفْظٍ: مَنْ كَانَ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَجِئْ فَلْيَأْخُذْ حَقَّهُ، فَيَفْرَحُ وَاللَّهِ الْمَرْءُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ.
__________
(1) . في الدر المنثور «ينام» (6/ 114) .
(2) . الصافات: 27.(3/593)
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ الْأَنْسَابَ تَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ نَسَبِي وَسَبَبِي وَصِهْرِي» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «كُلُّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا نَسَبِي وَصِهْرِي» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «مَا بَالَ رِجَالٍ يَقُولُونَ: إِنَّ رَحِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْفَعُ قَوْمَهُ؟ بَلَى وَاللَّهِ إِنَّ رَحِمِي مَوْصُولَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنِّي أَيُّهَا النَّاسُ فَرَطٌ لَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قَالَ: تَنْفُخُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي صِفَةِ النَّارِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قَالَ: «تَلْفَحُهُمْ لَفْحَةً فَتَسِيلُ لُحُومُهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَفَحَتْهُمْ لَفْحَةً فَمَا أَبْقَتْ لَحْمًا عَلَى عَظْمٍ إِلَّا أَلْقَتْهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ النَّارِ، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قَالَ:
تَشْوِيهِ النَّارُ فَتُقَلِّصُ شَفَتَهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِيَ شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُوحُ الرَّأْسِ النَّضِيجِ بَدَتْ أَسْنَانُهُمْ وَتَقَلَّصَتْ شِفَاهُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كالِحُونَ قَالَ: عَابِسُونَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ أَهْلِ النار وما يقولون وَمَا يُقَالُ لَهُمْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ قَرَأَ فِي أُذُنِ مُصَابٍ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً
حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَبَرِئَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِمَاذَا قَرَأْتَ فِي أُذُنِهِ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُوقِنًا قَرَأَ بِهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَالَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ وَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ إِذَا أَمْسَيْنَا وَأَصْبَحْنَا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ، فَقَرَأْنَاهَا فَغَنِمْنَا وَسَلِمْنَا، اه.(3/594)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
المجلد الرابع
سورة النّور
أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَا: أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «لَا تُنْزِلُوهُنَّ الْغُرَفَ وَلَا تُعْلِمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ» : يَعْنِي النِّسَاءَ، «وَعَلِمُوهُنَّ الْغَزَلَ وَسُورَةَ النُّورِ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلِّمُوا رِجَالَكُمْ سُورَةَ الْمَائِدَةِ، وَعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ» وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ تَعَلَّمُوا سُورَةَ النِّسَاءِ، وَالْأَحْزَابِ، وَالنُّورِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
السُّورَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْمَنْزِلَةِ الشَّرِيفَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ السُّورَةُ مِنَ الْقُرْآنِ: سُورَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ «1» :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
أَيْ: مَنْزِلَةً، قَرَأَ الْجُمْهُورُ سُورَةٌ بِالرَّفْعِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ سُورَةٌ، وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ، قَالُوا: لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ، وَلَا يُبْتَدَأُ بِالنَّكِرَةِ فِي كُلِّ موضع.
والوجه الثاني: أن يكون مُبْتَدَأٌ وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِكَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِقَوْلِهِ: أَنْزَلْناها وَالْخَبَرُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَيَكُونُ الْمَعْنَى: السُّورَةُ الْمُنَزَّلَةُ الْمَفْرُوضَةُ: كَذَا وَكَذَا، إِذِ السُّورَةُ عِبَارَةٌ عَنْ آيَاتٍ مَسْرُودَةٍ لَهَا مَبْدَأٌ وَمَخْتَمٌ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ تَعْلِيلِ الْمَنْعِ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِهَا كَوْنُهَا نَكِرَةً، فَهِيَ نَكِرَةٌ مُخَصَّصَةٌ بِالصِّفَةِ، وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَى جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِهَا. وَقِيلَ: هِيَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ عَلَى تَقْدِيرِ: فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ سورة، وردّ بأن مقتضى المقام بيان شَأْنِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، لَا بَيَانُ أَنَّ فِي جُمْلَةِ مَا أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سُورَةٌ شَأْنُهَا: كَذَا وَكَذَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بن عبد العزيز، وعيسى الثقفي، وعيس الْكُوفِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِالنَّصْبِ، وَفِيهِ أَوْجُهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ بِمَا بَعْدَهُ، تَقْدِيرُهُ: اتْلُ سُورَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قِيلَ فِي بَابِ اشْتِغَالِ الْفِعْلِ عَنِ الْفَاعِلِ بِضَمِيرِهِ، أَيْ: أَنْزَلْنَا سُورَةً أَنْزَلْنَاهَا، فَلَا مَحَلَّ لِأَنْزَلْنَاهَا هَاهُنَا لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِسُورَةٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيْ: دونك سورة،
__________
(1) . البيت للنابغة الذّبياني، على خلاف ما جاء في الأصل.(4/5)
قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَرَدَّهُ أَبُو حَيَّانَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُ أَدَاةِ الْإِغْرَاءِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَنْزَلْنَاهَا، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ حَالٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ وَالْحَالُ مِنَ الْمُكَنَّى يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَاهَا لَيْسَ عَائِدًا عَلَى سُورَةٍ، بَلْ عَلَى الْأَحْكَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْزَلْنَا الْأَحْكَامَ حَالَ كَوْنِهَا سُورَةً مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وَفَرَضْناها بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: فَرَّضْنَاهَا بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: قَطَّعْنَاهَا فِي الْإِنْزَالِ نَجْمًا نَجْمًا، وَالْفَرْضُ الْقَطْعُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التشديد للتكثير أو للمبالغة، وَمَعْنَى التَّخْفِيفِ أَوْجَبْنَاهَا وَجَعَلْنَاهَا مَقْطُوعًا بِهَا، وَقِيلَ: أَلْزَمْنَاكُمُ الْعَمَلَ بِهَا، وَقِيلَ:
قَدَّرْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْحُدُودِ، وَالْفَرْضُ: التَّقْدِيرُ، وَمِنْهُ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «1» وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ أَيْ: أَنْزَلْنَا فِي غُضُونِهَا وَتَضَاعِيفِهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ: أَنَّهَا وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَدْلُولِهَا، وَتَكْرِيرُ أَنْزَلْنَا لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِإِنْزَالِ هَذِهِ السُّورَةِ، لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، هَذَا شُرُوعٌ فِي تَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالِارْتِفَاعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما أَوْ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِسُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالزِّنَا: هُوَ وَطْءُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ فِي فَرْجِهَا مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ وَلَا شُبْهَةِ نِكَاحٍ. وَقِيلَ:
هُوَ إِيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٍ شَرْعًا، وَالزَّانِيَةُ: هِيَ الْمَرْأَةُ الْمُطَاوِعَةُ لِلزِّنَا الْمُمَكِّنَةُ مِنْهُ كَمَا تُنْبِئُ عَنْهُ الصِّيغَةُ لَا الْمُكْرَهَةُ، وَكَذَلِكَ الزَّانِي، وَدُخُولُ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ الزَّانِيَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
فَاجْلِدُوا وَالْجَلْدُ: الضَّرْبُ، يُقَالُ: جَلَدَهُ إِذَا ضَرَبَ جِلْدَهُ، مِثْلَ بَطَنَهُ إِذَا ضَرَبَ بَطْنَهُ، وَرَأَسَهُ إِذَا ضَرَبَ رَأْسَهُ، وَقَوْلُهُ: مِائَةَ جَلْدَةٍ هُوَ حَدُّ الزَّانِي الْحُرِّ الْبَالِغِ الْبِكْرِ، وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ، وَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا الْجَلْدِ، وَهِيَ تَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ والمملوكة فجلد كلّ واحد منها خَمْسُونَ جَلْدَةً لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «2» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْإِمَاءِ، وَأُلْحِقَ بِهِنَّ الْعَبِيدُ لعدم الفارق، وأما من كان محصنا من الأحرار فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة، بإجماع أهل العلم وَبِالْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ لَفْظُهُ الْبَاقِي حُكْمُهُ وَهُوَ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ» وَزَادَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ الرَّجْمِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي حَدِّ الزِّنَا مُسْتَوْفًى، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْحَبْسِ وَآيَةُ الْأَذَى اللَّتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي ويحيى ابن يَعْمُرَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو شَيْبَةَ «الزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ» بِالنَّصْبِ، قِيلَ: وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ كَقَوْلِكَ زَيْدًا اضْرِبْ. وَأَمَّا الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ والزجاج فالرفع عندهم أوجه، وبه قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الزَّانِيَةِ عَلَى الزَّانِي هَاهُنَا أَنَّ الزِّنَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرَ حَتَّى كَانَ لَهُنَّ رَايَاتٌ تُنْصَبُ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ لِيَعْرِفَهُنَّ مَنْ أَرَادَ الْفَاحِشَةَ مِنْهُنَّ. وَقِيلَ: وَجْهُ التَّقْدِيمِ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْفِعْلِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِيهَا أَكْثَرُ وَعَلَيْهَا أَغْلَبُ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْعَارَ فِيهِنَّ أَكْثَرُ إِذْ مَوْضُوعُهِنَّ الْحَجْبَةُ وَالصِّيَانَةُ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الزَّانِيَةِ تَغْلِيظًا وَاهْتِمَامًا.
وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأَئِمَّةِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ، وَقِيلَ: لِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، لأن إقامة الحدود واجبة عليهم
__________
(1) . القصص: 85.
(2) . النساء: 25.(4/6)
جَمِيعًا، وَالْإِمَامُ يَنُوبُ عَنْهُمْ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُمُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ يُقَالُ: رَأَفَ يَرْأَفُ رَأْفَةً عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ، وَرَآفَةً: عَلَى وَزْنِ فَعَالَةٍ، مِثْلُ النَّشْأَةِ وَالنَّشَاءَةِ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى:
الرِّقَّةِ وَالرَّحْمَةِ، وَقِيلَ: هِيَ أَرَقُّ الرَّحْمَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «رَأْفَةٌ» بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِهَا، وقرأ ابن جريج «رَآفَةٌ» بِالْمَدِّ كَفَعَالَةٍ، وَمَعْنَى «فِي دِينِ اللَّهِ» فِي طَاعَتِهِ وَحُكْمِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ «1» ثُمَّ قَالَ مُثَبِّتًا لِلْمَأْمُورِينَ وَمُهَيِّجًا لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ تَحُضُّهُ عَلَى أَمْرٍ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ الَّذِي فِيهِ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ، فَلَا تُعَطِّلُوا الْحُدُودَ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: لِيَحْضُرَهُ زِيَادَةً فِي التَّنْكِيلِ بِهِمَا، وَشُيُوعَ الْعَارِ عَلَيْهِمَا وَإِشْهَارَ فَضِيحَتِهِمَا، وَالطَّائِفَةُ: الْفِرْقَةُ الَّتِي تَكُونُ حَافَّةً حَوْلَ الشَّيْءِ، مِنَ الطَّوْفِ، وَأَقَلُّ الطَّائِفَةِ: ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: اثْنَانِ، وَقِيلَ: وَاحِدٌ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ، وَقِيلَ: عَشَرَةٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شَيْئًا يَخْتَصُّ بِالزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، فَقَالَ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً.
قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَشْنِيعُ الزِّنَا وَتَشْنِيعُ أَهْلِهِ وَأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ مَعْنَى الزَّانِي لَا يَنْكِحُ: الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، أَيْ: الزَّانِي لَا يزني إلا بزانية، والزانية إِلَّا بِزَانٍ، وَزَادَ ذِكْرَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ لِكَوْنِ الشِّرْكِ أَعَمَّ فِي الْمَعَاصِي مِنَ الزِّنَا. وَرَدَّ هَذَا الزَّجَّاجُ وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ النِّكَاحُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا بِمَعْنَى التَّزْوِيجِ، وَيُرَدُّ هَذَا الرَّدُّ بِأَنَّ النِّكَاحَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ ثَابِتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «2» فقد بينه النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الْوَطْءُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مَعْنَى الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُمْ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ هَذِهِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةٍ خَاصَّةٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَتَكُونُ خَاصَّةً بِهَا كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ خاصة به قال مُجَاهِدٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَتَكُونُ خَاصَّةً بِهِمْ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادِ بِالزَّانِي وَالزَّانِيَةِ الْمَحْدُودَانِ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ، فَلَا يَجُوزُ لِزَانٍ مَحْدُودٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا مَحْدُودَةً. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ نَظَرًا كَمَا لَمْ يَثْبُتْ نَقْلًا. السَّادِسُ: أَنَّ الْآيَةَ هَذِهِ منسوخة بقوله سبحانه وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «3» قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُؤَسَّسٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ غَالِبَ الزُّنَاةِ لَا يَرْغَبُ إِلَّا فِي الزَّوَاجِ بِزَانِيَةٍ مَثْلِهِ، وَغَالِبُ الزَّوَانِي لَا يَرْغَبَنَّ إِلَّا فِي الزَّوَاجِ بِزَانٍ مِثْلِهُنَّ، وَالْمَقْصُودُ زَجْرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ نِكَاحِ الزَّوَانِي بَعْدَ زَجْرِهِمْ عَنِ الزِّنَا، وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، وَسَبَبُ النُّزُولِ يَشْهَدُ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَزَوُّجِ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَى هُوَ بِهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِجَوَازِ ذلك. وروي
__________
(1) . يوسف: 76. [.....]
(2) . البقرة: 230.
(3) . النور: 32.(4/7)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا زَنَى الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُمَا زَانِيَانِ أَبَدًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَمَعْنَى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: نِكَاحُ الزَّوَانِي، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْفَسَقَةِ وَالتَّعَرُّضِ لِلتُّهْمَةِ وَالطَّعْنِ فِي النَّسَبِ. وَقِيلَ: هُوَ مَكْرُوهٌ فَقَطْ، وَعَبَّرَ بِالتَّحْرِيمِ عَنْ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها قَالَ: بَيَّنَّاهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طريق عبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ جَارِيَةً لِابْنِ عُمَرَ زَنَتْ فَضَرَبَ رِجْلَيْهَا وَظَهْرَهَا، فَقُلْتُ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ وَرَأَيْتُنِي أَخَذَتْنِي بِهَا رَأْفَةٌ؟ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنِي أَنْ أَقْتُلَهَا وَلَا أَنْ أَجْلِدَ رَأْسَهَا، وَقَدْ أَوْجَعْتُ حَيْثُ ضَرَبْتُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال: الطّائفة الرّجل فَمَا فَوْقَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِالنِّكَاحِ، وَلَكِنِ: الْجِمَاعِ، لَا يَزْنِي بِهَا حِينَ يَزْنِي إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً قَالَ: كُنَّ نِسَاءً فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَغِيَّاتٍ، فَكَانَتْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ تُدْعَى أُمَّ جَمِيلٍ فَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَزَوَّجُ إِحْدَاهُنَّ لِتُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهَا، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سليمان ابن يَسَارٍ نَحْوَهُ مُخْتَصَرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ بَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَغَايَا آلِ فُلَانٍ، وَبَغَايَا آلِ فُلَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً الْآيَةَ، فَأَحْكَمَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ الزِّنَا وَلَمْ يَعْنِ بِهِ التَّزْوِيجَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: الزَّانِي مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ مِثْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكَةٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَالزَّانِيَةُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا تَزْنِي إِلَّا بِزَانٍ مِثْلِهَا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَحُرِّمَ الزِّنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُمَّ مَهْزُولٍ، وَكَانَتْ تُسَافِحُ وَتَشْتَرِطُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن يتزوّجها، فأنزل الله الزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدٌ، يَحْمِلُ الْأُسَارَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا عناق،(4/8)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ، وَذَكَرَ قِصَّةً وَفِيهَا: فَأَتَيْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحُ عَنَاقًا؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَتِ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَرْثَدُ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَنْكِحْهَا» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْآيَةِ قَالَ: كُنَّ نِسَاءً مَعْلُومَاتٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِنْهُنَّ لِتُنْفِقَ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَغَايَا مُعْلِنَاتٍ كُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنَّ زَوَانِيَ مُشْرِكَاتٍ، فَحَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَهُنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَتْبَعُ امْرَأَةً فَأَصَبْتُ مِنْهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ، وَقَدْ رَزَقَنِي اللَّهُ مِنْهَا تَوْبَةً فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ النَّاسُ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ هَذِهِ الْآيَةِ، إِنَّمَا كُنَّ نِسَاءً بَغَايًا مُتَعَالِنَاتٍ يَجْعَلْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ يَأْتِيهِنَّ النَّاسُ يُعْرَفْنَ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، تَزَوَّجْهَا فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ إِثْمٍ فَعَلَيَّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ إِنَّهُ زَنَى فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فجاؤوا بِهِ إِلَى عَلِيٍّ فَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وقال: لا تتزوّج إلا مجلودة مثلك.
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8)
وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ اسْتَعَارَ الرَّمْيَ لِلشَّتْمِ بِفَاحِشَةِ الزِّنَا لِكَوْنِهِ جِنَايَةً بِالْقَوْلِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ آخَرُ:
رَمَانِي بأسر كنت منه ووالدي ... بريئا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي
وَيُسَمَّى هَذَا الشَّتْمُ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْخَاصَّةِ: قَذْفًا، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: النِّسَاءُ، وَخَصَّهُنَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ قَذْفَهُنَّ أَشْنَعُ وَالْعَارَ فِيهِنَّ أَعْظَمُ، وَيَلْحَقُ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ جَمَعْنَا فِي ذَلِكَ رِسَالَةً رَدَدْنَا بِهَا عَلَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ لَمَّا نَازَعَ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى(4/9)
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ «1» فَإِنَّ الْبَيَانَ بِكَوْنِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ يُشْعِرُ بِأَنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ يَشْمَلُ غَيْرَ النِّسَاءِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْبَيَانِ كَثِيرُ مَعْنًى، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْفُرُوجَ كَمَا قَالَ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها «2» فَتَتَنَاوَلُ الْآيَةُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ.
وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ المحصنات وإن كان للنساء لكنها هَاهُنَا يَشْمَلُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ تَغْلِيبًا، وَفِيهِ أَنَّ تَغْلِيبَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْعَفَائِفُ، وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ذِكْرُ الْإِحْصَانِ وَمَا يَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمَقْذُوفِ وَالْقَاذِفِ أَبْحَاثٌ مُطَوَّلَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، مِنْهَا مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُجَرَّدُ رَأْيٍ بَحْتٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَالْمُحْصَنَاتُ» بِفَتْحِ الصَّادِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِهَا. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ كَافِرًا أَوْ كَافِرَةً.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدُ يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَبِيصَةُ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُجْلَدُ لِلْعَبْدِ إِذَا افْتَرَى عَلَيْهِ لِتَبَايُنِ مَرْتَبَتِهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شَرْطًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ فَقَالَ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أَيْ: يَشْهَدُونَ عَلَيْهِنَّ بِوُقُوعِ الزِّنَا مِنْهُنَّ، وَلَفْظُ ثُمَّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَذْفِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمَعِينَ وَمُفْتَرِقِينَ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَسَنُ وَمَالِكٌ. وَإِذَا لَمْ تَكْمُلِ الشُّهُودُ أربعة كانوا قذفة يحدّون حدّ الْقَذْفِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَيَرُدُّ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جِلْدِهِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ» بِإِضَافَةِ أَرْبَعَةٍ إِلَى شُهَدَاءَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرٍو بِتَنْوِينِ أَرْبَعَةٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ شُهَدَاءَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقِيلَ: هُوَ تَمْيِيزٌ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُمَيَّزَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ يُضَافُ إِلَيْهِ الْعَدَدُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَالَ لَا يَجِيءُ مِنَ النَّكِرَةِ الَّتِي لَمْ تُخَصَّصْ. وَقِيلَ: إِنَّ شُهَدَاءَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتًا لِأَرْبَعَةٍ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ أَلِفُ التَّأْنِيثِ لَمْ يَنْصَرِفْ.
وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شُهَدَاءُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أي: لَمْ يُحْضِرُوا أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ، وَقَدْ قَوَّى ابْنُ جِنِّيٍّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَيَدْفَعُ ذَلِكَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ إِنَّ تَنْوِينَ الْعَدَدِ وَتَرْكَ إِضَافَتِهِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ فَقَالَ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً الْجَلْدُ: الضَّرْبُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُجَالَدَةُ:
الْمُضَارَبَةُ فِي الْجُلُودِ أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصي وَالسَّيْفِ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
أُجَالِدُهُمْ يَوْمَ الْحَدِيقَةِ حَاسِرًا ... كَأَنَّ يَدِي بِالسَّيْفِ مِخْرَاقُ لَاعِبِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْجَلْدِ قَرِيبًا، وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر، وجلدة: منتصبة على التمييز، وجملة
__________
(1) . النساء: 24.
(2) . الأنبياء: 91.(4/10)
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً مَعْطُوفَةٌ عَلَى اجْلِدُوا، أَيْ: فَاجْمَعُوا لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: الْجَلْدِ، وَتَرْكِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِالْقَذْفِ غَيْرَ عُدُولٍ بَلْ فَسَقَةً كَمَا حَكَمَ اللَّهُ به عليهم فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَاللَّامُ فِي لَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنْ شَهَادَةٍ وَلَوْ تَأَخَّرَتْ عَلَيْهَا لَكَانَتْ صِفَةً لَهَا، وَمَعْنَى «أَبَدًا» : ماداموا فِي الْحَيَاةِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمَهُمْ بَعْدَ صُدُورِ الْقَذْفِ مِنْهُمْ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ رُجُوعِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ:
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْفِسْقُ: هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ بِالْمَعْصِيَةِ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أن هذا التأييد لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ هُوَ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبٍ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَمَعْنَى التَّوْبَةِ قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ ذلِكَ مِنْ بَعْدِ اقْتِرَافِهِمْ لِذَنَبِ الْقَذْفِ، وَمَعْنَى وَأَصْلَحُوا إِصْلَاحُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا ذَنْبُ الْقَذْفِ وَمُدَارَكَةُ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالِانْقِيَادِ لِلْحَدِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هَلْ يَرْجِعُ إلى الجملتين قبله؟ وهي جُمْلَةُ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَجُمْلَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ، أَمْ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؟ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى جملة الجلد، يُجْلَدُ التَّائِبُ كَالْمُصِرِّ، وَبَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ الْحُكْمِ بِالْفِسْقِ، فَمَحَلُّ الْخِلَافِ هَلْ يَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ، فَإِذَا تَابَ الْقَاذِفُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَزَالَ عَنْهُ الْفِسْقُ، لأن سبب ردّه هُوَ مَا كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ مِنَ الْفِسْقِ بِسَبَبِ الْقَذْفِ، فَإِذَا زَالَ بِالتَّوْبَةِ بِالْإِجْمَاعِ كَانَتِ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً. وَقَالَ الْقَاضِي شُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَكْحُولٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إِلَى جُمْلَةِ الْحُكْمِ بِالْفِسْقِ، لَا إِلَى جُمْلَةِ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَيَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْقَاذِفِ وَصْفُ الْفِسْقِ وَلَا تقبل شهادته أبدا. وذهب الشعبي والضحاك إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ قَالَ الْبُهْتَانَ، فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ التَّقْيِيدِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ دُونَ مَا قَبْلَهَا مَعَ كَوْنِ الْكَلَامِ وَاحِدًا فِي وَاقِعَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَأَوْلَوِيَّةُ الْجُمْلَةِ الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيدا لها لا تنفي كونه قَيْدًا لِمَا قَبْلَهَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ تَقْيِيدَ الْأَخِيرَةِ بِالْقَيْدِ الْمُتَّصِلِ بِهَا أَظْهَرُ مِنْ تَقْيِيدِ مَا قَبْلَهَا بِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مُجْمِعًا عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ أَظْهَرَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلَهَا ظَاهِرًا.
وَقَدْ أَطَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي الْقَيْدِ الْوَاقِعِ بَعْدَ جُمَلٍ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ الْفَنَّ، وَالْحَقُّ:
هُوَ هَذَا، وَالِاحْتِجَاجُ بِمَا وَقَعَ تَارَةً مِنَ الْقُيُودِ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَتَارَةً إِلَى بَعْضِهَا لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ كَمَا وَقَعَ هُنَا مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ رُجُوعِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى جُمْلَةِ الْجَلْدِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الْفِسْقُ الْمُتَسَبِّبُ عَنِ الْقَذْفِ قَدْ زَالَ، فَلَمْ يَبْقَ مَا يُوجِبُ الرَّدَّ لِلشَّهَادَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُورَةِ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَأَهْلُ المدينة: إن(4/11)
تَوْبَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْقَذْفِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ، وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِسَبَبِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّ تَوْبَتَهُ تَكُونُ بِأَنْ يُحَسِّنَ حَالَهُ، وَيُصْلِحَ عَمَلَهُ، وَيَنْدَمَ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ، وَيَعْزِمَ عَلَى تَرْكِ الْعُودِ إِلَى مَثَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ ولا رجع عن قوله. ويؤيد هذه الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي التَّوْبَةِ فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِمِثْلِ هَذَا الْقَيْدِ.
وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَمْحُو الذَّنْبَ، وَلَوْ كَانَ كُفْرًا فَتَمْحُو مَا هُوَ دُونَ الْكُفْرِ بِالْأَوْلَى، هَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، وَلَيْسَ مَنْ رَمَى غَيْرَهُ بِالزِّنَا بِأَعْظَمَ جُرْمًا مِنْ مُرْتَكِبِ الزِّنَا، وَالزَّانِي إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِذَا قَبِلَ اللَّهُ التَّوْبَةَ مِنَ الْعَبْدِ كَانَ الْعِبَادُ بِالْقَبُولِ أَوْلَى، مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَوْجُودٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْهَا قَوْلُهُ:
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا «1» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى الْجَمِيعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَيْسَ الْقَاذِفُ بِأَشَدَّ جُرْمًا مِنَ الْكَافِرِ، فَحَقُّهُ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، قال:
وقوله: أَبَداً أي: مادام قَاذِفًا، كَمَا يُقَالُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ أبدا فإن معناه: مادام كافرا، انتهى.
وجملة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ لِلْقَاذِفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَصَيْرُورَتِهِ مَغْفُورًا لَهُ، مَرْحُومًا مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، غَيْرَ فَاسِقٍ وَلَا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ، وَلَا مَرْفُوعَ الْعَدَالَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِحُكْمِ الْقَذْفِ عَلَى الْعُمُومِ حُكْمَ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذْفِ، وَهُوَ قَذْفُ الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي تَحْتَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لهم شهداء يشهدون بما رموهنّ به مِنَ الزِّنَا إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ شُهَدَاءُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى خَبَرِ يَكُنْ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَوْ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْجُوحِ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِرَفْعِ أَرْبَعُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَيْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمُ الَّتِي تُزِيلُ عَنْهُ حَدَ الْقَذْفِ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو أَرْبَعَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ وَاجِبَةٌ. وَقِيلَ:
إِنَّ أَرْبَعَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ: فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتِ وَقَوْلُهُ: بِاللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِشَهَادَةٍ أَوْ بِشَهَادَاتٍ، وَجُمْلَةِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ هِيَ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَأَصْلُهُ عَلَى أَنَّهُ، فَحُذِفَ الْجَارُّ وَكُسِرَتْ إِنَّ، وعلق العامل عنها وَالْخامِسَةُ قَرَأَ السَّبْعَةُ وَغَيْرُهُمْ الْخَامِسَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى الابتداء، وخبرها أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حفص و «الخامسة» بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَتَشْهَدُ الشَّهَادَةَ الْخَامِسَةَ، وَمَعْنَى إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ أَيْ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ «أَنَّ» مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَقَرَأَ نَافِعٌ بِتَخْفِيفِهَا، فَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ يَكُونُ اسْمُ أَنَّ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَلَعْنَةُ اللَّهِ: مُبْتَدَأً، وَعَلَيْهِ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ أَنَّ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ لَعْنَةُ اللَّهِ اسْمَ أَنَّ، قَالَ سِيبَوَيْهِ:
لَا تُخَفَّفُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ وَبَعْدَهَا الْأَسْمَاءُ إِلَّا وَأَنْتَ تُرِيدُ الثَّقِيلَةَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: لَا أَعْلَمُ الثقيلة إلا أجود في
__________
(1) . المائدة: 33- 34.(4/12)
العربية وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَيْ: عَنِ الْمَرْأَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الدُّنْيَوِيُّ: وَهُوَ الْحَدُّ، وَفَاعِلُ يَدْرَأُ قَوْلُهُ:
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَدَّ شَهَادَتُهَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ: أَنَّ الزَّوْجَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَالْخامِسَةَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَرْبَعٍ، أَيْ: وَتَشْهَدُ الْخَامِسَةَ كَذَلِكَ قَرَأَ حَفْصٌ وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بالرفع عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ الزَّوْجُ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَخْصِيصُ الْغَضَبِ بِالْمَرْأَةِ لِلتَّغْلِيظِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا أَصْلَ الْفُجُورِ وَمَادَّتَهُ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ يكثرن اللعن في العادة، ومع استكثار هنّ مِنْهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي قُلُوبِهِنَّ كَبِيرُ مَوْقِعٍ بِخِلَافِ الْغَضَبِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ جَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ لَنَالَ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا عَذَابٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَثِيرَ تَوْبَتِهِ عَلَى مَنْ تَابَ وَعَظِيمَ حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ فَقَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أَيْ: يَعُودُ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ عَنْ مَعَاصِيهِ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ وَالْمَغْفِرَةِ لَهُ: حَكِيمٌ فِيمَا شَرَعَ لِعِبَادِهِ مِنَ اللِّعَانِ وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُدُودِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفُسُوقِ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تَجُوزُ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: إِنْ تُبْتَ قَبِلْتُ شَهَادَتَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: تَوْبَتُهُمْ إَكْذَابُهُمْ أَنْفُسَهُمْ، فَإِنَّ أَكْذَبُوا أَنْفُسَهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ فَشَهَادَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تُقْبَلُ. وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ عَنِ التَّابِعِينَ. وَقِصَّةُ قَذْفِ الْمُغِيرَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ مَرْوِيَّةٌ مِنْ طُرُقٍ مَعْرُوفَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكِ فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ والنبي صلّى الله عليه وسلم يقول: الله يعلم أن أحد كما كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟
ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجِبَةٌ، فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمَ فمضت، فقال النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» وَأَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطَوَّلَةً. وَأَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُسَمُّوا الرَّجُلَ وَلَا الْمَرْأَةَ. وَفِي آخِرِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَالِي، قَالَ: لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» . وَأَخْرَجَ البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل ابن سَعْدٍ قَالَ: «جَاءَ عُوَيْمِرٌ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عديّ، فقال: سل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ(4/13)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
رَجُلًا فَقَتَلَهُ، أَيُقْتَلُ بِهِ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَعَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأَسْأَلَنَّهُ، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فدعا بهما فلاعن بينها. قَالَ عُوَيْمِرٌ: إِنِ انْطَلَقْتُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَذَبْتُ عَلَيْهَا، فَفَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يأمره رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَصَارَتْ سُنَّةً لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا كَاذِبًا، فَجَاءَتْ بِهِ مِثْلَ النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَفِيمَا ذكرناه كِفَايَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالُوا: لَا يَجْتَمِعُ المتلاعنان أبدا.
[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 21]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
خَبَرُ إِنَّ من قوله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ هو عُصْبَةٌ ومِنْكُمْ صِفَةٌ لِعُصْبَةٍ، وَقِيلَ:
هُوَ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ويكون عُصْبَةٌ بَدَلًا مِنْ فَاعِلِ جَاءُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَنْسَقُ فِي الْمَعْنَى وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عُصْبَةً، وَجُمْلَةُ: لَا تَحْسَبُوهُ، وَإِنْ كَانَتْ طَلَبِيَّةً، فَجَعْلُهَا خَبَرًا يَصِحُّ بِتَقْدِيرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ، وَالْإِفْكُ: أَسْوَأُ الْكَذِبِ وَأَقْبَحُهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مَنْ أَفَكَ الشَّيْءَ إِذَا قَلَبَهُ عَنْ وَجْهِهِ. فَالْإِفْكُ:
هُوَ الْحَدِيثُ الْمَقْلُوبُ، وَقِيلَ: هُوَ الْبُهْتَانُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي الْآيَةِ مَا وَقَعَ مِنَ الْإِفْكِ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ إِفْكٌ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ حَالِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خِلَافُ ذَلِكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
وَمَعْنَى الْقَلْبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ بِهِ أُولَئِكَ النَّفَرُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَسْتَحِقُّ الثَّنَاءَ بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَصَانَةِ وَشَرَفِ النَّسَبِ وَالسَّبَبِ لَا الْقَذْفَ، فَالَّذِينَ رَمَوْهَا بِالسُّوءِ قَلَبُوا الْأَمْرَ عَنْ وَجْهِهِ، فَهُوَ إِفْكٌ قَبِيحٌ، وَكَذِبٌ ظَاهِرٌ، وَالْعُصْبَةُ: هُمُ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، وَزَيْدُ بْنُ رَفَاعَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ وَمَنْ سَاعَدَهُمْ. وَقِيلَ: الْعُصْبَةُ(4/14)
مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ: مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: الْجَمَاعَةُ الذين يَتَعَصَّبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَجُمْلَةُ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ إن كانت خبرا لإنّ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عُصْبَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ، خُوطِبَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ وَصَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ الَّذِي قُذِفَ مَعَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَتَسْلِيَةٌ لَهُمْ، وَالشَّرُّ:
مَا زَادَ ضُرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ، وَالْخَيْرُ: مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ، وَأَمَّا الْخَيْرُ الَّذِي لَا شَرَّ فِيهِ فَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالشَّرُّ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ فَهُوَ النَّارُ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ خَيْرًا لَهُمْ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، مَعَ بَيَانِ بَرَاءَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَيْرُورَةِ قِصَّتِهَا هَذِهِ شَرْعًا عَامًّا لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أَيْ: بِسَبَبِ تَكَلُّمِهِ بِالْإِفْكِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ قَرَأَ الْحَسَنُ وَالزَّهْرِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَحُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ أَبِي عُلَيَّةَ وَمُجَاهِدٌ وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِضَمِّ الْكَافِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: فُلَانٌ تَوَلَّى عَظِيمَ كَذَا وَكَذَا: أَيْ أَكْبَرَهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالضَّمِّ مُعْظَمُ الْإِفْكِ، وَبِالْكَسْرِ الْبُدَاءَةُ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْكَسْرِ الْإِثْمُ. فَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِي تَوَلَّى مُعْظَمَ الْإِفْكِ مِنَ الْعُصْبَةِ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِيهِمَا.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْ عُصْبَةِ الْإِفْكِ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ؟ فَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَقِيلَ:
هُوَ حَسَّانُ، وَالْأَوَّلُ: هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وغيره أن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ جَلَدَ فِي الْإِفْكِ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً، وَهُمْ: مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَقِيلَ: جَلَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبيّ وحسان ابن ثَابِتٍ وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَلَمْ يَجْلِدْ مِسْطَحًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْقَذْفِ، وَلَكِنْ كَانَ يَسْمَعُ وَيَشِيعُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ. وَقِيلَ: لَمْ يَجْلِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الَّذِينَ حُدُّوا: حَسَّانُ وَمِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِحَدِّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عذري، قام النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ، وَسَمَّاهُمْ: حَسَّانُ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِجَلْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقِيلَ: لِتَوْفِيرِ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَحَدَّ مَنْ عَدَاهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَكْفِيرًا لِذَنْبِهِمْ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُدُودِ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ» وَقِيلَ: تَرَكَ حَدَّهُ تَأَلُّفًا لِقَوْمِهِ وَاحْتِرَامًا لِابْنِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ صَالِحِي المؤمنين وإطفاء لثائرة الْفِتْنَةِ، فَقَدْ كَانَتْ ظَهَرَتْ مَبَادِيهَا مَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَمَنْ مَعَهُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. ثُمَّ صَرَفَ سُبْحَانَهُ الْخِطَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ فَقَالَ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً لَوْلَا: هَذِهِ هِيَ التَّحْضِيضِيَّةُ تَأْكِيدًا لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَمُبَالَغَةٌ فِي مُعَاتَبَتِهِمْ، أَيْ: كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ حِينَ سَمِعُوا مَقَالَةَ أَهْلِ الْإِفْكِ أَنْ يَقِيسُوا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَبْعُدُ فِيهِمْ، فَهُوَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَبْعَدُ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى بِأَنْفُسِهِمْ: بِأَهْلِ دِينِهِمْ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِنَّهُمْ يقتلون
__________
(1) . النساء: 29.(4/15)
أَنْفُسَهُمْ. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» قَالَ النَّحَّاسُ: بِأَنْفُسِهِمْ: بِإِخْوَانِهِمْ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا رَجُلًا يَقْذِفُ أَحَدًا وَيَذْكُرُهُ بِقَبِيحٍ لَا يَعْرِفُونَهُ بِهِ أَنْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ وَيُكَذِّبُوهُ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ دَرَجَةَ الْإِيمَانِ وَالْعَفَافِ لَا يُزِيلُهَا الْخَبَرُ الْمُحْتَمَلُ وَإِنْ شَاعَ وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ أَيْ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْإِفْكِ: هَذَا إِفْكٌ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ، وَجُمْلَةُ لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ مِنْ تَمَامِ مَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ: وَقَالُوا هَلَّا جَاءَ الْخَائِضُونَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا قَالُوا: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ أَيِ: الْخَائِضُونَ فِي الْإِفْكِ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ أَيْ:
فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى هُمُ الْكَاذِبُونَ الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ هذا خطاب للسامعين، وَفِيهِ زَجْرٌ عَظِيمٌ وَلَوْلا هَذِهِ: هِيَ لِامْتِنَاعِ الشيء لوجود غيره لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ أَيْ: بِسَبَبِ مَا خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، يُقَالُ: أَفَاضَ فِي الْحَدِيثِ، وَانْدَفَعَ وَخَاضَ.
وَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَنِّي قَضَيْتُ عَلَيْكُمْ بِالْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا بِالنِّعَمِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِمْهَالُ، وَالرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ بِالْعَفْوِ، لَعَاجَلْتُكُمْ بِالْعِقَابِ على ما خضتم به مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لَمَسَّكُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، وَلَكِنْ بِرَحْمَتِهِ سَتَرَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَرْحَمُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ أَتَاهُ تَائِبًا. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمَسَّكُمْ أَوْ بِأَفَضْتُمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ» مِنَ التَّلَقِّي، وَالْأَصْلُ: تَتَلَقَّوْنَهُ فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: بَلَغَنِي كَذَا وَكَذَا وَيَتَلَقَّوْنَهُ تَلَقِّيًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: يُلْقِيهِ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ.
وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بن السميقع بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ الْقَافِ، مِنَ الْإِلْقَاءِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ «تَتَلَقَّوْنَهُ» مِنَ التَّلَقِّي، وَهِيَ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْقَافِ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ وَلَقَ يَلِقُ وَلْقًا: إِذَا كَذَبَ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: جَاءُوا بِالْمُتَعَدِّي شَاهِدًا عَلَى غَيْرِ الْمُتَعَدِّي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ يَلْقُونَ فِيهِ فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ. قَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عَمْرٍو: أَصْلُ الْوَلْقِ الْإِسْرَاعُ، يُقَالُ جَاءَتِ الْإِبِلُ تَلِقُ، أَيْ: تُسْرِعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَمَّا رَأَوْا جَيْشًا عَلَيْهِمْ قَدْ طَرَقَ ... جَاءُوا بِأَسْرَابٍ من الشّأم ولق
إنّ الحصين زلق وزمّلق ... جاءت به عنس «2» مِنَ الشَّامِ تَلِقُ
قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْ يُسْرِعُونَ فِيهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ أَيْ تَلْقُونَهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَخِيرَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْوَلْقِ، وَهُوَ الْإِسْرَاعُ بِالشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ كَعَدَدٍ فِي إِثْرِ عَدَدٍ، وَكَلَامٍ فِي إِثْرِ كَلَامٍ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَبُو جَعْفَرٍ «تَأْلِقُونَهُ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَلَامٍ مَكْسُورَةٍ وَقَافٍ مَضْمُومَةٍ مِنَ الْأَلْقِ وَهُوَ الْكَذِبُ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ «تِيلَقُونَهُ» بِكَسْرِ التَّاءِ مِنْ فَوْقٍ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ وَلَامٌ مَفْتُوحَةٌ وَقَافٌ مَضْمُومَةٌ، وَهُوَ مضارع
__________
(1) . البقرة: 54.
(2) . العنس: الناقة القوية.(4/16)
وَلِقَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَمَعْنَى وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالْأَفْوَاهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا فِي الْخَارِجِ مُعْتَقَدًا فِي الْقُلُوبِ، وَقِيلَ: إِنَّ ذِكْرَ الْأَفْوَاهِ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: «يَطِيرُ بجناحيه» «1» وَنَحْوِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي تَحْسَبُونَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي وَقَعَ الْخَوْضُ فِيهِ، وَالْإِذَاعَةُ لَهُ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أَيْ: شَيْئًا يَسِيرًا لَا يَلْحَقُكُمْ فِيهِ إِثْمٌ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ:
عَظِيمُ ذَنْبِهِ وَعِقَابِهِ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا هَذَا عِتَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ:
هَلَّا إِذْ سَمِعْتُمْ حَدِيثَ الْإِفْكِ قُلْتُمْ تَكْذِيبًا لِلْخَائِضِينَ فِيهِ الْمُفْتَرِينَ لَهُ مَا يَنْبَغِي لَنَا وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَا يَصْدُرُ ذَلِكَ مِنَّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ التَّعَجُّبُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ، وَأَصْلُهُ التَّنْزِيهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ، وَالْبُهْتَانُ: هُوَ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَيْ: هَذَا كَذِبٌ عَظِيمٌ لِكَوْنِهِ قِيلَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَصُدُورُهُ مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا من مثلها. ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أَيْ:
يَنْصَحُكُمُ اللَّهُ، أَوْ يُحَرِّمُ عَلَيْكُمْ، أَوْ يَنْهَاكُمْ كَرَاهَةً أَنْ تَعُودُوا، أَوْ مِنْ أَنْ تَعُودُوا، أَوْ فِي أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِ هَذَا الْقَذْفِ مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْوُقُوعِ فِي مَثَلِهِ مَا دُمْتُمْ، وَفِيهِ تَهْيِيجٌ عَظِيمٌ وَتَقْرِيعٌ بَالِغٌ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِتَعْمَلُوا بِذَلِكَ وَتَتَأَدَّبُوا بِآدَابِ اللَّهِ وَتَنْزَجِرُوا عَنِ الْوُقُوعِ فِي مَحَارِمِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا تُبْدُونَهُ وَتُخْفُونَهُ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرَاتِهِ لِخَلْقِهِ. ثُمَّ هَدَّدَ سُبْحَانَهُ الْقَاذِفِينَ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَسَامَعَ النَّاسَ بِعُيُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَذُنُوبِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: يُحِبُّونَ أَنْ تفشوا الْفَاحِشَةُ وَتَنْتَشِرَ، مِنْ قَوْلِهِمْ شَاعَ الشَّيْءُ يَشِيعُ شُيُوعًا وَشَيْعًا وَشَيَعَانًا: إِذَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ، وَالْمُرَادُ بالذين آمنوا: المحصنون العفيفون، أَوْ: كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ، وَالْفَاحِشَةُ: هي فاحشة الزنا أو القول السّيّئ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ وَالْآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلَّمَكُمْ بِهِ وَكَشَفَهُ لَكُمْ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ عِظَمُ ذَنَبِ الْقَذْفِ، وَعُقُوبَةُ فَاعِلِهِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ هُوَ تَكْرِيرٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَذْكِيرًا لِلْمِنَّةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ بترك المعاجلة لهم وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَمِنْ رَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ أَنْ لَا يُعَاجِلَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَجُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ رؤوف رَحِيمٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ: لَعَاجَلَكُمْ بالعقوبة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ الْخُطُوَاتُ: جَمْعُ خُطْوَةٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَالْخَطْوَةُ بِالْفَتْحِ: الْمَصْدَرُ، أَيْ: لَا تَتْبَعُوا مَسَالِكَ الشَّيْطَانِ وَمَذَاهِبَهُ وَلَا تَسْلُكُوا طَرَائِقَهُ الَّتِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «خُطُوَاتِ» بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ، وَقَرَأَ عاصم والأعمش بِضَمِّ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قِيلَ: جَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أُقِيمَ مَقَامَهُ مَا هُوَ عِلَّةٌ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَقَدِ ارْتَكَبَ الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكِرَ لِأَنَّ دَأْبَهُ أَنْ يَسْتَمِرَ آمِرًا لِغَيْرِهِ بِهِمَا، وَالْفَحْشَاءُ: مَا أَفْرَطَ قُبْحُهُ، وَالْمُنْكِرُ: مَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، وَضَمِيرُ إِنَّهُ: لِلشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: لِلشَّأْنِ، وَالْأَوْلَى
__________
(1) . الأنعام: 38.(4/17)
أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَنْ يَتَّبِعُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ صَارَ مُقْتَدِيًا بِهِ فِي الْأَمْرِ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانَهُ وَجَوَابُ لولا هو قوله: ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً أَيْ: لَوْلَا التَّفَضُّلُ وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ مَا طَهَّرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ نفسه من دنسها مادام حَيًّا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «زَكَى» بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: مَا طَهَّرَهُ اللَّهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ، أَيْ: مَا صَلُحَ.
والأولى: تفسير زكى بِالتَّطَهُّرِ وَالتَّطْهِيرِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قال الكسائي: إن قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ مُعْتَرِضٌ، وقوله: ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً جَوَابٌ لِقَوْلِهِ أَوَّلًا وَثَانِيًا: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ. وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ أَرْجَحُ لِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أَيْ: مِنْ عِبَادِهِ بِالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَفِيهِ حَثٌّ بَالِغٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَتَهْيِيجٌ عَظِيمٌ لِعِبَادِهِ التَّائِبِينَ، وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ يَتَبِّعُ الشَّيْطَانَ وَيُحِبُّ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَزْجُرُ نَفْسَهُ بِزَوَاجِرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ حَدِيثَ عَائِشَةَ الطَّوِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ. حَاصِلُهُ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُوَ مَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي شَأْنٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ هَوْدَجِهَا تَلْتَمِسُ عِقْدًا لَهَا انْقَطَعَ مِنْ جَزْعٍ، فَرَحَلُوا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهَا فِي هَوْدَجِهَا، فَرَجَعَتْ وَقَدِ ارْتَحَلَ الْجَيْشُ وَالْهَوْدَجُ مَعَهُمْ، فَأَقَامَتْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَمَرَّ بِهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ، وَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْجَيْشِ، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَحَمَلَهَا عَلَيْهَا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْإِفْكِ قَالُوا مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوهُ. هَذَا حَاصِلُ الْقِصَّةِ مَعَ طُولِهَا وَتَشَعُّبِ أَطْرَافِهَا فَلَا نُطَوُّلُ بِذِكْرٍ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ تَسْمِيَتُهُمْ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى عَائِشَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَمِسْطَحٌ وَحَسَّانُ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، فَقُلْتُ:
لَا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة ابن الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ كُلُّهُمْ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، قَالَ فَقَالَ لِي: فَمَا كَانَ جِرْمُهُ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنِي شَيْخَانِ مِنْ قَوْمِكِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هشام أَنَّهُمَا سَمِعَا عَائِشَةَ تَقُولُ: كَانَ مُسِيئًا فِي أَمْرِي. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ. حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ، حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ: دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: يَا سُلَيْمَانُ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. قَالَ: كَذَبْتَ هُوَ عَلِيٌّ. قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، فَدَخَلَ الزُّهْرِيُّ فَقَالَ: يَا ابْنَ شِهَابٍ مَنِ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ؟ فَقَالَ: ابْنُ أُبَيٍّ. قَالَ: كَذَبْتَ هُوَ عَلِيٌّ. قَالَ: أَنَا أَكْذِبُ؟(4/18)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
لا أبالك، وَاللَّهِ لَوْ نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ الْكَذِبَ مَا كَذَبْتُ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ وَسَعِيدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:
دَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى عَائِشَةَ فَشَبَّبَ «1» وَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزِنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
قَالَتْ: لَكِنَّكَ لَسْتَ كَذَلِكَ، قُلْتُ: تَدَّعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فَقَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِ الْأَنْصَارِ أَنَّ امْرَأَةَ أَبِي أَيُّوبَ قَالَتْ لَهُ حِينَ قَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى وَذَلِكَ الكذب، أكنت أنت فاعلة يَا أُمَّ أَيُّوبَ؟
قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ وَأَطْيَبُ، إِنَّمَا هَذَا كَذِبٌ وَإِفْكٌ بَاطِلٌ فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ ذَكَرَ اللَّهُ مَنْ قَالَ مِنَ الْفَاحِشَةِ مَا قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ أَيْ: كَمَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ وَصَاحِبَتُهُ. وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبٍ أَنَّ أُمَّ أَيُّوبَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً قَالَ: يُحَرِّجُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْقَائِلُ الْفَاحِشَةَ، وَالَّذِي شَيَّعَ بِهَا فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً قَالَ: مَا اهْتَدَى أحد من الخلائق لشيء من الخير.
[سورة النور (24) : الآيات 22 الى 26]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قَوْلُهُ: وَلا يَأْتَلِ أَيْ: يَحْلِفُ وَزْنُهُ يَفْتَعِلُ مِنَ الْأَلْيَةِ، وَهِيَ الْيَمِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَأَلَّى ابْنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّنِي ... إِلَى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَفَايِدُ
__________
(1) . جاء في سيرة ابن هشام [3/ 306] : قال حسان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة رضي الله عنها.(4/19)
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ
يُقَالُ: ائْتَلَى يَأْتَلِي إِذَا حَلَفَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ «1» وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ مِنْ أَلَوْتُ فِي كَذَا إِذَا قَصَرْتُ، وَمِنْهُ: لَمْ آلُ جُهْدًا، أَيْ: لَمْ أُقَصِّرْ، وَكَذَا مِنْهُ قَوْلُهُ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا «2» ومنه قول الشاعر:
وما المرء مادامت حَشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ
وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى بِدَلِيلِ سَبَبِ النُّزُولِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي، وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ: الْغِنَى وَالسَّعَةُ فِي الْمَالِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: عَلَى أَنْ لَا يُؤْتُوا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ لَا يُؤْتُوا فَحَذَفَ لَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكَ وَأَوْصَالِي
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِ لَا، وَالْمَعْنَى: لَا يَحْلِفُوا عَلَى أَنْ لَا يُحْسِنُوا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْإِحْسَانِ الْجَامِعِينَ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يُقَصِّرُوا فِي أَنْ يُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ شَحْنَاءُ لِذَنْبٍ اقْتَرَفُوهُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ «أَنْ تُؤْتُوا» بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ. ثُمَّ عَلَّمَهُمْ سُبْحَانَهُ أَدَبًا آخَرَ فَقَالَ: وَلْيَعْفُوا عَنْ ذَنْبِهِمُ الَّذِي أَذْنَبُوهُ عَلَيْهِمْ وَجِنَايَتِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، مِنْ عَفَا الرَّبْعُ أَيْ: دَرَسَ، وَالْمُرَادُ: مَحْوُ الذَّنْبِ حَتَّى يَعْفُوَ كَمَا يَعْفُو أَثَرُ الرَّبْعِ وَلْيَصْفَحُوا بِالْإِغْضَاءِ عَنِ الْجَانِي وَالْإِغْمَاضِ عَنْ جِنَايَتِهِ، وَقُرِئَ بِالْفَوْقِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَرْغِيبًا عَظِيمًا لِمَنْ عَفَا وَصَفَحَ فَقَالَ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ بِسَبَبِ عَفْوِكُمْ وَصَفْحِكُمْ عَنِ الْفَاعِلِينَ لِلْإِسَاءَةِ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِعِبَادِهِ مَعَ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ، فَكَيْفَ لَا يَقْتَدِي الْعِبَادُ بِرَبِّهِمْ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُسِيئِينَ إِلَيْهِمْ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ الْمُحْصَنَاتِ وَذَكَرَنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَنِينَ مِنَ الرِّجَالِ حُكْمُ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ خَاصَّةٌ أَوْ عَامَّةٌ؟ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ خَاصَّةٌ فِيمَنْ رَمَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ خَاصَّةٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ فِي عَائِشَةَ وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَمَنْ قَذَفَ إحدى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَمِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ رَمَى إِحْدَى أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُنَّ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ التَّوْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا «3» وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْقَذْفِ وَلَمْ يَتُبْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ قَاذِفٍ وَمَقْذُوفٍ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ وَالْمُحَصَنِينَ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَرَّرَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السبب. وقيل: إنها
__________
(1) . البقرة: 226.
(2) . آل عمران: 18.
(3) . النور: 5.(4/20)
خَاصَّةٌ بِمُشْرِكِي مَكَّةَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْمَرْأَةِ إِذَا خَرَجَتْ مُهَاجِرَةً إِنَّمَا خَرَجَتْ لِتَفْجُرَ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ:
إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ المؤمنون مِنَ الْقَذَفَةِ، فَالْمُرَادُ بِاللَّعْنَةِ الْإِبْعَادُ، وَضَرْبُ الْحَدِّ وَهَجْرُ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ، وَزَوَالُهُمْ عَنْ رُتْبَةِ الْعَدَالَةِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ خَاصَّةً كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي جَانِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَالْمُرَادُ بِالْغَافِلَاتِ: اللَّاتِي غَفَلْنَ عَنِ الْفَاحِشَةِ بِحَيْثُ لَا تَخْطُرُ بِبَالِهِنَّ وَلَا يَفْطِنَّ لَهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ النَّزَاهَةِ وَطَهَارَةِ الْجَيْبِ مَا لم يكن في المحصنات، ويقل: هُنَّ السَّلِيمَاتُ الصُّدُورِ النَّقِيَّاتُ الْقُلُوبِ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مُبَيِّنَةٌ لِوَقْتِ حُلُولِ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِهِمْ وَتَعْيِينُ الْيَوْمِ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَوْمَ تَشْهَدُ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ: أَبُو حاتم، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ: أَبُو عَبِيدٍ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ قَدْ حَالَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ. وَالْمَعْنَى:
تَشْهَدُ أَلْسِنَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقِيلَ: تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا عَمِلُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْطِقُهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَشْهُودُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ذُنُوبُهُمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، أَيْ: تَشْهَدُ هَذِهِ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا وَمَعَاصِيهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أَيْ: يَوْمَ تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة ويعطيهم اللَّهُ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهَا مُوَفَّرًا، فَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هَاهُنَا: الْجَزَاءُ، وَبِالْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ. قَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «يُوفِيهِمْ» مُخَفَّفًا مَنْ أَوْفَى، وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ وَفَّى. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَمُجَاهِدٌ «الْحَقُّ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلَّهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِدِينِهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَلَوْلَا كَرَاهَةُ خِلَافِ النَّاسِ لَكَانَ الْوَجْهُ الرَّفْعَ، لِيَكُونَ نَعْتًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِتَكُونَ مُوَافِقَةً لِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ الْحَقَّ دِينَهُمْ» . وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، لِأَنَّهُ احْتَجَّ بِمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، وَلَا حُجَّةَ أَيْضًا فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ أنه في مصحف أبيّ كذلك جَازَ أَنْ يَكُونَ دِينُهُمْ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أَيْ: وَيَعْلَمُونَ عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ لِذَلِكَ وَوُقُوعِهِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الْمُبِينُ الْمُظْهِرُ لِلْأَشْيَاءِ كَمَا هِيَ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ سُبْحَانَهُ الْحَقُّ لِأَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ الْحَقُّ دُونَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِالْحَقِّ، أَيْ: الْمَوْجُودُ لِأَنَّ نَقِيضَهُ الْبَاطِلُ وَهُوَ الْمَعْدُومُ.
ثُمَّ خَتَمَ سُبْحَانَهُ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ فَقَالَ: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ أَيِ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، أَيْ: مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ لَا تَتَجَاوَزُهُمْ، وَكَذَا الْخَبِيثُونَ مُخْتَصُّونَ بِالْخَبِيثَاتِ لَا يَتَجَاوَزُونَهُنَّ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى: الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلْخَبِيثِينِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخَبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ الْكَلِمَاتِ، وَالْكَلِمَاتُ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ، وَالطَّيِّبُونَ مِنَ النَّاسِ لِلطَّيِّبَاتِ مِنَ الْكَلِمَاتِ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَاهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْخَبِيثَاتِ إِلَّا الخبيث من الرجال والنساء،(4/21)
ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهَذَا ذَمٌّ لِلَّذِينَ قَذَفُوا عائشة بالخبث ومدح للذين برّؤوها.
وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِهِ: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً فَالْخَبِيثَاتُ: الزَّوَانِي، وَالطَّيِّبَاتُ: الْعَفَائِفُ، وَكَذَا الْخَبِيثُونَ وَالطَّيِّبُونَ، والإشارة بقوله: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ إِلَى الطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبَاتِ، أَيْ:
هُمْ مبرّؤون مِمَّا يَقُولُهُ الْخَبِيثُونَ وَالْخَبِيثَاتُ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ، وَقِيلَ: عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ فَقَطْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَمَعَ كَمَا قَالَ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «1» وَالْمُرَادُ أَخَوَانِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي: هؤلاء المبرّؤون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا لَا يَخْلُو عَنْهُ البشر من الذنوب وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو رِزْقُ الْجَنَّةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْتَلِ الْآيَةَ، يَقُولُ:
لَا يُقْسِمُوا أَنْ لَا يَنْفَعُوا أَحَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ مِمَّنْ تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَكَانَ قَرِيبًا لِأَبِي بَكْرٍ وَكَانَ فِي عِيَالِهِ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنِيلَهُ خَيْرًا أبدا، فأنزل الله وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ الْآيَةَ، قَالَتْ: فَأَعَادَهُ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عِيَالِهِ وَقَالَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا تَحَلَّلْتُهَا وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَمَوْا عَائِشَةَ بِالْقَبِيحِ وَأَفْشَوْا ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا فِيهَا، فَأَقْسَمَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَتَصَدَّقُوا عَلَى رَجُلٍ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَلَا يصلوه، فقال: لا يقسم أولو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يَصِلُوا أَرْحَامَهُمْ، وَأَنْ يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قَبْلِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ وَأَنْ يُعْفَى عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْآيَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هذه هي عائشة وأزواج النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُجْعَلْ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَوْبَةٌ، وَجُعِلَ لِمَنْ رَمَى امْرَأَةً مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ غير أزواج النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ التَّوْبَةُ، ثُمَّ قَرَأَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا «2» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فَجَحَدَ وَخَاصَمَ، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيُقَالُ:
أَهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيُقَالُ: احْلِفُوا فَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ اللَّهُ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ الْجَوَارِحِ عَلَى الْعُصَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ قَالَ: حِسَابُهُمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ في القرآن: الدين: فَهُوَ الْحِسَابُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ يومئذ يوفيهم الله الحقّ دينهم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْخَبِيثاتُ قَالَ: مِنَ الكلام لِلْخَبِيثِينَ قال:
__________
(1) . النساء: 11. [.....]
(2) . النور: 4- 5.(4/22)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
مِنَ الرِّجَالِ وَالْخَبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثاتِ مِنَ الْكَلَامِ وَالطَّيِّباتُ مِنَ الْكَلَامِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ وَالطَّيِّبُونَ مِنَ النَّاسِ لِلطَّيِّباتِ مِنَ الْكَلَامِ، نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ قَالُوا فِي زَوْجَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا قَالُوا مِنَ الْبُهْتَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ حِينَ رَمَاهَا الْمُنَافِقُونَ بِالْبُهْتَانِ وَالْفِرْيَةِ فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ هُوَ الْخَبِيثُ، فَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ لَهُ الْخَبِيثَةُ وَيَكُونُ لَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيِّبًا، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ لَهُ الطَّيِّبَةُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكَانَتْ أَوْلَى بِأَنْ يكون لها الطيب، وفي قوله: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ قَالَ: هَاهُنَا بُرِئَّتْ عَائِشَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ نَزَلَ عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ، وَلَقَدْ خُلِقْتُ طَيِّبَةً وَعِنْدَ طيب، ولقد وعدت مغفرة وأجرا عظيما.
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
لِمَا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ الزَّجْرِ عَنِ الزِّنَا وَالْقَذْفِ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ الزَّجْرِ عَنْ دُخُولِ الْبُيُوتِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، فَرُبَّمَا يؤدّي إلى أحد الأمرين المذكورين، وأيضا إِنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ وَمَكَانِ خَلْوَتِهِ على حالة لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ دُخُولِ بُيُوتِ الْغَيْرِ إِلَى غَايَةٍ، هِيَ قَوْلُهُ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَالِاسْتِئْنَاسُ: الِاسْتِعْلَامُ والاستخبار، أي: حتى تستعلموا ما فِي الْبَيْتِ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ قَدْ عَلِمَ بِكُمْ وَتَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ بِدُخُولِكُمْ، فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ دَخَلْتُمْ، وَمِنْهُ قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أَيْ: عَلِمْتُمْ. قَالَ الْخَلِيلُ: الِاسْتِئْنَاسُ: الِاسْتِكْشَافُ، مِنْ أَنِسَ الشَّيْءَ: إِذَا أَبْصَرَهُ، كَقَوْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً أَيْ: أَبْصَرْتُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّهُ بِمَعْنَى وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَصْرِيفُ الْفِعْلِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنِسَ. وَمَعْنَى كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ هَذَا أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الِاسْتِيحَاشِ، لِأَنَّ الَّذِي يَطْرُقُ بَابَ غَيْرِهِ لَا يَدْرِي أَيُؤْذَنُ لَهُ أَمْ لَا؟ فَهُوَ كَالْمُسْتَوْحِشِ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ، فَإِذَا أُذِنَ لَهُ اسْتَأْنَسَ، فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ دُخُولِ تِلْكَ الْبُيُوتِ حَتَّى يُؤْذَنَ لِلدَّاخِلِ. وَقِيلَ:
هُوَ مِنَ الْإِنْسِ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَرَّفَ هَلْ ثَمَّ إِنْسَانٌ أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: مَعْنَى الِاسْتِئْنَاسِ: الِاسْتِئْذَانُ، أَيْ: لَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جبير أنهم قرءوا «تَسْتَأْذِنُوا» قَالَ مَالِكٌ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: الِاسْتِئْنَاسُ فِيمَا يَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: الِاسْتِئْذَانُ، وَقَوْلُهُ: وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها قَدْ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي بِأَنْ يَقُولَ:(4/23)
السلام عليكم، أأدخل؟ مَرَّةً أَوْ ثَلَاثًا كَمَا سَيَأْتِي.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقَدِّمُ الِاسْتِئْذَانَ عَلَى السَّلَامِ أَوِ الْعَكْسَ، فَقِيلَ: يقدم الاستئذان، فيقول: أأدخل سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لِتَقْدِيمِ الِاسْتِئْنَاسِ فِي الْآيَةِ عَلَى السَّلَامِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ يُقَدِّمُ السَّلَامَ عَلَى الاستئذان فيقول:
السلام عليكم أأدخل، وَهُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْبَيَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِلْآيَةِ كَانَ هَكَذَا. وَقِيلَ: إِنْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى إِنْسَانٍ قَدَّمَ السَّلَامَ، وَإِلَّا قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الِاسْتِئْنَاسِ وَالتَّسْلِيمِ، أَيْ: دُخُولُكُمْ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الدُّخُولِ بَغْتَةً لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ: أُمِرْتُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّذَكُّرِ: الِاتِّعَاظُ، وَالْعَمَلُ بِمَا أُمِرُوا بِهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِي الْبُيُوتِ الَّتِي لِغَيْرِكُمْ أَحَدًا مِمَّنْ يُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِ فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ بِدُخُولِهَا مِنْ جِهَةِ مَنْ يَمْلِكُ الْإِذْنَ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا، أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَكُمْ فِيهَا مَتَاعٌ، وَضَعَّفَهُ وَهُوَ حَقِيقٌ بِالضَّعْفِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحَدِ الْمَذْكُورِ أَهْلُ الْبُيُوتِ الَّذِينَ يَأْذَنُونَ لِلْغَيْرِ بِدُخُولِهَا، لَا مَتَاعَ الدَّاخِلِينَ إِلَيْهَا وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي:
قَالَ لَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا، وَلَا تُعَاوِدُوهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا تَنْتَظِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْذَنُوا لَكُمْ بَعْدَ أَمْرِهِمْ لَكُمْ بِالرُّجُوعِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرُّجُوعَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِلْحَاحِ، وَتَكْرَارِ الِاسْتِئْذَانِ، وَالْقُعُودِ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ: هُوَ أَزْكى لَكُمْ أَيْ: أَفْضَلُ «وَأَطْهَرُ» مِنَ التَّدَنُّسِ بِالْمُشَاحَّةِ عَلَى الدُّخُولِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَالْبُعْدِ مِنَ الرِّيبَةِ، وَالْفِرَارِ مِنَ الدَّنَاءَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ خَافِيَةٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أَيْ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إِلَى الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَسْكُونَةٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبُيُوتِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْفَنَادِقُ الَّتِي فِي الطُّرُقِ السَّابِلَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِابْنِ السَّبِيلِ يَأْوِي إِلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ حَوَانِيتُ الْقَيْسَارِيَّاتِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ:
لِأَنَّهُمْ جَاءُوا بِبِيُوعِهِمْ فَجَعَلُوهَا فِيهَا، وَقَالُوا لِلنَّاسِ: هَلُمَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُرَادُ بِهَا الْخَرِبُ الَّتِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَفِي هَذَا أَيْضًا مَتَاعٌ. وَقِيلَ: هِيَ بُيُوتُ مَكَّةَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ شُرَكَاءُ فِيهَا، وَلَكِنْ قَدْ قَيَّدَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْبُيُوتَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا بِأَنَّهَا غَيْرُ مَسْكُونَةٍ.
وَالْمَتَاعُ: الْمَنْفَعَةُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: فِيهَا مَنْفَعَةٌ لكم، ومنه قوله: «ومتّعوهنّ» وَقَوْلُهُمْ:
أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّعْبِيُّ الْمَتَاعَ فِي كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِالْأَعْيَانِ الَّتِي تُبَاعُ. قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ الْجِهَازَ، وَلَكِنْ مَا سِوَاهُ مِنَ الْحَاجَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أَيْ: مَا تُظْهِرُونَ وما تخفون، وفيه وعيد لمن يَتَأَدَّبْ بِآدَابِ اللَّهِ فِي دُخُولِ بُيُوتِ الْغَيْرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيٌّ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكُونُ فِي بَيْتِي عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي لَا أُحِبُّ أَنْ يَرَانِي عَلَيْهَا أَحَدٌ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، فَيَأْتِينِي الْأَبُ فَيَدْخُلُ عَلَيَّ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ: وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الحالة، فنزلت:(4/24)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ وَابْنُ مَنْدَهْ فِي غَرَائِبِ شُعْبَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا قَالَ: أَخْطَأَ الْكَاتِبُ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بن منصور وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيُّ قَالَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ «حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْذِنُوا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الِاسْتِئْنَاسُ: الاستئذان. وأخرج ابن أبي شيبة والحكيم الترمذي وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها هذا التسليم قد عرفنا فَمَا الِاسْتِئْنَاسُ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بِتَسْبِيحَةٍ وَتَكْبِيرَةٍ وَتَحْمِيدَةٍ وَيَتَنَحْنَحُ فَيُؤْذِنُ أَهْلَ الْبَيْتِ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الِاسْتِئْنَاسُ: أَنْ يَدْعُوَ الْخَادِمَ حَتَّى يَسْتَأْنِسَ أَهْلُ الْبَيْتِ الَّذِينَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ كَلَدَةَ «أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ فِي الْفَتْحِ بِلِبَأِ وَضَغَابِيسَ «1» ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِأَعْلَى الْوَادِي، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ارْجِعْ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ رِبْعِيٍّ، قَالَ: «حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ، فَقَالَ: أَأَلِجُ؟
فَقَالَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟» . وَأَخْرَجَ ابن جرير عن عمرو بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَمَةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةُ:
قَوْمِي إِلَى هَذَا فَعَلِّمِيهِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَزِعًا، فَقُلْنَا لَهُ: مَا أَفْزَعَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْتُهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ فَقُلْتُ: قَدْ جِئْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» قَالَ: لَتَأْتِيَنِي عَلَى هَذَا بِالْبَيِّنَةِ، فَقَالُوا:
لَا يَقُومُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ مَعَهُ لِيَشْهَدَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى: إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مِدْرًى «2» يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ. وَفِي لَفْظِ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ البصر. وأخرج أبو يعلى وابن جرير
__________
(1) . بلبأ وضغابيس: اللّبأ: أول اللّبن، والضّغابيس: صغار القثّاء.
(2) . مدرى: المدرى والمدراة: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط وأطول منه يسرّح به الشعر المتلبد.(4/25)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: لَقَدْ طَلَبْتُ عُمْرِي كُلَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُهَا، أَنْ أَسْتَأْذِنَ عَلَى بَعْضِ إِخْوَانِي، فَيَقُولُ لِي ارْجِعْ، فَأَرْجِعُ وَأَنَا مُغْتَبِطٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَابْنُ جَرِيرٍ عن ابن عباس قال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها فنسخ، واستثنى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ.
[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الِاسْتِئْذَانِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حُكْمِ النَّظَرِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ غَضُّ الْبَصَرِ مِنَ الْمُسْتَأْذِنِ، كَمَا قَالَ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ تَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ قِطْعِ ذَرَائِعِ الزِّنَا الَّتِي مِنْهَا النَّظَرُ، هُمْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِهَا، وَأَوْلَى بِذَلِكَ مِمَّنْ سِوَاهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرْعِيَّاتِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ غُضُّوا يَغُضُّوا وَمَعْنَى غَضِّ الْبَصَرِ: إِطْبَاقُ الْجَفْنِ عَلَى الْعَيْنِ بِحَيْثُ تَمْتَنِعُ الرُّؤْيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا
وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
وَأَغُضُّ طَرَفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا
و «من» فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَبْصارِهِمْ هِيَ: التَّبْعِيضِيَّةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ، وَبَيَّنُوهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا يَحْرُمُ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ. وَقِيلَ: وَجْهُ التَّبْعِيضِ أَنَّهُ يُعْفَى لِلنَّاظِرِ أَوَّلَ نَظْرَةٍ تَقَعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مُبْهَمٌ يَكُونُ مُفَسَّرًا بِمَنْ، وقيل: إنها لابتداء الغاية. قال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ: الْغَضُّ النُّقْصَانُ، يُقَالُ:
غَضَّ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ: أَيْ: وَضَعَ مِنْهُ، فَالْبَصَرُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ مَغْضُوضٌ مِنْهُ وَمَنْقُوصٌ فَتَكُونُ «مِنْ» صِلَةً لِلْغَضِّ، وَلَيْسَتْ لِمَعْنًى مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ مَنْ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ حِفْظُهَا عَمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ سَتْرُ(4/26)
فُرُوجِهِمْ عَنْ أَنْ يَرَاهَا مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ رُؤْيَتُهَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَالْكُلُّ يَدْخُلُ تَحْتَ حِفْظِ الْفَرْجِ.
قِيلَ: وَوَجْهُ الْمَجِيءِ بِمِنْ فِي الْأَبْصَارِ دُونَ الْفُرُوجِ أَنَّهُ مُوَسَّعٌ فِي النَّظَرِ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، بِخِلَافِ حِفْظِ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ مُضَيَّقٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْهُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ. وَقِيلَ: الْوَجْهُ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ كُلِّهِ كَالْمُتَعَذِّرِ، بِخِلَافٍ حِفْظِ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْغَضِّ وَالْحِفْظِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ أَزْكى لَهُمْ أي: أظهر لَهُمْ مِنْ دَنَسِ الرِّيبَةِ وَأَطْيَبُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِهَذِهِ الدَّنِيئَةِ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صُنْعِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَغُضَّ بَصَرَهُ وَيَحْفَظْ فَرْجَهُ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ خَصَّ سُبْحَانَهُ الْإِنَاثَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ لِدُخُولِهِنَّ تَحْتَ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ تَغْلِيبًا كَمَا فِي سائر الخطابات القرآنية، وظهر التضعيف في يغضضن وَلَمْ يَظْهَرْ فِي يَغُضُّوا، لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ مِنَ الْأَوَّلِ مُتَحَرِّكَةٌ وَمِنَ الثَّانِي سَاكِنَةٌ وَهُمَا فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالْغَضِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَبْلَ حِفْظِ الْفَرْجِ، لِأَنَّ النَّظَرَ وَسِيلَةٌ إِلَى عَدَمِ حِفْظِ الْفَرْجِ، وَالْوَسِيلَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى: يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ كَمَعْنَى يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ نَظَرِ النِّسَاءِ إِلَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ حِفْظُ فُرُوجِهِنَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي حِفْظِ الرِّجَالِ لِفُرُوجِهِمْ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أَيْ: مَا يَتَزَيَّنَّ بِهِ مِنَ الْحِلْيَةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ الزينة، نهى عَنْ إِبْدَاءِ مَوَاضِعِهَا مِنْ أَبْدَانِهِنَّ بِالْأَوْلَى. ثُمَّ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ، فَقَالَ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ظَاهِرِ الزينة ما هُوَ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ وَزَادَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْوَجْهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ:
ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الْكُحْلُ وَالسِّوَاكُ وَالْخِضَابُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبْدِيَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُبْدِي شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ وَتُخْفِي كُلَّ شَيْءٍ مِنْ زِينَتِهَا، وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْهَا بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ ظَاهَرَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيَّ النَّهْيُ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا كَالْجِلْبَابِ وَالْخِمَارِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا عَلَى الْكَفِّ وَالْقَدَمَيْنِ مِنَ الْحِلْيَةِ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ مَوَاضِعَهَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَى مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُهُ كَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ إِظْهَارِ الزِّينَةِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ إِظْهَارِ مَوَاضِعِهَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الزِّينَةُ تَشْمَلُ مَوَاضِعَ الزِّينَةِ وَمَا تَتَزَيَّنُ بِهِ النِّسَاءُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مِنَ الْجَمِيعِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ:
الزِّينَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: خِلْقِيَّةٌ، وَمُكْتَسَبَةٌ فَالْخِلْقِيَّةُ وَجْهُهَا فَإِنَّهُ أَصْلُ الزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ مَا تُحَاوِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَحْسِينِ خَلْقِهَا كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ «1» وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى ... وَإِذَا عُطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِسْكَانِ اللَّامِ الَّتِي للأمر. وقرأ أبو عمرو بكسرها
__________
(1) . الأعراف: 31.(4/27)
عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ أَصْلَ لَامِ الْأَمْرِ الْكَسْرُ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالْخُمُرُ جمع خمار، وَمِنْهُ:
اخْتَمَرَتِ الْمَرْأَةُ وَتَخَمَّرَتْ. وَالْجُيُوبُ: جَمْعُ جَيْبٍ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنَ الدِّرْعِ وَالْقَمِيصِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَوْبِ وَهُوَ الْقَطْعُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نِسَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ كُنَّ يُسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، وكانت جيوبهنّ من الأمام واسعة، فكان تَنْكَشِفُ نُحُورُهُنَّ وَقَلَائِدُهُنَّ، فَأُمِرْنَ أَنْ يَضْرِبْنَ مَقَانِعَهُنَّ عَلَى الْجُيُوبِ لِتَسْتُرَ بِذَلِكَ مَا كَانَ يَبْدُو، وَفِي لَفْظِ الضَّرْبِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِلْقَاءِ الَّذِي هُوَ الْإِلْصَاقُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِخُمُرِهِنَّ» بِتَحْرِيكِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِسُكُونِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «جُيُوبِهِنَّ» بِضَمِّ الْجِيمِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِكَسْرِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي النَّحْوِيِّينَ لَا يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ مِنَ الضَّمَّةِ كَسْرَةً، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ، فَمُحَالٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ إِلَّا عَلَى الْإِيمَاءِ، وَقَدْ فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْجُيُوبَ بِمَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ مَعْنَى عَلَى جُيُوبِهِنَّ: عَلَى صُدُورِهِنَّ، فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: عَلَى مَوَاضِعِ جُيُوبِهِنَّ. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِأَجْلِ مَا سَيَذْكُرُهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الْبَعْلُ: هُوَ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدَّمَ الْبُعُولَةَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالزِّينَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَنِ الزَّوْجَةِ والسرية حلال لهم، ومثله قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ «1» ثُمَّ لَمَّا اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ الزَّوْجَ أَتْبَعَهُ بِاسْتِثْنَاءِ ذَوِي الْمَحَارِمِ فَقَالَ: أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ فَجَوَّزَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُبْدِينَ الزِّينَةَ لِهَؤُلَاءِ لِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ وَعَدَمِ خَشْيَةِ الْفِتْنَةِ لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنَ النُّفْرَةِ عَنِ الْقَرَائِبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَنْظُرَانِ إِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، ذَهَابًا مِنْهُمَا إِلَى أَنَّ أَبْنَاءَ الْبُعُولَةِ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَالْمُرَادُ بِأَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ: ذُكُورُ أَوْلَادِ الْأَزْوَاجِ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَأَوْلَادُ بَنَاتِهِنَّ وَإِنْ سَفَلُوا، وَكَذَا آبَاءُ الْبُعُولَةِ، وَآبَاءُ الْآبَاءِ، وَآبَاءُ الْأُمَّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْا، وَكَذَلِكَ أَبْنَاءُ الْبُعُولَةِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَكَذَلِكَ أَبْنَاءُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى مَا يَجُوزُ لَهُمْ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الرَّضَاعِ، وَهُوَ كَالنَّسَبِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ: لَيْسَ الْعَمُّ وَالْخَالُ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَمَعْنَى أَوْ نِسائِهِنَّ هُنَّ الْمُخْتَصَّاتُ بِهِنَّ الْمُلَابِسَاتِ لَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِمَاءُ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ نِسَاءُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ لَا يَتَحَرَّجْنَ عَنْ وَصْفِهِنَّ لِلرِّجَالِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِضَافَةُ النِّسَاءِ إِلَيْهِنَّ تَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنَاتِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَشْمَلُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ أَوْ كَافِرِينَ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سلمة وابن عباس ومالك. وقال سعيد ابن الْمُسَيِّبِ: لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إِنَّمَا عَنَى بِهَا الْإِمَاءَ وَلَمْ يَعْنِ بِهَا الْعَبِيدَ. وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ الْمَمْلُوكُ إِلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَرُوِيَ عَنِ
__________
(1) . المؤمنون: 5 و 6 والمعارج: 29 و 30.(4/28)
ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ جريج أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ غَيْرِ:
بِالْجَرِّ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنِ عَامِرٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى الْقَطْعِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّابِعِينَ: هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْقَوْمَ فَيُصِيبُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَّا ذلك، ولا حاجة لهم في النساء قال مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الرِّجَالِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَأَصْلُ الْإِرْبَةِ وَالْأَرَبِ وَالْمَأْرَبَةِ الْحَاجَةُ وَالْجَمْعُ مَآرِبُ، أَيْ: حَوَائِجُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سبحانه: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى «1» ومه قَوْلُ طَرَفَةَ:
إِذَا الْمَرْءُ قَالَ الْجَهْلَ وَالْحَوْبَ «2» وَالْخَنَا ... تَقَدَّمَ يَوْمًا ثُمَّ ضَاعَتْ مَآرِبُهُ
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِغَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ الْحَمْقَى الَّذِينَ لَا حَاجَةَ لَهُمْ فِي النِّسَاءِ، وَقِيلَ: الْبَلِهُ، وَقِيلَ:
الْعِنِّينُ، وَقِيلَ: الْخَصِيُّ، وَقِيلَ: الْمُخَنَّثُ، وَقِيلَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، بَلِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ظَاهِرُهَا وَهُمْ مِنْ يَتْبَعُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيَدْخُلُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَيَخْرُجُ مَنْ عَدَاهُ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ الطِّفْلُ: يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، أَوِ الْمُرَادِ بِهِ هُنَا الْجِنْسُ الْمَوْضُوعُ مَوْضِعَ الْجَمْعِ بِدَلَالَةِ وَصْفِهِ بِوَصْفِ الْجَمْعِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «أَوِ الْأَطْفَالِ» عَلَى الْجَمْعِ، يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ طِفْلٌ: مَا لَمْ يُرَاهِقِ الْحُلُمَ، وَمَعْنَى لَمْ يَظْهَرُوا: لَمْ يَطَّلِعُوا، من الظهور بمعنى الاطلاع، قال ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشهوة، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، يُقَالُ ظَهَرْتُ عَلَى كَذَا: إِذَا غَلَبَتُهُ وَقَهَرَتُهُ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَيَكْشِفُوا عَنْهَا لِلْجِمَاعِ، أَوْ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ لِلْجِمَاعِ. قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ «عَوْرَاتِ» بِسُكُونِ الْوَاوِ تَخْفِيفًا، وَهِيَ لُغَةُ جُمْهُورِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الفراء:
أخو بيضات رائح متأوب ... رفيق بمسح الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ سَتْرِ مَا عَدَا الْوَجْهِ، وَالْكَفَّيْنِ مِنَ الْأَطْفَالِ، فَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الصحيح وقيل: يلزم لأنه قد يشتهي الْمَرْأَةُ. وَهَكَذَا اخْتُلِفَ فِي عَوْرَةِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي قَدْ سَقَطَتْ شَهْوَتُهُ، وَالْأَوْلَى: بَقَاءُ الْحُرْمَةِ كما كانت، فلا يحلّ النظر إلى عورته وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْشِفَهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العلماء في حدّ العورة. قال القرطبي: أجمع المسلمون على أن السوأتين عَوْرَةٌ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إِلَّا وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: إِنَّ عَوْرَةَ الرَّجُلِ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أَيْ: لَا تَضْرِبُ الْمَرْأَةُ بِرِجْلِهَا إِذَا مَشَتْ لِيُسْمَعَ صَوْتُ خَلْخَالِهَا مَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الرِّجَالِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ذَاتُ خَلْخَالٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَسَمَاعُ هَذِهِ الزِّينَةِ أَشَدُّ تَحْرِيكًا لِلشَّهْوَةِ مِنْ إِبْدَائِهَا. ثُمَّ أَرْشَدَ عِبَادَهُ إلى التوبة عن المعاصي فقال سبحانه:
__________
(1) . طه: 18.
(2) . الحوب: بضم الحاء وفتحها الإثم. والخنا: الفحش.(4/29)
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيهِ الْأَمْرُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِهَا وَأَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوْبَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُرَغِّبُهُمْ فِي التَّوْبَةِ، فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ:
تَفُوزُونَ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْبَةِ هُنَا هِيَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا تَقَرَّرَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقَاتِ الْمَدِينَةِ، فَنَظَرَ إلى امرأة وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ إِلَّا إِعْجَابًا بِهِ، فَبَيْنَمَا الرَّجُلُ يَمْشِي إِلَى جَنْبِ حَائِطٍ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، إِذِ اسْتَقْبَلَهُ الْحَائِطُ فَشَقَّ أَنْفَهُ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَا أَغْسِلُ الدَّمَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُعْلِمُهُ أَمْرِي، فَأَتَاهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ:
هَذَا عُقُوبَةُ ذَنْبِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ قَالَ: يَعْنِي مِنْ شَهَوَاتِهِمْ مِمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَلَيْسَتْ لَكَ الْأُخْرَى» وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إيّاكم والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله ما لنا بدّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: إِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا، قُلْتُ: إِذَا كَانَ أحدنا خاليا، قال: فالله أحقّ أن يستحيى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَتَبَ اللَّهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَزِنَا الْأُذُنَيْنِ السَّمَاعُ، وَزِنَا الْيَدَيْنِ الْبَطْشُ، وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ الْخَطْوُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومَةٌ، فَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ حَدَّثَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ كَانَتْ فِي نَخْلٍ لَهَا لَبَنِي حَارِثَةَ، فَجَعَلَ النِّسَاءُ يَدْخُلْنَ عَلَيْهَا غَيْرَ مُتَّزِرَاتٍ فَيَبْدُو مَا فِي أَرْجُلِهِنَّ، يَعْنِي الْخَلَاخِلَ، وَتَبْدُو صُدُورُهُنَّ وَذَوَائِبُهُنَّ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: مَا أَقْبَحَ هَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الْآيَةَ وَفِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مُرْسَلًا مُقَاتِلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ(4/30)
مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ قَالَ: الزِّينَةُ السِّوَارُ وَالدُّمْلُجُ «1» وَالْخَلْخَالُ وَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ: الثِّيَابُ وَالْجِلْبَابُ. وَأَخْرَجَ ابن شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: الزِّينَةُ زِينَتَانِ:
زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ وَزِينَةٌ بَاطِنَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ، فَأَمَّا الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ فَالثِّيَابُ، وَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ فَالْكُحْلُ وَالسِّوَارُ وَالْخَاتَمُ. وَلَفْظُ ابْنُ جَرِيرٍ: فَالظَّاهِرَةُ مِنْهَا: الثِّيَابُ، وَمَا خَفِيَ: الْخَلْخَالَانِ، وَالْقُرْطَانِ، وَالسِّوَارَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ:
الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ خِضَابُ الْكَفِّ وَالْخَاتَمِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَأَخْرَجَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَجْهُهَا وَكَفَّاهَا وَالْخَاتَمُ، وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: رُقْعَةُ الْوَجْهِ، وَبَاطِنُ الْكَفِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ قَالَ:
الْقَلْبُ «2» وَالْفَتْخُ «3» ، وَضَمَّتْ طَرَفَ كُمِّهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفِّهِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنْ عَائِشَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ: «رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُولَاتِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شَقَقْنَ أَكْثَفَ مُرُوطِهِنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهَا بِلَفْظِ: أَخَذَ النِّسَاءُ أُزْرَهُنَّ فَشَقَقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها وَالزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْوَجْهُ وَكُحْلُ الْعَيْنَيْنِ وَخِضَابُ الْكَفِّ وَالْخَاتَمُ، فَهَذَا تُظْهِرُهُ فِي بَيْتِهَا لِمَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ الْآيَةَ، وَالزِّينَةُ الَّتِي تُبْدِيهَا لِهَؤُلَاءِ قُرْطُهَا وَقِلَادَتُهَا وَسِوَارُهَا، فَأَمَّا خَلْخَالُهَا وَمِعْضَدُهَا وَنَحْرُهَا وَشَعْرُهَا فَإِنَّهَا لَا تُبْدِيهِ إِلَّا لِزَوْجِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ نِسائِهِنَّ قَالَ: هُنَّ الْمُسْلِمَاتُ، لَا تبديه ليهودية، ولا لنصرانية، وَهُوَ النَّحْرُ وَالْقُرْطُ وَالْوِشَاحُ، وَمَا يَحْرُمُ أَنْ يَرَاهُ إِلَّا مَحْرَمٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَانْهَ مَنْ قِبَلَكَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن ينظر إلى عورتها إلى أَهْلُ مِلَّتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا بَأْسَ أن يرى العبد
__________
(1) . الدّملج: الحلّي يوضع في العضد.
(2) . القلب: الأساور.
(3) . قال في النهاية: الفتخ: خواتيم كبار توضع في الأيدي وربما في الأرجل.(4/31)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
شَعْرَ سَيِّدَتِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وُهِبَ لَهَا وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت بِهِ رَأْسُهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ به رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ» وَإِسْنَادُهُ فِي سنن أبي داود هكذا: حدّثنا محمد ابن عِيسَى حَدَّثَنَا أَبُو جُمَيْعٍ سَالِمُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ لَهُ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» ، وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ هَكَذَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ نبهان عن أُمَّ سَلَمَةَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ قَالَ: هَذَا الَّذِي لا تستحي مِنْهُ النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ يَتْبَعُ الْقَوْمَ وَهُوَ مُغَفَّلٌ فِي عَقْلِهِ، لَا يَكْتَرِثُ لِلنِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَتْبَعُ الرَّجُلَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ لَا يَغَارُ عَلَيْهِ وَلَا تَرْهُبُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هو المخنّث الذي لا يقوم قضيبه. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ، فَكَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإربة، فدخل النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً قَالَ: إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَلَا أَرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَاهُنَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ» فَحَجَبُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ وَهُوَ أَنْ تَقْرَعَ الْخَلْخَالَ بِالْآخَرِ عِنْدَ الرِّجَالِ، أَوْ يَكُونُ فِي رِجْلِهَا خَلَاخِلُ فَتُحَرِّكُهُنَّ عِنْدَ الرِّجَالِ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشيطان.
[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ، وَحِفْظِ الْفُرُوجِ، أَرْشَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا يَحِلُّ لِلْعِبَادِ مِنَ النِّكَاحِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَسُكُونُ دَوَاعِي الزِّنَا، وَيَسْهُلُ بَعْدَهُ غَضُّ الْبَصَرِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ عَمَّا لَا يَحِلُّ، فَقَالَ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ الْأَيِّمُ: الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَالْجَمْعُ أَيَامَى، والأصل أيايم، والأيم بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَيَشْمَلُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: اتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الأيم(4/32)
فِي الْأَصْلِ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ رَجُلٌ أَيِّمٌ وَامْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي النِّسَاءِ، وَهُوَ كَالْمُسْتَعَارِ فِي الرجال، ومه قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
لِلَّهِ دَرُّ بَنِي عَلِيٍّ ... أَيِّمٍ مِنْهُمْ وَنَاكِحِ
وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الْآخَرِ:
لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صاحب ... رجاء بسلمى أن تئيم كَمَا إِمْتُ
وَالْخِطَابُ فِي الْآيَةِ: لِلْأَوْلِيَاءِ، وَقِيلَ: لِلْأَزْوَاجِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكِحُ نَفْسَهَا، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي النكاح هل هو مُبَاحٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، أَوْ وَاجِبٌ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ: الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِلَى الثَّانِي: مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِلَى الثَّالِثِ: بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا:
إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ لَا يُخَالِفُونَ فِي الْوُجُوبِ مَعَ تِلْكَ الْخَشْيَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مَعَ عَدَمِهَا سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ المؤكدة لقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بَعْدَ تَرْغِيبِهِ فِي النِّكَاحِ: «وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَلَكِنْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى مُؤَنِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَيَامَى هُنَا: الْأَحْرَارُ وَالْحَرَائِرُ، وَأَمَّا الْمَمَالِيكُ فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «عِبَادِكُمْ» وَقَرَأَ الْحَسَنُ «عَبِيدِكُمْ» قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ وَإِمَاءَكُمْ بِالنَّصْبِ بِرَدِّهِ عَلَى الصَّالِحِينَ، وَالصَّلَاحُ: هُوَ الْإِيمَانُ. وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الصَّلَاحَ فِي الْمَمَالِيكِ دُونَ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَحْرَارِ الصَّلَاحُ بِخِلَافِ الْمَمَالِيكِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يُزَوِّجُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهُ مَالِكُهُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكْرِهَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى الْكَلَامِ فِي الْأَحْرَارِ فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ لَا تَمْتَنِعُوا مِنْ تَزْوِيجِ الْأَحْرَارِ بِسَبَبِ فَقْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَكُونُوا فَقُرَّاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَيَتَفَضَّلْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: حَثَّ اللَّهُ عَلَى النِّكَاحِ وَأَعْلَمَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِنَفْيِ الْفَقْرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَاصِلًا لِكُلِّ فَقِيرٍ إِذَا تَزَوَّجَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ. وَقَدْ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ لَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْغِنَى إِذَا تَزَوَّجُوا. وَقِيلَ الْمَعْنَى:
إِنَّهُ يُغْنِيهِ بِغِنَى النَّفْسِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ يَكُونُوا فَقُرَاءَ إِلَى النِّكَاحِ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مَنْ فَضْلِهِ بِالْحَلَالِ لِيَتَعَفَّفُوا عَنِ الزِّنَا.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ «1» فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَاكَ، وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَمُقَرِّرَةٌ لها، والمراد أن سُبْحَانَهُ ذُو سَعَةٍ لَا يَنْقُصُ مِنْ سَعَةِ مُلْكِهِ غِنَى مَنْ يُغْنِيهِ مِنْ عِبَادِهِ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ، يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ وَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْعَاجِزِينَ عَنِ النِّكَاحِ، بَعْدَ بَيَانِ جَوَازِ مُنَاكَحَتِهِمْ، إِرْشَادًا لَهُمْ إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فَقَالَ: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً اسْتَعَفَّ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ عفيفا، أي: ليطلب العفة عن الزنا
__________
(1) . التوبة: 28.(4/33)
وَالْحَرَامِ مَنْ لَا يَجِدُ نِكَاحًا، أَيْ: سَبَبَ نِكَاحٍ، وَهُوَ الْمَالُ. وَقِيلَ: النِّكَاحُ هُنَا مَا تُنْكَحُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، كَاللِّحَافِ: اسْمٌ لِمَا يُلْتَحَفُ بِهِ، وَاللِّبَاسِ: اسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ، وَقَيَّدَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِتِلْكَ الْغَايَةِ، وَهِيَ حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: يَرْزُقَهُمْ رِزْقًا يَسْتَغْنُونَ بِهِ وَيَتَمَكَّنُونَ بِسَبَبِهِ مِنَ النِّكَاحِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ، الْجُمْلَةِ الْأُولَى: وَهِيَ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ وَعْدًا حَتْمًا، لَا مَحَالَةَ فِي حُصُولِهِ، لَكَانَ الْغِنَى وَالزَّوَاجُ مُتَلَازِمَيْنِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعْفَافِ مَعَ الْفَقْرِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ سَيُغْنَى عِنْدَ تَزَوُّجِهِ لَا مَحَالَةَ، فَيَكُونُ فِي تَزَوُّجِهِ مَعَ فَقْرِهِ تَحْصِيلٌ لِلْغِنَى، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِالِاسْتِعْفَافِ لِلْعَاجِزِ عَنْ تَحْصِيلِ مَبَادِئِ النِّكَاحِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُقُوعُ الْغِنَى لَهُ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَنْكِحَ، فَإِنَّهُ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ نِكَاحًا إِذَا كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِأَسْبَابِهِ الَّتِي يَتَحَصَّلُ بِهَا، وَأَعْظَمُهَا: الْمَالُ. ثُمَّ لَمَّا رَغَّبَ سُبْحَانَهُ فِي تَزْوِيجِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، أَرْشَدَ الْمَالِكِينَ إِلَى طَرِيقَةٍ يَصِيرُ بِهَا الْمَمْلُوكُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْرَارِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الموصول في محل رفع، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: وَكَاتِبُوا الذين يبتغون الكتاب: كَالْمُكَاتَبَةِ، يُقَالُ: كَاتَبَ يُكَاتِبُ كِتَابًا وَمُكَاتَبَةً، كَمَا يُقَالُ قَاتَلَ يُقَاتِلُ قِتَالًا وَمُقَاتَلَةً. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هَاهُنَا اسْمُ عَيْنٍ لِلْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَاتَبُوا الْعَبْدَ كَتَبُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كِتَابًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِينَ يَطْلُبُونَ كِتَابَ الْمُكَاتَبَةِ. وَمَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ فِي الشَّرْعِ: أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ مُنَجَّمًا، فَإِذَا أَدَّاهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَكاتِبُوهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا طَلَبَ الْكِتَابَةَ مِنْ سَيِّدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، وَهُوَ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَالْخَيْرُ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَالُ فَقَطْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَطَاوُسٌ وَمُقَاتِلٌ. وَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ إِنْ رَجَوْتُمْ عِنْدَهُمْ وَفَاءً، وَتَأْدِيَةً لِلْمَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا قَالَ: «فِيهِمْ» كَانَ الْأَظْهَرُ الِاكْتِسَابَ، وَالْوَفَاءَ وَأَدَاءَ الْأَمَانَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِنَّ الْخَيْرَ: الدِّينُ وَالْأَمَانَةُ. وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْمَالُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ لِمَوْلَاهُ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مَالٌ؟ قَالَ:
وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْخَيْرَ هُنَا الْمَالُ أَنْكَرَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ مَالًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ عَلِمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَالْأَمَانَةَ، وَلَا يُقَالُ عَلِمْتُ فِيهِ الْمَالَ.
هَذَا حَاصِلُ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أهل العلم في الخبر الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مِنَ الْوُجُوبِ، أما عكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بْنُ دِينَارٍ وَالضَّحَّاكُ: وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُكَاتِبَ مَمْلُوكَهُ، إِذَا طَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ وَعَلِمَ فِيهِ خَيْرًا.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكُوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْكِتَابَةُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذِهِ حُجَّةٌ وَاهِيَةٌ وَشُبْهَةٌ دَاحِضَةٌ، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ(4/34)
عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمَوَالِيَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُكَاتَبِينَ، فَقَالَ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ لِلْمَالِكِينَ بِإِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ، إما بأن يعطوهم شيئا من المال، أو بأن يَحُطُّوا عَنْهُمْ مِمَّا كُوتِبُوا عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَدَمُ تَقْدِيرِ ذَلِكَ بِمِقْدَارٍ، وَقِيلَ: الثُّلُثُ، وَقِيلَ: الرُّبُعُ، وَقِيلَ:
الْعُشْرُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ الْمَوَالِي بِهَذَا الْأَمْرِ هُوَ كَوْنُ الْكَلَامِ فِيهِمْ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ فَإِنَّهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالْكِتَابَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقول: وَآتُوهُمْ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ:
إِنَّ الْخِطَابَ لِلْوُلَاةِ بِأَنْ يُعْطُوا الْمُكَاتَبِينَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ حَظَّهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَفِي الرِّقابِ «1» ، وَلِلْمُكَاتَبِ أَحْكَامٌ مَعْرُوفَةٌ إِذَا وَفَّى بِبَعْضِ مَالِ الْكِتَابَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرْشَدَ الْمَوَالِيَ إِلَى نِكَاحِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْمَمَالِيكِ، نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِكْرَاهِ إِمَائِهِمْ عَلَى الزِّنَا فَقَالَ: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ وَالْمُرَادُ بِالْفَتَيَاتِ هُنَا: الْإِمَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْفَتَى وَالْفَتَاةُ قَدْ يُطْلَقَانِ عَلَى الْأَحْرَارِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
وَالْبِغَاءُ: الزِّنَا، مَصْدَرُ بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا زَنَتْ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِزِنَا النِّسَاءِ، فَلَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا زَنَا إِنَّهُ بَغِيٌّ، وَشَرَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَتِهِمْ لِلتَّحَصُّنِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ تُرِدِ التَّحَصُّنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، وَالْمُرَادُ بِالتَّحَصُّنِ هُنَا: التَّعَفُّفُ وَالتَّزَوُّجُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَيْدَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَيَامَى. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ، وَإِمَائِكُمْ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا. وَقِيلَ: هَذَا الشَّرْطُ مُلْغًى. وَقِيلَ:
إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُكْرِهُونَهُنَّ وَهُنَّ يُرِدْنَ التَّعَفُّفَ، وَلَيْسَ لِتَخَصُّصِ النَّهْيِ بِصُورَةِ إِرَادَتِهِنَّ التَّعَفُّفَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مُرِيدَةٍ لِلْحَلَالِ وَلَا لِلْحَرَامِ، كَمَا فِيمَنْ لَا رَغْبَةَ لها في النكاح كالصغيرة، فَتُوصَفُ بِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، مَعَ عَدَمِ إِرَادَتِهَا لِلتَّحَصُّنِ، فَلَا يَتِمُّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَصُّنِ هُنَا مُجَرَّدُ التَّعَفُّفِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تُرِيدُ الزَّوَاجَ أَنَّهَا مُرِيدَةٌ لِلتَّحَصُّنِ وهو بعيد، فقد قال الحبر ابن عباس: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَصُّنِ: التَّعَفُّفُ وَالتَّزَوُّجُ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُوَ مَا تَكْسِبُهُ الْأَمَةُ بِفَرْجِهَا، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا خَارِجٌ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْعَرَضَ هُوَ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى إِكْرَاهِ الْإِمَاءِ عَلَى الْبِغَاءِ فِي الْغَالِبِ، لِأَنَّ إِكْرَاهَ الرَّجُلِ لِأَمَتِهِ عَلَى الْبِغَاءِ لَا لِفَائِدَةٍ لَهُ أَصْلًا، لَا يَصْدُرُ مِثْلُهُ عَنِ الْعُقَلَاءِ، فَلَا يَدُلُّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ مُبْتَغِيًا بِإِكْرَاهِهَا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لِلْإِكْرَاهِ هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَادَتَهُمْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَا أَنَّهُ مَدَارٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِكْرَاهِ لَهُنَّ، وَهَذَا يُلَاقِي المعنى الأوّل ولا يخالفه وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذَا مُقَرِّرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَمُؤَكِّدٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عُقُوبَةَ الْإِكْرَاهِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُكْرِهِينَ لَا إِلَى الْمُكْرَهَاتِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدُ بْنُ جبير:
__________
(1) . البقرة: 177.(4/35)
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُنَّ. قِيلَ: وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا غَيْرُ آثِمَةٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، فَرُبَّمَا لَا تَخْلُو فِي تَضَاعِيفِ الزِّنَا عَنْ شَائِبَةٍ مُطَاوَعَةٍ إِمَّا بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ الْإِكْرَاهُ قَاصِرًا عَنْ حَدِّ الْإِلْجَاءِ الْمُزِيلِ لِلِاخْتِيَارِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُمْ: إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَيَانِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، شَرَعَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ:
الْأُولَى: أَنَّهُ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ، أَيْ: وَاضِحَاتٍ فِي أَنْفُسِهِنَّ أَوْ مُوَضَّحَاتٍ، فَتَدْخُلُ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ، أَيْ: مَثَلًا كَائِنًا مِنْ جِهَةِ أَمْثَالِ الَّذِينَ مَضَوْا مِنَ الْقَصَصِ الْعَجِيبَةِ، وَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لَهُمْ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ الْعَجَبَ مِنْ قِصَّةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، هُوَ كَالْعَجَبِ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ وَمَا اتُّهِمَا بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ وَبَرَاءَتُهُمَا سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ مَوْعِظَةً يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُتَّقُونَ خَاصَّةً، فَيَقْتَدُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَيَنْزَجِرُونَ عَمَّا فِيهِ مِنَ النَّوَاهِي. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عَنْ سَمَاعِ الْمَوَاعِظِ، والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشمل عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى الْآيَةَ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالنِّكَاحِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُزَوِّجُوا أَحْرَارَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْغِنَى فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ مِنَ النِّكَاحِ يُنْجِزُ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْغِنَى، قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:
مَا رَأَيْتُ كَرَجُلٍ لَمْ يَلْتَمِسِ الْغِنَى فِي الْبَاءَةِ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ فِيهَا مَا وَعَدَ، فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْكِحُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَكُمْ بِالْمَالِ» . وَأَخْرَجَهُ ابن أبي شيبة وأبو داود في مراسيله عن عروة مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يذكر عائشة وهو مرسل. وأخرج عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ فِي مُطْلَقِ النِّكَاحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً قَالَ: لِيَتَزَوَّجْ مَنْ لَا يَجِدُ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُغْنِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السَّكَنِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ أبيه قال: كنت مملوكا لحويطب ابن عَبْدِ الْعُزَّى، فَسَأَلْتُهُ الْكِتَابَةَ فَأَبَى، فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلَنِي سِيرِينُ الْمُكَاتَبَةَ فَأَبَيْتُ عَلَيْهِ، فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: كَاتِبْهُ وَتَلَا فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فَكَاتَبْتُهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ إِسْنَادَهُ(4/36)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ حِرْفَةً، وَلَا تُرْسِلُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ المنذر وابن وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قَالَ: الْمَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَانَةٌ وَوَفَاءٌ.
وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنْ عَلِمْتَ مُكَاتَبَكَ يَقْضِيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِيلَةً، وَلَا تُلْقُوا مُؤْنَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ يعني: ضعوا عنهم من مُكَاتَبَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حِرْفَةٌ وَيَقُولُ: يُطْعِمُنِي مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الْآيَةَ: أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعَيِّنُوا فِي الرِّقَابِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَمَرَ اللَّهُ السَّيِّدَ أَنْ يَدَعَ لِلْمُكَاتَبِ الرُّبُعَ مِنْ ثَمَنِهِ. وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ، وَلَكِنْ فِيهِ أَجْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ بُرَيْدَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: حَثَّ النَّاسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطُوهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٌ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يقول الجارية لَهُ: اذْهَبِي فَابْغِينَا شَيْئًا، وَكَانَتْ كَارِهَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ لهنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ هكذا كان يقرؤها، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا أُمَيْمَةُ، فَكَانَ يُرِيدُهُمَا عَلَى الزِّنَا، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ الْأَوَّلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغِينَ إِمَاءَهُمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُكْرِهُونَ إِمَاءَهُمْ عَلَى الزِّنَا، يَأْخُذُونَ أُجُورَهُنَّ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ مِنْهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ وَحُلْوَانِ الكاهن.
[سورة النور (24) : الآيات 35 الى 38]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)(4/37)
لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا بَيَّنَ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ فَقَالَ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا، وَالِاسْمُ الشَّرِيفُ: مُبْتَدَأٌ، ونور السموات وَالْأَرْضِ:
خَبَرُهُ، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذو نور السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُرَادِ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ نُورٌ لِكَمَالِ جَلَالِهِ وَظُهُورِ عَدْلِهِ وبسط أَحْكَامَهُ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ نُورُ الْبَلَدِ وَقَمَرُ الزَّمَنِ وَشَمْسُ الْعَصْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
فَإِنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ ... إِذَا ظَهَرَتْ لَمْ يَبْقَ فيهنّ كوكب «1»
وقول الآخر:
هلّا خصصت من البلاد بمقصد ... قَمَرُ الْقَبَائِلِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَرْوِ لَيْلَةً ... فَقَدْ سَارَ مِنْهَا نُورُهَا وَجِمَالُهَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى ... نُورًا وَمِنْ فَلَقَ الصَّبَاحِ عَمُودَا
وَمَعْنَى النُّورِ فِي اللُّغَةِ: الضِّيَاءُ، وَهُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ الْأَشْيَاءَ وَيُرِيَ الْأَبْصَارَ حَقِيقَةَ مَا تَرَاهُ، فَيَجُوزُ إِطْلَاقُ النُّورِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَدْحِ، وَلِكَوْنِهِ أَوْجَدَ الْأَشْيَاءِ الْمُنَوَّرَةِ وَأَوْجَدَ أَنْوَارَهَا وَنُورَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ «الله نور السموات وَالْأَرْضَ» عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَفَاعِلِهِ ضَمِيرٌ يرجع إلى الله، والسموات مَفْعُولُهُ فَمَعْنَى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ صَيَّرَهُمَا مُنِيرَتَيْنِ بِاسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ أَهْلِهِمَا وَكَمَالِ تَدْبِيرِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ فِيهِمَا، كَمَا يُقَالُ: الْمَلِكُ نُورُ الْبَلَدِ، هَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَزْهَرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالْقُرَظِيُّ وَابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَمَثَلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَنْتَ لَنَا نُورٌ وغيث وعصمة ... ونبت لمن يرجو نداك وريق
وَقَالَ هِشَامٌ الْجَوَالِيقِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُجَسِّمَةِ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَجِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ، وَقَوْلُهُ:
مَثَلُ نُورِهِ مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهُ كَمِشْكاةٍ أَيْ: صِفَةُ نُورِهِ الْفَائِضِ عَنْهُ، الظَّاهِرُ عَلَى الْأَشْيَاءِ كَمِشْكَاةِ، وَالْمِشْكَاةُ: الْكُوَّةُ فِي الْحَائِطِ غَيْرُ النَّافِذَةِ، كَذَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ جُمْهُورِهِمْ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْمِشْكَاةِ أَنَّهَا أَجْمَعُ لِلضَّوْءِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، مِنْ مِصْبَاحٍ أو غيره، وأصل المشكاة الوعاء يُجْعَلُ فِيهِ الشَّيْءُ. وَقِيلَ: الْمِشْكَاةُ عَمُودُ الْقِنْدِيلِ الَّذِي فِيهِ الْفَتِيلَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقِنْدِيلُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَأَنَّ عَيْنَيْهِ مشكاتان في حجر
__________
(1) . وفي رواية: إذا طلعت لم يبد منهن كوكب.(4/38)
ثُمَّ قَالَ: فِيها مِصْباحٌ وَهُوَ السِّرَاجُ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: النُّورُ فِي الزُّجَاجِ، وَضَوْءُ النَّارِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وضوؤه يَزِيدُ فِي الزُّجَاجِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الزُّجَاجَ جِسْمٌ شَفَّافٌ يَظْهَرُ فِيهِ النُّورُ أَكْمَلَ ظُهُورٍ. ثُمَّ وَصَفَ الزُّجَاجَةَ فَقَالَ: الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أَيْ: مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّرِّ لِكَوْنِ فِيهِ مِنَ الصَّفَاءِ وَالْحُسْنِ مَا يُشَابِهُ الدُّرَّ. وَقَالَ الضحاك: الكوكب الدّري: الزهرة. قرأ أبو عمرو «دِرِّيٌّ» بِكَسْرِ الدَّالِّ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لَمْ أَسْمَعْ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: إِلَّا كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دِرِّيٌّ بِكَسْرِ الدَّالِّ، أَخَذُوهُ مَنْ دَرَأَتِ النُّجُومُ تَدْرَأُ إِذَا انْدَفَعَتْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الدَّالِّ مَهْمُوزًا، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد.
وقال أَبُو عُبَيْدٍ: إِنْ ضَمَمْتَ الدَّالَّ وَجَبَ أَنْ لَا تَهْمِزَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالدَّرَارِيُّ: هِيَ الْمَشْهُورَةُ مِنَ الْكَوَاكِبِ كَالْمُشْتَرِي وَالزُّهْرَةِ وَالْمِرِّيخِ وَمَا يُضَاهِيهَا مِنَ الثَّوَابِتِ. ثُمَّ وَصَفَ الْمِصْبَاحَ بِقَوْلِهِ: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وَمِنْ هَذِهِ: هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ، أَيْ: ابْتِدَاءُ إِيقَادِ الْمِصْبَاحِ مِنْهَا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: يُوقَدُ مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، وَالْمُبَارَكَةُ: الْكَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ. وَقِيلَ: الْمُنَمَّاةُ، وَالزَّيْتُونُ مِنْ أَعْظَمِ الثِّمَارِ نَمَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ يَرْثِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ:
لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرٍو ... وَلَيْتَ يَقُولُهَا الْمَحْزُونُ
بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا بو ... رك نَبْعُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ
قِيلَ: وَمِنْ بَرَكَتِهَا أَنَّ أَغْصَانَهَا تُورِقُ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا، وَهِيَ إِدَامٌ وَدِهَانٌ وَدِبَاغٌ وَوَقُودٌ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ، ثُمَّ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذَا الْوَصْفِ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّ الشَّرْقِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُصِيبُهَا الشَّمْسُ إِذَا شَرَقَتْ، وَلَا تُصِيبُهَا إِذَا غَرَبَتْ. وَالْغَرْبِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُصِيبُهَا إِذَا غَرَبَتْ، وَلَا تُصِيبُهَا إِذَا شَرَقَتْ.
وَهَذِهِ الزَّيْتُونَةُ هِيَ فِي صَحْرَاءَ بِحَيْثُ لَا يَسْتُرُهَا عَنِ الشَّمْسِ شَيْءٌ لَا فِي حَالِ شُرُوقِهَا وَلَا فِي حَالِ غُرُوبِهَا، وَمَا كَانَتْ مِنَ الزَّيْتُونِ هَكَذَا فَثَمَرُهَا أَجْوَدُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ فِي دَوْحَةٍ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا، فَهِيَ غَيْرُ مُنْكَشِفَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ، حَكَى هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَفْسُدُ جَنَاهَا، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ فِي الْوُجُودِ. وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ وَلَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا لَكَانَتْ إِمَّا شَرْقِيَّةً وَإِمَّا غَرْبِيَّةً. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: زَيْتُونَةٌ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ شَجَرَةٌ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا مِنْ شَجَرِ الشَّامِ، فَإِنَّ الشَّامَ لَا شَرْقِيٌّ وَلَا غَرْبِيٌّ، وَالشَّامُ: هِيَ الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ. وَقَدْ قُرِئَ «تُوقَدُ» بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الزُّجَاجَةِ دُونَ الْمِصْبَاحِ، وَبِهَا قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَأَيُّوبٌ وَسَلَامٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ وَحَفْصٌ يُوقَدُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِّ، وقرأ الحسن والسلمي وأبو عمرو بْنُ الْعَلَاءِ وَأَبُو جَعْفَرٍ «تَوَقَّدَ» بِالْفَوْقِيَّةِ مَفْتُوحَةً، وَفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَفَتْحِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنْ تَوَقَّدَ يَتَوَقَّدُ، وَالضَّمِيرُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى الْمِصْبَاحِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا لِلْمِصْبَاحِ، وهو(4/39)
أَشْبَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُنِيرُ وَيُضِيءُ، وَإِنَّمَا الزُّجَاجَةُ وِعَاءٌ لَهُ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ كَقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَمَنْ مَعَهُ إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ الدَّالَّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مُضَارِعٌ، وَأَصْلُهُ تَتَوَقَّدُ. ثُمَّ وَصَفَ الزَّيْتُونَةَ بِوَصْفٍ آخَرَ فَقَالَ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَمْسَسْهُ» بِالْفَوْقِيَّةِ، لِأَنَّ النَّارَ مُؤَنَّثَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ إِلَّا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ السُّدِّيَّ رَوَى عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عباس أنه قرأ «يمسسه» بالتحتية لكونه تَأْنِيثِ النَّارِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الزَّيْتَ فِي صَفَائِهِ وَإِنَارَتِهِ يَكَادُ يُضِيءُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ أَصْلًا، وَارْتِفَاعُ نُورُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ نور، وعَلى نُورٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِنُورٍ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: هُوَ نُورٌ كَائِنٌ عَلَى نُورٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَالْمُرَادُ النَّارُ عَلَى الزَّيْتِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمِصْبَاحُ: نُورٌ، وَالزُّجَاجَةُ: نُورٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نُورُ الْإِيمَانِ وَنُورُ الْقُرْآنِ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ: أَيْ هِدَايَةً خَاصَّةً مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا مُجَرَّدُ الدَّلَالَةِ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ أَيْ يُبَيِّنُ الْأَشْيَاءَ بِأَشْبَاهِهَا وَنَظَائِرِهَا تَقْرِيبًا لَهَا إِلَى الْأَفْهَامِ وَتَسْهِيلًا لِإِدْرَاكِهَا، لِأَنَّ إِبْرَازَ الْمَعْقُولِ فِي هَيْئَةِ الْمَحْسُوسِ وَتَصْوِيرَهُ بِصُورَتِهِ يَزِيدُهُ وُضُوحًا وَبَيَانًا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَعْقُولًا كَانَ أَوْ مَحْسُوسًا، ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ بم هُوَ مُتَعَلِّقٌ؟ فَقِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: كَمِشْكَاةٍ فِي بَعْضِ بُيُوتِ اللَّهِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ نُورِهِ كَمَا تَرَى فِي الْمَسْجِدِ نُورُ الْمِشْكَاةِ الَّتِي مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ وَكَيْتَ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمِصْبَاحٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ: هُوَ حَالٌ لِلْمِصْبَاحِ وَالزُّجَاجَةِ وَالْكَوْكَبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهِيَ فِي بُيُوتٍ، وقيل: متعلق بتوقد، أَيْ: تُوقَدُ فِي بُيُوتٍ، وَقَدْ قِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ يُسَبِّحُ، أَيْ: يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ فِي بُيُوتٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: «فِيهَا» تَكْرِيرًا كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ جَالِسٌ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ اللَّهُ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ. قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ أنه من جلس في المسجد فَإِنَّمَا يُجَالِسُ رَبَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: عَلَى تَقْدِيرِ تعلقه بمشكاة أو بمصباح أو بتوقد مَا الْوَجْهُ فِي تَوْحِيدِ الْمِصْبَاحِ وَالْمِشْكَاةِ وَجَمْعِ البيوت؟ وَلَا تَكُونُ الْمِشْكَاةُ الْوَاحِدَةُ وَلَا الْمِصْبَاحُ الْوَاحِدُ إِلَّا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي يُفْتَحُ أَوَّلُهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَيُخْتَمُ بالجمع كقوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «1» وَنَحْوِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى فِي بُيُوتٍ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُيُوتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْتٍ، أَوْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُيُوتِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْبُيُوتِ، عَلَى أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بُيُوتُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ أَنَّهَا بُيُوتُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: الرَّابِعُ:
هِيَ الْبُيُوتُ كلها، قال عِكْرِمَةُ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ الْأَرْبَعَةُ الْكَعْبَةُ، وَمَسْجِدُ قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قال ابْنُ زَيْدٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ والباء من بيوت تُضَمُّ وَتُكْسَرُ كُلُّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي اللُّغَةِ، وَمَعْنَى أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ: أَمَرَ وَقَضَى، وَمَعْنَى تُرْفَعُ تُبْنَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ «2» وقال الحسن
__________
(1) . الطلاق: 1. [.....]
(2) . البقرة: 127.(4/40)
الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى تُرْفَعُ تُعَظَّمُ، وَيُرْفَعُ شَأْنُهَا وَتُطَهَّرُ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرَّفْعِ هُنَا مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، وَمَعْنَى يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ كُلُّ ذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقِيلَ: هُوَ التَّوْحِيدُ، وَقِيلَ:
الْمُرَادُ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ «يُسَبَّحُ» بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحِّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ إِلَّا ابْنَ وَثَّابٍ وَأَبَا حيوة فإنهما قرءا بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ أَحَدَ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ، ويكون رجال مرفوع عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَكَأَنَّهُ جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحُهُ؟ فَقِيلَ:
يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. الثَّانِي: أَنَّ رِجَالٌ مُرْتَفَعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ رِجَالٌ فَاعِلُ يُسَبِّحُ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ يَكُونُ الْفَاعِلُ أَيْضًا رِجَالٌ، وَإِنَّمَا أُنِّثَ الْفِعْلُ لِكَوْنِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُؤَنَّثِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا التَّسْبِيحِ مَا هُوَ؟ فَالْأَكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، قَالُوا: الْغُدُوُّ: صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالْآصَالُ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءَيْنِ، لِأَنَّ اسْمَ الْآصَالِ يَشْمَلُهَا، وَمَعْنَى بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ: بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَقِيلَ: صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الضُّحَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ هُنَا: مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَهُ، وَهَذَا أَرْجَحُ مِمَّا قَبْلَهُ، لكونه المعنى الحقيقي، مع وجود دليل يدل عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِرِجَالٍ، أَيْ: لَا تَشْغَلُهُمُ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ عَنِ الذِّكْرِ وَخَصَّ التِّجَارَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمَ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ الذِّكْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التِّجَارَةُ لِأَهْلِ الْجَلَبِ، وَالْبَيْعُ مَا بَاعَهُ الرَّجُلُ عَلَى بَدَنِهِ، وَخَصَّ قَوْمٌ التِّجَارَةَ هَاهُنَا بِالشِّرَاءِ لِذِكْرِ الْبَيْعِ بَعْدَهَا. وَبِمِثْلِ قَوْلِ الْفَرَّاءِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فقال التجار: هم الجلاب المسافرون والباعة الْمُقِيمُونَ، وَمَعْنَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ:
هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْأَذَانُ، وَقِيلَ: عَنْ ذِكْرِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. أَيْ:
يُوَحِّدُونَهُ وَيُمَجِّدُونَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ: عَنِ الصَّلَاةِ، وَيَرُدُّهُ ذِكْرُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الذِّكْرِ هُنَا. وَالْمُرَادُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ إِقَامَتُهَا لِمَوَاقِيتِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَحُذِفَتِ التَّاءُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَقُومُ مَقَامَهَا فِي ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ جَمَعَهَا الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ:
ثَلَاثَةٌ تحذف تاءاتها ... مضافة عند جمع النُّحَاةِ
وَهْيَ إِذَا شِئْتَ أَبُو عُذْرِهَا ... وَلَيْتَ شِعْرِي وَإِقَامُ الصَّلَاةِ
وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ فِي الِاسْتِشْهَادِ لِلْحَذْفِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا ... وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا
أَيْ: عِدَةَ الْأَمْرِ، وَفِي هَذَا الْبَيْتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَذْفَ مَعَ الْإِضَافَةِ لَا يَخْتَصُّ بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ الْمَوَاضِعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا حُذِفَتِ الْهَاءُ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَقَمْتَ الصَّلَاةَ إِقَامَةً، وَكَانَ الْأَصْلُ إِقْوَامًا، وَلَكِنْ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلْفًا فَاجْتَمَعَتْ أَلْفَانِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَبَقِيَ أَقَمْتُ الصَّلَاةَ إِقَامًا، فأدخلت الهاء عوضا من الْمَحْذُوفِ وَقَامَتِ الْإِضَافَةُ هَاهُنَا فِي التَّعْوِيضِ مَقَامَ الْهَاءِ الْمَحْذُوفَةِ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. انْتَهَى. وقد احتاج(4/41)
مَنْ حَمَلَ ذِكْرَ اللَّهِ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَنْ يَحْمِلَ إِقَامَ الصَّلَاةِ عَلَى تَأْدِيَتِهَا فِي أَوْقَاتِهَا فِرَارًا مِنَ التَّكْرَارِ وَلَا مُلْجِئَ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ يُحْمَلُ الذِّكْرُ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا. وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ الْمَذْكُورَةِ: هِيَ الْمَفْرُوضَةُ، وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ طَاعَةُ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصُ، إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مَالٌ يَخافُونَ يَوْماً أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ لَا ظَرْفٌ لَهُ، ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْيَوْمَ بِقَوْلِهِ: تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ أَيْ:
تَضْطَرِبُ وَتَتَحَوَّلُ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْقُلُوبِ: انْتِزَاعُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا إِلَى الْحَنَاجِرِ فَلَا تَرْجِعُ إِلَى أَمَاكِنِهَا وَلَا تَخْرُجُ، وَالْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْأَبْصَارِ: هُوَ أَنْ تَصِيرَ عَمْيَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُبْصِرَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْقُلُوبِ أَنَّهَا تَكُونُ مُتَقَلِّبَةٌ بَيْنَ الطَّمَعِ فِي النَّجَاةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَأَمَّا تقلب الأبصار فهو النظر مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يُؤْخَذُونَ، وَإِلَى أَيِّ نَاحِيَةٍ يَصِيرُونَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَحَوُّلُ قُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّكِّ إِلَى الْيَقِينِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «1» فَمَا كَانَ يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا غَيًّا يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ رُشْدًا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّقَلُّبُ عَلَى جَمْرِ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، أَيْ:
أَحْسَنَ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ حَسْبَمَا وَعَدَهُمْ مِنْ تَضْعِيفِ ذَلِكَ إِلَى عَشَرَةِ أَمْثَالِهِ وَإِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ما يتفضل سبحانه به عليه زِيَادَةً عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَضُّلُ عَلَيْهِمْ بِمَا فَوْقَ الْجَزَاءِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ:
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ، أَوْ أَنَّ عَطَاءَهُ سُبْحَانَهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا سَبَقَهَا مِنَ الْوَعْدِ بِالزِّيَادَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِيهِمَا، نُجُومَهُمَا، وَشَمْسَهُمَا، وَقَمَرَهُمَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيٌّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ الَّذِي أَعْطَاهُ الْمُؤْمِنُ كَمِشْكاةٍ وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ إِنَّهَا الَّتِي فِي سَفْحِ جَبَلٍ، لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا إِذَا غَرَبَتْ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ فَذَلِكَ مَثَلُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ نُورٌ عَلَى نُورٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ:
يَقُولُ مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ كَمِشْكَاةٍ، وَهِيَ: الْكُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مَثَلُ نُورِهِ قَالَ: هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُورُهُ مِثْلَ نُورٍ الْمِشْكَاةَ، قَالَ: مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْهُ أَيْضًا اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال: هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ مَثَلُ هُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكاةٍ يَقُولُ مَوْضِعُ الْفَتِيلَةِ، كَمَا يَكَادُ الزَّيْتُ الصَّافِي يُضِيءُ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، فَإِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ ازْدَادَ ضَوْءًا عَلَى ضَوْئِهِ، كَذَلِكَ يَكُونُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، يَعْمَلُ بِالْهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْعِلْمُ ازْدَادَ هُدًى عَلَى هُدًى، وَنُورًا عَلَى نُورٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَفِيهِ مَقَالٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم والحاكم
__________
(1) . ق: 22.(4/42)
وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ قَالَ: هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي قَدْ جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ فِي صَدْرِهِ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُ فَقَالَ: نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ فَبَدَأَ بِنُورِ نَفْسِهِ، ثم ذكر نور المؤمن، فقال نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ، فَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كعب يقرؤها «مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ» فَهُوَ الْمُؤْمِنُ، جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ فِي صَدْرِهِ كَمِشْكاةٍ قَالَ: فَصَدْرُ الْمُؤْمِنَ: الْمِشْكَاةُ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ النُّورُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ الَّذِي جُعِلَ فِي صَدْرِهِ فِي زُجاجَةٍ والزُّجاجَةُ قَلْبُهُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يَقُولُ كَوْكَبٌ مُضِيءٌ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ:
أَصْلُ الْمُبَارَكِ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتُهُ لَا شَرِيكَ لَهُ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قَالَ: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ الْتَفَّتْ بِهَا الشَّجَرُ، فَهِيَ خَضْرَاءُ نَاعِمَةٌ لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ، لَا إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا إِذَا غَرَبَتْ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُؤْمِنُ قَدْ أُجِيرَ مِنْ أَنْ يُضِلَّهُ شَيْءٌ مِنَ الْفِتَنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مردويه عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِمُحَمَّدٍ: كَيْفَ يَخْلُصُ نُورُ اللَّهِ مِنْ دُونِ السَّمَاءِ؟ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ ذَلِكَ لِنُورِهِ فَقَالَ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ الْمِشْكَاةُ: كُوَّةُ الْبَيْتِ فِيها مِصْباحٌ وَهُوَ السِّرَاجُ يَكُونُ فِي الزُّجَاجَةِ، وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ، فَسَمَّى طَاعَتَهُ نُورًا، ثُمَّ سَمَّاهَا أَنْوَاعًا شَتَّى لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قَالَ: وَهِيَ وَسَطُ الشَّجَرِ، لَا تَنَالُهَا الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا إِذَا غَرَبَتْ، وَذَلِكَ أَجْوَدُ الزَّيْتِ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ بِغَيْرِ نَارٍ نُورٌ عَلى نُورٍ يَعْنِي بِذَلِكَ: إيمان العبد وعمله يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ قَالَ: الْمِشْكَاةُ: جَوْفُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالزُّجَاجَةُ: قَلْبُهُ، وَالْمِصْبَاحُ: النُّورُ الَّذِي فِي قَلْبِهِ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ الشَّجَرَةُ: إِبْرَاهِيمُ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ لَا يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، ثُمَّ قَرَأَ مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن شَمَرِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى كَعْبٍ الْأَحْبَارِ، فَقَالَ: حَدِّثْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ قَالَ: مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمِشْكَاةٍ قَالَ: الْمِشْكَاةُ: الْكُوَّةُ ضَرَبَهَا اللَّهُ مثلا لفمه فِيهَا مِصْبَاحٌ، وَالْمِصْبَاحُ قَلْبُهُ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ وَالزُّجَاجَةُ: صَدْرُهُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ شَبَّهَ صَدْرَ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ، ثُمَّ رَجَعَ الْمِصْبَاحُ إِلَى قلبه فقال: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ قَالَ: يَكَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ، وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، كَمَا يَكَادُ الزَّيْتُ أَنْ يُضِيءَ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ.
وَأَقُولُ: إِنَّ تَفْسِيرَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ بِهَذَا وَنَحْوِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَيْسَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَلَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنِ الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ شَبِيهَةٌ بِالْأَلْغَازِ وَالتَّعْمِيَةِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمُ اسْتَبْعَدُوا تَمْثِيلَ نُورِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِنُورِ الْمِصْبَاحِ فِي الْمِشْكَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُورُهُ مثل نور المشكاة
__________
(1) . آل عمران: 67.(4/43)
كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الِاسْتِبْعَادِ. فَإِنَّا قَدْ قَدَّمَنَا فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ مَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ، وَيُوَضِّحُ مَا هُوَ الْمُرَادُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ وَأَبْلَغِ أُسْلُوبٍ، وَعَلَى مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَيُفِيدُهُ كَلَامُ الْفُصَحَاءِ، فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ، لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا مِنْ لُغَةٍ. وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ كَعْبٍ الْأَحْبَارِ فِي هَذَا كَمَا قَدَّمْنَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ سَبَبَ عُدُولِ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّاءِ عَنِ الظَّاهِرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَلَيْسَ مِثْلُ كَعْبٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَقَدْ نَبَّهْنَاكَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ مُسْتَنَدُهُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَلَا يَسُوغُ لِأَجْلِهِ الْعُدُولُ عَنِ التَّفْسِيرِ الْعَرَبِيِّ، نَعَمْ! إِنْ صَحَّتْ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَنَدَ لِهَذِهِ التَّفَاسِيرِ الْمُخَالِفَةِ لِلظَّاهِرِ، وَتَكُونُ كَالزِّيَادَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْمُرَادِ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ فَالْوُقُوفُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مِنَ السَّبْعَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ قَالَ: هِيَ الْمَسَاجِدُ تُكْرَمُ وَيُنْهَى عَنِ اللَّغْوِ فيها وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُتْلَى فِيهَا كِتَابُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَهُمَا أَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ فَأَحَبَّ أَنْ يَذْكُرَهُمَا وَيُذَكِّرَ بِهِمَا عِبَادَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي تَعْظِيمِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْزِيهِهَا عَنِ الْقَذَرِ وَاللَّغْوِ وَتَنْظِيفِهَا وَتَطْيِيبِهَا أَحَادِيثُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ صَلَاةَ الضُّحَى لَفِي الْقُرْآنِ وَمَا يَغُوصُ عَلَيْهَا إِلَّا غَوَّاصٌ فِي قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ:
هُمُ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: كَانُوا رِجَالًا يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، فَإِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ أَلْقَوْا مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَقَامُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ، قَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا الْمَثَلَ قَوْلَهُ: «كَمِشْكَاةٍ» لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكَانُوا أَتْجَرَ النَّاسِ وَأَبْيَعَهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ تُلْهِيهِمْ تِجَارَتُهُمْ وَلَا بَيْعُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ: عَنْ شُهُودِ الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. أَنَّهُ كَانَ فِي السُّوقِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَأَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ، ثُمَّ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِيهِمْ نَزَلَتْ: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى نَاسًا مِنْ أَهْلِ السُّوقِ سَمِعُوا الْأَذَانَ فتركوا أمتعتهم، فقال: هؤلاء الذين قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَخْرَجَ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ النَّاسَ فِي صعيد واحد يسمعهم الدّاعي وينفذهم الْبَصَرَ، فَيَقُومُ مُنَادٍ فَيُنَادِي: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ؟(4/44)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ يَعُودُ فَيُنَادِي: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ؟ فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ يَعُودُ فَيُنَادِي: لِيَقُمِ الَّذِينَ كَانُوا لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ثُمَّ يَقُومُ سَائِرُ النَّاسِ فَيُحَاسَبُونَ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا نحوه.
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 46]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، ذَكَرَ مَثَلًا لِلْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ الْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ هُنَا: هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ كَالصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَفَكِّ الْعَانِي وَعِمَارَةِ الْبَيْتِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَالسَّرَابُ: مَا يُرَى فِي الْمَفَاوِزِ مِنْ لَمَعَانِ الشَّمْسِ عِنْدَ اشْتِدَادِ حَرِّ النَّهَارِ عَلَى صُورَةِ الْمَاءِ فِي ظَنِّ مَنْ يَرَاهُ، وَسُمِّيَ سَرَابًا لِأَنَّهُ يَسْرُبُ، أي: يجري كالماء يقال: سرب الفحل، أي:
مضى وسار في الأرض، ويسمى: الآل أيضا. وقيل: الآل هو الذي يكون ضحى كَالْمَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَلَمْ أَنْضِ الْمَطِيَّ بِكُلِّ خَرْقٍ ... طَوِيلِ «1» الطُّولِ لَمَّاعِ السَّرَابِ
وَقَالَ آخَرُ:
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ ... كَلَمْعِ سَرَابٍ بِالْفَلَا مُتَأَلِّقِ
وَالْقِيعَةُ جَمْعُ قَاعٍ: وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُنْخَفِضُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ الْمَاءُ، مِثْلُ جِيرَةٍ وَجَارٍ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قِيعَةٌ وَقَاعٌ وَاحِدٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْقَاعُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ، وَالْجَمْعُ: أَقْوُعٌ وَأَقْوَاعٌ وَقِيعَانٌ، صَارَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، وَالْقِيعَةُ: مِثْلُ الْقَاعِ. قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يقول هو جمع يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً
__________
(1) . كذا في الأصل، وفي ديوان امرئ القيس «أمقّ الطّول» والأمقّ: الطويل.(4/45)
هَذِهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِسَرَابٍ، وَالظَّمْآنُ: الْعَطْشَانُ، وَتَخْصِيصُ الْحُسْبَانِ بِالظَّمْآنِ مَعَ كَوْنِ الرَّيَّانِ يَرَاهُ كَذَلِكَ، لِتَحْقِيقِ التَّشْبِيهِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الطَّمَعِ حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أَيْ: إِذَا جَاءَ الْعَطْشَانُ ذَلِكَ الَّذِي حَسِبَهُ مَاءً لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا مِمَّا قَدَّرَهُ وَحَسِبَهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَوِّلُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَظُنُّونَهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَيَطْمَعُونَ فِي ثَوَابِهَا، فَإِذَا قَدِمُوا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجِدُوا مِنْهَا شَيْئًا، لِأَنَّ الْكُفْرَ أَحْبَطَهَا وَمَحَا أَثَرَهَا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بشيء، أنه جاء الموضع الذي كان يحسبه فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ حَسْرَةِ الْكَفَرَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قُصَارَى أَمْرِهِمْ مُجَرَّدُ الْخَيْبَةِ كَصَاحِبِ السَّرَابِ فَقَالَ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ: وَجَدَ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ، أَيْ: جَزَاءَ عَمَلِهِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَوَلَّى مُدْبِرًا يَهْوَى حَثِيثًا ... وَأَيْقَنَ أَنَّهُ لَاقَى الْحِسَابَا
وَقِيلَ: وَجَدَ وَعْدَ اللَّهِ بِالْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِ، وَقِيلَ: وَجَدَ أَمْرَ اللَّهَ عِنْدَ حَشْرِهِ، وَقِيلَ: وَجَدَ حُكْمَهُ وَقَضَاءَهُ عِنْدَ الْمَجِيءِ، وَقِيلَ: عِنْدَ الْعَمَلِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ «بَقِيعَاهِ» بَهَاءٍ مُدَوَّرَةٍ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَزْهَاهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ «بِقِيعَاتٍ» بِتَاءٍ مَبْسُوطَةٍ. قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ مُتَوَلِّدَةً مِنْ إِشْبَاعِ الْعَيْنِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَجَمْعُ قِيعَةٍ عَلَى الثَّانِي. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ أَنَّهُمْ قَرَءُوا الظَّمْآنُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمُ الْهَمْزُ. أَوْ كَظُلُماتٍ مَعْطُوفٌ عَلَى كَسَرَابٍ، ضَرَبَ الله مثلا آخر لأعمال الكفار كما أنه تُشْبِهُ السَّرَابَ الْمَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، فَهِيَ أَيْضًا تُشْبِهُ الظُّلُمَاتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ إِنْ مُثِّلَتْ بِمَا يُوجَدُ، فَمَثَلُهَا كَمَثَلِ السَّرَابِ، وَإِنْ مُثِّلَتْ بِمَا يُرَى، فَهِيَ كَهَذِهِ الظُّلُمَاتِ الَّتِي وَصَفَ. قَالَ أَيْضًا: إِنْ شِئْتَ مَثِّلْ بِالسَّرَابِ، وَإِنْ شِئْتَ مَثِّلْ بِهَذِهِ الظُّلُمَاتِ، فَأَوْ لِلْإِبَاحَةِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنَ القول في أَوْ كَصَيِّبٍ «1» قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْآيَةُ الْأُولَى: فِي ذِكْرِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ، وَالثَّانِيَةُ: فِي ذِكْرِ كَفْرِهِمْ، وَنَسَقُ الْكُفْرِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعِنْدَ الزَّجَّاجِ التَّمْثِيلُ وَقَعَ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ، وَعِنْدَ الْجُرْجَانِيِّ لِكُفْرِ الْكُفَّارِ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ اللُّجَّةُ: مُعْظَمُ الْمَاءِ، وَالْجَمْعُ: لُجَجٌ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُدْرَكُ لِعُمْقِهِ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْبَحْرَ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: يَغْشاهُ مَوْجٌ أَيْ: يَعْلُو هَذَا الْبَحْرَ مَوْجٌ فَيَسْتُرُهُ وَيُغَطِّيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْمَوْجَ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي: من فوق هذا الموج ثم وصف الموج الثاني فقال: مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ أَيْ: مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْمَوْجِ الثَّانِي سَحَابٌ، فَيَجْتَمِعُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ خَوْفُ البحر وأمواجه، والسحاب المرتفع فَوْقَهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ بعد مَوْجٌ، فَيَكُونُ الْمَوْجُ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى كأنه بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَالْبَحْرُ أَخْوَفُ مَا يَكُونُ إِذَا تَوَالَتْ أَمْوَاجُهُ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ وُجُودُ السَّحَابِ مِنْ فَوْقِهِ، زَادَ الْخَوْفُ شِدَّةً، لِأَنَّهَا تَسْتُرُ النُّجُومَ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا مَنْ في البحر، ثم إذا أمطرت تلك السحب وَهَبَّتِ الرِّيحُ الْمُعْتَادَةُ فِي الْغَالِبِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، تَكَاثَفَتِ الْهُمُومُ، وَتَرَادَفَتِ الْغُمُومُ، وَبَلَغَ الْأَمْرُ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ أَيْ: هي ظلمات،
__________
(1) . البقرة: 19.(4/46)
أو هذه ظلمات متكاثفة مُتَرَادِفَةٌ، فَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيَانٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَتَعَاظُمِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْبَزِّيُّ «سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ» بِإِضَافَةِ سَحَابٍ إِلَى ظُلُمَاتٍ، وَوَجْهُ الْإِضَافَةِ أَنَّ السَّحَابَ يَرْتَفِعُ وَقْتَ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ، فَأُضِيفَ إِلَيْهَا لِهَذِهِ الْمُلَابَسَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْقَطْعِ وَالتَّنْوِينِ.
وَمِنْ غَرَائِبِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِالظُّلُمَاتِ: أَعْمَالَ الْكَافِرِ، وَبِالْبَحْرِ اللُّجِّيِّ: قَلَبَهُ، وَبِالْمَوْجِ فَوْقَ الْمَوْجِ: مَا يَغْشَى قَلْبَهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ. وَالسَّحَابُ: الرَّيْنُ وَالْخَتْمُ وَالطَّبْعُ عَلَى قَلْبِهِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ هُوَ عَنْ لُغَةِ الْعَرَبِ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ. ثُمَّ بَالَغَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَفَاعِلُ أَخْرَجَ: ضَمِيرٌ يُعُودُ عَلَى مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ: إِذَا أَخْرَجَ الْحَاضِرُ فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ أَوْ مَنِ ابْتُلِيَ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى، لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ كَادَ زَائِدَةٌ. وَالْمَعْنَى:
إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَرَهَا، كَمَا تَقُولُ: مَا كِدْتُ أَعْرِفُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: يَعْنِي لَمْ يَرَهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِ الْجَهْدِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يُقَارِبْ رُؤْيَتَهَا، فَإِذَنْ لَمْ يَرَهَا رُؤْيَةً بَعِيدَةً وَلَا قَرِيبَةً، وَجُمْلَةُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ أَعْمَالِ الْكَفَرَةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ هِدَايَةً فَمَا لَهُ مِنْ هِدَايَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ لَمْ يَهْتَدِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ «1» ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ، أَوْ للرسول صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَلِمَهُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَعْنَى أَلَمْ تَرَ أَلَمْ تَعْلَمْ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ:
قَدْ عَلِمْتَ عِلْمًا يَقِينِيًّا شَبِيهًا بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالتَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ فِي ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِهِ، وَمَعْنَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَنْ هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِيهِمَا مِنَ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَسْبِيحُ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ مَا يُسْمَعُ مِنْ أَصْوَاتِهَا، وَيُشَاهَدُ مِنْ أَثَرِ الصَّنْعَةِ الْبَدِيعَةِ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّسْبِيحَ هُنَا هُوَ الصَّلَاةُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، والتنزيه من غيرهم. وقد قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَشْمَلُ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَأَنَّ آثَارَ الصَّنْعَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْجَمَادَاتِ نَاطِقٌ وَمُخْبِرٌ بِاتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيعٌ لِلْكُفَّارِ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ حَيْثُ جَعَلُوا الْجَمَادَاتِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّسْبِيحُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ شُرَكَاءَ لَهُ يَعْبُدُونَهَا كَعِبَادَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي حَمْلُ التَّسْبِيحِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ عُمُومِ الْمَجَازِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ بِالرَّفْعِ لِلطَّيْرِ وَالنُّصْبِ لِصَافَّاتٍ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَنْ، وَصَافَّاتٌ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ «وَالطَّيْرَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَصَافَّاتٍ حَالٌ أَيْضًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهِيَ أَجْوَدُ مِنَ الرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ بِرَفْعِهِمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَمَفْعُولُ صَافَّاتٍ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَجْنِحَتُهَا، وَخَصَّ الطَّيْرَ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهَا تَحْتَ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِ اسْتِقْرَارِهَا فِي الْأَرْضِ وَكَثْرَةِ لبثها في الهواء وَهُوَ لَيْسَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الصَّنْعَةِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي تَقْدِرُ بِهَا تَارَةً عَلَى الطَّيَرَانِ، وَتَارَةً عَلَى الْمَشْيِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَذَكَرَ حَالَةً مِنْ حالات
__________
(1) . أي في سورة الإسراء الآية: 44.(4/47)
الطَّيْرِ، وَهِيَ كَوْنُ صُدُورِ التَّسْبِيحِ مِنْهَا حَالَ كونها صافات لأجنحتها، أن هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ أَغْرَبُ أَحْوَالِهَا، فَإِنَّ اسْتِقْرَارَهَا فِي الْهَوَاءِ مُسَبِّحَةً مِنْ دُونِ تَحْرِيكٍ لِأَجْنِحَتِهَا، وَلَا اسْتِقْرَارٍ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَعْظَمِ صُنْعِ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. ثُمَّ زَادَ فِي الْبَيَانِ فَقَالَ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلِمَ: يَرْجِعُ إِلَى كُلٍّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمُسَبِّحَاتِ لِلَّهِ قَدْ عَلِمَ صَلَاةَ الْمُصَلِّي، وَتَسْبِيحَ الْمُسَبِّحِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مُصَلٍّ وَمُسَبِّحٍ قَدْ عَلِمَ صَلَاةَ نَفْسِهِ وَتَسْبِيحَ نَفْسِهِ. قِيلَ: وَالصَّلَاةُ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْبِيحِ، وَكُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ، وَالصَّلَاةُ قَدْ تُسَمَّى تَسْبِيحًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا الدُّعَاءُ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ قَدْ عَلِمَ دُعَاءَهُ وَتَسْبِيحَهُ. وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ أَنَّ صدور هذا التسبيح هو عن علم علمها الله ذلك وألهمها إليه، لا أَنَّ صُدُورَهُ مِنْهَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاتِّفَاقِ بِلَا رَوِيَّةٍ، وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ دَلَالَةٍ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَعَظِيمِ شَأْنِهِ، كَوْنُهُ جَعَلَهَا مُسَبِّحَةً لَهُ عَالِمَةً بِمَا يَصْدُرُ مِنْهَا غَيْرَ جَاهِلَةٍ لَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: لَا تَخْفَى عَلَيْهِ طَاعَتُهُمْ وَلَا تَسْبِيحُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي عَلِمَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمُسَبِّحَةِ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صلاته له وَتَسْبِيحَهُ إِيَّاهُ، وَالْأَوَّلُ: أَرْجَحُ لِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ عَلَى رَفْعِ كُلٌّ، وَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي عَلِمَ لِلَّهِ لَكَانَ نَصْبُ كُلٌّ أَوْلَى. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ طَائِفَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ عُلِمَ: عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَبْدَأَ مِنْهُ وَالْمَعَادَ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: له لا لغيره وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمَصِيرُ: الرُّجُوعُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا آخَرَ مِنَ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً الْإِزْجَاءُ: السَّوْقُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
إِنِّي أَتَيْتُكِ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَطَنِي ... أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ مَا بِهَا رَمَقُ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
أَسَرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجوزاء سارية ... تزجي الشّمال عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَدِ
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسُوقُ السَّحَابَ سَوْقًا رَقِيقًا إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أَيْ: بَيْنَ أَجْزَائِهِ، فَيَضُمُّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَيَجْمَعُهُ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ لِيَقْوَى وَيَتَّصِلَ وَيَكْثُفَ، وَالْأَصْلُ فِي التَّأْلِيفِ: الْهَمْزُ. وَقَرَأَ وَرْشٌ وقالون عن نافع يُؤَلِّفُ بِالْوَاوِ تَخْفِيفًا، وَالسَّحَابُ: وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ جَمْعٌ، وَلِهَذَا دَخَلَتْ بَيْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَجْزَاءَهُ فِي حُكْمِ الْمُفْرَدَاتِ لَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي بَيْنَهُ رَاجِعٌ إِلَى جُمْلَةِ السَّحَابِ، كَمَا تَقُولُ:
الشَّجَرُ قَدْ جَلَسْتُ بَيْنَهُ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أَيْ: مُتَرَاكِمًا يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَالرَّكْمُ: جَمْعُ الشَّيْءِ، يُقَالُ: رَكَمَ الشَّيْءَ يَرْكُمُهُ رَكْمًا، أَيْ: جَمَعَهُ وَأَلْقَى بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَارْتَكَمَ الشَّيْءُ وَتَرَاكَمَ إِذَا اجْتَمَعَ، وَالرُّكَمَةُ: الطِّينُ الْمَجْمُوعُ، وَالرُّكَامُ: الرَّمْلُ الْمُتَرَاكِبُ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ الْوَدْقُ: الْمَطَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلَا أَرْضَ أَبَقَلَ إِبْقَالَهَا(4/48)
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَدَمْعُهُمَا وَدَقٌّ وَسَحٌّ وَدَيْمَةٌ ... وَسَكَبٌ وَتَوْكَافٌ وَتَنْهَمِلَانِ
يُقَالُ: وَدَقَتِ السَّحَابُ فَهِيَ وادقة الْمَطَرُ يَدِقُ، أَيْ: قَطَرَ يَقْطُرُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْوَدْقَ الْبَرْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا ... خُرُوجَ الْوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ
وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، وَمَعْنَى مِنْ خِلالِهِ مِنْ فُتُوقِهِ الَّتِي هِيَ مَخَارِجُ الْقَطْرِ، وَجُمْلَةُ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا هِيَ الْبَصَرِيَّةُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وابن مسعود والضحاك وَأَبُو الْعَالِيَةِ «مَنْ خَلَلِهِ» عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي خِلَالِ، هَلْ هُوَ مُفْرَدٌ كَحِجَابٍ؟ أَوْ جَمْعٌ كَجِبَالٍ؟ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنْ سَمَاءٍ: مِنْ عَالٍ، لِأَنَّ السَّمَاءَ قَدْ تطلق على جهة العلوّ، ومعنى من جبال: من قطع عظام تشبه الجبال، ولفظ فيها في محل نصب على الحال، ومِنْ في مِنْ بَرَدٍ لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ مَفْعُولُ يُنَزِّلُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ بَرَدًا. وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ فِي مِنْ بَرَدٍ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا بَرَدٌ. وَقِيلَ:
إِنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السماء قدر جبال، أَوْ مِثْلَ جِبَالٍ مِنْ بَرَدٍ إِلَى الْأَرْضِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ مَنْ فِي مِنْ جِبَالٍ وفي بَرَدٍ زَائِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْجِبَالُ وَالْبَرَدُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَرَدًا يَكُونُ كَالْجِبَالِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ فِي مِنَ السماء لابتداء الغاية بلا خلاف ومِنْ فِي مِنْ جِبَالٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَتَكُونُ هِيَ وَمَجْرُورِهَا بَدَلًا مِنَ الْأُولَى بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.
الثَّانِي: أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ فَتَكُونُ عَلَى هَذَا هِيَ وَمَجْرُورِهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ الْإِنْزَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيُنَزِّلُ بَعْضَ جِبَالٍ: الثَّالِثُ: أَنَّهَا زَائِدَةٌ، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا. وَأَمَّا مِنْ فِي مِنْ بَرَدٍ فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَعْضَ جِبَالٍ الَّتِي هِيَ الْبَرَدُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ بَرَدٌ فِيهَا كَمَا تَقُولُ: هَذَا خَاتَمٌ فِي يَدِي مِنْ حَدِيدٍ، أَيْ: خَاتَمُ حَدِيدٍ فِي يَدِي، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ هَذَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ وَخَاتَمُ حَدِيدٍ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ بَرَدٍ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةً لِجِبَالٍ كَمَا كَانَ مِنْ حَدِيدٍ صِفَةً لِخَاتَمٍ وَيَكُونُ مَفْعُولُ يُنَزِّلُ مِنْ جِبَالٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْجِبَالِ بَرَدًا أَنْ يَكُونَ الْمُنَزَّلُ بَرَدًا. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: شَيْئًا مِنْ جِبَالٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَاكْتَفَى بِالصِّفَةِ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُصِيبُ بِمَا يُنَزِّلُ مِنَ الْبَرَدِ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ مِنْهُمْ، أَوْ يُصِيبُ بِهِ مَالَ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَالِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَنْ مَثْلِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ السَّنَا: الضَّوْءُ، أَيْ: يَكَادُ ضَوْءُ الْبَرْقِ الَّذِي فِي السَّحَابِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ مِنْ شِدَّةِ بَرِيقِهِ، وَزِيَادَةِ لَمَعَانِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ قَالَ الشَّمَّاخُ:
وَمَا كَادَتْ إِذَا رَفَعَتْ سَنَاهَا ... لِيُبْصِرَ ضَوْءَهَا إِلَّا الْبَصِيرُ(4/49)
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحَ رَاهِبٍ ... أَهَانَ السَّلِيطَ فِي الذَّبَالِ الْمُفَتَّلِ
فَالسَّنَا بِالْقَصْرِ: ضَوْءُ الْبَرْقِ، وَبِالْمَدِّ: الرِّفْعَةُ، كَذَا قَالَ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَيَحْيَى ابن وثاب سَنا بَرْقِهِ بِالْمَدِّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ الضَّوْءِ وَالصَّفَاءِ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الرِّفْعَةِ وَالشَّرَفِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَيَحْيَى أَيْضًا بِضَمِّ الْبَاءِ مِنْ بُرَقِهِ وَفَتْحِ الرَّاءِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَمْعُ بَرْقٍ.
وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْبُرَقَةُ الْمِقْدَارُ مِنَ الْبَرْقِ وَالْبَرْقَةُ الْوَاحِدَةُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ «يُذْهِبُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنَ الْإِذْهَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ سَنا بالقصر، وبَرْقِهِ بفتح الباء، وسكون الراء، ويَذْهَبُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ مِنَ الذَّهَابِ، وَخَطَّأَ قِرَاءَةَ الْجَحْدَرِيِّ وَابْنِ الْقَعْقَاعِ الْأَخْفَشُ وَأَبُو حَاتِمٍ.
وَمَعْنَى ذَهَابِ الْبَرْقِ بِالْأَبْصَارِ: خَطْفُهُ إِيَّاهَا مِنْ شِدَّةِ الْإِضَاءَةِ وَزِيَادَةِ الْبَرِيقِ، وَالْبَاءُ فِي الْأَبْصَارِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: لِلْإِلْصَاقِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِمْ: زَائِدَةٌ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أَيْ: يُعَاقِبُ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ:
يُزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا وَيُنْقِصُ الْآخَرَ، وَقِيلَ: يُقَلِّبُهُمَا بِاخْتِلَافِ مَا يُقَدِّرُهُ فِيهِمَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَقِيلَ:
بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَغْيِيرُ النَّهَارِ بِظُلْمَةِ السَّحَابِ مَرَّةً وَبِضَوْءِ الشَّمْسِ أُخْرَى، وَتَغْيِيرُ اللَّيْلِ بِظُلْمَةِ السَّحَابِ تَارَةً، وَبِضَوْءِ الْقَمَرِ أُخْرَى، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَمَعْنَى الْعِبْرَةِ: الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ الَّتِي يَكُونُ بها الاعتبار، والمراد بأولي الأبصار: كل من له بصر ويبصر بِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا ثَالِثًا مِنْ عَجَائِبِ خَلْقِ الْحَيَوَانِ، وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ فَقَالَ: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ خَلَقَ وَالْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ، وَالدَّابَّةُ: كُلُّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ، يُقَالُ: دَبَّ يَدِبُّ فَهُوَ دَابٌّ، وَالْهَاءُ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَى مِنْ ماءٍ مِنْ نُطْفَةٍ، وَهِيَ: الْمَنِيُّ، كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْمُرَادَ الْمَاءُ الْمَعْرُوفُ، لِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَنْزِيلُ الْغَالِبِ مَنْزِلَةِ الْكُلِّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِي الحيوانات من لا يتولد عَنْ نُطْفَةٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ، وَالْجَانُّ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ.
ثُمَّ فَصَّلَ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ كُلِّ دَابَّةٍ فَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَهِيَ: الْحَيَّاتُ، وَالْحُوتُ، وَالدُّودُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ الْإِنْسَانُ وَالطَّيْرُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ لِقِلَّتِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى أَرْبَعٍ فَقَطْ وَإِنْ كَانَتِ الْقَوَائِمُ كَثِيرَةً، وَقِيلَ: لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بما يمشي على أكثر من أربع، ولا وجه لهذا فإن المراد التنبيه على بديع الصنع وكمال القدرة، فكيف يقال بعدم الِاعْتِدَادِ بِمَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ؟ وَقِيلَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَشْيِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ وَلَا جَاءَ بِمَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ» فَعَمَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَمِيعَ مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ: كَالسَّرَطَانِ وَالْعَنَاكِبِ وَكَثِيرٍ مِنْ خِشَاشِ الْأَرْضِ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ مِمَّا ذَكَرَهُ هَاهُنَا، وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ، كَالْجَمَادَاتِ مُرَكَّبِهَا وَبَسِيطِهَا، نَامِيهَا وَغَيْرِ نَامِيهَا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، بَلِ الْكُلُّ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دَاخِلٌ تَحْتِ قدرته(4/50)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
سُبْحَانَهُ لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ أَيِ: الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى بَيَانِ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بِتَوْفِيقِهِ لِلنَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَإِرْشَادِهِ إِلَى التَّأَمُّلِ الصَّادِقِ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى طريق مستوي لَا عِوَجَ فِيهِ، فَيُتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إِلَى الْخَيْرِ التَّامِّ وَهُوَ نُعَيْمُ الْجَنَّةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ قَالَ: هو مثل ضربه الله لرجل عَطِشَ، فَاشْتَدَّ عَطَشُهُ، فَرَأَى سَرَابًا فَحَسِبَهُ مَاءً، فَطَلَبَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى أَتَى، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وَقُبِضَ عِنْدَ ذَلِكَ، يَقُولُ: الْكَافِرُ كَذَلِكَ السَّرَابُ إِذَا أَتَاهُ الْمَوْتُ لَمْ يَجِدْ عَمَلَهُ يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَنْفَعُهُ إِلَّا كَمَا نَفَعَ السَّرَابُ الْعَطْشَانَ يَغْشاهُ مَوْجٌ يَعْنِي بِذَلِكَ: الْغِشَاوَةَ الَّتِي عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِقِيعَةٍ: بِأَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم من طريق السُّدِّيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْكُفَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِرْدًا عِطَاشًا، فَيَقُولُونَ: أَيْنَ الْمَاءُ؟ فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ السَّرَابُ، فَيَحْسَبُونَهُ مَاءً، فَيَنْطَلِقُونَ إِلَيْهِ فَيَجِدُونَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَيُوَفِّيهِمْ حِسَابَهُ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» وَفِي إِسْنَادِهِ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِيهِ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قَالَ: الصَّلَاةُ لِلْإِنْسَانِ وَالتَّسْبِيحُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ قَالَ: بَسْطُ أَجْنِحَتِهِنَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَقُولُ: ضَوْءُ بَرْقِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ. وَأَقُولُ: هَذِهِ الطُّيُورُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا تَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَهَكَذَا غَيْرُهَا، كَالنَّعَامَةِ فَإِنَّهَا تَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الطَّيْرِ، فَهَذِهِ الْكُلِّيَّةُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عنه لا تصحّ.
[سورة النور (24) : الآيات 47 الى 57]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)(4/51)
شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ مَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَقَالَ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَيَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ هَاهُنَا يَنْسُبُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمِ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَالطَّاعَةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ نِسْبَةً بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ، لَا عَنِ اعْتِقَادٍ صَحِيحٍ، وَلِهَذَا قَالَ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَيْ: مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْقَائِلِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مَا نَسَبُوهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِعَدَمِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ أَيْ: مَا أُولَئِكَ الْقَائِلُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَيَشْمَلُ الْحُكْمُ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ جَمِيعَ الْقَائِلِينَ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُمْ مِنْ تَوَلَّى انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ تَوَلَّى، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. وَالْكَلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى حُكْمَيْنِ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ عَلَى بَعْضِهِمْ بِالتَّوَلِّي، وَالْحُكْمُ الثَّانِي عَلَى جَمِيعِهِمْ: بِعَدَمِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِمَنْ تَوَلَّى:
مَنْ تَوَلَّى عَنْ قَبُولِ حُكْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ رُؤَسَاءَ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِتَوَلِّي هَذَا الْفَرِيقِ رُجُوعَهُمْ إِلَى الْبَاقِينَ، وَلَا يُنَافِي مَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا وُرُودِهَا عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فِي خُصُومَاتِهِمْ، فَقَالَ: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَيْ: لِيَحْكُمَ الرَّسُولُ بَيْنَهُمْ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وإِذا فِي قَوْلِهِ: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، أَيْ: فَاجَأَ فَرِيقٌ مِنْهُمُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُحَاكَمَةِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُذْعِنُونَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، فَقَالَ: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِذْعَانُ: الْإِسْرَاعُ مَعَ الطَّاعَةِ، يُقَالُ: أَذْعَنَ لِي بِحَقِّي، أَيْ: طَاوَعَنِي لِمَا كُنْتُ أَلْتَمِسُ مِنْهُ وَصَارَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مُذْعِنِينَ مُقِرِّينَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: مُذْعِنِينَ:
خَاضِعِينَ. ثُمَّ قَسَّمَ الْأَمْرَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ حُكُومَتِهِ إِذَا كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهَذِهِ الْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ لَهُمْ، وَالْمَرَضُ: النِّفَاقُ، أَيْ: أَكَانَ هَذَا الْإِعْرَاضُ مِنْهُمْ بِسَبَبِ النِّفَاقِ الْكَائِنِ فِي قُلُوبِهِمْ أَمِ ارْتابُوا وَشَكُّوا فِي أَمْرِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَدْلِهِ فِي الْحُكْمِ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ وَالْحَيْفُ: الْمَيْلُ فِي الْحُكْمِ يُقَالُ: حَافَ فِي قَضِيَّتِهِ، أَيْ: جَارَ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي صَدَّرَهَا بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فَقَالَ: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، بَلْ لِظُلْمِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِعْرَاضُ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ لَمَا أَتَوْا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم، وفيه هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبٍ الْإِجَابَةِ إِلَى الْقَاضِي الْعَالِمِ بِحُكْمِ اللَّهِ، الْعَادِلِ فِي حُكْمِهِ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْحُكْمُ مِنْ قُضَاةٍ الْإِسْلَامِ الْعَالِمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْعَادِلِينَ فِي الْقَضَاءِ هُوَ حُكْمٌ بِحُكْمِ اللَّهِ،(4/52)
وَحُكْمِ رَسُولِهِ، فَالدَّاعِي إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَيْهِمْ قَدْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، أَيْ: إِلَى حُكْمِهِمَا. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ:
وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُعِيَ إِلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ أَنْ يُجِيبَ، مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْحَاكِمَ فَاسِقٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى الْحَاكِمِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بينه وبين خصمه فلم يجب بِأَقْبَحِ الذَّمِّ، فَقَالَ: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْآيَةَ. انْتَهَى، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مُقَصِّرًا، لَا يَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَعْقِلُ حُجَجَ اللَّهِ، وَمَعَانِيَ كَلَامِهِ، وَكَلَامِ رَسُولِهِ، بَلْ كَانَ جَاهِلًا جَهْلًا بَسِيطًا، وَهُوَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ جَهْلًا مُرَكَّبًا، وَهُوَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّهُ قَدْ عَرَفَ بَعْضَ اجْتِهَادَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَاطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الرَّأْيِ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ جَاهِلٌ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ، فَاعْتِقَادُهُ بَاطِلٌ فَمَنْ كَانَ مِنَ الْقُضَاةِ هَكَذَا، فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَعْلَمُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ مِنْ قُضَاةِ الطَّاغُوتِ، وَحُكَّامِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ مَا عَرَفَهُ مِنْ عِلْمِ الرَّأْيِ إِنَّمَا رُخِّصَ فِي الْعَمَلِ بِهِ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يُرَخَّصْ فِيهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَدَيْكَ هَذَا وَفَهِمْتَهُ حَقَّ فَهْمِهِ عَلِمْتَ أَنَّ التَّقْلِيدَ وَالِانْتِسَابَ إِلَى عَالِمٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ وَالتَّقَيُّدُ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ رِوَايَةِ وَرَأْيِ وَإِهْمَالِ مَا عَدَاهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَالْفَوَاقِرِ الْمُوحِشَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي مُؤَلَّفِنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ [الْقَوْلِ الْمُفِيدِ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ] وَفِي مُؤَلِّفِنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ [أَدَبَ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ] فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَى حَقِيقَةِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي طَبَّقَتِ الْأَقْطَارَ الْإِسْلَامِيَّةَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِمَا. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ النِّفَاقِ، أَتْبَعَ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَفْعَلُوهُ إِذَا دُعُوا إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ (قَوْلَ) عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَاسْمُهَا أَنْ يَقُولُوا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِرَفْعِ «قَوْلُ» عَلَى أَنَّهُ الِاسْمُ، وَأَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ وَمَا فِي حَيِّزِهَا الْخَبَرُ، وَقَدْ رَجَّحْتُ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى بِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ النُّحَاةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَعْرِفَتَانِ، وَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَعْرَفَ، جُعِلَتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَفُ اسْمًا. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَقَدْ خَيَّرَ بَيْنَ كُلِّ مَعْرِفَتَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقْ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ، وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَذَكَرْنَا مَنْ تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ، وَمَنْ لَا تَجِبُ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ: أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ لَا قَوْلًا آخَرَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَبَرِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ تَعْلِيمُ الْأَدَبِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ لِلْآخَرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا هَكَذَا بِحَيْثُ إِذَا سَمِعُوا الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ قَابَلُوهُ بِالطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: يَقُولُونَ سَمِعْنَا قَوْلَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَطَعْنَا أَمْرَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَكْرَهُونَهُ وَيَضُرُّهُمْ، ثُمَّ أَثْنَى سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأُولئِكَ أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْفَائِزُونَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِثَنَاءٍ آخَرَ، فَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ حُسْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرْغِيبِ مَنْ عَدَاهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي عِدَادِهِمْ وَالْمُتَابَعَةِ لَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّقْوَى(4/53)
لَهُ. قَرَأَ حَفْصٌ وَيَتَّقْهِ بِإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى نِيَّةِ الْجَزْمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، لِأَنَّ جَزْمَ هَذَا الْفِعْلِ بِحَذْفِ آخِرِهِ، وَأَسْكَنَ الْهَاءَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَاخْتَلَسَ الْكَسْرَةَ يَعْقُوبُ وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَالْمُثَنَّى عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَحَفْصٍ وَأَشْبَعَ كَسْرَةَ الْهَاءِ الْبَاقُونَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَقِرَاءَةُ حَفْصٍ هِيَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: لَمْ أَرْ زَيْدًا، وَلَمْ أَشْتَرْ طَعَامًا يُسْقِطُونَ الْيَاءَ لِلْجَزْمِ ثُمَّ يُسَكِّنُونَ الْحَرْفَ الَّذِي قَبْلَهَا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا دَقِيقًا وَقَوْلُ الْآخَرِ:
عَجِبْتُ لِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ
وَأَصْلُهُ يَلِدْ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَسُكُونِ الدَّالِ لِلْجَزْمِ، فَلَمَّا سَكَّنَ اللَّامَ الْتَقَى سَاكِنَانِ، فَلَوْ حَرَّكَ الْأَوَّلُ لَرَجَعَ إِلَى مَا وَقَعَ الْفِرَارُ مِنْهُ، فَحَرَّكَ ثَانِيهِمَا وَهُوَ الدَّالُّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَرَّكَ الْأَوَّلَ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبَقِيَ السُّكُونُ عَلَى الدَّالِ لِبَيَانِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا يَضُرُّ الرُّجُوعُ إِلَى مَا وَقَعَ الْفِرَارُ مِنْهُ، فَهَذِهِ الْحَرَكَةُ غَيْرُ تِلْكَ الْحَرَكَةِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى، أَيْ: هُمُ الْفَائِزُونَ بِالنَّعِيمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَالْأُخْرَوِيِّ، لَا مَنْ عَدَاهُمْ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَرِهُوا حُكْمَهُ، أَقْسَمُوا بِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ لَخَرَجُوا فَقَالَ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ
أَيْ: لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن، وجهد أَيْمَانِهِمْ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ النَّاصِبِ لَهُ، أَيْ: أَقْسَمُوا بِاللَّهِ يَجْهَدُونَ أَيْمَانَهُمْ جَهْدًا. وَمَعْنَى جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: طَاقَةُ مَا قَدَرُوا أَنْ يَحْلِفُوا، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ جَهَدَ نَفْسَهُ: إِذَا بَلَغَ طَاقَتَهَا وَأَقْصَى وُسْعِهَا. وَقِيلَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ: مُجْتَهِدِينَ فِي أَيْمَانِهِمْ، كَقَوْلِهِمُ: افْعَلْ ذَلِكَ جَهْدَكَ، وَطَاقَتَكَ، وَقَدْ خَلَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْوَجْهَيْنِ فَجَعَلَهُمَا وَاحِدًا. وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: لَيَخْرُجُنَ
وَلَمَّا كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ هَذِهِ كَاذِبَةً، وَأَيْمَانُهُمْ فَاجِرَةً رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ لَا تُقْسِمُوا
أَيْ: رُدَّ عَلَيْهِمْ زَاجِرًا لَهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ لَا تُقْسِمُوا، أَيْ: لَا تَحْلِفُوا عَلَى مَا تَزْعُمُونَهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ إِنْ أَمُرْتُمْ بِهِ، وَهَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
وَارْتِفَاعُ طَاعَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: طَاعَتُهُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِأَنَّهَا طَاعَةٌ نِفَاقِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ عن اعتقاد، ويجوز أن تكون طاعة مُبْتَدَأً، لِأَنَّهَا قَدْ خُصِّصَتْ بِالصِّفَةِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مُقَدَّرًا، أَيْ: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَيْمَانِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَرْتَفِعَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لِتَكُنْ مِنْكُمْ طَاعَةٌ أَوْ لِتُوجَدْ، وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُحْذَفُ إِلَّا إِذَا تقدّم ما يشعر له. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، طَاعَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَطِيعُوا طَاعَةً إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا تُضْمِرُونَهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَا تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ طَاعَتِهِمْ طَاعَةَ نِفَاقٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ:
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ طَاعَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، بِخُلُوصِ اعْتِقَادٍ، وَصِحَّةِ نِيَّةٍ، وَهَذَا التَّكْرِيرُ مِنْهُ تَعَالَى لِتَأْكِيدِ وُجُوبِ الطَّاعَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
فِي حُكْمِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَقِيلَ:(4/54)
إِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، فَالْأَوَّلُ: نَهْيٌ بِطْرِيقِ الرَّدِّ وَالتَّوْبِيخِ، وَالثَّانِي: أَمْرٌ بِطَرِيقِ التَّكْلِيفِ لَهُمْ، وَالْإِيجَابِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ تَوَلَّوْا خِطَابٌ لِلْمَأْمُورِينَ، وَأَصْلُهُ فَإِنْ تَتَوَلَّوْا فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، وَفِيهِ رُجُوعٌ مِنَ الْخِطَابِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخِطَابِ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْعِنَايَةِ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ أَيْ: فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا حُمِّلَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ وَقَدْ فَعَلَ، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ، أَيْ: مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَقَدْ صِرْتُمْ حَامِلِينَ لِلْحِمْلِ الثَّقِيلِ وَإِنْ تُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ تَهْتَدُوا إِلَى الْحَقِّ وَتَرْشُدُوا إِلَى الْخَيْرِ وَتَفُوزُوا بِالْأَجْرِ، وَجُمْلَةُ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَاللَّامُ: إِمَّا لِلْعَهْدِ، فَيُرَادُ بِالرَّسُولِ نَبِيُّنَا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَإِمَّا لِلْجِنْسِ، فَيُرَادُ كُلُّ رَسُولٍ، وَالْبَلَاغُ الْمُبِينُ: التَّبْلِيغُ الْوَاضِحُ، أَوِ الْمُوَضَّحُ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا مَاضِيًا وَتَكُونُ الْوَاوُ لِضَمِيرِ الْغَائِبِينَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مِمَّا أُمِرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يقول لَهُمْ، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَيُؤَيِّدُهُ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قِرَاءَةُ الْبَزِّيِّ فَإِنْ تَوَلَّوْا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ سَاكِنِينَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَنَّ طَاعَتَهُمْ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ سَبَبٌ لِهِدَايَتِهِمْ، وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَعَمِلَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ بِالِاسْتِخْلَافِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَهُوَ وَعْدٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالصَّحَابَةِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَعَمَلَ الصَّالِحَاتِ لَا يختص بهم، بل يمكن وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَنْ عَمِلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَاللَّامُ فِي لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ جَوَابٌ لِلْوَعْدِ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْقَسَمِ، لِأَنَّهُ نَاجِزٌ لَا مَحَالَةَ، وَمَعْنَى لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ: لَيَجْعَلَنَّهُمْ فِيهَا خُلَفَاءَ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلُوكِ فِي مَمْلُوكَاتِهِمْ، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، أَوْ بِالْمُهَاجِرِينَ، أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَرْضُ مَكَّةَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كُلُّ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ اللَّهُ فِي أَرْضِهِ فَلَا يُخَصُّ ذَلِكَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ دُونَ غَيْرِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ كَمَا اسْتَخْلَفَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ.
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَمَحَلُّ الْكَافِ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: اسْتِخْلَافًا كَمَا اسْتَخْلَفَ، وَجُمْلَةُ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ دَاخِلَةٌ تَحْتَ حُكْمِهِ كَائِنَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْكِينِ هُنَا: التَّثْبِيتُ وَالتَّقْرِيرُ، أَيْ: يَجْعَلُهُ اللَّهُ ثابتا مقرّرا يوسع لَهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَيُظْهِرُ دِينَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا: الْإِسْلَامُ، كَمَا فِي قوله: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1» ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الِاسْتِخْلَافَ لَهُمْ أَوَّلًا، وَهُوَ جَعْلُهُمْ مُلُوكًا وَذَكَرَ التَّمْكِينَ ثَانِيًا، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمُلْكَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْعُرُوضِ والطروّ، بل على وجه الاستقرار والثبات،
__________
(1) . المائدة: 3.(4/55)
بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُلْكُ لَهُمْ وَلِعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَجُمْلَةُ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو بَكْرٍ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَبْدَلَ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ الْحَسَنِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مَنْ بَدَّلَ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَزِيَادَةُ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ أَرْجَحُ مِنْ قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ أَنَّ بَيْنَ التَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ فَرْقًا، وَأَنَّهُ يُقَالُ بَدَّلْتُهُ، أَيْ: غَيَّرْتَهُ، وَأَبْدَلْتُهُ: أَزَلْتُهُ وَجَعَلْتُ غَيْرَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ، وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُ لَهُمْ مَكَانَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْأَعْدَاءِ أَمْنًا، وَيُذْهِبُ عَنْهُمْ أَسْبَابَ الْخَوْفِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَخْشَوْنَ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَلَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا بقليل في خوف شديد من المشركين، ولا يَخْرُجُونَ إِلَّا فِي السِّلَاحِ، وَلَا يُمْسُونَ وَيُصْبِحُونَ إلى عَلَى تَرَقُّبٍ لِنُزُولِ الْمَضَرَّةِ بِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ صَارُوا فِي غَايَةِ الْأَمْنِ وَالدَّعَةِ، وَأَذَلَّ اللَّهُ لَهُمْ شَيَاطِينَ الْمُشْرِكِينَ وَفَتَحَ عَلَيْهِمِ الْبِلَادَ، وَمَهَّدَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْهَا، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَجُمْلَةُ يَعْبُدُونَنِي فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوَقَةً لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَجُمْلَةُ لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَعْبُدُونَنِي، أَيْ: يَعْبُدُونَنِي، غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِي فِي الْعِبَادَةِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يُرَاءُونَ بِعِبَادَتِي أَحَدًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يَخَافُونَ غَيْرِي، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يُحِبُّونَ غَيْرِي وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيْ: مَنْ كَفَرَ هَذِهِ النِّعَمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَعْدِ الصَّحِيحِ، أَوْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانٍ، فَأُولَئِكَ الْكَافِرُونَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْفِسْقِ. وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالطُّغْيَانِ فِي الْكُفْرِ وَجُمْلَةُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: فَآمِنُوا وَاعْمَلُوا صَالِحًا وَأَقِيمُوا الصلاة، وقيل: معطوف على أَطِيعُوا اللَّهَ وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: فَلَا تَكْفُرُوا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ لِلتَّأْكِيدِ وَخَصَّهُ بِالطَّاعَةِ، لِأَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُطِيعُونَهُ فِيهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ الْحَذْفُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، مِنْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَذْفِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَيِ: افْعَلُوا مَا ذَكَرَ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، رَاجِينَ أَنْ يَرْحَمَكُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قَرَأَ ابْنُ عامر وحمزة وأبو حيوة «لا يحسبنّ» بالتحتية بمعنى: لا يحسبنّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، أَيْ:
لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ، وَالْمَوْصُولُ: الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَمُعْجِزِينَ: الثَّانِي، لِأَنَّ الْحُسْبَانَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو عَلِيٍّ. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا بَصْرِيًّا وَلَا كُوفِيًّا إِلَّا وَهُوَ يُخَطِّئُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ، وَمُعْجِزِينَ مَعْنَاهُ:
فَائِتِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَتَفْسِيرُ مَا بَعْدَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ الْآيَةَ قَالَ: أُنَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَجِهَادٍ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجُوا أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ خُصُومَةً، أو منازعة(4/56)
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا دُعِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحِقٌّ أَذْعَنَ وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ سَيَقْضِي لَهُ بِالْحَقِّ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ فَدُعِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضَ وَقَالَ: أَنْطَلِقُ إِلَى فُلَانٍ، فَأَنْزَلَ الله سُبْحَانَهُ وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: هُمُ الظَّالِمُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَيْءٌ فَدَعَاهُ إِلَى حَكَمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ، فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْمَتْنَ مَا لَفْظُهُ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَهُوَ ظَالِمٌ، فَكَلَامٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَا حَقَّ لَهُ، فَلَا يَصِحُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ انْتَهَى. وَأَقُولُ: أَمَّا كَوْنُ الْحَدِيثِ مُرْسَلًا فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا دَعْوَى كَوْنِهِ بَاطِلًا فَمُحْتَاجَةٌ إِلَى بُرْهَانٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا ذَكَرْنَا، ويبعد كل البعد أن ينفق عَلَيْهِمْ مَا هُوَ بَاطِلٌ، وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ هَكَذَا: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُبَارَكٌ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ فَذَكَرَهُ. وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ كَذَّابٌ وَلَا وَضَّاعٌ. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دُعِيَ إِلَى سُلْطَانٍ فَلَمْ يُجِبْ، فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ» . انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ قُضَاةَ الْعَدْلِ وَحُكَّامَ الشَّرْعِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَدَّمَنَا لَكَ قَرِيبًا هُمْ سَلَاطِينُ الدِّينِ الْمُتَرْجِمُونَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْمَبِينُونَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى قَوْمٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ أَمْوَالِنَا لَخَرَجْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذلك في شَأْنُ الْجِهَادِ، قَالَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَحْلِفُوا عَلَى شَيْءٍ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
قَالَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
يَقُولُ: قَدْ عرفت طاعتكم، أَيْ: إِنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَأْخُذُونَ مِنَّا الْحَقَّ وَلَا يُعْطُونَا؟ قَالَ: فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ قَانِعٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الجعفي قال: قلت يا رسول الله، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ: إِنْ كَانَ عَلَيَّ إِمَامٌ فَاجْرٌ فَلَقِيتُ مَعَهُ أَهْلَ ضَلَالَةٍ أُقَاتِلُ أَمْ لَا؟ قَالَ: قَاتِلْ أَهْلَ الضَّلَالَةِ أَيْنَمَا وَجَدْتَهُمْ، وَعَلَى الْإِمَامِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ الْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الْآيَةَ. قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ وَنَحْنُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ سِرًّا، وَهُمْ خَائِفُونَ لَا يُؤْمَرُونَ بِالْقِتَالِ، حَتَّى أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، وَكَانُوا بِهَا خَائِفِينَ يُمْسُونَ فِي السِّلَاحِ وَيُصْبِحُونَ فِي السِّلَاحِ، فَغَبَرُوا «1» بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا من أصحابه قال: يا رسول الله! أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ فِيهِ السِّلَاحَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لن تغبروا إلا
__________
(1) . غبر، يغبر غبورا: بقي. والغابرين: الماكثين الباقين.(4/57)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَتْ فِيهِمْ حَدِيدَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَأَظْهَرَ الله نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَأَمِنُوا وَوَضَعُوا السِّلَاحَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ نَبِيَّهُ فَكَانُوا كَذَلِكَ آمِنِينَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ حتى وقعوا فيما وَقَعُوا وَكَفَرُوا النِّعْمَةَ، فَأَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ الَّذِي كَانَ رُفِعَ عَنْهُمْ، وَاتَّخَذُوا الْحَجْرَ وَالشُّرَطَ، وَغَيَّرُوا فَغُيِّرَ مَا بِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَآوَتْهُمُ الْأَنْصَارُ، رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ عَنْ قوس واحدة، فَكَانُوا لَا يَبِيتُونَ إِلَّا فِي السِّلَاحِ وَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا فِيهِ، فَقَالُوا: أَتَرَوْنَ أَنَّا نَعِيشُ حَتَّى نَبِيتَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ لَا نَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، فَنَزَلَتْ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً قَالَ: لَا يَخَافُونَ أَحَدًا غَيْرِي. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الْعَاصُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كُفْرٌ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، لَيْسَ الْكُفْرَ بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قال: سابقين في الأرض.
[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 61]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ فَذَكَرَهُ هَاهُنَا عَلَى وَجْهٍ أخصّ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَدْخُلُ الْمُؤْمِنَاتُ فِيهِ تَغْلِيبًا كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْخِطَابَاتِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَاخْتَلَفُوا فِي(4/58)
الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
إِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا حَيْثُ كَانُوا لَا أَبْوَابَ لَهُمْ وَلَوْ عَادَ الْحَالُ لَعَادَ الْوُجُوبُ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّ حُكْمَهَا ثَابِتٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ بِالنِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ الصِّبْيَانُ مِنْكُمْ، أَيْ: مِنَ الْأَحْرَارِ، وَمَعْنَى ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَعَبَّرَ بالمرات عن الْأَوْقَاتِ، وَانْتِصَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، أَيْ: ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ، ثُمَّ فَسَّرَ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ إِلَخْ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: ثَلَاثَ اسْتِئْذَانَاتٍ وَرَجَّحَ هَذَا أَبُو حَيَّانَ فَقَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثَلَاثُ اسْتِئْذَانَاتٍ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا ثَلَاثَ ضَرْبَاتٍ. وَيُرَدُّ بِأَنَّ الظَّاهِرَ هُنَا مَتْرُوكٌ للقرينة المذكورة، وهو التفسير بالثلاثة الأوقات. وقرأ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ الْحُلْمِ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْحُلْمُ مِنْ حَلَمَ الرَّجُلُ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَمِنَ الْحُلْمِ حَلُمَ بِضَمِّ اللَّامِ يَحْلِمُ بِكَسْرِ اللَّامِ، ثُمَّ فَسَّرَ سُبْحَانَهُ الثَّلَاثَ الْمَرَّاتِ فَقَالَ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقِيَامِ عَنِ الْمَضَاجِعِ، وَطَرْحِ ثِيَابِ النَّوْمِ، وَلُبْسِ ثِيَابِ الْيَقَظَةِ، وَرُبَّمَا يَبِيِتُ عُرْيَانًا، أَوْ عَلَى حَالٍ لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ فِيهَا، وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ثَلَاثَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ مِنْ قَبْلِ، وَقَوْلُهُ: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى محل مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ومِنْ فِي مِنَ الظَّهِيرَةِ لِلْبَيَانِ، أَوْ بِمَعْنَى فِي، أَوْ بِمَعْنَى اللَّامِ. وَالْمَعْنَى: حِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمُ الَّتِي تَلْبَسُونَهَا فِي النَّهَارِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ الظَّهِيرَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يتجرّدون من الثِّيَابِ لِأَجْلِ الْقَيْلُولَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْوَقْتَ الثَّالِثَ فَقَالَ: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّجَرُّدِ عَنْ الثِّيَابِ وَالْخَلْوَةِ بِالْأَهْلِ، ثُمَّ أَجْمَلَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بَعْدَ التَّفْصِيلِ فَقَالَ: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ ثَلاثُ عَوْراتٍ بِرَفْعِ ثَلَاثٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا يَصِحُّ الْبَدَلُ بِتَقْدِيرِ أَوْقَاتِ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ نَفْسَ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ مُبَالَغَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ بَدَلًا مِنَ الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَخْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: أَعْنِي وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُنَّ ثَلَاثٌ. قَالَ أَبُو حاتم: النصب ضعيف مردود.
وقال الفراء: الرفع أحبّ إليّ، قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى هذه الخصال ثلاث عورات. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ مُرْتَفِعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَهَا. قَالَ: وَالْعَوْرَاتُ السَّاعَاتُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْعَوْرَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لِيَسْتَأْذِنْكُمْ أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَعَوْرَاتٌ جَمْعُ عَوْرَةٍ، وَالْعَوْرَةُ: فِي الْأَصْلِ الْخَلَلُ، ثُمَّ غَلَبَ فِي الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِيمَا يَهُمُّ حِفْظُهُ وَيَتَعَيَّنُ سَتْرُهُ،(4/59)
أَيْ: هِيَ ثَلَاثُ أَوْقَاتٍ يَخْتَلُّ فِيهَا السَّتْرُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «عَوَرَاتٍ» بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ فَإِنَّهُمْ يَفْتَحُونَ عَيْنَ فَعَلَاتٍ سَوَاءً كَانَ وَاوًا أَوْ يَاءً، وَمِنْهُ:
أَخُو بَيَضَاتٍ رائح مُتَأَوِّبٌ ... رَفِيقٌ بِمَسْحِ الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وَقَوْلُهُ:
أَبُو بيضات رائح أَوْ مُبَعِّدٌ ... عَجْلَانَ ذَا زَادٍ وَغَيْرَ مُزَوَّدِ
وَ «لَكُمُ» مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِثَلَاثِ عَوْرَاتٍ أَيْ: كَائِنَةٌ لَكُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ عِلَّةِ وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ أَيْ: لَيْسَ عَلَى الْمَمَالِيكِ وَلَا عَلَى الصِّبْيَانِ جَنَاحٌ، أَيْ: إِثْمٌ فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ. وَمَعْنَى بَعْدَهُنَّ: بَعْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، وهي: الأوقات المتخللة بين كلّ اثنين مِنْهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ خَاصَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعِ صِفَةٍ لِثَلَاثِ عَوْرَاتٍ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فِيهَا. قَالَ أَبُو الْبَقَاءُ بَعْدَهُنَّ أَيْ: بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِمْ فِيهِنَّ، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ وَالْمَجْرُورُ فَبَقِيَ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِمْ، ثُمَّ حُذِفَ الْمَصْدَرُ وَهُوَ الِاسْتِئْذَانُ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ بِهِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ، بَلِ الْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ وَلَا عَلَيْهِمْ، أَيِ: الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالصِّبْيَانِ جُنَاحٌ فِي عَدَمِ الِاسْتِئْذَانِ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَارْتِفَاعُ طَوَّافُونَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْعُذْرِ الْمُرَخَّصِ فِي تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا كَقَوْلِكَ فِي الْكَلَامِ هُمْ خَدَمُكُمْ وَطَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، وَأَجَازَ أَيْضًا نَصْبَ طَوَّافِينَ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، وَالْمُضْمَرُ فِي عَلَيْكُمْ مَعْرِفَةٌ وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُضْمَرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي عَلَيْكُمْ وَفِي بَعْضِكُمْ لِاخْتِلَافِ الْعَامِلَيْنِ. وَمَعْنَى طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، أَيْ: يَطُوفُونَ عَلَيْكُمْ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي الْهِرَّةِ «إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ» أَيْ: هُمْ خَدَمُكُمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْكُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَمَعْنَى بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بَعْضُكُمْ يَطُوفُ أَوْ طَائِفٌ عَلَى بَعْضٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهَا أَوْ مُؤَكِّدَةٌ لَهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مِنْكُمْ يَطُوفُ عَلَى صَاحِبِهِ، الْعَبِيدُ عَلَى الْمَوَالِي، وَالْمَوَالِي عَلَى الْعَبِيدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ ... بِبَعْضٍ أَبَتْ عِيدَانُهُ أَنْ تُكَسَّرَا
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «طَوَّافِينَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ سُبْحَانَهُ الدُّخُولَ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِأَنَّهَا كَانَتِ الْعَادَةُ أَنَّهُمْ لَا يَكْشِفُونَ عَوْرَاتِهِمْ فِي غَيْرِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التَّبْيِينِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى مَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كَثِيرُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَكَثِيرُ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِهِ وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا حُكْمَ الْأَطْفَالِ الْأَحْرَارِ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ بَعْدَ مَا بَيَّنَ فِيمَا مَرَّ حُكْمَ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، فِي أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ(4/60)
فِي تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ، فِيمَا عَدَا الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: فَلْيَسْتَأْذِنُوا يَعْنِي: الَّذِينَ بَلَغُوا الْحُلُمَ إِذَا دَخَلُوا عَلَيْكُمْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَالْكَافُ: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: اسْتِئْذَانًا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالْمَوْصُولُ عِبَارَةٌ عَنِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الْآيَةَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَلَغُوا الْحُلُمَ يَسْتَأْذِنُونَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْكِبَارِ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالِاسْتِئْذَانِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، ثُمَّ كَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ لِلتَّأْكِيدِ فَقَالَ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْحُلُمَ فَحَذَفَ الضَّمَّةَ لِثِقَلِهَا. قَالَ عَطَاءٌ: وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا إِذَا احْتَلَمُوا أَحْرَارًا كَانُوا أَوْ عَبِيْدًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوَاعِدِ مِنَ النِّسَاءِ: الْعَجَائِزُ اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْحَيْضِ، وَالْوَلَدِ مِنَ الْكِبَرِ، وَاحِدَتُهَا قَاعِدٌ بِلَا هَاءٍ لِيَدُلَّ حَذْفُهَا عَلَى أَنَّهُ قُعُودُ الْكِبَرِ، كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ حَامِلٌ لِيَدُلَّ بِحَذْفِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ حَمْلُ حَبَلٍ، وَيُقَالُ: قَاعِدَةٌ فِي بَيْتِهَا وَحَامِلَةٌ عَلَى ظَهْرِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُنَّ اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ التَّزْوِيجِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً أَيْ: لَا يَطْمَعْنَ فيه لكبرهنّ. قال أَبُو عُبَيْدَةَ: اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَقْعُدُ عَنِ الْوَلَدِ وَفِيهَا مُسْتَمْتَعٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْقَوَاعِدِ فَقَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أَيِ: الثِّيَابَ الَّتِي تَكُونُ عَلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ كالجلباب ونحوه، لا الثِّيَابُ الَّتِي عَلَى الْعَوْرَةِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُنَّ ذَلِكَ لِانْصِرَافِ الْأَنْفُسِ عَنْهُنَّ، إِذْ لَا رَغْبَةَ لِلرِّجَالِ فِيهِنَّ، فَأَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبِحْهُ لِغَيْرِهِنَّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى حَالَةً مِنْ حَالَاتِهِنَّ فَقَالَ: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أَيْ: غَيْرَ مُظْهِرَاتٍ لِلزِّينَةِ الَّتِي أُمِرْنَ بِإِخْفَائِهَا فِي قوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ وَالْمَعْنَى: مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِدْنَ بِوَضْعِ الْجَلَابِيبِ إِظْهَارَ زَيَّنَتْهُنَّ، وَلَا مُتَعَرِّضَاتٍ بِالتَّزَيُّنِ، لِيَنْظُرَ إِلَيْهِنَّ الرِّجَالُ. وَالتَّبَرُّجُ التَّكَشُّفُ وَالظُّهُورُ لِلْعُيُونِ، وَمِنْهُ: بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «1» وَبُرُوجُ السَّمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَفِينَةٌ بَارِجَةٌ، أَيْ: لَا غِطَاءَ عَلَيْهَا وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أَيْ: وَأَنْ يَتْرُكْنَ وَضْعَ الثِّيَابِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُنَّ مِنْ وَضْعِهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ «أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ» بِزِيَادَةِ مِنْ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «وَأَنْ يَعْفُفْنَ» بِغَيْرِ سِينٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَثِيرُ السَّمَاعِ وَالْعِلْمِ أَوْ بَلِيغُهُمَا لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ منسوخة؟ قال بالأوّل: جماعة من العماء، وَبِالثَّانِي: جَمَاعَةٌ. قِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا، فَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غُيَّبٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ فَمَعْنَى الْآيَةِ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنِ الزَّمْنَى فِي أَكْلِهِمْ مِنْ بُيُوتِ أَقَارِبِهِمْ، أَوْ بُيُوتِ مَنْ يَدْفَعُ إِلَيْهِمُ الْمِفْتَاحَ إِذَا خَرَجَ لِلْغَزْوِ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَجَلِّ مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ التَّوْقِيفِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ مُؤَاكَلَةِ الأصحاء حذرا مِنَ اسْتِقْذَارِهِمْ إِيَّاهُمْ وَخَوْفًا مِنْ تَأَذِّيِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنِ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ البصر، وعن الأعرج
__________
(1) . النساء: 78.(4/61)
فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى الْمَشْيِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ الْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ الْعَرَجِ، وَعَنِ الْمَرِيضِ فِيمَا يُؤَثِّرُ الْمَرَضُ فِي إِسْقَاطِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ عَنْ هَؤُلَاءِ هُوَ الْحَرَجُ فِي الْغَزْوِ، أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي تَأَخُّرِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ. وَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَدْخَلَ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّمْنَى إِلَى بَيْتِهِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا يُطْعِمُهُمْ إِيَّاهُ ذَهَبَ بِهِمْ إِلَى بُيُوتِ قَرَابَتِهِ، فَيَتَحَرَّجُ الزَّمْنَى مِنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ يُمَاثِلُكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَأْكُلُوا أَنْتُمْ وَمَنْ مَعَكُمْ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، أَيْ:
وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ إِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ مُؤَاكَلَةِ الْأَصِحَّاءِ، أَوْ دُخُولِ بُيُوتِهِمْ فَيَكُونُ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ أُولَئِكَ بِاعْتِبَارِ التَّكَالِيفِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا وُجُودُ الْبَصَرِ وَعَدَمِ الْعَرَجِ وَعَدَمِ الْمَرَضِ، فَقَوْلُهُ: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ غَيْرِ مُتَّصِلٍ بِمَا قَبْلَهُ. وَمَعْنَى مِنْ بُيُوتِكُمْ الْبُيُوتُ الَّتِي فِيهَا مَتَاعُهُمْ وَأَهْلُهُمْ فَيَدْخُلُ بُيُوتَ الْأَوْلَادِ كَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي بُيُوتِهِمْ لِكَوْنِ بَيْتِ ابْنِ الرَّجُلِ بَيْتَهُ، فَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ بُيُوتَ الْأَوْلَادِ، وَذَكَرَ بُيُوتَ الْآبَاءِ، وَبُيُوتَ الْأُمَّهَاتِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَعَارَضَ بَعْضُهُمْ هَذَا فَقَالَ: هَذَا تَحَكُّمٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بَلِ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ مُخَالِفًا لِهَؤُلَاءِ. وَيُجَابُ عَنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ رُتْبَةَ الْأَوْلَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآبَاءِ لَا تَنْقُصُ عَنْ رُتْبَةِ الْآبَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْلَادِ، بَلْ لِلْآبَاءِ مَزِيدُ خُصُوصِيَّةٍ فِي أَمْوَالِ الْأَوْلَادِ لِحَدِيثِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَحَدِيثُ «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ» ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا بُيُوتَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، بَلْ بُيُوتَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، بَلْ بُيُوتَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، فَكَيْفَ يَنْفِي سُبْحَانَهُ الْحَرَجَ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَنْفِيِهِ عَنْ بُيُوتِ الْأَوْلَادِ؟ وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ بِالْإِذْنِ مِنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُشْتَرَطُ الْإِذْنُ. قِيلَ: وَهَذَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ مَبْذُولًا، فَإِنْ كَانَ مُحَرَّزًا دُونَهُمْ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَكْلُهُ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَيِ: الْبُيُوتُ الَّتِي تَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِإِذْنِ أَرْبَابِهَا، وَذَلِكَ كَالْوُكَلَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْخُزَّانِ، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي بُيُوتِ مَنْ أَذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ بَيْتِهِ وَإِعْطَائِهِمْ مَفَاتِحَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا بُيُوتُ الْمَمَالِيكِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَلَكْتُمْ بِفَتْحِ الميم وتخفيف اللام. وقرأ سعيد ابن جُبَيْرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ مَعَ تَشْدِيدِهَا. وَقَرَأَ أَيْضًا «مَفَاتِيحَهُ» بِيَاءٍ بَيْنَ التَّاءِ وَالْحَاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ مَفاتِحَهُ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْمَفَاتِحُ: جَمْعُ مَفْتَحٍ، وَالْمَفَاتِيحُ: جَمْعُ مِفْتَاحٍ أَوْ صَدِيقِكُمْ أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ صَدِيقِكُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ قُرَابَةٌ، فَإِنَّ الصَّدِيقَ فِي الْغَالِبِ يَسْمَحُ لِصَدِيقِهِ بِذَلِكَ وَتَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ، وَالصَّدِيقُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
دَعَوْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبَنَا ... بِأَسْهُمِ أَعْدَاءَ وَهُنَّ صِدِيقُ
وَمِثْلُهُ الْعَدُوُّ وَالْخَلِيطُ وَالْقَطِينُ وَالْعَشِيرُ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً انتصاب جميعا وأشتاتا عَلَى الْحَالِ. وَالْأَشْتَاتُ: جَمْعُ شَتٍّ، وَالشَّتُّ الْمَصْدَرُ: بِمَعْنَى التَّفَرُّقِ، يُقَالُ شَتَّ الْقَوْمُ، أَيْ: تَفَرَّقُوا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ حُكْمٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يتحرّج(4/62)
أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ حَتَّى يَجِدَ لَهُ أَكِيلًا يُؤَاكِلُهُ فَيَأْكُلُ مَعَهُ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ كَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَعَ ضَيْفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَاتِمٍ:
إِذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ ... أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْتُ آكِلَهُ وَحْدِي
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ أَدَبٍ آخَرَ أَدَّبَ بِهِ عِبَادَهُ، أَيْ: إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا غَيْرَ الْبُيُوتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَيْ: عَلَى أَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْفُسِكُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْبُيُوتُ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: هِيَ الْمَسَاجِدُ، وَالْمُرَادُ سَلِّمُوا عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ صِنْفِكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسَاجِدِ أَحَدٌ، فَقِيلَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَقِيلَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ مُرِيدًا لِلْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وَقَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: أَعْنِي أَنَّهَا الْبُيُوتُ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ هُنَا هِيَ كُلُّ الْبُيُوتِ الْمَسْكُونَةِ وَغَيْرِهَا، فَيُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِ المسكونة، وأما على غَيْرُ الْمَسْكُونَةِ فَيُسَلِّمُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ فِي الْبُيُوتِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَانْتِصَابُ تَحِيَّةً عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَسَلِّمُوا مَعْنَاهُ فَحَيُّوا، أَيْ: تَحِيَّةً ثَابِتَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ: إِنَّ اللَّهَ حَيَّاكُمْ بِهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوهَا طَاعَةً لَهُ، ثُمَّ وَصَفَ هَذِهِ التَّحِيَّةَ فَقَالَ: مُبارَكَةً أَيْ: كَثِيرَةَ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ، دَائِمَتَهَمَا طَيِّبَةً أَيْ: تَطِيبُ بِهَا نَفْسُ الْمُسْتَمِعِ، وَقِيلَ: حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ السَّلَامَ مُبَارَكٌ طَيِّبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ تَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تَعْلِيلٌ لِذَلِكَ التَّبْيِينِ بِرَجَاءِ تَعَقُّلِ آيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَفَهْمِ مَعَانِيهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: بَلَغَنَا أَنْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتَهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ مَرْشَدَةَ صَنَعَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ طَعَامًا، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَقْبَحَ هَذَا إِنَّهُ لَيَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا، وَهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، غُلَامُهُمَا بِغَيْرِ إذن، فأنزل الله في ذلك يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَعْنِي: الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ قَالَ: مِنْ أَحْرَارِكُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُوَاقِعُوا نِسَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ لِيَغْتَسِلُوا، ثُمَّ يَخْرُجُوا إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرُوا الْمَمْلُوكِينَ وَالْغِلْمَانَ أَنْ لَا يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ثَعْلَبَةَ الْقُرَظِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوِيدٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، فَقَالَ: إِذَا أَنَا وَضَعْتُ ثِيَابِي بَعْدَ الظَّهِيرَةِ لَمْ يَلِجْ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْخَدَمِ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَلَا أَحَدٌ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ مِنَ الْأَحْرَارِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَإِذَا وَضَعْتُ ثِيَابِي بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَمِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ» . وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوِيدٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا ابْنُ سَعْدٍ عَنْ سُوِيدِ بْنِ النُّعْمَانِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ: يَعْنِي آيَةَ الْإِذْنِ، وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ، - لِجَارِيَةٍ قَصِيرَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى رَأْسِهِ- أَنْ تَسْتَأْذِنَ عَلَيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،(4/63)
قَالَ: تَرَكَ النَّاسُ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَمْ يَعْمَلُوا بهنّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الْآيَةَ، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحُجُرَاتِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: إِذَا خَلَا الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ صَبِيٌّ وَلَا خَادِمٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْغَدَاةَ، وَإِذَا خَلَا بِأَهْلِهِ عِنْدَ الظُّهْرِ فَمِثْلَ ذَلِكَ. وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ فَأَمَّا مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ إِلَّا بِإِذْنٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنْ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الثَّلَاثِ الْعَوْرَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ» وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لَهُمْ سُتُورٌ عَلَى أَبْوَابِهِمْ وَلَا حِجَابٌ فِي بُيُوتِهِمْ، فَرُبَّمَا فَجَأَ الرَّجُلَ خَادِمُهُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمٌ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بَعْدُ بِالسُّتُورِ، فَبَسَطَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، فَاتَّخَذُوا السُّتُورَ وَاتَّخَذُوا الْحِجَابَ، فَرَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ: هِيَ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، فَالِاطِّلَاعُ عَلَى الْعَوْرَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَمَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الذُّكُورِ يَكْرَهُهُ مِنَ الْإِنَاثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ أزواج النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي النِّسَاءِ أَنْ يَسْتَأْذِنَّ عَلَيْنَا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: النِّسَاءُ فَإِنَّ الرِّجَالَ يستأذنون. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أبي عبد الرحمن السلمي في هذه الآية قال: هي في النساء خاصة، الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار. وأخرج الفريابي عن موسى بن أبي عائشة قَالَ: سَأَلْتُ الشَّعْبِيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَنْسُوخَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنَّهَا فِي حِجْرِي
وَإِنِّي أُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ الْآيَةَ، فَلَمْ يُؤْمَرْ هَؤُلَاءِ بِالْإِذْنِ إِلَّا فِي هَؤُلَاءِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، قَالَ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَالْإِذْنُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ خَلْقِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَيْكُمْ إِذْنٌ عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْهُ قَالَ: يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنْ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، قَالَ: أستأذن عليها، قال: إني خادمها
__________
(1) . الحجرات: 13.(4/64)
أَفَأَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا كُلَّمَا دَخَلْتُ؟ قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا» وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنْ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الْآيَةَ، فَنَسَخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الْمَرْأَةُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا أَنْ تَجْلِسَ فِي بَيْتِهَا بِدِرْعٍ وَخِمَارٍ، وتضع عنها الْجِلْبَابَ مَا لَمْ تَتَبَرَّجْ بِمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يقرأ «أن يضعن من ثِيَابَهُنَّ» وَيَقُولُ:
هُوَ الْجِلْبَابُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابن عمر في الآية قال: تضع الجلباب وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ قَالَ: الْجِلْبَابُ وَالرِّدَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «1» قَالَتِ الْأَنْصَارُ: مَا بِالْمَدِينَةِ مَالٌ أَعَزُّ مِنَ الطعام كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مَعَ الْأَعْمَى يَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يُبْصِرُ مَوْضِعَ الطَّعَامِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ الْأَكْلَ مَعَ الْأَعْرَجِ يَقُولُونَ الصَّحِيحُ يَسْبِقُهُ إِلَى الْمَكَانِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُزَاحِمَ، وَيَتَحَرَّجُونَ الْأَكْلَ مَعَ الْمَرِيضِ يَقُولُونَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ مِثْلَ الصَّحِيحِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا فِي بُيُوتِ أَقَارِبِهِمْ، فَنَزَلَتْ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى يَعْنِي: فِي الْأَكْلِ مَعَ الْأَعْمَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن مقسم نحوه. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِالْأَعْمَى أَوِ الْأَعْرَجِ أَوِ الْمَرِيضِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أَخِيهِ أَوْ بَيْتِ عَمِّهِ أَوْ بَيْتِ عَمَّتِهِ أَوْ بَيْتِ خَالِهِ أَوْ بَيْتِ خَالَتِهِ، فَكَانَ الزَّمْنَى يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَذْهَبُونَ بِنَا إِلَى بُيُوتِ غَيْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرْغَبُونَ فِي النَّفِيرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَدْفَعُونَ مَفَاتِيحَهُمْ إِلَى أُمَنَائِهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ إِنَّهُمْ أَذِنُوا لَنَا مِنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ زَمْنَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابن عباس قال: لما نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قَالَ الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَالطَّعَامُ هُوَ أَفْضَلُ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ فَكَفَّ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وَهُوَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ، وَالَّذِي رَخَّصَ اللَّهُ: أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَالتَّمْرَ وَيَشْرَبَ اللَّبَنَ، وَكَانُوا أَيْضًا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَحْدَهُ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
__________
(1) . النساء: 29.(4/65)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخَالِطُهُمْ فِي طَعَامِهِمْ أَعْمًى وَلَا مَرِيضٌ وَلَا أَعْرَجُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُزَاحَمَةَ عَلَى الطَّعَامِ، فَنَزَلَتْ رُخْصَةً فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ مَا بَالُ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ ذُكِرُوا هُنَا؟
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ، يَقُولُونَ قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غُيَّبٌ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رُخْصَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ بَنِيَ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِ مَخْزَاةَ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَسُوقُ الزَّوْدَ الْحَفْلَ وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ قالا: كان الْأَنْصَارُ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الضَّيْفُ لَا يَأْكُلُونَ حَتَّى يَأْكُلَ الضَّيْفُ مَعَهُمْ، فَنَزَلَتْ رُخْصَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ خَرَجَ الْحَارِثُ غَازِيًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلَّفَ عَلَى أَهْلِهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، فَحَرِجَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ، وَكَانَ مَجْهُودًا فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ صَدِيقِكُمْ قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَ صَدِيقِكَ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَتِهِ، ثُمَّ أَكَلْتَ مِنْ طَعَامِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ صَدِيقِكُمْ قَالَ: هَذَا شَيْءٌ قَدِ انْقَطَعَ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَبْوَابٌ، وَكَانَتِ السُّتُورُ مُرْخَاةً، فَرُبَّمَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْبَيْتَ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُبَّمَا وَجَدَ الطَّعَامَ وَهُوَ جَائِعٌ فَسَوَّغَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْكُلَهُ. وَقَالَ: ذَهَبَ ذَلِكَ، الْيَوْمَ الْبُيُوتُ فِيهَا أَهْلُهَا، فَإِذَا خَرَجُوا أَغْلَقُوا، فَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ يَقُولُ: إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ، وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمَ عَلَيْهِمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ قَالَ: هُوَ الْمَسْجِدُ إِذَا دَخَلْتَهُ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ غَيْرَ الْمَسْكُونِ، أَوِ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ:
السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.
[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)(4/66)
جُمْلَةُ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْدِيرِ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَ «إِنَّمَا» مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَتِمُّ إِيمَانٌ وَلَا يَكْمُلُ حَتَّى يَكُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجُمْلَةُ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى آمَنُوا داخلة فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، أَيْ: إِذَا كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ، أَيْ: عَلَى أَمْرِ طَاعَةٍ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، نَحْوَ الْجُمُعَةِ وَالنَّحْرِ وَالْفِطْرِ وَالْجِهَادِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَسُمِّيَ الْأَمْرُ جَامِعًا: مُبَالَغَةً لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِحَاجَةٍ أَوْ عُذْرٍ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَقُومَ بِحِيَالِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حَيْثُ يَرَاهُ، فَيَعْرِفُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَامَ لِيَسْتَأْذِنَ فَيَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَإِذْنُ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يُشِيرَ بِيَدِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا مَعَ نَبِيِّهِ فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْإِمَامِ لَا يُخَالِفُونَهُ وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ فِي جَمْعٍ مِنْ جُمُوعِهِمْ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ وَلَهُ أَنْ لَا يَأْذَنَ عَلَى مَا يَرَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: عَلَى أَمْرٍ جَمِيعٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ الْجَامِعَ، أَوِ الْجَمِيعَ، هُوَ الَّذِي يَعُمُّ نَفْعُهُ أَوْ ضَرَرُهُ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْجَلِيلُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى اجْتِمَاعِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّجَارِبِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ أَمْرٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَ الْإِمَامِ لَا يُخَالِفُونَهُ وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنٍ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنِينَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا حَكَمَ أَوَّلًا بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الكاملي الْإِيمَانَ: هُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِهِمَا وَبَيْنَ الِاسْتِئْذَانِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أَيْ: إِذَا اسْتَأْذَنَ الْمُؤْمِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي تُهِمُّهُمْ، فَإِنَّهُ يَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَيَمْنَعُ مَنْ شَاءَ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلِحَةُ الَّتِي يَرَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَرْشَدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ مُسَوَّغٍ، فَلَا يَخْلُو عَنْ شَائِبَةِ تَأْثِيرِ أَمْرِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ بَالِغٌ فِيهِمَا إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا دَعْوَتَهُ إِيَّاكُمْ كَالدُّعَاءِ مِنْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، فِي التَّسَاهُلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنِ الْإِجَابَةِ أَوِ الرُّجُوعِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، أَوْ رَفْعِ الصَّوْتِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى قُولُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فِي رِفْقٍ وَلِينٍ، وَلَا تَقُولُوا:
يَا مُحَمَّدُ بِتَجَهُّمٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَهُمْ أَنْ يُشَرِّفُوهُ وَيُفَخِّمُوهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا تَتَعَرَّضُوا لِدُعَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ بِإِسْخَاطِهِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُوجَبَةٌ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً التَّسَلُّلُ: الْخُرُوجُ فِي خُفْيَةٍ، يُقَالُ تَسَلَّلَ فُلَانٌ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَاللِّوَاذُ مِنَ الْمُلَاوَذَةِ، وَهُوَ أَنْ تَسْتَتِرَ بِشَيْءٍ، مَخَافَةَ مَنْ يَرَاكَ، وَأَصْلُهُ أَنْ يلوذ هذا بذاك وَذَاكَ بِهَذَا، وَاللَّوْذُ مَا يُطِيفُ بِالْجَبَلِ، وَقِيلَ: اللِّوَاذُ الزَّوَغَانُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ فِي خُفْيَةٍ. وَانْتِصَابُ لِوَاذًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَلَاوِذِينَ، يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ، وَقِيلَ:(4/67)
هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ هُوَ الْحَالُ فِي الْحَقِيقَةِ، أَيْ: يَلُوذُونَ لِوَاذًا. وَقَرَأَ زَيْدٌ بْنُ قُطَيْبٍ لِواذاً بِفَتْحِ اللَّامِ. وَفِي الْآيَةِ بَيَانُ مَا كَانَ يَقَعُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مُتَلَاوِذِينَ، يَنْضَمُّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ اسْتِتَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَثْقَلَ يَوْمٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، فَكَانُوا يَفِرُّونَ عَنِ الْحُضُورِ وَيَتَسَلَّلُونَ فِي خُفْيَةٍ، وَيَسْتَتِرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ. وَقِيلَ اللِّوَاذُ: الْفِرَارُ مِنَ الْجِهَادِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، ومنه قول حسان:
وقريش تجول منّا لواذا ... لم تحافظ وخفّ مِنْهَا الْحُلُومُ
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ الْفَاءُ: لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: يُخَالِفُونَ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَعُدِّيَ فِعْلُ الْمُخَالَفَةِ بِعَنْ مَعَ كَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ أَوِ الصَّدِّ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لأنه الآمر بالحقيقة، وأَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ مَفْعُولُ يَحْذَرْ، وَفَاعِلُهُ: الْمَوْصُولُ.
وَالْمَعْنَى: فَلْيَحْذَرِ الْمُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَوْ أَمْرِ رَسُولِهِ، أَوْ أَمْرِهِمَا جَمِيعًا، إِصَابَةَ فِتْنَةٍ لَهُمْ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي حَذَّرَهُمْ مِنْ إِصَابَتِهَا لَهُمْ، هِيَ فِي الدُّنْيَا، وَكَلِمَةُ أَوْ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَتَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ الْآيَةَ، فَيَجِبُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ، وَالْفِتْنَةُ هُنَا: غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِتَنِ، وقيل: هي القتل، وقيل: الزلازل، وقيل: تسلط سلطان جائر عليهم، وَقِيلَ: الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: عَنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَائِدَةٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ:
لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى بَعْدَ، كَقَوْلِهِ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «1» أَيْ: بَعْدَ أَمْرِ رَبِّهِ، وَالْأَوْلَى: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّضْمِينِ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَسْرِهَا، فَهِيَ مِلْكُهُ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيُّهَا الْعِبَادُ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، فَيُجَازِيكُمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُ هَاهُنَا: بِمَعْنَى عَلِمَ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، أَيْ: يَعْلَمُ ما أنتم عليه ويعلم يوم ترجعون إِلَيْهِ فَيُجَازِيكُمْ فِيهِ بِمَا عَمِلْتُمْ، وَتَعْلِيقُ عِلْمِهِ سبحانه بيوم يَرْجِعُونَ لَا بِنَفْسِ رَجْعِهِمْ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ عِلْمِهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوَقْتِ وُقُوعِ الشَّيْءِ، يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِوُقُوعِهِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَيْ: يُخْبِرُهُمْ بِمَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لِلْمُنَافِقِينَ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عُرْوَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَا: لَمَّا أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ عَامَ الْأَحْزَابِ نَزَلُوا بِمَجْمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رَوْمَةِ: بِئْرٍ بِالْمَدِينَةِ، قَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ حَتَّى نَزَلُوا بِنَقَمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، وَجَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْخَبَرُ، فَضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَأَبْطَأَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَجَعَلُوا يُورُّونَ بِالضَّعِيفِ مِنَ الْعَمَلِ، فَيَتَسَلَّلُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) . الكهف: 50.(4/68)
وَلَا إِذْنٍ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا نَابَتْهُ النَّائِبَةُ مِنَ الْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا يَذْكُرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي اللُّحُوقِ لِحَاجَتِهِ فَيَأْذَنُ لَهُ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ رَجَعَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أُولَئِكَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ فِي الْجِهَادِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: عَلى أَمْرٍ جامِعٍ قَالَ: مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَامٌّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ الْآيَةَ قَالَ: يَعْنِي كَدُعَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا دَعَا أَخَاهُ بِاسْمِهِ، وَلَكِنْ وَقِّرُوهُ وَقُولُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَا نَبِيَّ اللَّهِ!. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا تَصِيحُوا بِهِ مِنْ بَعِيدٍ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْحُجُرَاتِ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ «1» .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ مُقَاتِلٍ، قَالَ: كَانَ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ لِرُعَافٍ أَوْ إِحْدَاثٍ حَتَّى يستأذن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، فيأذن له النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ، وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ الْخُطْبَةُ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ إِذَا اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَامَ الْمُنَافِقُ إِلَى جَنْبِهِ يَسْتَتِرُ بِهِ حَتَّى يَخْرُجَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ- قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ النُّورِ- وَهُوَ جَاعِلٌ أُصْبُعَيْهِ تَحْتَ عَيْنَيْهِ- يقول: بكل شيء بصير.
__________
(1) . الحجرات: 3.(4/69)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
سورة الفرقان
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَهِيَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ حيان وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أَسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تُقْرَأُ؟
قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأَتْ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْسِلْهُ، أَقْرِئْنَا هِشَامُ» فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ» : ثُمَّ قَالَ: «أَقْرِئْنَا عُمَرُ» ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ على سبعة أحرف، فاقرؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4)
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
تَكَلَّمَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ وَأَهَمُّ، ثُمَّ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّهَا الْوَاسِطَةُ، ثُمَّ فِي الْمَعَادِ، لِأَنَّهُ الْخَاتِمَةُ. وَأَصْلُ تَبَارَكَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، حِسِّيَّةً كَانَتْ أَوْ عَقْلِيَّةً. قَالَ الزَّجَّاجُ:
تَبَارَكَ تَفَاعَلَ، مِنَ الْبَرَكَةِ. قَالَ: وَمَعْنَى الْبَرَكَةِ: الْكَثْرَةُ مِنْ كُلِّ ذِي خَيْرٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ تَبَارَكَ وَتَقَدَّسَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُمَا: الْعَظَمَةُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: تَبَارَكَ عَطَاؤُهُ، أَيْ: زَادَ وَكَثُرَ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: دَامَ وَثَبَتَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ، وَالِاشْتِقَاقُ مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ: إِذَا ثَبَتَ، وَمِنْهُ: بَرَكَ الْجَمَلُ، أَيْ: دَامَ وَثَبَتَ. وَاعْتَرَضَ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ بِأَنَّ التَّقْدِيسَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ذَا فِي شَيْءٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ:(4/70)
هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَالْفَرْقَانُ: الْقُرْآنُ، وسمى فرقانا، لأنه يفرق بني الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِأَحْكَامِهِ، أَوْ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، والمراد بعبده نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. ثُمَّ عَلَّلَ التَّنْزِيلَ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً فَإِنَّ النِّذَارَةَ هِيَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِنْزَالِ، والمراد: محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوِ الْفَرْقَانُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ هُنَا: الْإِنْسُ والجنّ، لأن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُرْسَلًا إِلَى الثَّقَلَيْنِ، وَالنَّذِيرُ:
الْمُنْذِرُ، أَيْ: لِيَكُونَ مُحَمَّدٌ مُنْذِرًا، أَوْ لِيَكُونَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ مُنْذِرًا، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ النَّذِيرُ هُنَا بِمَعْنَى المصدر للمبالغة، أي: ليكون إنزاله إِنْذَارًا، وَجَعْلُ الضَّمِيرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى، لِأَنَّ صُدُورَ الْإِنْذَارِ مِنْهُ حَقِيقَةٌ، وَمِنَ الْقُرْآنِ مَجَازٌ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى وَلِكَوْنِهِ أَقْرَبَ مَذْكُورٍ. وَقِيلَ: إِنَّ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إِلَى الْفُرْقَانِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «1» ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتٍ أَرْبَعٍ: الْأُولَى:
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ الْآخَرُ بَدَلًا، أو بيانا للموصول الأوّل، والوصف أولى، وفيه تَنْبِيهٍ عَلَى افْتِقَارِ الْكُلِّ إِلَيْهِ فِي الْوُجُودِ وتوابعه من البقاء وَغَيْرِهِ.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى وَالْيَهُودِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى طَوَائِفِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، وَالثَّنَوِيَّةِ، وَأَهْلِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ:
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أَيْ: قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ بِحِكْمَتِهِ عَلَى مَا أَرَادَ، وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ المفسرون: قدر له تقديرا مِنَ الْأَجَلِ وَالرِّزْقِ، فَجَرَتِ الْمَقَادِيرُ عَلَى مَا خَلَقَ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْخَلْقِ هُنَا مُجَرَّدُ الْإِحْدَاثِ، والإيجاد مجازا مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَوْجَدَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِتَزْيِيفِ مَذَاهِبِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَقَالَ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وَالضَّمِيرُ فِي اتَّخَذُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ، لِدَلَالَةِ نَفْيِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِمْ، أَيِ: اتَّخَذَ الْمُشْرِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ- مُتَجَاوِزِينَ اللَّهَ- آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ: صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ فِي مَعْبُودَاتِ الكفار: الملائكة، وعزير، وَالْمَسِيحَ وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَيْ: يَخْلُقُهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ:
عَبَّرَ عَنِ الْآلِهَةِ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ جَرْيًا عَلَى اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَنَّ عَبَدَتَهُمْ يُصَوِّرُونَهُمْ. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَصَفَ آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَجْزِ الْبَالِغِ فَقَالَ:
وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَجْلِبُوا لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُوا عَنْهَا ضَرَرًا، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الضُّرِّ لِأَنَّ دَفْعَهُ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَإِذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الدَّفْعِ وَالنَّفْعِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَعْبُدُهُمْ. ثُمَّ زَادَ فِي بَيَانِ عَجْزِهِمْ فَنَصَّصَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَالَ: وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِمَاتَةِ الْأَحْيَاءِ، وَلَا إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَلَا بَعْثِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، لِأَنَّ النُّشُورَ: الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ، يُقَالُ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى فَنُشِرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا للميّت الناشر
__________
(1) . الإسراء: 9. [.....](4/71)
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ، وَتَزْيِيفِ مَذَاهِبِ الْمُشْرِكِينَ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ شُبَهِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ أَيْ: كَذِبٌ افْتَراهُ أَيِ:
اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا: إِلَى الْقُرْآنِ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى الِاخْتِلَاقِ قَوْمٌ آخَرُونَ يَعْنُونَ مِنَ الْيَهُودِ. قِيلَ وَهُمْ: أَبُو فُكَيْهَةَ يَسَارٌ مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّ، وَعَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَجَبْرٌ مَوْلَى ابْنِ عَامِرٍ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي النَّحْلِ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سبحانه عليهم فقال: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أَيْ: فَقَدْ قَالُوا ظُلْمًا هَائِلًا عظيما وكذبا ظاهرا، وانتصاب ظلما بجاؤوا، فَإِنَّ جَاءَ: قَدْ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ أَتَى، وَيُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْأَصْلُ، جَاءُوا بِظُلْمٍ. وَقِيلَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُمْ نَسَبُوا الْقَبِيحَ إِلَى مَنْ هُوَ مُبَرَّأٌ مِنْهُ، فَقَدْ وَضَعُوا الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَهَذَا هُوَ الظُّلْمُ، وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ مِنْهُمْ زُورًا فظاهر، لأنهم قد كذبوا في هَذِهِ الْمَقَالَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ الشُّبْهَةَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ:
أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ، وَمَا سَطَّرُوهُ مِنَ الْأَخْبَارِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ: أُسْطُورَةٌ، مِثْلُ: أَحَادِيثَ، وَأُحْدُوثَةٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَسَاطِيرُ جَمْعُ أَسْطَارٍ مِثْلُ أَقَاوِيلَ وَأَقْوَالٍ اكْتَتَبَها
أَيِ: اسْتَكْتَبَهَا أَوْ كَتَبَهَا لِنَفْسِهِ، وَمَحَلُّ اكْتَتَبَهَا: النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ أَسَاطِيرَ، أَوْ مَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ، لِأَنَّ أَسَاطِيرَ مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسَاطِيرُ مُبْتَدَأً، وَاكْتَتَبَهَا خَبَرَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اكْتَتَبَهَا جَمَعَهَا مِنَ الْكُتُبِ، وَهُوَ الْجَمْعُ، لَا مِنَ الْكِتَابَةِ بِالْقَلَمِ. وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ اكْتَتَبَها مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى: اكْتَتَبَهَا لَهُ كَاتِبٌ، لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ، ثُمَّ حذفت اللام فأفضى الفعل إلى ضمير فَصَارَ اكْتَتَبَهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ بَنَى الْفِعْلَ لِلضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ إِيَّاهُ، فَانْقَلَبَ مَرْفُوعًا مُسْتَتِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَنْصُوبًا بَارِزًا، كَذَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ، وَاعْتَرَضَهُ أَبُو حَيَّانَ فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أَيْ: تُلْقَى عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَسَاطِيرُ بَعْدَ مَا اكتتبها ليحفظها من أفواه من يمليها مِنْ ذَلِكَ الْمُكْتَتَبِ لِكَوْنِهِ أُمِيًّا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اكْتَتَبَهَا أَرَادَ اكْتِتَابَهَا فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أُمْلِيَتْ عَلَيْهِ فَهُوَ يَكْتُبُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا غَدْوَةً وَعَشِيًّا كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُعَلِّمُونَ مُحَمَّدًا طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَقِيلَ: مَعْنَى بُكَرَةً وَأَصِيلًا: دَائِمًا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَأَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْتَرَى وَيُفْتَعَلُ بِإِعَانَةِ قَوْمٍ، وَكِتَابَةِ آخَرِينَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُلَفَّقَةِ وَأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَلِهَذَا عَجَزْتُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَلَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَخُصَّ السِّرُّ لِلْإِشَارَةِ إِلَى انْطِوَاءِ مَا أَنْزَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَسْرَارٍ بَدِيعَةٍ لَا تَبْلُغُ إِلَيْهَا عُقُولُ الْبَشَرِ، وَالسِّرُّ: الْغَيْبُ، أَيْ: يَعْلَمُ الْغَيْبَ الْكَائِنَ فِيهِمَا، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً تَعْلِيلٌ لِتَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ، أَيْ: إِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ بما تَفْعَلُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِهِ وَالظُّلْمِ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَجِّلُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَبارَكَ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ(4/72)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قال يهود فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً قَالَ: كَذِبًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ هُوَ الْقُرْآنُ، فِيهِ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَشَرَائِعُهُ وَدِينُهُ، وَفَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِيرًا مِنَ اللَّهِ لِيُنْذِرَ النَّاسَ بَأْسَ اللَّهِ، وَوَقَائِعَهُ بِمَنْ خَلَا قَبْلَكُمْ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً قَالَ: بَيَّنَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ صَلَاحَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قَالَ: هِيَ الْأَوْثَانُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وهو الله الخالق الرزاق، وَهَذِهِ الْأَوْثَانُ تُخْلَقُ وَلَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا: يَعْنِي بَعْثًا وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ هُوَ الْكَذِبُ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى حَدِيثِهِ هَذَا، وَأَمْرِهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كذب الأوّلين وأحاديثهم.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11)
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ مَا طَعَنُوا بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ، ذَكَرَ مَا طَعَنُوا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ وَفِي الْإِشَارَةِ هُنَا تَصْغِيرٌ لِشَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَسَمَّوْهُ رَسُولًا اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أَيْ: مَا بَالُهُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ كَمَا نَأْكُلُ وَيَتَرَدَّدُ فِي الْأَسْوَاقِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ كَمَا نَتَرَدَّدُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الطَّعَامِ وَالْكَسْبِ، وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، والاستفهام للاستنكار، وخبر الْمُبْتَدَأِ لِهَذَا الرَّسُولِ، وَجُمْلَةُ يَأْكُلُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَبِهَا تَتِمُّ فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ كقوله: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «1» والإنكار متوجه إلى السبب مع تحقيق الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ الْأَكْلُ وَالْمَشْيُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَبْعَدَ تَحَقُّقَ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ عِنْدَهُمْ تَهَكُّمًا وَاسْتِهْزَاءً.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ صَحَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ النُّبُوَّةِ فَمَا بَالُهُ لَمْ يُخَالِفْ حَالُهُ حَالَنَا لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً
__________
(1) . المدثر: 49.(4/73)
طَلَبُوا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصْحُوبًا بِمَلَكٍ يُعَضِّدُهُ وَيُسَاعِدُهُ، تَنَزَّلُوا عَنِ اقْتِرَاحِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَكًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْأَكْلِ وَالْكَسْبِ، إِلَى اقْتِرَاحِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَلَكٌ يُصَدِّقُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَكُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى كَوْنِهِ جَوَابَ التَّحْضِيضِ. وَقُرِئَ «فَيَكُونُ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى أُنْزِلَ، وَجَازَ عَطْفُهُ عَلَى الماضي لأنه الْمُرَادَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ مَعْطُوفٌ عَلَى أُنْزِلَ، وَلَا يَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى فَيَكُونَ، وَالْمَعْنَى: أَوْ هَلَّا يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ، تَنَزَّلُوا مِنْ مَرْتَبَةِ نُزُولِ الْمَلَكِ مَعَهُ إِلَى اقْتِرَاحِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ كَنْزٌ يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ لِيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَكُونُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَقَتَادَةُ «يَكُونُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَقَرَأَ «نَأْكُلُ» بِالنُّونِ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَخَلَفٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَأْكُلُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: بُسْتَانٌ نَأْكُلُ نَحْنُ مِنْ ثِمَارِهِ، أَوْ يَأْكُلُ هُوَ وَحْدَهُ مِنْهُ لِيَكُونَ لَهُ بِذَلِكَ مَزِيَّةٌ عَلَيْنَا حَيْثُ يَكُونُ أَكْلُهُ مِنْ جَنَّتِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ أَبْيَنَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ بَيِّنٌ وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً الْمُرَادُ بِالظَّالِمُونَ هُنَا: هُمُ الْقَائِلُونَ بِالْمَقَالَاتِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ مَعَ الْوَصْفِ بِالظُّلْمِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِهِ، أَيْ: مَا تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ بِالسِّحْرِ، وَقِيلَ: ذَا سِحْرٍ، وَهِيَ الرِّئَةُ، أَيْ: بَشَرًا لَهُ رِئَةٌ لَا مَلَكًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مِثْلِ هَذَا فِي سُبْحَانَ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى تَكْذِيبِكَ، وَالْأَمْثَالُ: هِيَ الْأَقْوَالُ النَّادِرَةُ وَالِاقْتِرَاحَاتُ الْغَرِيبَةُ، وَهِيَ مَا ذَكَرُوهُ هَاهُنَا فَضَلُّوا عَنِ الصَّوَابِ فَلَا يَجِدُونَ طَرِيقًا إِلَيْهِ، وَلَا وَصَلُوا إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ جَاءُوا بهذه المقالات الَّتِي لَا تَصْدُرُ عَنْ أَدْنَى الْعُقَلَاءِ وَأَقَلِّهِمْ تَمْيِيزًا، وَلِهَذَا قَالَ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أَيْ: لَا يَجِدُونَ إِلَى الْقَدْحِ فِي نُبُوَّةِ هَذَا النَّبِيِّ طَرِيقًا مِنَ الطُّرُقِ تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ أَيْ: تَكَاثَرَ خَيْرُ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ فِي الدُّنْيَا مُعَجَّلًا خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ. ثُمَّ فَسَّرَ الْخَيْرَ فَقَالَ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فجنات بَدَلٌ مِنْ خَيْرًا وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ جَعَلَ، وَهُوَ الْجَزْمُ، وَبِالْجَزْمِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِرَفْعِ يَجْعَلْ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ أَنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ مَاضِيًا جَازَ فِي جَوَابِهِ الْجَزْمُ وَالرَّفْعُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ هَاهُنَا فِي مَحَلِّ جَزْمٍ وَرَفْعٍ فَيَجُوزُ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ أَنْ يُجْزَمَ وَيُرْفَعَ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ. وَقُرِئَ بِإِدْغَامِ لَامِ لَكَ فِي لَامِ يَجْعَلْ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ. وَقُرِئَ بِتَرْكِ الْإِدْغَامِ لِأَنَّ الْكَلِمَتَيْنِ مُنْفَصِلَتَانِ، وَالْقَصْرُ: الْبَيْتُ من الحجارة، لأن الساكن به مقصور على أَنْ يُوصَلَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ بَيْتُ الطِّينِ وبيوت الصوف والشعر. ثم أضرب سبحانه على تَوْبِيخِهِمْ بِمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لا يصدر عن العقلاء فقال:
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أَيْ: بَلْ أَتَوْا بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِالسَّاعَةِ، فَلِهَذَا لَا يَنْتَفِعُونَ بِالدَّلَائِلِ وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِيهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَعَدَّهُ لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ فَقَالَ: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أَيْ: نَارًا مُشْتَعِلَةً مُتَسَعِّرَةً، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ، وَالْحَالُ أَنَّا أَعْتَدْنَا. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: أَعْتَدْنَا، أَيْ: جَعَلْنَاهُ عَتِيدًا وَمُعَدًّا لَهُمْ إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً(4/74)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ لسعيرا لِأَنَّهُ مُؤَنَّثٌ بِمَعْنَى النَّارِ، قِيلَ: مَعْنَى إِذَا رَأَتْهُمْ:
إِذَا ظَهَرَتْ لَهُمْ فَكَانَتْ بِمَرْأَى النَّاظِرِ فِي الْبُعْدِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِذَا رَأَتْهُمْ خَزَنَتُهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الرُّؤْيَةَ مِنْهَا حَقِيقِيَّةٌ وَكَذَلِكَ التَّغَيُّظُ وَالزَّفِيرُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُدْرِكَةً هَذَا الْإِدْرَاكَ. وَمَعْنَى مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أَنَّهَا رَأَتْهُمْ وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْهُمْ، قِيلَ: بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَمَعْنَى التَّغَيُّظِ: أَنَّ لَهَا صَوْتًا يَدُلُّ عَلَى التَّغَيُّظِ عَلَى الْكُفَّارِ، أَوْ لِغَلَيَانِهَا صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ الْمُغْتَاظِ. وَالزَّفِيرُ: هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ الْجَوْفِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ سَمَاعُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْغَيْظِ وَهُوَ الصَّوْتُ، أَيْ: سَمِعُوا لَهَا صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ الْمُتَغَيِّظِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: أَرَادَ عَلِمُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَسَمِعُوا لَهَا زَفِيرًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا، أَيْ: وَحَامِلًا رُمْحًا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: سَمِعُوا فِيهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا لِلْمُعَذَّبِينَ كما قال: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ «1» وفي واللام متقاربان، تقول: افعل هذا في الله وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً وُصِفَ الْمَكَانُ بِالضِّيقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى زِيَادَةِ الشِّدَّةِ وَتَنَاهِي الْبَلَاءِ عَلَيْهِمْ، وَانْتِصَابُ مُقَرَّنِينَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: إِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا حَالَ كَوْنِهِمْ مُقْرَّنِينَ، قَدْ قُرِنَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ بِالْجَوَامِعِ، مُصَفَّدِينَ بِالْحَدِيدِ، وَقِيلَ: مُكَتَّفِينَ، وَقِيلَ: قُرِنُوا مَعَ الشَّيَاطِينِ، أَيْ: قُرِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى شَيْطَانِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ دَعَوْا هُنالِكَ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الضَّيِّقِ ثُبُوراً أَيْ: هَلَاكًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: ثُبِرْنَا ثُبُورًا، وَقِيلَ: مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ هُنَالِكَ الْهَلَاكَ وَيُنَادُونَهُ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ، فَأُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً أَيْ: فَيُقَالُ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ، وَالْقَائِلُ لَهُمْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، أَيِ: اتْرُكُوا دُعَاءَ ثُبُورٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْهَلَاكِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ: وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً وَالثُّبُورُ: مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَلِهَذَا لَمْ يُجْمَعْ، وَمِثْلُهُ: ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا كَثِيرًا، وَقَعَدَ قُعُودًا طَوِيلًا، فَالْكَثْرَةُ هَاهُنَا هِيَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الدُّعَاءِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، لَا بِحَسَبِ كَثْرَتِهِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
وَالْمَعْنَى: لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ بالثبور وَاحِدًا وَادْعُوهُ أَدْعِيَةً كَثِيرَةً، فَإِنَّ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ لِطُولِ مُدَّتِهِ وَعَدَمِ تَنَاهِيهِ، وَقِيلَ: هَذَا تَمْثِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِحَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، مِنْ غير أن يكون هناك فول، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى إِنَّكُمْ وَقَعْتُمْ فِيمَا لَيْسَ ثُبُورُكُمْ فِيهِ وَاحِدًا بَلْ هُوَ ثُبُورٌ كَثِيرٌ لِأَنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ، وَالْأَوْلَى:
أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْجَوَابِ عَلَيْهِمُ الدِّلَالَةُ عَلَى خُلُودِ عَذَابِهِمْ وَإِقْنَاطِهِمْ عَنْ حُصُولِ مَا يَتَمَنَّوْنَهُ مِنَ الْهَلَاكِ الْمُنَجِّي لَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ. ثُمَّ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَوْبِيخًا بَالِغًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ فَقَالَ: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى السَّعِيرِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ، أَيْ: أَتِلْكَ السَّعِيرُ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ، وَفِي إِضَافَةِ الْجَنَّةِ إِلَى الْخُلْدِ إِشْعَارٌ بِدَوَامِ نَعِيمِهَا وَعَدَمِ انْقِطَاعِهِ، وَمَعْنَى الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الَّتِي وُعِدَهَا الْمُتَّقُونَ، وَالْمَجِيءُ بِلَفْظِ خَيْرٍ هُنَا مَعَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي النَّارِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: السَّعَادَةُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الشَّقَاوَةُ؟ وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ: عِنْدَهُ خَيْرٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ كَمَا قَالَ:
__________
(1) . هود: 106.(4/75)
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً أَيْ: كَانَتْ تِلْكَ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَمَصِيرًا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ أَيْ: مَا يَشَاءُونَهُ مِنَ النَّعِيمِ، وَضُرُوبِ الْمَلَاذِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
«1» وَانْتِصَابُ خَالِدِينَ عَلَى الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ معنى الخلود كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أَيْ: كَانَ مَا يَشَاءُونَهُ، وَقِيلَ: كَانَ الْخُلُودُ، وَقِيلَ: كَانَ الْوَعْدُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وُعِدَ المتقون، ومعنى الوعد المسؤول: الْوَعْدُ الْمُحَقَّقُ بِأَنْ يُسْأَلَ وَيُطْلَبَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «2» وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْأَلُ لَهُمُ الْجَنَّةَ كَقَوْلِهِ: وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «3» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْوَعْدُ الْوَاجِبُ وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وأبا سفيان بن حرب والنضر ابن الحارث وأبا البختري والأسود عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَزَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ ابن أُمَيَّةَ وَأُمِّيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَالْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ وَنَبِيهَ بْنَ الْحَجَّاجِ وَمُنَبِّهَ بْنَ الْحَجَّاجِ اجْتَمَعُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ وَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذَرُوا مِنْهُ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ إِنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ، قَالَ: فجاءهم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُعَذِّرَ مِنْكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا، جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بِهِ الشَّرَفَ فَنَحْنُ نُسَوِّدُكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بِي مِمَّا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بما جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلِيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا شَيْئًا مِمَّا عَرَضْنَا عَلَيْكَ، أَوْ قَالُوا: فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ هَذَا فَسَلْ لِنَفْسِكَ وَسَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ، وَسَلْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ جِنَانًا وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ تُغْنِيكَ عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا نَلْتَمِسُهُ، حَتَّى نَعْرِفَ فَضْلَكَ وَمَنْزِلَتَكَ مِنْ رَبِّكِ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، مَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ. وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أَيْ: جَعَلْتُ بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ بَلَاءً لِتَصْبِرُوا، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَجْعَلَ الدُّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا يُخَالِفُونَ لَفَعَلْتُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْنَاكَ مِنْ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَمَفَاتِيحِهَا مَا لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ قَبْلَكَ، وَلَا نُعْطِهَا أَحَدًا بَعْدَكَ، وَلَا يُنْقِصُكَ ذَلِكَ مِمَّا لك عند الله شيئا، وإن شئت
__________
(1) . فصلت: 31.
(2) . آل عمران: 194.
(3) . غافر: 8.(4/76)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
جمعتها لك في الآخرة، فقال: اجمعها لِي فِي الْآخِرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً. وأخرج نحوه عن ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، أَوِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ وَالِدَيْهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ لَهَا من عينين؟ قال: نعم، أما سمعتم يَقُولُ:
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» . وَأَخْرَجَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قَالَ: مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ، وَذَلِكَ إِذَا أُتِيَ بِجَهَنَّمَ تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، يَشِدُّ بِكُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَوْ تُرِكَتْ لَأَتَتْ عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً تَزْفِرُ زَفْرَةً لَا تَبْقَيْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمْعٍ إِلَّا بَدَتْ، ثُمَّ تَزْفِرُ الثَّانِيَةَ فَتُقْطَعُ الْقُلُوبُ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَتَبْلُغُ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لَيُسْتَكْرَهُونَ فِي النَّارِ كَمَا يُسْتَكْرَهُ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أبي الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً قَالَ: وَيْلًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً يَقُولُ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ وَيْلًا وَاحِدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ:
«إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى حُلَّتَهُ مِنَ النَّارِ إِبْلِيسُ، فَيَضَعُهَا عَلَى حَاجِبَيْهِ وَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ يُنَادِي: يَا ثُبُورَاهُ! وَيَقُولُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ! حَتَّى يَقِفَ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولَ: يَا ثُبُورَاهُ! وَيَقُولُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ! فَيُقَالُ لَهُمْ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا» . وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ هَكَذَا. حَدَّثَنَا عَفَّانُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَفِي عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا يقول: سلوا الذي وعدتكم تنجزوه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 24]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)(4/77)
قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ، وَتَعْلِيقُ التَّذْكِيرِ بِالْيَوْمِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ كَمَا مَرَّ مِرَارًا. قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ الدُّورِيِّ «يَحْشُرُهُمْ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كانَ عَلى رَبِّكَ وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ مَا عَدَا الْأَعْرَجَ فَإِنَّهُ قَرَأَ «نَحْشِرُهُمْ» بِكَسْرِ الشِّينِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ قَلِيلَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ قَوِيَّةٌ فِي الْقِيَاسِ، لِأَنَّ يَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمُتَعَدِّي أَقْيَسُ مِنْ يَفْعُلُ بِضَمِّهَا، وردّه أبو حيان بِاسْتِوَاءِ الْمَضْمُومِ وَالْمَكْسُورِ إِلَّا أَنْ يَشْتَهِرَ أَحَدُهُمَا اتُّبِعَ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ نَحْشُرُ، وَغَلَّبَ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَنَحْوِهَا عَلَى الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْمَسِيحِ تَنْبِيْهًا عَلَى أَنَّهَا جَمِيعًا مُشْتَرِكَةٌ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِكَوْنِهَا آلِهَةً، أَوْ لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ مَنْ لَا يَعْقِلُ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْبُدُ مَنْ يَعْقِلُ مِنْهَا، فَغُلِّبَتِ اعْتِبَارًا بِكَثْرَةِ مَنْ يَعْبُدُهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُرَادُ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ، بِدَلِيلِ خِطَابِهِمْ، وَجَوَابِهِمْ فِيمَا بَعْدُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ الْأَصْنَامُ خَاصَّةً، وَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ وَلَا تَتَكَلَّمُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَامِعَةً نَاطِقَةً، فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ «فَنَقُولُ» بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ كَمَا اخْتَارَ الْقِرَاءَةَ بِهَا فِي نَحْشُرُهُمْ، وَكَذَا أَبُو حَاتِمٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. وَالْمَعْنَى: أَكَانَ ضَلَالُهُمْ بِسَبَبِكُمْ، وَبِدَعْوَتِكُمْ لَهُمْ إِلَى عِبَادَتِكُمْ، أَمْ هُمْ ضَلُّوا عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِأَنْفُسِهِمْ لِعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّدَبُّرِ فِيمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الصَّوَابِ وَجُمْلَةُ قالُوا سُبْحانَكَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَمَعْنَى سُبْحَانَكَ: التَّعَجُّبُ مِمَّا قِيلَ لَهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَلَائِكَةً أَوْ أَنْبِيَاءَ مَعْصُومِينَ، أَوْ جَمَادَاتٍ لَا تَعْقِلُ، أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أَيْ: مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ فَنَعْبُدُهُمْ، فَكَيْفَ نَدْعُو عِبَادَكَ إِلَى عِبَادَتِنَا نَحْنُ مَعَ كَوْنِنَا لَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ، وَالْوَلِيُّ يُطْلَقُ عَلَى التَّابِعِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَتْبُوعِ، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ نَتَّخِذُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ «نُتَّخَذُ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ يَتَّخِذَنَا الْمُشْرِكُونَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِكَ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَحُذِفَتْ مِنَ الثَّانِيَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةُ: لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ «مِنْ» مَرَّتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَرَأَ لَقَالَ: أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ. وَقِيلَ: إِنَّ «مِنَ» الثَّانِيَةَ زَائِدَةٌ.
ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ بَعْدَ هَذَا الْجَوَابِ ذَكَرُوا سَبَبَ تَرْكِ الْمُشْرِكِينَ لِلْإِيمَانِ فَقَالَ: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ضَلُّوا السَّبِيلَ، وَلَمْ يُضِلَّهُمْ غَيْرُهُمْ، وَالْمَعْنَى:
مَا أَضْلَلْنَاهُمْ، وَلَكِنَّكَ يَا رَبِّ مَتَّعْتَهَمْ وَمَتَّعْتَ آبَاءَهُمْ بِالنِّعَمِ، وَوَسَّعْتَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ، وَأَطَلْتَ لَهُمُ الْعُمُرَ حَتَّى غَفَلُوا عَنْ ذِكْرِكَ، وَنَسُوا مَوْعِظَتَكَ، وَالتَّدَبُّرَ لِكِتَابِكَ وَالنَّظَرَ فِي عَجَائِبِ صُنْعِكَ، وَغَرَائِبِ مَخْلُوقَاتِكَ. وَقَرَأَ أَبُو عِيسَى الْأَسْوَدُ الْقَارِئُ «يُنْبَغَى» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: زَعْمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنِسْيَانِ الذِّكْرِ هُنَا هُوَ تَرْكُ الشُّكْرِ وَكانُوا قَوْماً بُوراً أَيْ: وَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِكَ وَعَبَدُوا غَيْرَكَ(4/78)
فِي قَضَائِكَ الْأَزَلِيِّ قَوْمًا بُورًا، أَيْ: هَلْكَى، مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَوَارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ يُقَالُ: رَجُلٌ بَائِرٌ وَقَوْمٌ بُورٌ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ بَائِرٍ. وَقِيلَ: الْبَوَارُ:
الْفَسَادُ. يُقَالُ: بَارَتْ بِضَاعَتُهُ، أَيْ: فَسَدَتْ، وَأَمْرٌ بَائِرٌ، أَيْ: فَاسِدٌ وَهِيَ لُغَةُ الْأَزْدِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
لا خير فيهم، مأخوذ من بور الْأَرْضِ وَهُوَ تَعْطِيلُهَا مِنَ الزَّرْعِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا خَيْرٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَوَارَ الْكَسَادُ، وَمِنْهُ بَارَتِ السِّلْعَةُ إِذَا كَسَدَتْ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقَالَ اللَّهُ عِنْدَ تَبَرِّي الْمَعْبُودِينَ مُخَاطِبًا لِلْمُشْرِكِينَ الْعَابِدِينَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ، أَيْ: فَقَدْ كَذَّبَكُمُ الْمَعْبُودُونَ بِمَا تَقُولُونَ، أَيْ: فِي قَوْلِكُمْ إِنَّهُمْ آلِهَةٌ فَما تَسْتَطِيعُونَ أَيِ: الْآلِهَةُ صَرْفاً أَيْ: دَفْعًا لِلْعَذَابِ عَنْكُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَقِيلَ: حِيلَةً وَلا نَصْراً أَيْ: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَمَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَمَّا كَذَّبَهُمُ الْمَعْبُودُونَ صَرْفًا لِلْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَا نَصْرًا مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ «تَسْتَطِيعُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ حَفْصٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى بِمَا تَقُولُونَ: مَا تَقُولُونَ: مَا تَقُولُونَهُ مِنَ الْحَقِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَعْنَى فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ صَرْفًا عَنِ الحق الذي هداكم إِلَيْهِ، وَلَا نَصْرًا لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِمَا تَقُولُونَ» بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ «فَقَدْ كَذَبُوكُمْ» مُخَفَّفًا بِمَا يَقُولُونَ، أَيْ: كَذَبُوكُمْ فِي قَوْلِهِمْ وَكَذَا قَرَأَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مُجَاهِدٌ وَالْبَزِّيُّ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً هَذَا وَعِيدٌ لِكُلِّ ظالم ويدخل تحته الذي فِيهِمُ السِّيَاقُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالْعَذَابُ الْكَبِيرُ عَذَابُ النَّارِ، وَقُرِئَ «يُذِقْهُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى خِطَابِ رَسُولِهِ مُوَضِّحًا لِبُطْلَانِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ إِلَّا صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ أَحَدًا مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا آكِلِينَ وَمَاشِينَ، وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ دَلِيلًا عَلَيْهِ، نَظِيرُهُ- وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ- أَيْ: وَمَا مِنَّا أَحَدٌ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ صِلَةٌ لِمَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مِنْ أَنَّهُمْ فَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمْ وَمَا بَعْدَهُ رَاجِعٌ إلى من الْمُقَدَّرَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» أَيْ: إِلَّا مَنْ يَرِدُهَا، وَبِهِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَنَ الْمَوْصُولَةَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
إِنَّهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا وَأَنَّهُمْ، فَالْمَحْذُوفُ عِنْدَهُ الْوَاوُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِلَّا إِنَّهُمْ» بِكَسْرِ إِنَّ لِوُجُودِ اللَّامِ فِي خَبَرِهَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِلَّا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشَ حَكَى لَنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ فِي إنّ هذه الفتح وإن كن بَعْدَهَا اللَّامُ وَأَحْسَبُهُ وَهْمًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ. «يَمْشُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَتَخْفِيفِ الشِّينِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَوْفٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الشِّينِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ بِمَعْنَى القراءة الأولى، قال الشاعر:
__________
(1) . مريم: 71.(4/79)
ومشّى بأعطان المباءة وابتغى ... قَلَائِصَ مِنْهَا صَعْبَةً وَرُكُوبَ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زهير:
منه تظلّ سباع الجوّ ضَامِزَةً ... وَلَا تَمْشِي بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ «1»
وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً هَذَا الْخِطَابُ عَامٌّ لِلنَّاسِ، وَقَدْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ عَبِيدِهِ فِتْنَةً لِبَعْضٍ فَالصَّحِيحُ فِتْنَةٌ لِلْمَرِيضِ وَالْغَنِيُّ فِتْنَةٌ لِلْفَقِيرِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْأَوَّلِ: كُفَّارُ الْأُمَمِ، وَبِالْبَعْضِ الثَّانِي: الرُّسُلُ، وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ: الِابْتِلَاءُ وَالْمِحْنَةُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ الْبَعْضَ مِنَ النَّاسِ مُمْتَحَنٌ بِالْبَعْضِ مُبْتَلًى بِهِ فَالْمَرِيضُ يَقُولُ لِمَ لَمْ أُجْعَلْ كَالصَّحِيحِ؟ وَكَذَا كُلُّ صَاحِبِ آفَةٍ، وَالصَّحِيحُ مُبْتَلًى بِالْمَرِيضِ فَلَا يَضَّجِرُ مِنْهُ وَلَا يُحَقِّرُهُ، وَالْغَنِيُّ مُبْتَلًى بِالْفَقِيرِ يُوَاسِيهِ، وَالْفَقِيرُ مُبْتَلًى بِالْغَنِيِّ يَحْسُدُهُ، وَنَحْوُ هَذَا مِثْلُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ الشَّرِيفُ أَنْ يُسْلِمَ، وَرَأَى الْوَضِيعَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَنِفَ وَقَالَ لَا أُسْلِمُ بَعْدَهُ. فَيَكُونُ لَهُ عَلَيَّ السَّابِقَةُ وَالْفَضْلُ، فَيُقِيمُ عَلَى كفره، ذلك افْتِتَانُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَاخْتَارَ هَذَا الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَلَا وَجْهَ لِقَصْرِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إِنْ كَانُوا سَبَبَ النُّزُولِ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِجَعْلِ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أَمْ لَا تَصْبِرُونَ، أَيْ: أَتَصَبِرُونَ عَلَى مَا تَرَوْنَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ الشَّدِيدَةِ وَالِابْتِلَاءِ الْعَظِيمِ. قِيلَ: مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ هَاهُنَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ:
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «2» ثُمَّ وَعَدَ الصَّابِرِينَ بِقَوْلِهِ: وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي: بكل من يصير وَمَنْ لَا يَصْبِرُ، فَيُجَازِي كُلًّا مِنْهُمَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. وَقِيلَ مَعْنَى أَتَصْبِرُونَ: اصْبِرُوا مِثْلُ قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «3» أَيِ: انْتَهُوا وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ جُمْلَةِ شُبَهِهِمُ الَّتِي قَدَحُوا بِهَا فِي النُّبُوَّةِ، وَالْجُمْلَةُ معطوفة على وَقالُوا ما لِهذَا أَيْ: وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ بِلِقَاءِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَعَمْرُكَ مَا أَرْجُو إِذَا كُنْتُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
أَيْ لَا أُبَالِي، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَخَافُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلُ
أَيْ: لَمْ يَخَفْ، وَهِيَ لُغَةُ تِهَامَةَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وُضِعَ الرَّجَاءُ مَوْضِعَ الْخَوْفِ، وَقِيلَ: لَا يَأْمَلُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا ... شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ
وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ أَوْلَى، فَالْمَعْنَى: لَا يَأْمُلُونَ لِقَاءَ مَا وَعَدْنَا على الطاعة من الثواب، ومعلوم
__________
(1) . الجوّ: البر الواسع. وضامزة: ساكتة، وكل ساكت فهو ضامز. والأراجيل: جمع أرجال، وأرجال جمع رجل.
يصف الشاعر أسدا بأن الأسود والرّجال تخافه.
(2) . هود: 7.
(3) . المائدة: 91.(4/80)
أَنَّ مَنْ لَا يَرْجُو الثَّوَابَ لَا يَخَافُ الْعِقَابَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَيْ: هَلَّا أُنْزِلُوا عَلَيْنَا فَيُخْبِرُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ، أَوْ هَلَّا أُنْزِلُوا عَلَيْنَا رُسُلًا يُرْسِلُهُمُ اللَّهُ أَوْ نَرى رَبَّنا عِيَانًا فَيُخْبِرُنَا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ.
ثم أجاب سبحانه عن شبههم هَذِهِ فَقَالَ: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أَيْ: أَضْمَرُوا الِاسْتِكْبَارَ عَنِ الْحَقِّ وَالْعِنَادِ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ «1» وَالْعُتُوُّ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الطُّغْيَانِ وَالْبُلُوغُ إِلَى أَقْصَى غَايَاتِهِ، وَوَصْفِهِ بِالْكِبَرِ لِكَوْنِ التَّكَلُّمِ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنِيعَةِ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ وَالْعِظَمِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِإِرْسَالِ الْبَشَرِ حَتَّى طَلَبُوا إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ، بَلْ جَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُخَاطَبَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ دُونِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلَقَدْ بَلَغَ هَؤُلَاءِ الرَّذَالَةُ بِأَنْفُسِهِمْ مَبْلَغًا هِيَ أَحْقَرُ وَأَقَلُّ وَأَرْذَلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ تُعَدَّ مِنَ الْمُسْتَعِدِّينَ لَهُ، وَهَكَذَا مَنْ جَهِلَ قَدْرَ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّهِ، وَمَنْ جهلت نفسه قدره رأى غيره منه لَا يَرَى، وَانْتِصَابُ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ رُؤْيَةً لَيْسَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبُوهُ وَالصُّورَةِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا، بَلْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ يَوْمُ ظُهُورِهِمْ لَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ عِنْدَ الْحَشْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ هَذَا الظَّرْفِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أَيْ: يُمْنَعُونَ الْبُشْرَى يَوْمَ يَرَوْنَ، أَوْ لَا تُوجَدُ لَهُمْ بُشْرَى فِيهِ، فَأَعْلَمَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَرَوْنَ فِيهِ الْمَلَائِكَةَ، وَهُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ، أَوْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَدْ حَرَمَهُمُ اللَّهُ الْبُشْرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُجْرِمُونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الذي اجْتَرَمُوا الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً أَيْ: وَيَقُولُ الْكُفَّارُ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ حِجْرًا مَحْجُورًا، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوٍّ وَهُجُومِ نَازِلَةٍ يَضَعُونَهَا مَوْضِعَ الِاسْتِعَاذَةِ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ: أَتَفْعَلُ كَذَا، فَيَقُولُ: حِجْرًا مَحْجُورًا، أَيْ: حَرَامًا عَلَيْكَ التَّعَرُّضُ لِي. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ: يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ: حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا أَصْبَحَتْ أَسْمَاءُ حِجْرًا مُحَرَّمًا ... وأصبحت من أدنى حموّتها حما «2»
أَيْ: أَصْبَحَتْ أَسْمَاءُ حَرَامًا مُحَرَّمًا، وَقَالَ آخَرُ:
حَنَّتْ إِلَى النَّخْلَةِ الْقُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا ... حِجْرٌ حَرَامٌ إِلَّا تِلْكَ الدَّهَارِيسُ
وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ بِأَفْعَالٍ مَتْرُوكٌ إِظْهَارُهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَجَعَلَهَا مِنْ جُمْلَتِهَا وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً هَذَا وَعِيدٌ آخَرُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ أَعْمَالًا لَهَا صُورَةُ الْخَيْرِ: مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْإِثَابَةِ عَلَيْهَا إِلَّا الْكُفْرُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، فَمُثِّلَتْ حَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ بِحَالِ قَوْمٍ خَالَفُوا سُلْطَانَهُمْ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَدِمَ إِلَى مَا مَعَهُمْ مِنَ الْمَتَاعِ فَأَفْسَدَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِلَّا فَلَا قُدُومَ هَاهُنَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى قَدِمْنَا عَمَدْنَا وَقَصَدْنَا، يُقَالُ: قَدِمَ فُلَانٌ إِلَى أَمْرِ كَذَا إِذَا قَصَدَهُ أَوْ عَمَدَهُ، وَمِنْهُ قول الشاعر:
__________
(1) . فاطر: 56.
(2) . قاله رجل كانت له امرأة فطلقها وتزوجها أخوه، أي: أصبحت أخا زوجها بعد ما كنت زوجها.(4/81)
وَقَدِمَ الْخَوَارِجُ الضُّلَّالُ ... إِلَى عِبَادِ رَبِّهِمْ فَقَالُوا إِنَّ دِمَاءَكُمْ لَنَا حَلَالُ
وَقِيلَ: هُوَ قُدُومُ الْمَلَائِكَةِ، أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى، وَالْهَبَاءُ واحدة هباءة، والجمع أهباء. قال النضر ابن شُمَيْلٍ: الْهَبَاءُ التُّرَابُ الَّذِي تُطَيِّرُهُ الرِّيحُ كَأَنَّهُ دخان. وقال الزجاج: هو ما يدخل من الْكُوَّةِ مَعَ ضَوْءِ الشَّمْسِ يُشْبِهُ الْغُبَارَ، وَكَذَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ، وَالْمَنْثُورُ: الْمُفَرَّقُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ، لَمْ يَكْتَفِ سُبْحَانَهُ بِتَشْبِيهِ عَمَلِهِمْ بِالْهَبَاءِ حَتَّى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُتَفَرِّقٌ مُتَبَدِّدٌ وَقِيلَ: إِنَّ الْهَبَاءَ مَا أَذْرَتْهُ الرِّيَاحُ مِنْ يَابِسِ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَاءُ الْمُهْرَاقُ، وَقِيلَ الرَّمَادُ. وَالْأَوَّلُ: هُوَ الَّذِي ثَبَتَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَنَقَلَهُ الْعَارِفُونَ بِهَا. ثُمَّ مَيَّزَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْأَبْرَارِ مِنْ حَالِ الْفُجَّارِ فَقَالَ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أَيْ: أَفْضَلُ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أَيْ: مَوْضِعَ قَائِلَةٍ، وَانْتِصَابُ مُسْتَقَرًا عَلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَيْلُولَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ النَّهَارِ، إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، وإن لم يكن مع ذلك نوم. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ الْآيَةَ قَالَ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْماً بُوراً قَالَ: هَلْكَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ قَالَ: هُوَ الشِّرْكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: يُشْرِكُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ يَقُولُ:
إِنَّ الرُّسُلَ قَبْلَ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانُوا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً قَالَ: بَلَاءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ الْحَسَنِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً قَالَ: يَقُولُ الْفَقِيرُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَنِي غَنِيًّا مِثْلَ فُلَانٍ، وَيَقُولُ السَّقِيمُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَنِي صَحِيحًا مِثْلَ فُلَانٍ، وَيَقُولُ الْأَعْمَى لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَنِي بَصِيرًا مِثْلَ فُلَانٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً قَالَ: شِدَّةُ الْكُفْرِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً قَالَ: عَوْذًا مُعَاذًا، الْمَلَائِكَةُ تَقُولُهُ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ تَكُونَ الْبُشْرَى فِي الْيَوْمِ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً قَالَ: حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ نُبَشِّرَكُمْ بِمَا نُبَشِّرُ بِهِ الْمُتَّقِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً قَالَا: هِيَ كَلِمَةٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُهَا، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ شِدَّةٌ قَالَ: حَجْرًا مَحْجُورًا حَرَامًا مُحَرَّمًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ(4/82)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
قَالَ: عَمَدْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ مِمَّنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: هَباءً مَنْثُوراً قَالَ: الهباء شعاع الشمس الذي يدخل من الكوّة. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قال: الهباء وهيج الغبار يسطع، ثم يذهب فلا يبقى منه شيء، فجعل الله أعمالهم كذلك. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْهَبَاءُ الَّذِي يَطِيرُ مِنَ النَّارِ إِذَا اضْطَرَمَتْ يَطِيرُ مِنْهَا الشَّرَرُ. فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: هُوَ مَا تَسْفِي الرِّيحُ وَتَبُثُّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ الْمَاءُ الْمُهْرَاقُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قَالَ: فِي الْغُرَفِ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا يَنْصَرِفُ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 34]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
قَوْلُهُ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا بَعْضَ حَوَادِثِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالتَّشَقُّقُ:
التَّفَتُّحُ، قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو، تَشَقَّقُ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ، وَأَصْلُهُ تَتَشَقَّقُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ عَلَى الْإِدْغَامِ. وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ، وَاخْتَارَ الثَّانِيَةَ أَبُو حَاتِمٍ، وَمَعْنَى تَشَقُّقِهَا بِالْغَمَامِ: أَنَّهَا تَتَشَقَّقُ عَنِ الْغَمَامِ. قَالَ أَبُو علي الفارسي: تتشقق السَّمَاءُ وَعَلَيْهَا غَمَامٌ كَمَا تَقُولُ:
رَكِبَ الْأَمِيرُ بِسِلَاحِهِ، أَيْ: وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَخَرَجَ بِثِيَابِهِ، أَيْ: وعليه ثيابه. ووجه ما قال أن الباء وعن يَتَعَاقَبَانِ كَمَا تَقُولُ: رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ. وَعَنِ الْقَوْسِ. وَرُوِيَ أَنَّ السَّمَاءَ تَتَشَقَّقُ عَنْ سَحَابٍ رَقِيقٍ أَبْيَضَ. وَقِيلَ:
إِنَّ السَّمَاءَ تَتَشَقَّقُ بِالْغَمَامِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَشَقَّقُ السَّحَابُ بتشقق السماء، وقيل: إنها تتشقق لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي بِالْغَمَامِ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ: بِسَبَبِ الْغَمَامِ، يَعْنِي بِسَبَبِ طُلُوعِهِ مِنْهَا كَأَنَّهُ الَّذِي تَتَشَقَّقُ بِهِ السَّمَاءُ، وقيل: إن الباء متعلقة بمحذوف، أي: ملتبسة بِالْغَمَامِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «وَنُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ» مُخَفَّفًا، مِنَ الْإِنْزَالِ بِنُونٍ بَعْدَهَا نُونٌ سَاكِنَةٌ وَزَايٌ مُخَفَّفَةٌ بِكَسْرَةٍ مُضَارِعُ أَنْزَلَ، وَالْمَلَائِكَةَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ وَنُزِّلَ بِضَمِّ النون(4/83)
وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو رَجَاءٍ «نَزَّلَ» بِالتَّشْدِيدِ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَفَاعِلُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بن كعب «وأنزل الْمَلَائِكَةُ» وَقَدْ قُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِغَيْرِ هَذِهِ، وَتَأْكِيدُ هَذَا الْفِعْلِ بِقَوْلِهِ تَنْزِيلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّنْزِيلَ عَلَى نَوْعٍ غَرِيبٍ وَنَمَطٍ عَجِيبٍ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّ هَذَا تَنْزِيلُ رِضًا وَرَحْمَةً لَا تَنْزِيلُ سُخْطٍ وَعَذَابٍ. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ الْمُلْكُ: مُبْتَدَأٌ، وَالْحَقُّ: صِفَةٌ لَهُ، وَلِلرَّحْمَنِ: الْخَبَرُ كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ، أَيِ: الْمُلْكُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ لِلرَّحْمَنِ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّ الْمُلْكَ الَّذِي يَزُولُ وَيَنْقَطِعُ لَيْسَ بِمُلْكٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالظَّرْفِ أَنَّ ثُبُوتَ الْمُلْكِ الْمَذْكُورِ لَهُ سُبْحَانَهُ خَاصَّةً فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَأَمَّا فِيمَا عَدَاهُ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فَلِغَيْرِهِ مُلْكٌ فِي الصُّورَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقِيًّا. وَقِيلَ: إِنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ هُوَ الظَّرْفُ، وَالْحَقُّ نَعْتٌ لِلْمُلْكِ. وَالْمَعْنَى: الْمُلْكُ الثَّابِتُ لِلرَّحْمَنِ خَاصٌّ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أَيْ: وَكَانَ هَذَا الْيَوْمُ مَعَ كَوْنِ الْمُلْكِ فِيهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ شَدِيدًا عَلَى الْكُفَّارِ لِمَا يُصَابُونَ بِهِ فِيهِ، وَيَنَالُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ بَعْدَ تَحْقِيقِ الْحِسَابِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ يَسِيرٌ غَيْرُ عَسِيرٍ، لِمَا يَنَالُهُمْ فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْبُشْرَى الْعَظِيمَةِ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ كَمَا انْتَصَبَ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ الظَّرْفُ الْأَوَّلُ، أَعْنِي يَوْمَ تَشَقَّقُ، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْعَضَّ هُنَا حَقِيقَةٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُوجِبَ لِتَأْوِيلِهِ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَيْظِ وَالْحَسْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِ كُلُّ ظالم يرد ذلك المكان وينزل الْمَنْزِلَ، وَلَا يُنَافِيهِ وُرُودُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَقُولُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَمَقُولُ الْقَوْلِ هُوَ: يَا لَيْتَنِي إِلَخْ، وَالْمُنَادَىَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَا قَوْمِ! لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا: طَرِيقًا وَهُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَمَشَيْتُ فِيهِ حَتَّى أُخَلَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُضِلَّةِ، وَالْمُرَادُ اتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ عَلَى مُخَالَلَةِ الْكَافِرِ الَّذِي أَضَلَّهُ فِي الدُّنْيَا وَفُلَانٌ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَعْلَامِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ اسْتِعْمَالُ فُلَانٍ فِي الْفَصِيحِ إِلَّا حِكَايَةً، لَا يُقَالُ: جَاءَنِي فُلَانٌ، وَلَكِنْ يُقَالُ: قَالَ زَيْدٌ جَاءَنِي فُلَانٌ، لِأَنَّهُ اسْمُ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الِاسْمِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي كَلَامِ اللَّهِ. وَقِيلَ: فُلَانٌ كِنَايَةٌ عَنْ عَلَمِ ذُكُورِ مَنْ يَعْقِلُ، وَفُلَانَةٌ عَنْ عَلَمِ إِنَاثِهِمْ. وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنْ نَكِرَةِ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الذُّكُورِ، وَفُلَانَةٌ عَمَّنْ يَعْقِلُ مِنَ الْإِنَاثِ، وَأَمَّا الْفُلَانُ وَالْفُلَانَةُ، فَكِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَفُلُ يُخْتَصُّ بِالنِّدَاءِ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فِي لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلَانًا عَنْ فُلِ وَقَوْلِهِ:
حَدِّثَانِي عَنْ فُلَانٍ وَفُلِ وَلَيْسَ فُلُ مُرَخَّمًا مِنْ فُلَانٍ خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ. وَزَعَمَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ ابْنَ عُصْفُورٍ وَابْنَ مَالِكٍ وَهِمَا فِي جَعْلِ فُلَانٍ كِنَايَةَ عَلَمِ مَنْ يَعْقِلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «يَا وَيْلَتِي» بِالْيَاءِ الصَّرِيحَةِ، وَقَرَأَ الدُّورِيُّ بِالْإِمَالَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَتَرْكُ الْإِمَالَةِ أَحْسَنُ، لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ: الْيَاءُ فأبدلت الكسرة فتحة، والياء فِرَارًا مِنَ الْيَاءِ، فَمَنْ أَمَالَ رَجَعَ(4/84)
إِلَى الَّذِي فَرَّ مِنْهُ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَضَلَّنِي هَذَا الَّذِي اتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا عَنِ الْقُرْآنِ، وعن الْمَوْعِظَةِ، أَوْ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ، بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي، وَتَمَكَّنْتُ مِنْهُ، وَقَدَرْتُ عَلَيْهِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا الْخَذْلُ: تَرْكُ الْإِغَاثَةِ، وَمِنْهُ خُذْلَانُ إِبْلِيسَ لِلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ يُوَالُونَهُ، ثُمَّ يَتْرُكُهُمْ عِنْدَ اسْتِغَاثَتِهِمْ بِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الظَّالِمِ، وَأَنَّهُ سَمَّى خَلِيلَهُ شَيْطَانًا بَعْدَ أَنْ جَعَلَهُ مُضِلًّا، أَوْ أَرَادَ بِالشَّيْطَانِ إِبْلِيسَ، لِكَوْنِهِ الذي حمله على مخاللة المضلين وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً مَعْطُوفٌ عَلَى وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَالْمَعْنَى: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي جِئْتُ بِهِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرْتَنِي بِإِبْلَاغِهِ وَأَرْسَلْتَنِي بِهِ مَهْجُورًا، مَتْرُوكًا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَلَا قَبِلُوهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ هَجَرَ إِذَا هَذَى.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ هَجْرًا وَهَذَيَانًا. وَقِيلَ: مَعْنَى مَهْجُورًا: مَهْجُورًا فِيهِ، ثُمَّ حُذِفَ الْجَارُّ، وَهَجْرُهُمْ فِيهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ سِحْرٌ، وَشِعْرٌ، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُهُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ: إِنَّهُ حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ هَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الدَّاعِينَ إِلَى اللَّهِ عَدُوًّا يُعَادِيِهِ مِنْ مُجْرِمِي قَوْمِهِ، فَلَا تَجْزَعُ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّ هَذَا دَأْبُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ وَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: كَفَى رَبُّكَ، وَانْتِصَابُ نصيرا وهاديا عَلَى الْحَالِ، أَوِ التَّمْيِيزِ: أَيْ يَهْدِي عِبَادَهُ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً هَذَا مِنْ جُمْلَةِ اقْتِرَاحَاتِهِمْ وَتَعَنُّتَاتِهِمْ، أَيْ: هَلَّا نَزَّلَ اللَّهُ عَلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ دُفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرَ مُنَجَّمٍ. وَاخْتُلِفَ فِي قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقِيلَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ، قَالُوا: هَلَّا أَتَيْتَنَا بِالْقُرْآنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ؟ وَهَذَا زَعْمٌ بَاطِلٌ وَدَعْوًى دَاحِضَةٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً كَمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَلَكِنَّهُمْ مُعَانِدُونَ، أَوْ جَاهِلُونَ لَا يَدْرُونَ بِكَيْفِيَّةِ نُزُولِ كُتُبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أَيْ: نَزَّلْنَا الْقُرْآنَ كَذَلِكَ مُفَرَّقًا، وَالْكَافُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، عَلَى أَنَّهَا نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ، أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّنْزِيلِ الْمُفَرَّقِ الَّذِي قَدَحُوا فِيهِ، وَاقْتَرَحُوا خِلَافَهُ نَزَّلْنَاهُ لِنُقَوِّيَ بِهَذَا التَّنْزِيلِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فُؤَادَكَ، فَإِنَّ إِنْزَالَهُ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ أَقْرَبُ إِلَى حِفْظِكَ لَهُ، وَفَهْمِكَ لِمَعَانِيهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّثْبِيتِ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّ الْأَخْفَشَ قَالَ: إِنَّهَا جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ مَرْجُوحٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ لِيُثَبِّتَ بِالتَّحْتِيَّةِ، أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، أَعْنِي كَذَلِكَ، هِيَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ، أَيْ: كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، فَيُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يُبْتَدَأُ بِقَوْلِهِ: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ عَلَى مَعْنَى أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ مُتَفَرِّقًا لِهَذَا الْغَرَضِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا أَجْوَدُ وَأَحْسَنُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَكَانَ ذَلِكَ، أَيْ: إِنْزَالُ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أُجِيبُوا عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ نَبِيٍّ، فَكَانَ ذَلِكَ تَثْبِيتًا لِفُؤَادِهِ وَأَفْئِدَتِهِمْ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ:(4/85)
كَذَلِكَ نَزَّلْنَاهُ، وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، وَمَعْنَى التَّرْتِيلِ: أَنْ يَكُونَ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ:
إِنَّ الْمَعْنَى بَيَّنَاهُ تَبْيِينًا، حُكِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَعْضُهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَا أَعْلَمُ التَّرْتِيلَ إِلَّا التَّحْقِيقَ وَالتَّبْيِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ مَحْجُوجُونَ فِي كُلِّ أَوَانٍ مَدْفُوعٌ قَوْلُهُمْ بِكُلِّ وَجْهٍ وَعَلَى كُلِّ حَالَةٍ فَقَالَ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أَيْ: لَا يَأْتِيكَ. - يَا مُحَمَّدُ- الْمُشْرِكُونَ بِمَثَلٍ مِنْ أَمْثَالِهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا اقْتِرَاحَاتُهُمُ الْمُتَعَنِّتَةُ إِلَّا جِئْنَاكَ فِي مُقَابَلَةِ مَثَلِهِمْ بِالْجَوَابِ الْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي يُبْطِلُ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمَثَلِ وَيَدْمَغُهُ وَيَدْفَعُهُ. فَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ هُنَا: السُّؤَالُ وَالِاقْتِرَاحُ، وَبِالْحَقِّ جَوَابُهُ الَّذِي يَقْطَعُ ذَرِيعَتَهُ، وَيُبْطِلُ شُبْهَتَهُ، وَيَحْسِمُ مَادَّتَهُ. وَمَعْنَى أَحْسَنَ تَفْسِيراً جِئْنَاكَ بِأَحْسَنِ تَفْسِيرٍ، فَأَحْسُنُ تَفْسِيرًا مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَقِّ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا جِئْناكَ مُفَرَّغٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا فِي حَالِ إِيتَائِنَا إِيَّاكَ ذَلِكَ. ثُمَّ أَوْعَدَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةَ وَذَمَّهُمْ فَقَالَ: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أَيْ: يُحْشَرُونَ كَائِنِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: أُولَئِكَ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الذَّمِّ.
وَمَعْنَى يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ: يُسْحَبُونَ عَلَيْهَا إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً أَيْ: مَنْزِلًا وَمَصِيرًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَأَخْطَأُ طَرِيقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا فِي النَّارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا قَالَ: يَجْمَعُ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ: الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعَ وَالطَّيْرَ وَجَمِيعَ الْخَلْقِ، فَتَنْشَقُّ السَّمَاءُ الدُّنْيَا فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَيُحِيطُونَ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْأَرْضِ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُونَ لا ثم تنشقّ السماء الثانية مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَفِي كُلِّ سَمَاءٍ أَكْثَرُ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ يَنْزِلُ رَبُّنَا في ظلل مِنَ الْغَمَامِ وَحَوْلَهُ الْكُرُوبِيُّونَ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أهل السموات السَّبْعِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ، لَهُمْ قُرُونٌ كعكوب الْقِثَّاءِ، وَهُمْ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ لِلَّهِ تَعَالَى، مَا بَيْنَ أَخْمَصِ قَدَمِ أَحَدِهِمْ إِلَى كَعْبِهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمِنْ رُكْبَتِهِ إِلَى فَخْذِهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمِنْ فَخْذِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ هَكَذَا: قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حدّثنا الحسين، حدّثني الحجاج ابن مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَهْرَانَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ هَكَذَا: قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عمار بن الحارث، حدثنا مؤمل، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: صَحِيحٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا مُعَيْطٍ كَانَ يَجْلِسُ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ لَا يُؤْذِيِهِ، وَكَانَ رَجُلًا حَلِيمًا، وَكَانَ بَقِيَّةُ قُرَيْشٍ إِذَا جَلَسُوا مَعَهُ آذَوْهُ، وَكَانَ لِأَبِي مُعَيْطٍ خَلِيلٌ غَائِبٌ عَنْهُ بِالشَّامِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: صَبَأَ أَبُو(4/86)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
مُعَيْطٍ، وَقَدِمَ خَلِيلُهُ مِنَ الشَّامِ لَيْلًا فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: مَا فَعَلَ مُحَمَّدٌ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَتْ: أَشَدَّ مَا كَانَ أَمْرًا، فَقَالَ: مَا فَعَلَ خَلِيلِي أَبُو مُعَيْطٍ؟ فَقَالَتْ: صَبَأَ، فَبَاتَ بِلَيْلَةِ سُوءٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَاهُ أَبُو مُعَيْطٍ فَحَيَّاهُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ التَّحِيَّةَ، فَقَالَ: مَالَكَ لَا تَرُدُّ عَلَيَّ تَحِيَّتِي؟ فَقَالَ: كَيْفَ أَرُدُّ عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: نعم، فَمَا يُبْرِئُ صُدُورَهُمْ إِنْ أَنَا فَعَلْتُهُ؟ قَالَ: تَأْتِيهِ فِي مَجْلِسِهِ فَتَبْزُقُ فِي وَجْهِهِ وَتَشْتُمُهُ بِأَخْبَثِ مَا تَعْلَمُ مِنَ الشَّتْمِ، فَفَعَلَ فَلَمْ يردّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ مَسْحَ وَجْهَهُ مِنَ الْبُزَاقِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ فَقَالَ:
إِنْ وَجَدْتُكَ خَارِجًا مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ أَضْرِبُ عُنُقَكَ صَبْرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَخَرَجَ أَصْحَابُهُ أَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: اخْرُجْ مَعَنَا، قَالَ: وَعَدَنِي هَذَا الرَّجُلُ إِنْ وَجَدَنِي خَارِجًا مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقِي صَبْرًا، فَقَالُوا: لَكَ جَمَلٌ أَحْمَرُ لَا يُدْرَكُ، فَلَوْ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ طِرْتَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ وَحَمَلَ بِهِ جَمَلُهُ فِي جُدُودٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَسِيرًا فِي سَبْعِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُدِّمَ إِلَيْهِ أَبُو مُعَيْطٍ فَقَالَ: أَتَقْتُلَنِي مِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ بِمَا بَزَقْتَ فِي وَجْهِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي مُعَيْطٍ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ أَنَّ خَلِيلَ أَبِي مُعَيْطٍ: هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عباس أيضا في قوله: يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قَالَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَعَقَبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهُمَا الْخَلِيلَانِ فِي جَهَنَّمَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ قَالَ: كَانَ عَدُوَّ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ وَعَدُوَّ مُوسَى قَارُونُ، وَكَانَ قَارُونُ ابْنَ عَمِّ مُوسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَمَا يَزْعُمُ نَبِيًّا فَلِمَ يُعَذِّبُهُ رَبُّهُ؟ أَلَّا يُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ وَالسُّورَةَ وَالسُّورَتَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ جَوَابَ مَا قَالُوا: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً إِلَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ قَالَ:
لِنُشَدِّدَ بِهِ فُؤَادَكَ وَنَرْبِطَ عَلَى قَلْبِكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا قَالَ: رَسَّلْنَاهُ تَرْسِيلًا، يَقُولُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ يَقُولُ: لَوْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ سَأَلُوكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يجيب، ولكنا نمسك عليك، فإذا سألوك أجبت.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)(4/87)
اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ طَرَفًا مِنْ قَصَصِ الأولين تسلية له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِأَنَّ تَكْذِيبَ قَوْمِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ لَهُمْ عَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخَاصٍّ بِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلم وهارُونَ عَطْفُ بَيَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْقَطْعِ ووَزِيراً الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَقِيلَ: حَالٌ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: مَعَهُ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَزِيرُ فِي اللُّغَةِ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَيُعْمَلُ بِرَأْيِهِ، وَالْوَزَرُ مَا يعتصم به، ومنه كَلَّا لا وَزَرَ «1» . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْوَزِيرِ فِي طه، وَالْوِزَارَةُ لَا تُنَافِي النُّبُوَّةَ، فَقَدْ كَانَ يُبْعَثُ فِي الزمن الواحد أنبياء، ويؤمرون بأن يوازر بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَدْ كَانَ هَارُونُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَزِيرًا لِمُوسَى، وَلِاشْتِرَاكِهِمَا فِي النُّبُوَّةِ قِيلَ لَهُمَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَالْآيَاتُ هِيَ التِّسْعُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ كَذَّبُوا بِهَا عِنْدَ أَمْرِ اللَّهِ لِمُوسَى وَهَارُونَ بِالذَّهَابِ بَلْ كَانَ التَّكْذِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذَا الْمَاضِيَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى عَادَةِ إِخْبَارِ اللَّهِ، أَيِ: اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا وُصِفُوا بِالتَّكْذِيبِ عِنْدَ الْحِكَايَةِ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيَانًا لِعِلَّةِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ آلَ حَالُهُمْ إِلَى أَنْ كَذَّبُوا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِوَصْفِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، أَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ لِلْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ آيَاتِ الرِّسَالَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى «2» لَا يُنَافِي هَذَا لِأَنَّهُمَا إِذَا كَانَا مَأْمُورَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَخْصِيصَ مُوسَى بِالْخِطَابِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ فِي الرِّسَالَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْخِطَابِ لِكَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ جَمِيعًا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: فَذَهَبَا إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُمَا فَدَمَّرْنَاهُمْ، أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ إِثْرَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ إِهْلَاكًا عَظِيمًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّدْمِيرِ هُنَا: الْحُكْمُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ عَقِبَ بَعْثِ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَيْهِمْ، بَلْ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ فِي نَصْبِ قَوْمَ أَقْوَالٌ: الْعَطْفُ عَلَى الْهَاءِ، وَالْمِيمِ فِي دَمَّرْنَاهُمْ، أَوِ النَّصْبُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيِ اذْكُرْ، أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ أَغْرَقْنَاهُمْ، أَيْ: أَغْرَقْنَا قَوْمَ نُوحٍ أَغْرَقْنَاهُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِأَغْرَقْنَاهُمُ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ مِنْ دُونِ تَقْدِيرٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّ أَغْرَقْنَا لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ حَتَّى يَعْمَلَ فِي الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ بِهِ، وَفِي قَوْمِ نُوحٍ. وَمَعْنَى لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا نُوحًا وَكَذَّبُوا مَنْ قَبْلَهَ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ إِغْرَاقُهُمْ بِالطُّوفَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هُودٍ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أَيْ: جَعَلْنَا إِغْرَاقَهُمْ، أَوْ قصتهم آيَةً، أَيْ: عِبْرَةً لِكُلِّ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ، يَتَّعِظُ بِهَا كُلُّ مُشَاهِدٍ لَهَا، وَسَامِعٍ لِخَبَرِهَا وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ الْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ: قَوْمُ نُوحٍ عَلَى الخصوص.
ويجوز أن يكون المراد ككل مِنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ: هو عذاب الآخرة، وانتصاب
__________
(1) . القيامة: 11.
(2) . طه: 24.(4/88)
عَادًا بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَقِيلَ: عَلَى مَحَلِّ الظَّالِمِينَ، وَقِيلَ: عَلَى مَفْعُولِ جَعَلْنَاهُمْ وَثَمُودَ مَعْطُوفٌ عَلَى عَادًا، وَقِصَّةُ عَادٍ وَثَمُودَ قَدْ ذكرت فيما سبق وَأَصْحابَ الرَّسِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبِئْرُ الَّتِي تَكُونُ غَيْرَ مَطْوِيَّةٍ، وَالْجَمْعُ رِسَاسٌ كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَهُمْ سَائِرُونَ إِلَى أرضهم ... تنابلة يحفرون الرِّسَاسَا
قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ بِئْرٌ بِإِنْطَاكِيَةَ، قَتَلُوا فِيهَا حَبِيبًا النَّجَّارَ، فَنُسِبُوا إِلَيْهَا وَهُوَ صَاحِبُ يس الذي قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ بِأَذْرَبِيجَانَ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ فَجَفَّتْ أَشْجَارُهُمْ وَزُرُوعُهُمْ، فَمَاتُوا جُوعًا وَعَطَشًا. وَقِيلَ: كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّجَرَ، وقيل: كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شُعَيْبًا فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا فَأَكَلُوهُ، وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّسَّ: هِيَ الْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَأَصْحَابُهَا أَهْلُهَا. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالرَّسُّ اسْمُ بِئْرٍ كَانَتْ لِبَقِيَّةِ ثَمُودَ، وَقِيلَ الرَّسُّ: مَاءٌ وَنَخْلٌ لِبَنِي أَسَدٍ، وَقِيلَ: الثَّلْجُ الْمُتَرَاكِمُ فِي الْجِبَالِ. وَالرَّسُّ: اسْمُ وَادٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْنَ بِسَحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ
وَالرَّسُّ أَيْضًا: الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْإِفْسَادُ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ مِنَ الأضداد. وقيل: هم أصحاب حنظلة ابن صَفْوَانَ، وَهُمُ الَّذِينَ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالطَّائِرِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَنْقَاءِ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالْقُرُونُ جَمْعُ قَرْنٍ، أَيْ: أَهْلُ قُرُونٍ، وَالْقَرْنُ: مِائَةُ سَنَةٍ، وَقِيلَ: مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بَيْنَ ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَدْ يُذْكُرُ الذَّاكِرُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً ثُمَّ يُشِيرُ إليها وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ وَأَنْذَرْنَا كُلًّا ضَرَبْنَا لَهُمُ الْأَمْثَالَ وَبَيَّنَّا لَهُمُ الْحُجَّةَ، وَلَمْ نَضْرِبْ لَهُمُ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ كَمَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ، فَجَعَلَهُ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يفسره ما بعده، لأن حذرنا وذكرنا وأنذرنا فِي مَعْنَى ضَرَبْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ الْأُمَمُ، أَيْ: كُلُّ الْأُمَمِ ضَرَبْنَا لَهُمُ الْأَمْثَالَ وَأما كُلًّا الْأُخْرَى: فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا، وَالتَّتْبِيرُ: الْإِهْلَاكُ بِالْعَذَابِ. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتتته فَقَدْ تَبَّرْتَهُ. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ وَالْأَخْفَشُ: مَعْنَى تَبَّرْنا تَتْبِيراً دَمَّرْنَا تَدْمِيرًا أُبْدِلَتِ التَّاءُ وَالْبَاءُ مِنَ الدَّالِ وَالْمِيمِ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمُشَاهَدَتِهِمْ لِآثَارِ هَلَاكِ بَعْضِ الْأُمَمِ. وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ أَتَوْا، أَيْ: مُشْرِكُو مَكَّةَ عَلَى قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ، وَهُوَ الْحِجَارَةُ، أَيْ: هَلَكَتْ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي أُمْطِرُوا بِهَا، وَانْتِصَابُ مَطَرَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ: إِذِ الْمَعْنَى أَعْطَيْتُهَا وَأَوْلَيْتُهَا مَطَرَ السَّوْءِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إمطارا مثل مطر السوء، وقرأ أبو السموأل السَّوْءِ بِضَمِّ السِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ السَّوْءِ فِي بَرَاءَةٌ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ أَيْ: يَرَوْنَ الْقَرْيَةَ الْمَذْكُورَةَ عِنْدَ سَفَرِهِمْ إِلَى الشَّامِ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِهَا، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: لَمْ يَكُونُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَمَّا سَبَقَ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ لِتِلْكَ الْآثَارِ(4/89)
إِلَى عَدَمِ رَجَاءِ الْبَعْثِ مِنْهُمُ الْمُسْتَلْزِمِ لِعَدَمِ رجاءهم لِلْجَزَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى يَرْجُونَ يَخَافُونَ وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَيْ: مَا يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُؤًا، أَيْ: مَهْزُوءًا بِكَ، قَصَرَ مُعَامَلَتَهُمْ لَهُ عَلَى اتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُ هُزُوًا، فَجَوَابُ إِذا هُوَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وَقِيلَ: الْجَوَابُ محذوف، وهو قوله: أَهذَا الَّذِي وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً مُعْتَرِضَةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ قَائِلِينَ أَهَذَا إِلَخْ، وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْقَارِهِمْ لَهُ وَتَهَكُّمِهِمْ بِهِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: بَعَثَهُ اللَّهُ وَانْتِصَابُ رَسُولًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُرْسَلًا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أَيْ قَالُوا: إِنْ كَادَ هَذَا الرَّسُولُ لَيُضِلُّنَا: لَيَصْرِفُنَا عن آلهتنا فنترك عبادتها، وإن هُنَا هِيَ الْمُخَفَّفَةُ، وَضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنَّهُ كَادَ أَنْ يَصْرِفَنَا عَنْهَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أَيْ: حَبَسْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى عِبَادَتِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَجَابَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَيْ: حِينَ يَرَوْنَ عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ وَيَسْتَوْجِبُونَهُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ مَنْ هُوَ أَضَلُّ سَبِيلًا، أَيْ: أَبْعَدُ طَرِيقًا عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، أَهُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ؟ ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا تَمَسُّكَ لَهُمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ سِوَى التَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، فَقَالَ مُعَجِّبًا لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلْعِنَايَةِ كَمَا تَقُولُ عَلِمْتُ مُنْطَلِقًا زَيْدًا، أَيْ:
أَطَاعَ هَوَاهُ طَاعَةً كَطَاعَةِ الْإِلَهِ، أَيِ: انْظُرْ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ وَتَعَجَّبْ مِنْهُ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا اتَّبَعَهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، أَيْ: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ حَفِيظًا وَكَفِيلًا حَتَّى تَرُدَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَتُخْرِجَهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَسْتَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُطِيقُهُ، فَلَيْسَتِ الْهِدَايَةُ وَالضَّلَالَةُ مَوْكُولَتَيْنِ إِلَى مَشِيئَتِكَ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ. ثُمَّ انْتَقَلَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ إِلَى إِنْكَارٍ آخَرَ فَقَالَ: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أَيْ: أَتَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ مَا تَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمِنَ الْمَوَاعِظِ، أَوْ يَعْقِلُونَ مَعَانِيَ ذَلِكَ وَيُفْهِمُونَهُ حَتَّى تَعْتَنِيَ بِشَأْنِهِمْ وَتَطْمَعَ في إيمانهم، ليسوا كَذَلِكَ، بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَعْقِلُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَهُمْ وَقَطَعَ مَادَّةَ الطَّمَعِ فِيهِمْ فَقَالَ: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أَيْ: مَا هُمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا يَسْمَعُونَهُ إِلَّا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي هِيَ مَسْلُوبَةُ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ فَلَا تَطْمَعْ فِيهِمْ، فَإِنَّ فَائِدَةَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ مَفْقُودَةٌ، وَإِنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مَا يُقَالُ لَهُمْ وَيَعْقِلُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ كَانُوا كَالْفَاقِدِ لَهُ. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَالْأَنْعَامِ إِلَى مَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَيْ: أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ طَرِيقًا. قَالَ مُقَاتِلٌ:
الْبَهَائِمُ تَعْرِفُ رَبَّهَا وَتَهْتَدِي إِلَى مَرَاعِيهَا وَتَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقَادُونَ وَلَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانُوا أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ، لِأَنَّهُ لَا حِسَابَ عَلَيْهَا وَلَا عِقَابَ لَهَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانُوا أَضَلَّ لِأَنَّ الْبَهَائِمَ إِذَا لَمْ تَعْقِلْ صِحَّةَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ لَمْ تَعْتَقِدْ بُطْلَانَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمُ اعْتَقَدُوا الْبُطْلَانَ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً غمطا لِلْحَقِّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً(4/90)
قَالَ: عَوْنًا وَعَضُدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً قَالَ: أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الرَّسُّ قَرْيَةٌ مِنْ ثَمُودَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الرَّسُّ بِئْرٌ بِأَذْرَبِيجَانَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ أَصْحَابِ الرَّسِّ قَالَ: صَاحِبُ يس الَّذِي قَالَ: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ «1» فَرَسَّهُ قَوْمُهُ فِي بِئْرٍ بِالْأَحْجَارِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيًّا إِلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ إِلَّا ذَلِكَ الْأَسْوَدُ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ غَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا فَأَلْقُوهُ فِيهَا، ثُمَّ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ بِحَجَرٍ ضَخْمٍ، فَكَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَذْهَبُ فَيَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِحَطَبِهِ فَيَبِيعُهُ فَيَشْتَرِي بِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إِلَى تِلْكَ الْبِئْرِ، فَيَرْفَعُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ فَيُعِينُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَيُدْلِي طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ثُمَّ يَرُدُّهَا كَمَا كَانَتْ، فَكَانَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ يَوْمًا يَحْتَطِبُ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فَجَمَعَ حَطَبَهُ وَحَزَّمَ حِزْمَتَهُ وَفَرَغَ مِنْهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَهَا وَجَدَ سِنَةً، فاضطجع فنام، فضرب الله على أذنه سبع سِنِينَ نَائِمًا، ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ فَتَمَطَّى فَتَحَوَّلَ لِشِقِّهِ الْآخَرِ فَاضْطَجَعَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ فَاحْتَمَلَ حِزْمَتَهُ وَلَا يَحْسَبُ إِلَّا أَنَّهُ نَامَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَجَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ فَبَاعَ حِزْمَتَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى طَعَامًا وَشَرَابًا كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْحُفْرَةِ فِي مَوْضِعِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ فَالْتَمَسَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَقَدْ كَانَ بدّ لِقَوْمِهِ فِيهِ بُدٌّ فَاسْتَخْرَجُوهُ فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْأَسْوَدِ مَا فَعَلَ؟ فَيَقُولُونَ مَا نَدْرِي حَتَّى قُبِضَ ذَلِكَ النَّبِيُّ، فَأَهَبَّ اللَّهُ الْأَسْوَدَ مِنْ نَوْمَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، إِنَّ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ لَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: وَفِيهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ، وَلَعَلَّ فِيهِ إِدْرَاجًا انْتَهَى. الْحَدِيثُ أَيْضًا مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: الْقَرْنُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ عَامًا. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْقَرْنُ: سَبْعُونَ سَنَةً، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: الْقَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْقَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ، وَقَالَ: القرن خَمْسُونَ سَنَةً، وَقَالَ الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ سُمِّيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ قَرْنًا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْتَهَى إِلَى مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ أَمْسَكَ، ثُمَّ يَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ. قَالَ اللَّهُ: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ قَالَ: هِيَ سَدُومُ قَرْيَةُ لُوطٍ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ قَالَ: الْحِجَارَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَعْبُدُ الْحَجَرَ الْأَبْيَضَ زَمَانًا مِنَ الدَّهْرِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا وَجَدَ حَجَرًا أَحْسَنَ مِنْهُ رَمَى بِهِ وَعَبَدَ الْآخَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَهْوَى شيئا إلا اتبعه.
__________
(1) . يس: 20. [.....](4/91)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)
لِمَا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ جَهَالَةِ الْجَاهِلِينَ وَضَلَالَتِهِمْ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ مع ما فيها من عظم الْإِنْعَامِ، فَأَوَّلُهَا الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الظِّلِّ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ إِمَّا بَصَرِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا: أَلَمْ تُبْصِرْ إِلَى صُنْعِ رَبِّكَ؟ أَوْ أَلَمْ تُبْصِرْ إِلَى الظِّلِّ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ؟ وَإِمَّا قَلْبِيَّةٌ، بِمَعْنَى الْعِلْمِ، فَإِنَّ الظِّلَّ مُتَغَيِّرٌ، وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ، وَلِكُلِّ حَادِثٍ مُوجِدٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَلَمْ تَرَ أَلَمْ تَعْلَمْ؟
وَهَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، قَالَ: وَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْقَلْبِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الظِّلِّ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ؟ يَعْنِي:
الظِّلَّ مِنْ وَقْتِ الْإِسْفَارِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهُوَ ظِلٌّ لَا شَمْسَ مَعَهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الظِّلُّ بِالْغَدَاةِ وَالْفَيْءُ بِالْعَشِيِّ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، سُمِّيَ فَيْئًا لِأَنَّهُ فَاءَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ يَصِفُ سَرْحَةً وَكَنَّى بِهَا عَنِ امْرَأَةٍ:
فَلَا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلَا الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ
وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الظِّلُّ: مَا نَسَخَتْهُ الشَّمْسُ، وَالْفَيْءُ: مَا نَسَخَ الشَّمْسَ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ رُؤْبَةَ قَالَ: كُلُّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فزالت عنه فهو في فَيْءٌ وَظِلٌّ، وَمَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَهُوَ ظِلٌّ، انْتَهَى.
وَحَقِيقَةُ الظِّلِّ أَنَّهُ أَمْرٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الضَّوْءِ الْخَالِصِ وَالظُّلْمَةِ الْخَالِصَةِ، وَهَذَا التوسط هُوَ أَعْدَلُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لِأَنَّ الظُّلْمَةَ الْخَالِصَةَ يَكْرَهُهَا الطَّبْعُ وَيَنْفِرُ عَنْهَا الْحِسُّ، وَالضَّوْءُ الْكَامِلُ لِقُوَّتِهِ يُبْهِرُ الْحِسَّ الْبَصَرِيَّ وَيُؤْذِي بِالتَّسْخِينِ، وَلِذَلِكَ وصفت الجنة به بقوله: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «1» وَجُمْلَةُ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المعطوف والمعطوف عليه، أي: لو شاء سبحانه سكونه لجعله ساكنا ثابتا دائما مستقرا لا تنسخه الشمس.
وقيل المعنى: لَوْ شَاءَ لَمَنْعَ الشَّمْسَ الطُّلُوعَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالتَّعْبِيرُ بِالسُّكُونِ عَنِ الْإِقَامَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ سَائِغٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَكَنَ فُلَانٌ بَلَدَ كَذَا: إِذَا أَقَامَ بِهِ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ: وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَدَّ الظِّلَّ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ، أَيْ: جَعَلْنَاهَا عَلَامَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا بِأَحْوَالِهَا عَلَى أَحْوَالِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظِّلَّ يَتْبَعُهَا كَمَا يُتْبَعُ الدَّلِيلُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَزِيدُ بِهَا وَيَنْقُصُ وَيَمْتَدُّ وَيَتَقَلَّصُ، وقوله: ثُمَّ قَبَضْناهُ معطوف
__________
(1) . الواقعة: 30.(4/92)
أَيْضًا عَلَى مَدَّ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ قَبَضْنَا ذَلِكَ الظِّلَّ الْمَمْدُودَ، وَمَحَوْنَاهُ عِنْدَ إِيقَاعِ شُعَاعِ الشَّمْسِ مَوْقِعَهُ بِالتَّدْرِيجِ، حَتَّى انْتَهَى ذَلِكَ الْإِظْلَالُ إِلَى الْعَدَمِ وَالِاضْمِحْلَالِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ في الآية قبضه عن قِيَامِ السَّاعَةِ بِقَبْضِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْأَجْرَامُ النَّيِّرَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الظِّلَّ يَبْقَى فِي هَذَا الْجَوِّ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِذَا طَلُعَتِ الشَّمْسُ صَارَ الظِّلُّ مَقْبُوضًا، وَخَلْفَهُ فِي هَذَا الْجَوِّ شُعَاعُ الشَّمْسِ، فَأَشْرَقَتْ عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى الْأَشْيَاءِ إِلَى وَقْتِ غُرُوبِهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَلَيْسَ هُنَاكَ ظِلٌّ، إِنَّمَا فِيهِ بَقِيَّةُ نُورِ النَّهَارِ، وَقَالَ قَوْمٌ:
قَبَضَهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَغْرُبْ فَالظِّلُّ فِيهِ بَقِيَّةٌ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ زَوَالُهُ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ وَدُخُولِ الظَّلَمَةِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ثُمَّ قَبَضْنَا ضِيَاءَ الشَّمْسِ بِالْفَيْءِ قَبْضاً يَسِيراً وَمَعْنَى إِلَيْنَا: أَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنَّ حُدُوثَهُ مِنْهُ. قَبْضًا يَسِيرًا، أَيْ عَلَى تَدْرِيجٍ قَلِيلًا قَلِيلًا بِقَدْرِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: يَسِيرًا سَرِيعًا، وَقِيلَ:
الْمَعْنَى يَسِيرًا عَلَيْنَا، أَيْ: يَسِيرًا قَبْضُهُ عَلَيْنَا لَيْسَ بِعَسِيرٍ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَا يُسْتَرُ مِنْ ظَلَامِ اللَّيْلِ بِاللِّبَاسِ السَّاتِرِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَصَفَ اللَّيْلَ بِاللِّبَاسِ تَشْبِيهًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْتُرُ الأشياء ويغشاها، واللام متعلقة بجعل وَالنَّوْمَ سُباتاً أَيْ: وَجَعَلَ النَّوْمَ سُبَاتًا، أَيْ: رَاحَةً لَكُمْ لِأَنَّكُمْ تَنْقَطِعُونَ عَنِ الِاشْتِغَالِ، وَأَصْلُ السُّبَاتِ: التَّمَدُّدُ، يُقَالُ: سَبَتَتِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا، أَيْ نَقَضَتْهُ وَأَرْسَلَتْهُ. وَرَجُلٌ مَسْبُوتٌ:
أَيْ مَمْدُودُ الْخِلْقَةِ. وقيل للنوم: ثبات، لِأَنَّهُ بِالتَّمَدُّدِ يَكُونُ، وَفِي التَّمَدُّدِ مَعْنَى الرَّاحَةِ. وَقِيلَ: السَّبْتُ: الْقَطْعُ، فَالنَّوْمُ انْقِطَاعٌ عَنِ الِاشْتِغَالِ، وَمِنْهُ سَبْتُ الْيَهُودِ لِانْقِطَاعِهِمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: السُّبَاتُ النَّوْمُ، وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالرُّوحُ فِي بَدَنِهِ، أَيْ: جَعَلَنَا نَوْمَكُمْ رَاحَةً لَكُمْ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: السُّبَاتُ نَوْمٌ ثَقِيلٌ، أَيْ: جَعَلَنَا نَوْمَكُمْ ثَقِيلًا لِيَكْمُلَ الْإِجْمَامُ وَالرَّاحَةُ وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أَيْ: زَمَانَ بَعْثٍ مِنْ ذَلِكَ السُّبَاتِ، شَبَّهَ الْيَقَظَةَ بِالْحَيَاةِ كَمَا شَبَّهَ النَّوْمَ بِالسُّبَاتِ الشَّبِيهِ بِالْمَمَاتِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ السُّبَاتَ الْمَوْتُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِكَوْنِ النُّشُورِ فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قُرِئَ «الرِّيحُ» وَقُرِئَ «بُشْرًا» بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالنُّونِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فِي الْأَعْرَافِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً أَيْ: يُتَطَهَّرُ بِهِ كَمَا يُقَالُ وَضُوءٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الطَّهُورُ فِي اللُّغَةِ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ، وَالطُّهُورُ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الطَّهُورُ بِفَتْحِ الطَّاءِ الِاسْمُ، وَكَذَلِكَ الْوَضُوءُ وَالْوَقُودُ، وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَوْنُهُ بِنَاءَ مُبَالِغَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الطَّهُورُ هُوَ الطَّاهِرُ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «1» يَعْنِي: طَاهِرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
خَلِيلِيَّ هَلْ فِي نَظْرَةٍ بَعْدَ تَوْبَةٍ ... أُدَاوِي بِهَا قَلْبِي عَلَيَّ فَجُورُ
إِلَى رُجَّحِ الْأَكْفَالِ غِيدٍ مِنَ الظّبا ... عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ
فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ وَلَيْسَ بِمُطَهَّرٍ، وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ثَعْلَبٌ، وهو راجع لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ الْأَزْهَرِيِّ لِذَلِكَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَأَمَّا وَصْفُ الشَّاعِرِ لِلرِّيقِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، وَعَلَى كُلِّ حال
__________
(1) . الإنسان: 21.(4/93)
فَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» وقال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا» ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عِلَّةَ الْإِنْزَالِ فَقَالَ: لِنُحْيِيَ بِهِ أَيْ:
بِالْمَاءِ الْمُنَزَّلِ مِنَ السَّمَاءِ بَلْدَةً مَيْتاً وَصَفَ الْبَلْدَةَ بميتا، وهي صفة للمذكر لأنها بِمَعْنَى الْبَلَدِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
أَرَادَ بِالْبَلَدِ الْمَكَانَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ هُنَا: إِخْرَاجُ النَّبَاتِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أَيْ: نُسَقِي ذَلِكَ الْمَاءَ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا وَأَبُو حَيَّانَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ «نَسْقِيهِ» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَ «مِنْ» فِي مِمَّا خَلَقْنَا لِلِابْتِدَاءِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُسْقِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَالْأَنْعَامُ: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَالْأَنَاسِيُّ: جَمْعُ إِنْسَانٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّهُ جَمْعُ إِنْسِيٍّ، وَلِلْفَرَّاءِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ جَمْعُ إِنْسَانٍ، وَالْأَصْلُ أَنَاسِينَ، مِثْلُ سَرْحَانَ وَسَرَاحِينَ، وَبُسْتَانٍ وَبَسَاتِينَ، فَجَعَلُوا الْبَاءَ عِوَضًا مِنَ النُّونِ وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ضَمِيرُ صَرَّفْنَاهُ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الدَّلَائِلِ، أَيْ: كَرَّرْنَا أَحْوَالَ الْإِظْلَالِ، وَذِكْرُ إِنْشَاءِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي سَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ لِيَتَفَكَّرُوا ويعتبروا فَأَبى أَكْثَرُ هُمْ إِلَّا كُفْرَانَ النِّعْمَةِ وَجَحْدَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَهُوَ الْمَطَرُ، أَيْ:
صَرَّفْنَا الْمَطَرَ بَيْنَهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، فنزيد منه فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، وَنُنْقِصُ فِي بَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ حَيْثُ قَالَ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ وَقَوْلُهُ: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وقوله: اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَالْمَعْنَى:
وَلَقَدْ كَرَّرْنَا هَذَا الْقُرْآنَ بِإِنْزَالِ آيَاتِهِ بَيْنَ النَّاسِ لِيَذَّكَّرُوا بِهِ وَيَعْتَبِرُوا بِمَا فِيهِ، فَأَبَى أَكْثَرُهُمْ إِلَّا كُفُوراً بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الرِّيحِ، وَعَلَى رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَطَرِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقِيلَ:
صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ وَابِلًا، وَطَشًّا، وَطَلًّا، وَرَذَاذًا، وَقِيلَ: تَصْرِيفُهُ تَنْوِيعُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الشُّرْبِ وَالسَّقْيِ وَالزِّرَاعَاتِ بِهِ وَالطَّهَارَاتِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً هُوَ قَوْلُهُمْ: فِي الْأَنْوَاءِ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا. قال النحاس: ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر هنا قولهم: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ «صَرَفْنَاهُ» مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «لِيَذْكُرُوا» مُخَفَّفَةُ الذَّالِ مِنَ الذِّكْرِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ مِنَ التَّذَكُّرِ وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أَيْ: رَسُولًا يُنْذِرُهُمْ كَمَا قَسَّمْنَا الْمَطَرَ بَيْنَهُمْ، وَلَكِنَّا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ جَعَلْنَا نَذِيرًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَابِلْ ذَلِكَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فِيمَا يَدْعُونَكَ إِلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ آلِهَتِهِمْ، بَلِ اجْتَهِدْ فِي الدَّعْوَةِ وَاثْبُتْ فِيهَا وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: جَاهِدْهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ مَا فِيهِ مِنَ الْقَوَارِعِ، وَالزَّوَاجِرِ وَالْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: بِالسَّيْفِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ:
فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً
__________
(1) . الأنفال: 11.(4/94)
لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ بَعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَمْ يَكُنْ عَلَى كُلِّ نَذِيرٍ إِلَّا مُجَاهَدَةُ الْقَرْيَةِ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا، وَحِينَ اقْتَصَرَ عَلَى نَذِيرٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ الْقُرَى وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَلَا جَرَمَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ كُلُّ الْمُجَاهَدَاتِ، فَكَبُرَ جِهَادُهُ، وَعَظُمَ وَصَارَ جَامِعًا لِكُلِّ مُجَاهَدَةٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ الْبُعْدِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا رَابِعًا عَلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ:
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ مَرَجَ: خَلَّى وَخَلَطَ وَأَرْسَلَ، يُقَالُ مَرَجْتُ الدَّابَّةَ وَأَمْرَجْتُهَا: إِذَا أَرْسَلْتُهَا فِي الْمَرْعَى وَخَلَّيْتُهَا تَذْهَبُ حَيْثُ تَشَاءُ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرْسَلَهُمَا وَأَفَاضَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: خَلَطَهُمَا فَهُمَا يَلْتَقِيَانِ، يُقَالُ مَرَجْتُهُ: إِذَا خَلَطْتُهُ، وَمَرَجَ الدِّينُ وَالْأَمْرُ: اخْتَلَطَ وَاضْطَرَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ «1» وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خَلَّى بَيْنَهُمَا، يُقَالُ مَرَجَتِ الدَّابَّةُ: إِذَا خَلَّيْتُهَا تَرْعَى. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْمَرْجُ الْإِجْرَاءُ، فَقَوْلُهُ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أَيْ أَجْرَاهُمَا. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَقُولُ قَوْمٌ أَمْرَجَ الْبَحْرَيْنِ مِثْلُ مَرَجَ، فَعَلَ وَأَفْعَلَ بِمَعْنًى هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ الْفُرَاتُ الْبَلِيغُ الْعُذُوبَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ مَرَجَهُمَا؟ فَقِيلَ: هَذَا عَذْبٌ، وَهَذَا مِلْحٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قِيلَ: سُمِّي الْمَاءُ الْحُلْوُ فُرَاتًا: لِأَنَّهُ يَفْرُتُ الْعَطَشُ، أَيْ: يَقْطَعُهُ وَيَكْسِرُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أَيْ: بَلِيغُ الْمُلُوحَةِ هَذَا مَعْنَى الْأُجَاجِ، وَقِيلَ: الْأُجَاجُ الْبَلِيغُ فِي الْحَرَارَةِ، وَقِيلَ: الْبَلِيغُ فِي الْمَرَارَةِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ مِلْحٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً الْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ، وَالْحَائِلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ قُدْرَتِهِ، يَفْصِلُ بينهما، وبمنعهما التَّمَارُجَ، وَمَعْنَى حِجْراً مَحْجُوراً سَتْرًا مَسْتُورًا يَمْنَعُ أَحَدُهُمَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْآخَرِ، فَالْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ، وَالْحَجْزُ: الْمَانِعُ. وَقِيلَ: مَعْنَى حِجْراً مَحْجُوراً هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَعَوِّذُ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ يَتَعَوَّذُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقِيلَ: حَدًّا مَحْدُودًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْبَحْرِ الْعَذْبِ: الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَجَيْحُونَ، وَمِنَ الْبَحْرِ الْأُجَاجِ: الْبِحَارُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْبَرْزَخُ بَيْنَهُمَا: الْحَائِلُ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مَعْنَى حِجْراً مَحْجُوراً حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ يَعْذُبَ هَذَا الْمَالِحُ بِالْعَذْبِ، أَوْ يُمَلَّحَ هَذَا الْعَذْبُ بِالْمَالِحِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ «2» ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَةً مِنْ أَحْوَالِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالْمَاءِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ هُنَا: مَاءُ النُّطْفَةِ، أَيْ: خَلَقَ مِنْ مَاءِ النُّطْفَةِ إِنْسَانًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَاءِ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يُرَادُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «3» وَالْمُرَادُ بِالنَّسَبِ: هُوَ الَّذِي لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: وَاشْتِقَاقُ الصِّهْرِ مِنْ صَهَرْتُ الشَّيْءَ: إِذَا خَلَطْتَهُ، وَسُمِّيَتِ الْمَنَاكِحُ صِهْرًا لِاخْتِلَاطِ النَّاسِ بِهَا. وَقِيلَ: الصِّهْرُ: قَرَابَةُ النِّكَاحِ فَقَرَابَةُ الزَّوْجَةِ: هُمُ الْأَخْتَانُ، وَقَرَابَةُ الزَّوْجِ: هُمُ الْأَحْمَاءُ، وَالْأَصْهَارُ: تَعُمُّهُمَا، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: النَّسَبُ سَبْعَةُ أَصْنَافٍ مِنَ الْقَرَابَةِ يَجْمَعُهَا قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ:
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَمِنْ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ «4» تَحْرِيمٌ بِالصِّهْرِ، وَهُوَ الْخُلْطَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْقَرَابَةَ، حَرَّمَ اللَّهُ سَبْعَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النَّسَبِ وَسَبْعَةً مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ، قَدِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ على
__________
(1) . ق: 5.
(2) . الرحمن: 19 و 20.
(3) . الأنبياء: 30.
(4) . النساء: 23.(4/95)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
سِتَّةٍ مِنْهَا، وَالسَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا الرَّضَاعِ مِنْ جُمْلَةِ النَّسَبِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» . وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً أَيْ: بَلِيغَ الْقُدْرَةِ عَظِيمَهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ وَتَقْسِيمُهُ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ قَالَ: بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّكَ إِذَا صَلَّيْتَ الْفَجْرَ كَانَ بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ظِلًّا، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّمْسَ دَلِيلًا فَقَبَضَ الظِّلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: مَدُّ الظِّلِّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً قَالَ: دَائِمًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا يَقُولُ: طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً قَالَ: سَرِيعًا. وَأَخْرَجَ أَهْلُ السُّنَنِ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتَنُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ كَلَامٌ طَوِيلٌ قَدِ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي شَرْحِنَا عَلَى المنتقى. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم والحاكم وصححه البيهقي فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا مِنْ عَامٍ بِأَقَلَّ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجاهِدْهُمْ بِهِ قَالَ: بِالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابن جرير عنه هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَعْنِي: خَلَطَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَيْسَ يُفْسِدُ الْعَذْبُ الْمَالِحَ وَلَيْسَ يُفْسِدُ الْمَالِحُ الْعَذْبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَحِجْراً مَحْجُوراً يَقُولُ: حَجَرَ أحدهما على الْآخَرِ بِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ «نَسَبًا وَصِهْرًا» فَقَالَ: مَا أَرَاكُمْ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُمُ النِّسَبَ، وَأَمَّا الصهر: فالأختان والصحابة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 67]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
__________
(1) . النساء: 22.(4/96)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ قَبَائِحِ الْكُفَّارِ، وَفَضَائِحِ سِيرَتِهِمْ فَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ إِنْ عَبَدُوهُ وَلا يَضُرُّهُمْ إِنْ تَرَكُوهُ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً الظَّهِيرُ:
الْمَظَاهِرُ، أَيِ: الْمُعَاوِنُ عَلَى رَبِّهِ بِالشِّرْكِ وَالْعَدَاوَةِ، وَالْمُظَاهَرَةُ عَلَى الرَّبِّ هِيَ الْمُظَاهَرَةُ عَلَى رَسُولِهِ أَوْ عَلَى دِينِهِ:
قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّهُ يُتَابِعُ الشَّيْطَانَ وَيُعَاوِنُهُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ لِلْأَصْنَامِ مُعَاوَنَةٌ لِلشَّيْطَانِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ هَيِّنًا ذَلِيلًا، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ ظَهَرْتُ بِهِ: أَيْ جَعَلْتُهُ خَلْفَ ظَهْرِكَ لَمْ تَلْتَفِتْ إليه، ومنه قوله: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا «1» أَيْ: هَيِّنًا، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
تَمِيمُ بن قيس لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ فَلَا يَعْيَا عَلِيَّ جَوَابُهَا
وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَهُوَ الصَّنَمُ قَوِيًّا غَالِبًا يَعْمَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ، لِأَنَّ الْجَمَادَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى دَفْعٍ وَنَفْعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّهِيرُ جَمْعًا كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «2» وَالْمَعْنَى:
أَنَّ بَعْضَ الْكَفَرَةِ مَظَاهِرٌ لِبَعْضٍ عَلَى رسول الله أو على الدين، وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِ هُنَا الْجِنْسُ، وَلَا يُنَافِيهِ كَوْنُ سَبَبِ النُّزُولِ هُوَ كَافِرٌ مُعَيَّنٌ كَمَا قِيلَ إِنَّهُ أَبُو جَهْلٍ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أَيْ: مُبَشِّرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرًا لِلْكَافِرِينَ بالنار قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْإِرْسَالِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا فَلْيَفْعَلْ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِالطَّاعَةِ وَصَّوَرَ ذَلِكَ بِصُورَةِ الْأَجْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَقْصُودُ الْحُصُولِ. وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُتَظَاهِرُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَجْرًا أَلْبَتَّةَ، أَمَرَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ، وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ فَقَالَ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَخَصَّ صِفَةَ الْحَيَاةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحَيَّ هُوَ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ فِي الْمَصَالِحِ، وَلَا حَيَاةَ عَلَى الدَّوَامِ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، دُونَ الْأَحْيَاءِ الْمُنْقَطِعَةِ حَيَاتُهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا ضَاعَ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ، وَالتَّوَكُّلُ اعْتِمَادُ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أَيْ: نَزِّهْهُ عَنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ، وَقِيلَ: مَعْنَى سَبِّحْ: صَلِّ، وَالصَّلَاةُ: تُسَمَّى تَسْبِيحًا وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أَيْ:
حَسْبُكَ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ يُرَادُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ كَقَوْلِكَ: كَفَى بِاللَّهِ رَبًّا، وَالْخَبِيرُ: الْمُطَّلِعُ عَلَى الْأُمُورِ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ زَادَ فِي الْمُبَالَغَةِ، فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ، وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْحَيِّ، وَقَالَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَهُنَّ لِأَنَّهُ أَرَادَ النَّوْعَيْنِ، كَمَا قَالَ القطامي:
ألم يحزنك أنّ حبال قيس ... وتغلب قد تباينتا انْقِطَاعًا
فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ العرش بعد خلق السموات وَالْأَرْضِ كَمَا تُفِيدُهُ ثُمَّ فَيُقَالُ إِنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لَمْ تَدْخُلْ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ بَلْ على رفعه على السموات والأرض، والرحمن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف،
__________
(1) . هود: 92.
(2) . التحريم: 4.(4/97)
وهو صفة أخرى للحيّ، وقد قرأه الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي اسْتَوَى، أَوْ يَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ، أَيْ: فَاسْأَلْ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكَحْ فَتَاتَهُمْ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنِ عَلِيٍّ «الرَّحْمَنِ» بِالْجَرِّ على أنه نعت للحيّ أو للموصول فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً الضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ إِلَى ما ذكر من خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ. وَالْمَعْنَى: فَاسْأَلْ بِتَفَاصِيلِ مَا ذُكِرَ إِجْمَالًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ: فَاسْأَلْ عنه، كقوله: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «1» ، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
هَلَّا سَأَلْتِ الْخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ ... إِنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تعلمي
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
وَالْمُرَادُ بِالْخَبِيرِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا هُوَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ: لَوْ لَقِيتَ فُلَانًا لَلَقِيَكَ بِهِ الْأَسَدُ، أَيْ: لَلَقِيَكَ بلقائك إياه الأسد، فخبيرا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَاسْتَضْعَفَ الْحَالِيَّةَ أَبُو الْبَقَاءِ فَقَالَ: يَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا حَالًا مِنْ فَاعِلِ اسْأَلْ، لِأَنَّ الْخَبِيرَ لَا يُسْأَلُ إِلَّا عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «2» قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الرَّحْمَنِ إِذَا رَفَعْتَهُ بِاسْتَوَى. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي بِهِ زَائِدَةً. وَالْمَعْنَى: فَاسْأَلْهُ حَالَ كَوْنِهِ خَبِيرًا. وَقِيلَ:
قَوْلُهُ بِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ «3» وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَقْرَبُ هَذِهِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا مَعْنَى الرَّحْمَنِ فَقَالَ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ قَالُوا مَا نَعْرِفُ الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ أَنْكَرُوا فَقَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: لَا نَسْجُدُ لِلرَّحْمَنِ الَّذِي تَأْمُرُنَا بِالسُّجُودِ لَهُ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّحْتِيَّةِ فَالْمَعْنَى: أَنَسْجَدُ لِمَا يَأْمُرُنَا مُحَمَّدٌ بِالسُّجُودِ لَهُ.
وَقَدْ قَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ لِما تَأْمُرُنا بِالْفَوْقِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدُ: يَعْنُونَ الرَّحْمَنَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى الْكُوفِيِّينَ فِي قِرَاءَتِهِمْ هَذَا التَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِمَا يَأْمُرُنَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم فتصح الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا، وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى أَبْيَنَ وَزادَهُمْ نُفُوراً أَيْ: زَادَهَمُ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ نُفُورًا عن الدِّينِ وَبُعْدًا عَنْهُ، وَقِيلَ: زَادَهُمْ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ تَبَاعُدًا مِنَ الْإِيمَانِ، كَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا لَوْ تَفَكَّرُوا فِيهِ لَعَرَفُوا وُجُوبَ السُّجُودِ لِلرَّحْمَنِ فَقَالَ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً الْمُرَادُ بِالْبُرُوجِ:
بُرُوجُ النُّجُومِ، أَيْ: مَنَازِلُهَا الِاثْنَا عَشَرَ، وَقِيلَ: هِيَ النُّجُومُ الْكِبَارُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَسُمِّيَتْ بُرُوجًا، وهي
__________
(1) . المعارج: 1.
(2) . البقرة: 91.
(3) . النساء: 1.(4/98)
الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ، لِأَنَّهَا لِلْكَوَاكِبِ كَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ لِمَنْ يَسْكُنُهَا، وَاشْتِقَاقُ الْبُرْجِ: مِنَ التَّبَرُّجِ، وَهُوَ الظُّهُورُ وَجَعَلَ فِيها سِراجاً أَيْ: شَمْسًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ سِراجاً بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «سُرُجًا» بِالْجَمْعِ، أَيِ: النُّجُومُ الْعِظَامُ الْوَّقَّادَةُ، وَرَجَّحَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِي تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ أَرَادَ الشَّمْسَ وَالْكَوَاكِبَ وَقَمَراً مُنِيراً أَيْ: يُنِيرُ الْأَرْضَ إِذَا طَلَعَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ قَمَراً بِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ شَاذَّةٌ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخِلْفَةُ كُلُّ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ، اللَّيْلُ: خِلْفَةٌ لِلنَّهَارِ، وَالنَّهَارُ: خِلْفَةٌ لِلَّيْلِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ وَيَأْتِي بَعْدَهُ وَمِنْهُ خِلْفَةُ النَّبَاتِ، وَهُوَ وَرَقٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْوَرَقِ الْأَوَّلِ فِي الصَّيْفِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
بِهَا الْعَيْنُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ «1»
قَالَ الْفَرَّاءُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: يَقُولُ: يَذْهَبُ هَذَا وَيَجِيءُ هَذَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خِلْفَةٌ مِنَ الْخِلَافِ، هَذَا أَبْيَضُ، وَهَذَا أَسْوَدُ. وَقِيلَ: يَتَعَاقَبَانِ فِي الضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ذَوِي خِلْفَةٍ، أَيِ: اخْتِلَافٍ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ قرأ حَمْزَةُ مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّشْدِيدِ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى: مِنَ الذِّكْرِ لِلَّهِ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ التَّذَكُّرِ لَهُ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ «يَتَذَكَّرُ» وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْمُتَذَكِّرَ الْمُعْتَبِرَ إِذَا نَظَرَ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي انْتِقَالِهِمَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مِنْ نَاقِلٍ أَوْ أَرادَ شُكُوراً أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى مَا أَوْدَعَهُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأَلْطَافِ الْكَثِيرَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُذَكِّرُ وَيَتَذَكَّرُ يَأْتِيَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الله تعالى: وَاذْكُرُوا ما فِيهِ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ وَيَذْكُرُوا مَا فِيهِ وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ صَالِحِي عِبَادِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ، وَالْهَوْنُ: مَصْدَرٌ، وَهُوَ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْهَوْنَ مُتَعَلِّقٌ بِيَمْشُونَ، أَيْ: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ مَشْيًا هَوْنًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَتَأَوَّلَ هَذَا عَلَى أَنْ تَكُونَ أَخْلَاقُ ذَلِكَ الْمَاشِي هَوْنًا مُنَاسِبَةً لِمَشْيِهِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صِفَةُ الْمَشْيِ وَحْدُهُ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهُ رُبَّ مَاشٍ هَوْنًا رُوَيْدًا وَهُوَ ذِئْبٌ أَطْلَسُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكفأ في مشيه كأنما فِي صَبَبٍ وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَذَى أَهْلِ الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ فَلَا يَجْهَلُونَ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ وَلَا يُسَافِهُونَ أَهْلَ السَّفَهِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
لَيْسَ هَذَا السَّلَامُ مِنَ التَّسْلِيمِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ التَّسَلُّمِ تَقُولُ الْعَرَبُ سَلَامًا: أَيْ: تَسَلُّمًا مِنْكَ، أَيْ: بَرَاءَةً مِنْكَ، مَنْصُوبٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: قَالُوا سَلَّمْنَا سَلَامًا، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ: قَالُوا هَذَا اللَّفْظَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى سَلَامًا سَدَادًا، أَيْ:
__________
(1) . العين: بكسر العين، جمع أعين وعيناء، وهي بقر الوحش، سميت بذلك لسعة أعينها، والأطلاء: جمع طلا، وهو البقرة وولد الظّبية الصغير، والمجثم: الموضع الذي يجثم فيه، أي يقام فيه. [.....](4/99)
يقول للجاهل كلاما يدفعه به بِرِفْقٍ وَلِينٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لَكِنَّهُ عَلَى قَوْلِهِ تَسْلِيمًا مِنْكُمْ، وَلَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ بَيْنِنَا وَبَيْنَكُمْ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ بِحَرْبِهِمْ، ثُمَّ أُمِرُوا بِحَرْبِهِمْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: أَخْطَأَ سِيبَوَيْهِ فِي هَذَا وَأَسَاءَ الْعِبَارَةَ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَلَا نَعْلَمُ لِسِيبَوَيْهِ كَلَامًا فِي مَعْنَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: فَنَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ. وَأَقُولُ: هَكَذَا يَكُونُ كَلَامُ الرَّجُلِ إِذَا تَكَلَّمَ فِي غَيْرِ عِلْمِهِ وَمَشَى فِي غَيْرِ طَرِيقَتِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُونَ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَا نُهُوا عَنْهُ، بَلْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: حَدَّثَنِي الْخَلِيلُ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا رَبِيعَةَ الْأَعْرَابِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ مَنْ رَأَيْتُ، فَإِذَا هُوَ عَلَى سَطْحٍ، فَسَلَّمْنَا فَرَدَّ عَلَيْنَا السَّلَامَ وَقَالَ لَنَا: اسْتَوُوا، فَبَقِينَا مُتَحَيِّرِينَ، وَلَمْ نَدْرِ مَا قَالَ، فَقَالَ لَنَا أَعْرَابِيٌّ إِلَى جَنْبِهِ:
أَمَرَكُمْ أَنْ تَرْتَفِعُوا. قَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ مِنْ قول الله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «1» قَالَ: فَصَعِدْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ: هَلْ لَكَمَ فِي خبز وفطير وَلَبَنِ هَجِيرٍ؟ فَقُلْنَا: السَّاعَةَ فَارَقْنَاهُ، فَقَالَ: سَلَامًا، فَلَمْ نَدْرِ مَا قَالَ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ:
إِنَّهُ سَالَمَكُمْ مُتَارَكَةً لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا شَرَّ. قَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً الْبَيْتُوتَةُ: هِيَ أَنْ يُدْرِكَكَ اللَّيْلُ نِمْتَ أَوْ لَمْ تَنَمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ فَقَدْ بَاتَ، نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ، كَمَا يُقَالُ: بَاتَ فُلَانٌ قَلِقًا، وَالْمَعْنَى: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَقِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَبِتْنَا قِيَامًا عِنْدَ رَأْسِ جَوَادِنَا ... يُزَاوِلُنَا عَنْ نَفْسِهِ وَنُزَاوِلُهُ
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أَيْ: هُمْ مَعَ طَاعَتِهِمْ مُشْفِقُونَ وَجِلُوْنَ خَائِفُونَ مِنْ عَذَابِهِ، وَالْغَرَامُ: اللَّازِمُ الدَّائِمُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَرِيمُ لِمُلَازَمَتِهِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِكَذَا، أَيْ: مُلَازِمٌ لَهُ مُولَعٌ بِهِ، هَذَا مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
إِنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ ... يُعْطِ جَزِيْلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْغَرَامُ: أَشَدُّ الْعَذَابِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْهَلَاكُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّرُّ، وَجُمْلَةُ إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَخْصُوصُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: هِيَ، وَانْتِصَابُ مُسْتَقَرًا عَلَى الْحَالِ أَوِ التَّمْيِيزِ، وَكَذَا مُقَامًا، قِيلَ: هُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَإِنَّمَا عُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ لَفْظَيْهِمَا، وَقِيلَ: بَلْ هُمَا مُخْتَلِفَانِ مَعْنًى: فَالْمُسْتَقَرُّ لِلْعُصَاةِ فإنهم يخرجون، والمقام للكفار يَخْلُدُونَ، وَسَاءَتْ: مِنْ أَفْعَالِ الذَّمِّ كَبِئْسَتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ. ثُمَّ وَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالتَّوَسُّطِ فِي الْإِنْفَاقِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَيَحْيَىَ بْنُ وَثَّابٍ «يَقْتُرُوا» بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ، مِنْ قَتَرَ يَقْتُرُ كقعد يقعد، وقرأ أبو عمرو
__________
(1) . البقرة: 29.(4/100)
وَابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ حَسَنَةٌ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ قَتَرَ الرَّجُلُ عَلَى عِيَالِهِ يَقْتُرُ وَيَقْتُرُ قَتْرًا، وأقتر يقتر إقتارا، ومعنى الْجَمِيعِ: التَّضْيِيقُ فِي الْإِنْفَاقِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ مَنْ أَنْفَقَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْإِسْرَافُ، وَمَنْ أَمْسَكَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْإِقْتَارُ، وَمَنْ أَنْفَقَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْقَوَامُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يجيع وَلَا يَعْرَى، وَلَا يُنْفِقُ نَفَقَةً يَقُولُ النَّاسُ: قَدْ أَسْرَفَ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا لِلتَّنَعُّمِ وَاللَّذَّةِ، وَلَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا لِلْجَمَالِ، وَلَكِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَسُدُّ عَنْهُمُ الْجُوعَ، وَيُقَوِّيهِمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنَ اللِّبَاسِ مَا يَسْتُرُ عَوْرَاتِهِمْ، وَيَقِيهِمُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يَبْخَلُوا كَقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «1» قَرَأَ حَسَّانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً بِكَسْرِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، فَقِيلَ: هَمَا بِمَعْنًى، وَقِيلَ: الْقِوَامُ بِالْكَسْرِ: مَا يَدُومُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ وَيَسْتَقِرُّ، وَبِالْفَتْحِ:
الْعَدْلُ وَالِاسْتِقَامَةُ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ بِالْفَتْحِ: الْعَدْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَبِالْكَسْرِ: مَا يُقَامُ بِهِ الشَّيْءُ، لَا يُفْضَلُ عَنْهُ وَلَا يُنْقَصُ. وَقِيلَ بِالْكَسْرِ: السَّدَادُ وَالْمَبْلَغُ، وَاسْمُ كَانَ مُقَدَّرٌ فِيهَا، أَيْ: كَانَ إِنْفَاقُهُمْ بين ذلك قواما، وخبرها قواما، قاله الفراء. وروي عن الفراء قول آخر، وهو أن اسم كان بَيْنَ ذَلِكَ، وَتُبْنَى بَيْنَ عَلَى الْفَتْحِ لِأَنَّهَا مِنَ الظُّرُوفِ الْمَفْتُوحَةِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: مَا أَدْرِي مَا وَجْهُ هَذَا، لِأَنَّ بَيْنَ إِذَا كَانَتْ في موضع رفع رفعت.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً يَعْنِي أَبَا الْحَكَمِ الَّذِي سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ قَالَ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، يَقُولُ عَرَضٌ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ النُّجُومِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قَالَ:
هِيَ هَذِهِ الِاثْنَا عَشَرَ بُرْجًا: أَوَّلُهَا: الْحَمَلُ، ثُمَّ الثَّوْرُ، ثُمَّ الْجَوْزَاءُ، ثُمَّ السَّرَطَانُ، ثُمَّ الْأَسَدُ، ثُمَّ السُّنْبُلَةُ، ثُمَّ الْمِيزَانُ، ثُمَّ الْعَقْرَبُ، ثُمَّ الْقَوْسُ، ثُمَّ الْجَدْيُ، ثُمَّ الدَّلْوُ، ثُمَّ الْحُوتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً قَالَ: أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا يقول: من فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ أَنْ يَعْمَلَهُ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ: وَمِنَ النَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ أَطَالَ صَلَاةَ الضُّحَى، فَقِيلَ لَهُ: صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ وِرْدِي شَيْءٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُتِمَّهُ، أَوْ قَالَ أَقْضِيَهُ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً قَالَ: بِالطَّاعَةِ وَالْعَفَافِ وَالتَّوَاضُعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هَوْناً عِلْمًا وَحِلْمًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً قَالَ: الدَّائِمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حاتم
__________
(1) . الإسراء: 29.(4/101)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لَا يُسْرِفُونَ فَيُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 77]
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ إِتْيَانِهِمْ بِالطَّاعَاتِ شَرَعَ فِي بَيَانِ اجْتِنَابِهِمْ لِلْمَعَاصِي فَقَالَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ رَبًّا مِنَ الْأَرْبَابِ. وَالْمَعْنَى: لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، بَلْ يُوَحِّدُونَهُ وَيُخْلِصُونَ لَهُ الْعِبَادَةَ وَالدَّعْوَةَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أَيْ: حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ: بِمَا يَحِقُّ أَنْ تُقْتَلَ بِهِ النُّفُوسُ، مِنْ كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَلا يَزْنُونَ أَيْ: يَسْتَحِلُّونَ الْفُرُوجَ الْمُحَرَّمَةَ بِغَيْرِ نِكَاحٍ، وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أَيْ: شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ يَلْقَ فِي الْآخِرَةِ أَثاماً وَالْأَثَامُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْعِقَابُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: آثَمَهُ اللَّهُ يُؤْثِمُهُ أَثَامًا وَآثَامًا، أَيْ: جَازَاهُ جَزَاءَ الْإِثْمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ أَثَامًا وَادٍ فِي جَهَنَّمَ جَعَلَهُ اللَّهُ عِقَابًا لِلْكَفَرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: جَبَلٌ فِيهَا. وَقُرِئَ «يُلَقَّ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَالْأَثَامُ وَالْإِثْمُ وَاحِدٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا جَزَاءُ الْآثَامِ فَأُطْلِقَ اسْمُ الشَّيْءِ عَلَى جَزَائِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ يَلْقَ أَيَّامًا جَمْعُ يَوْمٍ: يَعْنِي شَدَائِدَ، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَيَّامِ، وَمَا أَظُنُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَصِحُّ عَنْهُ يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُضاعَفْ، ويَخْلُدْ بِالْجَزْمِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «يُضَعَّفْ» بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَطَرْحِ الْأَلْفِ وَالْجَزْمِ، وَقَرَأَ طلحة ابن سُلَيْمَانَ «نُضَعِّفُ» بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْجَزْمِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِالرَّفْعِ فِي الْفِعْلَيْنِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ «وَتَخْلُدْ» بِالْفَوْقِيَّةِ خِطَابًا لِلْكَافِرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عمرو أَنَّهُ قَرَأَ وَيَخْلُدْ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ اللَّامِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ:
وَهِيَ غَلَطٌ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، وَوَجْهُ الْجَزْمِ فِي يُضَاعَفْ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ يَلْقَ لِاتِّحَادِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ عَلَيَّ اللَّهَ أَنْ تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا
والضمير في قوله: وَيَخْلُدْ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْعَذَابِ الْمُضَاعَفِ، أَيْ: يَخْلُدْ فِي الْعَذَابِ الْمُضَاعَفِ(4/102)
مُهاناً ذَلِيلًا حَقِيرًا إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَقِيلَ:
مُنْقَطِعٌ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: لَا يَظْهَرُ الِاتِّصَالُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وعمل عملا صَالِحًا فَلَا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ التَّضْعِيفِ انْتِفَاءُ الْعَذَابِ غَيْرِ الْمُضَعَّفِ. قال: والأولى عندي أن يكون مُنْقَطِعًا، أَيْ: لَكِنْ مَنْ تَابَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَالزَّانِي. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَاتِلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ إِلَى الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا، وَمَعْنَى تَبْدِيلِ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ، أَنَّهُ يَمْحُو عَنْهُمُ الْمَعَاصِيَ، وَيُثْبِتُ لَهُمْ مَكَانَهَا طَاعَاتٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يُكْتَبَ مَوْضِعَ كَافِرٍ مُؤْمِنٌ، وَمَوْضِعَ عَاصٍ مُطِيعٌ. قَالَ الْحَسَنُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ التَّبْدِيلُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا التَّبْدِيلُ فِي الدُّنْيَا، يُبَدِّلُ اللَّهُ لَهُمْ إِيمَانًا مَكَانَ الشِّرْكِ، وَإِخْلَاصًا مِنَ الشَّكِّ، وَإِحْصَانًا مِنَ الْفُجُورِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَيْسَ يَجْعَلُ مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ، وَلَكِنْ يَجْعَلُ مَكَانَ السَّيِّئَةِ التَّوْبَةَ، وَالْحَسَنَةَ مَعَ التَّوْبَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ السَّيِّئَاتِ تُبَدَّلُ بِحَسَنَاتٍ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهَمْ. وَقِيلَ: التَّبْدِيلُ عِبَارَةٌ عَنِ الْغُفْرَانِ، أَيْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، لَا أَنْ يُبَدِّلَهَا حَسَنَاتٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّبْدِيلِ: أَنْ يُوَفِّقَهُ لِأَضْدَادِ مَا سَلَفَ مِنْهُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً هَذِهِ الجملة مقرّرة لما قبله مِنَ التَّبْدِيلِ وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أَيْ: مِنْ تَابَ عَمَّا اقْتَرَفَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتُوبُ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، أَيْ: يَرْجِعُ إِلَيْهِ رُجُوعًا صَحِيحًا قَوِيًّا. قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى فِيمَنْ تَابَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَنْ تَابَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَتْبَعُ تَوْبَتَهُ عَمَلًا صَالِحًا، فَلَهُ حُكْمُ التَّائِبِينَ أَيْضًا. وَقِيلَ: أَيْ مَنْ تَابَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُحَقِّقِ التَّوْبَةَ بِفِعْلِهِ، فَلَيْسَتْ تِلْكَ التَّوْبَةُ نَافِعَةً، بَلْ مَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَحَقَّقَ تَوْبَتَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَهُوَ الَّذِي تَابَ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، أَيْ: تَابَ حَقَّ التَّوْبَةِ، وَهِيَ النَّصُوحُ، وَلِذَلِكَ أُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ أَرَادَ التَّوْبَةَ وَعَزَمَ عَلَيْهَا فَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَالْخَبَرُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَذَا قِيلَ لِئَلَّا يتحد الشرط والجزاء، فإنه لا يقال من تَابَ فَإِنَّهُ يَتُوبُ، ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ التَّائِبِينَ الْعَامِلِينَ لِلصَّالِحَاتِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أَيْ: لَا يَشْهَدُونَ الشَّهَادَةَ الْكَاذِبَةَ، أَوْ لَا يَحْضُرُونَ الزُّورَ، وَالزُّورَ: هُوَ الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ، وَلَا يُشَاهِدُونَهُ وَإِلَى الثَّانِي ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الزُّورُ فِي اللُّغَةِ الْكَذِبُ وَلَا كَذِبَ فَوْقَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الزُّورَ هَاهُنَا: بِمَعْنَى الشِّرْكِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ يَشْهَدُونَ إِنْ كَانَ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَشْهَدُونَ شهادة الزور وإن كان من الشهود والحضور، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُسَاعِدُونَ أَهْلَ الْبَاطِلِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَحْضُرُونَ اللَّهْوَ وَالْغِنَاءَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْكَذِبَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَالْأَوْلَى عَدَمُ التَّخْصِيصِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الزُّورِ، بَلِ الْمُرَادُ الَّذِينَ لَا يَحْضُرُونَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزُّورِ كائنا ما كَانَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أَيْ: مُعْرِضِينَ عَنْهُ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهِ، وَاللَّغْوُ: كُلُّ سَاقِطٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. قَالَ الْحَسَنُ: اللَّغْوُ: الْمَعَاصِي كُلُّهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ(4/103)
مَرُّوا بِذَوِي اللَّغْوِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يُكْرَمُ عَمَّا يَشِينُهُ، أَيْ: يَتَنَزَّهُ وَيُكْرِمُ نَفْسَهُ عَنِ الدُّخُولِ فِي اللَّغْوِ وَالِاخْتِلَاطِ بِأَهْلِهِ وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أَيْ: بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِمَا فِيهِ مَوْعِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أَيْ: لَمْ يَقَعُوا عَلَيْهَا حَالَ كَوْنِهِمْ صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَلَكِنَّهُمْ أَكَبُّوا عَلَيْهَا سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ، وَانْتَفَعُوا بِهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَى لَمْ يَتَغَافَلُوا عَنْهَا، كَأَنَّهُمْ صُمٌّ لَمْ يَسْمَعُوهَا، وَعُمْيٌ لَمْ يُبْصِرُوهَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
لَيْسَ ثَمَّ خُرُورٌ، بَلْ كَمَا يُقَالُ قَعَدَ يَبْكِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قَاعِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَأَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِلذِّكْرِ قَائِمٌ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ خُرُورًا، وَهُوَ السُّقُوطُ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ. قِيلَ الْمَعْنَى: إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، فَخَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، وَلَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لَمْ يَقْعُدُوا عَلَى حَالِهِمُ الْأَوَّلِ، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوا. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: لَيْسَ بِنَفْيٍ لِلْخُرُورِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ لَهُ، وَنَفْيٌ لِلصَّمَمِ وَالْعَمَى، وَأَرَادَ أَنَّ النَّفْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقَيْدِ لَا إِلَى الْمُقَيَّدِ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ مِنِ:
ابْتِدَائِيَّةٌ، أَوْ بَيَانِيَّةٌ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَذُرِّيَّاتِنا بِالْجَمْعِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى «وَذُرِّيَّتِنَا» بِالْإِفْرَادِ، وَالذُّرِّيَّةُ: تَقَعُ عَلَى الجمع، كما في قوله: ذُرِّيَّةً ضِعافاً «1» وَتَقَعُ عَلَى الْفَرْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةً طيبة، وَانْتِصَابُ قُرَّةَ أَعْيُنٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، يُقَالُ: قَرَّتْ عَيْنُهُ قُرَّةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ، أَيْ: صَادَفَ فُؤَادُكَ مَا يُحِبُّهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: فِي قُرَّةِ الْعَيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا:
بَرْدُ دَمْعِهَا، لِأَنَّهُ دَلِيلُ السُّرُورِ وَالضَّحِكِ، كَمَا أَنَّ حَرَّهُ دَلِيلُ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ. وَالثَّانِي: نَوْمُهَا، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَ فَرَاغِ الْخَاطِرِ، وَذَهَابِ الْحُزْنِ. والثالث: حصول الرضا. وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أَيْ: قُدْوَةً يُقْتَدَى بِنَا فِي الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِمَامًا، وَلَمْ يَقُلْ أَئِمَّةً، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ. كَقَوْلِهِ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «2» قَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ إِمَامًا، وَلَمْ يَقُلْ أَئِمَّةً كما قال للاثنين نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
«3» يَعْنِي: أَنَّهُ مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْإِمَامُ جَمْعُ أَمٍّ مِنْ أمّ يؤم جَمْعٌ عَلَى فِعَالٍ، نَحْوَ صَاحِبٍ وَصِحَابٍ، وَقَائِمٍ وَقِيَامٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ إِمَامًا مَصْدَرٌ، يُقَالُ: أَمَّ فُلَانٌ فُلَانًا إِمَامًا، مِثْلَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ. وَقِيلَ أَرَادُوا: اجْعَلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا إِمَامًا، وَقِيلَ أَرَادُوا: اجْعَلْنَا إِمَامًا وَاحِدًا لِاتِّحَادِ كَلِمَتِنَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمَقْلُوبِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى:
وَاجْعَلِ الْمُتَّقِينَ لَنَا إِمَامًا، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ صَادِرٌ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الِانْفِرَادِ، وَأَنَّ عِبَارَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ: وَاجْعَلْنِي لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، وَلَكِنَّهَا حُكِيَتْ عِبَارَاتُ الْكُلِّ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ لِقَصْدِ الْإِيجَازِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً «4» وَفِي هَذَا إِبْقَاءُ إِمَامًا عَلَى حَالِهِ، وَمِثْلُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَا عَاذِلَاتِي لَا تَزِدْنَ مَلَامَتِي ... إِنَّ الْعَوَاذِلَ لَيْسَ لِي بِأَمِينِ
أَيْ: أُمَنَاءَ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَعِنْدِي أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا ذُهِبَ بِهِ مَذْهَبُ الِاسْمِ وُحِّدَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: اجْعَلْنَا حُجَّةً لِلْمُتَّقِينَ، وَمِثْلُهُ الْبَيِّنَةُ، يُقَالُ: هَؤُلَاءِ بَيِّنَةُ فُلَانٍ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: قِيلَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرِّيَاسَةَ الدِّينِيَّةَ
__________
(1) . النساء: 9.
(2) . الحج: 5.
(3) . الشعراء: 16.
(4) . المؤمنون: 51.(4/104)
مِمَّا يَجِبُ أَنْ تُطْلَبَ وَيُرَغَّبَ فِيهَا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ فِي الطَّاعَةِ الْمَبْلَغَ الَّذِي يُشَارُ إِلَيْهِمْ، وَيُقْتَدَى بِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَا بعده، والجملة مُسْتَأْنَفَةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ أُوْلئِكَ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَالْغُرْفَةُ: الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ، وَهِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجَنَّةِ وَأَفْضَلُهَا، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ لِكُلِّ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ، وَالْجَمْعُ غُرَفٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْغُرْفَةُ الْجَنَّةُ، وَالْبَاءُ فِي «بِمَا صَبَرُوا» سَبَبِيَّةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ والأعمش ويحيى ابن وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ يُلَقَّوْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْفَرَّاءُ، قَالَ: لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: فُلَانٌ يُلْقِي بِالسَّلَامِ وَالتَّحِيَّةِ وَالْخَيْرِ، وَقَلَّ مَا يَقُولُونَ يُلْقِي. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ بِالسَّلَامِ، قِيلَ: التَّحِيَّةُ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ وَالْمُلْكُ الْعَظِيمُ، وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى السَّلَامِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحَيِّيهِمْ وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ التَّحِيَّةَ وَالسَّلَامَ هِيَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «1» وَقِيلَ مَعْنَى التَّحِيَّةِ:
الدُّعَاءُ لَهُمْ بِطُولِ الْحَيَاةِ، وَمَعْنَى السَّلَامِ: الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُقِيمِينَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أَيْ: حَسُنَتِ الْغُرْفَةُ مُسْتَقَرًّا يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَمُقَامًا يُقِيمُونَ بِهِ، وَهَذَا فِي مُقَابِلِ مَا تَقَدَّمَ من قوله: ساءت مستقرّا ومقاما قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ طَاعَةِ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِالتَّكْلِيفِ، يُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِفُلَانٍ، أَيْ: مَا بَالَيْتُ بِهِ، وَلَا لَهُ عِنْدِي قَدْرٌ، وَأَصْلُ يَعْبَأُ مِنَ الْعِبْءِ، وَهُوَ الثِّقَلُ. قَالَ الْخَلِيلُ: مَا أَعْبَأُ بِفُلَانٍ: أَيْ: مَا أَصْنَعُ بِهِ كَأَنَّهُ يَسْتَقِلُّهُ وَيَسْتَحْقِرُهُ، وَيَدَّعِي أَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي. يُرِيدُ: أَيُّ وَزْنٍ يَكُونُ لَكُمْ عنده. والعبء: الثقل، وما اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَوْ نَافِيَةٌ، وَصَرَّحَ الْفَرَّاءُ بِأَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ عِنْدِي أَنَّ مَوْضِعَ مَا نَصْبٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكُمْ، أَيْ: أَيُّ مُبَالَاةٍ يُبَالِي بِكُمْ لَوْلا دُعاؤُكُمْ أَيْ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُ لِتَعْبُدُوهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، وَفَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ لَمْ يَعْبَأْ بِكُمْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2» وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، ثُمَّ خَصَّ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ فَقَالَ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ «فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ» وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ: لَوْلَا اسْتِغَاثَتُكُمْ إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِدِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ، أَيْ: بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمُ الْآلِهَةَ مَعَهُ. وَحَكَى ابْنُ جِنِّي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ كَقِرَاءَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ وَالنَّحَّاسُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ كَقِرَاءَتِهِمَا، وَمِمَّنْ قَالَ بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتبي والفارسي قالا: والأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه،
__________
(1) . الأحزاب: 44.
(2) . الذاريات: 56.(4/105)
وجواب لولا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ لَمْ يُعَذِّبْكُمْ، وَيَكُونُ مَعْنَى فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بِمَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بِالتَّوْحِيدِ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أَيْ: فَسَوْفَ يَكُونُ جَزَاءُ التَّكْذِيبِ لَازِمًا لَكُمْ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاللِّزَامِ هُنَا:
مَا لَزِمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لِزَامًا فَيْصَلًا، أَيْ: فَسَوْفَ يَكُونُ فَيْصَلًا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَسَوْفَ يَكُونُ تَكْذِيبُكُمْ لِزَامًا يَلْزَمُكُمْ فَلَا تُعْطَوْنَ التَّوْبَةَ، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى كَسْرِ اللَّامِ مِنْ لِزَامًا، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِصَخْرٍ:
فَإِمَّا ينجو مِنْ خَسْفِ أَرْضٍ ... فَقَدْ لَقِيَا حُتُوفَهُمَا لِزَامًا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ لِزَامًا: عَذَابًا دَائِمًا، وَهَلَاكًا مُفْنِيًا، يُلْحِقُ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
فَفَاجَأَهُ بِعَادِيَةٍ لِزَامٍ ... كَمَا يَتَفَجَّرُ الْحَوْضُ اللَّفِيفُ
يعني باللزام: يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَبِاللَّفِيفِ: الْمُتَسَاقِطَ مِنَ الْحِجَارَةِ الْمُنْهَدِمَةِ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا السِّمَاكِ يَقْرَأُ «لِزَامًا» بِفَتْحِ اللَّامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَكُونُ مَصْدَرَ لَزِمَ، وَالْكَسْرُ أَوْلَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ قَالَ:
«أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ» . وَأَخْرَجَا وَغَيْرُهُمَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي قَوْلِهِ: يَلْقَ أَثاماً قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الْآيَةَ. اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَشْرَكَ وقتل وزنا، فأنزل الله:
يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ، يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَصَابُوا هَذَا فِي الشِّرْكِ، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فَأَبْدَلَهُمُ اللَّهُ بِالْكُفْرِ الْإِسْلَامَ، وَبِالْمَعْصِيَةِ الطَّاعَةَ، وَبِالْإِنْكَارِ الْمَعْرِفَةَ، وَبِالْجَهَالَةِ الْعِلْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَرَأْنَاهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنِينَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ثُمَّ نَزَلَتْ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِحَ بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَهُ بِهَا، وَفَرَحَهُ ب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «2» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: هم المؤمنون
__________
(1) . الزمر: 53.
(2) . الفتح: 1.(4/106)
كَانُوا مِنْ قَبْلِ إِيمَانِهِمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ، فَرَغِبَ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فَحَوَّلَهُمْ إِلَى الْحَسَنَاتِ، فَأَبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَهَنَّادٌ والترمذي وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يؤتى بالرجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُهَا وَيُنَحَّى عَنْهُ كِبَارُهَا، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا كَذَا، وَهُوَ يُقِرُّ، لَيْسَ يُنْكِرُ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ تَجِيءَ، فَيُقَالُ: أَعْطُوهُ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً» وَالْأَحَادِيثُ فِي تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَتَبْدِيلِهَا بِالْحَسَنَاتِ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قَالَ: إِنَّ الزُّورَ كَانَ صَنَمًا بِالْمَدِينَةِ يَلْعَبُونَ حَوْلَهُ كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرُّوا بِهِ مَرُّوا كِرَامًا لَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ قَالَ: يَعْنُونَ مَنْ يَعْمَلُ بِالطَّاعَةِ فَتَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً قَالَ: أَئِمَّةَ هُدًى يُهْتَدَى بِنَا وَلَا تَجْعَلْنَا أَئِمَّةَ ضَلَالَةٍ، لِأَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ السعادة: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا «1» وَلِأَهْلِ الشَّقَاوَةِ: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ «2» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ قَالَ: الْغُرْفَةُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، أَوْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، أَوْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ.
لَيْسَ فِيهَا فَصْمٌ وَلَا وَصْمٌ.. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يَقُولُ: لَوْلَا إِيمَانُكُمْ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِمْ إذ لَمْ يَخْلُقْهُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَلَوْ كَانَتْ لَهُ بِهِمْ حَاجَةٌ لَحَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ، كَمَا حَبَّبَهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً قَالَ: مَوْتًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً قَالَ: الْقَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ:
خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَالْقَمَرُ، والروم، والبطشة، واللّزام.
__________
(1) . الأنبياء: 73.
(2) . القصص: 41.(4/107)
طسم (1)
سورة الشّعراء
وَهِيَ: مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُورَةُ الشُّعَرَاءِ أنزلت بمكة، سوى خمس آيات آخرها نزلت بالمدينة، وهي [الآية: 197 و] «1» وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى آخرها. وأخرج القرطبي فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِيَ السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأَعْطَانِي الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَأَعْطَانِي الطَّوَاسِينَ مَكَانَ الزَّبُورِ، وَفَضَّلَنِي بِالْحَوَامِيمِ وَالْمُفَصَّلِ، مَا قَرَأَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ السُّورَةَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةَ مِنَ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَأُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْقُرْآنِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، وَأُعْطِيتُ الْمُفَصَّلَ نَافِلَةً» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا بِسُورَةِ الجمعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
قَوْلُهُ: طسم قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِإِمَالَةِ الطَّاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالزُّهْرِيُّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ مُشَبَّعًا. وَقَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَأَبُو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من «طسم» فِي الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ بِإِظْهَارِهَا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: الْإِدْغَامُ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ. قال النحاس: وحكى الزجاج في كتابه
__________
(1) . ما بين حاصرتين مستدرك من تفسير الجلالين، وبه يصح الكلام.(4/108)
فِيمَا يَجْرِي وَمَا لَا يَجْرِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: «طَا سِينَ مِيمُ» بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْمِيمِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مَعْدِي كَرْبُ.
وَقَرَأَ عِيسَى وَيُرْوَى عَنْ نَافِعٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «ط س م» هَكَذَا حُرُوفًا مُقَطَّعَةً فَيُوقَفُ عَلَى كُلِّ حَرْفٍ وَقْفَةً يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ إِنْ كَانَ اسْمًا لِلسُّورَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ:
اذْكُرْ أَوِ اقْرَأْ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَسْرُودًا عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِلَى السُّورَةِ، وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ إِنْ جَعَلْنَا طسم مُبْتَدَأً، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْ طسم، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا: الْقُرْآنُ، وَالْمُبِينُ: الْمُبِينُ الْمُظْهِرُ، أَوِ الْبَيِّنُ الظَّاهِرُ إِنْ كَانَ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَيْ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ وَمُهْلِكُهَا أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أَيْ: لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَالْبَخْعُ فِي الْأَصْلِ: أَنْ يُبْلَغَ بِالذَّبْحِ النُّخَاعُ، بِالنُّونِ، قَامُوسٌ، وَهُوَ عِرْقٌ فِي الْقَفَا، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ «بَاخِعُ نَفْسِكَ» بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْقَطْعِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّهَا جَزَاءٌ، قَالَ النحاس: وإنما يقال: إن مكسورة لأنها جزاء، هكذا المتعارف وَالْقَوْلُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فِي كِتَابِهِ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبِ، مَفْعُولٍ لِأَجْلِهِ، وَالْمَعْنَى:
لَعَلَّكَ قَاتِلٌ نَفْسَكَ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ، شَدِيدَ الْأَسَفِ لِمَا يَرَاهُ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ: وَجُمْلَةُ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا سَبَقَ مِنَ التَّسْلِيَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ نَشَأْ نَنْزِلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً تُلْجِئُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ قَدْ سَبَقَ الْقَضَاءُ بِأَنَّا لَا نَنْزِلُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أَنَّهُمْ صَارُوا مُنْقَادِينَ لَهَا، أَيْ: فَتَظَلُّ أَعْنَاقُهُمْ إِلَخْ، قِيلَ: وَأَصْلُهُ فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ، فَأُقْحِمَتِ الْأَعْنَاقُ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّصْوِيرِ، لِأَنَّ الْأَعْنَاقَ مَوْضِعُ الْخُضُوعِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا وُضِعَتِ الْأَعْنَاقُ بِصِفَاتِ الْعُقَلَاءِ أُجْرِيَتْ مَجْرَاهُمْ، وَوُصِفَتْ بِمَا يُوصَفُونَ بِهِ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: خاضعين وخاضعة هُنَا سَوَاءٌ، وَاخْتَارَهُ الْمُبَرِّدُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا إِذَا ذَلَّتْ رِقَابُهُمْ ذُلُّوا، فَالْإِخْبَارُ عَنِ الرِّقَابِ إِخْبَارٌ عَنْ أَصْحَابِهَا، وَيَسُوغُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُتْرَكَ الْخَبَرُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَيُخْبَرَ عَنِ الثَّانِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
طُولَ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرْضِي
فَأَخْبَرَ عَنِ اللَّيَالِي وَتَرَكَ الطُّولَ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْكِسَائِيُّ: إِنَّ الْمَعْنَى خَاضِعِيهَا هُمْ، وَضَعَّفَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْنَاقُهُمْ: كُبَرَاؤُهُمْ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ: أَيْ رُؤَسَاءٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ:
أَعْنَاقُهُمْ: جَمَاعَاتُهُمْ، يُقَالُ جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ: أَيْ جَمَاعَةٌ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ(4/109)
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَعَ اقْتِدَارِهِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ مُلْجَئِينَ إِلَى الْإِيمَانِ يَأْتِيهِمْ بِالْقُرْآنِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَأَنْ لَا يُجَدِّدَ لَهُمْ مَوْعِظَةً وَتَذْكِيرًا إِلَّا جَدَّدُوا مَا هُوَ نَقِيضُ الْمَقْصُودِ، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ومن في مِنْ ذِكْرٍ مزيدة لتأكيد العموم، و «من» فِي «مِنْ رَبِّهِمْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِيَّةِ مِنْ مَفْعُولِ يَأْتِيهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ كَذَّبُوا أَيْ بِالذِّكْرِ الَّذِي يَأْتِيهِمْ تَكْذِيبًا صَرِيحًا وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ الْإِعْرَاضِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِعْرَاضَ بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ، لِأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ وَلَمْ يَقْبَلْهُ فَقَدْ كَذَّبَهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ ذِكْرُ التَّكْذِيبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى صُدُورِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيحِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَالْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ. ثُمَّ انْتَقَلُوا عَنْ هَذَا إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِالتَّكْذِيبِ ثُمَّ انْتَقَلُوا عَنِ التَّكْذِيبِ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ كَمَا يَدُلُّ عليه قوله: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَالْأَنْبَاءُ هِيَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ آجِلًا وَعَاجِلًا، وَسُمِّيَتْ أَنْبَاءَ لِكَوْنِهَا مِمَّا أَنْبَأَ عَنْهُ القرآن وقال: «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» وَلَمْ يَقُلْ مَا كَانُوا عَنْهُ مُعَرِضِينَ، أَوْ مَا كَانُوا بِهِ يُكَذِّبُونَ، لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ أَشَدُّ مِنْهُمَا وَمُسْتَلْزِمٌ لَهُمَا، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ، الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا لِلْمُتَأَمِّلِ فِيهَا، وَالنَّاظِرِ إِلَيْهَا، وَالْمُسْتَدِلِّ بِهَا أَعْظَمُ دَلِيلٍ، وَأَوْضَحُ بُرِهَانٍ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ الْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ لَوْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ لَعَلِمُوا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجِ هُنَا الصِّنْفُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اللَّوْنُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى زَوْجٍ: نَوْعٌ، وَكَرِيمٍ:
مَحْمُودٌ، وَالْمَعْنَى: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ نَافِعٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْبَاتِهِ إِلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالْكَرِيمُ فِي الْأَصْلِ: الْحَسَنُ الشَّرِيفُ، يُقَالُ: نَخْلَةٌ كَرِيمَةٌ: أَيْ كَثِيرَةُ الثَّمَرَةِ، وَرَجُلٌ كَرِيمٌ: شَرِيفٌ فَاضِلٌ، وَكِتَابٌ كَرِيمٌ: إِذَا كَانَ مُرْضِيًا فِي مَعَانِيهِ، وَالنَّبَاتُ الْكَرِيمُ: هُوَ الْمُرْضِي فِي مَنَافِعِهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: النَّاسُ مِثْلُ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَنْ صَارَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ صَارَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ، فَهُوَ لَئِيمٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَيْ: إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْإِنْبَاتِ فِي الْأَرْضِ لَدِلَالَةٌ بَيِّنَةٌ، وَعَلَامَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى ضَلَالَتِهِ مُصَمِّمٌ عَلَى جُحُودِهِ وَتَكْذِيبِهِ وَاسْتِهْزَائِهِ فَقَالَ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ: سَبْقٌ عِلْمِيٌّ فِيهِمْ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ هَكَذَا. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ:
إِنَّ كانَ هُنَا صِلَةٌ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيِ: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ لِهَؤُلَاءِ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، مَعَ كَوْنِهِ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، وَلِذَلِكَ أَمْهَلَهُمْ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ مُنْتَقِمٌ مِنْ أَعْدَائِهِ رَحِيمٌ بِأَوْلِيَائِهِ، وَجُمْلَةُ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْإِعْرَاضِ وَالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَاتْلُ إِذْ نَادَى أو اذكر، والنداء: الدعاء، وأَنِ فِي قَوْلِهِ: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَوَصْفُهُمْ بِالظُّلْمِ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ الَّذِي ظَلَمُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَبَيْنَ الْمَعَاصِي الَّتِي ظَلَمُوا بِهَا غيرهم، كاستبعاد بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَبْحِ أَبْنَائِهِمْ،(4/110)
وَانْتِصَابُ قَوْمَ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَعْنَى أَلا يَتَّقُونَ أَلَا يَخَافُونَ عِقَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَيَصْرِفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عُقُوبَةَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ أَلَا تَتَّقُونَ، وَجَاءَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ لِأَنَّهُمْ غُيَّبٌ وَقْتَ الْخِطَابِ، وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو حَازِمٍ «أَلَا تَتَّقُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: قال لَهُمْ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ «1» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَالْفَوْقِيَّةِ قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أَيْ: قَالَ مُوسَى هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالْمَعْنَى: أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي فِي الرِّسَالَةِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي معطوفا عَلَى أَخَافُ، أَيْ: يَضِيقُ صَدْرِي لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ، وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي بِتَأْدِيَةِ الرِّسَالَةِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ يَضِيقُ وَلا يَنْطَلِقُ بِالْعَطْفِ عَلَى أَخَافُ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وعيسى بن عمرو وَأَبُو حَيْوَةَ بِنَصْبِهِمَا عَطَفًا عَلَى يُكَذِّبُونِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ لَهُ وَجْهٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْوَجْهُ الرَّفْعُ، لِأَنَّ النَّصْبَ عَطْفٌ عَلَى يُكَذِّبُونِ وَهَذَا بَعِيدٌ فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أَيْ: أَرْسِلْ إليه جبريل بالوحي ليكون معي رسولا مؤازرا مظاهرا معاونا، ولم يذكر المؤازرة هُنَا لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كقوله في طه:
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً «2» وفي القصص فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي «3» ، وَهَذَا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَابِ طَلَبِ الْمُعَاوَنَةِ لَهُ بِإِرْسَالِ أَخِيهِ، لَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعْفَاءِ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَلَا مِنَ التَّوَقُّفِ عَنِ الْمُسَارَعَةِ بِالِامْتِثَالِ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ الذَّنْبُ: هُوَ قَتْلُهُ لِلْقِبْطِيِّ، وَسَمَّاهُ ذَنْبًا بِحَسَبِ زَعْمِهِمْ: فَخَافَ مُوسَى أَنْ يَقْتُلُوهُ بِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ قَدْ يَحْصُلُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنِ الْفُضَلَاءِ، ثُمَّ أَجَابَهُ سُبْحَانَهُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الرَّدْعِ، وَطَرَفٍ مِنَ الزَّجْرِ قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْجَوَابِ إِجَابَةُ مُوسَى إِلَى مَا طَلَبَهُ مِنْ ضَمِّ أَخِيهِ إِلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَيْهِمَا كَأَنَّهُ قَالَ: ارْتَدِعْ يَا مُوسَى عَنْ ذَلِكَ وَاذْهَبْ أَنْتَ وَمَنِ اسْتَدْعَيْتَهُ وَلَا تَخَفْ مِنَ الْقِبْطِ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ وَفِي هَذَا تَعْلِيلٌ لِلرَّدْعِ عَنِ الْخَوْفِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى «4» وَأَرَادَ بِذَلِكَ سُبْحَانَهُ تَقْوِيَةَ قُلُوبِهِمَا وَأَنَّهُ مُتَوَلٍّ لِحِفْظِهِمَا وَكَلَاءَتِهِمَا وَأَجْرَاهُمَا مَجْرَى الْجَمْعِ، فَقَالَ: «مَعَكُمْ» لكون الِاثْنَيْنِ أَقَلُّ الْجَمْعِ، عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَرَادَ مُوسَى، وَهَارُونَ، وَمَنْ أُرْسِلَا إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هنا: مع بني إسرائيل، ومعكم، ومستمعون: خبران لأنّ، أو الخبر مستمعون، ومعكم مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْمَعِيَّةِ مِنَ الْمَجَازِ: لِأَنَّ الْمُصَاحِبَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، فالمراد معية النصرة والمعونةأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَوَحَّدَ الرَّسُولُ هُنَا وَلَمْ يُثَنِّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ «5» لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى رِسَالَةٍ، وَالْمَصْدَرُ يُوَحَّدُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُرْسَلِ، فَإِنَّهُ يُثَنَّى مَعَ الْمُثَنَّى، وَيُجْمَعُ مَعَ الْجَمْعِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَسُولُ بِمَعْنَى رِسَالَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: إِنَّا ذَوَا رِسَالَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ألا أبلغ بني عمرو رسولا ... فإنّي عن فتاحتكم غني
__________
(1) . آل عمران: 12. [.....]
(2) . طه: 29.
(3) . القصص: 34.
(4) . طه: 46.
(5) . طه: 47.(4/111)
أَيْ: رِسَالَةً. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَلَا مَنْ مُبَلِّغٌ عَنِّي خُفَافًا ... رَسُولًا بَيْتُ أَهْلِكِ مُنْتَهَاهَا
أَيْ: رِسَالَةً. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بِمَعْنَى: الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، تَقُولُ الْعَرَبُ:
هَذَا رَسُولِي وَوَكِيلِي، وَهَذَانِ رَسُولِي وَوَكِيلِي، وَهَؤُلَاءِ رَسُولِي وَوَكِيلِي، وَمِنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا رَسُولُ ربّ العالمين، وقيل: إنهما لما كان متعاضدين متساندين في الرسالة، كانا بمنزلة رسول واحد. وأَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُفَسِّرَةٌ لِتَضَمُّنِ الْإِرْسَالِ الْمَفْهُومِ مِنَ الرَّسُولِ مَعْنَى الْقَوْلِ قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أَيْ: قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى بَعْدَ أَنْ أَتَيَاهُ وَقَالَا لَهُ مَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ بِهِ، وَمَعْنَى «فِينَا» أَيْ: فِي حِجْرِنَا وَمَنَازِلِنَا، أَرَادَ بِذَلِكَ الْمَنَّ عَلَيْهِ، وَالِاحْتِقَارَ لَهُ، أَيْ: رَبَّيْنَاكَ لَدَيْنَا صَغِيرًا، وَلَمْ نَقْتُلْكَ فِيمَنْ قَتَلْنَا مِنَ الْأَطْفَالِ وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ فَمَتَى كَانَ هَذَا الَّذِي تَدَّعِيهِ؟ قِيلَ: لَبِثَ فِيهِمْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثم قرّره بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ فَقَالَ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ الْفَعْلَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ: الْمَرَّةُ مِنَ الْفِعْلِ، وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ فَعْلَتَكَ بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَالْفَتْحُ: أَوْلَى، لِأَنَّهَا لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا لِلنَّوْعِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا عَدَّدَ عَلَيْهِ النِّعَمَ ذَكَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَأَرَادَ بِالْفِعْلِ قَتْلَ الْقِبْطِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أَيْ: مِنَ الْكَافِرِينَ لِلنِّعْمَةِ حَيْثُ قَتَلْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِي، وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنَ الْكَافِرِينَ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ إِلَهٌ، وَقِيلَ: مِنَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ فِي زَعْمِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أَيْ: قَالَ مُوسَى مُجِيبًا لِفِرْعَوْنَ: فَعَلْتُ هَذِهِ الْفَعْلَةَ الَّتِي ذَكَرْتَ، وَهِيَ قَتْلُ الْقِبْطِيِّ وَأَنَا إِذْ ذَاكَ مِنَ الضَّالِّينَ: أَيِ: الْجَاهِلِينَ، فَنَفَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ نَفْسِهِ الْكُفْرَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْجَهْلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى:
مِنَ الْجَاهِلِينَ أَنَّ تِلْكَ الْوَكْزَةَ تَبْلُغُ الْقَتْلَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنَ النَّاسِينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ أَيْ:
خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِكُمْ إِلَى مِدْيَنَ كَمَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أَيْ: نُبُوَّةً، أَوْ عِلْمًا وَفَهْمًا.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ تَعْلِيمُهُ التَّوْرَاةَ الَّتِي فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْ مُوسَى عَلَى جِهَةِ الْإِقْرَارِ بِالنِّعْمَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: نَعَمْ تِلْكَ التَّرْبِيَةُ نِعْمَةٌ تَمُنُّ بِهَا عَلَيَّ، وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ رِسَالَتِي، وَبِهَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ مُوسَى عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ، أَيْ: أَتَمُنُّ عَلَيَّ بِأَنْ رَبَّيْتَنِي وَلِيدًا، وَأَنْتَ قَدِ اسْتَعْبَدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتَلْتَهُمْ وَهُمْ قَوْمِي؟.
قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُفَسِّرُونَ أَخْرَجُوا هَذَا عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ بِأَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ فِرْعَوْنُ نِعْمَةً عَلَى مُوسَى، وَاللَّفْظُ لَفْظُ خَبَرٍ، وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِلْمُخَاطَبِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ لَا تَقْتُلُ أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَكَانَتْ أُمِّي مُسْتَغْنِيَةً عَنْ قَذْفِي فِي الْيَمِّ، فَكَأَنَّكَ تَمُنُّ عَلَيَّ مَا كَانَ بَلَاؤُكَ سَبَبًا لَهُ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ الْأَزْهَرِيُّ بِأَبْسَطَ مِنْهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ:
يَقُولُ التَّرْبِيَةُ كَانَتْ بِالسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرْتَ مِنَ التَّعْبِيدِ، أَيْ: تَرْبِيَتُكَ إِيَّايَ كَانَتْ لِأَجْلِ التَّمَلُّكِ وَالْقَهْرِ لِقَوْمِي.
وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرَ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ: أَوَ تِلْكَ نِعْمَةٌ؟ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَأَنْكَرَهُ النَّحَّاسُ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْكَلَامَ إِنْكَارٌ قَالَ مَعْنَاهُ: أَوَ تِلْكَ نِعْمَةٌ؟ وَمَعْنَى أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: اتخذتهم عبيدا،(4/112)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
يُقَالُ: عَبَّدْتُهُ وَأَعْبَدْتُهُ بِمَعْنًى. كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بَدَلٌ مِنْ نِعْمَةٍ، وَالْجَرُّ بِإِضْمَارِ الْبَاءِ، وَالنَّصْبُ بِحَذْفِهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ قَالَ: ذَلِيلِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ قَالَ: قَتْلُ النَّفْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قَالَ: لِلنِّعْمَةِ، إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ لِيَعْلَمَ مَا الْكُفْرُ؟ وَفِي قَوْلِهِ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ قَالَ: مِنَ الْجَاهِلِينَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: قَهَرْتَهُمْ، وَاسْتَعْمَلْتَهُمْ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 51]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
لَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ قَوْلَ مُوسَى وَهَارُونَ: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
قَالَ مُسْتَفْسِرًا لَهُمَا عَنْ ذَلِكَ، عَازِمًا عَلَى الِاعْتِرَاضِ لِمَا قَالَاهُ، فَقَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ جَاءَ فِي الِاسْتِفْهَامِ بِمَا الَّتِي يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنِ الْمَجْهُولِ، وَيُطْلَبُ بِهَا تَعْيِينُ الْجِنْسِ، فَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ قالَ مُوسَى رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا فَعَيَّنَ لَهُ مَا أَرَادَ بِالْعَالَمِينَ، وَتَرَكَ جَوَابَ مَا سَأَلَ عَنْهُ فِرْعَوْنُ، لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ جِنْسِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا جِنْسَ لَهُ، فَأَجَابَهُ مُوسَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تَتَّضِحُ لِكُلِّ سَامِعٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الرَّبُّ وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهَذَا أَوْلَى بِالْإِيقَانِ قالَ فِرْعَوْنُ(4/113)
لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ أَيْ: لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْأَشْرَافِ، أَلَا تَسْتَمِعُونَ مَا قَالَهُ، يَعْنِي: مُوسَى مُعَجِّبًا لَهُمْ مِنْ ضَعْفِ الْمَقَالَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَسْمَعُونَ وَتَعْجَبُونَ، وَهَذَا مِنَ اللَّعِينِ مُغَالَطَةٌ، لَمَّا لَمْ يَجِدْ جَوَابًا عَنِ الْحُجَّةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا عَلَيْهِ مُوسَى، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى مَا قال فرعون، أو رد عَلَيْهِ حَجَّةً أُخْرَى، هِيَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ الْحُجَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِينَ لَهُ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَأَوْضَحَ لَهُمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ مَرْبُوبٌ لَا رَبٌّ كَمَا يَدَّعِيهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الرَّبَّ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ آبَاءَكُمُ الْأَوَّلِينَ وَخَلَقَكُمْ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَنْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْكُمْ، مَخْلُوقٌ كَخَلْقِكُمْ، وَلَهُ آبَاءٌ قَدْ فَنَوْا كَآبَائِكُمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ فِرْعَوْنُ عِنْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ، بَلْ جَاءَ بِمَا يُشَكِّكُ قَوْمَهُ وَيُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مُوسَى مِمَّا لَا يَقُولُهُ الْعُقَلَاءُ، فَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَاصِدًا بِذَلِكَ الْمُغَالَطَةَ، وَإِيقَاعَهُمْ فِي الْحَيْرَةِ، مُظْهِرًا أَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِمَا قَالَهُ مُوسَى، مستهزىء بِهِ، فَأَجَابَهُ مُوسَى عِنْدَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ تَكْمِيلٌ لِجَوَابِهِ الْأَوَّلِ، فَ قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما وَلَمْ يَشْتَغِلْ مُوسَى بِدَفْعِ مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنُونِ، بَلْ بَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ شُمُولَ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ رُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، لَكِنْ فيه تصريح بإسناد حركات السموات وَمَا فِيهَا، وَتَغْيِيرِ أَحْوَالِهَا وَأَوْضَاعِهَا، تَارَةً بِالنُّورِ، وَتَارَةً بِالظُّلْمَةِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَثْنِيَةِ الضَّمِيرِ في وَما بَيْنَهُما الأوّل لجنسي السموات وَالْأَرْضِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَنَقَّلْتُ فِي أَشْرَفِ التَّنَقُّلِ ... بَيْنَ رِمَاحَيْ نَهْشَلٍ وَمَالِكٍ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ، أَيْ: إِنْ كُنْتَ يَا فِرْعَوْنُ، وَمِنْ مَعَكَ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَرَفْتَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا جَوَابَ لِسُؤَالِكَ إِلَّا مَا ذَكَرْتُ لَكَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّعِينَ لَمَّا انْقَطَعَ عَنِ الْحُجَّةِ رَجَعَ إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّغَلُّبِ، فَ قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أَيْ: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ أَهْلِ السِّجْنِ، وَكَانَ سِجْنُ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ إِذَا سَجَنَ أَحَدًا لَمْ يُخْرِجْهُ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ لَاطَفَهُ طَمَعًا فِي إِجَابَتِهِ وَإِرْخَاءً لِعِنَانِ الْمُنَاظَرَةِ مَعَهُ، مُرِيدًا لِقَهْرِهِ بِالْحُجَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي بَابِ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ، فَعَرَضَ لَهُ عَلَى وَجْهٍ يُلْجِئُهُ إِلَى طَلَبِ الْمُعْجِزَةِ فَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أَيْ: أَتَجْعَلُنِي مِنَ الْمَسْجُونِينَ، وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ يَتَبَيَّنُ بِهِ صِدْقِي، وَيَظْهَرُ عِنْدَهُ صِحَّةُ دَعْوَايَ، وَالْهَمْزَةُ: هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْوَاوُ: لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا مَرَّ مِرَارًا، فَلَمَّا سمع فرعون ذلك طلب ما عرضه مُوسَى فَ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَاكَ، وَهَذَا الشَّرْطُ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَبْرَزَ مُوسَى الْمُعْجِزَةَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَاشْتِقَاقُ الثُّعْبَانِ مِنْ ثَعَبْتُ الْمَاءَ فِي الْأَرْضِ فَانْثَعَبَ: أَيْ فَجَّرْتُهُ فَانْفَجَرَ، وَقَدْ عَبَّرَ سُبْحَانَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَكَانَ الثُّعْبَانِ: بِالْحَيَّةِ بِقَوْلِهِ فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى «1» وفي موضع: بالجانّ، فقال: كَأَنَّها جَانٌّ «2» وَالْجَانُّ: هُوَ الْمَائِلُ إِلَى الصِّغَرِ، وَالثُّعْبَانُ: هُوَ المائل إلى الكبر، والحية: جنس يشمل
__________
(1) . طه: 20.
(2) . النمل: 10.(4/114)
الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ، وَمَعْنَى فَماذا تَأْمُرُونَ مَا رَأْيُكُمْ فِيهِ، وَمَا مَشُورَتُكُمْ فِي مِثْلِهِ؟ فَأَظْهَرَ لَهُمُ الْمَيْلَ إِلَى مَا يَقُولُونَهُ تَأْلُّفًا لَهُمْ، وَاسْتِجْلَابًا لِمَوَدَّتِهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ أَشْرَفَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى الزَّوَالِ، وَقَارَبَ مَا كَانَ يُغَرِّرُ بِهِ عَلَيْهِمُ الِاضْمِحْلَالَ، وَإِلَّا فَهُوَ أَكْبَرُ تِيهًا، وَأَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ الْمُشْعِرَةِ بِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، وَوَاحِدٌ مِنْهُمْ، مَعَ كَوْنِهِ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ يَدَّعِي أَنَّهُ إِلَهُهُمْ، وَيُذْعِنُونَ لَهُ بِذَلِكَ وَيُصَدِّقُونَهُ فِي دَعْوَاهُ، وَمَعْنَى أَرْجِهْ وَأَخاهُ أَخِّرْ أَمْرَهُمَا، مِنْ أَرْجَأْتُهُ إِذَا أَخَّرْتُهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى احْبِسْهُمَا وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ وَهُمُ الشُّرَطُ الَّذِينَ يَحْشُرُونَ النَّاسَ، أَيْ: يَجْمَعُونَهُمْ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ هَذَا مَا أَشَارُوا بِهِ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّحَّارِ الْعَلِيمِ: الْفَائِقُ فِي مَعْرِفَةِ السِّحْرِ وَصَنْعَتِهِ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ هُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ «1» وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ حَثًّا لَهُمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لِيُشَاهِدُوا مَا يَكُونُ مِنْ مُوسَى والسحرة ولمن تكون الغلبة، وكان ذَلِكَ ثِقَةٌ مِنْ فِرْعَوْنَ بِالظُّهُورِ وَطَلَبًا أَنْ يَكُونَ بِمَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يُؤْمِنَ بِمُوسَى أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنْ مُوسَى الْمَوْقِعَ الَّذِي يُرِيدُهُ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ: هِيَ الْغَالِبَةُ، وَحُجَّةَ الْكَافِرِينَ: هِيَ الدَّاحِضَةُ، وَفِي ظُهُورِ حُجَّةِ اللَّهِ بِمَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ، زِيَادَةٌ فِي الِاسْتِظْهَارِ لِلْمُحِقِّينَ، وَالِانْقِهَارِ لِلْمُبْطِلِينَ، وَمَعْنَى لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ نَتَّبِعُهُمْ فِي دِينِهِمْ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ وَالْمُرَادُ بِاتِّبَاعِ السَّحَرَةِ فِي دِينِهِمْ: هُوَ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ دِينُ السَّحَرَةِ إِذْ ذَاكَ، وَالْمَقْصُودُ الْمُخَالَفَةُ لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُوسَى، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ السَّحَرَةُ مِنْ مُوسَى الْجَزَاءَ عَلَى مَا سَيَفْعَلُونَهُ ف قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً أَيْ: لَجَزَاءً تَجْزِينَا بِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ، وَقِيلَ: أَرَادُوا إِنَّ لَنَا ثَوَابًا عَظِيمًا، ثُمَّ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِظُهُورِ غَلَبَتِهِمْ لِمُوسَى، فَقَالُوا: إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ فَوَافَقَهُمْ فرعون على ذلك وقالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ: نَعَمْ لَكُمْ ذَلِكَ عِنْدِي مَعَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَهِيَ كَوْنُكُمْ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ لَدَيَّ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ وَفِي آيَةٍ أُخْرَى قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ «2» فيحمل ماهنا عَلَى أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا بَعْدَ أَنْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرًا لَهُمْ بِفِعْلِ السِّحْرِ، بَلْ أَرَادَ أَنْ يَقْهَرَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَيْسَ هُوَ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي أَرَادُوا مُعَارَضَتَهُ بِهِ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا عِنْدَ الْإِلْقَاءِ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُمْ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ قَسَمٌ، وَجَوَابُهُ: إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ، وَالثَّانِي: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالْبَاءُ: لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: نَغْلِبُ بِسَبَبِ عِزَّتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعِزَّةِ الْعَظَمَةُ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا مُسْتَوْفًى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَلْقَفُ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنِ الْإِفْكِ، بِإِخْرَاجِ الشَّيْءِ عن صورته الحقيقة فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أَيْ: لَمَّا شَاهَدُوا ذَلِكَ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ صُنْعُ صَانِعٍ حَكِيمٍ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ الْبَشَرِ، وَلَا مِنْ تَمْوِيهِ السَّحَرَةِ، آمَنُوا بِاللَّهِ، وَسَجَدُوا لَهُ وَأَجَابُوا دَعْوَةَ مُوسَى، وَقَبِلُوا نُبُوَّتَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى أُلْقِيَ، وَمَنْ فَاعِلُهُ لِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَعِنْدَ سُجُودِهِمْ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ رَبِّ مُوسَى عَطْفُ بَيَانٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَضَافُوهُ سُبْحَانَهُ إليهما لأنهما
__________
(1) . طه: 59.
(2) . الأعراف: 115.(4/115)
الْقَائِمَانِ بِالدَّعْوَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِفِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ، وَأَنَّ الرَّبَّ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ هَذَا، فَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَرَأَى سُجُودَهُمْ لِلَّهِ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أَيْ: بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنِّي، ثُمَّ قَالَ مُغَالِطًا لِلسَّحَرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمُوهِمًا لِلنَّاسِ أَنَّ فِعْلَ مُوسَى سِحْرٌ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ السِّحْرِ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَإِنَّمَا اعْتَرَفَ لَهُ بِكَوْنِهِ كَبِيرُهُمْ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يُحِبُّ الِاعْتِرَافَ بِشَيْءٍ يَرْتَفِعُ بِهِ شَأْنُ مُوسَى، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ، أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى أَبْهَرُ مِمَّا جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ، فَأَرَادَ أَنْ يُشَكِّكَ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي شَاهَدْتُمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَاقَ عَلَى مَا فَعَلَهُ هَؤُلَاءِ السَّحَرَةُ، فَهُوَ فِعْلُ كَبِيرِهِمْ، وَمَنْ هُوَ أُسْتَاذُهُمُ الَّذِي أَخَذُوا عَنْهُ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّهُ فِعْلٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّهُ مِنْ فِعْلِ الرَّبِّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ مُوسَى، ثُمَّ تَوَعَّدَ أُولَئِكَ السَّحَرَةَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ لِمَا قَهَرَتْهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ، فَقَالَ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَجْمَلَ التَّهْدِيدَ أَوَّلًا: لِلتَّهْوِيلِ، ثُمَّ فَصَّلَهُ فَقَالَ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أَيْ: لَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِيمَا يَلْحَقُنَا مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَزُولُ، وَنَنْقَلِبُ بَعْدَهُ إِلَى رَبِّنَا، فَيُعْطِينَا مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ مَا لَا يُحَدُّ، وَلَا يُوصَفُ. قَالَ الْهَرَوِيُّ:
لَا ضَيْرَ وَلَا ضَرَرَ وَلَا ضُرَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنْشَدَ أَبُو عبيدة:
فإنّك لا يضورك بَعْدَ حَوْلٍ ... أَظَبْيٌ كَانَ أُمَّكَ أَمْ حِمَارُ «1»
قال الجوهري: ضاره يضوره ضَيْرًا وَضُورًا: أَيْ ضَرَّهُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: لَا يَنْفَعُنِي ذَلِكَ وَلَا يَضُورُنِي إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا ثُمَّ عَلَّلُوا هَذَا بِقَوْلِهِمْ: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْبِ أَنْ، أَيْ: لِأَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ كَسْرَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مُجَازَاةً، وَمَعْنَى أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَوَّلَ مُؤْمِنِي زَمَانِهِمْ، وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ آمَنُ مَعَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَهُمُ الشِّرْذِمَةُ الْقَلِيلُونَ الَّذِينَ عَنَاهُمْ فِرْعَوْنُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ يَقُولُ: مُبِينٌ:
لَهُ خَلْقُ حَيَّةٍ وَنَزَعَ يَدَهُ يَقُولُ: وَأَخْرَجَ مُوسَى يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ تَلْمَعُ لِلنَّاظِرِينَ لِمَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَرَاهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ:
كَانُوا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. قَالَ: وَيُقَالُ بَلَغَ ذَنَبُ الْحَيَّةِ مِنْ وَرَاءِ الْبُحَيْرَةِ يَوْمَئِذٍ. قَالَ: وَهَرَبُوا وَأَسْلَمُوا فِرْعَوْنَ، وَهَمَّتْ بِهِ، فَقَالَ: خُذْهَا يَا مُوسَى، وَكَانَ مِمَّا بَلَى النَّاسَ بِهِ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَضَعُ عَلَى الْأَرْضِ شَيْئًا، أَيْ: يُوهِمُهُمْ أَنَّهُ لَا يُحْدِثُ فَأَحْدَثَ يَوْمَئِذٍ تَحْتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا ضَيْرَ قَالَ: يَقُولُونَ لَا يُضِيرُنَا الَّذِي تَقُولُ، وَإِنْ صَنَعْتَ بِنَا وَصَلَبْتَنَا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ يَقُولُونَ: إِنَّا إلى ربنا راجعون، وهو
__________
(1) . البيت لخداش بن زهير، ومعناه: لا تبالي بعد قيامك بنفسك واستغنائك عن أبويك من انتسبت إليه من شريف أو وضيع، وضرب المثل بالظبي أو الحمار.(4/116)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
مُجَازِينَا بِصَبْرِنَا عَلَى عُقُوبَتِكَ إِيَّانَا، وَثَبَاتِنَا عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْكُفْرِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا كَانُوا كَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ، من آمن بآياته حين رأوها.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
قَوْلُهُ: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا، وَسَمَّاهُمْ عِبَادَهُ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، أي: يتبعكم فرعون وقومه ليردّوكم، وفَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُ مَسِيرَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاشِرِينَ: الْجَامِعُونَ لِلْجَيْشِ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي فِيهَا أَتْبَاعُ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ لَدَيْهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ يُرِيدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالشِّرْذِمَةُ: الْجَمْعُ الْحَقِيرُ الْقَلِيلُ، وَالْجَمْعُ: شَرَاذِمُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشِّرْذِمَةُ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَثَوْبٌ شَرَاذِمُ: أَيْ قِطَعٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
جَاءَ الشِّتَاءُ وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منها النّوّاق «1»
قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ عُصْبَةٌ قَلِيلَةٌ وَقَلِيلُونَ، وَكَثِيرَةٌ وَكَثِيرُونَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الشِّرْذِمَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ النَّاسِ غير الكثير، وجمعها: الشراذم. قال المفسرون: وكان الشرذمة الذين قللهم سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَلَا يُحْصَى عَدَدُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ يُقَالُ: غَاظَنِي كَذَا وَأَغَاظَنِي، وَالْغَيْظُ: الْغَضَبُ، وَمِنْهُ: التَّغَيُّظُ وَالِاغْتِيَاظُ، أَيْ:
غَاظُونَا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مِنِّي وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ قرئ حذرون وحاذرون وحذرون بِضَمِّ الذَّالِ، حَكَى ذَلِكَ الْأَخْفَشُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَاذِرُ: الَّذِي يَحْذَرُكَ الْآنَ، وَالْحَذِرُ: الْمَخْلُوقُ كَذَلِكَ لَا تَلْقَاهُ إِلَّا حَذِرًا.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَاذِرُ: الْمُسْتَعِدُّ، وَالْحَذِرُ: الْمُتَيَقِّظُ، وَبِهِ قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ. قَالَ النَّحَّاسُ:
حَذِرُونَ قِرَاءَةُ الْمَدَنِيِّينَ، وأبي عمرو، وحاذرون: قراءة أهل الكوفة، قال: أبو عبيدة يذهب إلى مَعْنَى:
حَذِرُونَ وَحَاذِرُونَ وَاحِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
حَذِرٌ أُمُورًا لَا تُضِيرُ وَحَاذِرٌ ... ما ليس ينجيه من الأقدار
__________
(1) . النّوّاق: من الرجال الذي يروّض الأمور ويصلحها قاله في الصّحاح. وجاء في اللسان: «التّواق» وهو: ابنه.(4/117)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ يَعْنِي: فِرْعَوْنَ، وَقَوْمَهَ، أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَفِيهَا الْجَنَّاتُ، وَالْعُيُونُ، وَالْكُنُوزُ، وَهِيَ: جَمْعُ جَنَّةٍ، وَعَيْنٍ، وَكَنْزٍ، وَالْمُرَادُ بِالْكُنُوزِ:
الْخَزَائِنُ، وَقِيلَ: الدَّفَائِنُ، وَقِيلَ: الْأَنْهَارُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعُيُونَ الْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: عُيُونُ الْمَاءِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَقَامِ الْكَرِيمِ فَقِيلَ: الْمَنَازِلُ الْحِسَانُ، وَقِيلَ: الْمَنَابِرُ، وَقِيلَ: مَجَالِسُ الرُّؤَسَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقِيلَ: مَرَابِطُ الْخَيْلِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وجوههم ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَيْ: أَخْرَجْنَاهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي وَصَفْنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ، أَيْ: مَقَامٌ كَرِيمٌ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَمَعْنَى وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ:
جَعَلْنَاهَا مِلْكًا لَهُمْ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى فَأَخْرَجْنَاهُمْ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْحَارِثُ الدِّينَارِيُّ بِوَصْلِهَا، وَتَشْدِيدِ التَّاءِ، أَيْ: فَلَحِقُوهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُشْرِقِينَ، أَيْ:
دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الشُّرُوقِ. يُقَالُ شَرِقَتِ الشَّمْسُ شُرُوقًا. إِذَا طَلَعَتْ كَأَصْبَحَ وَأَمْسَى أَيْ: دَخَلَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَقِيلَ: دَاخِلِينَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، كَأَنْجَدَ، وَأَتْهَمَ، وَقِيلَ: مَعْنَى مُشْرِقِينَ: مُضِيئِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
يُقَالُ شَرِقَتِ الشَّمْسُ: إِذَا طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ: إِذَا أَضَاءَتْ فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قرأ الجمهور تَراءَا بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَالْمَعْنَى: تَقَابَلَا، بِحَيْثُ يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ صَاحِبَهُ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَقُرِئَ تَراءَتِ الْفِئَتانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أَيْ: سَيُدْرِكُنَا جَمْعُ فِرْعَوْنَ، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ اسْمُ مَفْعُولٍ مَنْ أَدْرَكَ، وَمِنْهُ حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ «1» وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ بِفَتْحِ الدَّالِ مُشَدَّدَةٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ كَذَلِكَ يَقُولُ النَّحْوِيُّونَ الْحُذَّاقُ، إِنَّمَا يَقُولُونَ مُدْرَكُونَ بِالتَّخْفِيفِ:
مُلْحَقُونَ وَبِالتَّشْدِيدِ مُجْتَهِدُونَ فِي لِحَاقِهِمْ. قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِنَّا لَمُتَتَابِعُونَ فِي الْهَلَاكِ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ قَالَ مُوسَى هَذِهِ الْمَقَالَةَ زَجْرًا لَهُمْ وَرَدْعًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَكُمْ، وَذَكَّرَهُمْ وَعَدَ اللَّهِ بِالْهِدَايَةِ وَالظَّفَرِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ مَعِيَ رَبِّي بِالنَّصْرِ وَالْهِدَايَةِ سَيَهْدِينِ، أَيْ: يَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، فَلَمَّا عَظُمَ الْبَلَاءُ عَلَى بني إسرائيل، ورأوا من الجيوش مالا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ لَمَّا قَالَ مُوسَى: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ، فَأَمَرَهُ بِضَرْبِ الْبَحْرِ، وَبِهِ نَجَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهَلَكَ عَدُوُّهُمْ، والفاء في فَانْفَلَقَ فصيحة، أي:
__________
(1) . يونس: 90.(4/118)
فَضَرَبَ، فَانْفَلَقَ، فَصَارَ اثَّنَيْ عَشَرَ فَلْقًا، بِعَدَدِ الْأَسْبَاطِ، وَقَامَ الْمَاءُ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ، وَعَنْ يَسَارِهِ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَالْفِرْقُ: الْقِطْعَةُ مِنَ البحر، وقريء فِلْقٍ بِلَامٍ بَدَلَ الرَّاءِ، وَالطَّوْدُ: الْجَبَلُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَبَيْنَا الْمَرْءُ فِي الْأَحْيَاءِ طَوْدٌ ... رَمَاهُ النَّاسُ عَنْ كَثَبٍ فَمَالَا
وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ:
حَلُّوا بِأَنْقَرَةَ يَسِيلُ عَلَيْهِمُ ... مَاءُ الْفُرَاتِ يَجِيءُ مِنْ أَطْوَادِ
وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أَيْ: قَرَّبْنَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، يَعْنِي: فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٍ سَلَفَتْ ... فِيهَا النُّفُوسُ إِلَى الْآجَالِ تَزْدَلِفُ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَزْلَفْنَا: جَمَعْنَا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّيْلَةِ المزدلفة: ليلة جمع، وثم: ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْبَعِيدِ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: وَأَزْلَفْنَا: قَرَبَّنَا مِنَ النَّجَاةِ، وَالْمُرَادُ بِالْآخَرِينَ: مُوسَى وَأَصْحَابَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَزَلَفْنَا ثُلَاثِيًّا، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ «وَأَزْلَقْنَا» بِالْقَافِ: أَيْ أَزْلَلْنَا وَأَهْلَكْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَزْلَقَتِ الْفَرَسُ إِذَا أَلْقَتْ وَلَدَهَا وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بِمُرُورِهِمْ فِي الْبَحْرِ، بَعْدَ أَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ طُرُقًا يَمْشُونَ فِيهَا ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يَعْنِي: فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ بِإِطْبَاقِ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أَنْ دَخَلُوا فِيهِ مُتَّبِعِينَ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا صَدَرَ بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَفِي ذَلِكَ آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقُدْرَةٌ بَاهِرَةٌ مِنْ أَدَلِّ الْعَلَامَاتِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ: مَا كَانَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَعَ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ فِيمَا بَعْدُ إِلَّا الْقَلِيلُ، كَحِزْقِيلَ وَابْنَتِهِ، وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَالْعَجُوزِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَكْثَرَ مَنْ كَانَ مَعَ فِرْعَوْنَ عِنْدَ لَحَاقِهِ بِمُوسَى، فَإِنَّهُمْ هَلَكُوا فِي الْبَحْرِ جَمِيعًا بَلِ الْمُرَادُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَصْلِ وَمَنْ كَانَ مُتَابِعًا لَهُ وَمُنْتَسِبًا إِلَيْهِ، هَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ: إِنَّ كانَ زَائِدَةٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَا سَمِعُوا الْمَوْعِظَةَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيِ: الْمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِهِ الرَّحِيمُ بِأَوْلِيَائِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ قَالَ: سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ أَصْحَابُ مُوسَى الَّذِينَ جَازُوا الْبَحْرَ اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا، فَكَانَ فِي كُلِّ طَرِيقٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا كُلُّهُمْ وَلَدُ يَعْقُوبَ» وَأَخْرُجُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا بِسَنَدٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَاهٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ فِرْعَوْنُ عَدُوُّ اللَّهِ، حَيْثُ أَغْرَقَهُ اللَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي سَبْعِينَ قَائِدًا، مَعَ كُلِّ قَائِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَكَانَ مُوسَى مَعَ سَبْعِينَ أَلْفًا، حَيْثُ عَبَرُوا(4/119)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
الْبَحْرَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ طَلَائِعُ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ فِي أَثَرِهِمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا عَلَى بَهِيمٍ.
وَأَقُولُ: هَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُضْطَرِبَةُ، قَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ مَا يُمَاثِلُهَا فِي الِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ قَالَ: الْمَنَابِرُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كَالطَّوْدِ قَالَ: كَالْجَبَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَزْلَفْنا قَالَ: قربنا. وأخرج الفريابي وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مُوسَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَضَلَّ الطَّرِيقَ، فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا أَنْ لَا نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ تَابُوتَهُ مَعَنَا، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَيُّكُمْ يَدْرِي أَيْنَ قَبْرُهُ؟ فَقَالُوا: مَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَكَانَ قَبْرِهِ إِلَّا عَجُوزٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مُوسَى فَقَالَ: دُلِّينَا عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي، قَالَ: وَمَا حُكْمُكِ؟ قَالَتْ: أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ ثَقُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: أَعْطِهَا حُكْمَهَا، فَأَعْطَاهَا حُكْمَهَا، فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةٍ مُسْتَنْقَعَةٍ مَاءً، فَقَالَتْ لَهُمْ: أَنْضِبُوا عَنْهَا الْمَاءَ. فَفَعَلُوا، قَالَتْ: احْفُرُوا، فَحَفَرُوا، فَاسْتَخْرَجُوا قَبْرَ يُوسُفَ، فَلَمَّا احْتَمَلُوهُ إِذَا الطَّرِيقُ مِثْلُ ضوء النهار» .
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 104]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88)
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98)
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
قَوْلُهُ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْعَامِلِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ بِنَبَأِ إِبْرَاهِيمَ: خَبَرُهُ، أَيِ: اقْصُصْ عَلَيْهِمْ يَا مُحَمَّدُ خَبَرَ إِبْرَاهِيمَ وَحَدِيثَهُ، وإِذْ قالَ مَنْصُوبٌ بِنَبَأِ إِبْرَاهِيمَ،(4/120)
أَيْ: وَقْتَ قَوْلِهِ: لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ وَقِيلَ: إِذْ بَدَلٌ مِنْ نَبَأٍ، بَدَلُ اشْتِمَالٍ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ:
اتْلُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى مَا تَعْبُدُونَ: أَيُّ شَيْءٍ تَعْبُدُونَ؟ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِلْزَامَهُمُ الْحُجَّةَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أَيْ: فنقيم على عبادتها مستمرين لَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، يُقَالُ ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا: إِذَا فَعَلَهُ نَهَارًا، وَبَاتَ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ لَيْلًا، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى عِبَادَتِهَا نَهَارًا، لَا لَيْلًا، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعُكُوفِ لَهَا: الْإِقَامَةُ عَلَى عِبَادَتِهَا، وَإِنَّمَا قَالَ لَهَا لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْعُكُوفَ لِأَجْلِهَا، فَلَمَّا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ مُنَبِّهًا عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ قَالَ الْأَخْفَشُ: فِيهِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: هَلْ يَسْمَعُونَ مِنْكُمْ، أَوْ هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ: هَلْ يُسْمِعُونَكُمْ أَصْوَاتَهُمْ وَقْتَ دُعَائِكُمْ لَهُمْ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ أَوْ يَضُرُّونَ أَيْ: يَضُرُّونَكُمْ إِذَا تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُمْ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ لَا تَسْمَعُ، وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَضُرُّ، فَلَا وَجْهَ لِعِبَادَتِهَا، فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ هِيَ كَذَلِكَ أَقَرُّوا بِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهَا مِنْ بَابِ اللَّعِبِ وَالْعَبَثِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الْخَلِيلُ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْبَاهِرَةَ، لَمْ يَجِدُوا لَهَا جَوَابًا إِلَّا رُجُوعَهُمْ إِلَى التَّقْلِيدِ الْبَحْتِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، أَيْ: يَفْعَلُونَ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ لِهَذِهِ الْأَصْنَامِ، مَعَ كَوْنِهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ: سَلْبُ السَّمْعِ، والنفع، والضر عنها، وهذا الجواب هو العصي الَّتِي يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا كُلُّ عَاجِزٍ، وَيَمْشِي بِهَا كُلُّ أَعْرَجَ، وَيَغْتَرُّ بِهَا كُلُّ مَغْرُورٍ، وَيَنْخَدِعُ لَهَا كُلُّ مَخْدُوعٍ فَإِنَّكَ لَوْ سَأَلْتَ الْآنَ هَذِهِ الْمُقَلِّدَةَ لِلرِّجَالِ الَّتِي طَبَّقَتِ الْأَرْضَ بِطُولِهَا وَالْعَرْضِ، وَقُلْتَ لَهُمْ: مَا الْحُجَّةُ لَهُمْ عَلَى تَقْلِيدِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَخْذِ بِكُلِّ مَا يَقُولُهُ فِي الدِّينِ، وَيَبْتَدِعُهُ مِنَ الرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلدَّلِيلِ، لَمْ يَجِدُوا غَيْرَ هَذَا الْجَوَابِ وَلَا فَاهُوا بِسِوَاهُ، وَأَخَذُوا يُعَدِّدُونَ عَلَيْكَ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى تَقْلِيدِ هَذَا مِنْ سَلَفِهِمْ، وَاقْتِدَاءٍ بأقواله وأفعاله وهم قد ملؤوا صُدُورَهُمْ هَيْبَةً، وَضَاقَتْ أَذْهَانُهُمْ عَنْ تَصَوُّرِهِمْ، وَظَنُّوا أنهم خير أهل الأرض وأعلمهم وأورعهم، فَلَمْ يَسْمَعُوا لِنَاصِحٍ نُصْحًا وَلَا لِدَاعٍ إِلَى الْحَقِّ دُعَاءً، وَلَوْ فَطَنُوا لَوَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي غُرُورٍ عَظِيمٍ، وَجَهْلٍ شَنِيعٍ، وَإِنَّهُمْ كَالْبَهِيمَةِ الْعَمْيَاءِ، وأولئك الأسلاف كالعمي الذين يقودون البهائم العمي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَبَهِيمَةٍ عَمْيَاءَ قَادَ زِمَامَهَا ... أَعْمَى عَلَى عِوَجِ الطّريق الجائر
فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَامِلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْمُبَرَّأِ مِنَ التَّعَصُّبِ، وَالتَّعَسُّفِ، أَنْ تُورِدَ عَلَيْهِمْ حُجَجَ اللَّهِ، وَتُقِيمَ عَلَيْهِمْ بَرَاهِينَهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا انْقَادَ لَكَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَحْكِمْ دَاءُ التَّقْلِيدِ فِي قَلْبِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَدِ اسْتَحْكَمَ فِي قَلْبِهِ هَذَا الدَّاءُ، فَلَوْ أَوْرَدْتَ عَلَيْهِ كُلَّ حُجَّةٍ، وَأَقَمْتَ عَلَيْهِ كُلَّ بُرْهَانٍ، لَمَا أَعَارَكَ إِلَّا أُذُنًا صَمَّاءَ، وَعَيْنًا عَمْيَاءَ، وَلَكِنَّكَ قَدْ قُمْتَ بِوَاجِبِ الْبَيَانِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، وَالْهِدَايَةُ بِيَدِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» وَلَمَّا قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قالَ الْخَلِيلُ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ أَيْ: فَهَلْ أَبْصَرْتُمْ وَتَفَكَّرْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ، وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَضُرُّ، حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ وَجَهَالَةٍ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ هذه الأصنام التي يعبدونها.
__________
(1) . القصص: 56.(4/121)
فَقَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ عَدُوًّا لَهُ مَعَ كَوْنِهِمْ جَمَادًا أَنَّهُ إِنْ عَبَدَهُمْ كَانُوا لَهُ عَدُوًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ: فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ لِأَنَّ مَنْ عَادَيْتَهُ عَادَاكَ، وَالْعَدُوُّ كَالصَّدِيقِ، يُطْلَقُ على الواحد، والمثنى، والجماعة المذكر وَالْمُؤَنَّثِ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: مَنْ قَالَ عَدُوَّةُ اللَّهِ فَأَثْبَتَ الْهَاءَ، قَالَ: هِيَ بِمَعْنَى الْمُعَادِيَةِ، وَمَنْ قَالَ عَدُوٌّ للمؤنث والجمع بِمَعْنَى النَّسَبِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي آبَاؤُهُمُ الْأَقْدَمُونَ، لِأَجْلِ عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ، وَرَدَّ بِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ فِيمَا عَبَدُوهُ لَا فِي الْعَابِدِينَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ الْأَصْنَامَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِمَّا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ.
قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: تَقْدِيرُهُ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي، فَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَجَعَلَ إِلَّا بِمَعْنَى: دُونَ، وَسِوَى كَقَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «1» أَيْ: دُونَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ عَبَدَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ وَصَفَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أَيْ: فَهُوَ يُرْشِدُنِي إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوْصُولَ مُبْتَدَأٌ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ بَدَلًا مِنْ رَبِّ، وَأَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي، أَوْ أَمْدَحُ، وَقَدْ وَصَفَ الْخَلِيلُ رَبَّهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِأَجْلِهِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ، وَالْهِدَايَةَ، وَالرِّزْقَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَدَفْعُ ضُرِّ الْمَرَضِ، وَجَلْبُ نَفْعِ الشِّفَاءِ، وَالْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ، وَالْمَغْفِرَةُ لِلذَّنْبِ، كُلُّهَا نِعَمٌ يَجِبُ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِبَعْضِهَا، فَضْلًا عَنْ كُلِّهَا أَنْ يَشْكُرَ الْمُنْعِمَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الشُّكْرِ الَّتِي أَعْلَاهَا وَأَوْلَاهَا الْعِبَادَةُ، وَدُخُولُ هَذِهِ الضَّمَائِرِ فِي صُدُورِ هَذِهِ الْجُمَلِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَسْنَدَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ رِعَايَةً لِلْأَدَبِ مَعَ الرَّبِّ، وَإِلَّا فَالْمَرَضُ وَغَيْرُهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُحْيِينِ الْبَعْثُ، وَحَذْفُ الْيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لكونها رؤوس الْآيِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ هَضْمًا لِنَفْسِهِ، وَقِيلَ:
إِنَّ الطَّمَعَ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ فِي حَقِّهِ، وَبِمَعْنَى الرَّجَاءِ فِي حَقِّ سِوَاهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «خَطَايَايَ» قَالَا: لَيْسَتْ خَطِيئَتُهُ وَاحِدَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: خَطِيئَةٌ بِمَعْنَى خَطَايَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قال مجاهد: يعني بخطيئة قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا «2» ، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ «3» ، وَقَوْلُهُ إِنَّ سَارَةَ أُخْتُهُ، زَادَ الْحَسَنُ: وَقَوْلَهُ للكوكب هذا رَبِّي «4» وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْخَطَايَا بِمَا فَسَّرَهَا بِهِ مُجَاهِدٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَنْبِيَاءُ بَشَرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ عَلَيْهِمُ الْخَطِيئَةُ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا تَكُونُ مِنْهُمُ الْكَبِيرَةُ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ لِلْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْخَطَايَا بِمَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ وَمَنْ مَعَهُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ تِلْكَ مَعَارِيضُ، وَهِيَ أَيْضًا إِنَّمَا صَدَرَتْ عَنْهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَاوَلَةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ. ثُمَّ لَمَّا فرغ الخليل من الثناء
__________
(1) . الدخان: 56.
(2) . الأنبياء: 63. [.....]
(3) . الصافات: 89.
(4) . الأنعام: 76.(4/122)
عَلَى رَبِّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ عَقَّبَهُ بِالدُّعَاءِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ: الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ، وَقِيلَ: الْمَعْرِفَةُ بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ إِلَى آخِرِهِ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يَعْنِي: بِالنَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِي، وَقِيلَ: بِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أَيِ:
اجْعَلْ لِي ثَنَاءً حَسَنًا فِي الْآخِرِينَ، الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدِي إِلَى يوم القيامة. قال القتبي: وُضِعَ اللِّسَانُ مَوْضِعَ الْقَوْلِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. لِأَنَّ الْقَوْلَ يَكُونُ بِهِ، وَقَدْ تُكَنِّي الْعَرَبُ بِهَا عَنِ الْكَلِمَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
إِنِّي أَتَتْنِي لِسَانٌ لَا أُسِرُّ بِهَا «1»
وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ سبحانه إبراهيم ذلك بقوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ «2» فَإِنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَتَمَسَّكُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: قِيلَ مَعْنَى سُؤَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ، فَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَرَادَ الدُّعَاءَ الْحَسَنَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا أَيْضًا، فَإِنَّ لِسَانَ الصِّدْقِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ مِنْ وَرَثَةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ، هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، أَيْ: وَارِثًا مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، لَمَّا طَلَبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدَّعْوَةِ الْأُولَى سَعَادَةَ الدُّنْيَا، طَلَبَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ، وَهِيَ جَنَّةُ النَّعِيمِ، وَجَعَلَهَا مِمَّا يُورَثُ، تَشْبِيهًا لِغَنِيمَةِ الْآخِرَةِ بغنيمة الدنيا، وقد تقدّم تفسير مَعْنَى الْوِرَاثَةِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ كَانَ أَبُوهُ قَدْ وعد أَنَّهُ يُؤَمِنُ بِهِ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَسُورَةِ مَرْيَمَ، وَمَعْنَى «مِنَ الضَّالِّينَ» مِنَ الْمُشْرِكِينَ الضالين عن طريق الهداية، وكان زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أَيْ: لا تفضحني على رؤوس الْأَشْهَادِ بِمُعَاتَبَتِي، أَوْ لَا تُعَذِّبْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ لَا تُخْزِنِي بِتَعْذِيبِ أَبِي، أَوْ بِبَعْثِهِ فِي جُمْلَةِ الضَّالِّينَ.
وَالْإِخْزَاءُ يُطْلَقُ عَلَى الْخِزْيِ: وهو الهوان، وعلى الخزاية، وهي الحياء، ويَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ يَبْعَثُونَ، أَيْ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ فِيهِ الْمَالُ وَالْبَنُونَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَالِابْنُ: هُوَ أَخَصُّ الْقَرَابَةِ، وَأَوْلَاهُمْ بِالْحِمَايَةِ، وَالدَّفْعِ، وَالنَّفْعِ، فَإِذَا لَمْ يَنْفَعْ، فَغَيْرُهُ مِنَ الْقُرَابَةِ وَالْأَعْوَانِ بِالْأَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قِيلَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِلَّا حَالَ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، فَقَدَّرَ مُضَافًا مَحْذُوفًا.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ بَدَلٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، إِذِ التَّقْدِيرُ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ فَاعِلِ يَنْفَعُ، فَيَكُونُ مَرْفُوعًا. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِلَّا مَالُ مَنْ أَوْ بَنُو مَنْ فَإِنَّهُ يَنْفَعُ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْقَلْبِ السَّلِيمِ، فَقِيلَ: السَّلِيمُ مِنَ الشِّرْكِ، فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ يَسْلَمُ منها أحد، قاله
__________
(1) . وعجز البيت: من علو لا عجب منها ولا سخر.
(2) . الصافات: 78.(4/123)
أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ: الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، لِأَنَّ قَلْبَ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مَرِيضٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَلْبُ الْخَالِي عَنِ الْبِدْعَةِ الْمُطْمَئِنُّ إِلَى السُّنَةِ، وَقِيلَ: السَّالِمُ مِنْ آفَةِ الْمَالِ، وَالْبَنِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: السَّلِيمُ: الْخَالِصُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: السَّلِيمُ فِي اللُّغَةِ: اللَّدِيغُ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قُلِبَ كَاللَّدِيغِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا تَحْرِيفٌ وَتَعْكِيسٌ لِمَعْنَى الْقُرْآنِ. قَالَ الرَّازِّيُّ: أَصَحُّ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: سَلَامَةُ النَّفْسِ عَنِ الْجَهْلِ، وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ: قُرِّبَتْ، وَأُدْنِيَتْ لَهُمْ لِيَدْخُلُوهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قُرْبُ دُخُولِهِمْ إِيَّاهَا وَنَظَرِهِمْ إِلَيْهَا وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أَيْ: جُعِلَتْ بَارِزَةً لَهُمْ، وَالْمُرَادُ بالغاوين: الكافرين، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا أُظْهِرَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا الْمُؤْمِنُونَ لِيَشْتَدَّ حُزْنُ الْكَافِرِينَ وَيَكْثُرَ سُرُورُ الْمُؤْمِنِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَالْأَنْدَادِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ فَيَدْفَعُونَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ أَوْ يَنْتَصِرُونَ بِدَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَهَذَا كُلُّهُ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ لَهُمْ، وَقَرَأَ مَالِكُ بن دينار «وبرّزت» بفتح الباء والراء مبنيا لِلْفَاعِلِ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ أَيْ: أُلْقُوا فِي جَهَنَّمَ هُمْ: يَعْنِي الْمَعْبُودِينَ وَالْغَاوُونَ. يَعْنِي الْعَابِدِينَ لَهُمْ. وَقِيلَ مَعْنَى كُبْكِبُوا: قُلِبُوا عَلَى رؤوسهم، وَقِيلَ: أُلْقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقِيلَ: جُمِعُوا، مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة قاله الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ كَوْكَبِ الشَّيْءِ:
أَيْ مُعْظَمُهُ، وَالْجَمَاعَةُ مِنَ الْخَيْلِ كَوْكَبٌ وَكَبْكَبَةٌ، وَقِيلَ: دُهْدِهُوا، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، وَأَصْلُهُ كُبِّبُوا بِبَاءَيْنِ، الْأُولَى مُشَدَّدَةٌ مِنْ حَرْفَيْنِ، فَأُبْدِلَ مِنَ الْبَاءِ الْوُسْطَى الْكَافُ. وَقَدْ رَجَّحَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْمَعْنَى: طَرْحُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَرَجَّحَ ابن قتيبة أن المعنى: القوا على رؤوسهم. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي كُبْكِبُوا لِقُرَيْشٍ، وَالْغَاوُونَ: الْآلِهَةُ، وَالْمُرَادُ بِجُنُودِ إِبْلِيسَ: شَيَاطِينُهُ الَّذِينَ يُغْوُونَ الْعِبَادَ، وَقِيلَ: ذُرِّيَّتُهُ وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يَدْعُو إِلَى عبادة الأصنام، وأَجْمَعُونَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ فِي كُبْكِبُوا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَجُمْلَةُ قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالُوا حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ، وَمَقُولُ الْقَوْلِ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَجُمْلَةُ: وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي جَهَنَّمَ مُخْتَصِمِينَ، وَ «إِنْ» فِي إِنْ كُنَّا: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فَارِقَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، أَيْ: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّ الشَّأْنَ كَوْنُنَا فِي ضَلَالٍ وَاضِحٍ ظَاهِرٍ، وَالْمُرَادُ بِالضَّلَالِ هُنَا: الْخَسَارُ، وَالتَّبَارُ، وَالْحَيْرَةُ عَنِ الْحَقِّ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، أَعْنِي إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ هُوَ كَوْنُهُمْ فِي الضَّلَالِ الْمُبِينِ. وَقِيلَ:
الْعَامِلُ هُوَ الضَّلَالُ، وَقِيلَ: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ضَلَلْنَا وَقْتَ تَسْوِيَتِنَا لَكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِنَّ «إِنْ» فِي إِنْ كُنَّا: نَافِيَةٌ وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: مَا كُنَّا إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يَشْفَعُونَ لَنَا مِنَ الْعَذَابِ كَمَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أَيْ: ذِي قَرَابَةٍ، وَالْحَمِيمُ: الْقَرِيبُ الَّذِي تَوَدُّهُ وَيَوَدُّكَ، وَوَحَّدَ الصَّدِيقَ لِمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَالْمُذَكَّرِ، وَالْمُؤَنَّثِ، وَالْحَمِيمُ: مَأْخُوذٌ مِنْ حَامَّةِ الرَّجُلِ، أَيْ: أَقْرِبَائِهِ، وَيُقَالُ: حَمَّ الشَّيْءُ وَأَحَمَّ: إِذَا قَرُبَ مِنْهُ، وَمِنْهُ الْحُمَّى لِأَنَّهُ يُقَرِّبُ مِنَ الْأَجَلِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَرِيبُ حَمِيمًا لِأَنَّهُ يَحْمَى لِغَضَبِ صَاحِبِهِ، فَجَعَلَهُ مَأْخُوذًا مِنَ الْحَمِيَّةِ، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(4/124)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
هَذَا مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ التَّمَنِّي، الدَّالِّ عَلَى كَمَالِ التَّحَسُّرِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: فَلَيْتَ لَنَا كَرَةً، أَيْ: رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا، وَجَوَابُ التَّمَنِّي: فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: نَصِيرَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ نَبَأِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْآيَةُ: الْعِبْرَةُ وَالْعَلَامَةُ، وَالتَّنْوِينُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَالتَّفْخِيمِ وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ: أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، وَهُمْ: قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ.
وَقِيلَ: وَمَا كَانَ أَكْثَرُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ بِمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيْ: هُوَ الْقَاهِرُ لِأَعْدَائِهِ الرَّحِيمُ بِأَوْلِيَائِهِ، أَوِ الرَّحِيمُ لِلْأَعْدَاءِ، بِتَأْخِيرِ عُقُوبَتِهِمْ، وَتَرْكِ مُعَاجَلَتِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يَعْنِي: بِأَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ قَالَ: اجْتِمَاعُ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا وَاغْفِرْ لِأَبِي قَالَ: امْنُنْ عَلَيْهِ بِتَوْبَةٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مُغْفِرَتَكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي. فيقول أبوه: فاليوم لا أعصينّك، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تَخِزِيَنِي يَوْمَ يَبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ» وَالذِّيخُ: هُوَ الذَّكَرُ مِنَ الضِّبَاعِ، فَكَأَنَّهُ حَوَّلَ آزَرَ إِلَى صُورَةِ ذِيخٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قَالَ:
شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَكُبْكِبُوا فِيها قَالَ: جُمِعُوا فِيهَا هُمْ وَالْغاوُونَ قَالَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَالْآلِهَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً قَالَ: رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى تَحِلَّ لَنَا الشفاعة كما حلت لهؤلاء.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 135]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)(4/125)
قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ أَنَّثَ الْفِعْلَ لِكَوْنِهِ مُسْنَدًا إِلَى قَوْمٍ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، أَوِ الْأُمَّةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ، وَأَوْقَعَ التَّكْذِيبَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا إِلَّا الرَّسُولَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا فَقَدْ كَذَّبَ الرُّسُلَ، لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ يَأْمُرُ بِتَصْدِيقِ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: كَذَّبُوا نُوحًا فِي الرِّسَالَةِ، وَكَذَّبُوهُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ مَجِيءِ الْمُرْسَلِينَ بَعْدَهُ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَيْ: أَخُوهُمْ مِنْ أَبِيهِمْ، لَا أَخُوهُمْ فِي الدِّينِ. وَقِيلَ: هِيَ أُخُوَّةُ الْمُجَانَسَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ، يُرِيدُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَلا تَتَّقُونَ أَيْ: أَلَا تَتَّقُونَ اللَّهَ بِتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَتُجِيبُونَ رَسُولَهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أَيْ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أَمِينٌ فِيمَا أُبَلِّغُكُمْ عَنْهُ، وَقِيلَ: أَمِينٌ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَمَانَتَهُ وَصِدْقَهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أَيِ: اجْعَلُوا طَاعَةَ اللَّهِ وِقَايَةً لَكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَأَطِيعُونِ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَتَرْكِ الشِّرْكِ، والقيام بفرائض الدين وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أَيْ: مَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَلَا أَطْمَعُ فِي ذَلِكَ مِنْكُمْ إِنْ أَجْرِيَ الَّذِي أَطْلُبُهُ وَأُرِيدُهُ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي: على الله، مَا أَجْرِي إِلَّا عَلَيْهِ، وَكَرَّرَ قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ فِي النُّفُوسِ، مَعَ كَوْنِهِ عَلَّقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَبَبٍ، وَهُوَ الْأَمَانَةُ فِي الْأَوَّلِ، وَقَطْعُ الطَّمَعِ فِي الثَّانِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي عُقُوقِي وَقَدْ رَبَّيْتُكَ صَغِيرًا، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي عقوقي، وقد علمتك كبيرا، وقدّم الْأَمْرُ بِتَقْوَى اللَّهِ عَلَى الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ، لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ عِلَّةٌ لِطَاعَتِهِ قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ الِاسْتِفْهَامُ: لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَنُؤْمِنُ لَكَ، وَالْحَالُ أَنَّ قَدِ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، وَهُمْ جَمْعُ أَرْذَلَ، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ: أَرْذَالٌ، وَالْأُنْثَى: رُذْلَى، وَهُمُ الْأَقَلُّونَ جَاهًا، وَمَالًا، وَالرَّذَالَةُ: الْخِسَّةُ والذلة، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم، أو لاتّضاع أَنْسَابُهُمْ. وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ الْخَسِيسَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هُودٍ. وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي «وأتباعك الْأَرْذَلُونَ» قَالَ النَّحَّاسُ:
وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ تَتْبَعُهَا الْأَسْمَاءُ كَثِيرًا. وَأَتْبَاعٌ: جَمْعُ تَابِعٍ، فَأَجَابَهُمْ نُوحٌ بِقَوْلِهِ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ كَانَ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَمَا عِلْمِي بعملهم، أَيْ: لَمْ أُكَلَّفِ الْعِلْمَ بِأَعْمَالِهِمْ، إِنَّمَا كُلِّفْتُ أَنْ أَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ، لَا بِالْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، وَالْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَكَأَنَّهُمْ أَشَارُوا بِقَوْلِهِمْ:
وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ إِلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَظَرٍ صَحِيحٍ فَأَجَابَهُمْ بِهَذَا. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنِّي لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَيَهْدِيهِمْ وَيُضِلُّكُمْ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أَيْ: مَا حِسَابُهُمْ، وَالتَّفْتِيشُ عَنْ ضَمَائِرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ إِلَّا عَلَى اللَّهِ لَوْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الشُّعُورِ وَالْفَهْمِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَشْعُرُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ ابن أبي عبلة وابن السميقع وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو زُرْعَةَ بِالتَّحْتِيَّةِ، كَأَنَّهُ تَرَكَ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ وَالْتَفَتَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالصِّنَاعَاتُ لَا تَضُرُّ فِي بَابِ الدِّيَانَاتِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا جَوَابٌ مِنْ نُوحٍ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِمْ مِنْ طَلَبِ الطَّرْدِ لَهُمْ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ: مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُوَضِّحٌ لِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهَا قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أَيْ: إِنْ لَمْ تَتْرُكْ عَيْبَ دِينِنَا وَسَبَّ آلِهَتِنَا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ بِالْحِجَارَةِ، وقيل: من(4/126)
الْمَشْتُومِينَ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَقْتُولِينَ، فَعَدَلُوا بَعْدَ تِلْكَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُوحٍ إِلَى التَّجَبُّرِ، وَالتَّوَعُّدِ، فَلَمَّا سَمِعَ نُوحٌ قَوْلَهُمْ هَذَا: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ أَيْ: أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِي، وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلِي وَلَا أَجَابُوا دُعَائِي فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً الْفَتْحُ: الْحُكْمُ، أَيِ: احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ حُكْمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْفَتْحِ وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا دَعَا رَبَّهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَالَ: فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أَيِ: السَّفِينَةِ الْمَمْلُوءَةِ، وَالشَّحْنُ: مَلْءُ السَّفِينَةِ بِالنَّاسِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْمَتَاعِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ أَيْ: ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدَ إِنْجَائِهِمُ الْبَاقِينَ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أَيْ: عَلَامَةً، وَعِبْرَةً عَظِيمَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ كَانَ زَائِدَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهَ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيِ: الْقَاهِرُ لِأَعْدَائِهِ، الرَّحِيمُ بِأَوْلِيَائِهِ كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ أَنَّثَ الْفِعْلَ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادِهِ إِلَى الْقَبِيلَةِ، لِأَنَّ عَادًا اسْمُ أَبِيهِمُ الْأَعْلَى. وَمَعْنَى تَكْذِيبِهِمُ الْمُرْسَلِينَ، مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يُكَذِّبُوا إِلَّا رَسُولًا وَاحِدًا، قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ قَرِيبًا إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِ نُوحٍ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ. أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ الرِّيعُ:
الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ جَمْعُ رِيعَةٍ، يُقَالُ كَمْ رِيعُ أَرْضِكَ؟ أَيْ: كَمِ ارْتِفَاعُهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّيعُ: الِارْتِفَاعُ جَمْعُ رِيعَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: الرِّيعُ الطَّرِيقُ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ. وَإِطْلَاقُ الرِّيعِ عَلَى مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذي الرمة:
طراق الخوافي مشرق فوق ريعة ... ندي لَيْلَةٍ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وَقِيلَ: الرِّيعُ الْجَبَلُ، وَاحِدُهُ: رِيعَةٌ، وَالْجَمْعُ: أَرْيَاعٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ الثَّنَيَّةُ الصَّغِيرَةُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ الْمَنْظَرَةُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّكُمْ تَبْنُونَ بِكُلِّ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ عَلَمًا تَعْبَثُونَ بِبُنْيَانِهِ، وَتَلْعَبُونَ بِالْمَارَّةِ، وَتَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، لِأَنَّكُمْ تُشْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ الْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ عَلَى الطَّرِيقِ فتؤذون المارة، وتسخرون منهم. وقال الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ عَبَثُ الْعَشَّارِينَ بِأَمْوَالِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
الرِّيعُ: الصَّوْمَعَةُ، وَالرِّيعُ: الْبُرْجُ يَكُونُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَالرِّيعُ: التَّلُّ الْعَالِي، وَفِي الرِّيعِ لُغَتَانِ كَسْرُ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ الْمَصَانِعُ: هِيَ الْأَبْنِيَةُ الَّتِي يَتَّخِذُهَا النَّاسُ مَنَازِلَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ بِنَاءٍ مُصَنَّعَةٍ مِنْهُ وَبِهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ، ومنه قول الشاعر:
تركنا ديارهم منهم قفارا ... وهدّمنا الْمَصَانِعَ وَالْبُرُوجَا
وَقِيلَ: هِيَ الْحُصُونُ الْمُشَيَّدَةُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهَا مَصَانِعُ الْمَاءِ الَّتِي تُجْعَلُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَاحِدَتُهَا مَصْنَعَةٌ وَمَصْنَعٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
بُلِينَا وَمَا تُبْلَى النُّجُومُ الطَّوَالِعُ ... وَتَبْقَى الْجِبَالُ بَعْدَنَا وَالْمَصَانِعُ
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا يَدُلُّ صَرِيحًا عَلَى مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَصْنُعَةُ بِضَمِّ النون الحوض(4/127)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
يُجَمَّعُ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرِ، وَالْمَصَانِعُ: الْحُصُونُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: الْمَصَانِعُ عِنْدَنَا بِلُغَةِ الْيَمَنِ: الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ.
وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ رَاجِينَ أَنْ تَخْلُدُوا، وَقِيلَ: إِنَّ لَعَلَّ هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ، أَيْ: هَلْ تَخْلُدُونَ، كَقَوْلِهِمْ لَعَلَّكَ تَشْتُمُنِي، أَيْ: هَلْ تشتمني. وقال الفراء: كيما تخلدوا: لا تَتَفَكَّرُونَ فِي الْمَوْتِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى:
كَأَنَّكُمْ بَاقُونَ مُخَلَّدُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَخْلُدُونَ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ بِالتَّشْدِيدِ. وَحَكَى النَّحَّاسُ أَنَّ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ «كَأَنَّكُمْ مُخَلَّدُونَ» وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «كَيْ تَخْلُدُوا» وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ الْبَطْشُ السَّطْوَةُ وَالْأَخْذُ بِالْعُنْفِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الْبَطْشُ الْعَسْفُ قَتْلًا بِالسَّيْفِ وَضَرْبًا بِالسَّوْطِ. وَالْمَعْنَى:
فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ظُلْمًا، وقيل: هو القتل على الغضب، قال الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: قِيلَ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذَا أَرَدْتُمُ الْبَطْشَ، لِئَلَّا يَتَّحِدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءَ، وَانْتِصَابُ جَبَّارِينَ: عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ، وَأَمَّا فِي الْحَقِّ، فَالْبَطْشُ بِالسَّوْطِ وَالسَّيْفِ جَائِزٌ. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظُّلْمِ، وَالْعُتُوِّ، وَالتَّمَرُّدِ، وَالتَّجَبُّرِ، أمرهم بالتقوى فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أَجْمَلَ التَّقْوَى ثُمَّ فَصَّلَهَا بِقَوْلِهِ:
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَأَعَادَ الْفِعْلَ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أَيْ: بَسَاتِينَ، وَأَنْهَارٍ، وَأَبْيَارٍ. ثُمَّ وَعَظَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنْ كَفَرْتُمْ وَأَصْرَرْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَلَمْ تَشْكُرُوا هَذِهِ النِّعَمَ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ الدُّنْيَوِيُّ وَالْأُخْرَوِيُّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ أَيْ: أَنُصَدِّقُكَ؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ: الْحَوَّاكُونَ «1» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَفَلَةُ النَّاسِ وَأَرَاذِلُهُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ قَالَ: الْمُمْتَلِئُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمَشْحُونُ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هُوَ الْمُوَقَّرُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ الْمُثْقَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا: بِكُلِّ رِيعٍ قَالَ: عَلَمًا تَعْبَثُونَ قَالَ: تَلْعَبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا بِكُلِّ رِيعٍ قَالَ:
شَرَفٌ. وَأَخْرَجُوا أَيْضًا عَنْهُ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ قَالَ: كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا جَبَّارِينَ قَالَ: أَقْوِيَاءُ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 159]
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
__________
(1) . جمع حائك وهو الخياط. وكان أتباع النبي نوح عليه السلام حاكة وحجّامين.(4/128)
أَيْ: وَعْظُكَ وَعَدَمُهُ سَواءٌ عِنْدَنَا لَا نُبَالِي بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى مَا تَقُولُهُ. وَقَدْ رَوَى الْعَبَّاسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَرَوَى بِشْرٌ عَنِ الْكِسَائِيِّ «أَوَعَظْتَ» بِإِدْغَامِ الظَّاءِ فِي التَّاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ حَرْفَ الظَّاءِ حَرْفُ إِطْبَاقٍ، إِنَّمَا يُدْغَمُ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ جِدًّا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ وَالْأَعْمَشِ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِظْهَارِ الظَّاءِ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ، وَدَعَوْتَنَا إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ: عَادَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا. وَقِيلَ المعنى: ما هذا الذي نحن عليه إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَعَادَتُهُمْ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: إِنَّ مَعْنَى خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: خُلُقُ الْأَوَّلِينَ عِنْدَ الْفَرَّاءُ بِمَعْنَى: عَادَةُ الْأَوَّلِينَ. وَحَكَى لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: خُلُقُ الْأَوَّلِينَ مَذْهَبُهُمْ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ. وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ. قَالَ: وَحَكَى لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ مَعْنَى: خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تَكْذِيبُهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالُوا مَا هَذَا الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ إِلَّا كَذِبُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ. قَالَ: وَالْخُلُقُ وَالِاخْتِلَاقُ الْكَذِبُ، وَمِنْهُ قوله: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً «1» قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ «خَلْقُ الْأَوَّلِينَ» بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ:
مَعْنَاهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: اخْتِلَاقُهُمْ وَكَذِبُهُمْ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: عَادَتُهُمْ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخُلُقُ: الدِّينُ، وَالْخُلُقُ: الطَّبْعُ، وَالْخُلُقُ: الْمُرُوءَةُ. وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهِيَ تَخْفِيفٌ لِقِرَاءَةِ الضَّمِّ لَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَا هَذَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ إِلَّا عَادَةُ الْأَوَّلِينَ وَفِعْلُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمْ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أَيْ: عَلَى مَا نَفْعَلُ مِنَ الْبَطْشِ وَنَحْوِهِ مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ الْآنَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ أَيْ: بِالرِّيحِ كَمَا صَرَّحَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِذَلِكَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا قَرِيبًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ هُودٍ وَقَوْمِهِ، ذَكَرَ قِصَّةَ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ فَقَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قِصَّةِ هُودٍ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: أَتُتْرَكُونَ فِي هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَعْطَاكُمُ اللَّهُ، آمِنِينَ مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَذَابِ، بَاقِينَ فِي الدُّنْيَا. وَلَمَّا أَبْهَمَ النِّعَمَ فِي هَذَا فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ والهضيم: النضيج الرَّخْصُ اللِّينُ اللَّطِيفُ، وَالطَّلْعُ: مَا يَطْلُعُ مِنَ الثَّمَرِ، وَذَكَرَ النَّخْلَ مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَ الْجَنَّاتِ، لِفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُونَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِلَفْظٍ يَعُمُّهُ وَغَيْرَهَ، كَمَا يَذْكُرُونَ النَّعَمَ، وَلَا يَقْصِدُونَ إِلَّا الْإِبِلَ، وَهَكَذَا يَذْكُرُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يُرِيدُونَ إِلَّا النَّخْلَ. قَالَ زُهَيْرٌ:
__________
(1) . العنكبوت: 17.(4/129)
كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرَبِي مُقَتَّلَةً ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا
وَسُحُقًا: جَمْعُ سُحُوقٍ، وَلَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا النَّخْلُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجَنَّاتِ غَيْرُ النَّخْلِ مِنَ الشَّجَرِ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي مَعْنَى هَضِيمٍ إِثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا: أَحْسَنُهَا وَأَوْفَقُهَا لِلُّغَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ النَّحْتُ: النَّجْرُ وَالْبَرْيُ، نَحَتَهُ يَنْحِتُهُ بِالْكَسْرِ بَرَاهُ، وَالنِّحَاتَةُ: الْبِرَايَةُ، وَكَانُوا يَنْحِتُونَ بُيُوتَهُمْ مِنَ الْجِبَالِ، لَمَّا طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ، وَتَهَدَّمَ بِنَاؤُهُمْ مِنَ الْمَدَرِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ ذَكْوَانَ «فَرِهِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «فَارِهِينَ» بِالْأَلْفِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالْفَرَهُ:
النَّشَاطُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا: «فَارِهِينَ» : حَاذِقِينَ بِنَحْتِهَا، وَقِيلَ: مُتَجَبِّرِينَ، وَ «فَرِهِينَ» : بَطِرِينَ أَشِرِينَ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: شَرِهِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَيِّسِيِنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُعْجَبِينَ نَاعِمِينَ آمِنِينَ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: فَرِحِينَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقْوِيَاءُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ أَيِ: الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُسْرِفِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أَيْ: ذَلِكَ دَأْبُهُمْ يَفْعَلُونَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُمُ الصَّلَاحُ الْبَتَّةَ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أَيِ: الَّذِينَ أُصِيبُوا بِالسِّحْرِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: الْمُسَحَّرُ هُوَ الْمُعَلَّلُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ، فَيَكُونُ الْمُسَحَّرُ الَّذِي لَهُ سَحْرٌ، وَهُوَ الرِّئَةُ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ مِثْلُنَا، تَأْكُلُ، وَتَشْرَبُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ إِنَّكَ تَأْكُلُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَتُسَحَّرُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ أَوْ لَبِيَدٍ «1» :
فَإِنَّ تسألينا فيم نحن فإنّنا ... عصافير من هذا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَيْضًا:
أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِحَتْمِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
قَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْمُسَحَّرُ: الْمَخْلُوقُ بِلُغَةِ رَبِيعَةَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي قَوْلِكَ وَدَعْوَاكَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ اللَّهِ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أَيْ: لَهَا نَصِيبٌ مِنَ الْمَاءِ، وَلَكُمْ نَصِيبٌ مِنْهُ مَعْلُومٌ، لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَشْرَبُوا فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ نَصِيبُهَا، وَلَا هِيَ تَشْرَبُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ نَصِيبُكُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الشِّرْبُ الْحَظُّ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: فأما المصدر، فيقال فيه شرب شربا، وأكثرها الْمَضْمُومُ، وَالشَّرْبُ: بِفَتْحِ الشِّينِ جَمْعُ شَارِبٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الشِّرْبُ بِالْكَسْرِ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِيهِمَا، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالضَّمِّ فِيهِمَا وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَيْ: لَا تَمَسُّوهَا بِعَقْرٍ، أَوْ ضَرْبٍ، أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يَسُوؤُهَا، وَجَوَابُ النَّهْيِ: فَيَأْخُذَكُمْ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ عَلَى عَقْرِهَا، لَمَّا عَرَفُوا أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْظَرَهُمْ ثَلَاثًا، فَظَهَرَتْ عَلَيْهِمُ الْعَلَامَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَنَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، وَظُهُورِ آثَارِهِ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فِي
__________
(1) . البيت في ديوان لبيد ص (56) .(4/130)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)
هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا تَفْسِيرُ قِصَّةِ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ قَالَ: مُعْشِبٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: أَيْنَعَ وَبَلَغَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَرْطَبَ وَاسْتَرْخَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فارِهِينَ قَالَ: حَاذِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: فارِهِينَ أَشِرِينَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: شَرِهِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ قَالَ: من المخلوقين، وأنشد قول لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ
.. الْبَيْتَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَها شِرْبٌ قَالَ: إِذَا كَانَ يومها أصدرتهم لبنا ما شاؤوا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 191]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْقِصَّةَ السَّادِسَةَ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ قَوْمِهِمْ، وَهِيَ: قِصَّةُ لُوطٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ:
إِذْ قالَ لَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا تَفْسِيرُ قِصَّةِ لُوطٍ مُسْتَوْفًى فِي الْأَعْرَافِ، قَوْلُهُ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ الذُّكْرَانُ: جَمْعُ الذَّكَرِ، ضِدُّ الْأُنْثَى، وَمَعْنَى تَأْتُونَ:
تَنْكِحُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِيْنَ، وَهُمْ بَنُو آدَمٍ، أَوْ كُلُّ حَيَوَانٍ، وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالْغُرَبَاءِ عَلَى ما تقدّم(4/131)
فِي الْأَعْرَافِ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أَيْ: وَتَتْرُكُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِأَجْلِ اسْتِمْتَاعِكُمْ بِهِ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَرَادَ بِالْأَزْوَاجِ: جِنْسَ الْإِنَاثِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أَيْ: مُجَاوِزُونَ لِلْحَدِّ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَمِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي تَرْتَكِبُونَهَا مِنَ الذُّكْرَانِ قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا، وَتَقْبِيحِ أَمْرِنَا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ مِنْ بَلَدِنَا الْمَنْفِيِّينَ عَنْهَا قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ وَهُوَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ إِتْيَانِ الذُّكْرَانِ مِنَ الْقالِينَ الْمُبْغِضِينَ لَهُ، وَالْقَلْيُ: الْبُغْضُ، قَلَيْتُهُ أَقْلِيهِ قَلًا وَقِلَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَسْتُ بِمَقْلِيِّ الْخِلَالِ وَلَا قَالِي «1»
وَقَالَ الْآخَرُ:
وَمَالَكَ عِنْدِي إِنْ نَأَيْتَ قِلَاءُ «2»
ثُمَّ رَغِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مُحَاوَرَتِهِمْ، وَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُنَجِّيَهُ فَقَالَ: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أَيْ مِنْ عَمَلِهِمُ الْخَبِيثِ، أَوْ مِنْ عُقُوبَتِهِ الَّتِي سَتُصِيبُهُمْ، فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دُعَاءَهُ، وَقَالَ: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أَيْ أَهْلَ بَيْتِهِ، وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَأَجَابَ دَعْوَتَهُ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ هِيَ امْرَأَةُ لُوطٍ، وَمَعْنَى مِنَ الْغَابِرِينَ: مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْهَرَمِ، أَيْ: بَقِيَتْ حَتَّى هَرِمَتْ. قَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ لِلذَّاهِبِ غَابِرٌ، وَلِلْبَاقِي غَابِرٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا تَكْسَعِ الشَّوْلَ بِأَغْبَارِهَا ... إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَنِ النَّاتِجُ
وَالْأَغْبَارُ: بَقِيَّةُ الْأَلْبَانِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: مَا مَضَى وَمَا غَبَرَ، أَيْ: مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْخَسْفِ وَالْحَصْبِ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يَعْنِي: الْحِجَارَةَ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَطَرُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ «لَيْكَةَ» بِلَامٍ وَاحِدَةٍ وَفَتْحِ التَّاءِ جَعَلُوهُ اسْمًا غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِأَلْ مُضَافًا إِلَيْهِ أَصْحَابُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «الْأَيْكَةِ» مُعَرَّفًا، وَالْأَيْكَةُ: الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَهِيَ الْغَيْضَةُ، وَلَيْكَةُ: اسْمٌ لِلْقَرْيَةِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ اسْمٌ لِلْغَيْضَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَأَمَّا مَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ أَنَّ لَيْكَةَ اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، وَأَنَّ الْأَيْكَةَ اسْمُ الْبَلَدِ كُلِّهِ، فَشَيْءٌ لَا يَثْبُتُ، وَلَا يُعْرَفُ مَنْ قَالَهُ، وَلَوْ عُرِفَ لَكَانَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ جَمِيعًا عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: الْأَيْكَةُ تَعْرِيفُ أَيْكَةٍ، فَإِذَا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا أُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى اللَّامِ.
قَالَ الْخَلِيلُ: الْأَيْكَةُ غَيْضَةٌ تُنْبِتُ السِّدْرَ وَالْأَرَاكَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ نَاعِمِ الشَّجَرِ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ
__________
(1) . البيت لامرئ القيس، وصدره:
صرفت الهوى عنهنّ من خشية الرّدى
(2) . البيت للحارث بن حلّزة، وصدره:
عليك السّلام لا مللت قريبة(4/132)
لَمْ يَقُلْ أَخُوهُمْ كَمَا قَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فِي النَّسَبِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَدْيَنَ قَالَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ نَسَبِهِ فِي الْأَعْرَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. قَوْلُهُ: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أَيْ أَتِمُّوا الْكَيْلَ لِمَنْ أَرَادَهُ وَعَامَلَ بِهِ، وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ: النَّاقِصِينَ لِلْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، يُقَالُ أَخْسَرْتُ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ: أَيْ نَقَصْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ «1» ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي الْبَيَانِ فَقَالَ: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أَيْ: أَعْطُوا الْحَقَّ بِالْمِيزَانِ السَّوِيِّ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ تَفْسِيرِ هَذَا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ، وَقَدْ قُرِئَ «بِالْقُسْطَاسِ» مَضْمُومًا وَمَكْسُورًا وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ الْبَخْسُ: النَّقْصُ، يُقَالُ بَخَسَهُ حَقَّهُ: إِذَا نَقَصَهُ، أَيْ: لَا تَنْقُصُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمُ الَّتِي لَهُمْ، وَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا تَفْسِيرُ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فِيهَا، وَفِي غَيْرِهَا. وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَقَرَأَ أَبُو حُصَيْنٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ بِضَمِّهِمَا وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ مَعَ سُكُونِ الْبَاءِ، وَالْجِبِلَّةُ: الْخَلِيقَةُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، يَعْنِي: الْأُمَمَ الْمُتَقَدِّمَةَ، يُقَالُ: جُبِلَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا، أَيْ: خُلِقَ.
قَالَ النَّحَّاسُ: الْخَلْقُ يُقَالُ لَهُ جِبِلَّةٌ بِكَسْرِ الْحَرْفَيْنِ الْأَوَّلِينَ، وَبِضَمِّهِمَا مَعَ تَشْدِيدِ اللَّامِ فِيهِمَا، وَبِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَضَمُّهُ وَفَتْحُهَا، قَالَ الْهَرَوِيُّ: الْجِبِلَّةُ وَالْجُبُلَّةُ وَالْجُبْلُ وَالْجُبَلُ لُغَاتٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ ذُو الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: جِبِلًّا كَثِيراً أَيْ: خَلْقَا كَثِيرًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ ... فِيمَا يَمُرُّ عَلَى الْجِبِلَّةِ
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مُسْتَوْفًى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ إِنْ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، عَمِلَتْ فِي ضَمِيرِ شَأْنٍ مُقَدَّرٍ، وَاللَّامُ: هِيَ الْفَارِقَةُ، أَيْ: فِيمَا تَدَّعِيهِ عَلَيْنَا مِنَ الرِّسَالَةِ، وَقِيلَ: هِيَ النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ: بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: مَا نَظُنُّكَ إلا مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ كَانَ شُعَيْبٌ يَتَوَعَّدُهُمْ بِالْعَذَابِ إِنْ لم يؤمنوا، فقالوا له هذا القول عنتا وَاسْتِبْعَادًا وَتَعْجِيزًا. وَالْكِسَفُ: الْقِطْعَةُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْكِسَفُ: جَمْعُ كِسْفَةٍ، مَثْلُ سِدْرٍ وَسِدْرَةٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكِسْفَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَعْطِنِي كِسْفَةً مِنْ ثَوْبِكَ، وَالْجَمْعُ كِسَفٌ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَاكَ قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ فَكَذَّبُوهُ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وَالظُّلَّةُ: السَّحَابُ، أقامها الله فوق رؤسهم، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا فَهَلَكُوا، وَقَدْ أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا اقْتَرَحُوا، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا بِالْكِسَفِ الْقِطْعَةَ مِنَ السَّحَابِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهَا الْقِطْعَةَ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ مِنْ جِهَتِهَا، وَأَضَافَ الْعَذَابَ إِلَى يَوْمِ الظُّلَّةِ، لَا إِلَى الظُّلَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَذَابًا غَيْرَ عَذَابِ الظُّلَّةِ، كَذَا قيل. ثم وصف سبحانه
__________
(1) . المطففين: 3.(4/133)
هَذَا الْعَذَابَ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَيْهِمُ الَّتِي لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُسْتَوْفًى فَلَا نُعِيدُهُ، وَفِي هَذَا التَّكْرِيرِ لِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَصِ مِنَ التَّهْدِيدِ، وَالزَّجْرِ، وَالتَّقْرِيرِ، وَالتَّأْكِيدِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَفْهَمُ مَوَاقِعَ الْكَلَامِ، وَيَعْرِفُ أَسَالِيبَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ قَالَ: تَرَكْتُمْ أَقْبَالَ النِّسَاءِ إِلَى أَدْبَارِ الرِّجَالِ، وَأَدْبَارِ النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ قَالَ: هِيَ امْرَأَةُ لُوطٍ غُبِرَتْ فِي عَذَابِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ «لَيْكَةِ» قَالَ: هِيَ الْأَيْكَةُ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ قَالَ: كَانُوا أَصْحَابَ غَيْضَةٍ مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى مَدْيَنَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ وَلَمْ يَقُلْ أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ.
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ أَلا تَتَّقُونَ كَيْفَ لَا تَتَّقُونَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي رَسُولٌ أَمِينٌ، لَا تَعْتَبِرُونَ مِنْ هَلَاكِ مَدْيَنَ، وَقَدْ أُهْلِكُوا فِيمَا يَأْتُونَ، وَكَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ اسْتَنُّوا بِسُنَّةِ أَصْحَابِ مَدْيَنَ، فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ فِي الْعَاجِلِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ يعني القرون الأولين الذي أُهْلِكُوا بِالْمَعَاصِي وَلَا تَهْلَكُوا مِثْلَهُمْ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ يَعْنِي مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ يَعْنِي: قِطَعًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ سَمُومًا مِنْ جَهَنَّمَ، فَأَطَافَ بِهِمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَنْضَجَهُمُ الْحُرُّ، فَحَمِيَتْ بُيُوتُهُمْ، وَغَلَتْ مِيَاهُهُمْ فِي الْآبَارِ، وَالْعُيُونِ، فَخَرَجُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمَحَلَّتِهِمْ هَارِبِينَ، وَالسَّمُومُ مَعَهُمْ، فَسَلَّطَ الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم، فَغَشِيَتْهُمْ حَتَّى تَقَلْقَلَتْ فِيهَا جَمَاجِمُهُمْ، وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرَّمْضَاءَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، حَتَّى تَسَاقَطَتْ لُحُومُ أَرْجُلِهِمْ، ثُمَّ نَشَأَتْ لَهُمْ ظُلَّةٌ كَالسَّحَابَةِ السوداء، فلما رأوها ابتدروها يَسْتَغِيثُونَ بِظِلِّهَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا جَمِيعًا أَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَهَلَكُوا، وَنَجَّى اللَّهُ شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عنه قال: الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ الْخَلْقُ الْأَوَّلِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حَرًّا شَدِيدًا فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ، فَدَخَلُوا أَجْوَافَ الْبُيُوتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَجْوَافَهَا، فَأَخَذَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْبُيُوتِ هَرَبًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَحَابَةً، فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا تَحْتَهَا، أَسْقَطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا، فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: مَنْ حَدَّثَكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَذَابَ يَوْمِ الظُّلَّةِ فَكَذِّبْهُ. أَقُولُ: فَمَا نَقُولُ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ هَاهُنَا؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ هُوَ الْبَحْرَ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ تَأْوِيلَ كتابه بدعوة نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ مُخْتَصًّا بِمَعْرِفَةِ هَذَا الْحَدِيثِ دُونَ غيره(4/134)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثِ عَذَابِ الظُّلَّةِ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ فَقَدْ وَصَّانَا بِتَكْذِيبِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ علمه ولم يعلمه غيره.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 227]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (206)
مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221)
تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا نَزَّلَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ، أَيْ: وَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، أَوْ وَإِنَّ الْقُرْآنَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، قِيلَ: وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذُو تَنْزِيلٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَنْزِيلٌ: بِمَعْنَى مُنَزَّلٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ نَزَلَ مُخَفَّفًا، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ مُشَدَّدًا، والرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالرُّوحُ الْأَمِينُ جِبْرِيلُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ «1» أَنَّهُ تَلَاهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْقَلْبِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مُدْرِكٍ مِنَ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: إِنَّ عَلَى قَلْبِكَ ولتكون متعلقان بنزل، وقيل: يجوز أن يتعلقا بتنزيل، والأوّل: أولى، قرئ نُزِّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَكُونُ الرُّوحُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَرْفُوعًا عَلَى النِّيَابَةِ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ عِلَّةٌ لِلْإِنْزَالِ، أَيْ: أَنْزَلَهُ لِتُنْذِرَهُمْ بِمَا تَضْمَّنَهُ مِنَ التَّحْذِيرَاتِ والإنذار وَالْعُقُوبَاتِ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُنْذِرِينَ، أَيْ: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِهَذَا اللِّسَانِ، وَجَوَّزَ أَبُو البقاء أن يكون بدلا من «ربه» ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِنَزَلَ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِلِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِ الْإِنْذَارِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا،
__________
(1) . البقرة: 97.(4/135)
بلسان الرسول العربي، لئلا يقول مشركو الْعَرَبِ لَسْنَا نَفْهَمُ مَا تَقُولُهُ بِغَيْرِ لِسَانِنَا، فَقَطَعَ بِذَلِكَ حُجَّتَهُمْ وَأَزَاحَ عِلَّتَهُمْ وَدَفَعَ مَعْذِرَتَهُمْ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي: هَذَا الْقُرْآنَ بِاعْتِبَارِ أَحْكَامِهِ الَّتِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالزُّبُرُ: الْكُتُبُ، الْوَاحِدُ: زَبُورٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ مِثْلِ هَذَا.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِيهَا هُوَ نَفْسُهُ، لَا مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ الْهَمْزَةُ:
لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوُ: لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ وَالدَّلَالَةُ، أَيْ: أَلَمْ يَكُنْ لِهَؤُلَاءِ عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَأَنَّهُ تَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَنَّهُ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْعُمُومِ، أَوْ مَنْ آمَنَ منهم عبد اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَإِنَّمَا صَارَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ حُجَّةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ وَيُصَدِّقُونَهُمْ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «تَكُنْ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وآية بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ، وَخَبَرُهَا: أَنْ يَعْلَمَهُ إِلَخْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً، وَقَرَأَ الباقون «يكن» بالتحتية، وآية بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ يَكُنْ، وَاسْمُهَا أَنْ يعلمه لهم قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ يَعْلَمَهُ: اسْمُ يَكُنْ، وَآيَةً: خبره. أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمُ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ حَقٌّ عَلَامَةً وَدِلَالَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا يُخْبِرُونَ بِوُجُودِ ذِكْرِهِ فِي كتبهم، وكذا قال الفراء، ووجهها قِرَاءَةِ الرَّفْعِ بِمَا ذَكَرْنَا. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ نَظَرٌ، لِأَنَّ جَعْلَ النَّكِرَةِ اسْمًا وَالْمَعْرِفَةِ خَبَرًا غَيْرُ سَائِغٍ، وَإِنْ وَرَدَ شَاذًّا فِي مِثْلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَا يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكَ الْوَدَاعَا وَقَوْلِ الْآخَرِ:
وَكَانَ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ وَلَا وَجْهَ لِمَا قِيلَ: إِنَّ النَّكِرَةَ قَدْ تَخَصَّصَتْ بِقَوْلِهِمْ: «لَهُمْ» لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْحَالُ صِفَةٌ فِي الْمَعْنَى فَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي التَّوْجِيهِ: مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ أَنَّ يَكُنْ تَامَّةٌ وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ أَيْ: لَوْ نَزَّلْنَا الْقُرْآنَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَعْجَمِينَ، الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةً صَحِيحَةً مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ مَعَ انْضِمَامِ إِعْجَازِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الرَّجُلِ الْأَعْجَمِيِّ لِلْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ بِلُغَةِ الْعَجَمِ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ بِلُغَتِهِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَقَالُوا: مَا نَفْقَهُ هَذَا وَلَا نَفْهَمُهُ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ «1» يُقَالُ: رَجُلٌ أَعْجَمُ وَأَعْجَمِيٌّ: إِذَا كَانَ غَيْرَ فَصِيحِ اللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا، وَرَجُلٌ عَجَمِيٌّ:
إِذَا كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا، إِلَّا أَنَّ الْفَرَّاءَ أَجَازَ أَنْ يُقَالَ: رَجُلٌ عَجَمِيٌّ: بِمَعْنَى أَعْجَمِيٍّ وَقَرَأَ الْحَسَنُ «عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِيِّينَ» وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْجَحْدَرَيُّ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جَنِّي: أَصْلُ الْأَعْجَمِينَ:
الْأَعْجَمِيِّينَ، ثُمَّ حُذِفَتْ يَاءُ النَّسَبِ، وَجُعِلَ جَمْعُهُ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ دَلِيلًا عَلَيْهَا كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ
__________
(1) . فصلت: 44.(4/136)
أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ السَّلْكِ سَلَكْنَاهُ، أَيْ: أَدْخَلْنَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ حَتَّى فَهِمُوا مَعَانِيَهُ، وَعَرَفُوا فَصَاحَتَهُ، وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: سَلَكْنَا الشِّرْكَ، وَالتَّكْذِيبَ، فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. وَقَالَ عكرمة: سلكناه الْقَسْوَةَ. وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي الْقُرْآنِ وجملة لا يُؤْمِنُونَ تحتمل على وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الِاسْتِئْنَافُ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ، وَالْإِيضَاحِ لِمَا قَبْلَهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي سَلَكْنَاهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الْجَزْمَ فِي لَا يُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْمُجَازَاةِ، وَزَعَمَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ، إِذَا وَضَعَتْ لَا مَوْضِعَ كَيْلَا مِثْلَ هَذَا رُبَّمَا جَزَمَتْ مَا بَعْدَهَا، وَرُبَّمَا رَفَعَتْ، فَتَقُولُ رَبَطْتُ الْفَرَسَ لَا يَنْفَلِتُ بِالرَّفْعِ، وَالْجَزْمِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِنْ لَمْ أَرْبِطْهُ يَنْفَلِتْ، وَأُنْشِدَ لِبَعْضِ بَنِيَ عَقِيلٍ:
وَحَتَّى رَأَيْنَا أَحْسَنَ الْفِعْلِ بَيْنَنَا ... مساكنة لا يقرف الشّرّ قارف
بالرفع، ومن الجزم قول الآخر:
لطالما حلّأتماها لا ترد ... فخلّياها والسّجال تَبْتَرِدْ «1»
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي لَا يُؤْمِنُونَ، خَطَأٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِلَا جَازِمٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، وَهِيَ مُشَاهَدَتُهُمْ للعذاب الأليم فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي: فجأة «و» الحال أنّهم لَا يَشْعُرُونَ بِإِتْيَانِهِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ فَتَأْتِيَهُمْ بِالْفَوْقِيَّةِ، أَيِ: السَّاعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ، لكنه قد دلّ الْعَذَابِ عَلَيْهَا فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَيْ: مُؤَخَّرُونَ وَمُمْهَلُونَ. قَالُوا هَذَا تَحَسُّرًا عَلَى مَا فَاتَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَتَمَنِّيًا لِلرَّجْعَةِ إِلَى الدُّنْيَا، لِاسْتِدْرَاكِ مَا فَرَطَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ:
هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ الِاسْتِعْجَالُ لِلْعَذَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ لِقَوْلِهِ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنَ الْبُعْدِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْمَعْنَى الظَّاهِرِ، فَإِنَّ مَعْنَى هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ طَلَبُ النَّظْرَةِ وَالْإِمْهَالُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَالْمُرَادُ بِهِ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ، وَالْإِنْكَارُ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2» وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا «3» أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، كَمَا مَرَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَمَعْنَى أَرَأَيْتَ: أَخْبِرْنِي، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، أَيْ: أَخْبِرْنِي إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ فِي الدُّنْيَا مُتَطَاوِلَةً، وَطَوَّلْنَا لَهُمُ الْأَعْمَارَ ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ مَا: هِيَ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ: شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ، كَوْنَهُمْ مُمَتَّعِينَ ذَلِكَ التَّمَتُّعَ الطَّوِيلَ، وَ «مَا» فِي مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَصْدَرِيَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْصُولَةَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّقْرِيرِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا الْأُولَى نَافِيَةً، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ تَمْتِيعُهُمْ شَيْئًا، وَقُرِئَ يُمْتَعُونَ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ، وتخفيف التاء من أمتع الله
__________
(1) . حلّأها: منعها من ورود الماء. والسّجال: جمع سجل، وهو الدلو الضخمة المملوءة ماء. وتبترد: تشرب الماء لتبرد به كبدها.
(2) . الأنفال: 32. [.....]
(3) . الأعراف: 70.(4/137)
زِيدًا بِكَذَا وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ مِنْ: مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ: وَمَا أَهْلَكْنَا قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ. وَجُمْلَةُ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِقَرْيَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْهَا، وَسَوَّغَ ذَلِكَ سَبْقُ النَّفْيِ، وَالْمَعْنَى: مَا أَهْلَكْنَا قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِعْذَارِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَقَوْلُهُ: ذِكْرى بِمَعْنَى تَذْكِرَةٍ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْعِلَّةِ، أَوِ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:
ذِكْرَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: يَذْكُرُونَ ذِكْرَى. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَعْنَى إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ إِلَّا لَهَا مُذَكِّرُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْذَارُنَا ذِكْرَى، أَوْ ذَلِكَ ذِكْرَى.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى هِيَ ذِكْرَى، أَوْ يُذَكِّرُهُمْ ذِكْرَى، وَقَدْ رَجَّحَ الْأَخْفَشُ أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَما كُنَّا ظالِمِينَ فِي تَعْذِيبِهِمْ، فقد قدّمنا الحجة إليهم وأنذرناهم، وأعذرناهم، وَأَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ أَيْ: بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا رَدٌّ لِمَا زَعَمَهُ الْكَفَرَةُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيَاطِينُ عَلَى الْكَهَنَةِ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ مَا نَسَبَهُ الْكُفَّارُ إِلَيْهِمْ أَصْلًا إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لِلْقُرْآنِ، أَوْ لِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ لَمَعْزُولُونَ مَحْجُوبُونَ، مَرْجُومُونَ بِالشُّهُبِ. وَقَرَأَ الحسن وابن السميقع والأعمش «وما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ» بِالْوَاوِ وَالنُّونِ إِجْرَاءً لَهُ مجرى جمع السَّلَامَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَهَذَا غَلَطٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: هَذَا مِنْ غَلَطِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِشُبْهَةٍ لَمَّا رَأَى الْحَسَنُ فِي آخِرِهِ يَاءً وَنُونًا، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِالْجَمْعِ السَّالِمِ فَغَلِطَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: غَلِطَ الشَّيْخُ: يَعْنِي الْحَسَنُ، فَقِيلَ: ذَلِكَ لِلنَّضِرِ بْنِ شُمَيْلٍ فَقَالَ: إِنْ جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ وَالْعَجَّاجِ وَذَوِيهِمَا جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَصَاحِبِهِ: يَعْنِي مُحَمَّدَ بن السميقع مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْرَءَا بِذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ سَمِعَا فِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: إِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ مِنْ شَاطَ يَشِيطُ كَانَ لِقِرَاءَتِهِمَا وَجْهٌ.
قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: دَخَلْنَا بَسَاتِينَ مِنْ وَرَائِهَا بَسَاتُونَ. ثم لما قرّر سبحانه حقيقة الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِهِ، أَمَرَ نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِدُعَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ فَقَالَ: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وخطاب النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنْهُ، مَعْصُومًا مِنْهُ، لِحَثِّ الْعِبَادِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَنَهْيِهِمْ عَنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيَّ، وَأَعَزُّهُمْ عِنْدِي، وَلَوِ اتَّخَذْتَ مَعِيَ إِلَهًا لَعَذَّبْتُكَ، فَكَيْفَ بِغَيْرِكَ مِنَ الْعِبَادِ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ خَصَّ الْأَقْرَبِينَ لِأَنَّ الِاهْتِمَامَ بِشَأْنِهِمْ أَوْلَى، وهدايتهم إلى الحق أقوم.
قيل: هم قريش، وَقِيلَ بَنُو هَاشِمٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ دَعَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قُرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَذَلِكَ مِنْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيَانٌ لِلْعَشِيرَةِ الْأَقْرَبِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُقَالُ: خَفَضَ جَنَاحَهُ إِذَا أَلَانَهُ، وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ حَسَنَةٌ. وَالْمَعْنَى: أَلِنْ جَنَاحَكَ، وَتَوَاضَعْ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَظْهَرَ لَهُمُ الْمَحَبَّةَ وَالْكَرَامَةَ، وَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ فَإِنْ عَصَوْكَ أَيْ: خَالَفُوا أَمْرَكَ وَلَمْ يَتَّبِعُوكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أَيْ: مِنْ عَمَلِكُمْ، أَوْ مِنَ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُشَارِفُونَ لِلْإِيمَانِ، الْمُصَدِّقُونَ بِاللِّسَانِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصَ لَا يَعْصُونَهُ وَلَا يُخَالِفُونَهُ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ مَا(4/138)
يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ عِنْدَ عِصْيَانِهِمْ لَهُ فَقَالَ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أَيْ: فَوِّضْ أُمُورَكَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى قَهْرِ الْأَعْدَاءِ، وَهُوَ الرَّحِيمُ لِلْأَوْلِيَاءِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ «فَتَوَكَّلْ» بِالْفَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «وَتَوَكَّلْ» بِالْوَاوِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى يَكُونُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ كَالْجُزْءِ مِمَّا قَبْلَهَا مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ مَا بَعْدَ الْوَاوِ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهَا، عَطْفُ جُمْلَةٍ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
أَيْ: حِينَ تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَحْدَكَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِينَ تَقُومُ: حَيْثُمَا كُنْتَ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أَيْ: وَيَرَاكَ إِنْ صَلَّيْتَ فِي الْجَمَاعَةِ رَاكِعًا وَسَاجِدًا وَقَائِمًا، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: يَرَاكَ فِي الْمُوَحِّدِينَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى أَخْرَجَكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «يَرَاكَ» حِينَ تَقُومُ قِيَامُهُ إِلَى التَّهَجُّدِ، وَقَوْلُهُ:
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يُرِيدُ تَرَدُّدَكَ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ وَتَقَلُّبَ بَصَرِكَ فِيهِمْ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُهُ: الْعَلِيمُ بِهِ. ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَبَيَّنَهُ فَقَالَ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ أَيْ: عَلَى مَنْ تَتَنَزَّلُ، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَفِيهِ بَيَانُ اسْتِحَالَةِ تَنَزُّلِ الشَّيَاطِينِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ وَالْأَفَّاكُ:
الْكَثِيرُ الْإِفْكِ، وَالْأَثِيمُ: كَثِيرُ الْإِثْمِ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ كُلُّ مَنْ كَانَ كَاهِنًا، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ ثُمَّ يَأْتُونَ إِلَيْهِمْ فَيُلْقُونَهُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يُلْقُونَ السَّمْعَ أَيْ: مَا يَسْمَعُونَهُ مِمَّا يَسْتَرِقُونَهُ، فَتَكُونَ جُمْلَةُ «يُلْقُونَ السَّمْعَ» عَلَى هَذَا رَاجِعَةً إِلَى الشَّيَاطِينِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ الشَّيَاطِينِ مُلْقِينَ السَّمْعَ، أَيْ: مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى إِلَى الْكُهَّانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ الشَّيَاطِينَ يُلْقُونَ السَّمْعَ:
أَيْ يُنْصِتُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى لِيَسْتَرِقُوا مِنْهُمْ شَيْئًا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّمْعِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمَسْمُوعِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: نَفْسَ حَاسَّةِ السَّمْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ «يُلْقُونَ السَّمْعَ» رَاجِعَةً إِلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَمَعْنَى الْإِلْقَاءِ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مَا تُلْقِيِهِ إِلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَصْدُقُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا، وَتَكْذُبُ الْمِائَةُ الْكَلِمَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَجُمْلَةُ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، أَيْ:
وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْكَهَنَةِ كَاذِبُونَ فِيمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّهُمْ يَضُمُّونَ إِلَى مَا يَسْمَعُونَهُ كَثِيرًا مِنْ أَكَاذِيبِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا يُلْقُونَهُ مِنَ السَّمْعِ، أَيِ: الْمَسْمُوعِ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ رَاجِعَةً إِلَى الشَّيَاطِينِ، أَيْ: وَأَكْثَرُ الشَّيَاطِينِ كَاذِبُونَ فِيمَا يُلْقُونَهُ إِلَى الْكَهَنَةِ مِمَّا يَسْمَعُونَهُ، فَإِنَّهُمْ يَضُمُّونَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْكَذِبِ. وَقَدْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَصْفُ الْأَفَّاكِينَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَاذِبُونَ بَعْدَ مَا وُصِفُوا جَمِيعًا بِالْإِفْكِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَفَّاكِ الَّذِي يُكْثِرُ الْكَذِبَ لَا الَّذِي لَا يَنْطِقُ إِلَّا بِالْكَذِبِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ أَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَصْدُقُ مِنْهُمْ فِيمَا يَحْكِي عَنِ الشَّيَاطِينِ، وَالْغَرَضُ الَّذِي سيق لِأَجْلِهِ هَذَا الْكَلَامُ، رَدُّ مَا كَانَ يَزْعُمُهُ الْمُشْرِكُونَ، مِنْ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُلْقِي إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ السَّمْعَ مِنَ الْكَهَنَةِ، بِبَيَانِ أَنَّ الْأَغْلَبَ عَلَى الْكَهَنَةِ الْكَذِبُ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحْوَالِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَّا الصِّدْقُ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَمَا زَعَمُوا، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَهَنَةَ يُعَظِّمُونَ الشَّيَاطِينَ. وَهَذَا النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِرِسَالَتِهِ إِلَى النَّاسِ يَذُمُّهُمْ وَيَلْعَنُهُمْ وَيَأْمُرُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُمْ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ مِنَ(4/139)
المشركين: إن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ شَاعِرٌ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الشُّعَرَاءِ وَمُنَافَاةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ لِمَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ:
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمْ، أَيْ: يُجَارِيهِمْ وَيَسْلُكُ مَسْلَكَهُمْ وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْغَاوُونَ، أَيِ: الضَّالُّونَ عَنِ الْحَقِّ، وَالشُّعَرَاءُ: جَمْعُ شَاعِرٍ، وَالْغَاوُونَ: جَمْعُ غَاوٍ، وَهُمْ ضُلَّالُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقِيلَ: الزَّائِلُونَ عَنِ الْحَقِّ، وقيل: الذي يَرَوُونَ الشِّعْرَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْهِجَاءِ وَمَا لَا يجوز، وقيل:
المراد شعر الْكُفَّارِ خَاصَّةً. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَالشُّعَرَاءُ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ «الشُّعَرَاءَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَشَيْبَةُ وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ يَتْبَعُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ قَبَائِحَ شُعَرَاءِ الْبَاطِلِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَالْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ، يُقَالُ: هَامَ يَهِيمُ هَيْمًا وَهَيْمَانًا إِذَا ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ، أَيْ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْكَذِبِ يَخُوضُونَ، وَفِي كُلِّ شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ الزُّورِ يَتَكَلَّمُونَ، فَتَارَةً يُمَزِّقُونَ الْأَعْرَاضَ بِالْهِجَاءِ، وَتَارَةً يَأْتُونَ مِنَ الْمُجُونِ بِكُلِّ مَا يَمُجُّهُ السَّمْعُ، وَيَسْتَقْبِحُهُ الْعَقْلُ، وَتَارَةً يَخُوضُونَ فِي بَحْرِ السَّفَاهَةِ، وَالْوَقَاحَةِ، وَيَذُمُّونَ الْحَقَّ، وَيَمْدَحُونَ الْبَاطِلَ، وَيَرْغَبُونَ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى فِعْلِ الْمُنْكِرَاتِ، كَمَا تَسْمَعُهُ فِي أَشْعَارِهِمْ مِنْ مَدْحِ الْخَمْرِ، وَالزِّنَا، وَاللِّوَاطِ، وَنَحْوِ هَذِهِ الرَّذَائِلِ الْمَلْعُونَةِ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ أَيْ: يَقُولُونَ فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا، وَهُمْ كَذَبَةٌ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ يَدُلُّونَ بِكَلَامِهِمْ عَلَى الْكَرَمِ، وَالْخَيْرِ، وَلَا يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ يَنْسُبُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَفْعَالِ الشَّرِّ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ، كَمَا تَجِدُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَشْعَارِهِمْ، مِنَ الدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ، وَالزَّوْرِ الْخَالِصِ الْمُتَضَمِّنِ لِقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا بِهِنَّ كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَافْتِرَاءٌ بَحْتٌ. ثُمَّ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ الشُّعَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، الَّذِينَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِمْ تَحَرِّي الْحَقِّ، وَالصِّدْقِ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: دَخَلُوا فِي حِزْبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَمِلُوا بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً فِي أَشْعَارِهِمْ وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا كَمَنْ يَهْجُو مِنْهُمْ مَنْ هَجَاهُ، أَوْ يَنْتَصِرُ لِعَالِمٍ، أَوْ فَاضِلٍ، كَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ شُعَرَاءِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهْجُونَ مَنْ يَهْجُوهُ، وَيَحْمُونَ عَنْهُ، وَيَذُبُّونَ عَنْ عِرْضِهِ، وَيُكَافِحُونَ شُعَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ، وَيُنَافِحُونَهُمْ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مِنَ انْتَصَرَ بِشِعْرِهِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَافَحَ أَهْلَ الْبِدْعَةِ، وَزَيَّفَ مَا يَقُولُهُ شُعَرَاؤُهُمْ، مِنْ مَدْحِ بِدْعَتِهِمْ، وَهَجْوِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ شُعَرَاءِ الرَّافِضَةِ، وَنَحْوِهِمْ، فَإِنَّ الِانْتِصَارَ لِلْحَقِّ بِالشِّعْرِ، وَتَزْيِيفَ الْبَاطِلِ بِهِ، مِنْ أَعْظَمِ الْمُجَاهَدَةِ، وَفَاعِلُهُ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْمُنْتَصِرِينَ لِدِينِهِ، الْقَائِمِينَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْقِيَامِ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشِّعْرَ فِي نَفْسِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ، فَقَدْ يَبْلُغُ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْهُ إِلَى قِسْمِ الْحَرَامِ. وَقَدْ يَبَلُغُ مَا فِيهِ خَيْرٌ مِنْهُ إِلَى قِسْمِ الْوَاجِبِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي ذَمِّهِ وَذَمِّ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ أُخَرُ فِي إِبَاحَتِهِ وَتَجْوِيزِهِ، وَالْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ يَطُولُ، وَسَنَذْكُرُ فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
ثُمَّ خَتَمَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِآيَةٍ جَامِعَةٍ لِلْوَعِيدِ كُلِّهِ فَقَالَ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: سَيَعْلَمُ تَهْوِيلًا عَظِيمًا، وَتَهْدِيدًا شَدِيدًا، وَكَذَا فِي إِطْلَاقِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَإِبْهَامِ أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، وَخَصَّصَ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْضُهُمْ بِالشُّعَرَاءِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ. وَقَوْلُهُ: أَيَّ(4/140)
مُنْقَلَبٍ
صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يَنْقَلِبُونَ مُنْقَلَبًا أَيَّ مُنْقَلَبٍ، وَقُدِّمَ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ سَيَعْلَمُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِيهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ «أَيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ» بِالْفَاءِ مَكَانَ الْقَافِ، وَالتَّاءِ مَكَانَ الْبَاءِ مِنَ الِانْفِلَاتِ بِالنُّونِ وَالْفَاءِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ الباقون والباء، من الانقلاب بالنون، والقاف والموحدة، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ: أَنَّ الظَّالِمِينَ يَطْمَعُونَ فِي الِانْفِلَاتِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَالِانْفِكَاكِ مِنْهُ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: هَذَا الْقُرْآنُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ قَالَ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ قَالَ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:
الرُّوحُ الْأَمِينُ قَالَ: الرُّوحُ الأمين: جبريل، رَأَيْتُ لَهُ سِتَّمِائَةِ جَنَاحٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ قَدْ نَشَرَهَا، فِيهَا مِثْلَ رِيشِ الطَّوَاوِيسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قَالَ: بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَرَبِيٍّ مَا فَهِمُوهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قَالَ: بِلِسَانِ جُرْهُمٍ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ أَيْضًا عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِهِمْ فَآمَنَ بِكِتَابِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا وَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا مَعْشَرَ بَنِي قُصَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا نفعا، يا معشر بني عبد مناف أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، إِلَّا أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا وَسَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
قَالَ: لِلصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
يَقُولُ: قِيَامُكَ وَرُكُوعُكَ وَسُجُودُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالَ: يَرَاكَ وَأَنْتَ مَعَ السَّاجِدِينَ تَقُومُ وَتَقْعُدُ مَعَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل ترون قبلتي هاهنا؟ فو الله مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ وَلَا رُكُوعُكُمْ، وَإِنِّي لأراكم من وراء ظهري» . وأخرج ابن أبي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالَ: مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى أُخْرِجْتَ نَبِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ(4/141)
مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سأل أناس النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ قَالَ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا! قَالَ:
تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقْذِفَهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ «فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَهَاجَى رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْآخِرُ مِنْ قَوْمٍ آخرين، وكان مع كلّ واحد مهما غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمُ السُّفَهَاءُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَالشُّعَراءُ
إِلَى قَوْلِهِ: مَا لَا يَفْعَلُونَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنِّي مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ: يَنْقَلِبُونَ وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قَالَ: هُمُ الْكُفَّارُ يَتَّبِعُونَ ضُلَّالَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ قَالَ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرُ قَوْلِهِمْ يَكْذِبُونَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا قَالَ: رَدُّوا عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَهْجُونَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا وَالشُّعَراءُ قَالَ: الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ كانوا يهجون النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قَالَ: قَالَ غُوَاةُ الْجِنِّ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ يَأْخُذُونَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ.
يَعْنِي حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانُوا يَذُبُّونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ بِهِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ الْغاوُونَ قَالَ: هُمُ الرُّوَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ «أنه قال للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِي الشُّعَرَاءِ مَا أَنْزَلَ فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لكأنّ ما ترمونهم به نفح النَّبْلِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يَنْشُدُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» .
وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا الشُّعَرَاءُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الْإِسْلَامِ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ أَنْ يَقُولُوا شِعْرًا يَتَغَنَّى بِهِ الْحُورُ الْعِيِنُ لِأَزْوَاجِهِنَّ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِينَ مَاتُوا فِي الشِّرْكِ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ، وَالثُّبُورِ فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» قَالَ: وَأَتَاهُ قُرَيْظَةُ بْنُ كَعْبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالُوا: إِنَّا نَقُولُ الشِّعْرَ وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اقرءوا فقرؤوا وَالشُّعَراءُ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَقَالَ: أَنْتُمْ هُمْ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً قال: أَنْتُمْ هُمْ وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا فَقَالَ: أَنْتُمْ هُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: اهْجُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ جبريل معك.(4/142)
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَهْجُوكَ، فَقَامَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي فِيهِ، فَقَالَ: «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ثبّت الله؟» فقال: نعم يا رسول، قُلْتُ:
ثَبَّتَ اللَّهُ مَا أَعْطَاكَ مِنْ حُسْنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا مِثْلَ مَا نَصَرَا
قَالَ: «وَأَنْتَ، فَفَعَلَ اللَّهُ بِكَ مِثْلَ ذَلِكَ» ثُمَّ وَثَبَ كَعْبٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ؟ فَقَالَ:
«أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ هَمَّتْ؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتُ:
هَمَّتْ سُخَيْنَةُ «1» أَنْ تُغَالِبَ رَبَّهَا ... فَلَتَغْلِبَنَّ مَغَالِبَ الْغَلَّابِ
فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَ ذَلِكَ لَكَ» ثُمَّ قَامَ حَسَّانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي فِيهِ، وَأَخْرَجَ لِسَانًا لَهُ أَسْوَدَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ شِئْتَ لَفَرَيْتُ بِهِ الْمُرَادَ، ائْذَنْ لِي فِيهِ، فَقَالَ: «اذْهَبْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَلْيُحَدِّثْكَ حَدِيثَ الْقَوْمِ وَأَيَّامَهُمْ وَأَحْسَابَهُمْ، وَاهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بِحَسَّانَ وَهُوَ يُنْشِدُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَحَظَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَسَكَتَ ثُمَّ الْتَفَتَ حَسَّانُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ هَلْ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟» قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا وَمِنَ الْبَيَانِ سحرا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا يَرِيهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» . قَالَ فِي الصحاح: ورى الْقَيْحُ جَوْفَهُ يَرِيهِ وَرَيًّا:
إِذَا أَكَلَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رَوَىَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «حَسَنُ الشِّعْرِ كَحَسَنِ الْكَلَامِ وَقَبِيحُ الشِّعْرِ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ الشَّامِيِّ وَحَدِيثُهُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ صَحِيحٌ فِيمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ. قَالَ:
وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: هِيهِ فأنشدته بَيْتًا، فَقَالَ:
هِيهِ، حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخَرِّبُونَ الْبَيْتَ.
__________
(1) . في القرطبي: جاءت سخينة: والسخينة: طعام حار يتّخذ من دقيق وسمن- وقيل: من دقيق وتمر- أغلظ من الحساء وأرقّ من العصيدة، وكانت قريش تكثر من أكلها، فعيّرت بها حتى سمّوا سخينة.(4/143)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
سورة النّمل
هي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ النَّمْلِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
قَوْلُهُ: طس قَدْ مَرَّ الْكَلَامُ مُفَصَّلًا فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَهَذِهِ الْحُرُوفُ إِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلسُّورَةِ، فَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا اسْمُ هَذِهِ السُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحُرُوفُ اسْمًا لِلسُّورَةِ، بَلْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، فَلَا مَحَلَّ لَهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِلَى نَفْسِ السُّورَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ ذُكِرَتْ إِجْمَالًا بِذِكْرِ اسْمِهَا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: آياتُ الْقُرْآنِ وَالْجُمْلَةُ: خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَكِتابٍ مُبِينٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِجَرِّ كِتَابٍ عَطْفًا عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَآيَاتُ كِتَابٍ مُبِينٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
وَكِتابٍ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ بَعْضِ الصِّفَاتِ عَلَى بَعْضٍ، مَعَ اتِّحَادِ الْمَدْلُولِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، أَوْ نَفْسَ السُّورَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «وَكِتَابٌ مُبِينٌ» بِرَفْعِهِمَا عَطْفًا عَلَى آيَاتُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَيْ: وَآيَاتُ كِتَابٍ مُبِينٍ، فَقَدْ وَصَفَ الْآيَاتِ بِالْوَصْفَيْنِ: الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مَقْرُوءًا، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى كَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا مُعْجِزًا، وَالْكِتَابِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مَكْتُوبًا، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى كَوْنِهِ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ، مَعَ اتِّحَادِ الْمَدْلُولِ، ثُمَّ ضَمَّ إِلَى الْوَصْفَيْنِ وَصَفًّا ثَالِثًا، وَهِيَ: الْإِبَانَةُ(4/144)
لمعانيه لمن يقرؤه، أَوْ هُوَ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى: بَانَ مَعْنَاهُ، وَاتَّضَحَ إِعْجَازُهُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ. وَقُدِّمَ وَصْفُ الْقُرْآنِيَّةِ هُنَا، نَظَرًا إِلَى تَقَدُّمِ حال القرآنية على حال الكتابية وأخّره في سورة فَقَالَ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ «1» نَظَرًا إِلَى حَالَتِهِ الَّتِي قَدْ صَارَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ، وَالْكِتَابَةُ سَبَبُ الْقِرَاءَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ هُنَا، وَتَنْكِيرُ الْكِتَابِ، وَتَعْرِيفُ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، وَتَنْكِيرُ الْقُرْآنِ فَلِصَلَاحِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْآيَاتِ أَوْ مِنَ الْكِتَابِ، أَيْ: تِلْكَ آيَاتٌ هَادِيَةٌ وَمُبَشِّرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: هُوَ هُدًى، أَوْ هُمَا خَبِرَانِ آخَرَانِ لِتِلْكَ، أَوْ هُمَا مَصْدَرَانِ مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يَهْدِي هُدًى وَيُبَشِّرُ بُشْرًى. ثُمَّ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمُ الْهُدَى وَالْبُشْرَى فَقَالَ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، أَوْ يَكُونُ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا، أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ. وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَكَرَّرَ الضَّمِيرَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَصْرِ، أَيْ: لَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ حَقَّ الْإِيقَانِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ مضارعا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ السَّعَادَةِ ذَكَرَ بَعْدَهَمْ أَهْلَ الشَّقَاوَةِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمُ الْكُفَّارُ، أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ قِيلَ: الْمُرَادُ زَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ السَّيِّئَةَ حَتَّى رَأَوْهَا حَسَنَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ زَيَّنَ لَهُمُ الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ، وَذَكَرَ لَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّا جَعَلْنَا جَزَاءَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ أَنْ زَيَّنَّا لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أَيْ: يَتَرَدَّدُونَ فِيهَا، مُتَحَيِّرِينَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، لَا يَهْتَدُونَ إِلَى طَرِيقَةٍ، وَلَا يَقِفُونَ عَلَى حَقِيقَةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى يَعْمَهُونَ: يَتَمَادَوْنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
يَلْعَبُونَ، وَفِي مَعْنَى التَّحَيُّرِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى بالحائرين الْعُمَّهِ
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُوْلئِكَ إِلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ قِيلَ: فِي الدُّنْيَا، كَالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ بِعَذَابِ الدنيا، قوله بعده: وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أَيْ: هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ خُسْرَانًا، وَأَعْظَمُهُمْ خَيْبَةً، ثُمَّ مَهَّدَ سُبْحَانَهُ مُقَدِّمَةً نَافِعَةً لِمَا سَيَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْعَجِيبَةِ، فَقَالَ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أَيْ: يُلْقَى عَلَيْكَ فَتَلْقَاهُ، وَتَأْخُذَهُ مِنْ لَدُنْ كَثِيرِ الْحِكْمَةِ، وَالْعَلَمِ، قِيلَ: إِنَّ لَدُنْ هَاهُنَا: بِمَعْنَى عِنْدَ. وَفِيهَا لُغَاتٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ وَهُوَ ذاكر. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ إِذْ نَصْبٌ، الْمَعْنَى: اذْكُرْ إِذْ قَالَ مُوسَى، أَيِ: اذْكُرْ قِصَّتَهُ إِذْ قَالَ لِأَهْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِهِ: امْرَأَتُهُ فِي مَسِيرِهِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِذْ ذَاكَ إِلَّا زَوْجَتُهُ بِنْتُ شُعَيْبٍ، فَكَنَّى عَنْهَا بِلَفْظِ الْأَهْلِ، الدَّالِّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَمِثْلُهُ قوله: امْكُثُوا ومعنى
__________
(1) . الحجر: 1.(4/145)
إِنِّي آنَسْتُ نَارًا أَبْصَرْتُهَا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ السِّينُ تَدُلُّ عَلَى بُعْدِ مَسَافَةِ النَّارِ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِتَنْوِينِ شِهَابٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى قَبَسٍ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ قَبَسٌ بَدَلًا مِنْ شِهَابٍ، أَوْ صِفَةً لَهُ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَقْبُوسٍ، وعلى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ: آتِيكُمْ بِشُعْلَةِ نَارٍ مَقْبُوسَةٍ، أَيْ: مَأْخُوذَةٍ مِنْ أَصْلِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ نَوَّنَ جَعَلَ قَبَسٍ مِنْ صِفَةِ شِهَابٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذِهِ الْإِضَافَةُ كَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَصَلَاةُ الْأُولَى، وأضاف الشَّيْءَ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ أَسْمَائِهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ إِضَافَةُ النَّوْعِ إِلَى الْجِنْسِ كَمَا تَقُولُ: ثَوْبُ خَزٍّ، وَخَاتَمُ حَدِيدٍ.
قَالَ: وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ بِشِهَابٍ قَبَسًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَوْ بَيَانٌ، أَوْ حَالٌ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أَيْ:
رَجَاءٌ أَنْ تَسْتَدْفِئُوا بِهَا، أَوْ لِكَيْ تَسْتَدْفِئُوا بِهَا مِنَ الْبَرْدِ، يُقَالُ: صَلَى بِالنَّارِ وَاصْطَلَى بِهَا: إِذَا اسْتَدْفَأَ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ أَبْيَضَ ذِي نُورٍ فَهُوَ شِهَابٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشِّهَابُ: النَّارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ:
كَأَنَّمَا كَانَ شِهَابًا وَاقِدًا ... أَضَاءَ ضَوْءًا ثُمَّ صَارَ خَامِدًا
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَصْلُ الشِّهَابِ عُودٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ جَمْرَةٌ، وَالْآخَرُ لَا نَارَ فِيهِ، وَالشِّهَابُ: الشُّعَاعُ الْمُضِيءُ، وَقِيلَ: لِلْكَوْكَبِ شِهَابٌ، ومه قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فِي كَفِّهِ صَعْدَةٌ «1» مُثَقَّفَةٌ ... فِيهَا سِنَانٌ كَشُعْلَةِ الْقَبَسِ
فَلَمَّا جاءَها أَيْ: جَاءَ النَّارَ مُوسَى نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِمَا فِي النِّدَاءِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَوْ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ، أَيْ: بِأَنْ بُورِكَ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
أَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: بِأَنْ قَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ اسْمِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْأَوْلَى:
أَنَّ النَّائِبَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مُوسَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ «أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا» حَكَى ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكِ، وَبَارَكَ عَلَيْكِ، وَبَارَكَ لَكَ، وَكَذَلِكَ حَكَى هَذَا الْفَرَّاءُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، وَلَمْ يَقُلْ بُورِكَ عَلَى النَّارِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ بَارَكَكَ اللَّهُ، أَيْ: بُورِكَ عَلَى مَنْ فِي النَّارِ، وَهُوَ مُوسَى، أَوْ عَلَى مَنْ فِي قُرْبِ النَّارِ، لَا أَنَّهُ كَانَ فِي وَسَطِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ فِي النَّارِ مَلَائِكَةٌ، وَالنَّارُ هُنَا هي مجرّد نور، ولكن ظَنَّ مُوسَى أَنَّهَا نَارٌ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا وَجَدَهَا نُورًا. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جبير أن المراد بمن فِي النَّارِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَيْ: نُورُهُ. وَقِيلَ: بُورِكَ مَا فِي النَّارِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمَذْهَبُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّارِ النُّورُ، ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهَ فَقَالَ: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وفيه تعجيب لموسى من ذلك يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الْقَاهِرُ الْحَكِيمُ فِي أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ! مَنِ الَّذِي نَادَانِي؟ فَأَجَابَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ، لِيَعْرِفَ مَا أَجْرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْمُعْجِزَةِ الخارقة، وجملة وَأَلْقِ عَصاكَ معطوفة على
__________
(1) . الصّعدة: القناة التي تنبت مستقيمة.(4/146)
بُورِكَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ فَصَارَتْ حَيَّةً فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ قَالَ الزَّجَّاجُ: صَارَتِ الْعَصَا تَتَحَرَّكُ كَمَا يَتَحَرَّكُ الْجَانُّ، وَهِيَ الْحَيَّةُ الْبَيْضَاءُ، وَإِنَّمَا شَبَّهَهَا بِالْجَانِّ فِي خِفَّةِ حَرَكَتِهَا، وَشَبَّهَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالثُّعْبَانِ لِعِظَمِهَا، وَجَمْعُ الْجَانِّ: جِنَانٌ، وَهِيَ الْحَيَّةُ الْخَفِيفَةُ الصَّغِيرَةُ الْجِسْمِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا صَغِيرَةٌ، وَلَا كَبِيرَةٌ وَلَّى مُدْبِراً مِنَ الْخَوْفِ وَلَمْ يُعَقِّبْ أَيْ: لَمْ يَرْجِعْ، يُقَالُ: عَقَّبَ فُلَانٌ إِذَا رَجَعَ، وَكُلُّ رَاجِعٍ مُعَقِّبٌ، وَقِيلَ: لَمْ يَقِفْ وَلَمْ يَلْتَفِتْ. وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، لِأَنَّ التَّعْقِيبَ هُوَ الْكَرُّ بَعْدَ الْفَرِّ، فَلَمَّا وَقَعَ منه ذلك قال الله سبحانه: يا مُوسى لَا تَخَفْ أَيْ: مِنَ الْحَيَّةِ وَضَرَرِهَا إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أَيْ: لَا يَخَافُ عِنْدِي مَنْ أَرْسَلْتُهُ بِرِسَالَتِي، فَلَا تَخَفْ أَنْتَ. قِيلَ: وَنَفْيُ الْخَوْفِ عَنِ الْمُرْسَلِينَ لَيْسَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، بَلْ فِي وَقْتِ الْخِطَابِ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِذْ ذَاكَ مُسْتَغْرِقُونَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَقَالَ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: لَكِنَّ مَنْ أَذْنَبَ فِي ظُلْمِ نَفْسِهِ بِالْمَعْصِيَةِ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً أَيْ: تَوْبَةً وَنَدَمًا بَعْدَ سُوءٍ أَيْ: بَعْدَ عَمَلِ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، وَإِنَّمَا يَخَافُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ ظَلَمَ. إِلَّا مِنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ إِلَخْ. كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. قَالَ النَّحَّاسُ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَحْذُوفٍ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يُذْكَرْ.
وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ مِنَ الْمَذْكُورِ، لَا مِنَ الْمَحْذُوفِ. وَالْمَعْنَى:
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، بِإِتْيَانِ الصَّغَائِرِ الَّتِي لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ، وَقَالَ: عَلِمَ مَنْ عَصَى مِنْهُمْ، فَاسْتَثْنَاهُ فَقَالَ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ غَفَرْتُ لَهُ كَآدَمَ وَدَاوُدَ وَإِخْوَةِ يُوسُفَ وَمُوسَى بِقَتْلِهِ الْقِبْطِيِّ.
وَلَا مَانِعَ مِنْ الْخَوْفِ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ، فإن نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الَّذِي غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ كَانَ يَقُولُ:
وَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ الْمُرَادُ بِالْجَيْبِ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَفِي الْقَصَصِ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ «1» وَفِي أَدْخِلَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي اسْلُكْ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أَيْ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، أَوْ نَحْوِهُ مِنَ الْآفَاتِ، فَهُوَ احْتِرَاسٌ. وَقَوْلُهُ: «تَخْرُجُ» جَوَابُ أَدْخِلْ يَدَكَ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أَدْخِلْ يَدَكَ تَدْخُلْ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ، وَلَا حَاجَةَ لِهَذَا الْحَذْفِ، وَلَا مُلْجِئَ إِلَيْهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
كَانَتْ عَلَى مُوسَى مَدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ لَا كُمَّ لَهَا وَلَا إِزَارَ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ وَأَخْرَجَهَا فَإِذَا هِيَ تَبْرُقُ كَالْبَرْقِ، وَقَوْلُهُ: فِي تِسْعِ آياتٍ قَالَ أَبُو الْبَقَاءُ: هُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ فَاعِلِ تَخْرُجْ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ:
مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْهَبْ فِي تِسْعِ آيَاتٍ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَلْقِ عَصَاكَ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جُمْلَةِ تِسْعِ آيَاتٍ، أَوْ مَعَ تِسْعِ آيَاتٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَهُمَا آيَتَانِ مِنْ تِسْعٍ، يَعْنِي: الْعَصَا وَالْيَدَ، فَتَكُونُ الْآيَاتُ إِحْدَى عَشْرَةَ: هَاتَانِ، وَالْفَلْقُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْطَمْسَةُ، وَالْجَدْبُ فِي بَوَادِيهِمْ، وَالنُّقْصَانُ فِي مَزَارِعِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، يَعْنِي الْيَدَ دَاخِلَةٌ فِي تِسْعِ آيَاتٍ، وَكَذَا قَالَ الْمَهْدَوِيُّ، وَالْقُشَيْرِيُّ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: تَقُولُ خَرَجْتُ فِي عَشَرَةِ نفر، وأنت أحدهم، أي:
__________
(1) . القصص: 32.(4/147)
خَرَجْتُ عَاشِرُ عَشَرَةٍ، فَفِي بِمَعْنَى مَنْ لِقُرْبِهَا مِنْهَا كَمَا تَقُولُ خُذْ لِي عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ فِيهَا فَحْلَانِ، أَيْ: مِنْهَا.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَهَلْ يَنْعَمَنَّ مَنْ كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ ... ثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ
فِي: بِمَعْنَى مِنْ، وَقِيلَ: فِي بِمَعْنَى مَعَ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ:
إِنَّكَ مَبْعُوثٌ، أَوْ مُرْسَلٌ إِلَى فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أَيْ: جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا الَّتِي عَلَى يَدِ مُوسَى حَالَ كَوْنِهَا مُبْصِرَةً، أَيْ:
وَاضِحَةً بَيِّنَةً، كَأَنَّهَا لِفَرْطِ وُضُوحِهَا تُبْصِرُ نَفْسَهَا كَقَوْلِهِ: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً قَالَ الْأَخْفَشُ:
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مُبْصِرَةً، عَلَى أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَقَتَادَةُ مَبْصَرَةً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالصَّادِ، أَيْ: مَكَانًا يَكْثُرُ فِيهِ التَّبَصُّرُ، كَمَا يُقَالُ: الْوَلَدُ مَجْبَنَةٌ وَمَبْخَلَةٌ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ: لَمَّا جَاءَتْهُمْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، أَيْ: سِحْرٌ وَاضِحٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أَيْ: كَذَّبُوا بِهَا حَالَ كَوْنِ أَنْفُسِهِمْ مُسْتَيْقِنَةً لَهَا، فَالْوَاوُ لِلْحَالِ، وَانْتِصَابُ ظُلْماً وَعُلُوًّا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: ظَالِمِينَ عَالِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَا عَلَى الْعِلَّةِ، أَيِ:
الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا نَعْتَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: جَحَدُوا بِهَا جُحُودًا، ظُلْمًا وَعُلُوًّا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَالْبَاءُ فِي «وَجَحَدُوا بِهَا» زَائِدَةٌ، أَيْ: وَجَحَدُوهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ:
وَجَحَدُوا بِهَا ظُلْمًا وَعُلُوًّا، أَيْ: شِرْكًا وَتَكَبُّرًا عَنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أَيْ: تَفَكَّرْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ مُعْتَبَرًا لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَقَدْ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمُ الْإِغْرَاقَ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الْهَائِلَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ يَعْنِي تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَفْسَهُ، كَانَ نُورَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الشَّجَرَةِ وَمَنْ حَوْلَها يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ اللَّهُ فِي النُّورِ، نُودِيَ مِنَ النُّورِ وَمَنْ حَوْلَها قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: نَادَاهُ اللَّهُ وَهُوَ فِي النُّورِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ قَالَ: بُورِكَتِ النَّارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا» أَمَّا النَّارُ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ بُورِكَ قَالَ: قُدِّسَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ رُفِعَ لَأَحْرَقَتْ سَبَحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ.(4/148)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . وَالْحَدِيثُ أَصْلُهُ مُخَرَّجٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ من حديث عمرة بْنِ مُرَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَى مُوسَى جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ لَا تَبْلُغُ مِرْفَقَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ فَأَدْخَلَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا قَالَ: تَكَبُّرُا وَقَدِ اسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ، وَهَذَا من التقديم والتأخير.
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 26]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
لَمَّا فَرَغَ سبحانه من قصة موسى، شرع فِي قِصَّةِ دَاوُدَ، وَابْنِهِ سُلَيْمَانَ، وَهَذِهِ الْقِصَصُ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا هِيَ كَالْبَيَانِ وَالتَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ وَالتَّنْوِينُ فِي عِلْماً إِمَّا لِلنَّوْعِ، أَيْ: طَائِفَةً مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: عِلْمًا كَثِيرًا، والواو فِي قَوْلِهِ: وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامُ الْفَاءِ فَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ آتَيْنَاهُمَا عِلْمًا فَعَمِلَا بِهِ وَقَالَا الْحَمْدُ لله، ويؤيده أن الشكر باللسان، إنا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِعَمَلِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: فَضَّلَنَا بِالْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَتَسْخِيرِ الطَّيْرِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَلَمْ يُفَضِّلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْكُلِّ تَوَاضُعًا مِنْهُمْ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَارْتِفَاعِ مَحَلِّهِ، وَأَنَّ نِعْمَةَ الْعِلْمِ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ الَّتِي يُنْعِمُ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّ مَنْ أُوتِيَهُ فَقَدْ أُوتِيَ فَضْلًا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادِ، وَمُنِحَ شَرَفًا جَلِيلًا وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي: ورثه الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا فَوَرِثَ سُلَيْمَانُ مِنْ بَيْنِهِمْ نُبُوَّتَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ وِرَاثَةُ الْمَالِ، لِمَ يَخُصَّ سُلَيْمَانَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، فَهَذِهِ الْوِرَاثَةُ هِيَ وِرَاثَةٌ مَجَازِيَّةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العلماء ورثة الأنبياء» وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ قَالَ سُلَيْمَانُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مُخَاطِبًا لِلنَّاسِ، تَحَدُّثًا بما أنعم(4/149)
اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَشَكَرَ النِّعْمَةَ الَّتِي خَصَّهُ بِهَا، وَقَدَّمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْطِقُ الطَّيْرِ كَلَامُ الطَّيْرِ فَجُعِلَ كَمَنْطِقِ الرَّجُلِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:
عَجِيبٌ لَهَا أَنْ يَكُونَ غِنَاؤُهَا ... فَصِيحًا وَلَمْ يَغْفِرْ بِمَنْطِقِهَا فَمَا «1»
وَمَعْنَى الْآيَةِ فَهِمْنَا مَا يَقُولُ الطَّيْرُ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ عُلِّمَ مَنْطِقَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّيْرَ لِأَنَّهُ كَانَ جُنْدًا مِنْ جُنْدِهِ يَسِيرُ مَعَهُ لِتَظْلِيلِهِ مِنَ الشَّمْسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّمَا عُلِّمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ خَاصَّةً، وَلَا يُعْتَرَضُ ذَلِكَ بِالنَّمْلَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الطَّيْرِ، وَكَثِيرًا مَا تَخْرُجُ لَهَا أَجْنِحَةٌ فَتَطِيرُ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ النَّمْلَةُ الَّتِي سَمِعَ كَلَامَهَا وَفَهِمَهُ، وَمَعْنَى وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كُلُّ شَيْءٍ تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ: كَالْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَالِ وَتَسْخِيرِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ وَالرِّيَاحِ وَالْوَحْشِ وَالدَّوَابِّ، وَكُلِّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَجَاءَ سُلَيْمَانُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَالْمُرَادُ نَفْسُهُ، بَيَانًا لِحَالِهِ مِنْ كَوْنِهِ مُطَاعًا لَا يُخَالَفُ، لَا تَكْبُرًا، وَتَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّعْلِيمِ وَالْإِيتَاءِ لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أَيِ: الظَّاهِرُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، أَوِ الْمُظْهِرُ لِفَضِيلَتِنَا وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ الْحَشْرُ: الْجَمْعُ، أَيْ: جُمِعَ لَهُ جُنُودُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ. وَقَدْ أَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذِكْرِ مِقْدَارِ جُنْدِهِ وَبَالَغَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مُبَالَغَةً تَسْتَبْعِدُهَا الْعُقُولُ وَلَا تَصِحُّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَ فِي الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ: لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَزْعَةٌ تَرُدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، فَيَقِفُونَ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، يُقَالُ وَزَعَهُ يَزَعُهُ وَزْعًا: كَفَّهُ، وَالْوَازِعُ فِي الْحَرْبِ: الْمُوَكَّلُ بِالصُّفُوفِ يَزَعُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ، أَيْ: يَرُدُّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ أَلَمًا أَصِحْ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَمَنْ لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وَحَيَاؤُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ مِنْ شِيبِ فَوْدَيْهِ وَازِعُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَلَا يَزَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنِ الْهَوَى ... مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَافِرُ الْعَقْلِ كَامِلُهُ
وَقِيلَ: مِنَ التَّوْزِيعِ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ، يُقَالُ: الْقَوْمُ أَوْزَاعٌ: أي طوائف حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ حتى هي التي يبتدأ بَعْدَهَا الْكَلَامُ، وَيَكُونُ غَايَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى فَهُمْ يُوزَعُونَ إِلَى حُصُولِ هَذِهِ الْغَايَةِ، وَهُوَ إِتْيَانُهُمْ عَلَى وَادِ النَّمْلِ، أَيْ: فَهُمْ يَسِيرُونَ مَمْنُوعًا بَعْضُهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ بَعْضٍ حَتَّى إِذَا أتوا إلخ، وعلى واد النمل متعلق باتوا، وَعُدِّيَ بِعَلَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَحْمُولِينَ عَلَى الرِّيحِ فَهُمْ مُسْتَعْلُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَطَعُوا الْوَادِيَ وَبَلَغُوا
__________
(1) . جاء في اللسان مادة فغر: قال حميد يصف حمامة:
عجبت لها أنّى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما(4/150)
آخِرَهُ، وَوَقَفَ الْقُرَّاءُ جَمِيعُهُمْ عَلَى وَادٍ بِدُونِ يَاءٍ اتِّبَاعًا لِلرَّسْمِ حَيْثُ لَمْ تُحْذَفْ لِالْتِقَاءِ الساكنين كقوله: الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ «1» إِلَّا الْكِسَائِيَّ فَإِنَّهُ وَقَفَ بِالْيَاءِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَذْفِ إِنَّمَا هُوَ الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ بِالْوَصْلِ. قَالَ كَعْبٌ: وَادِ النَّمْلِ بِالطَّائِفِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ بِالشَّامِ قالَتْ نَمْلَةٌ هَذَا جَوَابُ إِذَا، كَأَنَّهَا لَمَّا رَأَتْهُمْ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى الْوَادِي، فَرَّتْ وَنَبَّهَتْ سَائِرَ النَّمْلِ مُنَادِيَةً لَهَا قَائِلَةً: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ جَعَلَ خِطَابَ النَّمْلِ كَخِطَابِ الْعُقَلَاءِ لِفَهْمِهَا لِذَلِكَ الْخِطَابِ، وَالْمَسَاكِنُ: هِيَ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي يَسْكُنُ النَّمْلُ فِيهَا.
قِيلَ: وَهَذِهِ النَّمْلَةُ الَّتِي سَمِعَهَا سُلَيْمَانُ هِيَ أُنْثَى، بِدَلِيلِ تَأْنِيثِ الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهَا. وَرَدَّ هَذَا أَبُو حَيَّانَ فقال:
إلحاق التَّاءِ فِي قَالَتْ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّمْلَةَ مُؤَنَّثَةٌ، بَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي المذكر قالت، لأن نَمْلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِالتَّاءِ فَهِيَ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ بِتَذْكِيرِ الْفِعْلِ، وَلَا بِتَأْنِيثِهِ، بَلْ يَتَمَيَّزُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ «2» ، وَلَا بِالتَّعَرُّضِ لِاسْمِ النَّمْلَةِ، وَلِمَا ذُكِرَ مِنَ الْقِصَصِ الْمَوْضُوعَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ. وَقَرَأَ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان «نملة» والنمل بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ النُّونِ، بِزِنَةِ رَجُلٍ وَسَمُرَةٍ.
وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِضَمَّتَيْنِ فِيهِمَا. لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ الْحَطْمُ: الْكَسْرُ، يُقَالُ حَطَمْتُهُ حَطْمًا: أَيْ كَسَرْتُهُ كَسَرَا، وَتَحَطَّمَ تَكَسَّرَ، وَهَذَا النَّهْيُ هُوَ فِي الظَّاهِرِ لِلنَّمْلِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لِسُلَيْمَانَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْأَمْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ:
أَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا على قراءة الأعمش، «لَا يَحْطِمْكُمْ» بِالْجَزْمِ بِدُونِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ نُونِ التَّوْكِيدِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الشِّعْرِ، شَبَّهُوهُ بِالنَّهْيِ حَيْثُ كَانَ مَجْزُومًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُنَّ» وَقَرَأَ شَهْرُ بْنُ حوشب «مسكنكم» وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وَعِيسَى الْهَمْدَانِيُّ «لَا يُحَطِّمَنَّكُمْ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الحاء وتشديد الطاء، وقرأ ابن أبي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ بِسُكُونِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَحْطِمَنَّكُمْ، أَيْ: لَا يَشْعُرُونَ بِحَطْمِكُمْ وَلَا يَعْلَمُونَ بِمَكَانِكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَالنَّمْلُ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ سُلَيْمَانَ يَفْهَمُ مَقَالَتَهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها قرأ ابن السميقع «ضَحِكًا» وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ ضَاحِكًا: حَالًا مُؤَكَّدَةً لِأَنَّهُ قَدْ فُهِمَ الضَّحِكُ مِنَ التَّبَسُّمِ، وَقِيلَ: هِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأَنَّ التَّبَسُّمَ أَوَّلُ الضَّحِكِ، وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ التَّبَسُّمُ قَدْ يَكُونُ لِلْغَضَبِ كَانَ الضَّحِكُ مُبَيِّنًا لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ ضَحِكَ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ التَّبَسُّمُ لَا غَيْرَ، وَعَلَى قراءة ابن السميقع يَكُونُ ضَحِكًا: مَصْدَرًا مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَانَ ضَحِكَ سُلَيْمَانَ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِهَا، وَفَهْمِهَا، وَاهْتِدَائِهَا إِلَى تَحْذِيرِ النَّمْلِ وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وقد تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى أَوْزِعْنِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: «فهم يوزعون» قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَحَقِيقَةُ أَوْزِعْنِي: اجْعَلْنِي أَزِعُ شُكْرَ نِعَمِكَ عِنْدِي وَأَكُفُّهُ، وَأَرْتَبِطُهُ لَا يَنْفَلِتُ
__________
(1) . الفجر: 9.
(2) . كان يغني عن ذلك كله الرجوع إلى كتب اللغة وفيها: النملة: واحدة النمل للذكر والأنثى.(4/151)
عَنِّي، حَتَّى لَا أَنْفَكَّ شَاكِرًا لَكَ، انْتَهَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَوْزِعْنِي أَيْ: أَلْهِمْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، يُقَالُ: فُلَانٌ مُوزَعٌ بِكَذَا، أَيْ: مُولَعٌ بِهِ، انْتَهَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَصْلُهُ مِنْ وَزِعَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
كُفَّنِي عَمَّا يُسْخِطُكَ انْتَهَى. وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَوْزِعْنِي هُوَ: أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
إِنَّ مَعْنَى أَوْزِعْنِي: امْنَعْنِي أَنْ أَكْفُرَ نِعْمَتَكَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ، وَمَعْنَى وَعَلَى وَالِدَيَّ: الدُّعَاءُ مِنْهُ بِأَنْ يُوزِعَهُ اللَّهُ شُكْرَ نِعْمَتِهِ عَلَى وَالِدَيْهِ، كَمَا أَوْزَعَهُ شُكْرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمَا إِنْعَامٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ مِنْهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ طَلَبَ أَنْ يُضِيفَ اللَّهُ لَهُ لَوَاحِقَ نِعَمِهِ إِلَى سَوَابِقِهَا، وَلَا سِيَّمَا النِّعَمُ الدِّينِيَّةُ، فَقَالَ:
وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ أَيْ: عَمَلًا صَالِحًا تَرْضَاهُ مِنِّي، ثُمَّ دَعَا أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْآخِرَةِ دَاخِلًا فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ الطَّلَبُ بِهَا، فَقَالَ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ وَالْمَعْنَى: أَدْخِلْنِي فِي جُمْلَتِهِمْ، وَأَثْبِتِ اسْمِي فِي أَسْمَائِهِمْ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَتِهِمْ إِلَى دَارِ الصَّالِحِينَ، وَهِيَ الْجَنَّةُ، اللَّهُمَّ وَإِنِّي أَدْعُوكَ بِمَا دَعَاكَ بِهِ هَذَا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ فَتَقَبَّلْ ذَلِكَ مِنِّي وَتَفَضَّلْ عَلَيَّ بِهِ، فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ فَفَضْلُكَ هُوَ سَبَبُ الْفَوْزِ بِالْخَيْرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُنَادِيَةٌ بِأَعْلَى صَوْتٍ، وَأَوْضَحِ بَيَانٍ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّفَضُّلِ مِنْكَ، لَا بالعمل منهم كما قال رسولك الصادق المصدوق فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» إذا لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَفَضُّلُكَ الْوَاسِعُ فَتَرْكُ طَلَبِهِ مِنْكَ عَجْزٌ، وَالتَّفْرِيطُ فِي التَّوَسُّلِ إِلَيْكَ بِالْإِيصَالِ إِلَيْهِ تَضْيِيعٌ، ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ بِلْقِيسَ، وَمَا جَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ، وَذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْهُدْهُدِ فَقَالَ: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ التَّفَقُّدُ: تَطَلُّبُ مَا غَابَ عَنْكَ وَتَعَرُّفُ أَحْوَالِهِ، وَالطَّيْرُ: اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا يَطِيرُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَطَلَّبَ مَا فَقَدَ مِنَ الطَّيْرِ، وَتَعَرَّفَ حَالَ مَا غَابَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الطَّيْرُ تَصْحَبُهُ فِي سَفَرِهِ، وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أَيْ: مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ؟ فَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْكَلَامِ الْمَقْلُوبِ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ كَثِيرًا، وَقِيلَ: لَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ الْقَلْبِ، بَلْ هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْهُدْهُدِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَالِي لَا أَرَاهُ هَلْ ذَلِكَ لِسَاتِرٍ يَسْتُرُهُ عَنِّي، أَوْ لِشَيْءٍ آخَرَ؟ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ غَائِبٌ فَقَالَ: أَمْ كَانَ من الغائبين، وأم هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ، قَرَأَ ابْنُ كثير وابن محيصن وهشام وأيوب «مالي» بفتح الياء، وكذلك قرءوا فِي يس وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي «1» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَقَرَأَ بِإِسْكَانِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الَّتِي فِي يس، وَإِسْكَانِ الَّتِي هُنَا.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لِأَنَّ هَذِهِ الَّتِي هُنَا اسْتِفْهَامٌ، وَالَّتِي فِي يس نَفْيٌ، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْإِسْكَانَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ.
اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ جميعا. وقال يزيد ابن رُومَانَ: هُوَ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَ جَنَاحَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَحْبِسَهُ مَعَ أَضْدَادِهِ، وَقِيلَ: أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ خِدْمَتِهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ، لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ. وَقَوْلُهُ عَذَابًا اسْمُ مَصْدَرٍ أَوْ مصدر على
__________
(1) . يس: 22.(4/152)
حَذْفِ الزَّوَائِدِ كَقَوْلِهِ: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1» أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ بِنُونِ التَّأْكِيدِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا نُونُ الْوِقَايَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ فَقَطْ، وَهِيَ نُونُ التوكيد، وقرأ عيسى ابن عُمَرَ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ غَيْرِ مَوْصُولَةٍ بِالْيَاءِ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: هُوَ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ فِي غَيْبَتِهِ «فمكث» ابن عُمَرَ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ غَيْرِ مَوْصُولَةٍ بِالْيَاءِ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: هُوَ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ فِي غَيْبَتِهِ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أَيِ: الْهُدْهُدُ مَكَثَ زَمَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مَكُثَ» بِضَمِّ الْكَافِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحْدَهُ بِفَتْحِهَا، وَمَعْنَاهُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ: أَقَامَ زَمَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَكَثَ يَمْكُثُ مُكُوثًا كَقَعَدَ يَقْعُدُ قُعُودًا.
وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي مَكَثَ لِسُلَيْمَانَ. وَالْمَعْنَى: بَقِيَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ التَّفَقُّدِ وَالتَّوَعُّدِ زَمَانًا غَيْرَ طَوِيلٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أَيْ: عَلِمْتُ مَا لَمْ تَعْلَمْهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْإِحَاطَةُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلَعَلَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَكَثَ الْهُدْهُدُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَجَاءَ فَعُوتِبَ عَلَى مَغِيبِهِ، فَقَالَ مُعْتَذِرًا عَنْ ذَلِكَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ إِدْغَامُ التَّاءَ فِي الطَّاءِ، فيقال: حطّ، وَإِدْغَامُ الطَّاءِ فِي التَّاءِ فَيُقَالُ: أَحَتُّ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ سَبَإٍ بِالصَّرْفِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، نُسِبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ ... قد عضّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَتَرْكِ الصَّرْفِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَدِينَةٍ، وَأَنْكَرَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ رَجُلٍ وَقَالَ: سَبَأٌ اسْمُ مَدِينَةٍ تُعْرَفُ بِمَأْرِبِ اليمن، بينها وَبَيْنَ صَنْعَاءَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ امْرَأَةٍ سُمِّيَتْ بِهَا الْمَدِينَةُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، كَمَا فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَفِيَ هَذَا عَلَى الزَّجَّاجِ فَخَبِطَ خَبْطَ عَشْوَاءَ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الرُّؤَاسِيَّ سَأَلَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنْ سَبَأٍ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَبُو عَمْرٍو أَجَلَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ هَذَا، قَالَ: وَالْقَوْلُ فِي سَبَأٍ مَا جَاءَ التَّوْقِيفُ فِيهِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ رَجُلٍ، فَإِنْ صَرَفْتَهُ فَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ اسْمًا لِلْحَيِّ، وَإِنْ لَمْ تَصْرِفْهُ جَعَلْتَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، مِثْلَ ثَمُودَ، إِلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ الصَّرْفُ، انْتَهَى.
وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ سَبَأً اسْمٌ لِمَدِينَةٍ بِالْيَمَنِ كَانَتْ فِيهَا بِلْقِيسُ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمُ رَجُلٍ مِنْ قَحْطَانَ! وَهُوَ سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ هُودٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا أَنَّ الْهُدْهُدَ جَاءَ إِلَى سُلَيْمَانَ بِخَبَرِ مَا عَايَنَهُ فِي مَدِينَةِ سَبَأٍ مِمَّا وَصَفَهُ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذَا الْبَحْثِ مِنَ الْمَأْثُورِ مَا يُوَضِّحُ هَذَا وَيُؤَيِّدُهُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْهُدْهُدَ جَاءَ سُلَيْمَانَ مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بِخَبَرٍ يَقِينٍ، وَالنَّبَأُ: هُوَ الْخَبَرُ الْخَطِيرُ الشَّأْنِ، فَلَمَّا قَالَ الْهُدْهُدَ لِسُلَيْمَانَ مَا قَالَ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَهِيَ: بِلْقِيسُ بِنْتُ شُرَحْبِيلَ، وَجَدَهَا الْهُدْهُدُ تَمْلِكُ أَهْلَ سَبَأٍ، وَالْجُمْلَةُ هَذِهِ كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرُ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: ذَلِكَ النَّبَأُ الْيَقِينُ هُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ تَمْلُكُ هَؤُلَاءِ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ مُبَالَغَةٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَحْتَاجُهَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي زَمَانِهَا شَيْئًا، فَحَذَفَ شَيْئًا لِأَنَّ الْكَلَامَ قد دلّ عليه وَلَها
__________
(1) . نوح: 17.(4/153)