وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
الذي قلت؟ كان مُنْشَرِحًا بِالَّذِي قُلْتَ أَمْ لَا؟ قَالَ: لَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَتَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، قَالَ: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، قَالَ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ، فَنَزَلَتْ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ قَالَ: ذَاكَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي سُورَةِ النَّحْلِ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ نَسَخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا الْآيَةَ قَالَ: وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا فِيمَنْ كَانَ يُفْتَنُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأخرج ابن مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِالْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا الْآيَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا فَاخْرُجُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ فَنَجَا مَنْ نَجَا، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُيُونًا لِمُسَيْلِمَةَ أَخَذُوا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَوْهُ بِهِمَا، فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي أَصَمُّ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَرْسَلَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَمَّا صَاحِبُكَ فَمَضَى عَلَى إِيمَانِهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَأَخَذْتَ بِالرُّخْصَةِ. وهو مرسل.
[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 119]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)(3/237)
قَوْلُهُ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ضَرَبَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى جَعَلَ حَتَّى تَكُونَ قرية المفعول الأوّل ومثلا الْمَفْعُولَ الثَّانِي، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ قَرْيَةً لِئَلَّا يَقَعُ الْفَصْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صِفَاتِهَا. وَقَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَرَبَ عَلَى بَابِهِ غَيْرَ مضمن ويكون مثلا مفعوله الأوّل وقرية بَدَلًا مِنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَلِ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْقَرْيَةِ قَرْيَةٌ مُعَيَّنَةٌ، أَوِ الْمُرَادُ قَرْيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ كُلُّ قَوْمٍ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى الْأَوَّلِ وَصَرَّحُوا بِأَنَّهَا مَكَّةُ، وَذَلِكَ لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ» ، فَابْتُلُوا بِالْقَحْطِ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ. وَالثَّانِي أَرْجَحُ لِأَنَّ تَنْكِيرَ قَرْيَةٍ يُفِيدُ ذَلِكَ، وَمَكَّةُ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ الْبَدَلِيِّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَأَيْضًا يَكُونُ الْوَعِيدُ أَبْلَغَ، وَالْمَثَلُ أَكْمَلَ، وَغَيْرُ مَكَّةَ مِثْلُهَا، وَعَلَى فَرْضِ إِرَادَتِهَا فَفِي الْمَثَلِ إِنْذَارٌ لِغَيْرِهَا مِنْ مِثْلِ عَاقِبَتِهَا، ثُمَّ وَصَفَ الْقَرْيَةَ بِأَنَّهَا كانَتْ آمِنَةً غَيْرَ خَائِفَةٍ مُطْمَئِنَّةً غَيْرَ مُنْزَعِجَةٍ، أَيْ: لَا يَخَافُ أَهْلُهَا وَلَا يَنْزَعِجُونَ يَأْتِيها رِزْقُها أَيْ: مَا يَرْتَزِقُ بِهِ أَهْلُهَا رَغَداً وَاسِعًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يُجْلَبُ مَا فِيهَا إِلَيْهَا فَكَفَرَتْ أَيْ: كَفَرَ أَهْلُهَا بِأَنْعُمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَالْأَنْعُمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ كَالْأَشُدِّ جَمْعُ شِدَّةٍ، وَقِيلَ: جَمْعُ نُعْمَى، مِثْلُ بُؤْسَى وَأَبْؤُسٌ، وَهَذَا الْكُفْرُ مِنْهُمْ هُوَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَكْذِيبُ رُسُلِهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ أَيْ: أَذَاقَ أَهْلَهَا لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ سُمِّيَ ذَلِكَ لِبَاسًا لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْهُزَالِ وَشُحُوبَةِ اللَّوْنِ وَسُوءِ الْحَالِ مَا هُوَ كَاللِّبَاسِ، فَاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُهُ وَأُوقِعَ عَلَيْهِ الْإِذَاقَةُ، وَأَصْلُهَا الذَّوْقُ بِالْفَمِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ لِمُطْلَقِ الِاتِّصَالِ مَعَ إِنْبَائِهَا بِشِدَّةِ الْإِصَابَةِ لِمَا فِيهَا مِنِ اجْتِمَاعِ الْإِدْرَاكَيْنِ: إِدْرَاكُ اللَّمْسِ، وَالذَّوْقِ. رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الرَّاوَنْدِيِّ الزِّنْدِيقَ قَالَ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ إِمَامِ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ: هَلْ يُذَاقُ اللِّبَاسُ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا بَأْسَ أَيُّهَا النَّسْنَاسُ، هَبْ أَنَّ مُحَمَّدًا مَا كَانَ نَبِيًّا، أَمَا كَانَ عَرَبِيًّا؟ كَأَنَّهُ طَعَنَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ يُقَالَ: فَكَسَاهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ أَوْ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ طَعْمَ الْجُوعِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَقَدْ أَجَابَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَجْرِيدِ الِاسْتِعَارَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَعَارَ اللِّبَاسَ لِمَا غَشِيَ الْإِنْسَانَ مِنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ كَالْجُوعِ وَالْخَوْفِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ اشْتِمَالَ اللِّبَاسِ عَلَى اللَّابِسِ، ثُمَّ ذُكِرَ الْوَصْفُ مُلَائِمًا لِلْمُسْتَعَارِ لَهُ وَهُوَ الْجُوعُ وَالْخَوْفُ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الذَّوْقِ عَلَى إِدْرَاكِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ، فَيَقُولُونَ: ذَاقَ فُلَانٌ الْبُؤْسَ وَالضُّرَّ وَأَذَاقَهُ غَيْرُهُ، فَكَانَتِ الِاسْتِعَارَةُ مجرّدة، ولو قال فكساها كانت مرشحة. وقيل: وَتَرْشِيحُ الِاسْتِعَارَةِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا مِنْ جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، إِلَّا أَنَّ لِلتَّجْرِيدِ تَرْجِيحًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رُوعِيَ جَانِبُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ، فَازْدَادَ الْكَلَامُ وُضُوحًا، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ بِالْفَمِ، ثُمَّ قَدْ يُسْتَعَارُ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ التَّعَرُّفِ وَالِاخْتِبَارِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعِمْتُهَا ... وَسِيقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذَابُهَا(3/238)
وَقَرَأَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو عَمْرٍو فِيمَا رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الْوَارِثِ بِنَصْبِ الْخَوْفِ عَطْفًا عَلَى لباس، وقرأ الباقون بالخفض عَطْفًا عَلَى الْجُوعِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كُلُّ الصِّفَاتِ أُجْرِيَتْ عَلَى الْقَرْيَةِ إِلَّا قَوْلَهُ: يَصْنَعُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَقِيقَةِ أَهْلُهَا وَلَقَدْ جاءَهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ رَسُولٌ مِنْهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْرِفُونَ نَسَبَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِمَا فِيهِ نَفْعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ ضُرُّهُمْ فَكَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ النَّازِلُ بِهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ فِي حَالِ أَخْذِ الْعَذَابِ لَهُمْ ظالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِإِيقَاعِهَا فِي الْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ وَلِغَيْرِهِمْ بِالْإِضْرَارِ بِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ تَمَامِ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ هُنَا هُوَ الْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَقِيلَ: الْقَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ لَمَّا وَعَظَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهَا، وَجَاءَ بِالْفَاءِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُتَسَبِّبٌ عَنْ تَرْكِ الْكُفْرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَمَّا آمَنْتُمْ وَتَرَكْتُمُ الْكُفْرَ فَكُلُوا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ وَاتْرُكُوا الْخَبَائِثَ وهو الميتة والدم وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ وَاعْرِفُوا حَقَّهَا إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وَلَا تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، أَوْ إِنْ صَحَّ زَعْمُكُمْ أَنَّكُمْ تَقْصِدُونَ بِعِبَادَةِ الْآلِهَةِ الَّتِي زَعَمْتُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: إِنَّ الْفَاءَ فِي فَكُلُوا دَاخِلَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ لِأَنَّ الْأَكْلَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الشُّكْرِ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ قَطْعًا لِلْأَعْذَارِ وَإِزَالَةً لِلشُّبْهَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الرُّخْصَةَ فِي تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ فَقَالَ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى جَمِيعِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ هُنَا مُسْتَوْفًى. ثُمَّ زَيَّفَ طَرِيقَةَ الْكُفَّارِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَفِي النُّقْصَانِ عَنْهَا كَتَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَقَالَ: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ: مَا هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ وَانْتِصَابُ الْكَذِبَ بلا تَقُولُوا، أَيْ: لَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِأَجْلِ وَصْفِ أَلْسِنَتِكُمْ، وَمَعْنَاهُ: لَا تُحَرِّمُوا وَلَا تُحَلِّلُوا لِأَجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، ويجوز أن تكون ما موصولة والكذب منتصب بتصف، أَيْ: لَا تَقُولُوا لِلَّذِي تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ فِيهِ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ فَحَذَفَ لَفْظَةَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بَدَلًا مِنَ الْكَذِبَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ فَتَقُولُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، أَوْ قَائِلَةٌ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ الْكَذِبَ أَيْضًا بتصف وَتَكُونُ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: لَا تَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ. وَقُرِئَ الْكُذُبُ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ وَالْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْأَلْسِنَةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذال والباء نعتا لما. وَقِيلَ: عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَا، أَيْ: وَلَا تَقُولُوا الْكَذِبَ الَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَاللَّامُ فِي لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ لَا لَامُ الْعَرْضِ، أَيْ: فَيَتَعَقَّبُ ذَلِكَ افْتِرَاؤُكُمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَإِسْنَادُ ذَلِكَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أَيَّ افْتِرَاءٍ كَانَ لَا يُفْلِحُونَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَلَاحِ وَهُوَ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ وَارْتِفَاعُ مَتاعٌ قَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: مَتَاعُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ،(3/239)
أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يُرَدُّونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ خَصَّ مُحَرَّمَاتِ الْيَهُودِ بِالذِّكْرِ فَقَالَ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا أَيْ: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ بِقَوْلِنَا: حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما «1» الآية، ومِنْ قَبْلُ متعلّق بقصصنا أو بحرمنا وَما ظَلَمْناهُمْ بِذَلِكَ التَّحْرِيمِ بَلْ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حَيْثُ فَعَلُوا أَسْبَابَ ذَلِكَ فَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ عُقُوبَةً لَهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمُخَالَفَةَ أَمْرِهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ وَحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ فَقَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ أَيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِجَهَالَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ
مِنْ بَعْدِ عَمَلِهِمْ لِلسُّوءِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ فَإِنَّ ثُمَّ قَدْ دَلَّتْ عَلَى الْبَعْدِيَّةِ فَأَكَّدَهَا بِزِيَادَةِ ذِكْرِ الْبَعْدِيَّةِ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمُ الَّتِي كَانَ فِيهَا فَسَادٌ بِالسُّوءِ الَّذِي عَمِلُوهُ، ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أَيْ:
مِنْ بَعْدِ التَّوْبَةِ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ كَثِيرُ الْغُفْرَانِ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً قَالَ: يَعْنِي مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطِيَّةَ فِي الْآيَةِ مِثْلَهُ وَزَادَ فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: الْقَرْيَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً هِيَ: يَثْرِبُ. قُلْتُ: وَلَا أَدْرِي أَيَّ دَلِيلٍ دَلَّهُ عَلَى هَذَا التَّعْيِينِ، وَلَا أَيَّ قَرِينَةٍ قَامَتْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَتَى كَفَرَتْ دَارُ الْهِجْرَةِ وَمَسْكَنُ الْأَنْصَارِ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، وَأَيَّ وَقْتٍ أَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَهِيَ الَّتِي تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ. وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ الْآيَةَ قَالَ: فِي الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أَخَافُ الْفُتْيَا إِلَى يَوْمِي هَذَا. قُلْتُ: صَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ بِعُمُومِ لَفْظِهَا فُتْيَا مَنْ أَفْتَى بِخِلَافِ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْثِرِينَ لِلرَّأْيِ الْمُقَدِّمِينَ لَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ، أَوِ الْجَاهِلِينَ لِعِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالْمُقَلِّدَةِ، وَإِنَّهُمْ لَحَقِيقُونَ بِأَنْ يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم، فَإِنَّهُمْ أَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، فَهُمْ وَمَنْ يَسْتَفْتِيهِمْ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
كَبَهِيمَةٍ عَمْيَاءَ قَادَ زِمَامَهَا ... أَعْمَى عَلَى عِوَجِ الطَّرِيقِ الْجَائِرِ
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَسَى رَجُلٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكَذَا أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: كَذَبْتَ أَوْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ كَذَا أَوْ أَحَلَّ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ له: كذبت. وأخرج ابن
__________
(1) . الأنعام: 146.(3/240)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ قَالَ: فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَقَالَ حَيْثُ يَقُولُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا إِلَى قوله: وَإِنَّا لَصادِقُونَ «1»
[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 128]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ دَفْعِ شُبَهِ الْمُشْرِكِينَ وَإِبْطَالِ مَطَاعِنِهِمْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَهُوَ قُدْوَةُ كَثِيرٍ مِنَ النَّبِيِّينَ، ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْعَالِمِ أُمَّةٌ، وَالْأُمَّةُ: الرَّجُلُ الْجَامِعُ لِلْخَيْرِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: أَيْ: مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ، أَوْ جَامِعًا لِخِصَالِ الْخَيْرِ، أَوْ عَالِمًا بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَقِيلَ: أُمَّةً بِمَعْنَى مَأْمُومٍ، أَيْ: يَؤُمُّهُ النَّاسُ لِيَأْخُذُوا مِنْهُ الْخَيْرَ، كَمَا قال سبحانه: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «2» . وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعَانِي الْقُنُوتِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالْحَنِيفُ: الْمَائِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إِلَى دِينِ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْأَنْعَامِ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ كَمَا تَزْعُمُهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِهِمُ الْبَاطِلِ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَمْعُ الْقِلَّةِ، فَهُوَ شَاكِرٌ لِمَا كَثُرَ مِنْهَا بِالْأَوْلَى اجْتَباهُ أَيِ: اخْتَارَهُ لِلنُّبُوَّةِ، وَاخْتَصَّهُ بِهَا وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ وَدِينُ الْحَقِّ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أَيْ: خصلة حسنة أو حالة حسنة، وقيل: هي الْوَلَدُ الصَّالِحُ، وَقِيلَ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ مِنَّا عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ، وَقِيلَ:
هِيَ أَنَّهُ يَتَوَلَّاهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ مَا آتَاهُ اللَّهُ شَامِلًا لِذَلِكَ كُلِّهِ وَلِمَا عَدَاهُ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ حَسْبَمَا وَقَعَ مِنْهُ السُّؤَالُ لِرَبِّهِ حَيْثُ قَالَ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ- وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ- وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ «3» . ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِكَ وَسُمُوِّ مَنْزِلَتِكَ وَكَوْنِكَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وَأَصْلُ الْمِلَّةِ: اسْمٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ من أنبيائه، قيل: وَالْمُرَادُ هُنَا اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي التَّوْحِيدِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ. وقال ابن جرير:
__________
(1) . الأنعام: 146.
(2) . البقرة: 124.
(3) . الشعراء: 83- 85.(3/241)
فِي التَّبَرِّي مِنَ الْأَوْثَانِ وَالتَّدَيُّنِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: فِي مَنَاسِكِ الْحِجِّ وَقِيلَ: فِي الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ وَقِيلَ: فِي جَمِيعِ شَرِيعَتِهِ إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ مَعَ كَوْنِهِ سَيِّدَهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «1» ، وَانْتِصَابُ حَنِيفاً عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَجَازَ مَجِيءُ الْحَالِ مِنْهُ لِأَنَّ الْمِلَّةَ كَالْجُزْءِ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ جَائِزٌ، إِذَا كَانَ يَقْتَضِي الْمُضَافُ الْعَمَلَ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ جُزْءًا مِنْهُ، أَوْ كَالْجُزْءِ وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِمَا سَبَقَ لِلنُّكْتَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ: إِنَّمَا جُعِلَ وَبَالُ السَّبْتِ، وَهُوَ الْمَسْخُ، عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، أَوْ إِنَّمَا جُعِلَ فَرْضُ تَعْظِيمِ السَّبْتِ وَتَرْكِ الصَّيْدِ فِيهِ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الِاخْتِلَافِ الْكَائِنِ بَيْنَهُمْ فِي السَّبْتِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ مُوسَى أَمَرَهُمْ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَعَيَّنَهُ لَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِفَضِيلَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَخَالَفُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّ السَّبْتَ أَفْضَلُ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: دَعْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُمْ بِتَعْظِيمِ يَوْمٍ فِي الْأُسْبُوعِ، فَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ فِيهِ، فَعَيَّنَتِ الْيَهُودُ السَّبْتَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَغَ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ، وَعَيَّنَتِ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ لِأَنَّ اللَّهَ بَدَأَ فِيهِ الْخَلْقَ، فَأَلْزَمَ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَعَيَّنَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكِلَهُمْ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ فَضْلًا مِنْهُ وَنِعْمَةً.
وَوَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ السَّبْتَ مِنْ شَرَائِعِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ السَّبْتَ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أَيْ:
بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَيُجَازِي كُلًّا فِيهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ ثَوَابًا وَعِقَابًا، كَمَا وَقَعَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْمَسْخِ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَالتَّنْجِيَةِ لِأُخْرَى، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يَدْعُوَ أُمَّتَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ:
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلتَّعْمِيمِ لِكَوْنِهِ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ بِالْحِكْمَةِ أَيْ: بِالْمَقَالَةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّحِيحَةِ، قِيلَ: وَهِيَ الْحُجَجُ الْقَطْعِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلْيَقِينِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَهِيَ الْمَقَالَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَسْتَحْسِنُهَا السَّامِعُ، وَتَكُونُ فِي نَفْسِهَا حَسَنَةً بِاعْتِبَارِ انْتِفَاعِ السَّامِعِ بِهَا. قِيلَ: وَهِيَ الْحُجَجُ الظَّنِّيَّةُ الْإِقْنَاعِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّصْدِيقِ بِمُقَدَّمَاتٍ مَقْبُولَةٍ، قِيلَ: وَلَيْسَ لِلدَّعْوَةِ إِلَّا هَاتَانِ الطَّرِيقَتَانِ، وَلَكِنَّ الدَّاعِيَ قَدْ يَحْتَاجُ مَعَ الْخَصْمِ الْأَلَدِّ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْجَدَلِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ: بِالطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْمُجَادَلَةِ الْحَسَنَةِ لِكَوْنِ الدَّاعِي مُحِقَّا وَغَرَضُهُ صَحِيحًا، وَكَانَ خَصْمُهُ مُبْطِلًا وَغَرَضُهُ فَاسِدًا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ لَمَّا حَثَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الدَّعْوَةِ بِالطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ بَيَّنَ أَنَّ الرُّشْدَ وَالْهِدَايَةَ لَيْسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ أَيْ: هُوَ الْعَالِمُ بِمَنْ يَضِلُّ وَمَنْ يَهْتَدِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أَيْ: بِمَنْ يُبْصِرُ الْحَقَّ فَيَقْصِدُهُ غَيْرَ مُتَعَنِّتٍ، وَإِنَّمَا شَرَعَ لَكَ الدَّعْوَةَ وَأَمَرَكَ بِهَا قَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ وَتَتْمِيمًا لِلْحُجَّةِ وَإِزَاحَةً لِلشُّبْهَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ غَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ تَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ
__________
(1) . الأنعام: 90.(3/242)
الْمَدْعُوِّينَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ أَبَوْا قُوتِلُوا، أَمَرَ الدَّاعِي بِأَنْ يَعْدِلَ فِي الْعُقُوبَةِ فَقَالَ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ أَيْ:
أَرَدْتُمُ الْمُعَاقَبَةَ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ أَيْ: بِمِثْلِ مَا فُعِلَ بِكُمْ لَا تُجَاوِزُوا ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ أُصِيبَ بِظُلَامَةٍ أَنْ لَا يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ إِذَا تَمَكَّنَ إِلَّا مِثْلَ ظُلَامَتِهِ لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا صَوَابٌ لِأَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ لَهَا سَبَبًا خَاصًّا كَمَا سَيَأْتِي، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَعُمُومُهُ يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ، وَسَمَّى سُبْحَانَهُ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْبَادِئِ بِالشَّرِّ عُقُوبَةً، مَعَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ لَيْسَتْ إِلَّا فِعْلَ الثَّانِي وَهُوَ الْمُجَازِي لِلْمُشَاكَلَةِ، وَهِيَ بَابٌ مَعْرُوفٌ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. ثُمَّ حَثَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَفْوِ فَقَالَ:
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ أَيْ: لَئِنْ صَبَرْتُمْ عَنِ الْمُعَاقَبَةِ بِالْمَثَلِ فَالصَّبْرُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الِانْتِصَافِ، وَوُضِعَ الصَّابِرِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، ثَنَاءً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ صَابِرُونَ عَلَى الشَّدَائِدِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ لِأَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي الصَّبْرِ عَنِ الْمُعَاقَبَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَى الصَّابِرِينَ عَلَى الْعُمُومِ وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ مِنْ صُنُوفِ الْأَذَى وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ: بِتَوْفِيقِهِ وَتَثْبِيتِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَشْيَاءِ، أَيْ: وَمَا صَبْرُكَ مَصْحُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ لَكَ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أَيْ: عَلَى الْكَافِرِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ، أَوْ لَا تَحْزَنْ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الضَّادِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
هُمَا سَوَاءٌ، يَعْنِي الْمَفْتُوحَ وَالْمَكْسُورَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّيْقُ بِالْفَتْحِ مَا ضَاقَ عَنْهُ صَدْرُكَ، وَالضِّيقُ بِالْكَسْرِ مَا يَكُونُ فِي الَّذِي يَتَّسِعُ مِثْلُ الدَّارِ وَالثَّوْبِ، وَكَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَقْلُوبِ لِأَنَّ الضِّيقَ وَصْفٌ لِلْإِنْسَانِ يَكُونُ فِيهِ وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ وَصْفَ الضِّيقِ بِالْعِظَمِ حَتَّى صَارَ كَالشَّيْءِ الْمُحِيطِ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ وَمَعْنَى مِمَّا يَمْكُرُونَ مِنْ مَكْرِهِمْ لَكَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ بِآيَةٍ جَامِعَةٍ لِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيِ: اتَّقَوُا الْمَعَاصِيَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بِتَأْدِيَةِ الطَّاعَاتِ وَالْقِيَامِ بِمَا أُمِرُوا بِهَا مِنْهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوُا الزِّيَادَةَ فِي الْعُقُوبَةِ، وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فِي أَصْلِ الِانْتِقَامِ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَالثَّانِي إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَقِيلَ: الَّذِينَ اتَّقَوْا إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأُمَّةِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ: الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، قَالُوا:
فَمَا الْقَانِتُ؟ قَالَ: الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ قَالَ: كَانَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مِنْ قَوْمِهِ أَحَدٌ عَلَى الْإِسْلَامِ غَيْرَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ. وأخرج ابن المنذر عند فِي قَوْلِهِ: كانَ أُمَّةً قَالَ: إِمَامًا فِي الْخَيْرِ قانِتاً قَالَ: مُطِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عبد(3/243)
تَشْهَدُ لَهُ أُمَّةٌ إِلَّا قَبِلَ اللَّهُ شَهَادَتَهُمْ» ، وَالْأُمَّةُ: الرَّجُلُ فَمَا فَوْقَهُ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً وَالْأُمَّةُ: الرَّجُلُ فَمَا فَوْقَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: صَلَّى جِبْرِيلُ بِإِبْرَاهِيمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَاتٍ، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ بِهِ كَأَسْرَعِ مَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ وَقَفَ بِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ كَأَبْطَإِ مَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَفَعَ بِهِ، ثُمَّ رَمَى الْجَمْرَةَ ثُمَّ ذَبَحَ ثُمَّ حَلَقَ ثُمَّ أَفَاضَ بِهِ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ: أَرَادَ الْجُمُعَةَ فَأَخَذُوا السَّبْتَ مَكَانَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وسعيد ابن جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بِاسْتِحْلَالِهِمْ إِيَّاهُ رَأَى مُوسَى رَجُلًا يَحْمِلُ حَطَبًا يَوْمَ السَّبْتِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ: يَعْنِي الْجُمُعَةَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَالنَّاسُ فِيهِ لَنَا تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ إِيَّاكَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمَسْنَدِ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي الْفَوَائِدِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ مِنْهُمْ حَمْزَةُ فَمَثَّلُوا بِهِمْ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ:
لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَصْبِرُ وَلَا نُعَاقِبُ، كُفُّوا عَنِ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ، فَنَظَرَ إِلَى مَنْظَرٍ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ قَطُّ كَانَ أَوْجَعَ لِقَلْبِهِ مِنْهُ، وَنَظَرَ إِلَيْهِ قَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ وَصُولًا لِلرَّحِمِ، فَعُولًا لِلْخَيْرِ، وَلَوْلَا حُزْنُ مَنْ بَعْدِكَ عَلَيْكَ لَسَرَّنِي أَنْ أَتْرُكَكَ حَتَّى يَحْشُرَكَ اللَّهُ مِنْ أَرْوَاحٍ شَتَّى، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ» فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ وَإِنْ عاقَبْتُمْ الْآيَةَ، فَكَفَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَمْسَكَ عَنِ الَّذِي أَرَادَ وَصَبَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا حِينَ أَمْرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ، ثُمَّ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ وَانْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَهَذَا مَنْسُوخٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ قَالَ: اتَّقَوْا فِيمَا حرّم عليهم، وأحسنوا فيما افترض عليهم.(3/244)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سورة الإسراء
آياتها مائة وإحدى عشرة آية، وهي مكية إلا ثلاث آيات: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ نَزَلَتْ حِينَ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ، وَحِينَ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَتْ هَذِهِ بِأَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلُهُ:
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَزَادَ مُقَاتِلٌ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ: إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَّلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي «1» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ كُلَّ لَيْلَةٍ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا عَبْدُ اللَّهِ الْفَجْرَ فَقَرَأَ السُّورَتَيْنِ الْآخِرَةُ مِنْهُمَا بَنُو إِسْرَائِيلَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
قَوْلُهُ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا هُوَ مَصْدَرُ سَبَّحَ، يُقَالُ سَبَّحَ يُسَبِّحُ تَسْبِيحًا وَسُبْحَانًا، مِثْلُ كَفَّرَ الْيَمِينَ تَكْفِيرًا وَكُفْرَانًا، وَمَعْنَاهُ: التَّنْزِيهُ وَالْبَرَاءَةُ لِلَّهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ [من معناه] «2» لَا مِنْ لَفْظِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُنَزِّهُ اللَّهَ تَنْزِيهًا، فوقع سبحان مَكَانَ تَنْزِيهًا، فَهُوَ عَلَى هَذَا مِثْلُ قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ وَاشْتَمَلَ الصَّمَّاءَ «3» وَقِيلَ: هُوَ عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَعُثْمَانَ لِلرَّجُلِ، وَانْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مَتْرُوكٍ إِظْهَارُهُ تَقْدِيرُهُ أُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانَ، ثُمَّ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْفِعْلِ وَسَدَّ مَسَدَّهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا «4» طَرَفًا مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِسُبْحَانَ. وَالْإِسْرَاءُ قِيلَ: هو سير الليل، يقال: سرى وأسرى
__________
(1) . العتاق: هو كل ما بلغ الغاية في الجودة. والتلاد: يريد أن هذه السور من أول ما تعلم من القرآن، وأن لهنّ فضلا لما فيهن من القصص وأخبار الأنبياء والأمم.
(2) . من تفسير القرطبي (10/ 204) .
(3) . هو أن يردّ الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعا.
(4) . البقرة: 32.(3/245)
كَسَقَى وَأَسْقَى لُغَتَانِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الشَّاعِرُ «1» في قوله:
حيّ النّضيرة ربّة الْخِدْرِ ... أَسْرَتْ إِلَيَّ وَلَمْ تَكُنْ تُسْرِي
وَقِيلَ: هُوَ سَيْرُ أَوَّلِ اللَّيْلِ خَاصَّةً، وَإِذَا كَانَ الْإِسْرَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي اللَّيْلِ فَلَا بُدَّ لِلتَّصْرِيحِ بِذِكْرِ اللَّيْلِ بَعْدَهُ مِنْ فَائِدَةٍ، فَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَيْلًا تَقْلِيلَ مُدَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْرَى بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مَسَافَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَوَجْهُ دَلَالَةِ لَيْلًا عَلَى تَقْلِيلِ الْمُدَّةِ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْكِيرِ الدَّالِّ عَلَى الْبَعْضِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْتَ سَرَيْتُ اللَّيْلَ فَإِنَّهُ يُفِيدُ اسْتِيعَابَ السَّيْرِ لَهُ جَمِيعًا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ عَلَى إِفَادَةِ لَيْلًا لِلْبَعْضِيَّةِ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ «مِنَ اللَّيْلِ» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا سَيَّرَ عَبْدَهُ يَعْنِي مُحَمَّدًا لَيْلًا، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى أَسْرَى مَعْنَى سَيَّرَ فَيَكُونُ لِلتَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ فَائِدَةٌ، وَقَالَ بِعَبْدِهِ وَلَمْ يَقُلْ بِنَبِيِّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ بِمُحَمَّدٍ تَشْرِيفًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: لَوْ كَانَ غَيْرُ هَذَا الِاسْمِ أَشْرَفَ مِنْهُ لَسَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ وَالْحَالَةِ الْعَلِيَّةِ:
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بياعبدها ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
ادِّعَاءً بِأَسْمَاءٍ نَبْزًا فِي قَبَائِلِهَا ... كَأَنَّ أَسْمَاءً أَضْحَتْ بَعْضَ أَسْمَائِي
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي الْمَسْجِدَ نَفْسَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَارِ أُمِّ هَانِئٍ، فَحَمَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ على مكة أو الحرم لِإِحَاطَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ لِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْغَايَةَ الَّتِي أَسْرَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا فَقَالَ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَسُمِّيَ الْأَقْصَى لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ وَرَاءَهُ مَسْجِدٌ، ثُمَّ وَصَفَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِقَوْلِهِ: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بِالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِبَرَكَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي بَارَكْنَا بَعْدَ قَوْلِهِ أَسْرَى الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ الَّتِي أَسْرَى بِهِ لِأَجْلِهَا فَقَالَ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أَيْ: مَا أَرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا قَطْعُ هَذِهِ الْمَسَافَةِ الطَّوِيلَةِ فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ السَّمِيعُ بِكُلِّ مسموع، ومن جملة ذلك قول رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَصِيرُ بِكُلِّ مُبْصَرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ ذَاتُ رَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ رُوحِهِ أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ؟ فَذَهَبَ مُعْظَمُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ إِلَى الْأَوَّلِ. وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ عَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا: كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ يَقَظَةً إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِلَى السَّمَاءِ بِالرُّوحِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بِقَوْلِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَجَعَلَهُ غَايَةً لِلْإِسْرَاءِ بِذَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَعَ بِذَاتِهِ لَذَكَرَهُ، وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ
__________
(1) . هُوَ حسان بن ثابت.(3/246)
هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ مِنْ أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً إِلَى بيت المقدس، ثم إلى السموات، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَصَرْفِ هَذَا النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَمَا يُمَاثِلُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ، وَلَا مُقْتَضًى لِذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْتِبْعَادِ وَتَحْكِيمُ مَحْضِ الْعُقُولِ الْقَاصِرَةِ عَنْ فَهْمِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّهُ لَا يستحيل عليه سبحانه شيء، ولو كان مُجَرَّدَ رُؤْيَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِالرُّوحِ فَقَطْ، وَأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ لَمْ يَقَعِ التَّكْذِيبُ مِنَ الْكَفَرَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِخْبَارِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِمَّنْ لَمْ يَشْرَحْ بِالْإِيمَانِ صَدْرًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَا هُوَ مُسْتَبْعَدٌ، بَلْ مَا هُوَ مُحَالٌ وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ وَأَمَّا التَّمَسُّكُ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ إِنَّمَا كَانَ بِالرُّوحِ عَلَى سَبِيلِ الرُّؤْيَا بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «1» فَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَا هُوَ هَذَا الْإِسْرَاءُ، فَالتَّصْرِيحُ الْوَاقِعُ هُنَا بِقَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وَالتَّصْرِيحُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْكَثِيرَةِ بِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ لَا تَقْصُرُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا الْوَاقِعَةِ فِي الْآيَةِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ لِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ رُؤْيَا، وَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُ هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ركب البراق؟ وكيف يصحّ وصف الروح بالركوب؟ وهكذا كيف يَصِحُّ حَمْلُ هَذَا الْإِسْرَاءِ عَلَى الرُّؤْيَا مَعَ تَصْرِيحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ كَانَ عند ما أُسَرِيَ بِهِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ؟.
وَقَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي تَارِيخِ الْإِسْرَاءِ، فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِأَعْوَامٍ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ خَدِيجَةَ صَلَّتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِثَلَاثٍ، وَقِيلَ: بِأَرْبَعٍ، وَلَمْ تُفْرَضِ الصَّلَاةُ إِلَّا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: أُسْرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وَعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي تَارِيخِهِ: كَانَ الْإِسْرَاءُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ قَالَ بِمِثْلِ هَذَا. وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِسَبْعَةِ أَعْوَامٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِخَمْسِ سِنِينَ. وَرَوَى يُونُسُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أَيِ: التَّوْرَاةَ، قِيلَ: وَالْمَعْنَى: كَرَّمْنَا مُحَمَّدًا بِالْمِعْرَاجِ وَأَكْرَمْنَا مُوسَى بِالْكِتَابِ وَجَعَلْناهُ أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابَ، وَقِيلَ: مُوسَى هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ يَهْتَدُونَ بِهِ أَلَّا تَتَّخِذُوا.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: لِئَلَّا يَتَّخِذُوا. وَالْمَعْنَى: آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ لِهِدَايَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِئَلَّا يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: كَفِيلًا بِأُمُورِهِمْ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَافِيًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَيْ: مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ وَقِيلَ: شَرِيكًا، وَمَعْنَى الْوَكِيلِ فِي اللُّغَةِ: مَنْ تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نَصْبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوِ النِّدَاءِ، ذَكَّرَهُمْ سُبْحَانَهُ إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ فِي ضِمْنِ إِنْجَاءِ آبَائِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ، وَيَجُوزُ أن يكون المفعول الأوّل لقوله أَلَّا تَتَّخِذُوا أَيْ: لَا تَتَّخِذُوا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ مِنْ دُونِي وَكِيلًا، كَقَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً «2» . وَقُرِئَ بالرفع
__________
(1) . الإسراء: 60. [.....]
(2) . آل عمران: 80.(3/247)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ تَتَّخِذُوا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِفَتْحِ الذَّالِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِكَسْرِهَا، وَالْمُرَادُ بِالذَّرِّيَّةِ هُنَا جَمِيعُ مَنْ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ، وَقِيلَ: مُوسَى وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ وَالنَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَالرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ وَعَلَى الْخَبَرِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورِينَ، وَأَمَّا عَلَى جَعْلِ النَّصْبِ عَلَى أَنَّ ذُرِّيَّةَ هِيَ الْمَفْعُولُ الأوّل لقوله: أَلَّا تَتَّخِذُوا فَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ بِجَمِيعِ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً أَيْ: نُوحًا، وَصَفَهُ اللَّهُ بِكَثْرَةِ الشُّكْرِ، وَجَعَلَهُ كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهُ إِيذَانًا بِكَوْنِ الشُّكْرِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ، وَمِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، حَثًّا لِذُرِّيَّتِهِ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مهاجرته بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:
الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ قَالَ: أَنْبَتْنَا حَوْلَهُ الشَّجَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: جَعَلَهُ اللَّهُ هُدًى يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا قَالَ: شَرِيكًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ قَالَ:
هُوَ عَلَى النِّدَاءِ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ مَا كَانَ مَعَ نُوحٍ إِلَّا أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ: حَامٌ، وَسَامٌ، وَيَافِثُ، وَكُوشٌ، فَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ انْتَسَلُوا هَذَا الْخَلْقَ» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَطَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ كَثِيرٍ وَالسُّيُوطِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِسْرَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَهَكَذَا أَطَالُوا بِذِكْرِ فَضَائِلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ مَبْحَثٌ آخَرُ، وَالْمَقْصُودُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَذِكْرُ أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَبَيَانُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلَةٌ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حاجة.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 11]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)(3/248)
قَوْلُهُ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أَيْ: أَعْلَمْنَا وَأَخْبَرْنَا، أَوْ حَكَمْنَا وَأَتْمَمْنَا وَأَصْلُ الْقَضَاءِ: الْإِحْكَامُ لِلشَّيْءِ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ وَقِيلَ: أَوْحَيْنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ لَقَالَ: قَضَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى حَكَمْنَا لَقَالَ: عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى أَتْمَمْنَا: لِقَالٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: التَّوْرَاةُ، وَيَكُونُ إِنْزَالُهَا عَلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى كَإِنْزَالِهَا عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ قَوْمَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «فِي الْكُتُبِ» . وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَفْسَدُوا فَسَدُوا فِي نُفُوسِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ: مُخَالَفَةُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ:
أَرْضُ الشَّامِ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ: أَرْضُ مِصْرَ، وَاللَّامُ فِي لَتُفْسِدُنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: أَوْ أَجْرَى الْقَضَاءَ الْمَبْتُوتَ مَجْرَى الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَقْسَمْنَا لَتُفْسِدُنَّ وَانْتِصَابُ مَرَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَصْدَرٌ عَمِلَ فِيهِ مَا هُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالْمَرَّةُ الْأُولَى قَتْلُ شِعْيَاءَ، أَوْ حَبْسُ أَرْمِيَاءَ، أَوْ مُخَالَفَةُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَالثَّانِيَةُ قَتْلُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَالْعَزْمُ عَلَى قَتْلِ عِيسَى وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً هَذِهِ اللَّامُ كَاللَّامِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: لَتَسْتَكْبِرُنَّ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَتَسْتَعْلُنَّ عَلَى النَّاسِ بِالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ مُجَاوِزِينَ لِلْحَدِّ فِي ذَلِكَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أَيْ: أُولَى الْمَرَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أَيْ: قُوَّةٍ فِي الْحُرُوبِ وَبَطْشٍ عِنْدَ اللقاء. قيل: هُوَ بُخْتَنَصَّرُ وَجُنُودُهُ، وَقِيلَ: جَالُوتُ، وَقِيلَ: جُنْدٌ مِنْ فَارِسَ، وَقِيلَ: جُنْدٌ مِنْ بَابِلَ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أَيْ: عَاثُوا وَتَرَدَّدُوا، يُقَالُ:
جَاسُوا وهاسوا وداسوا بمعنى، ذكره ابن عزيز والقتبي. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ طَافُوا خِلَالَ الدِّيَارِ هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَمْ يَقْتُلُوهُ؟ قَالَ: وَالْجَوْسُ: طَلَبُ الشَّيْءِ بِاسْتِقْصَاءٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجَوْسُ مَصْدَرُ قَوْلِكَ جَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ أَيْ: تَخَلَّلُوهَا كَمَا يَجُوسُ الرَّجُلُ لِلْأَخْبَارِ أَيْ: يَطْلُبُهَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ: ابْنُ جَرِيرٍ:
مَعْنَى جَاسُوا طَافُوا بَيْنَ الدِّيَارِ يَطْلُبُونَهُمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ قَتَلُوهُمْ بَيْنَ بُيُوتِهِمْ، وَأَنْشَدَ لِحَسَّانَ:
وَمِنَّا الَّذِي لَاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ ... فَجَاسَ بِهِ الْأَعْدَاءَ عَرْضَ الْعَسَاكِرِ
وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَاهُ نَزَلُوا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَجُسْنَا دِيَارَهُمْ عُنْوَةً ... وَأُبْنَا بِسَادَاتِهِمْ مُوَثَّقِينَا
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «فَحَاسُوا» بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْحَوْسُ وَالْجَوْسُ وَالْعَوْسُ والهوس: الطوف بالليل. وقيل: الطَّوْفُ بِاللَّيْلِ هُوَ الْجَوَسَانُ مُحَرَّكًا، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقُرِئَ «خَلَلَ الدِّيَارِ» وَمَعْنَاهُ مَعْنَى خِلَالَ وَهُوَ وَسَطُ الدِّيَارِ وَكانَ ذَلِكَ وَعْداً مَفْعُولًا أَيْ: كَائِنًا لَا مَحَالَةَ ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أَيِ: الدَّوْلَةَ وَالْغَلَبَةَ وَالرَّجْعَةَ وَذَلِكَ عِنْدَ تَوْبَتِهِمْ. قِيلَ: وَذَلِكَ حِينَ قَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ، وَقِيلَ: حِينَ(3/249)
قُتِلَ بُخْتَنَصَّرُ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ بَعْدَ نَهْبِ أَمْوَالِكُمْ وَسَبْيِ أَبْنَائِكُمْ حَتَّى عَادَ أَمْرُكُمْ كَمَا كَانَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النَّفِيرُ الْعَدَدُ مِنَ الرِّجَالِ فَالْمَعْنَى: أَكْثَرُ رِجَالًا مِنْ عَدُوِّكُمْ.
وَالنَّفِيرُ: مَنْ يَنْفِرُ مَعَ الرَّجُلِ مِنْ عَشِيرَتِهِ، يُقَالُ: نَفِيرٌ وَنَافِرٌ مِثْلُ قَدِيرٌ وَقَادِرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّفِيرُ جَمْعَ نَفَرٍ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَيْ: أَفْعَالَكُمْ وَأَقْوَالَكُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لِأَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَيْكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ أَفْعَالَكُمْ وَأَقْوَالَكُمْ فَأَوْقَعْتُمُوهَا لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُمْ فَلَها أَيْ:
فَعَلَيْهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
................
فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ «1»
أَيْ: عَلَى الْيَدَيْنِ وَعَلَى الْفَمِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، أَيْ: فَإِلَيْهَا تَرْجِعُ الْإِسَاءَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أَيْ: إِلَيْهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَلَهَا الْجَزَاءُ أَوِ الْعِقَابُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ:
فَلَهَا رَبٌّ يَغْفِرُ الْإِسَاءَةَ. وَهَذَا الْخِطَابُ قِيلَ: هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُلَابِثِينَ لِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَقِيلَ: لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْكَائِنِينَ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ: إِعْلَامُهُمْ مَا حَلَّ بِسَلَفِهِمْ فَلْيَرْتَقِبُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أَيْ: حَضَرَ وَقْتُ مَا وُعِدُوا مِنْ عُقُوبَةِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ، وَالْمَرَّةُ الْآخِرَةُ هِيَ قَتْلُهُمْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا كَمَا سَبَقَ، وَقِصَّةُ قَتْلِهِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْإِنْجِيلِ وَاسْمُهُ فِيهِ يُوحَنَّا، قَتَلَهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ حَمَلَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ، وَاسْمُ الْمَلِكِ لَاخْتَ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هِيرُدُوسْ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بَعَثْنَاهُمْ لِدَلَالَةِ جَوَابِ إِذَا الْأُولَى عَلَيْهِ، ولِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: لِيَفْعَلُوا بِكُمْ مَا يَسُوءُ وُجُوهَكُمْ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْكُمْ آثَارُ الْمُسَاءَةِ وَتَتَبَيَّنَ فِي وُجُوهِكُمُ الْكَآبَةُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ السَّادَةُ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ «لِنَسُوءَ» بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «لِنَسُوءَنَّ» بِنُونِ التَّأْكِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ «لِيَسُوءَ» بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْإِفْرَادِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ شَيْءٍ كَسَرْتَهُ وفتنه فَقَدْ تَبَّرْتَهُ، وَالضَّمِيرُ لِلَّهِ أَوِ الْوَعْدِ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيَسُوءُوا كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا أَيْ: يُدَمِّرُوا وَيُهْلِكُوا، وَقَالَ قُطْرُبٌ: يَهْدِمُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَا النَّاسُ إِلَّا عَامِلَانِ فَعَامِلٌ ... يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعُ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِثْبَاتِ وَاوٍ بَعْدَهَا عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ عِبَادٌ لَنَا مَا عَلَوْا أَيْ: مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِكُمْ أَوْ مُدَّةَ عُلُوِّهِمْ تَتْبِيراً أَيْ: تَدْمِيرًا، ذُكِرَ الْمَصْدَرُ إِزَالَةً لِلشَّكِّ وَتَحْقِيقًا لِلْخَبَرِ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ انْتِقَامِهِ مِنْكُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ عُدْتُمْ لِلثَّالِثَةِ عُدْنا إِلَى عُقُوبَتِكُمْ. قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: ثُمَّ إنهم عادوا إلا مَا لَا يَنْبَغِي، وَهُوَ تَكْذِيبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم وكتمان ما ورد في
__________
(1) . وصدره: وهتكت بالرمح الطويل إهانة. والبيت لربيعة بن مكدم.(3/250)
بَعْثِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَعَادَ اللَّهُ إِلَى عُقُوبَتِهِمْ عَلَى أَيْدِي الْعَرَبِ، فَجَرَى عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَخَيْبَرَ مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْإِجْلَاءِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً وَهُوَ الْمَحْبِسُ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مَحْبُوسُونَ فِي جَهَنَّمَ لَا يَتَخَلَّصُونَ عَنْهَا أَبَدًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَصَرَهُ يَحْصُرُهُ حَصْرًا ضَيَّقَ عَلَيْهِ وَأَحَاطَ بِهِ، وَقِيلَ: فِرَاشًا وَمِهَادًا، وَأَرَادَ عَلَى هَذَا بِالْحَصِيرِ الْحَصِيرَ الَّذِي يَفْرِشُهُ النَّاسُ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يَعْنِي الْقُرْآنُ يَهْدِي النَّاسَ الطَّرِيقَةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الطُّرُقِ وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ، فَالَّتِي هِيَ أَقْوَمُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَهِيَ الطَّرِيقُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِلْحَالِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَبَشُّرُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ مِنَ التَّبْشِيرِ أَيْ: يُبَشِّرُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعْدِ بِالْخَيْرِ آجِلًا وَعَاجِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَى عَمَلِهَا الْقُرْآنُ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَأَحْكَامِهَا الْمُبَيَّنَةِ فِي الْقُرْآنِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُبَشِّرُ بِتَقْدِيرِ يُخْبِرُ، أَيْ: وَيُخْبِرُ بِأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَقِيلَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَيُرَادُ بِالتَّبْشِيرِ مُطْلَقُ الْإِخْبَارِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ مُشْتَمِلًا عَلَى تَبْشِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِبِشَارَتَيْنِ: الْأُولَى: مَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا لِأَعْدَائِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْجِنْسُ لِوُقُوعِ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ عِنْدَ الضَّجَرِ بِمَا لَا يُحِبُّ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أَيْ: مِثْلَ دُعَائِهِ لِرَبِّهِ بِالْخَيْرِ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ كَطَلَبِ الْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالشَّرِّ هَلَكَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَجِبْ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ «1» وَقَدْ تَقَدَّمَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُوَ الْكَافِرُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِالشَّرِّ، وَهُوَ استعجال العذاب دعاءه بِالْخَيْرِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2» . وَقِيلَ: هو أَنْ يَدْعُوَ فِي طَلَبِ الْمَحْظُورِ كَدُعَائِهِ فِي طَلَبِ الْمُبَاحِ، وَحُذِفَتِ الْوَاوُ مِنْ وَيَدَعُ الْإِنْسَانُ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ لِعَدَمِ التَّلَفُّظِ بِهَا لِوُقُوعِ اللَّامِ السَّاكِنَةِ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «3» ، وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «4» ، وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ «5» وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أَيْ: مَطْبُوعًا عَلَى الْعَجَلَةِ، وَمِنْ عَجَلَتِهِ أَنَّهُ يَسْأَلُ الشَّرَّ كَمَا يَسْأَلُ الْخَيْرَ وَقِيلَ: إِشَارَتُهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ نَهَضَ قَبْلَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِ الرُّوحُ، وَالْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: أَعْلَمْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: أَخْبَرْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أيضا قضينا
__________
(1) . يونس: 11.
(2) . الأنفال: 32.
(3) . العلق: 18.
(4) . الشورى: 24.
(5) . النساء: 146.(3/251)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: قَضَيْنَا عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ قَالَ: الْأُولَى قَتْلُ زَكَرِيَّا، وَالْآخِرَةُ قَتْلُ يَحْيَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ:
كَانَ أَوَّلُ الْفَسَادِ قَتْلَ زَكَرِيَّا، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ النَّبَطِ، ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَجَهَّزُوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْأُولَى جَالُوتَ، وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُخْرَى بُخْتَنَصَّرَ، فَعَادُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَجاسُوا قَالَ: فَمَشَوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ:
تَتْبِيراً تَدْمِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ قَالَ: كَانَتِ الرَّحْمَةُ الَّتِي وَعَدَهُمْ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قَالَ: فَعَادُوا فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي تَعْيِينِ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ فِي الْمَرَّتَيْنِ، وَفِي تَعْيِينِ مَنْ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً قَالَ: سِجْنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. قَالَ:
مَعْنَى حَصِيراً جَعَلَ اللَّهُ مَأْوَاهُمْ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: حَصِيراً قَالَ: فِرَاشًا وَمِهَادًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ قَالَ: لِلَّتِي هِيَ أَصْوَبُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَتْلُو كَثِيرًا إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ بِالتَّخْفِيفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ يَعْنِي قَوْلَ الْإِنْسَانِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ وَاغَضَبْ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا قَالَ: ضَجِرًا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى سَرَّاءَ وَلَا ضَرَّاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ آدَمَ رَأْسُهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ وَهُوَ يُخْلَقُ وَبَقِيَتْ رِجْلَاهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ قَالَ: يَا رَبِّ أَعْجِلْ قَبْلَ اللَّيْلِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 12 الى 17]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)(3/252)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ وَالتَّوْحِيدِ أَكَّدَهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ عَجَائِبِ صُنْعِهِ وَبَدَائِعِ خَلْقِهِ، فَقَالَ:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْإِظْلَامِ وَالْإِنَارَةِ مَعَ تَعَاقُبِهِمَا وَسَائِرِ مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي تَحَارُ فِي وَصْفِهَا الْأَفْهَامُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمَا آيَتَيْنِ أَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدَّمَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أَيْ: طَمَسْنَا نُورَهَا، وَقَدْ كَانَ الْقَمَرُ كَالشَّمْسِ فِي الْإِنَارَةِ وَالضَّوْءِ. قِيلَ: وَمِنْ آثَارِ الْمَحْوِ السَّوَادُ الَّذِي يُرَى فِي الْقَمَرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَحْوِهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهَا مَمْحُوَّةَ الضَّوْءِ مَطْمُوسَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَحَاهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أَيْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ شَمْسَهُ مُضِيئَةً تُبْصَرُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَالْكِسَائِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَبْصَرَ النَّهَارُ إِذَا صَارَ بِحَالَةٍ يُبْصَرُ بِهَا وَقِيلَ: مُبْصَرَةٌ لِلنَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ أَبْصَرَهُ فَبَصَرَ. فَالْأَوَّلُ وَصْفٌ لَهَا بِحَالِ أَهْلِهَا، وَالثَّانِي وَصْفٌ لَهَا بِحَالِ نَفْسِهَا، وَإِضَافَةُ آيَةً إِلَى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ: فَمَحَوْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ وَالْآيَةَ الَّتِي هِيَ النَّهَارُ كَقَوْلِهِمْ نَفْسُ الشَّيْءِ وَذَاتُهُ لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: لِتَتَوَصَّلُوا بِبَيَاضِ النَّهَارِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي وُجُوهِ الْمَعَاشِ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أَيْ: جَعَلْنَاهَا لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: رِزْقًا، إِذْ غَالِبُ تَحْصِيلِ الْأَرْزَاقِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ يَكُونُ بِالنَّهَارِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا السُّكُونَ فِي اللَّيْلِ اكْتِفَاءً بِمَا قَالَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً «1» ، ثُمَّ ذَكَرَ مَصْلَحَةً أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْجَعْلِ فَقَالَ: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَهَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي مَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لَا بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ كَالْأَوَّلِ، إِذْ لَا يَكُونُ عِلْمُ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، إِلَّا بِاخْتِلَافِ الْجَدِيدَيْنِ «2» وَمَعْرِفَةِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَدَدِ وَالْحِسَابِ أَنَّ الْعَدَدَ إِحْصَاءُ مَا لَهُ كَمِّيَّةٌ بِتَكْرِيرِ أَمْثَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يتحصّل منه شيء، والحساب إحصاء ماله كَمِّيَّةٌ بِتَكْرِيرِ أَمْثَالِهِ مِنْ حَيْثُ يَتَحَصَّلُ بِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ مِنْهُ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ فَالسَّنَةُ مَثَلًا إِنْ وَقَعَ النَّظَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ عَدَدِ أَيَّامِهَا فَذَلِكَ هُوَ الْعَدَدُ وَإِنْ وَقَعَ النَّظَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقِهَا وَتَحَصُّلِهَا مِنْ عِدَّةِ أَشْهُرٍ، قَدْ يَحْصُلُ كُلَّ شَهْرٍ مِنْ عِدَّةِ أَيَّامٍ، قَدْ يَحْصُلُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عِدَّةِ سَاعَاتٍ، قَدْ تَحَصَّلَتْ كُلَّ سَاعَةٍ مِنْ عِدَّةِ دَقَائِقَ، فَذَلِكَ هُوَ الْحِسَابُ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أَيْ: كُلَّ مَا تَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ بَيَّنَّاهُ تَبْيِينًا وَاضِحًا لَا يَلْتَبِسُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَنْزَاحُ الْعِلَلُ وَتَزُولُ الْأَعْذَارُ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ «3» ، وَلِهَذَا قَالَ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّائِرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَظُّ، وَيُقَالُ لَهُ الْبَخْتُ، فَالطَّائِرُ مَا وَقَعَ لِلشَّخْصِ فِي الْأَزَلِ بِمَا هُوَ نَصِيبُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعَمَلِ وَالْعُمْرِ وَالرِّزْقِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، كَأَنَّ طَائِرًا يَطِيرُ إِلَيْهِ مِنْ وَكْرِ الْأَزَلِ وَظُلُمَاتِ عَالَمِ الْغَيْبِ طَيَرَانًا لَا نِهَايَةَ لَهُ ولا غاية إلى أن انتهى إِلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ مِنْ غَيْرِ خَلَاصٍ وَلَا مَنَاصٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلِمَ الْمُطِيعَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَالْعَاصِيَ، فَكَتَبَ مَا عَلِمَهُ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقَضَى سَعَادَةَ مَنْ عَلِمَهُ مُطِيعًا وَشَقَاوَةَ مَنْ عَلِمَهُ عَاصِيًا، فَطَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ عِنْدَ خَلْقِهِ وَإِنْشَائِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أَيْ: مَا طَارَ لَهُ في علم الله، وفي عنقه
__________
(1) . يونس: 67.
(2) . الجديدان والأجدّان: الليل والنهار.
(3) . الأنفال: 42.(3/253)
عِبَارَةٌ عَنِ اللُّزُومِ كَلُزُومِ الْقِلَادَةِ الْعُنُقَ مِنْ بَيْنِ مَا يُلْبَسُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذِكْرُ الْعُنُقِ عِبَارَةٌ عَنِ اللُّزُومِ كَلُزُومِ الْقِلَادَةِ الْعُنُقَ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ «وَيَخْرُجُ» بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ وَبِالرَّاءِ المضمومة على معنى: ويخرج له الطائر، وكتابا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يخرج له الطَّائِرُ فَيَصِيرُ كِتَابًا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «يُخْرِجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ: أَيْ يُخْرِجُ الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السّميقع. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ «يُخْرَجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: وَيُخْرَجُ لَهُ الطَّائِرُ كِتَابًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «وَنُخْرِجُ» بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ الْمُخْرِجَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَكِتَابًا مَفْعُولٌ بِهِ، وَاحْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلْزَمْناهُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ عَامِرٍ يُلَقَّاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَإِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ يَلْقاهُ مَنْشُوراً تَعْجِيلًا لِلْبُشْرَى بِالْحَسَنَةِ وَلِلتَّوْبِيخِ عَلَى السَّيِّئَةِ اقْرَأْ كِتابَكَ أَيْ: نَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ كِتَابَكَ، أَوْ قَائِلِينَ لَهُ، قِيلَ: يَقْرَأُ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَنْ كَانَ قَارِئًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا. كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً الْبَاءُ في بِنَفْسِكَ زائدة وحَسِيباً تَمْيِيزٌ أَيْ:
حَاسِبًا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: ضَرِيبُ الْقِدَاحِ بِمَعْنَى ضَارِبِهَا، وَصَرِيمٌ بِمَعْنَى صَارِمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْكَافِي، ثُمَّ وُضِعَ مَوْضِعَ الشَّهِيدِ فَعُدِّيَ بِعَلَى، وَالنَّفْسُ بِمَعْنَى الشَّخْصِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ كَالشَّرِيكِ وَالْجَلِيسِ. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَعِقَابَ ضِدِّهِ يَخْتَصَّانِ بفاعلهما لا يتعدان مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَمَنِ اهْتَدَى بِفِعْلِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّمَا تَعُودُ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أَيْ: فَإِنَّ وَبَالَ ضَلَالِهِ وَاقِعٌ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُجَاوِزُهَا، فَكُلُّ أَحَدٍ مُحَاسَبٌ عَنْ نَفْسِهِ، مَجْزِيٌّ بِطَاعَتِهِ، مُعَاقَبٌ بِمَعْصِيَتِهِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْكَلَامَ بِأَبْلَغِ تَأْكِيدٍ فَقَالَ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ، يُقَالُ: وَزَرَ يَزِرُ وِزْرًا وَوَزْرَةً. أَيْ: إِثْمًا، وَالْجَمْعُ أَوْزَارُ، وَالْوِزْرُ: الثِّقَلُ. وَمِنْهُ: يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «1» أَيْ: أَثْقَالَ ذُنُوبِهِمْ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ لِلْوِزْرِ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى حَتَّى تَخَلُصَ الْأُخْرَى عَنْ وِزْرِهَا وَتُؤْخَذَ بِهِ الْأُولَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْآثِمَ وَالْمُذْنِبَ لَا يُؤَاخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ اخْتِصَاصَ الْمُهْتَدِي بِهِدَايَتِهِ وَالضَّالِّ بِضَلَالِهِ، وَعَدَمَ مُؤَاخَذَةِ الْإِنْسَانِ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ عِبَادَهُ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ رُسُلِهِ، وَإِنْزَالِ كُتُبِهِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُمْ سُدًى، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُنَا هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا لَا عَذَابُ الْآخِرَةِ وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى أَمَرْنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ النَّهْيِ، وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ الطَّاعَةُ وَالْخَيْرُ. وقال في الكشاف: معناه أمرناهم
__________
(1) . الأنعام: 31.(3/254)
بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا، وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا وَتَبِعَهُ الْمُقْتَدُونَ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُوَ وَمَنْ تَابَعَهُ مُعَارَضٌ بِمِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ يَفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُنَافِيَةٌ لِلْأَمْرِ مُنَاقِضَةٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ أَمَرْتُهُ فَفَسَقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْفِسْقِ، لِأَنَّ الْفِسْقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَوْنُهُ فِسْقًا يُنَافِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ وَيُنَاقِضُهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنا مُتْرَفِيها
أَكْثَرْنَا فُسَّاقَهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَمَرَ الْقَوْمَ إِذَا كَثُرُوا، وَأَمَرَهُمُ اللَّهُ إِذَا أَكْثَرَهُمْ. وَقَدْ قَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ أَمَرْنا
بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ مُسَلَّطِينَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ «آمَرْنَا» بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ، أَيْ: أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتَهَا وَأُمَرَاءَهَا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: آمِرْتُهُ بِالْمَدِّ وَأَمِرْتُهُ لُغَتَانِ بِمَعْنَى كَثْرَتِهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ» أَيْ: كَثِيرَةُ النِّتَاجِ وَالنَّسْلِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَزِيزٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ «أَمِرْنَا» بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى مَعْنَى فَعَلْنَا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَكْثَرْنَا. وَحَكَى نَحْوَهُ أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: لَا يُقَالُ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَّا آمَرْنَا بِالْمَدِّ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَمِرَ مَالُهُ- بِالْكَسْرِ- أَيْ: كَثُرَ، وَأَمِرَ الْقَوْمُ: أَيْ كَثِرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
إِنْ يَغْبِطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أَمِرُوا ... يوما يصيروا للهلك والنّكد «1»
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَرْنا
مِنَ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ مَا قَدَّمْنَا فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَمَعْنَى مُتْرَفِيها
الْمُنَعَّمُونَ الَّذِينَ قَدْ أَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ وَسَعَةُ الْعَيْشِ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ فِي تَفْسِيرِ الْمُتْرَفِينَ: إِنَّهُمُ الْجَبَّارُونَ الْمُتَسَلِّطُونَ والملوك الجائرون، قالوا: وَإِنَّمَا خُصُّوا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ أَتْبَاعٌ لهم، ومعنى فَفَسَقُوا فِيها
خَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ، وَتَمَرَّدُوا فِي كُفْرِهِمْ لِأَنَّ الْفُسُوقَ الْخُرُوجُ إِلَى مَا هُوَ أَفْحَشُ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أَيْ: ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ بَعْدَ ظُهُورِ فِسْقِهِمْ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أَيْ: تَدْمِيرًا عَظِيمًا لَا يُوقَفُ عَلَى كُنْهِهِ لِشِدَّتِهِ وَعِظَمِ مَوْقِعِهِ وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ أَمْرِنَا بِأَنَّهُ مَجَازٌ عَنِ الْأَمْرِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى الْفِسْقِ، وَهُوَ إِدْرَارُ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ أَيْضًا:
إِنَّ الْمُرَادَ بِأَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَنَّهُ قُرْبُ إِهْلَاكِ قَرْيَةٍ، وَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِدُونِ مُلْجِئٍ إِلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ عَادَتُهُ الْجَارِيَةُ مَعَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، فَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ أَيْ: كَثِيرًا مَا أَهْلَكْنَا مِنْهُمْ، فَ «كَمْ» مَفْعُولُ «أَهْلَكْنَا» ، وَ «مِنَ الْقُرُونِ» بَيَانٌ لِ «كَمْ» وَتَمْيِيزٌ لَهُ، أَيْ: كَمْ مِنْ قَوْمٍ كَفَرُوا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ كَعَادٍ وَثَمُودَ، فَحَلَّ بِهِمُ الْبَوَارُ، وَنَزَلَ بِهِمْ سَوْطُ الْعَذَابِ، وَفِيهِ تَخْوِيفٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ. ثُمَّ خَاطَبَ رَسُولَهُ بِمَا هُوَ رَدْعٌ لِلنَّاسِ كَافَّةً فَقَالَ: وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا يَجُوزُ إِدْخَالُ الْبَاءِ فِي الْمَرْفُوعِ إِذَا كَانَ يُمْدَحُ بِهِ صَاحِبُهُ أَوْ يُذَمُّ بِهِ، كَقَوْلِكَ: كَفَاكَ، وَأَكْرِمْ بِهِ رَجُلًا، وَطَابَ بِطَعَامِكَ طَعَامًا، وَلَا يُقَالُ قَامَ بِأَخِيكَ وَأَنْتَ تُرِيدُ قَامَ أَخُوكَ. وَفِي الْآيَةِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ، وَتَخْوِيفٌ شَدِيدٌ لِأَهْلِ
__________
(1) . في المطبوع: يوما يكن للهلاك والفند. والمثبت من الديوان ص (160) . «يهبطوا» - هنا-: يموتوا.(3/255)
الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ التَّامَّ وَالْخِبْرَةَ الْكَامِلَةَ وَالْبَصِيرَةَ النَّافِذَةَ تَقْتَضِي إِيصَالَ الْجَزَاءِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَلَا يُنَافِيهِ مَزِيدُ التَّفَضُّلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ خَبِيرًا بَصِيرًا أَنَّهُ مُحِيطٌ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ فَقَالَ: كَانَا شَمْسَيْنِ، قَالَ اللَّهُ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فَالسَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتَ هُوَ الْمَحْوُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى هَذَا بِأَطْوَلَ مِنْهُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ قَالَ: هُوَ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً قَالَ: مُنِيرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ: جَعَلَ لَكُمْ سَبْحًا طَوِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَصَّلْناهُ قَالَ: بَيَّنَّاهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «طَائِرُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي عُنُقِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس فِي قَوْلِهِ: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قَالَ: سَعَادَتُهُ وَشَقَاوَتُهُ، وَمَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ وَعَلَيْهِ، لازمه أينما كَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: طائِرَهُ قَالَ: كِتَابَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَمَلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً قَالَ: هُوَ عَمَلُهُ الَّذِي أُحْصِيَ عَلَيْهِ، فَأُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُتِبَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فَقَرَأَهُ مَنْشُورًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ كِتابَكَ قَالَ: سَيَقْرَأُ يَوْمَئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «التَّمْهِيدِ» عَنِ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى قَالَ:
سَأَلَتْ خَدِيجَةُ «1» عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فقال: «هم مع آبَائِهِمْ» ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَ مَا اسْتَحْكَمَ الْإِسْلَامُ، فَنَزَلَتْ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَقَالَ: «هُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ، أَوْ قَالَ، فِي الْجَنَّةِ» . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا:
«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ فِي الْبَيَاتِ مِنْ ذَرَارِي الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «هُمْ مِنْهُمْ» «2» وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَبَحْثٌ طَوِيلٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ غَالِبَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةَ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ نَقَلَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سريع
__________
(1) . يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(2) . «البيات» : أن يغار على المشركين بالليل حيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي.
«هم منهم» : أي في الحكم، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية- أي بالأرجل-، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم، جاز قتلهم. [.....](3/256)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ ... ثُمَّ قَالَ: فَيَأْخُذُ اللَّهُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَنِ ادْخُلُوا النار، قال: فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا» وإسناده عند أحمد هكذا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ.
وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فذكره نَحْوَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَ الْأَحْمَقِ الْمَعْتُوهَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْمَمْسُوحِ عَقْلًا، وَبِالْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ، وَبِالْهَالِكِ صَغِيرًا» فَذَكَرَ مَعْنَاهُ مُطَوَّلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها
قَالَ: بِطَاعَةِ اللَّهِ فَعَصَوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي الْآيَةِ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها
بِحَقٍّ فَخَالَفُوهُ، فَحَقَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ التَّدْمِيرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْهُ فِي الآية قال: سلطنا شرارها فَعَصَوْا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها «1» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: قَدْ أَمِرَ بَنُو فلان.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 24]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)
قَوْلُهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ هَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا سَلَفَ مِنْ جُمْلَةِ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ وَمِنْ جُمْلَةِ مَنِ اهْتَدى وَالْمُرَادُ بِالْعَاجِلَةِ: الْمَنْفَعَةُ الْعَاجِلَةُ أَوِ الدَّارُ الْعَاجِلَةُ. وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ أَوْ بِأَعْمَالِ الْآخِرَةِ ذَلِكَ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْكَفَرَةُ والفسقة والمراؤون وَالْمُنَافِقُونَ عَجَّلْنا لَهُ أَيْ: عَجَّلْنَا لِذَلِكَ الْمُرِيدِ فِيها أَيْ: فِي تِلْكَ الْعَاجِلَةِ، ثُمَّ قَيَّدَ الْمُعَجَّلَ بِقَيْدَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: مَا نَشاءُ أَيْ: مَا يَشَاءُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعْجِيلَهُ لَهُ مِنْهَا، لَا مَا يَشَاؤُهُ ذَلِكَ الْمُرِيدُ، وَلِهَذَا تَرَى كثيرا من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون
__________
(1) . الأنعام: 123.(3/257)
من الدُّنْيَا مَا لَا يَنَالُونَ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَا لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَالْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: لِمَنْ نُرِيدُ أَيْ: لِمَنْ نُرِيدُ التَّعْجِيلَ لَهُ مِنْهُمْ مَا اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُنَا، وَجُمْلَةُ لِمَنْ نُرِيدُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِ بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى «مَنْ» وَهُوَ لِلْعُمُومِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُقَيِّدُ الْآيَاتِ الْمُطْلَقَةَ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها «1» . مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ «2» . وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قُرِئَ «مَا يَشَاءُ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَلَا نَدْرِي مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ مِنْ أهل الشواذّ، وعلى هذه القراءة قيل: الضَّمِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: مَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالنُّونِ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ عَجَّلْنَا وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ لِمَنْ نُرِيدُ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: لِمَنْ نُرِيدُ أَيْ: عَجَّلْنَا لَهُ مَا يَشَاؤُهُ، لَكِنْ بِحَسَبِ إِرَادَتِنَا فَلَا يَحْصُلُ لِمَنْ أَرَادَ الْعَاجِلَةَ مَا يَشَاؤُهُ إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَمِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الطِّلْبَةِ الْفَارِغَةِ الَّتِي لَا تَأْثِيرَ لَهَا إِلَّا بِالْقَيْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَذَابُ الْآخِرَةِ الدَّائِمُ، وَلِهَذَا قَالَ: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ أَيْ: جَعَلْنَا لَهُ بِسَبَبِ تَرْكِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ وَإِخْلَاصِهِ عَنِ الشَّوَائِبِ عَذَابَ جَهَنَّمَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ يَصْلاها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَدْخُلُهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً أَيْ: مَطْرُودًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مُبْعَدًا عَنْهَا، فَهَذِهِ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ، فَأَيْنَ حَالُ هَذَا الشَّقِيِّ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ؟ فَإِنَّهُ يَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ وَأَرَادَهُ بِلَا هَلَعٍ مِنْهُ وَلَا جَزَعٍ، مَعَ سُكُونِ نَفْسِهِ وَاطْمِئْنَانِ قَلْبِهِ وَثِقَتِهِ بِرَبِّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَامِلٌ لِلْآخِرَةِ مُنْتَظِرٌ لِلْجَزَاءِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَلِهَذَا قَالَ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أَيْ: أَرَادَ بِأَعْمَالِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها أي: السعي الحقيق بِهَا اللَّائِقَ بِطَالِبِهَا، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَتَرْكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ خَالِصًا لِلَّهِ غَيْرَ مَشُوبٍ، وَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ مِنْ دُونِ ابْتِدَاعٍ وَلَا هَوًى وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «3» وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:
فَأُولئِكَ إِلَى الْمُرِيدِينَ لِلْآخِرَةِ السَّاعِينَ لَهَا سَعْيَهَا وَخَبَرُهُ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً عِنْدَ الله، أي: مقبولا غير مردود وقيل: مضاعفا إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، فَقَدِ اعْتَبَرَ سُبْحَانَهُ فِي كَوْنِ السَّعْيُ مَشْكُورًا أُمُورًا ثَلَاثَةً:
الْأَوَّلُ: إِرَادَةُ الْآخِرَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَسْعَى لَهَا السَّعْيَ الَّذِي يَحِقُّ لَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَمَالَ رَأْفَتِهِ وَشُمُولَ رَحْمَتِهِ، فَقَالَ: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ التَّنْوِينُ فِي كُلًّا عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نُمِدُّ، أَيْ: نَزِيدُهُ مِنْ عَطَائِنَا عَلَى تَلَاحُقٍ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، نَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ وَأَهْلَ الطَّاعَةِ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ، لَا تُؤَثِّرُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِي فِي قَطْعِ رِزْقِهِ، وَمَا بِهِ الْإِمْدَادُ:
هُوَ مَا عَجَّلَهُ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، وَمَا أَنْعَمَ بِهِ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذلك بمحض التفضل، وهو متعلق بنمدّ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أَيْ:
مَمْنُوعًا، يُقَالُ: حَظَرَهُ يَحْظُرُهُ حَظْرًا مَنَعَهُ، وَكُلُّ مَا حَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ شَيْءٍ فَقَدْ حَظَرَهُ عَلَيْكَ، وهؤُلاءِ
__________
(1) . الشورى: 20.
(2) . هود: 15.
(3) . المائدة: 27.(3/258)
بَدَلٌ مِنْ كُلًّا وهؤُلاءِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْبَدَلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُعْطِيَ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ وَأَنَّهُ يَرْزُقُهُمَا جَمِيعًا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا مَرَّ مِنَ الْإِمْدَادِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ وَالْمَعْنَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا فِي الْعَطَايَا الْعَاجِلَةِ بَعْضَ الْعِبَادِ عَلَى بَعْضٍ، فَمِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، وَقَوِيٍّ وَضَعِيفٍ، وَصَحِيحٍ وَمَرِيضٍ وَعَاقِلٍ وَأَحْمَقَ وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ تَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ إِدْرَاكِهَا وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا وَذَلِكَ لِأَنَّ نِسْبَةَ التفاضل في درجات الْآخِرَةُ أَكْبَرَ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرَ تَفْضِيلًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يَدْخُلُونَ النَّارَ فَتَظْهَرُ فَضِيلَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْآخِرَةِ وَدَرَجَاتِهَا فَوْقَ التَّفَاضُلِ فِي الدُّنْيَا وَمَرَاتِبِ أَهْلِهَا فِيهَا مِنْ بَسْطٍ وَقَبْضٍ وَنَحْوِهِمَا. ثُمَّ لَمَّا أَجْمَلَ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَ الْبِرِّ فِي قَوْلِهِ: وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ أَخَذَ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ مُبْتَدِئًا بِأَشْرَفِهَا الَّذِي هُوَ التَّوْحِيدُ فَقَالَ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ تَهْيِيجًا وَإِلْهَابًا، أَوْ لِكُلِّ مُتَأَهِّلٍ لَهُ صَالِحٍ لِتَوْجِيهِهِ إِلَيْهِ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرُ:
قُلْ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ لَا تَجْعَلْ، وَانْتِصَابُ تَقْعُدَ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَكُنُ مِنْكَ جَعْلٌ فَقُعُودٌ وَمَعْنَى تَقْعُدُ تَصِيرُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: شَحَذَ الشَّفْرَةَ حَتَّى قَعَدَتْ كَأَنَّهَا خَرِبَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْقُعُودِ الْمُقَابِلِ لِلْقِيَامِ وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ، فَإِنَّ السَّعْيَ فِيهِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بِالْقِيَامِ، وَالْعَجْزُ عَنْهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ قَاعِدًا عَنِ الطَّلَبِ وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَذْمُومِ الْمَخْذُولِ أَنْ يَقْعُدَ نَادِمًا مُفَكِّرًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ، فَالْقُعُودُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ، وَانْتِصَابُ مَذْمُوماً مَخْذُولًا عَلَى خَبَرِيَّةِ تَقْعُدَ أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فَتَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الذَّمِّ لَكَ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَمِنْ صَالِحِي عِبَادِهِ، وَالْخِذْلَانِ لَكَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، أَوْ حَالَ كَوْنِكَ جَامِعًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ مَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ أَتْبَعَهُ سَائِرَ الشَّعَائِرِ وَالشَّرَائِعِ فَقَالَ: وَقَضى رَبُّكَ أَيْ: أَمَرَ أمرا جزما، وحكما قطعا، وحتما مبرما أَلَّا تَعْبُدُوا أَيْ: بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا، فَتَكُونُ أَنْ نَاصِبَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً وَلَا نَهْيَ. وَقُرِئَ وَوَصَّى رَبُّكَ أَيْ: وَصَّى عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أَيْ: وَقَضَى بِأَنْ تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، أَوْ وَأَحْسِنُوا بِهِمَا إِحْسَانًا، وَلَا يَجُوزُ أن يتعلّق بالوالدين بإحسانا، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
قِيلَ: وَوَجْهُ ذِكْرِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي وُجُودِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَهُمَا، وَفِي جَعْلِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْأَبَوَيْنِ قَرِينًا لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ مِنَ الْإِعْلَانِ بِتَأَكُّدِ حَقِّهِمَا وَالْعِنَايَةِ بِشَأْنِهِمَا مَا لَا يَخْفَى، وَهَكَذَا جَعَلَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى شُكْرَهُمَا مُقْتَرِنًا بِشُكْرِهِ فَقَالَ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «1» ، ثُمَّ خَصَّ سُبْحَانَهُ حَالَةَ الْكِبَرِ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا إِلَى الْبِرِّ مِنَ الْوَلَدِ أَحْوَجَ مِنْ غَيْرِهَا فَقَالَ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما إِمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ وَمَا الْإِبْهَامِيَّةِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الشَّرْطِ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ نُونُ التَّوْكِيدِ فِي الْفِعْلِ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ مِمَّا سَيَقَعُ الْبَتَّةَ عَادَةً «2» . قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّ الشَّرْطَ يُشْبِهُ النهي من
__________
(1) . لقمان: 14.
(2) . قال الرازي في تفسيره: المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما ألا يقع.(3/259)
حَيْثُ الْجَزْمِ وَعَدَمِ الثُّبُوتِ، فَلِهَذَا صَحَّ دُخُولُ النُّونِ الْمُؤَكِّدَةِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَبْلُغَانِ» قَالَ الْفَرَّاءُ:
ثَنّىَ لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ قَدْ ذُكِرَا قَبْلَهُ فَصَارَ الْفِعْلُ عَلَى عَدَدِهِمَا، ثُمَّ قَالَ: أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ يَبْلُغَنَّ فَأَحَدُهُمَا فَاعِلٌ بِالِاسْتِقْلَالِ وَقَوْلُهُ: أَوْ كِلاهُما فَاعِلٌ أَيْضًا لَكِنْ لَا بِالِاسْتِقْلَالِ بَلْ بِتَبَعِيَّةِ الْعَطْفِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَلَى قِرَاءَةِ «يَبْلُغَانِ» بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ فِي الْفِعْلِ وَيَكُونُ كِلَاهُمَا عَطْفًا عَلَى الْبَدَلِ، وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ كِلَاهُمَا تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ لِاسْتِلْزَامِ الْعَطْفِ الْمُشَارَكَةَ، وَمَعْنَى عِنْدَكَ فِي كَنَفِكَ وكفالتك، وتوحيد الضمير في عندك وَلَا تَقُلْ وَمَا بَعْدَهُمَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ مَنْهِيٌّ بِمَا فِيهِ النَّهْيُ، وَمَأْمُورٌ بِمَا فِيهِ الْأَمْرُ، وَمَعْنَى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ لَا تَقُلْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَالَتَيِ الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ فَقَطْ وَفِي أُفٍّ لُغَاتٌ: ضَمُّ الْهَمْزَةِ مَعَ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْفَاءِ، وَبِالتَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ، وَبِكَسْرِ الهمز والفاء بلا تنوين، وأفّي مُمَالًا «1» ، وَأُفَّهْ بِالْهَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ يَتَأَفَّفُ مِنْ رِيحٍ وَجَدَهَا، أَيْ: يَقُولُ أُفٌّ أُفٌّ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْأُفُّ: وَسَخُ الْأُذُنِ، والتّف: وَسَخُ الْأَظْفَارِ، يُقَالُ ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِقْذَارِ الشَّيْءِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتَعْمَلُوهُ فِي كُلِّ مَا يَتَأَذَّوْنَ بِهِ. وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أن الأف الضجر، وقال القتبي: أَصْلُهُ أَنَّهُ إِذَا سَقَطَ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَنَحْوُهُ نَفَخَ فِيهِ لِيُزِيلَهُ، فَالصَّوْتُ الْحَاصِلُ عِنْدَ تِلْكَ النَّفْخَةِ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: أُفٌّ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فَذَكَرُوهُ عِنْدَ كُلِّ مَكْرُوهٍ يَصِلُ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ النَّتَنُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العلاء: الأف وسخ بين الأظفار والتّف قُلَامَتُهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ يُنْبِئُ عَنِ التَّضَجُّرِ وَالِاسْتِثْقَالِ، أَوْ صَوْتٌ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ، فَنُهِيَ الْوَلَدُ عَنْ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّضَجُّرِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوِ الِاسْتِثْقَالِ لَهُمَا، وَبِهَذَا النَّهْيِ يُفْهَمُ النَّهْيُ عَنْ سَائِرِ مَا يُؤْذِيهِمَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ أَوْ بِلَحْنِهِ كَمَا هُوَ مُتَقَرِّرٌ فِي الْأُصُولِ وَلا تَنْهَرْهُما النَّهْرُ: الزَّجْرُ وَالْغِلْظَةُ، يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَا تُكَلِّمْهُمَا ضَجِرًا صَائِحًا فِي وُجُوهِهِمَا وَقُلْ لَهُما بَدَلَ التَّأْفِيفِ وَالنَّهْرِ قَوْلًا كَرِيماً أَيْ: لَيِّنًا لَطِيفًا أَحْسَنَ مَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ مِنْ لُطْفِ الْقَوْلِ وَكَرَامَتِهِ مَعَ التَّأَدُّبِ وَالْحَيَاءِ وَالِاحْتِشَامِ وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ ضَمَّ فِرَاخَهُ إِلَيْهِ لِلتَّرْبِيَةِ خَفَضَ لَهَا جَنَاحَهُ، فَلِهَذَا صَارَ خَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِلْوَلَدِ: اكْفُلْ وَالِدَيْكَ بِأَنْ تَضُمَّهُمَا إِلَى نَفْسِكَ كَمَا فَعَلَا ذَلِكَ بِكَ فِي حَالِ صِغَرِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ الطَّيَرَانَ وَالِارْتِفَاعَ نَشَرَ جَنَاحَهُ، وَإِذَا أَرَادَ النُّزُولَ خَفَضَ جَنَاحَهُ، فَصَارَ خَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنِ التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ الِارْتِفَاعِ. وَفِي إِضَافَةِ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَإِضَافَةِ حَاتِمٍ إِلَى الْجُودِ فِي قَوْلِكَ حَاتِمُ الْجُودِ، فَالْأَصْلُ فِيهِ الْجَنَاحُ الذَّلِيلُ، وَالثَّانِي: سُلُوكُ سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، كَأَنَّهُ تَخَيَّلَ لِلذُّلِّ جَنَاحًا، ثُمَّ أَثْبَتَ لِذَلِكَ الْجَنَاحِ خَفْضًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ مِنْ ذَلَّ يَذِلُّ ذُلًّا وَذِلَّةً وَمَذَلَّةً فَهُوَ ذَلِيلٌ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِكَسْرِ الذَّالِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَاصِمٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ دابة ذلول بيّنة الذُّلِّ أَيْ: مُنْقَادَةٌ سَهْلَةٌ لَا صُعُوبَةَ فِيهَا، ومن الرَّحْمَةِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ فرط الشفقة والعطف
__________
(1) . قراءة على الإمالة.(3/260)
عَلَيْهِمَا لِكِبَرِهِمَا وَافْتِقَارِهِمَا الْيَوْمَ لِمَنْ كَانَ أَفْقَرَ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِمَا بِالْأَمْسِ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَلَا تَكْتَفِ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي لَا دوام لها وَلكن قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: رَحْمَةً مِثْلَ تَرْبِيَتِهِمَا لِي أَوْ مِثْلَ رَحْمَتِهِمَا لِي وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ رَحْمَةً مِثْلَ الرَّحْمَةِ بَلِ الْكَافَ لِاقْتِرَانِهِمَا فِي الْوُجُودِ فَلْتَقَعْ هَذِهِ كَمَا وَقَعَتْ تِلْكَ. وَالتَّرْبِيَةُ: التَّنْمِيَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ:
لِأَجْلِ تَرْبِيَتِهِمَا لِي كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «1» وَلَقَدْ بَالَغَ سُبْحَانَهُ فِي التَّوْصِيَةِ بِالْوَالِدَيْنِ مُبَالَغَةً تَقْشَعِرُّ لَهَا جُلُودُ أَهْلِ الْعُقُوقِ، وَتَقِفُ عِنْدَهَا شُعُورُهُمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ قَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ذَاكَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: كُلًّا نُمِدُّ الآية قال: كل يَرْزُقُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الآية قال: يرزق مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا وَيُرْزَقُ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: مَحْظُوراً مَمْنُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَفِعَ فِي الدُّنْيَا دَرَجَةً فَارْتَفَعَ بِهَا إِلَّا وَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ دَرَجَةً أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَطْوَلَ، ثم قرأ: أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ زَاذَانَ عَنْ سَلْمَانَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَوْنَ أَهْلَ عِلِّيِّينَ كَمَا يَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَذْمُوماً يَقُولُ: مَلُومًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَوَصَّى رَبُّكَ، مَكَانَ وَقَضى، وقال: التزقت الواو والصاد وأنتم تقرؤونها «وَقَضى رَبُّكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْهُ أَيْضًا مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَلَوْ نَزَلَتْ عَلَى الْقَضَاءِ مَا أَشْرَكَ بِهِ أَحَدٌ. وَأَقُولُ: إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا لَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ مِنَ الْأَمْرِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ مَعَانِي مُطْلَقِ الْقَضَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ «2» ، وَقَوْلِهِ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ «3» فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ «4» وَلَكِنَّهُ- هَاهُنَا- بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْقَضَاءِ، وَالْأَمْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ بِجَمِيعِ مَا أَوْجَبَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ إِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ وَتَوْحِيدُهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَقَعَ الشِّرْكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ مَعَانِي مُطْلَقِ الْقَضَاءِ مَعَانٍ أُخَرُ غَيْرُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كَالْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، وَمِنْهُ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «5» . وَبِمَعْنَى الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِ: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «6» . وَبِمَعْنَى الْعَهْدِ كَقَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ «7» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
__________
(1) . البقرة: 198.
(2) . يوسف: 41.
(3) . البقرة: 200.
(4) . النساء: 103.
(5) . فصلت: 12.
(6) . البقرة: 117.
(7) . القصص: 44. [.....](3/261)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
وَقَضى رَبُّكَ قَالَ: أَمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: عَهِدَ رَبُّكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يَقُولُ: بِرًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فيما تُمِيطُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَذَى: الْخَلَاءِ وَالْبَوْلِ، كَمَا كَانَا لَا يَقُولَانِهِ فِيمَا كَانَا يُمِيطَانِ عَنْكَ من الخلاء والبول. وأخرج الديلمي عن الحسن بْنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «لَوْ عَلِمَ اللَّهُ شَيْئًا مِنَ الْعُقُوقِ أَدْنَى مِنْ أُفٍّ لَحَرَّمَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً قَالَ: إِذَا دَعَوَاكَ فَقُلْ لَبَّيْكُمَا وَسَعْدَيْكُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَوْلًا لَيِّنًا سَهْلًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ قَالَ: يَلِينُ لَهُمَا حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: اخْضَعْ لِوَالِدَيْكَ كَمَا يَخْضَعُ الْعَبْدُ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ الْغَلِيظِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى «1» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ في كتب الحديث.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 25 الى 33]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)
قَوْلُهُ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أَيْ: بِمَا فِي ضَمَائِرِكُمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَعَدَمِهِ فِي كُلِّ الطَّاعَاتِ، وَمِنَ التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي فَرُطَ مِنْكُمْ أَوِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ مَا فِي النَّفْسِ مِنَ الْبِرِّ وَالْعُقُوقِ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِمَا يَجِبُ لِلْأَبَوَيْنِ مِنَ الْبِرِّ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْأَوْلَادِ مِنَ الْعُقُوقِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَلَا تُخَصِّصُهُ دَلَالَةُ السِّيَاقِ وَلَا تُقَيِّدُهُ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قَاصِدِينَ الصَّلَاحَ، وَالتَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ وَالْإِخْلَاصَ لِلطَّاعَةِ فَلَا يَضُرُّكُمْ مَا وَقَعَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي تُبْتُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً أَيِ: الرَّجَّاعِينَ عَنِ الذُّنُوبِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَعَنْ عَدَمِ الْإِخْلَاصِ إِلَى مَحْضِ الْإِخْلَاصِ غَفُورًا لِمَا فَرُطَ مِنْهُمْ من قول
__________
(1) . التوبة: 113.(3/262)
أَوْ فِعْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ رَجَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ التَّوْصِيَةَ بِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْأَقَارِبِ بَعْدَ التَّوْصِيَةِ بِهِمَا فَقَالَ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْخِطَابُ إِمَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْيِيجًا وَإِلْهَابًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ وَالْمُرَادُ بِذِي الْقُرْبَى ذُو الْقَرَابَةِ، وَحَقُّهُمْ هُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، وَكَرَّرَ التَّوْصِيَةَ فِيهَا، وَالْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْقَرَابَةِ، أَوْ لِبَعْضِهِمْ كَالْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَالْأَوْلَادُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ مَعْرُوفٌ، وَالَّذِي يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وُجُوبُ صِلَتِهِمْ بِمَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ الْقُدْرَةُ وَحَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالْمِسْكِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى «ذَا الْقُرْبَى» وَفِي هَذَا الْعَطْفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ الْحَقُّ الْمَالِيُّ وَابْنَ السَّبِيلِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمِسْكِينَ، وَالْمَعْنَى: وَآتِ مَنِ اتَّصَفَ بِالْمَسْكَنَةِ، أَوْ بِكَوْنِهِ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ حَقَّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي التَّوْبَةِ، وَالْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِمَا بِمَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ الْقُدْرَةُ مِنْ صَدَقَةِ النَّفْلِ، أَوْ مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ لَهُمَا مِنْ صَدَقَةِ الْفَرْضِ، فَإِنَّهُمَا مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي هِيَ مَصْرِفُ الزَّكَاةِ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ هَاهُنَا نَهَى عَنِ التَّبْذِيرِ فَقَالَ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً التَّبْذِيرُ: تَفْرِيقُ الْمَالِ، كَمَا يُفَرَّقُ الْبِذْرُ كَيْفَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِمَوَاقِعِهِ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ الْمَذْمُومُ لِمُجَاوَزَتِهِ لِلْحَدِّ الْمُسْتَحْسَنِ شَرْعًا فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّبْذِيرُ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَلَا تَبْذِيرَ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ حِكَايَتِهِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ هَذَا: وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: التَّبْذِيرُ: هُوَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ حَقِّهِ، وَوَضْعُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ، وَهُوَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ الْمُمَاثَلَةُ التَّامَّةُ، وَتَجَنُّبُ مُمَاثَلَةِ الشَّيْطَانِ وَلَوْ فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ خِصَالِهِ وَاجِبٌ، فَكَيْفَ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ الْمُمَاثَلَةِ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ فَقَدْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَاقْتَدَى بِهِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أَيْ: كَثِيرَ الْكُفْرَانِ، عَظِيمَ التَّمَرُّدِ عَنِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ مَعَ كُفْرِهِ لَا يَعْمَلُ إِلَّا شَرًّا، وَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِعَمَلِ الشَّرِّ، وَلَا يُوَسْوِسُ إِلَّا بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَسْجِيلٌ عَلَى الْمُبَذِّرِينَ بِمُمَاثَلَةِ الشَّيَاطِينِ، ثُمَّ التَّسْجِيلُ عَلَى جِنْسِ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ كَفُورٌ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُبَذِّرَ مُمَاثِلٌ لِلشَّيْطَانِ، وَكُلُّ مُمَاثِلٍ لِلشَّيْطَانِ لَهُ حُكْمُ الشَّيْطَانِ، وَكُلُّ شَيْطَانٍ كَفُورٌ، فَالْمُبَذِّرُ كَفُورٌ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ قَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ أَصْلَ إِمَّا هَذِهِ مُرَكَّبٌ مِنْ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ وما الْإِبْهَامِيَّةِ، وَأَنَّ دُخُولَ نُونِ التَّأْكِيدِ عَلَى الشَّرْطِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلنَّهْيِ، أَيْ: إِنْ أَعْرَضْتَ عَنْ ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لِأَمْرٍ اضْطَرَّكَ إِلَى ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ أَيْ: لِفَقْدِ رِزْقٍ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّهُ أَقَامَ الْمُسَبَّبَ الَّذِي هُوَ ابْتِغَاءُ رَحْمَةِ اللَّهِ مَقَامَ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ فَقْدُ الرِّزْقِ لِأَنَّ فَاقِدَ الرِّزْقِ مُبْتَغٍ لَهُ وَالْمَعْنَى: وَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُمْ لِفَقْدِ رِزْقٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُو أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أَيْ: قَوْلًا سَهْلًا لَيِّنًا كَالْوَعْدِ الْجَمِيلِ أَوِ الِاعْتِذَارِ الْمَقْبُولِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يَسَّرْتُ لَهُ الْقَوْلَ أَيْ لَيَّنْتُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى الْآيَةِ إِنْ تُعْرِضْ عَنِ السَّائِلِ إِضَاقَةً وَإِعْسَارًا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا عِدْهُمْ عِدَةً حَسَنَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِكَ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هنا الإعراض(3/263)
بِالْوَجْهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ إِذَا سَأَلَهُمْ سَائِلٌ مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ كَيْفَ يَقُولُونَ وَبِمَا يَرُدُّونَ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
إِنْ لَا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهَا ... لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ
لَا يعدم السائلون الخير من خلقي ... إمّا نوالي وإما حسن مردودي
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَدَبَ الْمَنْعِ بَعْدَ النَّهْيِ عن التذيير بَيَّنَ أَدَبَ الْإِنْفَاقِ فَقَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ وَهَذَا النَّهْيُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُكَلَّفٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضًا لِأُمَّتِهِ وَتَعْلِيمًا لَهُمْ، أَوِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ لِلْإِنْسَانِ بِأَنْ يُمْسِكَ إِمْسَاكًا يَصِيرُ بِهِ مُضَيِّقًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، وَلَا يُوَسِّعُ فِي الْإِنْفَاقِ تَوْسِيعًا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بِهِ مُسْرِفًا، فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ جَانِبَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. وَيَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ التَّوَسُّطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهِ:
وَلَا تَكُ فِيهَا مُفْرِطًا أَوْ مُفَرِّطًا ... كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ
وَقَدْ مَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ الشَّحِيحِ بِحَالِ مَنْ كَانَتْ يَدُهُ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ التَّصَرُّفَ بِهَا، وَمَثَّلَ حَالَ مَنْ يُجَاوِزُ الْحَدَّ فِي التَّصَرُّفِ بِحَالِ مَنْ يَبْسُطُ يَدَهُ بَسْطًا لَا يَتَعَلَّقُ بِسَبَبِهِ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا تَقْبِضُ الْأَيْدِيَ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا التَّصْوِيرِ مُبَالِغَةٌ بَلِيغَةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ غَائِلَةَ الطَّرَفَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا فَقَالَ: فَتَقْعُدَ مَلُوماً عِنْدَ النَّاسِ بِسَبَبِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّحِّ مَحْسُوراً بِسَبَبِ مَا فَعَلْتَهُ مِنَ الْإِسْرَافِ، أَيْ: مُنْقَطِعًا عَنِ الْمَقَاصِدِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ، وَالْمَحْسُورُ فِي الْأَصْلِ: الْمُنْقَطِعُ عَنِ السَّيْرِ، مِنْ حَسَرَهُ السَّفَرُ إِذَا بَلَغَ مِنْهُ، وَالْبَعِيرُ الْحَسِيرُ: هُوَ الَّذِي ذَهَبَتْ قُوَّتُهُ فَلَا انْبِعَاثَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ «1» ، أَيْ: كَلَيْلٌ مُنْقَطِعٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نَادِمًا عَلَى مَا سَلَفَ، فَجَعَلَهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنَ الْحَسْرَةِ الَّتِي هِيَ النَّدَامَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مِنَ الْحَسْرَةِ حَسْرَانٌ، وَلَا يُقَالُ مَحْسُورٌ إِلَّا لِلْمَلُومِ ثُمَّ سَلَّى رَسُولَهُ والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الإضافة لَيْسَ لِهَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنْ لِمَشِيئَةِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَيْ: يُوَسِّعُهُ عَلَى بَعْضٍ وَيُضَيِّقُهُ عَلَى بَعْضٍ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، لَا لِكَوْنِ مَنْ وَسَّعَ لَهُ رِزْقُهُ مُكَرَّمًا عِنْدَهُ، وَمَنْ ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ هَائِنًا لَدَيْهِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ الْبَسْطَ وَالْقَبْضَ إِنَّمَا هُمَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي لَا تَفْنَى خَزَائِنُهُ، فَأَمَّا عِبَادُهُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتَصِدُوا، ثُمَّ عَلَّلَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْبَسْطِ لِلْبَعْضِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَى الْبَعْضِ بِقَوْلِهِ:
إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أَيْ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ، فَهُوَ الْخَبِيرُ بِأَحْوَالِهِمُ، الْبَصِيرُ بِكَيْفِيَّةِ تَدْبِيرِهِمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَكَفِّلُ بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهَا: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أَمْلَقَ الرَّجُلُ: لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْمَلَقَاتُ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْعِظَامُ الْمُلْسُ. قَالَ الْهُذَلِيُّ يصف صائدا:
أتيح لها أقيدر ذو حشيف ... إذا سامت على الملقات ساما
__________
(1) . الملك: 4.(3/264)
الأقيدر: تصغير الأقدر وهو الرجل القصير، والحشيف مِنَ الثِّيَابِ: الْخَلِقُ، وَسَامَتْ: مَرَّتْ، وَيُقَالُ: أَمْلَقَ إِذَا افْتَقَرَ وَسَلَبَ الدَّهْرُ مَا بِيَدِهِ. قَالَ أَوْسٌ:
............... ....
وَأَمْلَقُ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تِنْبَلُ «1»
نَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَ الْفَقْرِ حَتَّى يَبْلُغُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ الْأَوْلَادِ لَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّازِقُ لِعِبَادِهِ، يَرْزُقُ الْأَبْنَاءَ كَمَا يَرْزُقُ الْآبَاءَ فَقَالَ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ وَلَسْتُمْ لَهُمْ بِرَازِقِينَ حَتَّى تَصْنَعُوا بِهِمْ هَذَا الصُّنْعَ، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَنْعَامِ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَبِالْهَمْزِ الْمَقْصُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، خَطَأً، بِفَتْحِ الخاء والطاء والقصر في الهمز، يقال: خطىء في ذنبه خطأ إدا أَثِمَ، وَأَخْطَأَ: إِذَا سَلَكَ سَبِيلَ خَطَأٍ عَامِدًا أو غير عامد. قال الأزهري: خطىء يخطأ خِطَئًا مِثْلُ أَثِمَ يَأْثَمُ إِثْمًا إِذَا تَعَمَّدَ الخطأ، وأخطأ: إذا لم يتعمّد، إخطاء وخطأ، قال الشاعر:
دعيني إنما خطئي وصوبي ... عليّ وإنّ ما أهلكت مال «2»
وَالْخَطَأُ الِاسْمُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَخْطَاءِ، وَفِيهِ لُغَتَانِ الْقَصْرُ، وَهُوَ الْجَيِّدُ، وَالْمَدُّ وَهُوَ قَلِيلٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَمَدِّ الْهَمْزِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا أَعْرِفُ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهًا، وَكَذَلِكَ جَعَلَهَا أَبُو حَاتِمٍ غَلَطًا.
وَقَرَأَ الحسن «خطىّ» بفتح الخاء والطاء منوّنة من غير همزة. وَلَمَّا نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ الْمُسْتَدْعِي لِإِفْنَاءِ النَّسْلِ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا الْمُفْضِي إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ فَقَالَ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى وَفِي النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهِ بِمُبَاشَرَةِ مُقَدَّمَاتِهِ نَهْيٌ عَنْهُ بِالْأَوْلَى، فَإِنَّ الْوَسِيلَةَ إِلَى الشَّيْءِ إِذَا كَانَتْ حَرَامًا كَانَ المتوسل إليه حراما بفحوى الخطاب، والزنى فِيهِ لُغَتَانِ: الْمَدُّ، وَالْقَصْرُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ كَمَا ... كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ
ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أَيْ: قَبِيحًا مُتَبَالِغًا فِي الْقُبْحِ مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ وَساءَ سَبِيلًا أَيْ: بِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى النَّارِ، وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَقْبِيحِهِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلِ لِخُصُوصِ الْأَوْلَادِ وَعَنِ النَّهْيِ عَنِ الزِّنَا الَّذِي يُفْضِي إِلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَتْلُ الْأَوْلَادِ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ وَعَدَمِ اسْتِقْرَارِهَا، نَهَى عَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ الْمَعْصُومَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَقَالَ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ والمراد بالتي
__________
(1) . وصدره: لما رأيت العدم قيد نائلي.
(2) . في المطبوع:
دَعِينِي إِنَّمَا خَطَّاءً وَصَدًّا ... عَلِيَّ وَإِنَّمَا أَهْلَكْتُ مالي
والمثبت من اللسان والشعر والشعراء لابن قتيبة.(3/265)
حَرَّمَ اللَّهُ الَّتِي جَعَلَهَا مَعْصُومَةً بِعِصْمَةِ الدِّينِ أَوْ عِصْمَةِ الْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ هُوَ مَا يُبَاحُ بِهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ الْمَعْصُومَةِ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ كَالرِّدَّةِ وَالزِّنَا مِنَ الْمُحْصَنِ، وَكَالْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ عَمْدًا عُدْوَانًا وَمَا يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، أَيْ: لَا تَقْتُلُوهَا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَّا بِسَبَبِ مُتَلَبِّسٍ بِالْحَقِّ، أَوْ إِلَّا مُتَلَبِّسِينَ بِالْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي الْأَنْعَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أَيْ: لَا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسَوِّغَةِ لِقَتْلِهِ شَرْعًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أَيْ: لِمَنْ يَلِي أَمْرَهُ مَنْ وَرَثَتِهِ إِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ، أَوْ مِمَّنْ لَهُ سُلْطَانٌ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ، وَالسُّلْطَانُ: التَّسَلُّطُ عَلَى الْقَاتِلِ إِنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ إِبَاحَةَ الْقِصَاصِ لِمَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِدَمِ الْمَقْتُولِ، أَوْ مَا هُوَ عِوَضٌ عَنِ الْقِصَاصِ نَهَاهُ عَنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فَقَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أَيْ: لَا يُجَاوِزْ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ فَيَقْتُلْ بِالْوَاحِدِ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةً، أَوْ يُمَثِّلْ بِالْقَاتِلِ، أَوْ يُعَذِّبْهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَا يُسْرِفْ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أي: الولي، وقرأ حمز وَالْكِسَائِيُّ تُسْرِفْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْقَاتِلِ الْأَوَّلِ، وَنَهْيٌ لَهُ عَنِ الْقَتْلِ، أَيْ: فَلَا تُسْرِفُ أَيُّهَا الْقَاتِلُ بِالْقَتْلِ فَإِنَّ عَلَيْكَ الْقِصَاصَ مَعَ مَا عَلَيْكَ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ وَلَعْنَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ: لَا تَقْتُلْ يَا مُحَمَّدُ غَيْرَ الْقَاتِلِ وَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَكَ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «وَلَا تُسْرِفُوا» ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنِ السَّرَفِ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أَيْ: مُؤَيَّدًا مُعَانًا، يَعْنِي الْوَلِيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ نَصَرَهُ بِإِثْبَاتِ الْقِصَاصِ لَهُ بِمَا أَبْرَزَهُ مِنَ الْحُجَجِ، وَأَوْضَحَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَرَ أَهْلَ الْوِلَايَاتِ بِمَعُونَتِهِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْمَقْتُولِ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ نَصَرَهُ بِوَلِيِّهِ، قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قَالَ: تَكُونُ الْبَادِرَةُ مِنَ الْوَلَدِ إِلَى الْوَالِدِ، فَقَالَ اللَّهُ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ إِنْ تَكُنِ النِّيَّةُ صَادِقَةً فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً لِلْبَادِرَةِ الَّتِي بَدَرَتْ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً قَالَ: الرَّجَّاعِينَ إِلَى الْخَيْرِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادٌ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: الرَّجَّاعِينَ مِنَ الذَّنْبِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَمِنَ السَّيِّئَاتِ إِلَى الْحَسَنَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لِلْأَوَّابِينَ قَالَ: لِلْمُطِيعِينَ الْمُحْسِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ قَالَ: لِلتَّوَّابِينَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ قَالَ: أَمَرَهُ بِأَحَقِّ الْحُقُوقِ، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَصْنَعُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَقَالَ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها قال: إذا سألوك وليس عندك شيء انتظرت رِزْقًا مِنَ اللَّهِ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً يقول: إِنْ شَاءَ اللَّهُ يَكُونُ شِبْهَ الْعِدَةِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَالْعِدَةُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ أَنْ تَصِلَ ذَا الْقَرَابَةِ وَتُطْعِمَ الْمِسْكِينَ وَتُحْسِنَ إِلَى ابْنِ السَّبِيلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا قَرَأْتَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ؟ قَالَ:(3/266)
وَإِنَّكُمْ لَلْقَرَابَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُؤْتَى حَقُّهُمْ. قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ. قَالَ:
وَالْقُرْبَى قُرْبَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يُفِيدُ هَذَا التَّخْصِيصَ، وَلَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ، وَمَعْنَى النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَاضِحٌ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ مَعَ كُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَمْرُ كُلِّ مُكَلَّفٍ مُتَمَكِّنٍ مِنْ صِلَةِ قَرَابَتِهِ بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ حَقَّهُمْ، وَهُوَ الصِّلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ لِأُمَّتِهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ كَالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لَهُ مِنْ دُونِ تَعْرِيضٍ، فَأُمَّتُهُ أُسْوَتُهُ، فَالْأَمْرُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى حَقَّهُ أَمْرٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَيْسَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَمَا بَعْدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً- إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَحَاضِرَةٍ، فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أُنْفِقُ وَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: تُخْرِجُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ، وَتَصِلُ أَقَارِبَكَ، وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ وَالْجَارِ وَالْمِسْكِينِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْلِلْ لِي؟ قَالَ: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا. قَالَ: حَسْبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ فَأَعْطَاهَا فَدَكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ فَدَكَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا مَا لَفْظُهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ لَوْ صَحَّ إِسْنَادُهُ، لَأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَفْدَكُ إِنَّمَا فُتِحَتْ مَعَ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ هَذَا مَعَ هَذَا؟ انْتَهَى. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً قَالَ:
التَّبْذِيرُ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ نَتَحَدَّثُ أَنَّ التَّبْذِيرَ النَّفَقَةُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الْمَالَ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا أَنْفَقْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَبْذِيرٍ وَمَا تَصَدَّقْتَ فَلَكَ، وَمَا أَنْفَقْتَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَذَلِكَ حَظُّ الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً قَالَ: الْعِدَةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَيَّارِ أَبِي الْحَكَمِ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرٌّ مِنَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ مِعْطَاءً كَرِيمًا، فَقَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالُوا: إِنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْأَلُهُ، فَوَجَدُوهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ قَالَ: مَحْبُوسَةً وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً يَلُومُكَ النَّاسُ مَحْسُوراً لَيْسَ بِيَدِكَ شَيْءٌ.(3/267)
أَقُولُ: وَلَا أَدْرِي كَيْفَ هَذَا؟ فَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ عَرَبٌ يَقْصِدُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُحْمَلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْعِرَاقِ وَلَا مِمَّا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، عَلَى أَنَّ فَتْحَ الْعِرَاقِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو «بَعَثَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنِهَا فَقَالَتْ: قُلْ لَهُ اكْسُنِي ثَوْبًا. فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، فَقَالَتْ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ اكْسُنِي قَمِيصَكَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَنَزَعَ قَمِيصَهُ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ، فَنَزَلَتْ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ لِعَائِشَةَ وَضَرَبَ بِيَدِهِ: أَنْفِقِي مَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّي، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ. قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً الْآيَةَ» وَيَقْدَحُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِعَائِشَةَ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْبُخْلَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا فِي النَّفَقَةِ يَقُولُ: لَا تَجْعَلْهَا مغلولة لا تبسطها بِخَيْرٍ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، يَعْنِي التَّبْذِيرَ فَتَقْعُدَ مَلُوماً، يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ مَالِهِ مَحْسُوراً ذَهَبَ مَالُهُ كُلُّهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ قَالَ: يَنْظُرُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْغِنَى خَيْرًا لَهُ أَغْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ الْفَقْرُ خَيْرًا لَهُ أَفْقَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ قَالَ: مَخَافَةَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
خِطْأً قَالَ: خَطِيئَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى قَالَ: يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَكُنْ حُدُودٌ، فَجَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُدُودُ فِي سُورَةِ النُّورِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبيّ ابن كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ: «وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كان فاحشة ومقتا وَسَاءَ سَبِيلًا إِلَّا مَنْ تَابَ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا» فَذُكِرَ لِعُمَرَ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: أَخَذْتُهَا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ، وَلَيْسَ لَكَ عَمَلٌ إِلَّا الصَّفْقَ بِالْبَقِيعِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّرْهِيبِ عَنْ فَاحِشَةِ الزِّنَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الْآيَةَ قَالَ: هَذَا بِمَكَّةَ وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَغْتَالُونَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُ: مَنْ قَتَلَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ قَتْلُهُ إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ تَقْتُلُوا لَهُ أَبًا أَوْ أَخًا أَوْ وَاحِدًا مِنْ عَشِيرَتِهِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَلَا تَقْتُلُوا إِلَّا قَاتِلَكُمْ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ براءة، وقبل أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً يَقُولُ: لَا تَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِكَ، وَهِيَ الْيَوْمُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا إِلَّا قَاتِلَهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمِ: أَنَّ النَّاسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ مِنَ الْقَوْمِ رَجُلًا لَمْ يَرْضَوْا حَتَّى يَقْتُلُوا بِهِ رَجُلًا شَرِيفًا، إِذَا كَانَ قَاتِلُهُمْ غَيْرَ شَرِيفٍ، لَمْ يَقْتُلُوا قَاتِلَهُمْ وَقَتَلُوا غَيْرَهُ، فَوُعِظُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ إِلَى قَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً قَالَ: بَيِّنَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْزَلَهَا يَطْلُبُهَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ الْقَوْدُ أَوِ الْعَقْلُ، وَذَلِكَ السُّلْطَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ قَالَ: لَا يُكْثِرْ فِي الْقَتْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ أَيْضًا: لَا يَقْتُلْ إِلَّا قَاتِلَ رحمه.(3/268)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 34 الى 41]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنْ إِتْلَافِ النُّفُوسِ أَتْبَعَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ إِتْلَافِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ أَهَمَّهَا بِالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ مَالُ الْيَتِيمِ، فَقَالَ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لَهُ وَإِتْلَافِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قُرْبَانِهِ، لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيَ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ فِيمَا يُصْلِحُهُ وَيُفْسِدُهُ، بَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَفْعَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَا يُصْلِحُهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ مُبَاشَرَتَهُ، فَقَالَ: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ: إِلَّا بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْخِصَالِ، وَهِيَ حِفْظُهُ وَطَلَبُ الرِّبْحِ فِيهِ وَالسَّعْيُ فِيمَا يَزِيدُ بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْغَايَةَ الَّتِي لِلنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ فَقَالَ: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أَيْ: لَا تَقْرَبُوهُ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ الْيَتِيمُ أَشُدَّهُ، فَإِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ كَانَ لَكُمْ أَنْ تَدْفَعُوهُ إِلَيْهِ، أَوْ تَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِإِذْنِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْأَنْعَامِ.
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَهُوَ مِنَ الْعَهْدِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَمَا بَيْنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ. وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ: هُوَ الْقِيَامُ بِحِفْظِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَالْقَانُونِ الْمَرْضِيِّ، إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى جَوَازِ النَّقْضِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي: مسؤولا عنه، فالمسؤول هُنَا هُوَ صَاحِبُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَهْدَ يُسْأَلُ تَبْكِيتًا لِنَاقِضِهِ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ أَيْ: أَتِمُّوا الْكَيْلَ وَلَا تُخْسِرُوهُ وَقْتَ كَيْلِكُمْ لِلنَّاسِ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ قَالَ الزَّجَّاجُ:
هُوَ مِيزَانُ الْعَدْلِ، أَيْ مِيزَانٌ كَانَ مِنْ مَوَازِينِ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا، وَفِيهِ لُغَتَانِ: ضَمُّ الْقَافِ، وَكَسْرُهَا. وَقِيلَ:
هُوَ الْقَبَّانُ الْمُسَمَّى بِالْقَرْسَطُونِ وَقِيلَ: هُوَ الْعَدْلُ نَفْسُهُ، وَهِيَ لُغَةُ الرُّومِ وَقِيلَ: لُغَةٌ سُرْيَانِيَّةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْقُسْطَاسِ بِضَمِّ الْقَافِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ خَيْرٌ أَيْ: خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ يَتَأَثَّرُ عَنْهُ حُسْنُ الذِّكْرِ وَتَرْغِيبِ النَّاسِ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ: أَحْسَنُ عَاقِبَةً، مِنْ آلَ إِذَا رَجَعَ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِإِصْلَاحِ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ فَقَالَ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أَيْ: لَا تَتَّبِعْ مَا لَا تَعْلَمُ، مِنْ قَوْلِكَ: قَفَوْتُ فُلَانًا إِذَا اتَّبَعْتَ أَثَرَهُ، وَمِنْهُ قَافِيَةُ الشِّعْرِ لِأَنَّهَا تَقْفُو كُلَّ بَيْتٍ، وَمِنْهُ الْقَبِيلَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْقَافَةِ لِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ آثَارَ أَقْدَامِ النَّاسِ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: قفا وقاف مثل عتا وعات. قَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ: قَفَا وَقَافَ، مِثْلُ جَذَبَ وَجَبَذَ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ: تَقُفْ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ الْفَرَّاءُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَهِيَ لُغَةٌ(3/269)
لِبَعْضِ الْعَرَبِ، وَأَنْكَرَهَا أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ مَا لَا يَعْلَمُ أَوْ يَعْمَلُ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ، وَقَدْ جَعَلَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ خَاصَّةً بِأُمُورٍ فَقِيلَ: لَا تَذُمَّ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وَقِيلَ: هِيَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ، وَقِيلَ: هِيَ في القذف. وقال القتبي: مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَتَّبِعِ الْحَدْسَ وَالظُّنُونَ، وَهَذَا صَوَابٌ، فَإِنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا هُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ مُسْتَنَدٍ قَطْعِيًّا كَانَ أَوْ ظَنِّيًّا، قَالَ أَبُو السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ: وَاسْتِعْمَالُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُنْكَرُ شُيُوعُهُ. وَأَقُولُ:
إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَلَكِنَّهَا عَامَّةٌ مُخَصَّصَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ، كَالْعَمَلِ بِالْعَامِّ، وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، وَفِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا تُخْرَجُ مِنْ عُمُومِهَا وَمِنْ عُمُومِ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ، فَالْعَمَلُ بِالرَّأْيِ فِي مَسَائِلِ الشَّرْعِ إِنْ كَانَ لِعَدَمِ وُجُودِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ قَاضِيًا: «بِمَ تَقْضِي؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي» وَهُوَ حَدِيثٌ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي بَحْثٍ مُفْرَدٍ. وَأَمَّا التَّوَثُّبُ عَلَى الرَّأْيِ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ- وَلَكِنَّهُ قَصْرُ صَاحِبِ الرَّأْيِ عَنِ الْبَحْثِ فَجَاءَ بِرَأْيِهِ- فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا النَّهْيِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، لِأَنَّهُ مَحْضُ رَأْيٍ فِي شَرْعِ اللَّهِ، وَبِالنَّاسِ عَنْهُ غِنًى بِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبِسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، عَلَى أَنَّ التَّرْخِيصَ فِي الرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لِلْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهِ وَيُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ مَسَائِلِ الشَّرْعِ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ أَتَمَّ اتِّضَاحٍ، وَيَظْهَرُ لَكَ أَكْمَلَ ظُهُورٍ أَنَّ هَذِهِ الْآرَاءَ الْمُدَوَّنَةَ فِي الْكُتُبِ الْفُرُوعِيَّةِ لَيْسَتْ مِنَ الشَّرْعِ فِي شَيْءٍ، وَالْعَامِلُ بِهَا عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَالْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الرَّأْيِ قَدْ قَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَالْمُقَلِّدُ الْمِسْكِينُ الْعَامِلُ بِرَأْيِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ قَدْ عَمِلَ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا لِمَنْ قَلَّدَهُ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالْعَقَائِدِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بعلم بِقَوْلِهِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا إِشَارَةٌ إِلَى الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَأُجْرِيَتْ مَجْرَى الْعُقَلَاءِ لما كانت مسؤولة عَنْ أَحْوَالِهَا شَاهِدَةً عَلَى أَصْحَابِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَمَّا يَعْقِلُ وَعَمًّا لَا يَعْقِلُ بِأُولَئِكَ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَدِلًّا عَلَى جَوَازِ هَذَا قَوْلَ الشَّاعِرِ «1» :
ذَمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ عَلَى هَذَا الْخَطَأِ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ. وَالضَّمِيرُ فِي كان من قوله: كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا يَرْجِعُ إِلَى كُلُّ، وَكَذَا الضَّمِيرُ فِي عَنْهُ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي كَانَ يَعُودُ إِلَى الْقَافِي الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ. وَقَوْلُهُ: عَنْهُ في محل رفع لإسناد مسؤولا إِلَيْهِ، وَرَدَ بِمَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْدِيمِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ جَارَّا أَوْ مَجْرُورًا. قِيلَ: وَالْأَوْلَى
__________
(1) . هو جرير.(3/270)
أن يقال إنه فاعل مسؤولا الْمَحْذُوفُ، وَالْمَذْكُورُ مُفَسِّرٌ لَهُ. وَمَعْنَى سُؤَالِ هَذِهِ الْجَوَارِحِ أَنَّهُ يَسْأَلُ صَاحِبَهَا عَمَّا اسْتَعْمَلَهَا فِيهِ لأنها آلات، والمستعمل لها هُوَ الرُّوحُ الْإِنْسَانِيُّ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَهَا فِي الْخَيْرِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهَا فِي الشَّرِّ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْطِقُ الْأَعْضَاءَ هَذِهِ عِنْدَ سُؤَالِهَا فَتُخْبِرُ عَمَّا فَعَلَهُ صَاحِبُهَا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً الْمَرَحُ: قِيلَ هُوَ شِدَّةُ الْفَرَحِ، وَقِيلَ: التَّكَبُّرُ فِي الْمَشْيِ، وَقِيلَ:
تَجَاوُزُ الْإِنْسَانِ قَدْرَهُ، وَقِيلَ: الْخُيَلَاءُ فِي الْمَشْيِ، وَقِيلَ: الْبَطَرُ وَالْأَشَرُ، وَقِيلَ: النَّشَاطُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْخُيَلَاءُ وَالْفَخْرُ، قَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا فَخُورًا، وَذَكَرَ الْأَرْضَ مَعَ أَنَّ الْمَشْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَيْهَا أَوْ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَيْهَا تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا، وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ إِلَّا تَوَاضُعًا ... فَكَمْ تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمْ مِنْكَ أَرْفَعُ
وَإِنْ كُنْتَ فِي عِزٍّ وَحِرْزٍ وَمَنَعَةٍ ... فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْمٍ هُمْ مِنْكَ أَمْنَعُ
وَالْمَرَحُ مَصْدَرٌ وَقَعَ حَالًا، أَيْ: ذَا مَرَحٍ، وَفِي وَضْعِ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الصِّفَةِ نَوْعُ تَأْكِيدٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَرَحاً بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَحَكَى يَعْقُوبُ عَنْ جَمَاعَةٍ كَسْرَهَا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ فَقَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ يُقَالُ خَرَقَ الثَّوْبَ، أَيْ: شَقَّهُ، وَخَرَقَ الْأَرْضَ قَطَعَهَا، وَالْخَرْقُ: الْوَاسِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ بِمَشْيِكَ عَلَيْهَا تَكَبُّرًا، وَفِيهِ تَهَكُّمٌ بِالْمُخْتَالِ الْمُتَكَبِّرِ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أَيْ: وَلَنْ تَبْلُغَ قُدْرَتُكَ إِلَى أَنْ تُطَاوِلَ الْجِبَالَ حَتَّى يَكُونَ عَظْمُ جُثَّتِكَ حَامِلًا لَكَ عَلَى الْكِبَرِ وَالِاخْتِيَالِ، فَلَا قُوَّةَ لَكَ حَتَّى تَخْرِقَ الْأَرْضَ بِالْمَشْيِ عَلَيْهَا، وَلَا عِظَمَ فِي بَدَنِكَ حَتَّى تُطَاوِلَ الْجِبَالَ، فَمَا الْحَامِلُ لَكَ عَلَى مَا أنت فيه؟ وطولا مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ تَمْيِيزٌ أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِخَرْقِ الْأَرْضِ نَقْبُهَا لَا قَطْعُهَا بِالْمَسَافَةِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: خَرَقَهَا: قَطَعَهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَبْيَنُ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَرْقِ، وَهُوَ الْفَتْحَةُ الْوَاسِعَةُ وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَخْرَقُ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ: أَكْثَرُ سَفَرًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كُلُّ ذلِكَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، أَوْ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ فَقَطْ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ- وَلا تَمْشِ قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَمَسْرُوقٌ سَيِّئُهُ عَلَى إِضَافَةِ سَيِّئٍ إِلَى الضَّمِيرِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُهُ: مَكْرُوهاً فَإِنَّ السَّيِّئَ هُوَ الْمَكْرُوهُ، وَيُؤَيِّدُهَا أَيْضًا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: «كَانَ سَيِّئَاتُهُ» ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو «سَيِّئَةً» عَلَى أَنَّهَا وَاحِدَةُ السَّيِّئَاتِ، وَانْتِصَابُهَا عَلَى خَبَرِيَّةِ كَانَ، وَيَكُونُ مَكْرُوهاً صِفَةً لِسَيِّئَةٍ عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّهَا بِمَعْنَى سَيِّئًا، أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ سَيِّئَةٍ وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ لِكَانَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ كُلُّ، وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْبَدَلَ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ بِغَيْرِ هَذَا مِمَّا فِيهِ تَعَسُّفٌ لَا يَخْفَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْإِضَافَةُ أحسن لأن ما تقدّم من الآيات فيها سَيِّئٌ وَحَسَنٌ، فَسَيِّئُهُ الْمَكْرُوهُ وَيُقَوِّي ذَلِكَ التَّذْكِيرُ فِي الْمَكْرُوهِ قَالَ: وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ جَعَلَ كُلُّ ذلِكَ إِحَاطَةً بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ دُونَ الْحَسَنِ، الْمَعْنَى: كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَانَ سَيِّئَةً وَكَانَ مَكْرُوهًا، قَالَ: وَالْمَكْرُوهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بَدَلٌ مِنَ السَّيِّئَةِ وَلَيْسَ بِنَعْتٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمَكْرُوهِ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُبْغِضُهُ وَلَا يَرْضَاهُ، لَا أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ مُطْلَقًا لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ وَاقِعَةٌ بِإِرَادَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَذَكَرَ مُطْلَقَ الْكَرَاهَةِ مَعَ أَنَّ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا هُوَ(3/271)
مِنَ الْكَبَائِرِ إِشْعَارًا بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ تَعَالَى يُوجِبُ انْزِجَارَ السَّامِعِ وَاجْتِنَابُهُ لِذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْخِصَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا هُوَ حَسَنٌ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَمَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْإِضَافَةِ تَكُونُ الْإِشَارَةُ بقوله:
كُلُّ ذلِكَ إلى جميع الخصال حسنها ومكروهها، ثم الإخبار بأن ما هو سيئ من هذه الأشياء وهو المنهي عنه مكروه عند الله، وعلى قراءة الإفراد من دون إضافة تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَنْهِيَّاتِ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ عَنْ هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند الله ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ:
لَا تَجْعَلْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، وَتَرْتَقِي إِلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ تَكْلِيفًا، مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ أَيْ: مِنْ جِنْسِهِ أَوْ بَعْضٍ مِنْهُ، وَسُمِّيَ حِكْمَةً لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُحْكَمٌ، وَهُوَ مَا عَلَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ أَوْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الْفَسَادُ. وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته، ومِنَ الْحِكْمَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا، أَيْ: كَائِنًا مِنَ الْحِكْمَةِ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْمَوْصُولِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِأَوْحَى وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنِ الشِّرْكِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ رَأَسُ خِصَالِ الدِّينِ وَعُمْدَتُهُ. قِيلَ: وَقَدْ رَاعَى سُبْحَانَهُ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ دَقِيقَةً «1» فَرَتَّبَ عَلَى الْأَوَّلِ كَوْنَهُ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حَالِ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا، وَرَتَّبَ عَلَى الثَّانِي أَنَّهُ يُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَفِي الْقُعُودِ هُنَاكَ، وَالْإِلْقَاءُ هُنَا، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا صُورَةَ اخْتِيَارٍ بِخِلَافِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَلُومِ وَالْمَدْحُورِ. أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
أَصْفَاكُمْ خَصَّكُمْ، وَقَالَ الْفَضْلُ: أَخْلَصَكُمْ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ شَدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ بَالِغٌ لِمَا كَانَ يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَنَظَائِرِهِ مِمَّا قَدْ كَرَّرْنَاهُ. إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِأَنَّ لَهُمُ الذُّكُورَ وَلِلَّهِ الْإِنَاثُ قَوْلًا عَظِيماً بَالِغًا فِي الْعِظَمِ والجرأة عَلَى اللَّهِ إِلَى مَكَانٍ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ أَيْ: بَيَّنَّا ضُرُوبَ الْقَوْلِ فِيهِ مِنَ الْأَمْثَالِ وَغَيْرِهَا، أَوْ كَرَّرْنَا فِيهِ وَقِيلَ: فِي زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا هَذَا الْقُرْآنَ، وَالتَّصْرِيفُ فِي الْأَصْلِ: صَرْفُ الشَّيْءِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ وَقِيلَ: مَعْنَى التَّصْرِيفِ الْمُغَايِرَةُ، أَيْ: غَايَرْنَا بَيْنَ الْمَوَاعِظِ لِيَتَذَكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ صَرَّفْنا بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالتَّخْفِيفِ، ثُمَّ عَلَّلَ تَعَالَى ذَلِكَ فَقَالَ: لِيَذَّكَّرُوا أَيْ: لِيَتَّعِظُوا وَيَتَدَبَّرُوا بِعُقُولِهِمْ وَيَتَفَكَّرُوا فِيهِ حَتَّى يَقِفُوا عَلَى بُطْلَانِ مَا يَقُولُونَهُ.
قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «لِيَذْكُرُوا» مُخَفَّفًا، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٌ لِمَا تُفِيدُهُ مِنْ مَعْنَى التَّكْثِيرِ، وَجُمْلَةُ وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ هَذَا التَّصْرِيفَ وَالتَّذْكِيرَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا تَبَاعُدًا عَنِ الْحَقِّ وَغَفْلَةً عَنِ النَّظَرِ فِي الصَّوَابِ لِأَنَّهُمْ قَدِ اعْتَقَدُوا فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ حِيلَةٌ وَسِحْرٌ وَكِهَانَةٌ وَشِعْرٌ، وَهُمْ لَا يَنْزِعُونَ عَنْ هَذِهِ الْغِوَايَةِ وَلَا وَازِعَ لَهُمْ يَزَعُهُمْ إِلَى الْهِدَايَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ قَالَ: كَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي مَالٍ
__________
(1) . أي: مسألة دقيقة.(3/272)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
وَلَا مَأْكَلٍ وَلَا مَرْكَبٍ حَتَّى نَزَلَتْ: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا قَالَ: يَسْأَلُ اللَّهُ نَاقِضَ الْعَهْدِ عَنْ نَقْضِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسْأَلُ عَهْدَهُ مَنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ يَعْنِي لِغَيْرِكُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ يَعْنِي الْمِيزَانَ، وَبِلُغَةِ الرُّومِ: الْمِيزَانُ:
الْقِسْطَاسُ ذلِكَ خَيْرٌ يَعْنِي وَفَاءَ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ خَيْرٌ مِنَ النُّقْصَانِ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا عَاقِبَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقِسْطَاسُ: الْعَدْلُ، بِالرُّومِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْقِسْطَاسُ: الْقَبَّانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
الحديث. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ قَالَ: لَا تَقُلْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: لا ترم أحدا لما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا يَقُولُ: سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَفُؤَادُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكَذَلِكَ كَانَ أَمْ لَا؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً قَالَ: لَا تَمْشِ فَخْرًا وَكِبْرًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُ بِكَ الْجِبَالَ وَلَا أَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ بِفَخْرِكَ وَكِبْرِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ التَّوْرَاةَ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ تَلَا وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَدْحُوراً قَالَ: مطرودا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 48]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
قَوْلُهُ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ يَقُولُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ للقائلين بأن مع الله آلهة أخرى، وإِذاً جواب عن مقالتهم الباطلة وجزاء للو لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَبِيلًا طَرِيقًا لِلْمُغَالَبَةِ وَالْمُمَانَعَةِ، كَمَا تَفْعَلُ الْمُلُوكُ مَعَ بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُصَاوَلَةِ وَقِيلَ: معناه: إذا لابتغت الآلهة إلى الله القربة والزّلفى عنده، لأنهم دونه، والمشركون
__________
(1) . البقرة: 220.(3/273)
إِنَّمَا اعْتَقَدُوا أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَمِثْلُ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» . ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ، فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَالتَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ، وقد تقدّم. وَتَعالى متباعد عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الشَّنِيعَةِ وَالْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ عُلُوًّا أَيْ: تَعَالِيًا، وَلَكِنَّهُ وَضَعَ الْعُلُوَّ مَوْضِعَ التَّعَالِي كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «2» . ثُمَّ وَصَفَ الْعُلُوَّ بِالْكِبَرِ مُبَالَغَةً فِي النَّزَاهَةِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ الْمُطْلَقِ وَالْفَقِيرِ الْمُطْلَقِ، مُبَايَنَةً لَا تُعْقَلُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ جَلَالَةَ مُلْكِهِ وَعَظَمَةَ سُلْطَانِهِ فَقَالَ: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قُرِئَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فِي يُسَبِّحُ وَبِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَالَ: فِيهِنَّ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ لِإِسْنَادِهِ إِلَيْهَا التَّسْبِيحَ الَّذِي هُوَ فِعْلُ العقلاء، وقد أخبر سبحانه عن السموات وَالْأَرْضِ بِأَنَّهَا تُسَبِّحُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ فِيهَا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّذِينَ لَهُمْ عُقُولٌ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَعْقِلُ، ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ تَعْمِيمًا وَتَأْكِيدًا فَقَالَ:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فَشَمَلَ كُلَّ مَا يُسَمَّى شَيْئًا كَائِنًا مَا كَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَمَنْ فِيهِنَّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ، وَيُحْمَلُ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ عَلَى مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْعُمُومِ هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ، وَحَمَلُوا التَّسْبِيحَ عَلَى تَسْبِيحِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ وَيُدِلُّ غَيْرَهُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ قَادِرٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
هَذَا التَّسْبِيحُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالْعُمُومُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ الْمَخْلُوقَاتِ تُسَبِّحُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ هَذَا التَّسْبِيحُ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّنْزِيهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَشَرُ لَا يَسْمَعُونَ ذَلِكَ وَلَا يَفْهَمُونَهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ تَسْبِيحَ الدَّلَالَةِ لَكَانَ أَمْرًا مَفْهُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَا تَفْقَهُونَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنِ الِاعْتِبَارِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ بِالْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ دُونَ الْجَمَادَاتِ، وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالْأَجْسَامِ النَّامِيَةِ فَيَدْخُلُ النَّبَاتَاتُ، كَمَا رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عن عكرمة والحسن، وخصّا تَسْبِيحَ النَّبَاتَاتِ بِوَقْتِ نُمُوِّهَا لَا بَعْدَ قَطْعِهَا، وَقَدِ اسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ» وَفِيهِ «ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» وَيُؤَيِّدُ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ:
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «3» وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «4» ، وَقَوْلُهُ: وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا «5» وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ، وَهُمْ يَأْكُلُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَكَذَا حَدِيثُ حَنِينِ الْجِذْعِ، وَحَدِيثُ «أَنَّ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وَكُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ «وَمِنْ ذَلِكَ تَسْبِيحُ الْحَصَى فِي كَفِّهِ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُدَافَعَةُ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادَاتِ لَيْسَ دَأْبَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَيُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ، وَمَعْنَى إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ إِلَّا يُسَبِّحُ مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. قَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ تُسَبِّحُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فَمِنْ حِلْمِهِ الْإِمْهَالُ لَكُمْ، وَعَدَمُ إِنْزَالِ عُقُوبَتِهِ عَلَيْكُمْ، وَمِنْ مَغْفِرَتِهِ لَكُمْ
__________
(1) . الأنبياء: 22.
(2) . نوح: 17.
(3) . ص: 18.
(4) . البقرة: 74.
(5) . مريم: 90.(3/274)
أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ تَابَ مِنْكُمْ. وَلَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ بَعْضٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمَا يَقَعُ مِنْ سَامِعِيهِ فَقَالَ: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً جَعَلْنَا بَيْنَكَ يَا مُحَمَّدُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا، أَيْ: إِنَّهُمْ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ قِرَاءَتِكَ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْكَ كَمَنَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ يَمُرُّونَ بِكَ وَلَا يَرَوْنَكَ. ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَمَعْنَى مَسْتُورًا سَاتِرٌ.
قَالَ الْأَخْفَشُ: أَرَادَ سَاتِرًا، وَالْفَاعِلُ قَدْ يَكُونُ فِي لَفْظِ الْمَفْعُولِ كَمَا تَقُولُ: إِنَّكَ لَمَشْئُومٌ وَمَيْمُونٌ، وَإِنَّمَا هو شائم ويا من وَقِيلَ: مَعْنَى مَسْتُورًا ذَا سِتْرٍ، كَقَوْلِهِمْ سَيْلٌ مُفْعَمٌ: أَيْ ذُو إِفْعَامٍ، وَقِيلَ: هُوَ حِجَابٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ فَهُوَ مَسْتُورٌ عَنْهَا، وَقِيلَ: حِجَابٌ مِنْ دُونِهِ حِجَابٌ فَهُوَ مَسْتُورٌ بِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحِجَابِ الْمَسْتُورُ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً الْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْأَنْعَامِ، وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ «1» وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «2» وأَنْ يَفْقَهُوهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَوْ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ، أَيْ: يَفْهَمُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْحِكَمِ وَالْمَعَانِي وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أَيْ: صَمَمًا وَثَقَلًا، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَسْمَعُوهُ. وَمِنْ قَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتُهُمْ كَمَا يَذْكُرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا سَمِعُوا ذِكْرَ اللَّهِ دُونَ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ نَفَرُوا عَنِ الْمَجْلِسِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أَيْ: وَاحِدًا غَيْرَ مَشْفُوعٍ بِذِكْرِ آلِهَتِهِمْ، فَهُوَ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً هُوَ مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ:
هَرَبُوا نُفُورًا، أَوْ نَفَرُوا نُفُورًا وَقِيلَ: جَمْعُ نَافِرٍ كَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: أَيْ: وَلَّوْا نَافِرِينَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أَيْ: يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ مُتَلَبِّسِينَ بِهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِكَ وَبِالْقُرْآنِ وَاللَّغْوِ فِي ذِكْرِكَ لِرَبِّكَ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَالظَّرْفُ فِي إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ مُتَعَلِّقٍ بِأَعْلَمَ، أَيْ: نَحْنُ أَعْلَمُ وَقْتَ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْوَعِيدِ، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ هُمْ نَجْوى مُتَعَلِّقٌ بِأَعْلَمَ أَيْضًا، أَيْ: وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقْتَ تَنَاجِيهِمْ، وَقَدْ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ بَيْنَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، يَقُولُ: بَدَلٌ مِنْ إِذْ هُمْ نَجْوى. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أَيْ: يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِينَ عِنْدَ تَنَاجِيهِمْ: مَا تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا سُحِرَ فَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ وَزَالَ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ.
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَسْحُورُ: الذَّاهِبُ الْعَقْلِ الَّذِي أُفْسِدَ مِنْ قَوْلِهِمْ طَعَامٌ مَسْحُورٌ إِذَا أُفْسِدَ عَمَلُهُ، وَأَرْضٌ مَسْحُورَةٌ: أَصَابَهَا مِنَ الْمَطَرِ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْبَغِي فَأَفْسَدَهَا. وَقِيلَ: الْمَسْحُورُ: الْمَخْدُوعُ لِأَنَّ السِّحْرَ حِيلَةٌ وَخَدِيعَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، وَكَانُوا يَخْدَعُونَهُ بِذَلِكَ التَّعْلِيمِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
مَعْنَى مَسْحُورًا أَنَّ لَهُ سَحْرًا أَيْ: رِئَةً، فَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهُوَ مِثْلُكُمْ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلْجَبَانِ: قَدِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مَسْحُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَرَانَا موضعين لأمر غيب «3» ... ونسحر بالطّعام وبالشّراب
__________
(1) . البقرة: 88.
(2) . فصلت: 5. [.....]
(3) . «موضعين» : مسرعين. «لأمر غيب» : أي للموت المغيّب.(3/275)
أَيْ: نُغَذِّي وَنُعَلِّلُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا أَدْرِي مَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُسْتَكْرَهِ مَعَ أَنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِالْوُجُوهِ الْوَاضِحَةِ. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أَيْ: قَالُوا تَارَةً إِنَّكَ كَاهِنٌ، وَتَارَةً سَاحِرٌ، وَتَارَةً شَاعِرٌ، وَتَارَةً مَجْنُونٌ فَضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إِلَى الْهُدَى، أَوْ إِلَى الطَّعْنِ الَّذِي تَقْبَلُهُ الْعُقُولُ وَيَقَعُ التَّصْدِيقُ لَهُ لَا أَصْلَ الطَّعْنِ، فَقَدْ فَعَلُوا مِنْهُ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَقِيلَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ مَخْرَجًا لِتَنَاقُضِ كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: سَاحِرٌ مَجْنُونٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا قَالَ:
عَلَى أَنْ يُزِيلُوا مُلْكَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَانَ جِبْرِيلُ عن يمينه وميكائيل عن يساره، فطارا به حتى بلغ السّموات الْعُلَى، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: سَمِعْتُ تَسْبِيحًا مِنَ «1» السّموات العلى مع تسبيح كثير، سبحت السّموات الْعُلَى مِنْ ذِي الْمَهَابَةِ، مُشْفِقَاتٍ لِذِي الْعُلُوِّ بِمَا عَلَا، سُبْحَانَ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ سَمِعَ هِدَّةً فَقَالَ: أطّت السماء وحقّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا فِيهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ سَاجِدٍ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ نُوحٌ ابْنَهُ؟ إِنَّ نُوحًا قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ آمُرُكَ أَنْ تَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْخَلَائِقِ، وَتَسْبِيحُ الْخَلْقِ، وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ سَبَّحَ تَسْبِيحَةً إِلَّا سَبَّحَ مَا خلق الله من شيء» قَالَ اللَّهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادُهُ فِيهِ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: مِنْ أَجْلِ نَمْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَقَالَ: نَقِيقُهَا تَسْبِيحٌ» .
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قَالَ: الزَّرْعُ يُسَبِّحُ وَأَجْرُهُ لِصَاحِبِهِ، وَالثَّوْبُ يُسَبِّحُ، ويقول الوسخ: إن كنت مؤمنا فاغسلني إذا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ إِلَّا الْكَلْبَ وَالْحِمَارَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مَسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَتَى أَبُو بَكْرٍ بِغُرَابٍ وَافِرِ الْجَنَاحَيْنِ، فَجَعَلَ يَنْشُرُ جَنَاحَيْهِ وَيَقُولُ: مَا صِيدَ مِنْ صَيْدٍ وَلَا عُضِدَ مِنْ شَجَرَةٍ إِلَّا بِمَا ضَيَّعَتْ مِنَ التسبيح. وأخرج أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: أَتَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فذكره من قوله غير مرفوع. وأخرج أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حديث أبي هريرة بنحوه. وأخرج
__________
(1) . في الحلية (2/ 7) : في.(3/276)
ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِمَعْنَى بَعْضِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِمَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رُهْمٍ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّوْرَاةِ كَقَدْرِ أَلْفِ آيَةٍ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قَالَ: فِي التَّوْرَاةِ تُسَبِّحُ لَهُ الْجِبَالُ، وَيُسَبِّحُ لَهُ الشَّجَرُ، وَيُسَبِّحُ لَهُ كَذَا، وَيُسَبِّحُ لَهُ كَذَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى دَاوُدُ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ سُرُورًا «1» ، فَنَادَتْهُ ضُفْدَعَةٌ: يَا دَاوُدُ كُنْتُ أَدْأَبَ مِنْكَ، قد أغفيت إغفاء. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ فِي مِحْرَابِهِ فَأَبْصَرَ دُودَةً صَغِيرَةً فَفَكَّرَ فِي خَلْقِهَا وَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِخَلْقِ هَذِهِ؟ فَأَنْطَقَهَا اللَّهُ فَقَالَتْ: يَا دَاوُدُ أَتُعْجِبُكَ نَفْسُكَ؟ لَأَنَا عَلَى قَدْرِ مَا آتَانِي اللَّهُ أَذْكَرُ لِلَّهِ وَأَشْكَرُ لَهُ مِنْكَ عَلَى مَا آتَاكَ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ وَرِوَايَاتٌ عَنِ السَّلَفِ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِتَسْبِيحِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ «2» ، وَهِيَ تَقُولُ:
مُذَمَّمًا أَبَيْنَا ... وَدِينَهُ قَلَيْنَا
وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا
وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَقَدْ أَقْبَلَتْ هَذِهِ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ:
إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي، وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً قَالَ: الْحِجَابُ الْمَسْتُورُ أَكِنَّةٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَأَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابن أبي حاتم عن زهير ابن مُحَمَّدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً قَالَ:
الشَّيَاطِينُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ قَالَ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ ابن المغيرة والعاص بن وائل.
__________
(1) . في الدر المنثور (5/ 93) : غرورا.
(2) . «فهر» : حجر ملء الكف.(3/277)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 55]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكَايَةِ شُبَهِ الْقَوْمِ فِي النُّبُوَّاتِ حَكَى شُبْهَتَهُمْ فِي أَمْرِ الْمَعَادِ، فَقَالَ: وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ. وَتَقْرِيرُ الشُّبْهَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ جَفَّتْ عِظَامُهُ وَتَنَاثَرَتْ وَتَفَرَّقَتْ فِي جَوَانِبِ الْعَالَمِ، وَاخْتَلَطَتْ بِسَائِطُهَا بِأَمْثَالِهَا مِنَ الْعَنَاصِرِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ بَعْدَ ذَلِكَ اجْتِمَاعُهَا بِأَعْيَانِهَا، ثُمَّ عَوْدُ الْحَيَاةِ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ؟ فَأَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِأَنَّ إِعَادَةَ بَدَنِ الْمَيِّتِ إِلَى حَالِ الْحَيَاةِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، وَلَوْ فَرَضْتُمْ أَنَّ بَدَنَهُ قَدْ صَارَ أَبْعَدَ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَمِنْ رُطُوبَةِ الْحَيِّ كَالْحِجَارَةِ وَالْحَدِيدِ، فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَتَطْمَعُ فِيَّ وَأَنَا ابْنُ فُلَانٍ، فَيَقُولُ: كُنِ ابْنَ السُّلْطَانِ أَوِ ابْنَ مَنْ شِئْتَ، فَسَأَطْلُبُ مِنْكَ حَقِّي. وَالرُّفَاتُ: مَا تَكَسَّرَ وَبَلِيَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَالْفُتَاتِ وَالْحُطَامِ وَالرُّضَاضِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ، تَقُولُ مِنْهُ:
رَفَتَ الشَّيْءُ رَفْتًا، أَيْ: حُطِّمَ فَهُوَ مَرْفُوتٌ. وَقِيلَ الرُّفَاتُ: الْغُبَارُ، وَقِيلَ: التُّرَابُ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً كَرَّرَ الِاسْتِفْهَامَ الدَّالَّ عَلَى الِاسْتِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا، وَالْعَامِلُ فِي إِذَا هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَمَبْعُوثُونَ، لَا هُوَ نَفْسُهُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِنَّ وَالْهَمْزَةِ وَاللَّامِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً ورفاتا نبعث أإنا لَمَبْعُوثُونَ، وَانْتِصَابُ خَلْقًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ مِنْ غَيْرِ لفظه، أو على الحال، أي: مخلوقين، وجديدا صِفَةٌ لَهُ قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً- أَوْ خَلْقاً آخَرَ مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
مَعْنَاهُ إِنْ عَجِبْتُمْ مِنْ إِنْشَاءِ اللَّهِ لَكُمْ عِظَامًا وَلَحْمًا فَكُونُوا أَنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى ذَلِكَ، وقال علي ابن عِيسَى: مَعْنَاهُ إِنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حديدا لم تفوتوا الله عزّ وجلّ إذا أرادكم. إلا أنه خرج مخرج الأمر لأنه أبلغ في الإلزام وقيل: معناه: لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَأَعَادَكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ وَلَأَمَاتَكُمْ ثُمَّ أَحْيَاكُمْ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِخَالِقِهِمْ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ، فَقِيلَ لَهُمُ: اسْتَشْعِرُوا أَنْ تَكُونُوا مَا شِئْتُمْ، فَلَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَبُعِثْتُمْ كَمَا خُلِقْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَرَّرْنَا جَوَابَ الشُّبْهَةِ قَبْلَ هَذَا أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أَيْ: يَعْظُمُ عِنْدَكُمْ مِمَّا هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْحَدِيدِ مُبَايَنَةً لِلْحَيَاةِ فَإِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ لا محالة، وقيل: المراد به السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ لِعِظَمِهَا فِي النُّفُوسِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ من الصحابة وَالتَّابِعِينَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَوْتُ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَكْبَرُ فِي نَفْسِ ابْنِ آدَمَ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتُمُ الْمَوْتَ لَأَمَاتَكُمُ اللَّهُ ثُمَّ بَعَثَكُمْ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنَ الْبُعْدِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ التَّرَقِّي مِنَ الْحِجَارَةِ إِلَى الْحَدِيدِ، ثُمَّ مِنَ الْحَدِيدِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ فِي صُدُورِ الْقَوْمِ مِنْهُ، وَالْمَوْتُ(3/278)
نَفْسُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَعْقِلُ وَيَحُسُّ حَتَّى يَقَعَ التَّرَقِّي مِنَ الْحَدِيدِ إِلَيْهِ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا إِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا، أَوْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا مَعَ مَا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيْ: يُعِيدُكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاخْتَرَعَكُمْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ خَلْقِكُمْ مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ وَلَا صُورَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أَيْ:
يُحَرِّكُونَهَا اسْتِهْزَاءً، يُقَالُ: نَغَضَ رَأْسُهُ يَنْغُضُ وَيُنْغِضُ نَغْضًا وَنُغُوضًا، أَيْ: تَحَرَّكَ، وَأَنْغَضَ رَأْسَهُ حَرَّكَهُ كَالْمُتَعَجِّبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
أَنَغَضَ نَحْوِي رَأَسَهُ وَأَقْنَعَا وَقَوْلُ الرَّاجِزِ الْآخَرِ:
وَنَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أَسْنَانُهَا وَقَالَ آخَرُ:
لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِي رَأْسَهَا «1» وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ أَيِ: الْبَعْثُ وَالْإِعَادَةُ، اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ وَسُخْرِيَةً قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أَيْ: هُوَ قَرِيبٌ لِأَنَّ عَسَى فِي كَلَامِ اللَّهِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَمِثْلُهُ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «2» وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ الظَّرْفُ مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيِ: اذْكُرْ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ قَرِيبًا، أَوِ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ كَانَ مَا كَانَ، الدُّعَاءُ: النِّدَاءُ إِلَى الْمَحْشَرِ بِكَلَامٍ يَسْمَعُهُ الْخَلَائِقُ وَقِيلَ: هُوَ الصَّيْحَةُ الَّتِي تَسْمَعُونَهَا، فَتَكُونُ دَاعِيَةً لَهُمْ إِلَى الِاجْتِمَاعِ فِي أَرْضِ الْمَحْشَرِ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أَيْ: مُنْقَادِينَ لَهُ، حَامِدِينَ لِمَا فَعَلَهُ بِكُمْ، فَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَتَسْتَجِيبُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ هُنَا الْبَعْثُ وَبِالِاسْتِجَابَةِ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ، فَالْمَعْنَى: يَوْمَ يَبْعَثُكُمْ فَتُبْعَثُونَ مُنْقَادِينَ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ:
تَظُنُّونَ عِنْدَ الْبَعْثِ أَنَّكُمْ مَا لَبِثْتُمْ فِي قُبُورِكُمْ إِلَّا زَمَنًا قَلِيلًا وَقِيلَ: بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ يُكَفُّ عَنِ الْمُعَذَّبِينَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ عَامًا يَنَامُونَ فِيهَا، فلذلك: قالُوا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «3» ، وَقِيلَ:
إِنَّ الدُّنْيَا تَحَقَّرَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَقَلَّتْ حِينَ رَأَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِعِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ عِنْدَ مُحَاوَرَتِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْكَلَامِ الْحَسَنِ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «4» وَقَوْلِهِ:
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً «5» لِأَنَّ الْمُخَاشَنَةَ لَهُمْ رُبَّمَا تُنَفِّرُهُمْ عَنِ الْإِجَابَةِ أَوْ تُؤَدِّي إِلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «6» وَهَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ وَقِيلَ: المعنى:
__________
(1) . في تفسير القرطبي (10/ 275) : الرأسا.
(2) . الأحزاب: 63.
(3) . يس: 52.
(4) . العنكبوت: 46.
(5) . طه: 44.
(6) . الأنعام: 108.(3/279)
قُلْ لَهُمْ يَأْمُرُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَيَنْهَوْا عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى كَمَا يَشْهَدُ بِهِ السَّبَبُ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أَيْ: بِالْفَسَادِ وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْإِغْرَاءِ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: يُقَالُ: نَزَغَ بَيْنَنَا، أَيْ: أَفْسَدَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: النَّزْغُ: الْإِغْرَاءُ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أَيْ: مُتَظَاهِرًا بِالْعَدَاوَةِ مُكَاشِفًا بِهَا، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالْمَعْنَى: إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم عَلَى الشِّرْكِ فَيُعَذِّبْكُمْ وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بِأَنْ يَحْفَظَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْكُمْ وقيل: إن هذا تفسير لكلمة «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أَيْ: مَا وَكَّلْنَاكَ فِي مَنْعِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَقَسْرِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَقِيلَ: مَا جَعَلْنَاكَ كَفِيلًا لَهُمْ تُؤْخَذُ بِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ذَكَرْتُ أَبَا أَرْوَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي ... بِرَدِّ الْأُمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ
أَيْ: كَفِيلٌ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَعْلَمُ بِهِمْ ذَاتًا وَحَالًا وَاسْتِحْقَاقًا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ لأن هذا يشمل كل ما في السموات وَالْأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَذَاكَ خَاصٌّ بِبَنِي آدَمَ أَوْ بِبَعْضِهِمْ، وَهَذَا كَالتَّوْطِئَةِ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ أَيْ: أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ بِمَنْ هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً وَبِمَنْ دُونَهُ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ مَزِيدَ الْخُصُوصِيَّةِ بِتَكْثِيرِ فَضَائِلِهِ وَفَوَاضِلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ. وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَمُوسَى كَلِيمًا، وَجَعَلَ عِيسَى كَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، وَجَعَلَ لِسُلَيْمَانَ مُلْكًا عَظِيمًا، وَغَفَرَ لِمُحَمَّدٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَجَعَلَهُ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَفْعٌ لِمَا كَانَ يُنْكِرُهُ الْكُفَّارُ مِمَّا يَحْكِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا فَضَّلَ بِهِ دَاوُدَ، فَقَالَ: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أَيْ: كِتَابًا مَزْبُورًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: فَلَا تُنْكِرُوا تَفْضِيلَ مُحَمَّدٍ وَإِعْطَاءَهُ الْقُرْآنَ فَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ دَاوُدَ زَبُورًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَرُفاتاً قَالَ: غُبَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَرُفاتاً قَالَ: تُرَابًا، وَفِي قَوْلِهِ:
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً قَالَ: مَا شِئْتُمْ فَكُونُوا، فَسَيُعِيدُكُمُ اللَّهُ كَمَا كُنْتُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قَالَ: الْمَوْتُ، لَوْ كنتم موتى لَأَحْيَيْتُكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخُ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ ابن أَحْمَدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: قَالَ: فَكُونُوا الْمَوْتَ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّ الْمَوْتَ سَيَمُوتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس في قوله: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ قَالَ: سَيُحَرِّكُونَهَا اسْتِهْزَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قَالَ: الْإِعَادَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:(3/280)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قَالَ: بِأَمْرِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قَالَ: بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: فِي الدُّنْيَا تَحَاقَرَتِ الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّتْ حِينَ عَايَنُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي قَوْلِهِ:
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يعفوا عَنِ السَّيِّئَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يَقُولُ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزْغُ الشَّيْطَانِ: تَحْرِيشُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ دُعَاءٌ عُلِّمَهُ دَاوُدُ وَتَحْمِيدٌ وَتَمْجِيدٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَيْسَ فِيهِ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَلَا فَرَائِضُ وَلَا حُدُودٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: الزَّبُورُ: ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَدُعَاءٌ وَتَسْبِيحٌ. قُلْتُ: الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ، فَإِنَّا وَقَفْنَا عَلَى الزَّبُورِ فَوَجَدْنَاهُ خُطَبًا يَخْطُبُهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُخَاطِبُ بِهَا رَبَّهُ سُبْحَانَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ الْكَنِيسَةَ، وَجُمْلَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ خُطْبَةً، كُلُّ خُطْبَةٍ تُسَمَّى مَزْمُورًا بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى وَسُكُونِ الزَّايِ وَضَمَّ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ وَآخِرُهُ رَاءٌ، فَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْخُطَبِ يَشْكُو دَاوُدُ إِلَى رَبِّهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَيَسْتَنْصِرُهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُمَجِّدُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَالْغَلَبَةِ لَهُمْ، وَكَانَ عِنْدَ الْخُطْبَةِ يَضْرِبُ بِالْقِيثَارَةِ، وَهِيَ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الْمَلَاهِي. وَقَدْ ذَكَرَ السيوطي في «الدرّ المنثور» ها هنا رِوَايَاتٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ أَلْفَاظًا وَقَفُوا عَلَيْهَا فِي الزَّبُورِ لَيْسَ لَهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَقَدْ أَغْنَى عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا مَا اشتمل عليه القرآن من المواعظ والزواجر.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 60]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
قَوْلُهُ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ هَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ تَمَاثِيلَ عَلَى أَنَّهَا صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ عِيسَى وَمَرْيَمَ وَعُزَيْرٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالَّذِينَ زَعَمْتُمْ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ عِنْدَهُمْ نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا خُصِّصَتِ الْآيَةُ بِمَنْ ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ: يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِالْجَمَادَاتِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ، وَالْمَعْبُودُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ، وَعَلَى تَحْوِيلِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ(3/281)
هَذِهِ الَّتِي تَزْعُمُونَهَا آلِهَةٌ لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ عَدَمَ اقْتِدَارِهِمْ بِبَيَانِ غَايَةِ افْتِقَارِهِمْ إِلَى اللَّهِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ فَأُولَئِكَ مُبْتَدَأٌ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ صِفَتُهُ، وَضَمِيرُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَدْعُونَهُمْ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَدْعُونَ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، أَيِ: الَّذِينَ يَدْعُونَ عِبَادَهُ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، وَيَكُونُ يَبْتَغُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ تَدْعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ وَلَا خِلَافَ فِي يَبْتَغُونَ أَنَّهُ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْوَسِيلَةُ الْقُرْبَةُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ: أَيْ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي رَبِّهِمْ يَعُودُ إِلَى الْعَابِدِينَ أَوِ الْمَعْبُودِينَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ بِالْوَسِيلَةِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَبْتَغُونَ، أَيْ: يَبْتَغِي مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ تَعَالَى الْوَسِيلَةَ، فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟ وَقِيلَ: إِنَّ يَبْتَغُونَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى يحرصون، أي: يحرصون أيهم أقرب إليه سُبْحَانَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ كَمَا يَرْجُوهَا غَيْرُهُمْ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كَمَا يَخَافُهُ غَيْرُهُمْ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً تعليل قوله: يَخافُونَ عَذابَهُ أَيْ: إِنَّ عَذَابَهُ سُبْحَانَهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَحْذَرَهُ الْعِبَادُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَآلَ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا فَقَالَ: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ إن نافية، ومن لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ: مَا مِنْ قَرْيَةٍ، أَيُّ قَرْيَةٍ كَانَتْ مِنْ قُرَى الْكُفَّارِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ إِلَّا سَيُهْلَكُونَ إِمَّا بِمَوْتٍ وَإِمَّا بِعَذَابٍ يَسْتَأْصِلُهُمْ، فَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ أَهْلُهَا، وَإِنَّمَا قِيلَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْقُرَى الْكَافِرَةِ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ قَرْيَةٍ لِانْقِضَاءِ عُمْرِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: الْإِهْلَاكُ لِلصَّالِحَةِ وَالتَّعْذِيبُ لِلطَّالِحَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ «1» . كانَ ذلِكَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَالتَّعْذِيبِ فِي الْكِتابِ أَيِ: اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَسْطُوراً أَيْ: مَكْتُوبًا، وَالسَّطْرُ الْخَطُّ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَالسَّطْرُ بِالتَّحْرِيكِ مِثْلُهُ. قَالَ جَرِيرٌ:
مَنْ شَاءَ بَايَعْتُهُ مَالِي وَخِلْعَتَهُ ... مَا تُكْمِلُ التَّيْمُ فِي دِيوَانِهَا سطرا
والخلعة بِضَمِّ الْخَاءِ خِيَارُ الْمَالِ، وَالسَّطْرُ: جَمْعُ أَسْطَارٍ، وَجَمْعُ السَّطْرِ بِالسُّكُونِ أَسْطُرٌ. وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ كَانَ مَا سَأَلَ قَوْمُكَ، وَلَكِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يُمْهَلُوا، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَأْنَيْتَ بِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى: وَمَا مَنَعَنَا مِنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوهَا إِلَّا تَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ، فَإِنْ أَرْسَلْنَاهَا وَكَذَّبَ بِهَا هَؤُلَاءِ عُوجِلُوا وَلَمْ يُمْهَلُوا كَمَا هُوَ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي عِبَادِهِ، فَالْمَنْعُ مُسْتَعَارٌ لِلتَّرْكِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَشْيَاءِ، أَيْ: مَا تَرَكْنَا إِرْسَالَهَا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا تَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ، فَإِنْ كَذَّبَ بِهَا هَؤُلَاءِ كَمَا كَذَّبَ بِهَا أُولَئِكَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ
__________
(1) . القصص: 59.(3/282)
بِهِمْ، وَ «أَنْ» الْأُولَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بإيقاع المنع عليها، وأن الثانية في محل رفع، والباء في الآيات زَائِدَةٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا هُوَ أَنَّ الِاقْتِرَاحَ مَعَ التَّكْذِيبِ مُوجِبٌ لِلْهَلَاكِ الْكُلِّيِّ وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ، وَقَدْ عَزَمْنَا عَلَى أَنْ نُؤَخِّرَ أَمْرَ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ:
إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ وَنَحْوَهِمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ، فَلَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنْ أُولَئِكَ، فَيَكُونُ إِرْسَالُ الْآيَاتِ ضَائِعًا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَشْهَدَ عَلَى مَا ذُكِرَ بِقِصَّةِ صَالِحٍ وَنَاقَتِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مَا اقْتَرَحُوا مِنَ النَّاقَةِ وَصِفَتِهَا الَّتِي قَدْ بُيِّنَتْ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا اقْتَرَحُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا اسْتُؤْصِلُوا بِالْعَذَابِ، وَإِنَّمَا خُصَّ قَوْمُ صَالِحٍ بِالِاسْتِشْهَادِ لِأَنَّ آثَارَ إِهْلَاكِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَرِيبَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَمْثَالِهِمْ يُبْصِرُهَا صَادِرُهُمْ وَوَارِدُهُمْ، فَقَالَ: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً أَيْ: ذَاتَ إِبْصَارٍ يُدْرِكُهَا النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ، كَقَوْلِهِ:
وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أَوْ أُسْنِدَ إِلَيْهَا حَالُ مَنْ يُشَاهِدُهَا مَجَازًا، أَوْ أَنَّهَا جَعَلَتْهُمْ ذَوِي إِبْصَارٍ، مِنْ أَبْصَرَهُ جَعَلَهُ بَصِيرًا. وَقُرِئَ عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالصَّادِ وَانْتِصَابُهَا عَلَى الْحَالِ. وَقُرِئَ بِرَفْعِهَا عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَيْ: فَكَذَّبُوهَا وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ. وَمَعْنَى فَظَلَمُوا بِها فَظَلَمُوا بِتَكْذِيبِهَا أَوْ عَلَى تَضْمِينِ ظَلَمُوا مَعْنَى جَحَدُوا أَوْ كَفَرُوا، أَيْ:
فَجَحَدُوا بِهَا أَوْ كَفَرُوا بِهَا ظَالِمِينَ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ أَوِ الْجَحْدِ وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِبَرُ وَالْمُعْجِزَاتُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ مِنْ دَلَائِلِ الْإِنْذَارِ تَخْوِيفًا لِلْمُكَذِّبِينَ الثَّانِي: أَنَّهَا آيَاتُ الِانْتِقَامِ تَخْوِيفًا مِنَ الْمَعَاصِي الثَّالِثُ: تَقَلُّبُ الْأَحْوَالِ مِنْ صِغَرٍ إِلَى شَبَابٍ ثُمَّ إِلَى تَكَهُّلٍ ثُمَّ إِلَى شَيْبٍ لِيَعْتَبِرَ الْإِنْسَانُ بِتَقَلُّبِ أَحْوَالِهِ فَيَخَافُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ الرَّابِعُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ الْخَامِسُ: الْمَوْتُ الذَّرِيعُ وَالْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ أَنْ تُفَسَّرَ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ، أَيْ: لَا نُرْسِلُ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةَ إِلَّا تَخْوِيفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، فَإِنْ لَمْ يَخَافُوا وَقَعَ عَلَيْهِمْ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ ظَلَمُوا بِهَا، أَيْ: فَظَلَمُوا بِهَا وَلَمْ يَخَافُوا، وَالْحَالُ أَنَّ مَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَتِهَا إِلَّا تَخْوِيفًا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ إِلَّا تَخْوِيفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ عَلَى رَسُولِهِ لِلصَّارِفِ الْمَذْكُورِ قَوَّى قَلْبَهُ بِوَعْدِ النَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لَكَ، أَيْ: أَنَّهُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِمَّا يُرِيدُهُ بِهِمْ لِإِحَاطَتِهِ لَهُمْ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ مَكَّةَ، وَإِحَاطَتُهُ بِهِمْ إِهْلَاكُهُ إِيَّاهُمْ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ سَيُهْلِكُهُمْ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ إِنْزَالَ الْآيَاتِ يَتَضَمَّنُ التَّخْوِيفَ ضَمَّ إِلَيْهِ ذِكْرَ آيَةِ الْإِسْرَاءِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَجْهًا آخَرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ ارْتِدَادَ قَوْمٍ كَانُوا أَسْلَمُوا حِينَ أَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ، وَقِيلَ: كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ فَافْتَتَنَ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا فتح الله مكة نزل قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ(3/283)
الرُّؤْيا بِالْحَقِ
«1» وَقَدْ تُعُقِّبَ هَذَا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالرُّؤْيَا الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ أَنَّهُ رَأَى بَنِي مَرْوَانَ يَنْزَوْنَ «2» عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنَّمَا هِيَ الدُّنْيَا أَعْطَوْهَا فَسُرِّيَ عَنْهُ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، فَإِنَّهُ لَا فِتْنَةَ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالنَّاسِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، وَيُرَادُ بِالْفِتْنَةِ مَا حَصَلَ مِنَ الْمَسَاءَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَخْبَرَ النَّاسَ بِهَا فَافْتَتَنُوا.
وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَاهُ فِي الْمَنَامِ مَصَارِعَ قُرَيْشٍ، حتى قال: «والله لكأني أنظر مَصَارِعِ الْقَوْمِ» وَهُوَ يُومِئُ إِلَى الْأَرْضِ وَيَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ» ، فَلَمَّا سمعت قُرَيْشُ ذَلِكَ جَعَلُوا رُؤْيَاهُ سُخْرِيَةً.
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ عَطْفٌ عَلَى الرُّؤْيَا، قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، وَالْمُرَادُ بِلَعْنِهَا لَعْنُ آكِلِهَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ- طَعامُ الْأَثِيمِ «3» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِكُلِّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ مَلْعُونٌ، وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ فِيهَا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَغَيْرَهُ قَالُوا: زَعَمَ صَاحِبُكُمْ أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ تَحْرِقُ الْحَجَرَ، ثُمَّ يَقُولُ يَنْبُتُ فِيهَا الشَّجَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ جَارِيَةً فَأَحْضَرَتْ تَمْرًا وَزُبْدًا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَزَقَّمُوا. وَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: كَثَّرَ اللَّهُ مِنَ الزَّقُّومِ فِي دَارِكُمْ فَإِنَّهُ التَّمْرُ بِالزُّبْدِ بِلُغَةِ الْيَمَنِ. وَقِيلَ:
إِنَّ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ هِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي تَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرِ فَتَقْتُلُهَا، وَهِيَ شَجَرَةُ الْكُشُوثُ، وَقِيلَ: هِيَ الشَّيْطَانُ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ، وَقِيلَ: بَنُو أُمَيَّةَ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أَيْ: نُخَوِّفُهُمْ بِالْآيَاتِ فَمَا يَزِيدُهُمُ التَّخْوِيفُ إِلَّا طُغْيَانًا مُتَجَاوِزًا لِلْحَدِّ، مُتَمَادِيًا غَايَةَ التَّمَادِي، فَمَا يُفِيدُهُمْ إِرْسَالُ الْآيَاتِ إِلَّا الزِّيَادَةَ فِي الْكُفْرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَفْعَلُ بِهِمْ مَا فَعَلْنَاهُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَلَكِنَّا قَدْ قَضَيْنَا بِتَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا قَالَ: كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ، وَتَمَسَّكَ الْإِنْسِيُّونَ بِعِبَادَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ كِلَاهُمَا، يَعْنِي الْفِعْلَيْنِ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَعُزَيْرٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ:
هُمْ عِيسَى، وَعُزَيْرٌ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، قَالُوا: وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ: الْقُرْبُ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ فِي قَوْلِهِ: كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً قَالَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مكة
__________
(1) . الفتح: 27.
(2) . «ينزون» : يتحرّكون.
(3) . الدخان: 43 و 44. [.....](3/284)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالَ فَيَزْرَعُوا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْتَأْنِيَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ نُؤْتِيَهُمُ الَّذِي سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، قَالَ: لَا، بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّاسُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَوْ جِئْتَنَا بِآيَةٍ كَمَا جَاءَ بِهَا صَالِحٌ وَالنَّبِيُّونَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللَّهَ فَأَنْزَلَهَا عَلَيْكُمْ، فَإِنْ عَصَيْتُمْ هَلَكْتُمْ، فَقَالُوا: لَا نُرِيدُهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً قَالَ: الْمَوْتُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُوَ الْمَوْتُ الذَّرِيعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ قَالَ: عَصَمَكَ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: فَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الْآيَةَ قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَيْسَتْ بِرُؤْيَا مَنَامٍ.
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. وَأَخْرَجَ أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ أَصْبَحَ يُحَدِّثُ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، فَطَلَبُوا مِنْهُ آيَةً فَوَصَفَ لَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَذَكَرَ لَهُمْ قِصَّةَ الْعِيرِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: هَذَا سَاحِرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي فُلَانٍ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَمَا اسْتَجْمَعَ ضَاحِكًا حَتَّى مَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ إِسْنَادَهُ: وَهَذَا السَّنَدُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ رِجَالِ السَّنَدِ مُحَمَّدَ بن الحسن بن زبالة وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ وَلَدَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الْمَنَابِرِ كَأَنَّهُمُ الْقِرَدَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ» : يَعْنِي الْحَكَمَ وَوَلَدَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مَنَابِرِ الْأَرْضِ، وَسَيَمْلِكُونَكُمْ، فَتَجِدُونَهُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ، وَاهْتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ:
سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَبِيكَ وَجَدِّكَ: «إِنَّكُمُ الشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ» وَفِي هَذَا نَكَارَةٌ لِقَوْلِهَا:
يَقُولُ لِأَبِيكَ وَجَدِّكَ، وَلَعَلَّ جَدَّ مَرْوَانَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ النُّبُوَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَنَّهُ دَخْلَ مَكَّةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فَسَارَ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ(3/285)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
الْأَجَلِ فَرَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ نَاسٌ: قَدْ رُدَّ، وَقَدْ كَانَ حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَيَدْخُلُهَا فَكَانَتْ رَجْعَتُهُ فِتْنَتَهُمْ، وَقَدْ تَعَارَضَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَالرَّاجِحُ كَثْرَةً وَصِحَّةً هُوَ كَوْنُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ كَثِيرٍ إِجْمَاعَ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى ذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا، وَفِي تَفْسِيرِ الشَّجَرَةِ وَأَنَّهَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِغَيْرِهِمْ مَعَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهِلٍ لَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ تَخْوِيفًا لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَلْ تَدْرُونَ مَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ الَّتِي يُخَوِّفُكُمْ بِهَا مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ:
عَجْوَةُ يَثْرِبَ بِالزُّبْدِ. وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَمْكَنَّا مِنْهَا لَنَزْقُمَنَّهَا تَزَقُّمًا، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ- طَعامُ الْأَثِيمِ «1» ، وَأَنْزَلَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ قال: ملعونة لأنه قال: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ والشياطين ملعونون.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمِحْنَةٍ شَدِيدَةٍ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا كَذَلِكَ، حَتَّى أَنَّ هَذِهِ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ سَنَّهَا إِبْلِيسُ اللَّعِينُ، وَأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، ذَكَرَ هَاهُنَا مَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
هَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ: فِي الْبَقَرَةِ، وَالْأَعْرَافِ، وَالْحِجْرِ، وَهَذِهِ السُّورَةِ، وَالْكَهْفِ، وَطَه، وَص، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا مَبْسُوطًا، فَلْنَقْتَصِرْ هَاهُنَا عَلَى تَفْسِيرِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَقَوْلُهُ: طِيناً مُنْتَصِبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْ طِينٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لِمَنْ خَلَقْتُهُ طِينًا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَرَأَيْتَكَ أَيْ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي فَضَّلْتَهُ عَلَيَّ لِمَ فَضَّلْتَهُ؟ وَقَدْ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «2» فَحُذِفَ هَذَا لِلْعِلْمِ بِهِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أَيْ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُهُ مِنِ احْتِنَاكِ الْجَرَادِ الزَّرْعَ، وَهُوَ أَنْ تَسْتَأْصِلَهُ بِأَحْنَاكِهَا وَتُفْسِدَهُ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ سُمِّيَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الشَّيْءِ وَأَخْذُهُ كُلَّهُ احْتِنَاكًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ:
لَأَسُوقَنَّهُمْ حَيْثُ شِئْتُ، وَأَقُودَنَّهُمْ حَيْثُ أَرَدْتُ، مِنْ قَوْلِهِمْ حَنَّكْتُ الْفَرَسَ أُحَنِّكُهُ حَنْكًا إِذَا جَعَلْتَ فِي فِيهِ الرَّسَنَ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنْسَبُ بمعنى هذه الآية، ومنه قول الشاعر:
__________
(1) . الدخان: 43 و 44.
(2) . الأعراف: 12.(3/286)
أَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أَجْحَفَتْ ... جَهْدًا إِلَى جهد بنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا واجتلفت
أَيِ: اسْتَأْصَلَتْ أَمْوَالَنَا. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ أَخَّرْتَنِ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّعِينُ هَذَا الْقَسَمَ عَلَى أَنَّهُ سَيَفْعَلُ بِذُرِّيَّةِ آدَمَ مَا ذَكَرَهُ لِعِلْمٍ قَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ مِنْ سَمْعٍ اسْتَرَقَهُ، أَوْ قَالَهُ لِمَا ظَنَّهُ مِنْ قُوَّةِ نُفُوذِ كَيْدِهِ فِي بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهُ يَجْرِي مِنْهُمْ فِي مَجَارِي الدَّمِ، وَأَنَّهُمْ بِحَيْثُ يَرُوجُ عِنْدَهُمْ كَيْدُهُ، وَتَنْفَقُ لَدَيْهِمْ وَسْوَسَتُهُ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا وَفِي مَعْنَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «1» فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَهُ هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى الظَّنِّ وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «2» ، وَقِيلَ: عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِ لِمَا رُكِّبَ فِيهِمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ، أَوْ ظَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَسَوَسَ لِآدَمَ فَقَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ عَزْمًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَيْ: أَطَاعَكَ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أَيْ: إِبْلِيسَ وَمَنْ أَطَاعَهُ جَزاءً مَوْفُوراً أَيْ: وَافِرًا مُكَمَّلًا، يُقَالُ: وَفَرْتُهُ أَفِرُهُ وَفْرًا، وَوَفَرَ الْمَالُ بِنَفْسِهِ يَفِرُ وُفُورًا، فَهُوَ وَافِرٌ، فَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ ومن لا يتّقي الشَّتْمَ يُشْتَمِ
ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ الْإِمْهَالَ لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ فَقَالَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أَيِ: اسْتَزْعِجْ وَاسْتَخِفَّ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْ بَنِي آدَمَ، يُقَالُ: أَفَزَّهُ وَاسْتَفَزَّهُ، أَيْ: أَزْعَجَهُ وَاسْتَخَفَّهُ، وَالْمَعْنَى: اسْتَخِفَّهُمْ بِصَوْتِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْغِنَاءُ وَاللَّهْوُ وَاللَّعِبُ وَالْمَزَامِيرُ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَجْلِبْ مِنَ الْجَلَبَةِ وَالصِّيَاحِ، أَيْ: صِحْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ اجْمَعْ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مَكَايِدِكَ، فَالْإِجْلَابُ: الْجَمْعُ، وَالْبَاءُ فِي بِخَيْلِكَ زَائِدَةٌ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
الْإِجْلَابُ الْإِعَانَةُ، وَالْخَيْلُ تَقَعُ عَلَى الْفُرْسَانِ كَقَوْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي» ، وَتَقَعُ عَلَى الأفراس، والرجل بسكون الجيم: جمع رجل، كَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ، وَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ وَقَرَأَ حَفْصٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ رَجِلَ وَرَجُلَ، بِمَعْنَى رَاجِلٍ، فَالْخَيْلُ وَالرَّجْلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَمِيعِ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ، أَوِ الْمُرَادُ كُلُّ رَاكِبٍ وَرَاجِلٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أَمَّا الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ، فَهِيَ:
كُلُّ تَصَرُّفٍ فِيهَا يُخَالِفُ وَجْهَ الشَّرْعِ، سَوَاءٌ كَانَ أَخْذًا مِنْ غَيْرِ حَقٍّ، أَوْ وَضْعًا فِي غَيْرِ حَقٍّ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا، وَمِنْ ذَلِكَ تَبْتِيكُ آذَانِ الْأَنْعَامِ وَجَعْلُهَا بَحِيرَةً وَسَائِبَةً، وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْأَوْلَادِ دَعْوَى الْوَلَدِ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، وَتَحْصِيلُهُ بِالزِّنَا وَتَسْمِيَتُهُمْ بِعَبْدِ اللَّاتَ وَعَبْدِ الْعُزَّى، وَالْإِسَاءَةُ فِي تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَأْلَفُونَ فِيهِ خِصَالَ الشَّرِّ وَأَفْعَالَ السُّوءِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا قَتَلُوا مِنْ أَوْلَادِهِمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ، وَوَأْدُ الْبَنَاتِ وَتَصْيِيرُ أَوْلَادِهِمْ عَلَى الْمِلَّةِ الْكُفْرِيَّةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مُشَارَكَةُ الشَّيْطَانِ لِلْمُجَامِعِ إِذَا لَمْ يُسَمِّ، ثُمَّ قَالَ: وَعِدْهُمْ قال الفراء:
__________
(1) . سبأ: 20.
(2) . البقرة: 30.(3/287)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
قل لهم لا جنة لا نَارٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُبَعَثُونَ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أَيْ:
بَاطِلًا، وَأَصْلُ الْغُرُورِ تَزْيِينُ الْخَطَأِ بِمَا يُوهِمُ الصَّوَابَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَعِدْهُمُ النُّصْرَةَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ لِلشَّيْطَانِ مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَقِيلَ: هِيَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَبِمَنْ تَبِعَهُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ يَعْنِي عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ أَنَّ إِضَافَةَ الْعِبَادِ إِلَيْهِ يُرَادُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ لِمَا فِي الْإِضَافَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَمِيعُ الْعِبَادِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الموضع: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «1» ، وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ: التَّسَلُّطُ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ، فَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُمْ كَيْدَ الشَّيْطَانِ، وَيَعْصِمُهُمْ مِنْ إِغْوَائِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ إِبْلِيسُ: إِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ ومن طِينٍ، خُلِقَ ضَعِيفًا وَإِنِّي خُلِقْتُ مِنْ نَارٍ، وَالنَّارُ تُحْرِقُ كُلَّ شَيْءٍ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا فَصَدَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ قَالَ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ قَالَ: لَأَحْتَوِيَنَّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ:
لَأُضِلَّنَّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَوْفُوراً قَالَ: وَافِرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قَالَ: صَوْتُهُ كُلُّ دَاعٍ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ قَالَ: كُلُّ رَاكِبٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَجِلِكَ قَالَ: كُلُّ رَاجِلٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ قَالَ: كُلُّ مَالٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْأَوْلادِ قَالَ: كُلُّ مَا قَتَلُوا مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَتَوْا فِيهِمُ الْحَرَامَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ خَيْلٍ تَسِيرُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكُلُّ مَالٍ أُخِذَ بِغَيْرِ حَقِّهِ، وَكُلُّ وَلَدِ زِنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْأَمْوالِ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَالْأَوْلادِ أَوْلَادُ الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْأَمْوالِ: الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالْأَوْلادِ سمّوا عبد الحارث وعبد شمس.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
__________
(1) . الحجر: 42.(3/288)
قَوْلُهُ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ الْإِزْجَاءُ: السَّوْقُ وَالْإِجْرَاءُ وَالتَّسْيِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً «1» ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ «2» :
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سائل بني أسد ما هذه الصّوت؟
وَقَوْلُ الْآخَرُ:
عُوَّذَا تُزَجِّي خَلْفَهَا أَطْفَالَهَا
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُسَيِّرُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ بِالرِّيحِ، وَالْفُلْكُ هَاهُنَا جَمْعٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَالْبَحْرُ: هُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ عَذْبًا كَانَ أَوْ مَالِحًا، وَقَدْ غَلَبَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: مِنْ رِزْقِهِ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ أَوْ مِنَ الرِّبْحِ بِالتِّجَارَةِ، ومن زَائِدَةٌ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ، أَيْ:
كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا فَهَدَاكُمْ إِلَى مَصَالِحِ دُنْيَاكُمْ وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ يَعْنِي خَوْفَ الْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ مِنَ الْآلِهَةِ وَذَهَبَ عَنْ خَوَاطِرِكُمْ، وَلَمْ يُوجَدْ لِإِغَاثَتِكُمْ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ صَنَمٍ، أَوْ جِنٍّ، أَوْ مَلَكٍ، أَوْ بَشَرٍ إِلَّا إِيَّاهُ وَحْدَهُ فَإِنَّكُمْ تَعْقِدُونَ رَجَاءَكُمْ بِرَحْمَتِهِ وَإِغَاثَتِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ فِي أَصْنَامِهِمْ وَسَائِرِ مَعْبُودَاتِهِمْ أَنَّهَا نَافِعَةٌ لَهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْلَمُ بِالْفِطْرَةِ عِلْمًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُدَافَعَتِهِ أَنَّ الْأَصْنَامَ وَنَحْوَهَا لَا فِعْلَ لَهَا. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَرَجَعْتُمْ إِلَى دُعَاءِ أَصْنَامِكُمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهَا وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أَيْ: كَثِيرَ الْكُفْرَانِ لِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ يَتَمَسَّكُونَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَفِي الرَّخَاءِ يُعْرِضُونَ عَنْهُ. ثُمَّ أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ سُوءَ مُعَامَلَتِهِمْ قَائِلًا: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَنَجَوْتُمْ فَأَمِنْتُمْ فَحَمَلَكُمْ ذَلِكَ عَلَى الْإِعْرَاضِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أنه قادر على هلاكهم فِي الْبَرِّ وَإِنْ سَلِمُوا مِنَ الْبَحْرِ. وَالْخَسْفُ: أَنْ تَنْهَارَ الْأَرْضُ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: بِئْرٌ خَسِيفٌ، إِذَا انْهَدَمَ أَصْلُهَا، وَعَيْنٌ خَاسِفٌ، أَيْ: غَائِرَةٌ حَدَقَتُهَا فِي الرَّأْسِ، وَخَسَفَتْ عَيْنُ الْمَاءِ: إِذَا غَارَ مَاؤُهَا، وَخَسَفَتِ الشَّمْسُ: إِذَا غَابَتْ عَنِ الأرض، وجانب الْبَرِّ: نَاحِيَةُ الْأَرْضِ، وَسَمَّاهُ جَانِبًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ الْخَسْفِ جَانِبًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبَحْرَ جَانِبٌ مِنَ الْأَرْضِ وَالْبَرَّ جَانِبٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَسَاحِلُهُ جَانِبُ الْبَرِّ، فَكَانُوا فِيهِ آمِنِينَ مِنْ مَخَاوِفِ الْبَحْرِ، فَحَذَّرَهُمْ مَا أَمِنُوهُ مِنَ الْبَرِّ كَمَا حَذَّرَهُمْ مَا خَافُوهُ مِنَ الْبَحْرِ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً قَالَ أبو عبيدة والقتبي: الْحَاصِبُ: التُّرَابُ الَّذِي فِيهِ حَصْبَاءُ، فَالْحَاصِبُ ذُو الْحَصْبَاءِ كَاللَّابِنِ وَالتَّامِرِ وَقِيلَ: الْحَاصِبُ حِجَارَةٌ مِنَ السماء تحصبهم كما فعل بقوم لوط
__________
(1) . النور: 43.
(2) . هو رويشد بن كثير الطائي.
«ما هذه الصوت» : ما هذه القصة التي تتأدّى إليّ عنكم.(3/289)
وَيُقَالُ لِلسَّحَابَةِ الَّتِي تَرْمِي بِالْبَرَدِ حَاصِبٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
مُسْتَقْبِلِينَ جِبَالَ «1» الشَّامِ تَضْرِبُنَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورُ
ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَيْ: حَافِظًا وَنَصِيرًا يَمْنَعُكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى أَيْ: فِي الْبَحْرِ مَرَّةً أُخْرَى بِأَنْ يُقَوِّيَ دَوَاعِيَكُمْ وَيُوَفِّرَ حَوَائِجَكُمْ إِلَى رُكُوبِهِ، وَجَاءَ بفي وَلَمْ يَقُلْ إِلَى الْبَحْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِهِمْ فِيهِ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ الْقَاصِفُ: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَكْسِرُ بِشِدَّةٍ، مِنْ قَصَفَ الشَّيْءَ يَقْصِفُهُ، أَيْ: كَسَرَهُ بِشِدَّةٍ، وَالْقَصْفُ: الْكَسْرُ، أَوْ هُوَ الرِّيحُ الَّتِي لَهَا قَصِيفٌ، أَيْ: صَوْتٌ شَدِيدٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَعْدٌ قَاصِفٌ، أَيْ: شَدِيدُ الصَّوْتِ فَيُغْرِقَكُمْ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَرُوَيْسٌ وَمُجَاهِدٌ فَتُغْرِقَكُمْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ الرِّيحُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ وَرْدَانَ فَيُغَرِّقَكُمْ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا: الرِّيَاحِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالنُّونِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي جَمِيعِهَا أَيْضًا، وَالْبَاءُ فِي بِمَا كَفَرْتُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ:
بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أَيْ: ثَائِرًا يُطَالِبُنَا بِمَا فَعَلْنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَجِدُوا مَنْ يَتْبَعُنَا بِإِنْكَارِ مَا نَزَلَ بِكُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ مِنَ الثَّأْرِ، وَكَذَا يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ طَلَبَ بِثَأْرٍ أَوْ غَيْرِهِ: تَبِيعٌ وَتَابِعٌ وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ هَذَا إِجْمَالٌ لِذِكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى بَنِي آدَمَ، أَيْ: كَرَّمْنَاهُمْ جَمِيعًا، وَهَذِهِ الْكَرَامَةُ يَدْخُلُ تَحْتَهَا خَلْقُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الْحَسَنَةِ وَتَخْصِيصُهُمْ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجَدُ لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ مِثْلُهُ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ هَذَا التَّكْرِيمَ هُوَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِأَيْدِيهِمْ، وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ تَأْكُلُ بِالْفَمِ، وَكَذَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: مَيَّزَهُمْ بِالنُّطْقِ وَالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ، وَقِيلَ: أَكْرَمَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَكْرَمَهُمْ بِتَسْلِيطِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ وَتَسْخِيرِ سَائِرِ الْخَلْقِ لَهُمْ، وَقِيلَ: بِالْكَلَامِ وَالْخَطِّ وَالْفَهْمِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ التَّكْرِيمِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَأَعْظَمُ خِصَالِ التَّكْرِيمِ الْعَقْلُ، فَإِنَّ بِهِ تَسَلَّطُوا عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَمَيَّزُوا بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَتَوَسَّعُوا فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَكَسَبُوا الْأَمْوَالَ الَّتِي تَسَبَّبُوا بِهَا إِلَى تَحْصِيلِ أُمُورٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ، وَبِهِ قَدَرُوا عَلَى تَحْصِيلِ الْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ مِمَّا يَخَافُونَ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الْأَكْسِيَةِ الَّتِي تَقِيهِمُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَقِيلَ: تَكْرِيمُهُمْ هُوَ أَنْ جَعَلَ محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ هَذَا تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ التَّكْرِيمِ، حَمَلَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي الْبَرِّ عَلَى الدَّوَابِّ، وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، وَقِيلَ: حَمَّلْنَاهُمْ فِيهِمَا حَيْثُ لَمْ نَخْسِفْ بِهِمْ وَلَمْ نُغْرِقْهُمْ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَيْ: لَذِيذِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَسَائِرِ مَا يَسْتَلِذُّونَهُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا أَجْمَلَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْكَثِيرَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنْوَاعَهُ، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ بَنِي آدَمَ فَضَّلَهُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْكَثِيرَ هُنَا بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، وَهُوَ تَعَسُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.
وَقَدْ شُغِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ تَكُنْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ تَفْضِيلِ الملائكة على
__________
(1) . في تفسير القرطبي (10/ 292) : شمال.(3/290)
الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ مُفْضِلُو الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ لِمَا عَرَفْتَ مِنْ إِجْمَالِ الْكَثِيرِ وَعَدَمِ تَبْيِينِهِ، وَالتَّعَصُّبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ بَعْضَ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى تَفْسِيرِ الْكَثِيرِ هُنَا بِالْجَمِيعِ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ التَّفْضِيلُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَتَمَسَّكَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا دَلَالَةَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنَ الْقَلِيلِ الْخَارِجِ عَنْ هَذَا الْكَثِيرِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْكَثِيرِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ بَنِي آدَمَ، بَلْ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ مُفَضَّلًا عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْإِنْسَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ، وَالتَّأْكِيدُ بِقَوْلِهِ: تَفْضِيلًا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ هَذَا التَّفْضِيلِ وَأَنَّهُ بِمَكَانٍ مَكِينٍ، فَعَلَى بَنِي آدَمَ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ بِالشُّكْرِ، وَيَحْذَرُوا مِنْ كُفْرَانِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُزْجِي قَالَ: يُجْرِي.
وَأَخْرَجُوا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يُسَيِّرُهَا فِي الْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حاصِباً قَالَ:
مَطَرُ الْحِجَارَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ قَالَ: الَّتِي تُغْرِقُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الْقَاصِفُ وَالْعَاصِفُ فِي الْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
قاصِفاً قَالَ: عَاصِفًا، وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً قَالَ: نَصِيرًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنِ ابْنِ آدَمَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ؟ قَالَ: وَلَا الْمَلَائِكَةُ، الْمَلَائِكَةُ مَجْبُورُونَ بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ» . وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ أَعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبِسُونَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَلَا نَأْكُلُ وَلَا نَشْرَبُ وَلَا نَلْهُو، فَكَمَا جَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ، قَالَ: لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ» . وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ. وَإِسْنَادُ الطَّبَرَانِيِّ هَكَذَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أبو غسان محمد بن مطرف، عن صفوان بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قَالَ: جَعَلْنَاهُمْ يَأْكُلُونَ بِأَيْدِيهِمْ وسائر الخلق(3/291)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
يَأْكُلُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم:
«الكرامة: الأكل بالأصابع» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 77]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
قَوْلُهُ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وهو منصوب على معنى اذكر يوم ندعوا. وقرئ يدعوا بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَيُدْعَى عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْبَاءُ فِي بِإِمَامِهِمْ لِلْإِلْصَاقِ، كَمَا تَقُولُ: أَدْعُوكَ بِاسْمِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ، وَالتَّقْدِيرُ:
نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ مُتَلَبِّسِينَ بِإِمَامِهِمْ، أَيْ يُدْعَوْنَ وَإِمَامُهُمْ فِيهِمْ، نَحْوَ رَكْبٍ بِجُنُودِهِ، وَالْأَوَّلُ أُولَى. وَالْإِمَامُ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ مَا يُؤْتَمُّ بِهِ مِنْ نَبِيٍّ، أَوْ مُقَدَّمٍ فِي الدِّينِ، أَوْ كِتَابٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ المفسرون في تعيين الإمام الذي يدعى كُلُّ أُنَاسٍ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ:
إِنَّهُ كِتَابُ كُلِّ إِنْسَانٍ الَّذِي فِيهِ عَمَلُهُ، أَيْ: يُدْعَى كُلُّ إِنْسَانٍ بِكِتَابِ عَمَلِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ الْآيَةَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْإِمَامُ: هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِمْ، فَيُدْعَى أَهْلُ التَّوْرَاةِ بِالتَّوْرَاةِ، وَأَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِالْإِنْجِيلِ، وَأَهْلُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ التَّوْرَاةِ، يَا أَهْلَ الْإِنْجِيلِ، يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: إِمَامُهُمْ نَبِيُّهُمْ، فَيُقَالُ: هَاتُوا مُتَّبِعِي إِبْرَاهِيمَ، هَاتُوا مُتَّبِعِي مُوسَى، هَاتُوا مُتَّبِعِي عِيسَى، هَاتُوا مُتَّبِعِي مُحَمَّدٍ، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمُرَادُ بِالْإِمَامِ إِمَامُ عَصْرِهِمْ، فَيُدْعَى أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ بِإِمَامِهِمْ الَّذِي كَانُوا يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِ وَيَنْتَهُونَ بِنَهْيِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: الْمُرَادُ بِإِمَامِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، فَيُقَالُ مَثَلًا: أَيْنَ الْمُجَاهِدُونَ؟ أَيْنَ الصَّابِرُونَ؟ أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ أَيْنَ الْمُصَلُّونَ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُرَادُ بِإِمَامِهِمْ صَاحِبُ مَذْهَبِهِمْ، فَيُقَالُ مَثَلًا: أَيْنَ التَّابِعُونَ لِلْعَالِمِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ؟ وَهَذَا مِنَ الْبُعْدِ بِمَكَانٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: بِإِمامِهِمْ بِأُمَّهَاتِهِمْ، عَلَى أَنَّ إِمَامَ جَمْعُ أُمٍّ كَخُفٍّ وَخِفَافٍ، وَهَذَا بِعِيدٌ جِدًّا. وَقِيلَ: الْإِمَامُ هُوَ كُلُّ خُلُقٍ يَظْهَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ حَسَنٍ كَالْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ، أَوْ قَبِيحٍ كَأَضْدَادِهَا، فَالدَّاعِي إِلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ خُلُقٌ بَاطِنٌ هُوَ كَالْإِمَامِ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْمَدْعُوِينَ، وَتَخْصِيصُ الْيَمِينِ بِالذِّكْرِ لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّبْشِيرِ فَأُولئِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ. قِيلَ: وَوَجْهُ الْجَمْعِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى شَأْنٍ جَلِيلٍ، أَوِ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ قِرَاءَتَهُمْ(3/292)
لِكُتُبِهِمْ تَكُونُ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ لَا عَلَى وجه الانفراد يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ الَّذِي أُوتُوهُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِهِمْ قَدْرَ فَتِيلٍ، وَهُوَ الْقِشْرَةُ الَّتِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَقَلِّ شَيْءٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابَ الشِّمَالِ تَصْرِيحًا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَالِهِمُ الْقَبِيحِ فَقَالَ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى أَيْ مَنْ كَانَ مِنَ الْمَدْعُوِينَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَعْمَى: أَيْ فَاقِدَ الْبَصِيرَةِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَمَى الْبَصَرِ كَقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً وَفِي هَذَا زِيَادَةُ الْعُقُوبَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ عَمَى الْقَلْبِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآخِرَةِ عَمَلُ الْآخِرَةِ، أَيْ: فَهُوَ فِي عَمَلِ، أَوْ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ أَعْمَى وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ عَمِي عَنِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ عَنْ نِعَمِ الْآخِرَةِ أَعْمَى وَقِيلَ: مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي تُقْبَلُ فِيهَا التَّوْبَةُ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي لَا تَوْبَةَ فِيهَا أَعْمَى وَقِيلَ: مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى عَنْ حُجَجِ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ: أَشَدُّ عَمًى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ إِذْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي عَمَى الْعَيْنِ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: لِأَنَّهُ خَلَقَهُ بِمَنْزِلَةِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَلَا يُقَالُ مَا أَعْمَاهُ كَمَا لَا يُقَالُ مَا أَيْدَاهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: لَا يقال فيه ذلك لأنه أكثر من [ثلاثة] «1» أَحْرُفٍ. وَقَدْ حَكَى الْفَرَّاءُ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَا أَسْوَدَ شَعَرَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَمَّا الْمُلُوكُ فَأَنْتَ الْيَوْمَ أَلْأَمُهُمْ ... لُؤْمًا وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ
وَالْبَحْثُ مُسْتَوْفًي فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ أَعْمى بِالْإِمَالَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَهُمَا أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ إِمَالَةٍ، وَأَمَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي. وَأَضَلُّ سَبِيلًا يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَعْمَى لِكَوْنِهِ لَا يَجِدُ طَرِيقًا إِلَى الْهِدَايَةِ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى فَقَدْ يَهْتَدِي فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
ثُمَّ لَمَّا عَدَّدَ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَقْسَامَ النِّعَمِ عَلَى بَنِي آدَمَ أَرْدَفَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّحْذِيرِ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِوَسَاوِسِ الْأَشْقِيَاءِ، فَقَالَ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ الشَّأْنَ قَارَبُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَاتِنِينَ، وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ: الِاخْتِبَارُ، وَمِنْهُ فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَنْ أَزَالَ الشَّيْءَ عَنْ حَدِّهِ وَجِهَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِعْطَائِهِمْ مَا سَأَلُوهُ مُخَالَفَةً لِحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَافْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ تَبْدِيلِ الْوَعْدِ بِالْوَعِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لِتَتَقَوَّلَ عَلَيْنَا غَيْرَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِمَّا اقْتَرَحَهُ عَلَيْكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أَيْ: لَوِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا لَهُمْ، أَيْ: وَالَوْكَ وَصَافَوْكَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَلَّةِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ عَلَى الْحَقِّ وَعَصَمْنَاكَ عَنْ مُوَافَقَتِهِمْ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ لَقَارَبْتَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِمْ أَدْنَى مَيْلٍ، وَالرُّكُونُ: هُوَ الْمَيْلُ
__________
(1) . من تفسير القرطبي (10/ 299) .(3/293)
الْيَسِيرُ، وَلِهَذَا قَالَ: شَيْئاً قَلِيلًا لَكِنْ أَدْرَكَتْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْعِصْمَةُ فَمَنَعَتْهُ مِنْ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، فَضْلًا عَنْ نَفْسِ الرُّكُونِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَا هَمَّ بِإِجَابَتِهِمْ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ:
الْمَعْنَى: وَإِنْ كَادُوا لَيُخْبِرُونِ عَنْكَ بِأَنَّكَ مِلْتَ إِلَى قَوْلِهِمْ، فَنُسِبَ فِعْلُهُمْ إِلَيْهِ مَجَازًا وَاتِّسَاعًا، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ:
كِدْتَ تَقْتُلُ نَفْسَكَ، أَيْ: كَادَ النَّاسُ يَقْتُلُونَكَ بِسَبَبِ مَا فَعَلْتَ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الَمَهَدَوِيُّ. ثُمَّ تَوَعَّدَهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ الْوَعِيدِ، فَقَالَ: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أَيْ: لَوْ قَارَبْتَ أَنْ تَرْكَنَ إِلَيْهِمْ، أَيْ: مِثْلَيْ مَا يُعَذَّبُ بِهِ غَيْرُكَ مِمَّنْ يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ فِي الدَّارَيْنِ، وَالْمَعْنَى: عَذَابًا ضِعْفًا فِي الْحَيَاةِ وَعَذَابًا ضِعْفًا فِي الْمَمَاتِ، أَيْ: مُضَاعَفًا، ثُمَّ حُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ وَأُضِيفَتْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خطأ العظيم عظيم كما قال سبحانه: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «1» وَضِعْفُ الشَّيْءِ: مِثْلَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ الضِّعْفُ النَّصِيبَ كقوله: لِكُلٍّ ضِعْفٌ «2» أَيْ: نَصِيبٌ. قَالَ الرَّازِيُّ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّكَ لَوْ مَكَّنْتَ خَوَاطِرَ الشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِكَ، وَعَقَدْتَ عَلَى الرُّكُونِ هَمَّكَ، لَاسْتَحْقَقْتَ تَضْعِيفَ الْعَذَابِ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَصَارَ عَذَابُكَ مِثْلَيْ عَذَابِ الْمُشْرِكِ فِي الدُّنْيَا وَمِثْلَيْ عَذَابِهِ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يَنْصُرُكَ فَيَدْفَعُ عَنْكَ هَذَا الْعَذَابَ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْبَ مِنَ الْفِتْنَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهَا، وَالتَّهْدِيدَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْآيَةِ طَعْنٌ فِي الْعِصْمَةِ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ الْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ أَنَّهُمْ قَارَبُوا أَنْ يُزْعِجُوكَ مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ لِتَخْرُجَ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، بَلْ مَنَعَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ حتى هاجر بأمر ربه بعد أَنْ هَمُّوا بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أُطْلِقَ الْإِخْرَاجُ عَلَى إِرَادَةِ الْإِخْرَاجِ تَجْوِيزًا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا مَعْطُوفٌ عَلَى لَيَسْتَفِزُّونَكَ، أَيْ: لَا يَبْقُونَ بَعْدَ إِخْرَاجِكَ إِلَّا زَمَنًا قَلِيلًا، ثُمَّ عُوقِبُوا عُقُوبَةً تَسْتَأْصِلُهُمْ جَمِيعًا.
وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ لَا يُلَبَّثُوا بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَقُرِئَ لَا يَلْبَثُوا بِالنَّصْبِ عَلَى إِعْمَالِ إذن على أن الجملة معطوف عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنْ كادُوا لَا عَلَى الْخَبَرِ فَقَطْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَأَبُو عَمْرٍو خَلْفَكَ وَمَعْنَاهُ بَعْدَكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خِلافَكَ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا بَعْدَكَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: خِلَافَكَ بِمَعْنَى مُخَالَفَتِكَ، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ لِقَوْلِهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ «3» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ بِمَعْنَى بَعْدَ قَوْلُ الشَّاعِرِ «4» :
عَفَتِ الدِّيَارُ خِلَافَهَا «5» فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا
يُقَالُ: شَطَبَتِ الْمَرْأَةُ الْجَرِيدَ إذا شقّته لتعمل منه الحصر. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ثُمَّ تُلْقِيهِ الشَّاطِبَةُ إِلَى المنقّية سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا سُنَّةَ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: سَنَّ اللَّهُ سُنَّةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ يُعَذَّبُونَ كَسُنَّةِ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا، فَلَمَّا سَقَطَ الْخَافِضُ عَمَلَ الْفِعْلُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: سُنَّتُنَا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَقُولُ إِنَّ سُنَّتَنَا هَذِهِ السُّنَّةَ فِيمَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا أَخْرَجُوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه
__________
(1) . الأحزاب: 30.
(2) . الأعراف: 38.
(3) . التوبة: 81.
(4) . هو الحارث بن خالد المخزومي.
(5) . كذا في مجاز القرآن لأبي عبيدة (1/ 387) ، وابن جرير (15/ 133) وفي تفسير القرطبي: خلافهم. [.....](3/294)
أَنْ يَنْزِلَ الْعَذَابُ بِهِمْ وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أَيْ: مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ لَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ تَحْوِيلِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قَالَ: إِمَامُ هُدًى وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَبِيُّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بِكِتَابِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلَيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُدْعَى كُلُّ قَوْمٍ بِإِمَامِ زَمَانِهِمْ، وَكِتَابِ رَبِّهِمْ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قَالَ: «يُدْعَى أَحَدُهُمْ فَيُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَيَبْيَضُّ وَجْهُهُ، وَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ يَتَلَأْلَأُ، فَيَنْطَلِقُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعِيدٍ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ائْتِنَا بِهَذَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي هَذَا، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ فَيَقُولُ:
أَبْشِرُوا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلُ هَذَا وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ سِتِّينَ ذِرَاعًا عَلَى صورة آدم، ويلبس تاجا من نار فَيَرَاهُ أَصْحَابُهُ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، اللَّهُمَّ لَا تَأْتِنَا بِهَذَا، قَالَ: فَيَأْتِيهِمْ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اخْزِهِ، فَيَقُولُ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلَ هَذَا» . قَالَ الْبَزَّارُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ:
لَا يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى يَقُولُ: مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى عَمَّا يَرَى مِنْ قُدْرَتِي مِنْ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَأَشْبَاهِ هَذَا فَهُوَ عَمَّا وَصَفْتُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَرَهُ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا يَقُولُ: أَبْعَدُ حُجَّةً. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ نَحْوَ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا يَقُولُ: مَنْ عَمِيَ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «إِنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَرِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: تَعَالَ فَتَمْسَحْ «1» آلِهَتَنَا وَنَدْخُلْ مَعَكَ فِي دِينِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَيُحِبُّ إِسْلَامَهُمْ، فَرَقَّ لَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إِلَى قَوْلِهِ: نَصِيراً» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ باذان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُكَ تَسْتَلِمُهُ حتى تستلم آلهتنا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا عَلَيَّ لَوْ فَعَلْتُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مِنِّي خِلَافَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ «أَنَّ قُرَيْشًا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ: إِنْ كُنْتَ أُرْسِلْتَ إِلَيْنَا فَاطْرُدِ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ مِنْ سِقَاطِ النَّاسِ وَمَوَالِيهِمْ لِنَكُونَ نَحْنُ أَصْحَابَكَ، فَرَكَنَ إِلَيْهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قال: أنزل الله وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «2» فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآية
__________
(1) . في الدر المنثور (5/ 318) : فاستلم.
(2) . النجم: 1.(3/295)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى «1» فَأَلْقَى عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى، فَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنَ السُّورَةِ وَسَجَدَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الْآيَةَ، فَمَا زَالَ مَهْمُومًا مَغْمُومًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى «2» الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ ثَقِيفًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَجِّلْنَا سَنَةً حَتَّى يُهْدَى لِآلِهَتِنَا، فَإِذَا قَبَضْنَا الَّذِي يُهْدَى لِلْآلِهَةِ أَحْرَزْنَاهُ ثُمَّ أَسْلَمْنَا وَكَسَّرْنَا الْآلِهَةَ، فَهَمَّ أَنْ يُؤَجِّلَهُمْ، فَنَزَلَتْ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ يَعْنِي ضِعْفَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قال المشركون للنبي صلّى الله عليه وسلّم: كانت الأنبياء تسكن الشام، فمالك وَالْمَدِينَةِ؟
فَهَمَّ أَنْ يُشَخِصَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حَضْرَمِيٍّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ الرحمن ابن غَنْمٍ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَالْحَقْ بِالشَّامِ، فَإِنَّ الشَّامَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ، فَصَدَّقَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا قَالُوا، فَتَحَرَّى غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ، فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَا خُتِمَتِ السُّورَةُ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ إِلَى قَوْلِهِ: تَحْوِيلًا فَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: فِيهَا مَحْيَاكَ وَفِيهَا مَمَاتُكَ وَمِنْهَا تُبْعَثُ، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: سَلْ رَبَّكَ فَإِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مَسْأَلَةً، فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَ؟ قال: قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً فَهَؤُلَاءِ نَزَلْنَ عَلَيْهِ فِي رَجَعَتِهِ مِنْ تَبُوكَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَمْ يَغْزُ تَبُوكَ عَنْ قَوْلِ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا غَزَاهَا امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ «3» وَغَزَاهَا لِيَقْتَصَّ وَيَنْتَقِمَ مِمَّنْ قَتَلَ أَهْلَ مُؤْتَةَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ: هَمَّ أَهْلُ مَكَّةَ بِإِخْرَاجِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ وَقَدْ فَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يَلْبَثُوا بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الرُّسُلِ إِذَا فَعَلَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ: يَعْنِي بِالْقَلِيلِ يَوْمَ أَخْذِهِمْ بِبَدْرٍ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْقَلِيلَ الَّذِينَ لَبِثُوا بَعْدَهُ.
__________
(1) . النجم: 19.
(2) . الحج: 52.
(3) . التوبة: 123.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 85]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)(3/296)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْمَعَادَ وَالْجَزَاءَ أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ أَشْرَفِ الطَّاعَاتِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ، فَقَالَ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْمُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَةُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الدُّلُوكِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زَوَالُ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، قَالَهُ عُمَرُ وَابْنُهُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو بَرْزَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: دُلُوكُ الشَّمْسِ مِنْ لَدُنْ زَوَالِهَا إِلَى غروبها. قال الأزهري:
معنى الدُّلُوكِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الزَّوَالُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلشَّمْسِ إِذَا زَالَتْ نِصْفَ النَّهَارِ: دَالِكَةٌ، وَقِيلَ لَهَا إِذَا أَفَلَتْ:
دَالِكَةٌ لِأَنَّهَا فِي الْحَالَتَيْنِ زَائِلَةٌ. قَالَ: وَالْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّهُ زَوَالُهَا نِصْفَ النَّهَارِ لِتَكُونَ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالْمَعْنَى: أَقِمِ الصَّلَاةَ مِنْ وَقْتِ دُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ فَيَدْخُلُ فِيهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَصَلَاتَا غَسَقِ اللَّيْلِ، وَهُمَا الْعِشَاءَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ هَذِهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ. وَقَالَ أَبُو عُبِيدٍ: دُلُوكُهَا غُرُوبُهَا، وَدَلَكَتْ بِرَاحٍ: يَعْنِي الشَّمْسَ، أَيْ: غَابَتْ، وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ عَلَى هَذَا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
هذا مقام قدمي رباح ... ذبّب حَتَّى دَلَكَتْ بَرَاحْ
اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّمْسِ «1» عَلَى وَزْنِ حَذَامٍ وَقَطَامٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
مَصَابِيحٌ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي تَقُودُهَا ... نُجُومٌ ولا بالآفات الدَّوَالِكِ
أَيِ: الْغَوَارِبِ، وَغَسَقُ اللَّيْلِ: اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يُقَالُ: غَسَقَ اللَّيْلُ وَأَغْسَقَ إِذَا أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغَسَقُ سواد الليل. قال ابن قيس الرُّقَيَّاتِ:
إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ... وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا
وَقِيلَ: غَسَقُ اللَّيْلِ: مَغِيبُ الشَّفَقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
ظَلَّتْ تَجُودُ يَدَاهَا وَهِيَ لَاهِيَةٌ ... حَتَّى إِذَا جَعْجَعَ «2» الْإِظْلَامُ وَالْغَسَقُ
وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ السَّيَلَانِ، يُقَالُ: غَسَقَتْ إِذَا سَالَتْ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ غَسَقَ اللَّيْلُ وَأَغْسَقَ، وَظَلِمَ وَأَظْلَمَ، ودجا وَأَدْجَى، وَغَبِشَ وَأَغْبَشَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْغَايَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ يَتَمَادَى وَقْتُهَا مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حنيفة، وجوّزه مالك
__________
(1) . في حاشية القرطبي (10/ 303) : والصواب: من أسماء النساء.
(2) . في تفسير القرطبي (10/ 304) : جنح.(3/297)
وَالشَّافِعِيُّ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، فَيَجِبُ حَمْلُ مُجْمَلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ انْتِصَابُ قُرْآنَ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى الصَّلَاةِ أَيْ: وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْبَصْرِيُّونَ:
انْتِصَابُهُ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيْ: فَعَلَيْكَ قُرْآنَ الْفَجْرِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِقُرْآنِ الْفَجْرِ صَلَاةُ الصُّبْحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِي هَذِهِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ حَتَّى سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ قُرْآنًا، وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: الْخَارِجَةِ مِنْ مَخْرَجٍ حَسَنٍ وَقُرْآنٍ مَعَهَا، وَوَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقَدْ حَرَّرْتُهُ فِي مُؤَلَّفَاتِي تَحْرِيرًا مُجَوَّدًا. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أَيْ: تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: قُمْ بَعْضَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيْكَ بَعْضَ اللَّيْلِ فَبِعِيدٌ جِدًّا، وَالتَّهَجُّدُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْهُجُودِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ لِأَنَّهُ يُقَالُ هَجَدَ الرَّجُلُ: إِذَا نَامَ، وَهَجَدَ إِذَا سَهِرَ، فَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي السَّهَرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا زَارَتْ وَأَهْلُ مِنًى هُجُودُ ... فَلَيْتَ خَيَالَهَا بِمِنًى يَعُودُ
يَعْنِي مُنْتَبِهِينَ، ومن استعماله في النوم قول الآخر:
أَلَا طَرَقَتْنَا وَالرِّفَاقُ هُجُودُ ... فَبَاتَتْ بِعِلَّاتِ «1» النَّوَالِ تَجُودُ
يَعْنِي نِيَامًا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْهُجُودُ فِي الْأَصْلِ هُوَ النَّوْمُ بِاللَّيْلِ، وَلَكِنْ جَاءَ التَّفَعُّلُ فيه لأجل التجنب، ومنه تأثم تتحرّج أَيْ: تَجَنَّبَ الْإِثْمَ وَالْحَرَجَ، فَالْمُتَهَجِّدُ مَنْ تَجَنَّبَ الْهُجُودَ، فَقَامَ بِاللَّيْلِ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَهَجِّدُ الْقَائِمُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ، هَكَذَا حَكَى عَنْهُ الْوَاحِدِيُّ، فَقَيَّدَ التَّهَجُّدَ بِالْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ فَقَالُوا: التَّهَجُّدُ بَعْدَ النَّوْمِ. قَالَ اللَّيْثُ: تَهَجَّدَ إِذَا اسْتَيْقَظَ لِلصَّلَاةِ نافِلَةً لَكَ مَعْنَى النَّافِلَةِ فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَصْلِ، فَالْمَعْنَى أنها للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَافِلَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّهَجُّدِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبَ لَكِنَّ التَّصْرِيحَ بِكَوْنِهِ نَافِلَةً قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ لِلْأَمْرِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّافِلَةِ هُنَا أَنَّهَا فَرِيضَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ في حقه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَيَدْفَعُ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ النَّافِلَةِ وَقِيلَ: كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً فِي حَقِّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا عَلَيْهِ فَرِيضَةٌ، وَلِأُمَّتِهِ تَطَوُّعٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ زِيَادَةً لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، لَا لِلْكَفَّارَاتِ، لِأَنَّهُ غُفِرَ لَهُ مِنْ ذَنْبِهِ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَلَيْسَ لَنَا بِنَافِلَةٍ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِنَا إِنَّمَا نَعْمَلُ لِكَفَّارَتِهَا، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كان خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ
__________
(1) . أي ما يتعلّل به.(3/298)
فَالْأَمْرُ لَهُ أَمْرٌ لِأُمَّتِهِ، فَهُوَ شَرْعٌ عَامٌّ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، وَالتَّصْرِيحُ بِكَوْنِهِ نَافِلَةً يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، فَالتَّهَجُّدُ مِنَ اللَّيْلِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمَشْرُوعٌ لِكُلَّ مُكَلَّفٍ. ثُمَّ وَعَدَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى إِقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فَقَالَ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ عَسَى مِنَ الْكَرِيمِ إِطْمَاعٌ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَانْتِصَابُ مَقَامًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَوْ بِتَضْمِينِ الْبَعْثِ مَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ أَيْ: يَبْعَثَكَ ذَا مَقَامٍ مَحْمُودٍ وَمَعْنَى كَوْنِ الْمَقَامِ مَحْمُودًا أَنَّهُ يَحْمَدُهُ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ الْمَقَامُ الَّذِي يَقُومُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِلشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ لِيُرِيحَهُمْ رَبُّهُمْ سُبْحَانَهُ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ إِعْطَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِوَاءَ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهِ قَائِمًا مَقَامَ الشَّفَاعَةِ وَبِيَدِهِ لِوَاءُ الْحَمْدِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُجْلِسُ محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَعَهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَهُوَ عِنْدَنَا مُتَّهَمٌ، مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَتَحَدِّثُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مُجَاهِدٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ مَهْجُورَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي فِي تَأْوِيلِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ- إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» قَالَ: مَعْنَاهُ تَنْتَظِرُ الثَّوَابَ، وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ، انْتَهَى. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِإِمْكَانِ أَنْ يُقْعِدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَقْعَدَ وَيَشْفَعَ تِلْكَ الشَّفَاعَةَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَقَامٍ يَجْلِبُ الْحَمْدَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْوَارِدَةَ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ مُتَوَاتِرَةٌ، فَالْمَصِيرُ إِلَيْهَا مُتَعَيِّنٌ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ عُمُومٌ فِي اللَّفْظِ حَتَّى يُقَالَ: الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا يَجْلِبُ الْحَمْدَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُعَبَّرُ عَنِ الْعَامِّ بِلَفْظِ الْمُطْلَقِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ هُنَا. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ الشَّفَاعَةُ، وَهِيَ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ يَعْنِي لَفْظَ الْمَقَامِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُمُومِ الْبَدَلِيِّ وَالْعُمُومِ الشُّمُولِيِّ مَعْرُوفٌ، فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وقرأ الْجُمْهُورُ مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ بِضَمِّ الْمِيمَيْنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِفَتْحِهِمَا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الصِّدْقِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ نَحْوَ حَاتِمُ الْجُودِ أَيْ: إِدْخَالًا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يُسَمَّى إِدْخَالًا، وَلَا يَرَى فِيهِ مَا يَكْرَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِضَافَتُهُمَا إِلَى الصِّدْقِ مَدْحٌ لَهُمَا، وَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْتَهُ إِلَى الصِّدْقِ فَهُوَ مَدْحٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، يُرِيدُ إِدْخَالَ الْمَدِينَةِ وَالْإِخْرَاجَ مِنْ مَكَّةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَمِتْنِي إِمَاتَةَ صِدْقٍ وَابْعَثْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَبْعَثَ صِدْقٍ وَقِيلَ المعنى:
__________
(1) . القيامة: 22- 23.(3/299)
أَدْخِلْنِي فِيمَا أَمَرْتَنِي بِهِ، وَأَخْرِجْنِي مِمَّا نَهَيْتَنِي عَنْهُ وَقِيلَ: إِدْخَالُهُ مَوْضِعَ الْأَمْنِ وَإِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِدْخَالُ عِزٍّ وَإِخْرَاجُ نَصْرٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَدْخِلْنِي في الأمر الذي أكرمتني به من النبوّة مدخل صدق، وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق وقيل: أَدْخِلْنِي الْقَبْرَ عِنْدَ الْمَوْتِ مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مِنْهُ عِنْدَ الْبَعْثِ مُخْرَجَ صِدْقٍ وَقِيلَ: أَدْخِلْنِي حَيْثُمَا أَدْخَلْتَنِي بِالصِّدْقِ وَأَخْرِجْنِي بِالصِّدْقِ وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا تَتَنَاوَلُهُ مِنَ الْأُمُورِ فَهِيَ دُعَاءٌ، وَمَعْنَاهَا: رَبِّ أَصْلِحْ لِي وِرْدِي فِي كُلِّ الْأُمُورِ وَصَدْرِيِ عَنْهَا وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أَيْ: حُجَّةً ظَاهِرَةً قَاهِرَةً تَنْصُرُنِي بِهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَالَفَنِي، وَقِيلَ: اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ مُلْكًا وَعِزًّا قويّا، وكأنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ الْأَرْجَحُ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْحَقِّ مِنْ قَهْرٍ لِمَنْ عَادَاهُ وَنَاوَأَهُ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ «1» .
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ» أَيْ: لَيَمْنَعُ بِالسُّلْطَانِ عَنِ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ مَا لَا يَمْنَعُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الْأَكِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، انْتَهَى.
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: الْجِهَادُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ وَعَلَى مَا هُوَ حَقٌّ كَائِنًا مَا كَانَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ الشِّرْكُ وَقِيلَ: الشَّيْطَانُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كُلِّ مَا يُقَابِلُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ بَاطِلٍ وَبَاطِلٍ. وَمَعْنَى زَهَقَ: بَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، وَمِنْهُ زُهُوقُ النَّفْسِ وَهُوَ بُطْلَانُهَا إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أَيْ: إِنَّ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ يَبْطُلُ وَلَا يَثْبُتُ، وَالْحَقُّ ثَابِتٌ دَائِمًا وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ نُنَزِّلُ بِالنُّونِ «2» . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ والتخفيف، ورواها المروزي عن حفص، ومن لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِاسْتِلْزَامِهِ أَنَّ بَعْضَهُ لَا شِفَاءَ فِيهِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّ الْمُبَعَّضَ هُوَ إِنْزَالُهُ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ في معنى كونه شفاء على القولين الْأَوَّلُ: أَنَّهُ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ بِزَوَالِ الْجَهْلِ عَنْهَا وَذَهَابِ الرَّيْبِ وَكَشْفِ الْغِطَاءِ عَنِ الْأُمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ الظَّاهِرَةِ بِالرُّقَى وَالتَّعَوُّذِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الشِّفَاءِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمَجَازِ، أَوْ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلِمَا فِي تِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَغْفِرَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى «3» .
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ مَا فِيهِ لِمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمَضَرَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أَيْ: وَلَا يَزِيدُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ أَوْ كُلُّ بَعْضٍ مِنْهُ الظَّالِمِينَ الذي وضعوا التكذيب موضع
__________
(1) . الحديد: 25.
(2) . (قوله بالنون) ، صوابه: بالنون والتشديد للزاي.
(3) . فصلت: 44.(3/300)
التَّصْدِيقِ، وَالشَّكَّ وَالِارْتِيَابَ مَوْضِعَ الْيَقِينِ وَالِاطْمِئْنَانِ إِلَّا خَساراً أَيْ: هَلَاكًا لِأَنَّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ يَغِيظُهُمْ وَيَحْنِقُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى زِيَادَةِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ تَمَرُّدًا وَعِنَادًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُهْلَكُونَ وَقِيلَ: الْخَسَارُ:
النَّقْصُ، كقوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» ثُمَّ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى فَتْحِ بَعْضِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الطَّبَائِعِ الْمَذْمُومَةِ فَقَالَ: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَيْ: عَلَى هَذَا الْجِنْسِ بِالنِّعَمِ الَّتِي تُوجِبُ الشُّكْرَ كَالصِّحَّةِ وَالْغِنَى أَعْرَضَ عَنِ الشُّكْرِ لِلَّهِ وَالذِّكْرِ لَهُ وَنَأى بِجانِبِهِ النَّأْيُ: الْبُعْدُ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْإِعْرَاضِ، لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَرْضَ وَجْهِهِ، أَيْ: نَاحِيَتِهِ، وَالنَّأْيُ بِالْجَانِبِ أَنْ يَلْوِيَ عَنْهُ عِطْفَهُ وَيُوَلِّيَهُ ظَهْرَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِعْرَاضِ هُنَا الْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلْوَى وَالْمِحْنَةِ بِهِ، وَيُرَادُ بِالنَّأْيِ بِجَانِبِهِ التَّكَبُّرُ وَالْبُعْدُ بِنَفْسِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ النِّعَمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذكوان وأبو جعفر «ناء» مثل باغ بتأخير الهمزة على القلب، وقرأ حمزة «نئي» بِإِمَالَةِ الْفَتْحَتَيْنِ، وَوَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ، وَأَمَالَ شُعْبَةُ وَالسُّوسِيُّ الْهَمْزَةَ فَقَطْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ كانَ يَؤُساً شَدِيدَ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ فَازَ بِالْمَطْلُوبِ الدُّنْيَوِيِّ، وَظَفِرَ بِالْمَقْصُودِ نَسِيَ الْمَعْبُودَ، وَإِنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْأَسَفُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْقُنُوطُ، وَكِلْتَا الْخَصْلَتَيْنِ قَبِيحَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَلَا يُنَافِي مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ «2» وَنَظَائِرَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ شَأْنُ بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُمْ غَيْرِ الْبَعْضِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ شِدَّةِ يَأْسِهِ وَكَثْرَةِ قُنُوطِهِ كَثِيرَ الدُّعَاءِ بِلِسَانِهِ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ الشَّاكِلَةُ قَالَ الْفَرَّاءُ: الطَّرِيقَةُ، وَقِيلَ: النَّاحِيَةُ، وَقِيلَ: الطَّبِيعَةُ، وَقِيلَ: الدِّينُ، وَقِيلَ: النِّيَّةُ، وَقِيلَ: الْجِبِلَّةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّكْلِ، يُقَالُ: لَسْتَ عَلَى شَكْلِي وَلَا عَلَى شَاكِلَتِي، وَالشَّكْلُ: هُوَ الْمِثْلُ وَالنَّظِيرُ. وَالْمَعْنَى:
أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَعْمَلُ عَلَى مَا يُشَاكِلُ أَخْلَاقَهُ الَّتِي أَلِفَهَا، وَهَذَا ذَمٌّ لِلْكَافِرِ وَمَدْحٌ لِلْمُؤْمِنِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لَكُمُ الْعَالِمُ بِمَا جُبِلْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الطَّبَائِعِ وَمَا تَبَايَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الطَّرَائِقِ، فَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي لَا يُعْرِضُ عِنْدَ النِّعْمَةِ وَلَا يَيْأَسُ عِنْدَ الْمِحْنَةِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِ الَّذِي شَأْنُهُ الْبَطَرُ لِلنِّعَمِ وَالْقُنُوطُ عِنْدَ النِّقَمِ. ثُمَّ لَمَّا انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ الْإِنْسَانِ وَمَا جُبِلَ عَلَيْهِ، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ سُؤَالَ السَّائِلِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الروح فقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرُّوحِ المسؤول عَنْهُ، فَقِيلَ: هُوَ الرُّوحُ الْمُدَبِّرُ لِلْبَدَنِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ حَيَاتُهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الرُّوحُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ الْإِنْسَانُ لَمْ يُخْبِرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يُعْطِ عِلْمَهُ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ، فَقَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أَيْ: إنكم لا تعملونه، وقيل: الروح المسؤول عَنْهُ جِبْرِيلُ، وَقِيلَ: عِيسَى، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَظِيمُ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: خَلْقٌ كَخَلْقِ بَنِي آدَمَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِي إِيرَادِهِ، وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَانُ السَّائِلِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ أَهَمُّ وَأَقْدَمُ مِنْ مَعْرِفَةِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، ثم
__________
(1) . التوبة: 125.
(2) . فصلت: 51. [.....](3/301)
أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَى السَّائِلِينِ لَهُ عَنِ الرُّوحِ فَقَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي مِنْ بَيَانِيَّةٌ، وَالْأَمْرُ الشَّأْنُ، وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ: هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يُعْلِمُ بِهَا عِبَادَهُ وَقِيلَ: مَعْنَى مِنْ أَمْرِ رَبِّي مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ لَا مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَزْجُرُ الْخَائِضِينَ فِي شَأْنِ الرُّوحِ الْمُتَكَلِّفِينَ لِبَيَانِ مَا هَيْئَتُهُ وَإِيضَاحِ حَقِيقَتِهِ أَبْلَغَ زَجْرٍ، وَيَرْدَعُهُمْ أَعْظَمَ رَدْعٍ، وَقَدْ أَطَالُوا الْمَقَالَ فِي هَذَا الْبَحْثِ بِمَا لَا يَتِمُّ لَهُ الْمَقَامُ، وَغَالِبُهُ بَلْ كُلُّهُ مِنَ الْفُضُولِ الَّذِي لَا يَأْتِي بِنَفْعٍ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا.
وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الرُّوحِ بَلَغَتْ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ومائة قَوْلٍ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْفُضُولِ الْفَارِغِ وَالتَّعَبِ الْعَاطِلِ عَنِ النَّفْعِ، بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ، وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَنْبِيَاءَهُ، وَلَا أَذِنَ لَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ وَلَا الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَضْلًا عَنْ أُمَمِهِمُ المقتدين بهم، فيا لله الْعَجَبَ حَيْثُ تَبْلُغُ أَقْوَالُ أَهْلِ الْفُضُولِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ وَلَا بَعْضَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا أَذِنَ اللَّهُ بِالْكَلَامِ فِيهِ، وَلَمْ يَسْتَأْثِرْ بِعِلْمِهِ. ثُمَّ خَتَمَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: أَنَّ عِلْمَكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، لَيْسَ إِلَّا الْمِقْدَارُ الْقَلِيلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ أُوتِيَ حَظًّا مِنَ الْعِلْمِ وَافِرًا، بَلْ عِلْمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَيْسَ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا كَمَا يَأْخُذُ الطَّائِرُ فِي مِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دُلُوكِ الشَّمْسِ غُرُوبِهَا، تَقُولُ الْعَرَبُ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ: دَلَكَتِ الشَّمْسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن عَلِيٍّ قَالَ: دُلُوكُهَا: غُرُوبُهَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لِزَوَالِ الشَّمْسِ، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «دُلْوُكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا» وَضَعَّفَ السُّيُوطِيُّ إِسْنَادَهُ. وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ قَالَ: «دُلُوكُ الشَّمْسِ زِيَاغُهَا بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دُلُوكُهَا: زَوَالُهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ قَالَ: إِذَا فَاءَ الْفَيْءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ لِدُلُوِكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ تَلَا أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مردويه من حديث أنس نحوه، مما يُسْتَشْهَدُ بِهِ عَلَى أَنَّ الدُّلُوكَ الزَّوَالُ وَسَطَ النَّهَارِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ دَعَوْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ يُطْعَمُونَ عِنْدِي، ثُمَّ خَرَجُوا حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اخْرُجْ يَا أَبَا بَكْرٍ فَهَذَا حِينَ دَلَكَتِ الشَّمْسُ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ سَهْلِ بْنِ بَكَّارٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنِ الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عَنْ جَابِرٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عن(3/302)
ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ قَالَ: إِلَى الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
غَسَقِ اللَّيْلِ اجْتِمَاعِ اللَّيْلِ وَظُلْمَتِهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: غَسَقِ اللَّيْلِ بُدُوِّ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ عَنْ بَطْنِ السَّمَاءِ، وَغَسَقُ اللَّيْلِ غُرُوبُ الشَّمْسِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ قَالَ: صَلَاةُ الصُّبْحِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قَالَ: «تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ تَجْتَمِعُ فِيهَا» ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرَ» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قَالَ: «تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: نافِلَةً لَكَ يَعْنِي خاصة للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أُمِرَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَكُتُبَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَهُنَّ لَكَمَ سُنَّةٌ: الْوِتْرُ، وَالسِّوَاكُ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ أَبِي أُمَامَةَ فِي قَوْلِهِ: نافِلَةً لَكَ قَالَ: كانت للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَافِلَةً وَلَكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي لَفْظٍ: إِنَّمَا كَانَتِ النَّافِلَةُ خَاصَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وَسُئِلَ عَنْهُ، قَالَ: «هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي أَشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِي» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، وَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ كُلَّ أُمَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ يَوْمُ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا. وَأَخْرَجَ عَنْهُ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا، وَمَنْ رَامَ الِاسْتِيفَاءَ نَظَرَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الْأُمَّهَاتِ «1» وَغَيْرِهَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قَالَ: يُجْلِسُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِبْرِيلَ وَيَشْفَعُ لِأُمَّتِهِ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قَالَ: يُجْلِسُنِي مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ» وَيَنْبَغِي الْكَشْفُ عن إسناد هذين الحديثين.
__________
(1) . الصواب أن يقول: الأمّات.(3/303)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْآيَةَ قَالَ: أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ مَكَّةَ مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَأَدْخَلَهُ الْمَدِينَةَ مُدْخَلَ صِدْقٍ. قَالَ: وَعَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ وَلِإِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ عِزَّةٌ مِنَ اللَّهِ جَعَلَهَا بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَكَلَ شَدِيدُهُمْ ضَعِيفَهُمْ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: وَاللَّهِ لَمَا يَزَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ أَعْظَمُ مِمَّا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ نُصْبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ»
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَنَأى بِجانِبِهِ قَالَ: تَبَاعَدَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كانَ يَؤُساً قَالَ: قَنُوطًا، وَفِي قَوْلِهِ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قَالَ: عَلَى نَاحِيَتِهِ. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: عَلى شاكِلَتِهِ عَلَى نِيَّتِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِرَبِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا الرُّوحُ؟ فَمَا زَالَ مُتَّكِئًا عَلَى الْعَسِيبِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إليه، فقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُودِ أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ، قَالُوا:
سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قَالُوا: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا، أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً «2» . وفي الباب أحاديث وآثار.
__________
(1) . سبأ: 49.
(2) . الكهف: 109.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 93]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)(3/304)
لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَلِيلَ لَفَعَلَ، فَقَالَ:
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَاللَّامُ هي الموطئة، ولنذهبن جَوَابُ الْقَسَمِ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَوْ شِئْنَا لَمَحَوْنَاهُ مِنَ الْقُلُوبِ وَمِنَ الْكُتُبِ حَتَّى لَا يُوجَدَ لَهُ أَثَرٌ، انْتَهَى. وَعَبَّرَ عَنِ الْقُرْآنِ بِالْمَوْصُولِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ أَيْ: بِالْقُرْآنِ عَلَيْنا وَكِيلًا أَيْ: لَا تَجِدُ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْنَا فِي رَدِّ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ ذَهَبْنَا بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَمَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يَرْحَمَكَ رَبُّكَ فَلَا نَذْهَبُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ منقطعا فمعناه لكن لا يشأ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، أَوْ لَكِنَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تَرَكَتْهُ غَيْرَ مَذْهُوبٍ بِهِ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً حَيْثُ جَعَلَكَ رَسُولًا وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَصَيَّرَكَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، وَأَعْطَاكَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ احْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ مِنْ كَمَالِ الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَجَزَالَةِ اللَّفْظِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أَظْهَرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِأَنْ يَقُولَ لَا يَأْتُونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ مُعَيَّنٌ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمُرَادَ نَفِيُ الْمِثْلِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَهُوَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ، وَسَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، ثُمَّ أَوْضَحَ سُبْحَانَهُ عَجْزَهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَصَدِّي لَهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ، أَوْ كَانَ الْمُتَصَدِّرُ بِهَا الْمَجْمُوعَ بِالْمُظَاهَرَةِ فَقَالَ: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أَيْ:
عَوْنًا وَنَصِيرًا، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ردّ لِمَا قَالَهُ الْكُفَّارُ:
لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا «1» وَإِكْذَابٌ لَهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْكُفَّارَ مَعَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، فَقَالَ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أَيْ: رَدَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بِكُلِّ مَثَلٍ يُوجِبُ الِاعْتِبَارَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَأَقَاصِيصِ الْأَوَّلِينَ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْقِيَامَةِ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً يَعْنِي مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ جَحَدُوا وَأَنْكَرُوا كَوْنَ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَاقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَأَظْهَرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ حَيْثُ قَالَ:
فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ تَوْكِيدًا أَوْ تَوْضِيحًا، وَلَمَّا كَانَ أَبَى مُؤَوَّلًا بِالنَّفْيِ، أَيْ: مَا قَبِلَ أَوْ لَمْ يَرْضَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا كُفُوراً وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أَيْ: قَالَ رُؤَسَاءُ مَكَّةَ كَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابني ربيعة
__________
(1) . الأنفال: 31.(3/305)
وَأَبِي سُفْيَانَ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، ثُمَّ عَلَّقُوا نَفْيَ إِيمَانِهِمْ بِغَايَةٍ طَلَبُوهَا فَقَالُوا: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ «حَتَّى تَفْجُرَ» مُخَفَّفًا مِثْلَ تَقْتُلَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أَنَّهَا مُشَدَّدَةٌ، وَوَجَّهَ ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ بِأَنَّ الْأُولَى بَعْدَهَا يَنْبُوعٌ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَالثَّانِيَةَ بَعْدَهَا الْأَنْهَارُ وَهِيَ جَمْعٌ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْيَنْبُوعَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي اللَّفْظِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، فَإِنَّ الْيَنْبُوعَ الْعُيُونُ الَّتِي لَا تَنْضُبُ.
وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْيَنْبُوعَ عَيْنُ الْمَاءِ وَالْجَمْعُ الْيَنَابِيعُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْعَيْنِ يَنْبُوعٌ إِذَا كَانَتْ غَزِيرَةً مِنْ شَأْنِهَا النُّبُوعُ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، وَالْيَاءُ زَائِدَةٌ كَيَعْبُوبٍ مَنْ عَبَّ الْمَاءَ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أَيْ: بُسْتَانٌ تَسْتُرُ أَشْجَارُهُ أَرْضَهُ.
وَالْمَعْنَى: هَبْ أَنَّكَ لَا تُفَجِّرُ الْأَنْهَارَ لِأَجْلِنَا فَفَجِّرْهَا مِنْ أَجْلِكَ بِأَنْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أَيْ: تُجْرِيهَا بِقُوَّةٍ خِلالَها تَفْجِيراً أَيْ: وَسَطَهَا تَفْجِيرًا كَثِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً قَرَأَ مُجَاهِدٌ أَوْ تُسْقِطَ مُسْنَدًا إِلَى السَّمَاءِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ أَوْ تُسْقِطَ عَلَى الْخِطَابِ، أَيْ: أَوْ تُسْقِطَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ السَّمَاءَ. وَالْكِسَفُ بِفَتْحِ السِّينِ جَمْعُ كِسْفَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ، وَالْكِسْفَةُ: الْقِطْعَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كِسَفاً بِإِسْكَانِ السِّينِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مَنْ قَرَأَ بِإِسْكَانِ السِّينِ جَعَلَهُ وَاحِدًا وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِهَا جَعَلَهُ جَمْعًا. قَالَ الَمَهَدَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قِرَاءَةِ السُّكُونِ جَمْعَ كِسْفَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكِسْفَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَعْطِنِي كِسْفَةً مِنْ ثَوْبِكَ، وَالْجَمْعُ كِسَفٌ وَكُسُفٌ، وَيُقَالُ: الْكِسَفُ وَالْكِسْفَةُ وَاحِدٌ، وَانْتِصَابُ كِسَفًا عَلَى الْحَالِ، وَالْكَافُ فِي كَمَا زَعَمْتَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِسْقَاطًا مُمَاثِلًا لِمَا زَعَمْتَ، يَعْنُونَ بِذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:
إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «1» . قَالَ أَبُو عَلِيِّ: الْكِسْفُ: بِالسُّكُونِ الشَّيْءُ الْمَقْطُوعُ، كَالطَّحْنِ لِلْمَطْحُونِ، وَاشْتِقَاقُهُ عَلَى مَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ مِنْ كَسَفْتُ الثَّوْبَ كِسَفًا إِذَا قَطَعْتَهُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنْ كَسَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا غَطَّيْتَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْ تُسْقِطَهَا طَبَقًا عَلَيْنَا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا.
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَبِيلًا فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: مُعَايَنَةً، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فَقَالَ: إِذَا حَمَلْتَهُ عَلَى الْمُعَايَنَةِ كَانَ الْقَبِيلُ مَصْدَرًا كَالنَّكِيرِ وَالنَّذِيرِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَفِيلًا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَقِيلَ: شَهِيدًا، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ الْقَبِيلَةِ، أَيْ: تَأْتِي بِأَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلَةً قَبِيلَةً، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ، وَقِيلَ: ضِمْنًا، وَقِيلَ: مُقَابِلًا كَالْعَشِيرِ وَالْمُعَاشِرِ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَيْ: مِنْ ذَهَبٍ، وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَصْلُهُ الزِّينَةُ، وَالْمُزَخْرَفُ: الْمُزَيَّنُ، وَزَخَارِفُ الْمَاءِ: طَرَائِقُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
هُوَ الزِّينَةُ، فَرَجَعَ إِلَى الأصل مَعْنَى الزُّخْرُفِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زِينَةٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أَيْ: تَصْعَدُ فِي مَعَارِجِهَا، يُقَالُ: رَقَيْتُ فِي السُّلَّمِ إِذَا صَعِدْتَ وَارْتَقَيْتَ مِثْلُهُ. وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أَيْ: لِأَجْلِ رُقِيِّكَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ نَحْوَ مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا وَهَوَى يَهْوِي هَوِيًّا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أَيْ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ كِتَابًا يصدقك ويدل على نبوّتك نقرؤه جميعا، أو يقرؤه
__________
(1) . سبأ: 9.(3/306)
كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: كِتَابًا مِنَ اللَّهِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا كَمَا فِي قَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً «1» فأمر سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُفِيدُ التَّعَجُّبَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَالتَّنْزِيهَ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَنِ اقْتِرَاحَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ فَقَالَ: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي أَيْ: تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَنْ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ شَيْءٍ. وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالشَّامِ «قَالَ سُبْحَانَ رَبِّي» يَعْنِي النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً مِنَ الْبَشَرِ لَا مَلَكًا حَتَّى أَصْعَدَ السَّمَاءَ رَسُولًا مَأْمُورًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِبْلَاغِكُمْ، فَهَلْ سَمِعْتُمْ أَيُّهَا الْمُقْتَرِحُونَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّ بَشَرًا قَدَرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؟ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنِّي أَطْلُبُ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى يُظْهِرَهَا عَلَى يَدَيَّ، فَالرَّسُولُ إِذَا أَتَى بِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَةٍ كَفَاهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ بِهَا يَتَبَيَّنُ صِدْقُهُ، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ، وَأَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ لَيْسَ لِي أَنْ أَتَحَكَّمَ عَلَى رَبِّي بِمَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ، وَلَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَلَوْ لَزِمَتْنِي الْإِجَابَةُ لِكُلِّ مُتَعَنِّتٍ لَاقْتَرَحَ كُلُّ مُعَانِدٍ فِي كُلِّ وَقْتِ اقْتِرَاحَاتٍ، وَطَلَبَ لِنَفْسِهِ إِظْهَارَ آيَاتٍ، فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَنَزَّهَ عَنْ تَعَنُّتَاتِهِمْ، وَتَقَدَّسَ عَنِ اقْتِرَاحَاتِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَيُرْفَعُ، قِيلَ: كَيْفَ يُرْفَعُ وَقَدْ أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا وَأَثْبَتْنَاهُ فِي الْمَصَاحِفِ؟ قَالَ: يُسْرَى عَلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُتْرَكُ مِنْهُ آيَةٌ فِي قَلْبٍ وَلَا مُصْحَفٍ إِلَّا رُفِعَتْ، فَتُصْبِحُونَ وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ قَرَأَ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو نَحْوَهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمود بن سيحان ونعيمان بن أحي «2» وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَسَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا يَا مُحَمَّدُ بِهَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ أَحَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّا لَا نَرَاهُ مُتَنَاسِقًا كَمَا تَنَاسَقُ التَّوْرَاةُ؟
فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ إنكم لتعرفونه أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالُوا: إِنَّا نَجِيئُكَ بِمِثْلِ مَا تَأْتِي بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ» الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَرَجُلًا مِنْ بَنِي عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسيد والأسود ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَزَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ وَأُمِّيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَالْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ وَنُبَيْهًا وَمُنَبِّهًا ابْنَيِ الْحَجَّاجِ السَّهْمِيَّيْنِ اجْتَمَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ وَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ، وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ وَتَعَنَّتُوهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَى قَوْلِهِ: بَشَراً رَسُولًا. وإسناده عند
__________
(1) . المدثر: 52.
(2) . كذا في الدر المنثور. وفي ابن جرير: عمر بن أضا.(3/307)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
ابْنِ جَرِيرٍ هَكَذَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، قَدِمَ مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ، فَفِيهِ هَذَا الرَّجُلُ الْمَجْهُولُ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يَنْبُوعاً قَالَ: عُيُونًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْيَنْبُوعُ هُوَ النَّهْرُ الَّذِي يَجْرِي مِنَ الْعَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ يَقُولُ:
ضَيْعَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ كِسَفاً قَالَ: قِطَعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: قَبِيلًا قَالَ:
عِيَانًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا: مِنْ زُخْرُفٍ قَالَ: مِنْ ذَهَبٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ مَا الزُّخْرُفُ؟
حَتَّى سَمِعْتُهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كِتاباً نَقْرَؤُهُ قَالَ: مِنْ رَبِّ العالمين إلى فلان بن فُلَانٍ. يُصْبِحُ عِنْدَ كُلِّ رَجُلٍ صَحِيفَةٌ عِنْدَ رأسه موضوعة يقرؤها.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 100]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى، قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ التَّعَرُّضُ لِإِيرَادِهَا وَرَدِّهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا الْمُرَادُ النَّاسُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ، أَيْ: ما منعهم الإيمان بالقرآن والنبوّة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِمَنَعَ وَمَعْنَى إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أَنَّهُ جَاءَهُمُ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ ظَرْفٌ لِمَنَعَ أَوْ يُؤْمِنُوا، أَيْ: مَا مَنَعَهُمْ وَقْتَ مَجِيءِ الْهُدَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَيْ: مَا مَنَعَهُمْ إِلَّا قَوْلُهُمْ، فَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ مَنَعَ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا لِلْإِنْكَارِ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بَشَرًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ الشَّامِلَ لَهُمْ، وَهُوَ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، هُوَ الَّذِي مَنَعَهُمْ عَنِ(3/308)
الْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ وَبِالرَّسُولِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَوْلِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مُجَرَّدُ قَوْلٍ قَالُوهُ بِأَفْوَاهِهِمْ، ثم أمر رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ هَذِهِ، فَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أَيْ: لَوْ وُجِدَ وَثَبَتَ أَنَّ فِي الْأَرْضِ بَدَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ الْبَشَرِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ عَلَى الْأَقْدَامِ كَمَا يَمْشِي الْإِنْسُ مُطَمْئِنِّينَ مُسْتَقِرِّينَ فِيهَا سَاكِنِينَ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مُطْمَئِنِّينَ: مُسْتَوْطِنِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ السُّكُونُ، فَالْمُرَادُ هَاهُنَا الْمَقَامُ وَالِاسْتِيطَانُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ سَكَنَ الْبَلَدَ فُلَانٌ إِذَا أَقَامَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا مُتَقَّلِبًا فِي حَاجَاتِهِ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا حَتَّى يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَفِيهِ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الرُّسُلَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اعْتَبَرَ فِي تَنْزِيلِ الرَّسُولِ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَوْنُ سُكَّانِ الْأَرْضِ مَلَائِكَةً. وَالثَّانِي: كَوْنُهُمْ مَاشِينَ عَلَى الْأَقْدَامِ غَيْرَ قَادِرِينَ عَلَى الطَّيَرَانِ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، إِذْ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ لَطَارُوا إِلَيْهَا، وَسَمِعُوا مِنْ أَهْلِهَا مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ وَسَمَاعُهُ، فَلَا يَكُونُ فِي بَعْثَةِ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ فَائِدَةٌ. وَانْتِصَابُ بشرا وملكا على أنهما مفعولان للفعلين، ورسولا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَصْفٌ لَهُمَا. وَجَوَّزَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ رَسُولًا فِيهِمَا وَقَوَّاهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْكَارَ يَتَوَجَّهُ إِلَى الرَّسُولِ الْمُتَّصِفِ بِالْبَشَرِيَّةِ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ بِحُكْمِ التَّقَابُلِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ، فَقَالَ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ جِهَتِكَ كَفَى بِاللَّهِ وَحْدَهُ شَهِيدًا عَلَى إِبْلَاغِي إِلَيْكُمْ مَا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ أُمُورِ الرِّسَالَةِ، وَقَالَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَنَا، تَحْقِيقًا لِلْمُفَارَقَةِ الْكُلِّيَّةِ وَقِيلَ: إِنَّ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى النَّبِيِّ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ عَلَى الصِّدْقِ، ثُمَّ عَلَّلَ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ شَهِيدًا كَافِيًا بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أَيْ: عَالِمًا بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُحِيطًا بِظَوَاهِرِهَا وَبَوَاطِنِهَا بَصِيرًا بِمَا كَانَ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ مُسْتَنِدَانِ إِلَى مَشِيئَتِهِ فَقَالَ:
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي إِلَى الْحَقِّ أَوْ إِلَى كُلِّ مَطْلُوبٍ وَمَنْ يُضْلِلْ أَيْ: يُرِدْ إِضْلَالَهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ يَعْنِي اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَهْدُونَهُمْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي أَضَلَّهُمُ اللَّهُ عَنْهُ أو إلى طريق النجاة، وقوله: فَهُوَ الْمُهْتَدِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَقَوْلُهُ:
فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ إِمَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ هَذَا الْحَشْرُ عَلَى الْوُجُوهِ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْرَاعِ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: قَدْ مَرَّ الْقَوْمُ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِذَا أَسْرَعُوا. الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسْحَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ حَقِيقَةً كَمَا يُفْعَلُ فِي الدُّنْيَا بِمَنْ يُبَالَغُ فِي إِهَانَتِهِ وَتَعْذِيبِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «1» ، وَلِمَا صَحَّ فِي السُّنَّةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَمَحَلُّ عَلَى وُجُوهِهِمْ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ المفعول وعُمْياً مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ وَبُكْماً وَصُمًّا مَعْطُوفَانِ عَلَيْهِ، وَالْأَبْكَمُ:
الَّذِي لَا يَنْطِقُ، وَالْأَصَمُّ: الَّذِي لَا يَسْمَعُ، وَهَذِهِ هَيْئَةٌ يُبْعَثُونَ عَلَيْهَا فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ، وَأَشْنَعِ مَنْظَرٍ، قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ بَيْنَ عَمَى الْبَصَرِ وَعَدَمِ النُّطْقِ وَعَدَمِ السَّمْعِ مَعَ كَوْنِهِمْ مَسْحُوبِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، ثُمَّ مِنْ وراء ذلك
__________
(1) . القمر: 48.(3/309)
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أَيْ: الْمَكَانُ الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً أَيْ: كُلَّمَا سَكَنَ لَهَبُهَا، يُقَالُ: خَبَتِ النَّارُ تَخْبُو خَبْوًا: إِذَا خَمَدَتْ وَسَكَنَ لَهَبُهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمَعْنَى زِدْناهُمْ سَعِيراً تَسَعُّرًا، وَهُوَ التَّلَهُّبُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ فِي خَبْوِ النَّارِ تَخْفِيفًا لِعَذَابِ أَهْلِهَا، فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ «1» ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ التَّخْفِيفِ أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ زَمَانٌ مَحْسُوسٌ بَيْنَ الْخَبْوِ وَالتَّسَعُّرِ وَقِيلَ: إِنَّهَا تَخْبُو مِنْ غَيْرِ تَخْفِيفٍ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ذلِكَ أَيْ: الْعَذَابُ جَزاؤُهُمْ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَاسْتَحَقُّوهُ عِنْدَهُ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِهَا فَلَمْ يُصَدِّقُوا بِالْآيَاتِ التَّنْزِيلِيَّةِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ جزاؤهم، وبأنهم كَفَرُوا خَبَرٌ آخَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُمْ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ المبتدأ الأوّل وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسير الآية في هذه السورة، وخلقا في قوله: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ أَوْ حَالٌ، أَيْ: مَخْلُوقِينَ. فَجَاءَ سُبْحَانَهُ بِحُجَّةٍ تَدْفَعُهُمْ عَنِ الْإِنْكَارِ وَتَرُدُّهُمْ عَنِ الْجُحُودِ. فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أَيْ: مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ هَذَا، فَهُوَ عَلَى إِعَادَةِ مَا هُوَ أَدْوَنُ مِنْهُ أَقْدَرُ، وَقِيلَ:
الْمُرَادُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِفْنَائِهِمْ وَإِيجَادِ غَيْرِهِمْ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْخَلْقُ بِمَعْنَى الْإِعَادَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَجُمْلَةُ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ عطف على أو لم يَرَوْا، وَالْمَعْنَى: قَدْ عَلِمُوا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَنَّ من قدر على خلق السموات وَالْأَرْضِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ أَمْثَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَشَدِّ خَلْقًا مِنْهُنَّ كَمَا قَالَ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «2» . وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقِيَامَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: أو لم يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أَيْ: أَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا جُحُودًا، وَفِيهِ وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ طَلَبُ إِجْرَاءِ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي أَرَاضِيهِمْ لِتَتَّسِعَ مَعَايِشُهُمْ، بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يَقْنَعُونَ، بَلْ يَبْقُونَ عَلَى بُخْلِهِمْ وَشُحِّهِمْ، فَقَالَ: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أَنْتُمْ مُرْتَفَعٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: لَوْ تَمْلِكُونَ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ مُبْدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ وَهُوَ الْوَاوُ، وَخَزَائِنُ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ: هِيَ خَزَائِنُ الْأَرْزَاقِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَهَمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا خَزَائِنَ الْأَرْزَاقِ لَأَمْسَكُوا شُحًّا وَبُخْلًا، وَهُوَ خَشْيَةُ الْإِنْفَاقِ، أَيْ: خَشْيَةُ أَنْ يُنْفِقُوا فَيَفْتَقِرُوا، وَفِي حَذْفِ الْفِعْلِ الَّذِي ارْتَفَعَ بِهِ أَنْتُمْ، وَإِيرَادِ الْكَلَامِ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالشُّحِّ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنْفَقَ وَأَصْرَمَ وَأَعْدَمَ وَأَقْتَرَ بِمَعْنَى قَلَّ مَالُهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ قَلِّ الْمَالِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أَيْ: بَخِيلًا مُضَيِّقًا عَلَيْهِ. يُقَالُ: قَتَرَ عَلَى عِيَالِهِ يَقْتُرُ وَيُقَتِّرُ قَتْرًا وَقُتُورًا: ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أَيْ: قَلِيلَ الْمَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي وصفه بالشحّ، لأن الإنسان ليس
__________
(1) . البقرة: 162.
(2) . النازعات: 27.(3/310)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
بِقَلِيلِ الْمَالِ عَلَى الْعُمُومِ. بَلْ بَعْضُهُمْ كَثِيرُ الْمَالِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ جَمِيعَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ قَلِيلُ الْمَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَزَائِنِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مُشَاةً، وَصِنْفٌ رُكْبَانًا، وَصِنْفٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ» ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ قَالَ:
يَعْنِي أَنَّهُمْ وَقُودُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
كُلَّما خَبَتْ قَالَ: سَكَنَتْ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلَّمَا أَحْرَقَتْهُمْ سَعَرَتْهُمْ حَطَبًا، فَإِذَا أَحْرَقَتْهُمْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ شَيْءٌ صَارَتْ جَمْرًا تَتَوَهَّجُ فَذَلِكَ خَبْوُهَا، فَإِذَا بُدِّلُوا خَلْقًا جَدِيدًا عَاوَدَتْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي قَالَ: الرِّزْقُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ:
إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ قَالَ: إِذًا مَا أَطْعَمْتُمْ أَحَدًا شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ قَالَ: الْفَقْرُ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً قَالَ: بَخِيلًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ قَالَ: خَشْيَةَ الْفَاقَةِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً قال:
بخيلا ممسكا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 109]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105)
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ أَيْ: عَلَامَاتٍ دَالَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ. قِيلَ: وَوَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الْمَذْكُورَةَ كَأَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِتِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، بَلْ أَقْوَى مِنْهَا، فَلَيْسَ عَدَمُ الِاسْتِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوهُ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا لِعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْآيَاتُ التِّسْعُ: هِيَ الطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالسِّنِينَ، وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ. وَجَعَلَ الْحَسَنُ مَكَانَ السِّنِينَ وَنَقْصِ الثَّمَرَاتِ: الْبَحْرَ وَالْجَبَلَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هِيَ(3/311)
الْخَمْسُ الَّتِي فِي الْأَعْرَافِ، وَالْبَحْرُ، وَالْعَصَا، وَالْحَجَرُ، وَالطَّمْسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ مُسْتَوْفًى، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عسال في تعداد هذه الآيات التسع. فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ نَهِيكٍ «فسئل» عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ: سَأَلَ مُوسَى فِرْعَوْنَ أَنْ يُخَلِّيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُطْلِقَ سَبِيلَهُمْ وَيُرْسِلَهُمْ مَعَهُ، وقرأ الآخرون فَسْئَلْ عَلَى الْأَمْرِ، أَيْ: سَلْهُمْ يَا مُحَمَّدُ حِينَ جاءَهُمْ مُوسَى، وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ اسْتِشْهَادٍ لِمَزِيدِ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْإِيقَانِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ إِذَا تَضَافَرَتْ كَانَ ذَلِكَ أقوى، والمسؤولون مُؤْمِنُو بَنِي إِسْرَائِيلَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وأصحابه فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً الْفَاءُ هِيَ الْفَصِيحَةُ، أَيْ فَأَظْهَرَ مُوسَى عِنْدَ فِرْعَوْنَ مَا آتَيْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَبَلَّغَهُ مَا أُرْسِلَ بِهِ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ.
المسحور: الَّذِي سُحِرَ فَخُولِطَ عَقْلُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ بِمَعْنَى السَّاحِرِ، فَوُضِعَ الْمَفْعُولُ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ، فَ قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ يَعْنِي الْآيَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا، وَأَنْزَلَ بِمَعْنَى أَوْجَدَ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أَيْ: دَلَالَاتٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَانْتِصَابُ بَصَائِرَ عَلَى الْحَالِ.
قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ عَلِمْتَ عَلَى أَنَّهَا لِمُوسَى، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى الْخِطَابِ لِفِرْعَوْنَ. وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَلِمَهُ مُوسَى. وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «1» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَأْخُوذُ بِهِ عِنْدَنَا فَتْحُ التَّاءِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِلْمَعْنَى، لِأَنَّ مُوسَى لَا يَقُولُ عَلِمْتُ أَنَا وَهُوَ الدَّاعِي، وَرُوِيَ نَحْوُ هذا عن الزجاج وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ. قَالَ الْكُمَيْتُ:
وَرَأَتْ قَضَاعَةُ فِي الْأَيَا ... مِنْ رَأْيٍ مَثْبُورٍ وَثَابِرِ
أَيْ: مَخْسُورٍ وَخَاسِرٍ، وَقِيلَ: الْمَثْبُورُ: الْمَلْعُونُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» :
يَا قومنا لا تروموا حربنا سَفِهًا ... إِنَّ السَّفَاهَ وَإِنَّ الْبَغْيَ مَثْبُورُ
أَيْ: ملعون، وقيل: الْمَثْبُورُ: نَاقِصُ الْعَقْلِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَمْنُوعُ مِنَ الْخَيْرِ، يُقَالُ: مَا ثَبَرَكَ عَنْ كَذَا مَا مَنَعَكَ مِنْهُ، حَكَاهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: الْمَسْحُورُ فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ: أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُوسَى وَيُزْعِجَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ بِإِبْعَادِهِمْ عَنْهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَعَلَى هَذَا يُرَادُ بِالْأَرْضِ مُطْلَقُ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا مَعْنَى الِاسْتِفْزَازِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً فَوَقَعَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الْهَلَاكُ بِالْغَرَقِ، وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِغْرَاقِهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ هُنَا: أَرْضُ مِصْرَ الَّتِي أَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنْهَا فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أَيْ: الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْقِيَامَةُ، أَوِ الْكَرَّةِ الْآخِرَةِ، أَوِ السَّاعَةِ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
اللَّفِيفُ مَا اجْتَمَعَ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، يُقَالُ: جَاءَ الْقَوْمُ بِلَفِّهِمْ وَلَفِيفِهِمْ، أي: بأخلاطهم، فالمراد هنا
__________
(1) . النمل: 14.
(2) . هو: أبان بن تغلب.(3/312)
جِئْنَا بِكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ مُخْتَلِطِينَ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ، قَدِ اخْتَلَطَ الْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: اللَّفِيفُ جَمْعٌ وَلَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِثْلُ الْجَمْعِ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَمَعْنَى بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أَوْحَيْنَاهُ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ وَمَعْنَى وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أَنَّهُ نَزَلَ وَفِيهِ الحق، وقيل: الباء في «وَبِالْحَقِّ» الْأَوَّلُ بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: مَعَ الْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ، كَقَوْلِهِمْ: رَكِبَ الْأَمِيرُ بِسَيْفِهِ، أَيْ: مَعَ سَيْفِهِ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أَيْ:
بِمُحَمَّدٍ كَمَا تَقُولُ نَزَلْتُ بِزَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْبَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى مَعَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى:
وَبِالْحَقِّ قَدَّرْنَا أَنْ يَنْزِلَ وَكَذَلِكَ نَزَلَ، أَوْ مَا أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا مُحْفُوظًا، وَمَا نَزَلَ عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا مَحْفُوظًا من تخليط الشياطين، والتقديم في الموضعين للتخصص وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أَيْ: مُبَشِّرًا لِمَنْ أَطَاعَ بِالْجَنَّةِ وَنَذِيرًا مُخَوِّفًا لِمَنْ عَصَى بِالنَّارِ وَقُرْآناً فَرَقْناهُ انْتِصَابُ قُرْآنًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، قَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالشَّعْبِيُّ فَرَقْناهُ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ:
أَنْزَلْنَاهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَا جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَرَقْنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: بَيَّنَّاهُ وَأَوْضَحْنَاهُ، وَفَرَقْنَا فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَرَقَهُ فِي التَّنْزِيلِ لِيَفْهَمَهُ النَّاسُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّخْفِيفُ أَعْجَبُ إِلَيَّ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ بَيَّنَّاهُ، وَلَيْسَ لِلتَّشْدِيدِ مَعْنًى إِلَّا أَنَّهُ نَزَلَ مُتَفَرِّقًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
فَرَقْتُ مُخَفَّفًا بَيْنَ الْكَلَامِ، وَفَرَّقْتُ مُشَدَّدًا بَيْنَ الْأَجْسَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْعِلَّةَ لِقَوْلِهِ: فَرَقْنَاهُ، فَقَالَ: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أَيْ: عَلَى تَطَاوُلٍ فِي الْمُدَّةِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، أَوْ أَنْزَلْنَاهُ آيَةً آيَةً، وَسُورَةً سُورَةً. وَمَعْنَاهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مُكْثٍ، أَيْ: عَلَى تَرَسُّلٍ وَتَمَهُّلٍ فِي التِّلَاوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ وَأَسْهَلُ لِلْحِفْظِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ الْمِيمِ فِي مُكْثٍ إِلَّا ابْنَ مُحَيْصِنٍ فَإِنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنْزَلْنَاهُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَلَوْ أَخَذُوا بِجَمِيعِ الْفَرَائِضِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَنَفَرُوا وَلَمْ يَطِيقُوا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْكَافِرِينَ الْمُقْتَرِحِينَ لِلْآيَاتِ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا، فَسَوَاءٌ إِيمَانُكُمْ بِهِ وَامْتِنَاعُكُمْ عَنْهُ لَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ وَلَا يُنْقِصُهُ. وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَاحْتِقَارِهِمْ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أَيْ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ قَرَءُوا الْكُتُبَ السَّابِقَةَ قَبْلَ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَعَرَفُوا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ وَأَمَارَاتِ النبوّة كزيد ابن عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ أَيِ: الْقُرْآنُ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً أَيْ: يَسْقُطُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ سَاجِدِينَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْخُرُورَ، وَهُوَ السُّقُوطُ بِكَوْنِهِ لِلْأَذْقَانِ، أَيْ: عَلَيْهَا، لِأَنَّ الذَّقَنَ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ، أَوَّلُ مَا يُحَاذِي الْأَرْضَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ الذَّقَنَ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ، وَكَمَا يَبْتَدِئُ الْإِنْسَانُ بِالْخُرُورِ لِلسُّجُودِ، فَأَوَّلُ مَا يُحَاذِي الْأَرْضَ بِهِ مِنْ وَجْهِهِ الذَّقَنُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَعْفِيرُ اللِّحْيَةِ فِي التُّرَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَايَةُ الْخُضُوعِ، وَإِيثَارُ اللَّامِ فِي الْأَذْقَانِ عَلَى الدلالة عَلَى الِاخْتِصَاصِ، فَكَأَنَّهُمْ خَصُّوا أَذْقَانَهُمْ بِالْخُرُورِ، أَوْ خَصُّوا الْخُرُورَ بِأَذْقَانِهِمْ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى الْقُرْآنِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَاصِلُهَا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الَّذِينَ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ وَلَا مَعْرِفَةَ بِكُتُبِ اللَّهِ وَلَا بِأَنْبِيَائِهِ، فَلَا تُبَالِ(3/313)
بِذَلِكَ، فَقَدْ آمَنَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَخَشَعُوا لَهُ وَخَضَعُوا عِنْدَ تِلَاوَتِهِ عَلَيْهِمْ خُضُوعًا ظَهَرَ أَثَرُهُ الْبَالِغُ بِكَوْنِهِمْ يَخِرُّونَ عَلَى أَذْقَانِهِمْ سُجَّدًا لِلَّهِ وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا أَيْ: يَقُولُونَ فِي سُجُودِهِمْ تَنْزِيهًا لِرَبِّنَا عَمَّا يَقُولُهُ الْجَاهِلُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ أَوْ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ خَلْفِ وَعْدِهِ إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا إِنْ هَذِهِ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ خَرُّوا لِأَذْقَانِهِمْ بَاكِينَ فَقَالَ: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَكَرَّرَ ذِكْرَ الْخُرُورِ لِلْأَذْقَانِ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَنْزِيهِهِ، وَالثَّانِي لِلْبُكَاءِ بِتَأْثِيرِ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَزِيدِ خُشُوعِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَيَزِيدُهُمْ أَيْ: سَمَاعُ الْقُرْآنِ، أَوِ الْقُرْآنُ بِسَمَاعِهِمْ لَهُ خُشُوعاً أَيْ: لِينَ قَلْبٍ وَرُطُوبَةَ عَيْنٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
تِسْعَ آياتٍ فَذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: يَدُهُ، وَعَصَاهُ وَلِسَانُهُ، وَالْبَحْرُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ قَانِعٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ: «أَنَّ يَهُودِيَّيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ نَسْأَلْهُ، فَأَتَيَاهُ فَسَأَلَاهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَقَالَ: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تُسْرِفُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى سُلْطَانٍ فَيَقْتُلْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحَصَّنَةً. أَوْ قَالَ: لَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ- شَكَّ شُعْبَةُ- وَعَلَيْكُمْ يَا يَهُودُ خَاصَّةً أَنَّ لَا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ، فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيُّ اللَّهِ، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تُسْلِمَا؟ قالا: إن داود دعا الله أن يزاد فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ أَسْلَمْنَا أَنْ يَقْتُلَنَا الْيَهُودُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي «ذَمِّ الْغَضَبِ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أنه سئل عن قوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قَالَ: مُخَالِفًا، وَقَالَ: الْأَنْبِيَاءُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تَلْعَنَ أَوْ تَسُبَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَثْبُوراً قَالَ:
مَلْعُونًا. وَأَخْرَجَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْأَلْقَابِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَلِيلُ الْعَقْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا لَفِيفًا قَالَ: جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ «وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ» مُثَقَلًا قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا أَحْدَثُوا شَيْئًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ جَوَابًا، فَفَرَّقَهُ اللَّهُ فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فَرَقْناهُ قَالَ: فَصَلْنَاهُ عَلَى مُكْثٍ بِأَمَدٍ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَقُولُ: لِلْوُجُوهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قال:
كتابهم.(3/314)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعَلِّمَ عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ وَالْخُشُوعِ فَقَالَ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ وَمَعْنَاهُ:
أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي جَوَازِ الْإِطْلَاقِ وَحُسْنِ الدُّعَاءِ بِهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التَّنْوِينُ فِي «أيّا» عوض عن المضاف إليه، وما مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْإِبْهَامِ فِي أَيًّا، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسَمَّى، وَكَانَ أَصْلُ الْكَلَامِ: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَهُوَ حَسَنٌ، فَوَضَعَ مَوْضِعَهُ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا إِذَا حَسُنَتْ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حَسُنَ هَذَانِ الِاسْمَانِ، وَمَعْنَى حُسْنِ الْأَسْمَاءِ اسْتِقْلَالُهَا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا النَّيْسَابُورِيُّ وَتَبِعَهُ أَبُو السُّعُودِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ دُعَاءَهُمُ اللَّهَ وَدُعَاءَهُمُ الرَّحْمَنَ يَرْجِعَانِ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْمُرَادُ مِنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ كَيْفِيَّةً أُخْرَى لِلدُّعَاءِ فَقَالَ:
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها أَيْ: بِقِرَاءَةِ صَلَاتِكِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مِنْ نُعُوتِ الصَّوْتِ، لَا مِنْ نُعُوتِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ، يُقَالُ: خَفَتَ صَوْتُهُ خُفُوتًا إِذَا انْقَطَعَ كَلَامُهُ وَضَعُفَ وَسَكَنَ، وَخَفَتَ الزَّرْعُ إِذَا ذَبُلَ، وَخَافَتَ الرَّجُلُ بِقِرَاءَتِهِ: إِذَا لَمْ يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ كُلِّهَا وَلَا تُخَافِتْ بِهَا كُلِّهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ أَيْ: الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِالْفِعْلَيْنِ سَبِيلًا أَيْ: طَرِيقًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَا تَكُنْ مَجْهُورَةً وَلَا مُخَافَتًا بِهَا، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي يَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُخَافَتَةِ بِقِرَاءَةِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، وَالْأَمْرُ بِجَعْلِ الْبَعْضِ مِنْهَا مَجْهُورًا بِهِ، وَهُوَ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالْمُخَافَتَةُ بِصَلَاةِ النَّهَارِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً «1» وَلَمَّا أَمَرَ أَنْ لَا يُذْكَرَ وَلَا يُنَادَى إِلَّا بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى نَبَّهَ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْحَمْدِ لَهُ، فَقَالَ: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كَمَا تَقُولُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أَيْ: مُشَارِكٌ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ كَمَا تَزْعُمُهُ الثَّنَوِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الْقَائِلِينَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أَيْ: لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُوَالَاةِ أَحَدٍ لِذُلٍّ يَلْحَقُهُ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
أَيْ: لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَنْتَصِرَ بِغَيْرِهِ، وَفِي التَّعَرُّضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَمْدِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْحَمْدِ مَنْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ، لِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِيجَادِ وَإِفَاضَةِ النِّعَمِ لِكَوْنِ الْوَلَدِ مَجْبَنَةً وَمَبْخَلَةً، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الْأَبِ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَالْمُحْدَثُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى كَمَالِ الْإِنْعَامِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْمُلْكِ إِنَّمَا تُتَصَوَّرُ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِهِ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ عاجز، عَنْ تَمَامِ مَا هُوَ لَهُ، فَضْلًا عَنْ تمام مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا الشَّرِكَةُ مُوجِبَةٌ لِلتَّنَازُعِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، فَقَدْ يَمْنَعُهُ الشَّرِيكُ مِنْ إِفَاضَةِ الخير إلى أوليائه، ومؤدية
__________
(1) . الأعراف: 55.(3/315)
إِلَى الْفَسَادِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» وَالْمُحْتَاجُ إِلَى وَلِيٍّ يَمْنَعُهُ مِنَ الذُّلِّ وَيَنْصُرُهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ إِذْلَالَهُ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أَيْ: عَظِّمْهُ تَعْظِيمًا وَصِفْهُ بِأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: يَا أَللَّهُ يَا رَحْمَنُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ يَنْهَانَا أَنْ نَدْعُوَ إِلَهَيْنِ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ لَهُمْ كَاهِنٌ بِالْيَمَامَةِ يسمونه الرحمن، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَكْحُولٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَهَجَّدُ بِمَكَّةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ، فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يَدْعُو اللَّيْلَةَ الرَّحْمَنَ الَّذِي بِالْيَمَنِ، وَكَانَ رَجُلٌ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ رَحْمَنُ، فَنَزَلَتْ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طَرِيقِ نَهْشَلِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهُ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا إِلَى آخَرِ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ أَمَانٌ مِنَ السَّرَقِ» وَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَاهَا حَيْثُ أَخَذَ مَضْجَعَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَارِقٌ فَجَمَعَ مَا فِي الْبَيْتِ وَحَمَلَهُ، وَالرَّجُلُ لَيْسَ بِنَائِمٍ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَابِ فَوَجَدَ الْبَابَ مَرْدُودًا، فَوَضَعَ الْكَارَةَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَضَحِكَ صَاحِبُ الدَّارِ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي حَصَّنْتُ بَيْتِي. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مُتَوَارٍ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أَيْ: بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ وَلا تُخافِتْ بِها عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلَا تُسْمِعَهُمُ الْقُرْآنَ حَتَّى يَأْخُذُوهُ عَنْكَ وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا يَقُولُ: بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ بِمَكَّةَ فَيُؤْذَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ مُسَيْلَمَةُ الْكَذَّابُ قَدْ سُمِّيَ الرَّحْمَنَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى فَجَهَرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَذْكُرُ إِلَهَ الْيَمَامَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِذَا قَرَأَ خَفَضَ، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا قَرَأَ جَهَرَ، فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا أُنَاجِي رَبِّي، وَقَدْ عَرَفَ حَاجَتِي وَقِيلَ:
لِعُمَرَ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَأُوقِظُ الْوَسْنَانَ، فَلَمَّا نَزَلَ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: ارْفَعْ شَيْئًا، وَقِيلَ لِعُمَرَ: اخْفِضْ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها
__________
(1) . الأنبياء: 22. [.....](3/316)
فِي الدُّعَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ عَنْهَا قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي التَّشَهُّدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَقَالَتِ الْعَرَبُ:
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا، هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَقَالَ الصَّابِئُونَ وَالْمَجُوسُ: لَوْلَا أَوْلِيَاءُ الله لذلّ، فأنزل الله هذه الآية: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى آخِرِهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ قَالَ: لَمْ يُحَالِفْ أَحَدًا وَلَمْ يَبْتَغِ نَصْرَ أَحَدٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «آيَةُ الْعِزِّ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الْآيَةَ كُلَّهَا» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُهُ فِي يَدِي، فَأَتَى عَلَيَّ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: أَيْ فُلَانُ مَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: السُّقْمُ وَالضُّرُّ، قَالَ: أَلَا أُعْلِمُكَ كَلِمَاتٍ تُذْهِبُ عَنْكَ السُّقْمَ وَالضُّرَّ؟ تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً إلى آخر الْآيَةِ، فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حسنت حاله فقال: ممّ؟ قَالَ: لَمْ أَزَلْ أَقُولُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي عَلَّمْتَنِي» . وَفِي لَفْظٍ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ ذَلِكَ أَبَا هُرَيْرَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي مَتْنِهِ نَكَارَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ أَهْلَهُ هَذِهِ الْآيَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً إلى آخرها الصغير مِنْ أَهْلِهِ وَالْكَبِيرِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ الْغُلَامَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ إِذَا أَفْصَحَ سَبْعَ مَرَّاتٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً
إِلَى آخَرِ السُّورَةِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي «عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ» مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.(3/317)
سورة الكهف
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَرُوِيَ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى قَوْلِهِ:
جُرُزاً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ انْتَهَى. وَمِنَ الْقَائِلِينَ إِنَّهَا مَكِّيَّةُ جَمِيعُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ عَنْهُ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: «قَرَأَ رَجُلٌ سُورَةَ الْكَهْفِ وَفِي الدَّارِ دَابَّةٌ، فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ، فَنَظَرَ فَإِذَا ضَبَابَةٌ أَوْ سَحَابَةٌ قَدْ غَشِيَتْهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اقْرَأْ فُلَانٌ، فَإِنَّ السَّكِينَةَ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ» وَهَذَا الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ كَمَا بَيَّنَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» وَفِي قِرَاءَةِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ مِنْ آخِرِهَا أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْكَهْفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ مَعْصُومٌ إِلَى ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ تَكُونُ، فَإِنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ عُصِمَ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يَضُرُّهُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ» . وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي السُّنَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، يُضِيءُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَغُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِسُورَةٍ مَلَأَ عَظَمَتُهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلِكَاتِبِهَا مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيَّنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ قَرَأَ الْخَمْسَ الْأَوَاخِرَ مِنْهَا عِنْدَ نَوْمِهِ بَعَثَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ اللَّيْلِ شَاءَ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: سُورَةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيْتُ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْكَهْفِ لَا يَدْخُلُهُ شَيْطَانٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ كِفَايَةٌ مُغَنِيَةٌ.(3/318)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
عَلَّمَ عِبَادَهُ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ عَلَى إِفَاضَةِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَوَصْفُهُ بِالْمَوْصُولِ يُشْعِرُ بِعِلِّيَّةِ مَا فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ لِمَا قَبْلَهُ، وَوَجْهُ كَوْنِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، نِعْمَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوْنُهُ اطَّلَعَ بِوَاسِطَتِهِ عَلَى أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ، وَأَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى كَيْفِيَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَعَبَّدَهُ اللَّهُ وَتَعَبَّدَ أُمَّتَهُ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْعِبَادُ كَانَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ عَلَى نَبِيِّهِمْ نِعْمَةً لَهُمْ لِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي النَّبِيِّ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْعِوَجِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِلَالِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، والعوج بِالْكَسْرِ فِي الْمَعَانِي، وَبِالْفَتْحِ فِي الْأَعْيَانِ كَذَا قِيلَ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً «1» يَعْنِي الْجِبَالَ، وَهِيَ مِنَ الْأَعْيَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا اخْتِلَافًا كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «2» . وَالْقَيِّمُ:
الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا مَيْلَ فِيهِ، أَوِ الْقَيِّمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الْقَيِّمُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ تَأْكِيدًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ نَفْيُ الْعِوَجِ، فَرُبَّ مُسْتَقِيمٍ فِي الظَّاهِرِ لَا يَخْلُو عَنْ أَدْنَى عِوَجٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَانْتِصَابُ قَيِّمًا بِمُضْمَرٍ، أَيْ: جَعَلَهُ قَيِّمًا، وَمَنَعَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْكِتَابِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْزَلَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، فَجَاعِلُهُ حَالًا من الكتاب فاصل بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: هُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ جُمْلَةٌ وَالثَّانِي مُفْرَدٌ، وَهَذَا صَوَابٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَمْ يَكُنْ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ بَلِ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ قَيِّماً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، ثُمَّ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُفَصِّلَ مَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ قَيِّمًا فَقَالَ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً وَحُذِفَ الْمُنْذَرُ لِلْعِلْمِ بِهِ مَعَ قَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَالْمَعْنَى لِيُنْذِرَ الْكَافِرِينَ. وَالْبَأْسُ الْعَذَابُ، وَمَعْنَى مِنْ لَدُنْهُ صَادِرًا مِنْ لَدُنْهُ نَازِلًا مِنْ عِنْدِهِ. رَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ مِنْ لَدُنِهِ بِإِشْمَامِ الدَّالِ الضَّمَّةَ، وَبِكَسْرِ النُّونِ وَالْهَاءِ. وَهِيَ لُغَةُ الْكِلَابِيِّينَ. وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ فَتَحَ اللَّامَ وَضَمَّ الدَّالِ وَسُكُونَ النُّونِ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ قُرِئَ يُبَشِّرُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَأُجْرِيَ الْمَوْصُولُ على موصوفه الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ مَدَارَ قَبُولِ الْأَعْمَالِ هُوَ الْإِيمَانُ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً
__________
(1) . طه: 107.
(2) . النساء: 82.(3/319)
وَهُوَ الْجَنَّةُ حَالَ كَوْنِهِمْ ماكِثِينَ فِيهِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْأَجْرِ أَبَداً أَيْ: مُكْثًا دَائِمًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَتَقْدِيمُ الْإِنْذَارِ عَلَى التَّبْشِيرِ لِإِظْهَارِ كَمَالِ الْعِنَايَةِ بِزَجْرِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ كَرَّرَ الْإِنْذَارَ وَذَكَرَ الْمُنْذَرَ لِخُصُوصِهِ وَحَذَفَ الْمُنْذَرَ بِهِ، وَهُوَ الْبَأْسُ الشَّدِيدُ، لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فَقَالَ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَبَعْضُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا قَضِيَّةً كُلِّيَّةً، وَهِيَ إِنْذَارُ عُمُومِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا قَضِيَّةً خَاصَّةً هِيَ بَعْضُ جُزْئِيَّاتِ تِلْكَ الْكُلِّيَّةِ، تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهَا أَعْظَمَ جُزْئِيَّاتِ تِلْكَ الْكُلِّيَّةِ. فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أَيْ: بِالْوَلَدِ، أَوِ اتِّخَاذِ اللَّهِ إياه، ومن مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْمَعْنَى:
مَا لَهُمْ بِذَلِكَ عِلْمٌ أَصْلًا وَلا لِآبائِهِمْ عِلْمٌ، بَلْ كَانُوا فِي زَعْمِهِمْ هَذَا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَقَلَّدَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ فَضَلُّوا جَمِيعًا كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ انْتِصَابُ كَلِمَةً عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَبُرَتْ مَقَالَتُهُمْ كَلِمَةً، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ هِيَ قَوْلُهُمْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. ثُمَّ وَصَفَ الْكَلِمَةَ بِقَوْلِهِ: تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ اسْتِعْظَامُ اجْتِرَائِهِمْ عَلَى التَّفَوُّهِ بِهَا، وَالْخَارِجُ مِنَ الْفَمِ وَإِنْ كَانَ هُوَ مُجَرَّدَ الْهَوَى، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ كَيْفِيَّاتٍ قَائِمَةً بِالْهَوَى أَسْنَدَ إِلَى الْحَالِ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِ الْمَحَلِّ. ثُمَّ زَادَ فِي تَقْبِيحِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أَيْ:
مَا يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا لَا مَجَالَ لِلصِّدْقِ فِيهِ بِحَالٍ، ثُمَّ سلّى رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: الْبَخْعُ: الْجُهْدُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بَخَعْتُ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ إِذَا جَعَلْتَهَا ضَعِيفَةً بِسَبَبِ مُتَابَعَةِ الْحِرَاثَةِ، وَبَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ إِذَا نَهَكَهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ مُهْلِكُ نَفْسَكَ، وَمِنْهُ قول ذي الرمّة:
ألا أيّهذا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ «1»
............... ......
فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَعَلَّكَ مُجْهِدٌ نَفْسَكَ أَوْ مُضْعِفُهَا أَوْ مُهْلِكُهَا عَلى آثارِهِمْ عَلَى فِرَاقِهِمْ وَمِنْ بَعْدِ تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَيْ: الْقُرْآنِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ أَنْ: أَيْ لِأَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا أَسَفاً أَيْ غَيْظًا وَحُزْنًا وَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ. وَالْمَعْنَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ زِينَةً لَهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتِ وَالْجَمَادِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «2» وَانْتِصَابُ زِينَةً عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلَ، وَاللَّامُ فِي لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مُتَعَلِّقَةٌ بِجَعَلْنَا، وَهِيَ إِمَّا لِلْغَرَضِ أَوْ لِلْعَاقِبَةِ، وَالْمُرَادُ بِالِابْتِلَاءِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةً لَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةُ مِنْ غَيْرِهِ لَكَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيُّهُمْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: لِنَمْتَحِنَ أَهَذَا أَحْسَنُ عَمَلًا أَمْ ذَاكَ؟ قَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهُمْ أَزْهَدُ، وَقَالَ مقاتل: أيّهم أصلح
__________
(1) . وعجزه: لشيء نحته عن يديك المقادر.
(2) . البقرة: 29.(3/320)
فيما أوتي من المال، ثُمَّ أَعْلَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مُبِيدٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ وَمُفْنِيهِ، فَقَالَ: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أَيْ: لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ عِنْدَ تَنَاهِي عُمْرِ الدُّنْيَا صَعِيدًا تُرَابًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّعِيدُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْجُرُزُ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نبات فيها، ومن قولهم: امرأة جرزا إذا كانت أكولا، وسيفا جرازا إِذَا كَانَ مُسْتَأْصِلًا، وَجَرُزَ الْجَرَادُ وَالشَّاةُ وَالْإِبِلُ الْأَرْضَ إِذَا أَكَلَتْ مَا عَلَيْهَا. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
طَوَى النَّحْزُ وَالْإِجْرَازُ مَا فِي بُطُونِهَا «1»
...............
وَمَعْنَى النَّظَمِ: لَا تَحْزَنْ يَا مُحَمَّدُ مِمَّا وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّا قَدْ جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لِاخْتِبَارِ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّا لَمُذْهِبُونَ ذَلِكَ عِنْدَ انْقِضَاءِ عُمْرِ الدُّنْيَا فَمُجَازُوهُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ الْآيَةَ قَالَ: أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَدْلًا قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً مُلْتَبِسًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَيِّماً قَالَ: مُسْتَقِيمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ مِنْ لَدُنْهُ أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ حَسَناً يَعْنِيَ الْجَنَّةَ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمِّيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وأبو البختري فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَبُرَ عَلَيْهِ مَا يَرَى مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ، وَإِنْكَارِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ النَّصِيحَةِ، فَأَحْزَنَهُ حُزْنًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ باخِعٌ نَفْسَكَ يَقُولُ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَسَفاً قَالَ:
جَزَعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ أَسَفاً قَالَ: حُزْنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها قَالَ:
الرِّجَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نَصْرٍ السَّجْزِيُّ فِي الْإِبَانَةِ، مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعُلَمَاءُ زِينَةُ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُمُ الرِّجَالُ الْعُبَّادُ الْعُمَّالُ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَقُلْتُ: مَا مَعْنَى ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلًا وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَأَسْرَعُكُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ
__________
(1) . وعجزه: فما بقيت إلا الضلوع الجراشع.
«النحز» : الضرب والدفع. «الجراشع» : الغلاظ، واحدها جرشع.(3/321)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لِيَخْتَبِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قَالَ: أَيُّهُمْ أَتَمُّ عَقْلًا. وَأَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قَالَ: أَشَدُّهُمْ لِلدُّنْيَا تَرْكًا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: أَزْهَدُهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً قَالَ: يُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ وَيُبِيدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الصَّعِيدُ: التُّرَابُ وَالْجِبَالُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يعني بالجرز الخراب.
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 16]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتَ «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَبِبَلْ وَحْدَهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَحَسِبْتَ، أَوْ: بَلْ حَسِبْتَ، وَمَعْنَاهَا الِانْتِقَالُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ آخَرَ، لَا لِإِبْطَالِ الْأَوَّلِ وَالْإِضْرَابِ عَنْهُ كَمَا هُوَ مَعْنَى بَلْ فِي الْأَصْلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا تَعَجَّبُوا مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَسَأَلُوا عَنْهَا الرَّسُولَ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: بَلْ أَظْنَنْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَجَبًا مِنْ آيَاتِنَا فَقَطْ؟
لَا تَحْسَبْ ذَلِكَ فَإِنَّ آيَاتِنَا كُلَّهَا عَجَبٌ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى جَعْلِ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِلِابْتِلَاءِ، ثُمَّ جَعْلِ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، لَا تَسْتَبْعِدْ قُدْرَتَهُ وَحِفْظَهُ وَرَحْمَتَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِصَّتُهُمْ خَارِقَةً لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ آيات الله سبحانه كذلك وفوق ذلك. وعَجَباً مُنْتَصِبَةٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَيْ ذَاتَ عَجَبٍ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ بِالْعَجَبِ مُبَالَغَةً، وَ «مِنْ آياتِنا» في محل نصب على الحال، وإِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ ظَرْفٌ لِحَسِبْتَ أَوْ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ اذْكُرْ، أَيْ: صَارُوا إِلَيْهِ وَجَعَلُوهُ مَأْوَاهُمْ، وَالْفِتْيَةُ هُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، وَالْكَهْفُ: هُوَ الْغَارُ الْوَاسِعُ فِي الْجَبَلِ. فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا سُمِّيَ غَارًا، وَالرَّقِيمُ قَالَ كَعْبٌ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهُ اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَصْحَابُ الْكَهْفِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّهُ لَوْحٌ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ رَصَاصٍ رُقِمَتْ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ جُعِلَ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُرْوَى أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ رَقِيمًا لِأَنَّ أَسْمَاءَهُمْ كَانَتْ مَرْقُومَةً فِيهِ. وَالرَّقْمُ: الْكِتَابَةُ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ فِي أُرْجُوزَةٍ له:
ومستقرّ المصحف المرقّم وَقِيلَ: إِنَّ الرَّقِيمَ اسْمُ كَلْبِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ الْوَادِي الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَقِيلَ: اسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الْغَارُ.(3/322)
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ لَيْسَتْ بِعَجِيبَةٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أَعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي: من عندك، ومن ابتدائية متعلقة بآتنا، أو لمحذوف وَقَعَ حَالًا، وَالتَّنْوِينُ فِي رَحْمَةً إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَتَقْدِيمُ مِنْ لَدُنْكَ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ: رَحْمَةً مُخْتَصَّةً بِأَنَّهَا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ، وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأَمْنُ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَالرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أَيْ: أَصْلِحْ لَنَا، مِنْ قَوْلِكَ هَيَّأْتُ الْأَمْرَ فَتَهَيَّأَ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِمُ الْأَمْرُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وهو مفارقتهم للكفار، والرشد نقيض الضلال، ومن لِلِابْتِدَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّجْرِيدِ كَمَا فِي قَوْلِكَ رَأَيْتُ مِنْكَ رَشَدًا: وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمَا فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَمْنَاهُمْ.
والمعنى: سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمِ الْحِجَابَ تَشْبِيهًا لِلْإِنَامَةِ الثَّقِيلَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُصُولِ الْأَصْوَاتِ إِلَى الْآذَانِ بِضَرْبِ الْحِجَابِ عَلَيْهَا، وفِي الْكَهْفِ ظَرْفٌ لِضَرَبْنَا، وَانْتِصَابُ سِنِينَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وعَدَداً صِفَةٌ لِسِنِينَ أَيْ: ذَوَاتَ عَدَدٍ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَوْ بِمَعْنَى مَعْدُودَةً عَلَى أَنَّهُ لِمَعْنَى الْمَفْعُولُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ وَصْفِ السِّنِينَ بِالْعَدَدِ الْكَثْرَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الشَّيْءَ إِذَا قَلَّ فُهِمَ مِقْدَارُ عَدَدِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْعَدَدِ، وَإِنْ كَثُرَ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُعَدَّ، وَقِيلَ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّقْلِيلُ لِأَنَّ الْكَثِيرَ قَلِيلٌ عِنْدَ اللَّهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «1» . ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أَيْ: أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ تِلْكَ النَّوْمَةِ لِنَعْلَمَ أَيْ: لِيَظْهَرَ مَعْلُومُنَا، وَقُرِئَ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا للفاعل على طريقة الالتفات، وأَيُّ الْحِزْبَيْنِ مُبْتَدَأٌ مُعَلَّقٌ عَنْهُ الْعِلْمُ لِمَا فِي أَيُّ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ، وَخَبَرُهُ أَحْصى وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، قِيلَ:
وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الَّذِي جُعِلَ عِلَّةً لِلْبَعْثِ هُوَ الِاخْتِبَارُ مَجَازًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى بَعَثْنَاهُمْ لِنُعَامِلَهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَخْتَبِرُهُمْ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ظُهُورُ مَعْلُومِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِزْبَيْنِ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ. وَمَعْنَى أَحْصَى: أَضْبَطَ. وَكَأَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ، فَبَعَثَهُمُ اللَّهُ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيَظْهَرَ مَنْ ضَبَطَ الحساب ممن لم يضبطه، وما فِي لِما لَبِثُوا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: أَحْصَى لِلُبْثِهِمْ، وقيل: اللام زائدة، وما: بمعنى الذي، وأَمَداً تَمْيِيزٌ، وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ، وَقِيلَ: إِنَّ أَحْصَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الشَّاذِّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَفْلَسُ مِنِ ابْنِ الْمُذَلَّقِ «2» ، وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مِنَ الْمَزِيدِ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَابْنِ عُصْفُورٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحِزْبَيْنِ هُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ انْتِبَاهِهِمْ كَمْ لَبِثُوا، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ حِزْبٌ وَأَصْحَابَهُمْ حِزْبٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ هَذَا شُرُوعٌ فِي تَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ أي: نحن نخبرك بِالْحَقِّ، أَيْ: قَصَصْنَاهُ بِالْحَقِّ، أَوْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ أي: أحداث شبان، وآمَنُوا بِرَبِّهِمْ صِفَةٌ لِفِتْيَةٍ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ،
__________
(1) . الحج: 47.
(2) . ابن المذلق: من عبد شمس، لم يكن يجد بيت ليلة، ولا أبوه، ولا أجداده، فقيل: أفلس من ابن المذلّق.(3/323)
والفتية جمع قلّة، وزِدْناهُمْ هُدىً بِالتَّثْبِيتِ وَالتَّوْفِيقِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَيْ: قَوَّيْنَاهَا بِالصَّبْرِ عَلَى هَجْرِ الْأَهْلِ وَالْأَوْطَانِ، وَفِرَاقِ الْخِلَّانِ وَالْأَخْدَانِ إِذْ قامُوا الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِرَبَطْنَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذَا الْقِيَامِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا وَرَاءَ الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ هُوَ أَكْبَرُ الْقَوْمِ: إِنِّي لَأَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا، إِنَّ رَبِّي رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَالُوا: وَنَحْنُ أَيْضًا كَذَلِكَ نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا، فَقَامُوا جَمِيعًا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ كَانَ لَهُمْ مَلِكٌ جَبَّارٌ يُقَالُ لَهُ دِقْيَانُوسُ، وَكَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ الطَّوَاغِيتِ، فَثَبَّتَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ وَعَصَمَهُمْ حَتَّى قَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ: إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عند قيامهم من النوم لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أَيْ: لَنْ نَعْبُدَ مَعْبُودًا آخَرَ غَيْرَ اللَّهِ لَا اشْتِرَاكًا وَلَا اسْتِقْلَالًا لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أَيْ: قَوْلًا ذَا شَطَطٍ، أَوْ قَوْلًا هُوَ نَفْسُ الشَّطَطِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ بِالْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ وَاللَّامُ هِيَ الْمُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ، والشطط: الغلو ومجاوزة الحد. قال أعشى بني قَيْسٍ:
أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفَتْلُ
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً هَؤُلَاءِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ اتَّخَذُوا، وَقَوْمُنَا عَطْفُ بَيَانٍ، وَفِي هَذَا الْإِخْبَارِ مَعْنَى للإنكار، وَفِي الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ تَحْقِيرٌ لَهُمْ لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أَيْ: هَلَّا يَأْتُونَ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ تَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا فِي الْعِبَادَةِ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أَيْ: فَارَقْتُمُوهُمْ وَتَنَحَّيْتُمْ عَنْهُمْ جَانِبًا، أَيْ: عَنِ الْعَابِدِينَ لِلْأَصْنَامِ، وَقَوْلُهُ: وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، و «ما» موصولة أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَاعْتَزَلْتُمْ مَعْبُودَهُمْ أَوِ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا إِلَّا الأصنام، أو متّصل على تقدير أنهم أشركوها فِي الْعِبَادَةِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: هُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِهِ، أَيْ: إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمُ اعْتِزَالًا اعْتِقَادِيًا، فَاعْتَزِلُوهُمُ اعْتِزَالًا جُسْمَانِيًّا، وَإِذَا أَرَدْتُمُ اعْتِزَالَهُمْ فَافْعَلُوا ذَلِكَ بِالِالْتِجَاءِ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيْ: يَبْسُطْ وَيُوَسِّعْ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً أَيْ: يُسَهِّلْ وَيُيَسِّرْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ بِصَدَدِهِ مِرفَقاً الْمِرْفَقُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا، مَأْخُوذٌ مِنْ الِارْتِفَاقِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَقِيلَ: فَتْحُ الْمِيمِ أَقْيَسُ، وَكَسْرُهَا أَكْثَرُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ عَلَى كَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْأَمْرِ، وَمِنْ مِرْفَقِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ تَفْتَحُ الْعَرَبُ الْمِيمَ فِيهِمَا، فَهُمَا لُغَتَانِ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ فَتَحُوا أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمِرْفَقِ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْمِرْفَقِ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْكَسْرُ فِي مِرْفَقِ الْيَدِ، وَقِيلَ: الْمِرْفَقُ بِالْكَسْرِ مَا ارْتَفَقْتَ بِهِ، وَالْمَرْفَقُ: بِالْفَتْحِ الْأَمْرُ الرَّافِقُ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَرْتَفِقُونَ بِهِ وَيَنْتَفِعُونَ بِحُصُولِهِ، وَالتَّقْدِيمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّقِيمُ: الْكِتَابِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ قَالَ: الرَّقِيمُ: وَادٍ دُونَ فِلَسْطِينَ قَرِيبٌ مِنْ أَيْلَةَ. وَالرَّاوِيَانِ(3/324)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا الرَّقِيمُ الْكِتَابُ أَمْ بُنْيَانٌ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى قَالَ:
وَسَأَلْتُ كَعْبًا فَقَالَ: اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: الرَّقِيمُ: الْكَلْبُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً يَقُولُ: الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ يَقُولُ: أَرْقَدْنَاهُمْ ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ مِنْ قَوْمِ الْفِتْيَةِ، أَهْلِ الْهُدَى، وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ أَحْصى لِما لَبِثُوا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَتَبُوا الْيَوْمَ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ وَالشَّهْرَ وَالسَّنَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: وَزِدْناهُمْ هُدىً قَالَ: إِخْلَاصًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قَالَ: بِالْإِيمَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً قَالَ: كَذِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: جَوْرًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ قَالَ: كَانَ قَوْمُ الْفِتْيَةِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً شَتَّى، فَاعْتَزَلَتِ الْفِتْيَةُ عِبَادَةَ تِلْكَ الْآلِهَةِ وَلَمْ تَعْتَزِلْ عِبَادَةَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الآي قَالَ: هِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَا يعبدون من دون الله، فهذا تفسيرها.
[سورة الكهف (18) : الآيات 17 الى 20]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)
قَوْلُهُ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ، بَعْدَ مَا أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ تَتَزاوَرُ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِحَذْفِ تَاءِ التَّفَاعُلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «تَزْوَرُّ» قَالَ الْأَخْفَشُ: لَا يُوضَعُ الْازْوِرَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِنَّمَا يُقَالُ هُوَ مُزْوَرٌّ عَنِّي، أَيْ: مُنْقَبِضٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَإِدْغَامِ تَاءِ التَّفَاعُلِ فِيهِ بَعْدَ تَسْكِينِهَا، وَتَزَاوَرَ مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّوَرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْمَيْلُ، وَمِنْهُ زَارَهُ إِذَا مَالَ إِلَيْهِ، وَالزَّوَرُ: الْمَيْلُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تميل وتتنحّى عَنْ كَهْفِهِمْ، قال الرّاجز الكليبي:
جدب المندّى عَنْ هَوَانَا أَزْوَرُ أَيْ: مَائِلٌ ذاتَ الْيَمِينِ أَيْ: نَاحِيَةِ الْيَمِينِ، وَهِيَ الْجِهَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْيَمِينِ، وَانْتِصَابُ ذَاتَ عَلَى الظَّرْفِ،(3/325)
وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ الْقَرْضُ: الْقَطْعُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: تَعْدِلُ عَنْهُمْ وَتَتْرُكُهُمْ، قَرَضْتُ الْمَكَانَ: عَدَلْتَ عَنْهُ، تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: هَلْ وَرَدْتَ مَكَانَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: إِنَّمَا قَرَضْتُهُ:
إِذَا مَرَّ بِهِ وَتَجَاوَزَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مَالَتْ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ أَيْ: يَمِينِ الْكَهْفِ، وَإِذَا غَرَبَتْ تَمُرُّ ذاتَ الشِّمالِ أَيْ: شِمَالِ الْكَهْفِ لَا تُصِيبُهُ. بَلْ تَعْدِلُ عَنْ سِمَتِهِ إِلَى الْجِهَتَيْنِ، وَالْفَجْوَةُ:
الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ فِي مَكَانٍ مُنْفَتِحٍ انْفِتَاحًا وَاسِعًا فِي ظِلِّ جَمِيعِ نَهَارِهِمْ، لَا تُصِيبُهُمُ الشَّمْسُ فِي طُلُوعِهَا وَلَا فِي غُرُوبِهَا لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَجَبَهَا عَنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَابَ ذَلِكَ الْكَهْفِ كَانَ مَفْتُوحًا إِلَى جَانِبِ الشِّمَالِ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كَانَتْ عَنْ يَمِينِ الْكَهْفِ، وَإِذَا غَرَبَتْ كَانَتْ عَنْ يَسَارِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ فَإِنَّ صَرْفَ الشَّمْسِ عَنْهُمْ مَعَ تَوَجُّهِ الْفَجْوَةِ إِلَى مَكَانٍ تَصِلُ إِلَيْهِ عَادَةً أَنْسَبُ بِمَعْنَى كَوْنِهَا آيَةً، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا إِطْلَاقُ الْفَجْوَةِ وَعَدَمُ تَقْيِيدِهَا بِكَوْنِهَا إِلَى جِهَةِ كَذَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَجْوَةَ الْمَكَانُ الْوَاسِعُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلْبَسْتَ قَوْمَكَ مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً ... حتى أبيحوا وحلّوا فجوة الدّار
ثم أثنى سبحانه عليه بِقَوْلِهِ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ أَيْ: إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ الْمُهْتَدِ الَّذِي ظَفِرَ بِالْهُدَى، وَأَصَابَ الرُّشْدَ وَالْفَلَاحَ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أَيْ: نَاصِرًا يَهْدِيهِ إِلَى الْحَقِّ كَدِقْيَانُوسَ وَأَصْحَابِهِ.
ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ طَرَفًا آخَرَ مِنْ غَرَائِبِ أَحْوَالِهِمْ، فَقَالَ: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً جَمْعُ يَقِظٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا وَهُمْ رُقُودٌ أَيْ: نِيَامٌ، وَهُوَ جَمْعُ رَاقِدٍ، كَقُعُودٍ فِي قَاعِدٍ. قِيلَ: وَسَبَبُ هَذَا الْحُسْبَانِ أَنَّ عُيُونَهُمْ كَانَتْ مُفَتَّحَةً وَهُمْ نِيَامٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِمْ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أَيْ: نُقَلِّبُهُمْ فِي رَقْدَتِهِمْ إِلَى الْجِهَتَيْنِ لِئَلَّا تَأْكُلَ الْأَرْضُ أَجْسَادَهُمْ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ لَيْلًا، فَمَرُّوا براع معه كلب فتبعهم. والوصيد، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ فِنَاءُ الْبَابِ، وَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَقِيلَ:
الْعَتَبَةُ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْكَهْفَ لَا يَكُونُ لَهُ عَتَبَةٌ وَلَا بَابٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْكَلْبَ مَوْضِعُ الْعَتَبَةَ مِنَ الْبَيْتِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً قَالَ الزَّجَّاجُ: فِرَارًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِمَعْنَى التَّوْلِيَةِ، وَالْفِرَارُ: الْهَرَبُ.
وَلَمُلِئْتَ قُرِئَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا مِنْهُمْ رُعْباً قُرِئَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا، أَيْ: خَوْفًا يَمْلَأُ الصَّدْرَ، وَانْتِصَابُ رُعْبًا عَلَى التَّمْيِيزِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَسَبَبُ الرُّعْبِ الْهَيْبَةُ الَّتِي أَلْبَسَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا وقيل:
طول أظفارهم وشعور هم وَعِظَمُ أَجْرَامِهِمْ وَوَحْشَةُ مَكَانِهِمْ، وَيَدْفَعُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا مِنْ حَالِهِمْ شَيْئًا، وَلَا وَجَدُوا مِنْ أَظْفَارِهِمْ وَشُعُورِهِمْ مَا يدلّ على طول المدّة وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَيْ: وَكَمَا فَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَا مِنَ الْكَرَامَاتِ بَعَثْنَاهُمْ مِنْ نَوْمِهِمْ، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِمَاتَةِ وَالْبَعْثِ جَمِيعًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَمْرَ الَّذِي لِأَجْلِهِ بعثهم فقال:
لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أَيْ: لِيَقَعَ التَّسَاؤُلُ بَيْنَهُمْ وَالِاخْتِلَافُ وَالتَّنَازُعُ فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ من(3/326)
انْكِشَافِ الْحَالِ وَظُهُورِ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى عِلَّةِ التَّسَاؤُلِ لَا يَنْفِي غَيْرَهَا، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ لِاسْتِتْبَاعِهِ لِسَائِرِ الْآثَارِ، وَجُمْلَةُ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ التَّسَاؤُلِ، أَيْ: كَمْ مُدَّةُ لُبْثِكُمْ فِي النَّوْمِ؟
قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرَ مَا يَعْهَدُونَهُ فِي الْعَادَةِ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مَنْ سَأَلَ مِنْهُمْ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ دَخَلُوا الْكَهْفَ غُدْوَةً، وَبَعَثَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آخِرَ النَّهَارِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا يَوْمًا، فَلَمَّا رَأَوُا الشَّمْسَ قَالُوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنَ النَّهَارِ، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ فِي قِصَّةِ عُزَيْرٍ فِي الْبَقَرَةِ: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ، أَيْ: قَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ هَذَا الْقَوْلَ، إِمَّا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ إِلْهَامًا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ مُدَّةَ لُبْثِكُمْ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَعْرَضُوا عَنِ التَّحَاوُرِ فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ، وَأَخَذُوا فِي شَيْءٍ آخَرَ، كَأَنَّهُ قَالَ الْقَائِلُ مِنْهُمْ: اتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ، وَخُذُوا فِي شَيْءٍ آخَرَ مِمَّا يُهِمُّكُمْ، وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْوَرِقُ الْفِضَّةُ مَضْرُوبَةٌ أَوْ غَيْرُ مَضْرُوبَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِسُكُونِهَا، وَقُرِئَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَفِي حَمْلِهِمْ لِهَذِهِ الْوَرِقِ مَعَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِمْسَاكَ بَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ، والمدينة دَقْسْوسُ، وَهِيَ مَدِينَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، وَيُقَالُ لَهَا الْيَوْمَ طَرَسُوسُ، كَذَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أَيْ: يَنْظُرْ أَيَّ أَهْلِهَا أَطْيَبَ طَعَامًا، وَأَحَلَّ مَكْسَبًا، أَوْ أَرْخَصَ سِعْرًا وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الْأَطْعِمَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا فِي الْمَقَامِ، كَمَا يُقَالُ:
زَيْدٌ طِبْتَ أَبًا عَلَى أَنَّ الْأَبَ هُوَ زَيْدٌ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى حِلِّ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانُوا كُفَّارًا، وَفِيهِمْ قَوْمٌ يُخْفُونَ إِيمَانَهُمْ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الطَّعَامَ يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الطَّعَامِ وَلْيَتَلَطَّفْ أَيْ: يُدَقِّقِ النَّظَرَ حَتَّى لَا يُعْرَفَ أَوْ لَا يغبن، والأوّل أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أَيْ: لَا يَفْعَلَنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الشُّعُورِ وَيَتَسَبَّبُ لَهُ، فَهَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ التَّأْكِيدَ لِلْأَمْرِ بِالتَّلَطُّفِ. ثُمَّ عَلَّلَ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أَيْ: يَطَّلِعُوا عَلَيْكُمْ وَيَعْلَمُوا بِمَكَانِكُمْ، يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَرْجُمُوكُمْ يَقْتُلُوكُمْ بِالرَّجْمِ، وَهَذِهِ الْقَتْلَةُ هِيَ أَخْبَثُ قَتْلَةٍ، وكان ذلك عَادَةً لَهُمْ، وَلِهَذَا خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ مَا يَقَعُ بِهِ الْقَتْلُ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أَيْ: يَرُدُّوكُمْ إِلَى مِلَّتِهِمُ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَهْدِيَكُمُ اللَّهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْعَوْدِ هُنَا الصَّيْرُورَةُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ، وَإِيثَارُ كَلِمَةِ فِي عَلَى كَلِمَةِ إِلَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً فِي إِذًا مَعْنَى الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قَالَ:
إِنْ رَجَعْتُمْ إِلَى دِينِهِمْ فَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تَتَزاوَرُ قَالَ: تَمِيلُ، وَفِي قَوْلِهِ: تَقْرِضُهُمْ قَالَ: تَذَرُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
تَقْرِضُهُمْ قَالَ: تَتْرُكُهُمْ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ قَالَ: الْمَكَانُ الدَّاخِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: الْفَجْوَةُ: الْخَلْوَةُ مِنَ الْأَرْضِ، وَيَعْنِي بِالْخَلْوَةِ: النَّاحِيَةَ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ(3/327)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُهُمْ الْآيَةَ قَالَ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ عَلَى ذِي الْجَنْبِ الْيَمِينِ، وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ عَلَى ذِي الْجَنْبِ الشِّمَالِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَيْ لَا تَأْكُلَ الْأَرْضُ لُحُومَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ اسْمَ كَلْبِهِمْ قطمور. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: اسْمُهُ قِطْمِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِالْوَصِيدِ قَالَ: بِالْفِنَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: بِالْبَابِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَزْكى طَعاماً قَالَ: أَحَلُّ ذَبِيحَةً، وَكَانُوا يَذْبَحُونَ لِلطَّوَاغِيتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَزْكى طَعاماً: يَعْنِي أَطْهَرَ لأنهم كانوا يذبحون للطّواغيت.
[سورة الكهف (18) : الآيات 21 الى 26]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أَيْ: وَكَمَا أَنَمْنَاهُمْ وَبَعَثْنَاهُمْ، أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ أَيْ أَطْلَعْنَا النَّاسَ عَلَيْهِمْ، وَسَمَّى الْإِعْلَامَ إِعْثَارًا لِأَنَّ مَنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ شَيْءٍ فَعَثَرَ بِهِ نَظَرَ إِلَيْهِ وَعَرَفَهُ، فَكَانَ الْإِعْثَارُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ: لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أَعْثَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّ وَعَدَ اللَّهِ بِالْبَعْثِ حَقٌّ. قِيلَ: وَكَانَ مَلِكُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، فَأَرَاهُ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. قِيلَ: وَسَبَبُ الْإِعْثَارِ عَلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي بَعَثُوهُ بِالْوَرِقِ، وَكَانَتْ مِنْ ضَرْبَةِ «1» دِقْيَانُوسَ، إِلَى السُّوقِ، لَمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّوقِ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ وَجَدَ كَنْزًا، فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ وَجَدْتَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ؟ قَالَ: بِعْتُ بِهَا أَمْسَ شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ، فَعَرَفَ الْمَلِكُ صِدْقَهُ، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَرَكِبَ الْمَلِكُ وَرَكِبَ أَصْحَابُهُ مَعَهُ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْكَهْفِ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها أَيْ: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْقِيَامَةَ لَا شَكَّ فِي حُصُولِهَا، فَإِنَّ مَنْ شَاهَدَ حَالَ أَهْلِ الْكَهْفِ عَلِمَ صِحَّةَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْثَرْنَا، أَيْ: أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ وَقْتَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَعْثَرَهُمُ اللَّهُ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ وَقِيلَ: فِي أَمْرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فِي
__________
(1) . ضرب الدرهم: سكّه وطبعه.(3/328)
قَدْرِ مُكْثِهِمْ، وَفِي عَدَدِهِمْ، وَفِيمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ أَنِ اطَّلَعُوا عَلَيْهِمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا وَقَفُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ أَمَاتَ اللَّهُ الْفِتْيَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا يَسْتُرُهُمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ حَاكِيًا لِقَوْلِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِمْ وَفِي عَدَدِهِمْ، وَفِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ، وَفِي نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِمْ، قَالُوا ذَلِكَ تَفْوِيضًا لِلْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، رَدًّا لِقَوْلِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِمْ أَيْ: دَعُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ التَّنَازُعِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْكُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الظَّرْفَ فِي إِذْ يَتَنازَعُونَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ اذْكُرْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْإِعْثَارَ لَيْسَ فِي زَمَنِ التَّنَازُعِ بَلْ قَبْلَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مَا زَالُوا مُتَنَازِعِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، مُنْذُ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ إِلَى وَقْتِ الْإِعْثَارِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ خَبَرَهُمْ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ الغار، كتبه بعض المعاصرون لَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُخْفُونَ إِيمَانَهُمْ كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ذِكْرُ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ يُشْعِرُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ هُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ السُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ مِنَ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى أَمْرِ مَنْ عَدَاهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ:
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهُمْ غَلَبَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلْمُؤْمِنِينَ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمْ ثَلَاثَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ سَبْعَةٌ، هُمُ الْمُتَنَازِعُونَ فِي عَدَدِهِمْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا قَالُوا جَمِيعَ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِكَذَا، وَبَعْضُهُمْ بِكَذَا، وَبَعْضُهُمْ بِكَذَا ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ أَيْ: هُمْ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ، وَجُمْلَةُ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ كَلْبِهِمْ جَاعِلَهُمْ أَرْبَعَةً بِانْضِمَامِهِ إِلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَا قَبْلَهُ، وَانْتِصَابُ رَجْماً بِالْغَيْبِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: رَاجِمِينَ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: يَرْجُمُونَ رَجْمًا، وَالرَّجْمُ بِالْغَيْبِ: هُوَ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ وَالْحَدْسِ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ، وَالْمَوْصُوفُونَ بِالرَّجْمِ بِالْغَيْبِ هُمْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْقَائِلَيْنِ بِأَنَّهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّهُمْ خَمْسَةٌ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ كَأَنَّ قَوْلَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ بِدَلَالَةِ عَدَمِ إِدْخَالِهِمْ فِي سِلْكِ الرَّاجِمِينَ بِالْغَيْبِ. قِيلَ: وَإِظْهَارُ الْوَاوِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُرَادَةٌ فِي الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَوْلُهُ: رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَسَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، جُمْلَتَانِ اسْتُغْنِيَ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ فِيهِمَا بِمَا تَضَمَّنَتَا مِنْ ذِكْرِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ ثَلَاثَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ ثَلَاثَةٌ، هَكَذَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ فِي دُخُولِ الْوَاوِ فِي وَثَامِنُهُمْ وَإِخْرَاجِهَا مِنَ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: هِيَ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَإِنَّ ذِكْرَهُ مُتَدَاوَلٌ عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ إِذَا وَصَلُوا إِلَى الثَّمَانِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وقوله: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي عَدَدِهِمْ بِمَا يَقْطَعُ التَّنَازُعَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ:
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُخْتَلِفُونَ، ثُمَّ أَثْبَتَ عِلْمَ ذَلِكَ لِقَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: مَا يَعْلَمُهُمْ أَيْ: يَعْلَمُ ذَوَاتِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَدَدِهِمْ، أَوْ مَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجِدَالِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَقَالَ: فَلا تُمارِ(3/329)
فِيهِمْ
الْمِرَاءُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَالُ: يُقَالُ مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً، أَيْ: جَادَلَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ مِنَ الْمِرَاءِ مَا كَانَ ظَاهِرًا وَاضِحًا فَقَالَ: إِلَّا مِراءً ظاهِراً أَيْ: غَيْرَ مُتَعَمَّقٍ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَقُصَّ عَلَيْهِمْ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَحَسْبُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: هُوَ أَنْ لَا يُكَذِّبَهُمْ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، بَلْ يَقُولُ هَذَا التَّعْيِينُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ، ثُمَّ نَهَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الِاسْتِفْتَاءِ فِي شَأْنِهِمْ فَقَالَ: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أَيْ:
لَا تَسْتَفْتِ فِي شَأْنِهِمْ مِنَ الْخَائِضِينَ فِيهِمْ أَحْدًا مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْمُفْتِيَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنَ الْمُسْتَفْتِي، وَهَاهُنَا الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَلَا سِيَّمَا فِي وَاقِعَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَفِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ مَا يُغْنِيكَ عَنْ سُؤَالِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً أَيْ: لِأَجْلِ شَيْءٍ تَعْزِمُ عَلَيْهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْغَدِ، وَلَمْ يُرِدِ الْغَدَ بِعَيْنِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْغَدُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمَّا سَأَلَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ خَبَرِ الْفِتْيَةِ فَقَالَ: أُخْبِرُكُمْ غَدًا، وَلَمْ يَقِلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاحْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْهُ حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَأْمُرُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ يَقُولُ: إِذَا قُلْتَ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، فَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: لَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَضْمَرَ الْقَوْلَ وَلَمَّا حَذَفَ تَقُولُ نَقْلَ شَاءَ إِلَى لَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ، قِيلَ: وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، أَيْ: لَا تَقُولَنَّ ذَلِكَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، إِلَّا حَالَ مُلَابَسَتِهِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا وَقْتَ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقُولَهُ مُطْلَقًا وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ جَارٍ مَجْرَى التَّأْبِيدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَقُولَنَّهُ أَبَدًا كَقَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» لِأَنَّ عَوْدَهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ مِمَّا لَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَيْ: فَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ إِلْحَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَاذْكُرْ رَبَّكَ بالاستغفار إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ مِنْ هَذَا هُوَ نَبَأُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ عَسَى أَنْ يُوَفِّقَنِي رَبِّي لِشَيْءٍ أَقْرَبَ مِنْ هَذَا النَّبَأِ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات عَلَى النُّبُوَّةِ مَا يَكُونُ أَقْرَبَ فِي الرَّشَدِ، وَأَدَلَّ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ حَيْثُ آتَاهُ مِنْ عِلْمِ غُيُوبِ الْمُرْسَلِينَ وَخَبَرِهِمْ مَا كَانَ أَوْضَحَ فِي الْحُجَّةِ، وَأَقْرَبَ إِلَى الرَّشَدِ مَنْ خَبَرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أَيْ: عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي عِنْدَ هَذَا النِّسْيَانِ لِشَيْءٍ آخَرَ بَدَلَ هَذَا الْمَنْسِيِّ، وَأَقْرَبَ مِنْهُ رَشَدًا وَأَدْنَى مِنْهُ خَيْرًا وَمَنْفَعَةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ مِائَةٍ وَنَصْبِ سِنِينَ، فَيَكُونُ سِنِينَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ وَالْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، والتقدير سنين ثلاثمائة. وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِإِضَافَةِ مِائَةٍ إِلَى سِنِينَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ سِنِينَ تَمْيِيزًا عَلَى وَضْعِ الْجَمْعِ مَوْضِعَ الْوَاحِدِ فِي التَّمْيِيزِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا «2» . قال الفراء: ومن العرب من يضع
__________
(1) . الأعراف: 89.
(2) . الكهف: 103.(3/330)
سِنِينَ مَوْضِعَ سَنَةٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذِهِ الْأَعْدَادُ الَّتِي تُضَافُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى الآحاد نحو ثلاثمائة رَجُلٍ وَثَوْبٍ قَدْ تُضَافُ إِلَى الْمَجْمُوعِ، وَفِي مصحف عبد الله «ثلاثمائة سَنَةٍ» . وَقَالَ الْأَخْفَشُ: لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ مائة سنين. وقرأ الضحّاك «ثلاثمائة سُنُونَ» بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «تِسْعًا» بِكَسْرِ التَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِهَا، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اخْتَلَفُوا فِيمَا مَضَى لَهُمْ مِنَ الْمُدَّةِ بَعْدَ الْإِعْثَارِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ لَبِثُوا ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ هَذِهِ الْمُدَّةَ فِي كَوْنِهِمْ نِيَامًا، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر، فأمر اللَّهُ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَقَوْلُهُ عَلَى هَذَا لَبِثُوا الْأَوَّلُ يُرِيدُ فِي يَوْمِ الْكَهْفِ، وَلَبِثُوا الثَّانِي يُرِيدُ بَعْدَ الْإِعْثَارِ عَلَيْهِمْ إِلَى مُدَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَوْ إِلَى أَنْ مَاتُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَازْدَادُوا تِسْعاً لَمْ يَدْرِ النَّاسُ أَهْيَ سَاعَاتٌ أَمْ أَيَّامٌ أَمْ جُمَعٌ أَمْ شُهُورٌ أَمْ أَعْوَامٌ، وَاخْتَلَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ فِي التِّسْعِ، فَهِيَ عَلَى هَذَا مُبْهَمَةٌ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَفْهُومِ بِحَسَبِ لُغَتِهِمْ أَنَّ التِّسْعَ أَعْوَامٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ العدد في هذه الْكَلَامِ لِلسِّنِينَ لَا لِلشُّهُورِ وَلَا لِلْأَيَّامِ وَلَا لِلسَّاعَاتِ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَتِسْعُ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الزَّجَّاجِ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيبِ. ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ اخْتِصَاصَهُ بِعِلْمِ مَا لَبِثُوا بِقَوْلِهِ: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: مَا خَفِيَ فِيهِمَا وَغَابَ مِنْ أَحْوَالِهِمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، ثُمَّ زَادَ فِي الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ فَجَاءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ إِدْرَاكِهِ لِلْمُبْصَرَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، فَقَالَ: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ فَأَفَادَ هَذَا التَّعَجُّبُ عَلَى أَنَّ شَأْنَهُ سُبْحَانَهُ فِي عِلْمِهِ بِالْمُبْصَرَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ خَارِجٌ عَمَّا عَلَيْهِ إِدْرَاكُ الْمُدْرِكِينَ، وَأَنَّهُ يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ الْغَائِبُ وَالْحَاضِرُ، وَالْخَفِيُّ وَالظَّاهِرُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَاللَّطِيفُ وَالْكَثِيفُ، وَكَأَنَّ أَصْلَهُ مَا أَبْصَرَهُ وَمَا أَسْمَعَهُ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْإِنْشَاءِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَخَالَفَهُ الْأَخْفَشُ، وَالْبَحْثُ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ الضمير لأهل السموات وَالْأَرْضِ، وَقِيلَ: لِأَهْلِ الْكَهْفِ، وَقِيلَ: لِمُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ، أَيْ: مَا لَهُمْ مِنْ مُوَالٍ يُوَالِيهِمْ أَوْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ أَوْ يَنْصُرُهُمْ، وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِغَايَةِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّ الْكُلَّ تَحْتَ قَهْرِهِ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً قرأ الجمهور برفع الكاف في يشرك عَلَى الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم أن يجعل الله شَرِيكًا فِي حُكْمِهِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْجَزْمِ. قَالَ يَعْقُوبُ: لَا أَعْرِفُ وَجْهَهَا، وَالْمُرَادُ بِحُكْمِ اللَّهِ:
مَا يَقْضِيهِ، أَوْ عِلْمُ الْغَيْبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيَدْخُلُ عِلْمُ الْغَيْبِ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَإِنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ جُمْلَةِ قَضَائِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ قَالَ: أَطْلَعْنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ قَالَ: الْأُمَرَاءُ، أَوْ قَالَ:
السَّلَاطِينُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ قَالَ: الْيَهُودُ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ قَالَ: النَّصَارَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: رَجْماً بِالْغَيْبِ قَالَ:(3/331)
قَذْفًا بِالظَّنِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ قَالَ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، كَانُوا سَبْعَةً. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، فِي قَوْلِهِ: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ قال: أنا من أُولَئِكَ الْقَلِيلِ، كَانُوا سَبْعَةً، ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ. وَحَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُمارِ فِيهِمْ يَقُولُ: حَسْبُكَ مَا قَصَصْتُ عَلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً قَالَ: الْيَهُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ الْآيَةَ قَالَ: إِذَا نَسِيتَ أَنْ تَقُولَ لِشَيْءٍ إِنِّي أَفْعَلُهُ فَنَسِيتَ أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُلْ إِذَا ذَكَرْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، ثُمَّ قَرَأَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ خَاصَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِلَّا فِي صِلَةِ يَمِينٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ مَوْصُولٍ فَلَا حِنْثَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مَوْصُولٍ فَهُوَ حَانِثٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، وَفِي رِوَايَةٍ: تِسْعِينَ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ فَلَمْ يَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عِكْرِمَةَ إِذا نَسِيتَ قَالَ: إِذَا غَضِبْتَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ الْحَسَنِ إِذا نَسِيتَ قَالَ: إِذَا لَمْ تَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفَسِّرُ الْآيَةَ يَرَى أَنَّهَا كَذَلِكَ فَيَهْوِي أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ تَلَا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: كَمْ لَبِثَ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: ثَلَاثَمِائَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ، قَالَ: لَوْ كَانُوا لَبِثُوا كَذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وَلَكِنَّهُ حَكَى مَقَالَةَ الْقَوْمِ فَقَالَ:
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: رَجْماً بِالْغَيْبِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ قَالَ: سَيَقُولُونَ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن قَتَادَةَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالُوا: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الْآيَةَ: يَعْنِي إِنَّمَا قَالَهُ النَّاسُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّامًا أَمْ أَشْهُرًا أَمْ سِنِينَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ بِدُونِ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ قَالَ: الله يقوله.(3/332)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
[سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31]
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
قَوْلُهُ: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى تِلَاوَةِ الْكِتَابِ الْمُوحَى إِلَيْهِ، قِيلَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاتْلُ وَاتَّبِعْ، أَمْرًا مِنَ التِّلْوِ، لَا من التلاوة، ومِنْ كِتابِ رَبِّكَ بَيَانٌ لِلَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أَيْ: لَا قَادِرَ عَلَى تَبْدِيلِهَا وَتَغْيِيرِهَا، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ وَحْدَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ فَلَا مُبَدِّلَ لَهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا مُبَدِّلَ لِحُكْمِ كَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً الْمُلْتَحَدُ: الْمُلْتَجَأُ، وَأَصْلُ اللَّحْدِ: الْمَيْلُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَنْ تَجِدَ مَعْدِلًا عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَتْبَعِ الْقُرْآنَ وَتَتْلُهُ، وَتَعْمَلْ بِأَحْكَامِهِ لَنْ تَجِدَ مَعْدِلًا تَعْدِلُ إِلَيْهِ وَمَكَانًا تَمِيلُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ آخِرُ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي نَوْعٍ آخَرَ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ نهيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ طَرْدِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ «1» وَأَمَرَهُ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا بِأَنْ يَحْبِسَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ، فَصَبْرُ النَّفْسِ هُوَ حَبْسُهَا، وَذِكْرُ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ كِنَايَةٌ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. وَقِيلَ: فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ عَامِرٍ «بِالْغَدْوَةِ» بِالْوَاوِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ مَكْتُوبَةٌ بِالْوَاوِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ لِكَتْبِهِمُ الْحَيَاةَ وَالصَّلَاةَ بِالْوَاوِ، وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ الْغَدْوَةَ، وَمَعْنَى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِدُعَائِهِمْ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ لِأَحْوَالِهِمْ، فَقَالَ: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أَيْ: لَا تَتَجَاوَزْ عَيْنَاكَ إِلَى غَيْرِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لَا تَصْرِفْ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَصْرِفْ بَصَرَكَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَالزِّينَةِ، وَاسْتِعْمَالُهُ بِ «عَنْ» لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى النُّبُوِّ، مِنْ عَدَوْتُهُ عَنِ الْأَمْرِ، أَيْ: صَرَفْتُهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَحْتَقِرْهُمْ عَيْنَاكَ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: مُجَالَسَةَ أَهْلِ الشَّرَفِ وَالْغِنَى، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ مُرِيدًا لِذَلِكَ، هَذَا إِذَا كَانَ فَاعِلُ تُرِيدُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا يَعُودُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، فَالتَّقْدِيرُ: مُرِيدَةً زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِسْنَادُ الإرادة إلى العينين مجاز، وتوحيد
__________
(1) . الأنعام: 52.(3/333)
الضمير للتلازم كقول الشاعر:
لمن زحلوقة زلّ ... بِهَا الْعَيْنَانِ تَنْهَلُّ
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أَيْ: جَعَلْنَاهُ غَافِلًا بِالْخَتْمِ عَلَيْهِ، نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَاعَةِ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِهِ، كَأُولَئِكَ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْهُ أن ينحّي الفقراء عن مجلسه، فإنهم طالبو تَنْحِيَةَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَعَ هَذَا فَهُمْ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَآثَرَهُ عَلَى الْحَقِّ، فَاخْتَارَ الشِّرْكَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أَيْ: مُتَجَاوِزًا عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ فَرْطٌ إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا لِلْخَيْلِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنَ الْإِفْرَاطِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّفْرِيطِ، وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالتَّضْيِيعُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ قَدَّمَ الْعَجْزَ فِي أَمْرِهِ أَضَاعَهُ وَأَهْلَكَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُهُ لِأُولَئِكَ الْغَافِلِينَ، فَقَالَ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ، وَأُمِرْتَ بِتِلَاوَتِهِ، هُوَ الْحَقُّ الْكَائِنُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ، لَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ حَتَّى يُمْكِنَ فِيهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ الصَّبْرُ مَعَ الْفُقَرَاءِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ: الَّذِي أَتَيْتُكُمْ بِهِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ يَعْنِي لَمْ آتِكُمْ بِهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ قِيلَ: هُوَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا قَبْلَهَا عَلَى مَا بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَبَعْدَ أَنْ تَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ شَاءَ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَيُصَدِّقَكَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ وَيُكَذِّبَكَ فَلْيَكْفُرْ. ثُمَّ أَكَّدَ الْوَعِيدَ وَشَدَّدَهُ فَقَالَ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أَيْ: أَعْدَدْنَا وَهَيَّأْنَا لِلظَّالِمِينَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَالْجَحْدَ لَهُ وَالْإِنْكَارَ لِأَنْبِيَائِهِ نَارًا عَظِيمَةً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أَيِ: اشْتَمَلَ عَلَيْهِمْ. وَالسُّرَادِقُ: وَاحِدُ السُّرَادِقَاتِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهِيَ الَّتِي تُمَدُّ فَوْقَ صَحْنِ الدَّارِ، وَكُلُّ بَيْتٍ مِنْ كُرْسُفٍ «1» فَهُوَ سُرَادِقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
يَا حَكَمُ بْنَ المنذر بن الجارود ... سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
هُوَ الْمُدْخِلُ النُّعْمَانَ بَيْتًا سَمَاؤُهُ ... صُدُورُ الْفُيُولِ بَعْدَ بيت مسردق
يقوله سلامة بْنُ جَنْدَلٍ لَمَّا قَتَلَ مَلِكُ الْفُرْسِ مَلِكَ الْعَرَبِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ تَحْتَ أَرْجُلِ الْفِيَلَةِ. وقال ابن الأعرابي: سرادقها: سورها. وقال القتبي: السُّرَادِقُ: الْحُجْرَةُ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَحَاطَ بِالْكُفَّارِ سُرَادِقُ النَّارِ عَلَى تَشْبِيهِ مَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنَ النَّارِ بِالسُّرَادِقِ الْمُحِيطِ بِمَنْ فِيهِ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا مِنْ حَرِّ النَّارِ يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وَهُوَ الْحَدِيدُ الْمُذَابُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمْ يُغَاثُونَ بِمَاءٍ كَالرَّصَاصِ الْمُذَابِ أَوِ الصُّفْرِ، وَقِيلَ: هُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: هُوَ كُلُّ مَا أُذِيبَ مِنْ جواهر الأرض من
__________
(1) . «الكرسف» : القطن.(3/334)
حَدِيدٍ وَرَصَاصٍ وَنُحَاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْقَطِرَانِ. ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي يُغَاثُونَ بِهِ بِأَنَّهُ يَشْوِي الْوُجُوهَ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِمْ صَارَتْ وُجُوهُهُمْ مَشْوِيَّةً لِحَرَارَتِهِ بِئْسَ الشَّرابُ شَرَابُهُمْ هَذَا وَساءَتْ النَّارُ مُرْتَفَقاً مُتَّكَأً، يُقَالُ ارْتَفَقْتُ: أَيِ: اتَّكَأْتُ، وَأَصْلُ الِارْتِفَاقِ نَصْبُ الْمِرْفَقِ، وَيُقَالُ:
ارْتَفَقَ الرَّجُلُ: إِذَا نَامَ عَلَى مِرْفَقِهِ، وَقَالَ القتبي: هُوَ الْمَجْلِسُ، وَقِيلَ: الْمُجْتَمَعُ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ هَذَا شُرُوعٌ فِي وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْحَقِّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا هَذَا خَبَرُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمْ عَمَلًا، وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْأَجْرِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ خَبَرَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَتَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّا لَا نُضِيعُ اعْتِرَاضًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَفِي كَيْفِيَّةِ جَرْيِ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَسَاوِرَ جَمْعُ أَسْوِرَةٍ، وَأَسْوِرَةٌ جَمْعُ سِوَارٍ، وَهِيَ زِينَةٌ تُلْبَسُ فِي الزَّنْدِ مِنَ الْيَدِ، وَهِيَ مِنْ زِينَةِ الْمُلُوكِ، قِيلَ: يُحَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ منهم ثلاثة أساور واحد من فضة واحد من لؤلؤ واحد مَنْ ذَهَبٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا جَمِيعَهَا مِنْ ذَهَبٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْآيَاتِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أخرى: أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ «1» ، ولقوله في آية أخرى وَلُؤْلُؤاً «2» ومن فِي قَوْلِهِ مِنْ أَسَاوِرَ لِلِابْتِدَاءِ، وَفِي مِنْ ذَهَبٍ لِلْبَيَانِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ يَحْلَوْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، يُقَالُ: حَلِيَتِ الْمَرْأَةُ تَحْلَى، فَهِيَ حَالِيَةٌ إِذَا لَبِسَتِ الْحَلْيَ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ قَالَ الْكِسَائِيُّ: السُّنْدُسُ الرَّقِيقُ وَاحِدُهُ سُنْدُسَةٌ، وَالْإِسْتَبْرَقُ: مَا ثَخُنَ، وَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَقِيلَ: الْإِسْتَبْرَقُ هُوَ الدِّيبَاجُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
............... ..
وَإِسْتَبْرَقُ الدِّيبَاجِ طَوْرًا لِبَاسُهَا «3»
وقيل: هو المنسوج بالذهب. قال القتبي: هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَصْغِيرُهُ أُبَيْرِقٌ، وَخُصَّ الْأَخْضَرُ لِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلْبَصَرِ، وَلِكَوْنِهِ أَحْسَنَ الْأَلْوَانِ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَرَائِكُ:
جَمْعُ أَرِيكَةٍ، وَهِيَ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَقِيلَ: هِيَ أَسِرَّةٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَأَصْلُ اتَّكَأَ اوْتَكَأَ، وَأَصْلُ مُتَّكِئِينَ مُوْتَكِئِينَ، وَالِاتِّكَاءُ: التَّحَامُلُ عَلَى الشَّيْءِ نِعْمَ الثَّوابُ ذَلِكَ الذي أثابهم الله.
وَحَسُنَتْ تِلْكَ الْأَرَائِكُ مُرْتَفَقاً أَيْ: مُتَّكَأً، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مُلْتَحَداً قَالَ: مُلْتَجَأً. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: جَاءَتِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ جَلَسْتَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ، وَتَغَيَّبْتَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَأَرْوَاحِ جِبَابِهِمْ، يَعْنُونَ سَلْمَانَ وَأَبَا ذَرٍّ وَفُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتْ عَلَيْهِمْ جباب الصوف، جالسناك وحادثناك وأخذنا
__________
(1) . الإنسان: 21.
(2) . الحج: 23، وفاطر: 33. [.....]
(3) . وصدره: تراهنّ يلبسن المشاعر مرّة.(3/335)
عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا زَادَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَلْمَانَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يَلْتَمِسُهُمْ، حَتَّى أَصَابَهُمْ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَمَرَنِي أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، مَعَكُمُ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِهِ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُمْ فَوَجَدَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْهُمْ ثَائِرُ الرأس وجاف الْجِلْدِ وَذُو الثَّوْبِ الْخَلَقِ، فَلَمَّا رَآهُمْ جَلَسَ مَعَهُمْ وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ» .
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْحِجْرِ أَوْ سُورَةَ الْكَهْفِ فَسَكَتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ» وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى أَمْرٍ كَرِهَهُ اللَّهُ مِنْ طَرْدِ الْفُقَرَاءِ عَنْهُ وَتَقْرِيبِ صَنَادِيدِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، يَعْنِي مَنْ خَتَمْنَا عَلَى قَلْبِهِ يَعْنِي التَّوْحِيدَ وَاتَّبَعَ هَواهُ يَعْنِي الشِّرْكَ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً يَعْنِي فُرُطًا فِي أَمْرِ اللَّهِ وَجَهَالَةً بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: دَخَلَ عُيَيْنَةُ بْنُ حصن عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَعِنْدَهُ سَلْمَانُ عَلَيْهِ جبة صوف، فثار مِنْهُ رِيحُ الْعَرَقِ فِي الصُّوفِ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: يَا مُحَمَّدُ إِذَا نَحْنُ أَتَيْنَاكَ فَأَخْرِجْ هَذَا وضرباءه من عندك لا يؤذونا، فَإِذَا خَرَجْنَا فَأَنْتَ وَهُمْ أَعْلَمُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ «1» عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ:
كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم: اطرد هؤلاء لا يجترءون عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ نَسِيتُ اسْمَهُمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً قَالَ: ضَيَاعًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَقُلِ الْحَقُّ قَالَ: هُوَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ
__________
(1) . الأنعام: 52.(3/336)
يَقُولُ: مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ آمَنَ، وَمَنْ شَاءَ لَهُ الْكُفْرَ كَفَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: فِي الآية هذه تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها قَالَ: حَائِطٌ مِنْ نَارٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِسُرَادِقِ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ، كَثَافَةُ كُلِّ جِدَارٍ مِنْهَا مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عن يعلى بن أمية قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «إن البحر هو من جهنم، ثم تلا ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» . وأخرج أحمد وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِماءٍ كَالْمُهْلِ قَالَ: «كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قُرِّبَ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَالْمُهْلِ قَالَ: أَسْوَدُ كَعَكَرِ الزَّيْتِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُهْلِ فَقَالَ: مَاءٌ غَلِيظٌ كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُهْلِ، فَدَعَا بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَأَذَابَهُ، فَلَمَّا ذَابَ قَالَ: هَذَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْمُهْلِ الَّذِي هُوَ شَرَابُ أَهْلِ النَّارِ وَلَوْنُهُ لَوْنُ السَّمَاءِ، غَيْرَ أَنَّ شَرَابَ أَهْلِ النَّارِ أَشَدُّ حَرًّا مِنْ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: هل تدرون ما المهل؟ مهل الزَّيْتِ، يَعْنِي آخِرَهُ «2» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً قَالَ: مُجْتَمَعًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ تُنْبِتُ السُّنْدُسَ مِنْهُ يَكُونُ ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْإِسْتَبْرَقُ: الدِّيبَاجُ الْغَلِيظُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَّكِئُ الْمُتَّكَأَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا يَتَحَوَّلُ مِنْهُ وَلَا يَمَلُّهُ، يَأْتِيهِ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ وَلَذَّتْ عَيْنُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَرَائِكُ: السُّرُرُ فِي جَوْفِ الْحِجَالِ، عَلَيْهَا الْفَرْشُ مَنْضُودٌ فِي السَّمَاءِ فَرْسَخٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْهُ قَالَ: لَا تَكُونُ أَرِيكَةً حَتَّى يَكُونَ السَّرِيرُ فِي الْحَجَلَةِ «3» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَرَائِكِ فَقَالَ: هِيَ الْحِجَالُ على السرر.
__________
(1) . التكوير: 29.
(2) . أي: الزيت العكر.
(3) . الحجلة: ساتر كالقبة يتخذ للعروس، يزين بالثياب والستور (ج: حجل، حجال) .(3/337)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
قَوْلُهُ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ هَذَا الْمَثَلُ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ يَتَعَزَّزُ بِالدُّنْيَا وَيَسْتَنْكِفُ عَنْ مُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الرَّجُلَيْنِ هَلْ هُمَا مُقَدَّرَانِ أَوْ مُحَقَّقَانِ؟ فَقَالَ بِالْأَوَّلِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بِالْآخَرِ بَعْضٌ آخَرُ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِمَا فَقِيلَ: هُمَا أَخَوَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ: هُمَا أَخَوَانِ مَخْزُومِيَّانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنٌ، وَالْآخَرُ كَافِرٌ وَقِيلَ: هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ «1» وَانْتِصَابُ مَثَلًا وَرَجُلَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَا اضْرِبْ، قِيلَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ هو الكافر، ومِنْ أَعْنابٍ بَيَانٌ لِمَا فِي الْجَنَّتَيْنِ، أَيْ: مِنْ كُرُومٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ الْحَفُّ: الْإِحَاطَةُ، وَمِنْهُ: حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «2» وَيُقَالُ: حَفَّ الْقَوْمُ بِفُلَانٍ يَحِفُّونَ حَفًّا، أَيْ: أَطَافُوا بِهِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَجَعَلْنَا النَّخْلَ مُطِيفًا بِالْجَنَّتَيْنِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِمَا وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً أَيْ: بَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ، وَهُوَ وَسَطُهُمَا، لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَامِعًا لِلْأَقْوَاتِ وَالْفَوَاكِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْجَنَّتَيْنِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَانَتْ تُؤَدِّي حَمْلَهَا وَمَا فِيهَا، فَقَالَ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أَخْبَرَ عَنْ كِلْتَا بِآتَتْ، لِأَنَّ لَفْظَهُ مُفْرَدٌ، فَرَاعَى جَانِبَ اللَّفْظِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ كِلْتَا وَكِلَا اسْمٌ مُفْرَدٌ غَيْرُ مُثَنًّى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مُثَنًّى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كُلٍّ فَخُفِّفَتِ اللَّامُ وَزِيدَتِ الْأَلِفُ لِلتَّثْنِيَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَلِفُ كِلْتَا لِلتَّأْنِيثِ، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنْ لَامِ الْفِعْلِ، وَهِيَ وَاوٌ، والأصل كلو، وقال أبو عمرو: التاء ملحقة. وأكلهما: هو ثمرهما، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَارَ صَالِحًا لِلْأَكْلِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «كُلُّ الْجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ» وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أَيْ: لَمْ تَنْقُصْ مِنْ أُكُلِهَا شَيْئًا، يُقَالُ: ظَلَمَهُ حَقَّهُ، أَيْ: نَقَصَهُ، وَوَصَفَ الْجَنَّتَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا يُعْتَادُ فِي سَائِرِ الْبَسَاتِينِ فَإِنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَكْثُرُ في عام، وتقلّ
__________
(1) . الصافات: 51.
(2) . الزمر: 75.(3/338)
فِي عَامٍ وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أَيْ: أَجْرَيْنَا وَشَقَقْنَا وَسَطَ الْجَنَّتَيْنِ نَهَرًا لِيَسْقِيَهُمَا دَائِمًا مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، وَقُرِئَ «فَجَّرْنَا» بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَبِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْأَصْلِ وَكانَ لَهُ أَيْ: لِصَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ ثَمَرٌ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «ثَمَرٌ» بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، وَكَذَلِكَ قَرَءُوا فِي قَوْلِهِ: أُحِيطَ بِثَمَرِهِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الثَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهِمَا جَمِيعًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الثَّمَرَةُ وَاحِدَةُ الثَّمَرِ، وَجَمْعُ الثَّمَرِ ثِمَارٌ مِثْلَ جَبَلٍ وَجِبَالٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَمْعُ الثِّمَارِ ثُمُرٌ، مِثْلَ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَجَمْعُ الثُّمُرِ أَثْمَارٌ، مِثْلَ عُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ، وَقِيلَ: الثَّمَرُ جَمِيعُ الْمَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هو الذهب والفضة خالصة فَقالَ لِصاحِبِهِ أَيْ: قَالَ صَاحِبُ الْجَنَّتَيْنِ الْكَافِرُ لِصَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَيْ: وَالْكَافِرُ يُحَاوِرُ الْمُؤْمِنَ، وَالْمَعْنَى: يُرَاجِعُهُ الْكَلَامَ وَيُجَاوِبُهُ، وَالْمُحَاوَرَةُ:
الْمُرَاجَعَةُ، وَالتَّحَاوُرُ: التَّجَاوُبُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً النَّفَرُ: الرَّهْطُ، وَهُوَ مَا دُونُ الْعَشْرَةِ، وَأَرَادَ هَاهُنَا الْأَتْبَاعَ وَالْخَدَمَ وَالْأَوْلَادَ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أَيْ دَخَلَ الْكَافِرُ جَنَّةَ نَفْسِهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ بِيَدِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَأَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ يَطُوفُ بِهِ فِيهَا، وَيُرِيهِ عَجَائِبَهَا، وَإِفْرَادُ الْجَنَّةِ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنَّ وَجْهَهُ كَوْنُهُ لَمْ يُدْخِلْ أَخَاهُ إِلَّا وَاحِدَةً مِنْهُمَا، أَوْ لِكَوْنِهِمَا لَمَّا اتَّصَلَا كَانَا كَوَاحِدَةٍ، أَوْ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي وَاحِدَةٍ، ثُمَّ وَاحِدَةٍ أَوْ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِذِكْرِهِمَا، وَمَا أَبْعَدَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّهُ وَحَّدَ الْجَنَّةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُؤْمِنُونَ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَذَلِكَ الْكَافِرُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بِكُفْرِهِ وَعُجْبِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً أَيْ: قَالَ الْكَافِرُ لِفَرْطِ غَفْلَتِهِ وَطُولِ أَمَلِهِ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَفْنَى هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي تُشَاهِدُهَا وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أَنْكَرَ الْبَعْثَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ لِفَنَاءِ جَنَّتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَخْبَرَ أَخَاهُ بِكُفْرِهِ بِفَنَاءِ الدُّنْيَا وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً اللَّامُ هِيَ الْمُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا كَمَا زَعَمَ صَاحِبُهُ، وَاللَّامُ فِي «لَأَجِدَنَّ» جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالشَّرْطِ، أَيْ: لَأَجِدَنَّ يَوْمَئِذٍ خَيْرًا مِنْ هَذِهِ الْجَنَّةِ، فِي مَصَاحِفِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ خَيْرًا منهما وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ «خَيْراً مِنْها» على الإفراد، ومُنْقَلَباً مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: مَرْجِعًا وَعَاقِبَةً، قَالَ هَذَا قِيَاسًا لِلْغَائِبِ عَلَى الْحَاضِرِ، وَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ غَنِيًّا فِي الدُّنْيَا، سَيَكُونُ غَنِيًّا فِي الْأُخْرَى، اغْتِرَارًا مِنْهُ بِمَا صَارَ فِيهِ مِنَ الْغِنَى الَّذِي هُوَ اسْتِدْرَاجٌ لَهُ مِنَ اللَّهِ قالَ لَهُ صاحِبُهُ أَيْ: قَالَ لِلْكَافِرِ صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ حَالَ مُحَاوَرَتِهِ لَهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ مَا قَالَهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ بِقَوْلِكَ: مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَقَالَ: خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ أَيْ: جَعَلَ أَصْلَ خَلْقِكَ مِنْ تُرَابٍ حَيْثُ خَلَقَ أَبَاكَ آدَمَ مِنْهُ، وَهُوَ أَصْلُكَ، وَأَصْلُ الْبَشَرِ فَلِكُلِّ فَرْدٍ حَظٌّ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا بِاللَّهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَمْ يَقْصِدْ أَنَّ الْكُفْرَ حَدَثَ لَهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وَهِيَ الْمَادَّةُ الْقَرِيبَةُ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أَيْ: صَيَّرَكَ إِنْسَانًا ذَكَرًا وَعَدَّلَ أَعْضَاءَكَ وَكَمَّلَكَ، وَفِي هَذَا تَلْوِيحٌ بِالدَّلِيلِ عَلَى الْبَعْثِ، وَأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَانْتِصَابُ رَجُلًا عَلَى الْحَالِ أَوِ التَّمْيِيزِ لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي كَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ بَعْدَ لَكِنَّ الْمُشَدَّدَةِ. وَأَصَلُهُ لَكِنَّ أَنَا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى النُّونِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا فَصَارَ لَكِنَّنَا، ثُمَّ(3/339)
اسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ النُّونَيْنِ فَسُكِّنَتِ الْأُولَى وَأُدْغِمَتِ الثَّانِيَةُ، وَضَمِيرُ هُوَ لِلشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرُهُ وَالْمَجْمُوعُ خَبَرُ أَنَا، وَالرَّاجِعُ يَاءُ الضَّمِيرِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَكِنَّ أَنَا الشَّأْنُ اللَّهُ رَبِّي. قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: إِثْبَاتُ أَلِفِ أَنَا فِي الْوَصْلِ ضَعِيفٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالْمَازِنِيِّ أَنَّ الْأَصْلَ لَكِنَّ أَنَا، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَا.
وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ الْأَصْلَ لَكِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي أَنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِثْبَاتُ الْأَلِفِ فِي لَكِنَّا فِي الْإِدْرَاجِ جَيِّدٌ لِأَنَّهَا قَدْ حذفت الألف من أنا فجاؤوا بِهَا عِوَضًا، قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «لَكِنَّ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي» وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ والمسيّبي عن نافع، وورش عَنْ يَعْقُوبَ «لكِنَّا» فِي حَالِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ مَعًا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَنَا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدا فَإِنِّي قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا
وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
فكيف أنا وانتحال «1» القوافي ... بعد الشَّيْبِ يَكْفِي ذَاكَ عَارَا
وَلَا خِلَافَ فِي إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ «لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي» ، ثُمَّ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ، فَقَالَ: وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَخَاهُ كَانَ مُشْرِكًا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يَلُومُهُ فَقَالَ: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَوْلَا للتحضيض:
أي: هلا قلت عند ما دَخَلْتَهَا هَذَا الْقَوْلَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَيْ: هَلَّا قُلْتَ حِينَ دَخَلْتَهَا الْأَمْرُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَائِنٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا شَرْطِيَّةً وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ شَاءَ اللَّهُ كَانَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ: هَلَّا قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، تَحْضِيضًا لَهُ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهَا وَمَا فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ أَبْقَاهَا وَإِنْ شَاءَ أَفْنَاهَا، وَعَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ، وَأَنَّ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ عِمَارَتِهَا إِنَّمَا هُوَ بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَا بِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَقْوَى أَحَدٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ مُلْكٍ وَنِعْمَةٍ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ لَمَّا عَلَّمَهُ الْإِيمَانَ وَتَفْوِيضَ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَجَابَهُ عَلَى افْتِخَارِهِ بِالْمَالِ وَالنَّفَرِ فَقَالَ: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً المفعول الأوّل ياء الضمير، وأنا ضمير فصل، وأقلّ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلرُّؤْيَةِ إِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً، وَإِنْ جُعِلَتْ بَصَرِيَّةً كَانَ انْتِصَابُ أَقَلَّ عَلَى الْحَالِ، ويجوز أن يكون أنا تأكيد لِيَاءِ الضَّمِيرِ، وَانْتِصَابُ مَالًا وَوَلَدًا عَلَى التَّمْيِيزِ فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ: إِنْ تَرَنِي أَفْقَرَ مِنْكَ، فَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَرْزُقَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَنَّةً خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ فِي الدُّنْيَا أَوْ في الآخرة أو في فِيهِمَا وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً أَيْ: وَيُرْسِلُ عَلَى جَنَّتِكَ حُسْبَانًا، وَالْحُسْبَانُ مَصْدَرٌ، بِمَعْنَى الْحِسَابِ كَالْغُفْرَانِ أي: مقدار قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَوَقَعَ فِي حِسَابِهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِتَخْرِيبِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُسْبَانُ مِنَ الْحِسَابِ أَيْ: يُرْسِلُ عَلَيْهَا عَذَابَ الْحِسَابِ، وَهُوَ حِسَابُ مَا كَسَبَتْ يَدَاكَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حُسْبَانًا أَيْ: مَرَامِيَ مِنَ السَّماءِ وَاحِدُهَا حُسْبَانَةٌ، وَكَذَا قال أبو عبيدة والقتبي. وقال ابن الأعرابي: الحسبانة: السّحابة،
__________
(1) . في المطبوع: وألحان.(3/340)
وَالْحُسْبَانَةُ: الْوِسَادَةُ، وَالْحُسْبَانَةُ: الصَّاعِقَةُ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْحُسْبَانُ سِهَامٌ يَرْمِي بِهَا الرَّجُلُ فِي جَوْفِ قَصَبَةٍ تُنْزَعُ فِي قَوْسٍ، ثُمَّ يَرْمِي بِعِشْرِينَ مِنْهَا دُفْعَةً وَالْمَعْنَى: يُرْسِلُ عَلَيْهَا مَرَامِيَ مِنْ عَذَابِهِ إِمَّا بَرْدٌ، وَإِمَّا حِجَارَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا يَشَاءُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَمِنْهُ قول زِيَادٍ الْكِلَابِيِّ: أَصَابَ الْأَرْضَ حُسْبَانٌ، أَيْ: جَرَادٌ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَيْ: فَتُصْبِحَ جَنَّةُ الْكَافِرِ بَعْدَ إِرْسَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا حُسْبَانًا صَعِيدًا، أَيْ: أَرْضًا لَا نَبَاتَ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تحقيقه، زلقا: أي: تزلّ فِيهَا الْأَقْدَامُ لِمَلَاسَتِهَا، يُقَالُ: مَكَانٌ زَلَقٌ بِالتَّحْرِيكِ: أَيْ دَحْضٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: زَلَقَتْ رِجْلُهُ تَزْلَقُ زَلَقًا، وَأَزْلَقَهَا غَيْرُهُ، وَالْمَزْلَقَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ قَدَمٌ، وَكَذَا الزَّلَّاقَةُ، وَصَفَ الصَّعِيدَ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ، وَجُمْلَةُ أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْغَوْرُ: الْغَائِرُ. وَصَفَ الْمَاءَ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَصِيرُ عَادِمَةً لِلْمَاءِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ وَاجِدَةً لَهُ، وَكَانَ خِلَالَهَا ذَلِكَ النَّهْرُ يَسْقِيهَا دَائِمًا، وَيَجِيءُ الْغَوْرُ بِمَعْنَى الْغُرُوبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
هَلِ الدَّهْرُ إِلَّا لَيْلَةٌ وَنَهَارُهَا ... وَإِلَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ غِيَارُهَا
فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً أَيْ: لَنْ تَسْتَطِيعَ طَلَبَ الْمَاءِ الْغَائِرِ فَضْلًا عَنْ وُجُودِهِ وَرَدِّهِ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ بِحِيلَةٍ مِنَ الْحِيَلِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ طَلَبَ غَيْرِهِ عِوَضًا عَنْهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ وُقُوعِ مَا رَجَاهُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَتَوَقَّعَهُ مِنْ إِهْلَاكِ جَنَّةِ الْكَافِرِ، فَقَالَ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ قَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَ الْقُرَّاءِ فِي هَذَا الْحَرْفِ وَتَفْسِيرِهِ، وَأَصْلُ الْإِحَاطَةِ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ بِالشَّخْصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «1» وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إِهْلَاكِهِ وَإِفْنَائِهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ فَوَقْعَ مَا تَوَقَّعَهُ الْمُؤْمِنُ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أَيْ: يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّدَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ فَأَصْبَحَ يَنْدَمُ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها أَيْ: فِي عِمَارَتِهَا وَإِصْلَاحِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: يُقَلِّبُ مُلْكَهُ فَلَا يَرَى فِيهِ عِوَضَ مَا أَنْفَقَ لِأَنَّ الْمُلْكَ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَدِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فِي يَدِهِ مَالٌ، وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا، وَجُمْلَةُ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ تِلْكَ الْجَنَّةَ سَاقِطَةٌ عَلَى دَعَائِمِهَا الَّتِي تَعْمِدُ بِهَا الْكُرُومَ، أَوْ سَاقِطٌ بَعْضُ تِلْكَ الْجَنَّةِ عَلَى بَعْضٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ خَوَتِ النُّجُومُ تَخْوَى إِذَا سَقَطَتْ وَلَمْ تُمْطِرْ فِي نَوْئِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا «2» قيل: وتخصيص ماله عُرُوشٌ بِالذِّكْرِ دُونَ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَأَيْضًا إِهْلَاكُهَا مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِ إِهْلَاكِ الْبَاقِي، وجملة وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً مَعْطُوفَةٌ عَلَى يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ، أَيْ: وَهُوَ يَقُولُ تَمَنَّى عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ لهلاك جنته بأنه لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ حَتَّى تَسْلَمَ جَنَّتُهُ مِنَ الْهَلَاكِ، أَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لَا لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْغَرَضِ الدُّنْيَوِيِّ، بَلْ لِقَصْدِ التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالنَّدَمِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِئَةٌ اسْمُ كَانَ وله خبرها، وينصرونه صِفَةٌ لِفِئَةٍ، أَيْ: فِئَةٌ نَاصِرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ يَنْصُرُونَهُ الْخَبَرَ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ سِيبَوَيْهِ وَرَجَّحَ الثَّانِيَ الْمُبَرِّدُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «3» وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِرْقَةٌ وَجَمَاعَةٌ يلتجئ
__________
(1) . يوسف: 66.
(2) . النمل: 52.
(3) . الإخلاص: 4.(3/341)
إِلَيْهَا وَيَنْتَصِرُ بِهَا، وَلَا نَفَعَهُ النَّفَرُ الَّذِينَ افْتَخَرَ بِهِمْ فِيمَا سَبَقَ وَما كانَ فِي نَفْسِهِ مُنْتَصِراً أَيْ: مُمْتَنِعًا بِقُوَّتِهِ عَنْ إِهْلَاكِ اللَّهِ لِجَنَّتِهِ، وَانْتِقَامِهِ مِنْهُ هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ «الْحَقُّ» بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْوَلَايَةِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ «الْحَقِّ» بِالْجَرِّ نَعْتًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالتَّوْكِيدِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا لَكَ حَقًّا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْوِلَايَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَالْمَعْنَى هُنَالِكَ: أَيْ: في ذلك المقام النصر لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ: الْوِلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُنَالِكَ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أَيْ:
هُوَ سُبْحَانَهُ خَيْرٌ ثَوَابًا لِأَوْلِيَائِهِ فِي الدنيا والآخرة وَخَيْرٌ عُقْباً أي: عاقبة، وقرأ الْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ «عُقْبًا» بِسُكُونِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَهَمَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ: هُوَ خير عاقبة لمن رجاه وآمن به، يقال هَذَا عَاقِبَةُ أَمْرِ فُلَانٍ، وَعُقْبَاهُ: أَيْ: أُخْرَاهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ قَالَ: الْجَنَّةُ هِيَ الْبُسْتَانُ، فَكَانَ لَهُ بُسْتَانٌ وَاحِدٌ وَجِدَارٌ واحد، وكان بينهما نهر، فلذلك كانتا جَنَّتَيْنِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ جَنَّةً مِنْ قِبَلِ الْجِدَارِ الذي يليها. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أبي عمرو الشيباني قال: نهر أبي فرطس نَهْرُ الْجَنَّتَيْنِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَهُوَ نَهْرٌ مَشْهُورٌ بِالرَّمَلَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً قَالَ: لَمْ تَنْقُصْ، كُلُّ شَجَرِ الْجَنَّةِ أَطْعَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ يَقُولُ: مَالٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ بِالضَّمِّ، وَقَالَ: هِيَ أَنْوَاعُ الْمَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ قَالَ: ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يَقُولُ: كَفُورٌ لِنِعْمَةِ رَبِّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم كلمات أقولهنّ عند الكرب: «الله اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» . وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيِّ عَمَّنْ ذَكَرَهُ قَالَ: «طَلَبَ مُوسَى مِنْ رَبِّهِ حَاجَةً فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا حَاجَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي أَطْلُبُ حَاجَتِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا أُعْطِيتُهَا الْآنَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْجَحُ مَا طُلِبَتْ بِهِ الْحَوَائِجُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِلَّا دَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ آفَةٍ حَتَّى تَأْتِيَهُ مَنِيَّتُهُ، وَقَرَأَ: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» وَفِي إِسْنَادِهِ عِيسَى بْنُ عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزَدِيُّ:
عِيسَى بْنُ عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ أَنَسٍ لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ لِي نَبِيُّ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ تَحْتَ الْعَرْشِ؟ قَلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْ تَقُولَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ(3/342)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ عَنِ السَّلَفِ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً قَالَ: مِثْلَ الْجُرُزِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: حُسْباناً مِنَ السَّماءِ قَالَ: عَذَابًا فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَيْ: قَدْ حُصِدَ مَا فِيهَا فَلَمْ يُتْرَكْ فِيهَا شَيْءٌ أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أَيْ: ذَاهِبًا قَدْ غَارَ فِي الْأَرْضِ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ قَالَ: يُصَفِّقُ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها متلهّفا على ما فاته.
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
ثُمَّ ضَرَبَ سُبْحَانَهُ مَثَلًا آخَرَ لِجَبَابِرَةِ قُرَيْشٍ فَقَالَ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيِ: اذْكُرْ لَهُمْ مَا يُشْبِهُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فِي حُسْنِهَا وَنَضَارَتِهَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا لِئَلَّا يَرْكَنُوا إِلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَثَلُ فِي سُورَةِ يُونُسَ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَثَلَ فَقَالَ: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِقَوْلِهِ:
اضْرِبْ عَلَى جَعْلِهِ بِمَعْنَى صَيِّرْ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أَيِ: اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ نَبَاتُ الْأَرْضِ حَتَّى اسْتَوَى وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ النَّبَاتَ اخْتَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ حِينِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لِأَنَّ النَّبَاتَ إِنَّمَا يَخْتَلِطُ وَيَكْثُرُ بِالْمَطَرِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ فِي «بِهِ» سَبَبِيَّةً فَأَصْبَحَ النَّبَاتُ هَشِيماً الْهَشِيمُ: الْكَسِيرُ، وَهُوَ مِنَ النَّبَاتِ مَا تَكَسَّرَ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ وَتَفَتَّتَ، وَرَجُلٌ هَشِيمٌ: ضَعِيفُ الْبَدَنِ، وَتَهَشَّمَ عَلَيْهِ فُلَانٌ: إِذَا تَعَطَّفَ، وَاهْتَشَمَ مَا فِي ضَرْعِ النَّاقَةِ: إِذَا احْتَلَبَهُ، وَهَشَّمَ الثَّرِيدَ: كَسَّرَهُ وَثَرَدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الزَّبْعَرِيِّ:
عَمْرُو الَّذِي «1» هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
تَذْرُوهُ الرِّياحُ تُفَرِّقُهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: تَذْرُوهُ: تَنْسِفُهُ، وَقَالَ ابْنُ كِيسَانَ: تَذْهَبُ بِهِ وَتَجِيءُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «تَذْرِيهِ الرِّيحُ» ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ «تَذْرِيهِ» يُقَالُ: ذَرَتْهُ الرِّيحُ تَذْرُوهُ، وَأَذْرَتْهُ تُذْرِيهِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ: أَذْرَيْتُ الرَّجُلَ عَنْ فَرَسِهِ، أَيْ: قَلَبْتُهُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أَيْ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يُحْيِيهِ وَيُفْنِيهِ بِقُدْرَتِهِ لَا يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا هَذَا رَدٌّ عَلَى الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِالْمَالِ وَالْغِنَى وَالْأَبْنَاءِ فَأَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ فِي الدُّنْيَا لَا مِمَّا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
«2» وَقَالَ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ «3» وَلِهَذَا عَقَّبَ هَذِهِ الزِّينَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ بِقَوْلِهِ:
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أَيْ: أَعْمَالُ الْخَيْرِ، وَهِيَ مَا كَانَ يفعله فقراء المسلمين من الطاعات
__________
(1) . عمرو العلا في اللسان مادة «هشم» ، وتفسير القرطبي (10/ 413) : العلا.
(2) . التغابن: 15.
(3) . التغابن: 14. [.....](3/343)
خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أَيْ: أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ بِالْمَالِ وَالْبَنِينِ ثَوَابًا، وَأَكْثَرُ عَائِدَةً وَمَنْفَعَةً لِأَهْلِهَا وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيْ: أَفْضَلُ أَمَلًا، يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِأَهْلِهَا مِنَ الْأَمَلِ أَفْضَلُ مِمَّا يُؤَمِّلُهُ أَهْلُ الْمَالِ وَالْبَنِينَ لِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يُؤَمِّلُهُ هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءُ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ فِي زِينَةِ الدُّنْيَا خَيْرٌ حَتَّى تُفَضَّلَ عَلَيْهَا الْآخِرَةُ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ خَرَجَ مَخْرَجَ قَوْلِهِ تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «1» ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ كُلُّ عَمَلِ خَيْرٍ، فَلَا وَجْهَ لِقَصْرِهَا عَلَى الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ بعض «2» ، وَلَا لِقَصْرِهَا عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ كَمَا قَالَهُ بَعْضٌ آخَرُ، وَلَا عَلَى مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ تَفْسِيرَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ فِي الْأَحَادِيثِ بِمَا سَيَأْتِي لَا يُنَافِي إِطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ عَمَلٌ صَالِحٌ مِنْ غَيْرِهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ قَالَ: الْمالُ وَالْبَنُونَ حَرْثُ الدُّنْيَا، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ حَرْثُ الْآخِرَةِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا اللَّهُ لِأَقْوَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ شَاهِينَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:
«سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «خُذُوا جُنَّتَكُمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ عَدُوٍّ قَدْ حَضَرَ؟ قَالَ:
بَلْ جُنَّتُكُمْ مِنَ النَّارِ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُقَدِّمَاتٍ مُعَقِّبَاتٍ وَمُجَنِّبَاتٍ، وَهِيَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ منصور وأحمد وابن مردويه عن النعمان ابن بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا وَإِنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَزَادَ التَّكْبِيرَ وَسَمَّاهُنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَزَادَتْ «وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ دُونَ الْحَوْقَلَةِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ جُنَادَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ نَحْوَهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهَا الْمُرَادَّةَ فِي الْآيَةِ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لا فائدة
__________
(1) . الفرقان: 24.
(2) . أي بعض المفسّرين.(3/344)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
فِي ذِكْرِهَا هُنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ من الباقيات الصالحات.
[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 53]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ قَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ تُسَيَّرُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَرَفْعِ الْجِبَالِ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ «تَسِيرُ» بِفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّ الْجِبَالَ فَاعِلٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «نُسَيِّرُ» بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَالْجِبَالَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَيُنَاسِبُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى قوله تعالى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ «1» ، وَيُنَاسِبُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً «2» ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّالِثَةَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّهَا الْمُنَاسِبَةُ لِقَوْلِهِ:
وَحَشَرْناهُمْ. قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: التَّقْدِيرُ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ، وَمَعْنَى تَسْيِيرِ الْجِبَالِ إِزَالَتُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا وَتَسْيِيرُهَا كَمَا تَسِيرُ السَّحَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «3» ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا اللَّهُ كَمَا قَالَ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا- فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا «4» . والخطاب في قوله: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلرُّؤْيَةِ، وَمَعْنَى بُرُوزِهَا: ظُهُورُهَا وَزَوَالُ مَا يَسْتُرُهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالشَّجَرِ وَالْبُنْيَانِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِبُرُوزِهَا بُرُوزُ مَا فِيهَا مِنَ الْكُنُوزِ وَالْأَمْوَاتِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ «5» ، وقال: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «6» ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزًا مَا فِي جَوْفِهَا وَحَشَرْناهُمْ أَيْ: الْخَلَائِقَ، وَمَعْنَى الْحَشْرِ: الْجَمْعُ أَيْ: جَمَعْنَاهُمْ إِلَى الْمَوْقِفِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً فَلَمْ نَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَدًا، يُقَالُ: غَادَرَهُ وَأَغْدَرَهُ إِذَا تَرَكَهُ، قَالَ عنترة:
__________
(1) . التكوير: 3.
(2) . الطور: 10.
(3) . النمل: 88.
(4) . الواقعة: 5- 6.
(5) . الانشقاق: 4.
(6) . الزلزلة: 2.(3/345)
غَادَرْتُهُ مُتَعَفِّرًا أَوْصَالُهُ ... وَالْقَوْمُ بَيْنَ مُجَرَّحٍ وَمُجَنْدَلِ «1»
أَيْ: تَرَكْتُهُ، وَمِنْهُ الْغَدْرُ لِأَنَّ الْغَادِرَ تَرَكَ الْوَفَاءَ لِلْمَغْدُورِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْغَدِيرُ غَدِيرًا لِأَنَّ الْمَاءَ ذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَمِنْهُ غَدَائِرُ الْمَرْأَةِ لأنها تجعلها خلفها عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
انْتِصَابُ صَفًّا عَلَى الْحَالِ، أي: مصفوفين كل أمة وزمرة صفا وَقِيلَ: عُرِضُوا صَفًّا وَاحَدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا «2» أَيْ:
جَمِيعًا وَقِيلَ: قِيَامًا. وَفِي الْآيَةِ تَشْبِيهُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْجَيْشِ الَّذِي يُعْرَضُ عَلَى السُّلْطَانِ قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: قُلْنَا لَهُمْ لَقَدْ جِئْتُمُونَا، وَالْكَافُ فِي كَمَا خَلَقْنَاكُمْ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أي: مجيئا كائنا كمجيئكم عند ما خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَوْ كَائِنَيْنِ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَيْ: حُفَاةً عُرَاةً غُرُلًّا، كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: بَعَثْنَاكُمْ وَأَعَدْنَاكُمْ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَقَدْ جئتمونا معناه بعثناكم لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
هَذَا إِضْرَابٌ وَانْتِقَالٌ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ، أَيْ: زَعَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَنْ تُبْعَثُوا، وَأَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا نُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَنُنْجِزُ مَا وَعَدْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْعَذَابِ، وَجُمْلَةُ وَوُضِعَ الْكِتابُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى عُرِضُوا، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، وَأَفْرَدَهُ لِكَوْنِ التَّعْرِيفِ فِيهِ لِلْجِنْسِ، وَالْوَضْعُ إِمَّا حسّي بأن توضع صَحِيفَةُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي يَدِهِ: السَّعِيدُ فِي يَمِينِهِ، وَالشَّقِيُّ فِي شِمَالِهِ أَوْ فِي الْمِيزَانِ. وَإِمَّا عَقْلِيٌّ: أَيْ: أَظْهَرَ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ بِالْحِسَابِ الْكَائِنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أَيْ: خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِمَّا فِي الْكِتَابِ الْمَوْضُوعِ لِمَا يَتَعَقَّبُ ذَلِكَ مِنْ الِافْتِضَاحِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ، والمجازاة بالعذاب الأليم وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا يَدْعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْوَيْلِ لِوُقُوعِهِمْ فِي الْهَلَاكِ، وَمَعْنَى هَذَا النِّدَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْمَائِدَةِ مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ لَهُ لَا يَتْرُكُ مَعْصِيَةً صَغِيرَةً وَلَا مَعْصِيَةً كَبِيرَةً إِلَّا حَوَاهَا وَضَبَطَهَا وَأَثْبَتَهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ، أَوْ وَجَدُوا جَزَاءَ مَا عَمِلُوا حاضِراً مَكْتُوبًا مُثْبَتًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً أَيْ: لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَلَا يُنْقِصُ فَاعِلَ الطَّاعَةِ مِنْ أَجْرِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَادَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى أَرْبَابِ الْخُيَلَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ وَاسْتِكْبَارَ إِبْلِيسَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ أَيْ: وَاذْكُرْ وَقْتَ قَوْلِنَا لَهُمُ اسْجُدُوا سُجُودَ تَحِيَّةٍ وَتَكْرِيمٍ، كَمَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ فَسَجَدُوا طَاعَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَامْتِثَالًا لِطَلَبِهِ السُّجُودَ إِلَّا إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَلَمْ يَسْجُدْ، وَجُمْلَةُ كانَ مِنَ الْجِنِّ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ سَبَبِ عِصْيَانِهِ وَأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَلِهَذَا عَصَى، وَمَعْنَى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ عَنْ قِشْرِهَا لِخُرُوجِهَا مِنْهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَعْنَى: أَتَاهُ الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب
__________
(1) . في الديوان: مجدّل.
«المتعفر» : اللاصق بالعفر وهو التراب.
(2) . طه: 64.(3/346)
الفسق أمر ربه. كما تقول: أطعمته عَنْ جُوعٍ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ قَوْلُ قُطْرُبٍ: أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ:
أَيْ فَسَقَ عَنْ تَرْكِ أَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَجَّبَ مِنْ حَالِ مَنْ أَطَاعَ إِبْلِيسَ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعُقَيْبَ مَا وُجِدَ مِنْهُ مِنَ الْإِبَاءِ وَالْفِسْقِ تَتَّخِذُونَهُ وَتَتَّخِذُونَ ذُرِّيَّتَهُ، أَيْ: أَوْلَادَهُ وَقِيلَ: أَتْبَاعُهُ- مَجَازًا- أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي فَتُطِيعُونَهُمْ بَدَلَ طَاعَتِي، وَتَسْتَبْدِلُونَهُمْ بِي، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ، أَيْ: إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ لَكُمْ عَدُوٌّ أَيْ: أَعْدَاءٌ، وَأَفْرَدَهُ لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ، أَوْ لِتَشْبِيهِهِ بِالْمَصَادِرِ، كَمَا في قوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي «1» ، وقوله: هُمُ الْعَدُوُّ «2» أَيْ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ هَذَا الصُّنْعَ وَتَسْتَبْدِلُونَ بِمَنْ خَلَقَكُمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ؟ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ قَطُّ، بَلْ هُوَ عَدُوٌّ لَكُمْ يَتَرَقَّبُ حُصُولَ مَا يَضُرُّكُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أَيْ: الْوَاضِعِينَ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُسْتَبْدِلِينَ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، فَبِئْسَ ذَلِكَ الْبَدَلُ الَّذِي اسْتَبْدَلُوهُ بَدَلًا عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِلشُّرَكَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم لكانوا شاهدين خلق ذلك مشركين لِي فِيهِ، وَلَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ وَلَا أَشْهَدْتُهُمْ إِيَّاهُ أَنَا فَلَيْسُوا لِي بِشُرَكَاءَ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِانْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ الْمُسَاوِي عَلَى انْتِفَاءِ اللَّازِمِ. وَقِيلَ:
الضَّمِيرُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ الْتَمَسُوا طَرْدَ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا شُرَكَاءَ لِي فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ بِدَلِيلِ أَنِّي مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ما اعْتَضَدْتُ بِهِمْ بَلْ هُمْ كَسَائِرِ الْخَلْقِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ جَاهِلُونَ بِمَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ فِي الْأَزَلِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشَاهِدِينَ خَلْقَ الْعَالَمِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِحُسْنِ حَالِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَوْلَى لِمَا يَلْزَمُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْ تَفْكِيكِ الضَّمِيرَيْنِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلِاتِّخَاذِ الْمَذْكُورِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «مَا أَشْهَدْنَاهُمْ» ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «مَا أَشْهَدْتُهُمْ» ، وَيُؤَيِّدُهُ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَالْعَضُدُ يُسْتَعْمَلُ كَثِيًرًا فِي مَعْنَى الْعَوْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَضُدَ قِوَامُ الْيَدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «3» أَيْ: سَنُعِينُكَ وَنُقَوِّيكَ بِهِ، وَيُقَالُ: أَعَضَدْتُ بِفُلَانٍ إِذَا اسْتَعَنْتَ بِهِ، وَذَكَرَ الْعَضُدَ عَلَى جِهَةِ الْمَثَلِ، وَخَصَّ الْمُضِلِّينَ بِالذِّكْرِ لِزِيَادَةِ الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ. وَالْمَعْنَى: مَا اسْتَعَنْتُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِهِمْ وَلَا شَاوَرْتُهُمْ، وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الشَّيَاطِينَ أَوِ الْكَافِرِينَ أَعْوَانًا، وَوَحَّدَ الْعَضُدَ لِمُوَافَقَةِ الْفَوَاصِلِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْجَحْدَرِيُّ «وَمَا كُنْتَ» بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: وَمَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُتَّخِذًا لَهُمْ عَضُدًا، وَلَا صَحَّ لَكَ ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ، وَفِي عَضُدَ لُغَاتٌ ثَمَانٍ أَفْصَحُهَا فَتْحُ الْعَيْنِ وَضَمُّ الضَّادِ، وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «عُضُدًا» بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالضَّادِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ، وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الضَّادِ، وَقَرَأَ عِيسَى بن عُمَرَ بِفَتْحِهِمَا، وَلُغَةُ تَمِيمٍ فَتْحُ الْعَيْنِ وَسُكُونُ الضاد. ثم عاد سبحانه إِلَى تَرْهِيبِهِمْ بِأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «نَقُولُ» بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ أَيِ: اذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْكُفَّارِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وتقريعا: نادوا
__________
(1) . الشعراء: 77.
(2) . المنافقون: 4.
(3) . القصص: 35.(3/347)
شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ يَنْفَعُونَكُمْ وَيَشْفَعُونَ لَكُمْ، وَأَضَافَهُمْ سُبْحَانَهُ إِلَى نَفْسِهِ جَرْيًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُشْرِكُونَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَدَعَوْهُمْ أَيْ: فَعَلُوْا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ دُعَاءِ الشُّرَكَاءِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ إِذْ ذَاكَ، أَيْ: لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ مُجَرَّدُ الِاسْتِجَابَةِ لَهُمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْفَعُوهُمْ أَوْ يَدْفَعُوا عَنْهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً أَيْ: جَعَلْنَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ مَنْ جَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ مَوْبِقًا، ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ اسْمُ وَادٍ عَمِيقٍ، فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى بَيْنَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كُلُّ حَاجِزٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَهُوَ مَوْبِقٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَوْبِقُ: الْمُهْلِكُ. وَالْمَعْنَى: جَعَلْنَا تَوَاصُلَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُهْلِكًا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، يُقَالُ: وَبِقَ يَوْبَقُ فَهُوَ وَبَقٌ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ فِي الْمَصَادِرِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَبِقَ يَبِقُ وُبُوقًا فَهُوَ وَابِقٌ، وَالْمُرَادُ بِالْمُهْلِكِ عَلَى هَذَا هُوَ عَذَابُ النَّارِ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ مِنْ جملة من زعموا أنهم شركاء الله الْمَلَائِكَةَ وَعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ، فَالْمَوْبِقُ هُوَ الْمَكَانُ الْحَائِلُ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَوْبِقُ هُنَا الْمَوْعِدُ لِلْهَلَاكِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ أَوْبَقَهُ بِمَعْنَى أَهْلَكَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَمَنْ يَشْتَرِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ ... يَصُنْ عِرْضَهُ عَنْ كُلِّ شَنْعَاءَ مَوْبِقِ
وَلَكِنَّ الْمُنَاسِبَ لِمَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها الْمُجْرِمُونَ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى زِيَادَةِ الذَّمِّ لَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الْمُسَجَّلِ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَالظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ.
وَالْمُوَاقَعَةُ: الْمُخَالَطَةُ بِالْوُقُوعِ فِيهَا وَقِيلَ: إِنِ الْكُفَّارَ يَرَوْنَ النَّارَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَيَظُنُّونَ ذَلِكَ ظَنًّا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أَيْ: مَعْدِلًا يَعْدِلُونَ إِلَيْهِ، أَوِ انْصِرَافًا لِأَنَّ النَّارَ قَدْ أَحَاطَتْ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَصْرِفُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي ينصرف إليه. وقال القتبي: أي معدلا ينصرفون إليه، وقيل: ملجأ يلجئون إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ فِي الْجَمِيعِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا بِنَاءٌ وَلَا شَجَرٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً قَالَ: الصَّغِيرَةُ: التَّبَسُّمُ، وَالْكَبِيرَةُ: الضَّحِكُ. وَزَادَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الصَّغِيرَةُ: التَّبَسُّمُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَبِيرَةُ: الْقَهْقَهَةُ بِذَلِكَ. وَأَقُولُ: صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ نَكِرَتَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ يَتَّصِفُ بِصِغَرٍ، وَكُلُّ ذَنْبٍ يَتَّصِفُ بِالْكِبَرِ، فَلَا يَبْقَى مِنَ الذُّنُوبِ شَيْءٌ إِلَّا أَحْصَاهُ اللَّهُ، وَمَا كَانَ مِنَ الذُّنُوبِ مُلْتَبِسًا بَيْنَ كَوْنِهِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، فَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلَةً يقال لم الْجِنُّ فَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْهُمْ، وَكَانَ يُوَسْوِسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَعَصَى فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَمَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كانَ مِنَ الْجِنِّ قَالَ: كان خازن الجنان، فسمي بالجنّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا: قَالَ إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ أَشْرَفِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْرَمِهِمْ قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَامًا زَعَمُوا أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، إِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصَّلُ الْإِنْسِ. وَأَخْرَجَ(3/348)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: يَقُولُ: مَا أَشْهَدْتُ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمْ مَعِي هَذَا وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً قَالَ: الشَّيَاطِينُ عَضُدًا، قَالَ: وَلَا اتَّخَذْتُهُمْ عَضُدًا عَلَى شَيْءٍ عَضَّدُونِي عَلَيْهِ فَأَعَانُونِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً يَقُولُ: مُهْلِكًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَهَنَّادٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: هُوَ وَادٍ عَمِيقٌ فِي النَّارِ فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها قَالَ: علموا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ افْتِخَارَ الْكَفَرَةِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، وَأَجَابَهُمْ عن ذلك وضرب لهم الأمثال الْوَاضِحَةَ، حَكَى بَعْضَ أَهْوَالِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أَيْ: كَرَّرْنَا وَرَدَّدْنَا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ أَيْ: لِأَجْلِهِمْ وَلِرِعَايَةِ مَصْلَحَتِهِمْ وَمَنْفَعَتِهِمْ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْأَمْثَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وحين لَمْ يَتْرُكِ الْكُفَّارُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ، خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الكافر، واستدل على أن المراد الكفار بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ وَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْهَا الْجِدَالُ جَدَلًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ لَيْلًا، فَقَالَ: أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ وَلَمْ يُرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَضْرِبُ فَخْذَهُ وَيَقُولُ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» . وَانْتِصَابُ جَدَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ. وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَرْنَا أَنَّ «أَنْ» الْأُولَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَالثَّانِيَةَ فِي(3/349)
مَحَلِّ رَفْعٍ، وَالْهُدَى الْقُرْآنُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ- هُنَا- هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَالْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مَا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِلَّا طَلَبُ إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، أَوِ انْتِظَارُ إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، وَزَادَ الِاسْتِغْفَارَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ هُنَا مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مَنِ الذُّنُوبِ الَّتِي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الْأَوَّلِينَ هُوَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا عُذِّبُوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: سُنَّتُهُمُ هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «1» الْآيَةَ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ أَيْ: عَذَابُ الْآخِرَةِ قُبُلًا قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ قُبُلًا جَمْعُ قَبِيْلٍ أَيْ: مُتَفَرِّقًا يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقِيلَ: عِيَانًا، وَقِيلَ: فَجْأَةً. وَيُنَاسِبُ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَعَاصِمٍ وَالْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ وَخَلَفٍ قُبُلًا بِضَمَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ جَمْعُ قَبَيْلٍ، نَحْوُ سَبِيلٍ وَسُبُلٍ، وَالْمُرَادُ أَصْنَافُ الْعَذَابِ وَيُنَاسِبُ التَّفْسِيرَ الثَّانِيَ أَيْ عِيَانًا، قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ: أَيْ: مُقَابَلَةً وَمُعَايَنَةً، وَقُرِئَ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَوْ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ مُسْتَقْبَلًا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ.
فَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِ الدُّنْيَا الْمُسْتَأْصِلِ لَهُمْ، أَوْ عِنْدَ إِتْيَانِ أَصْنَافِ عَذَابِ الْآخِرَةِ أَوْ مُعَايَنَتِهِ وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ مِنْ رُسُلِنَا إِلَى الْأُمَمِ إِلَّا حَالَ كَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُنْذِرِينَ لِلْكَافِرِينَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أَيْ: لِيُزِيلُوا بِالْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ الْحَقَّ وَيُبْطِلُوهُ. وَأَصْلُ الدَّحْضِ الزَّلَقُ يُقَالُ دَحَضَتْ رِجْلُهُ: أَيْ: زَلِقَتْ تَدْحَضُ دَحْضًا، وَدَحَضَتِ الشَّمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ زَالَتْ، وَدَحَضَتْ حُجَّتُهُ دُحُوضًا: بَطَلَتْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ:
أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ فَهِبْتَهُ ... وَحِدْتَ كَمَا حَادَ الْبَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ
وَمِنْ مُجَادَلَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِالْبَاطِلِ قَوْلُهُمْ لِلرُّسُلِ: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «2» ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: وَاتَّخَذُوا آياتِي أَيْ: الْقُرْآنَ وَما أُنْذِرُوا بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ هُزُواً أَيْ: لَعِبًا وَبَاطِلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ لِنَفْسِهِ مِمَّنْ وُعِظَ بِآيَاتِ رَبِّهِ التَّنْزِيلِيَّةِ أَوِ التَّكْوِينِيَّةِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا، فَتَهَاوَنَ بِهَا وَأَعْرَضَ عَنْ قَبُولِهَا، وَلَمْ يَتَدَبَّرْهَا حَقَّ التَّدَبُّرِ، وَيَتَفَكَّرْ فِيهَا حَقَّ التَّفَكُّرِ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَلَمْ يَتُبْ عَنْهَا. قِيلَ: وَالنِّسْيَانُ هُنَا بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ أَيْ: أَغْطِيَةً. وَالْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِإِعْرَاضِهِمْ وَنِسْيَانِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أَيْ: وَجَعَلْنَا فِي آذَانِهِمْ ثِقَلًا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِمَاعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ، وَصَاحِبُ الرَّحْمَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ:
لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا أَيْ: بِسَبَبِ مَا كَسَبُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْكُفْرُ وَالْمُجَادَلَةُ والإعراض
__________
(1) . الأنفال: 32. [.....]
(2) . يس: 15.(3/350)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ بَلْ جُعِلَ لَهُمْ مَوْعِدٌ أَيْ: أَجَلٌ مُقَدَّرٌ لِعَذَابِهِمْ، قِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي: ملجأ يلجئون إليه. وقال أبو عبيدة: منجى، وَقِيلَ: مَحِيصًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لا وَأَلَتْ نَفْسُكِ خَلِيَّتِهَا ... لِلْعَامِرِيِّينَ وَلَمْ تُكْلَمِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ الْبَيْتِ غَفْلَتَهُ ... وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثَمَّ مَا يَئِلُ
أَيْ: مَا يَنْجُو.
وَتِلْكَ الْقُرى أَيْ: قُرَى عَادٍ وَثَمُودٍ وَأَمْثَالُهَا أَهْلَكْناهُمْ هَذَا خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْقُرَى صِفَتُهُ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: أَهْلُ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا أَيْ: وَقْتَ وُقُوعِ الظُّلْمِ مِنْهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أَيْ: وقتا معينا، وقرأ أبو بكر عن عَاصِمٌ «مَهْلَكِهِمْ» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ، وَهُوَ مَصْدَرُ هلك، وأجاز الكسائي والفراء وكسر اللَّامِ وَفَتْحَ الْمِيمِ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ حَفْصٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَهْلِكٌ اسْمٌ لِلزَّمَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِوَقْتِ مَهْلِكِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ قَالَ: عُقُوبَةُ الْأَوَّلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي قَوْلِهِ: قُبُلًا قَالَ: جَهَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فَجْأَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ قَالَ: نَسِيَ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ الْكَثِيرَةِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِما كَسَبُوا يَقُولُ: بِمَا عَمِلُوا. وَأَخْرَجَ ابن أبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ قَالَ: الْمَوْعِدُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَوْئِلًا قَالَ: مَلْجَأً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَوْئِلًا قال: محرزا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 70]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)(3/351)
الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ اذْكُرْ. قِيلَ: وَوَجْهُ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقَالُوا: إِنْ أَخْبَرَكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِلَّا فَلَا. ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ مُوسَى وَالْخَضِرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مُوسَى الْمَذْكُورَ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ- لَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا تَقُولُهُ- مِنْهُمْ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ ابْنَ عِمْرَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَى بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَكَانَ نَبِيًّا قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَدْ رَدَّهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِفَتَاهُ هُنَا هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهُ فِي الْمَائِدَةِ، وَفِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مُوسَى هُوَ ابْنُ مِيشَى قَالَ: إِنَّ هَذَا الْفَتَى لَمْ يَكُنْ هو يوشع ابن نُونٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ فَتَى مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ يَأْخُذُ عَنْهُ الْعِلْمَ وَيَخْدِمُهُ، وَمَعْنَى لَا أَبْرَحُ لَا أَزَالُ، وَمِنْهُ قوله: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ «1» . وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَبْرَحُ مَا أَدَامَ اللَّهُ قَوْمِي ... بِحَمْدِ اللَّهِ مُنْتَطِقًا مُجِيدَا
وَبَرِحَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى زَالَ فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، وَخَبَرُهُ هُنَا مَحْذُوفٌ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا أَبْرَحُ بِمَعْنَى لَا أَزَالُ، وَقَدْ حُذِفَ الْخَبَرُ لِدَلَالَةِ حَالِ السَّفَرِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى أَبْلُغَ غَايَةٌ مَضْرُوبَةٌ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ذِي غَايَةٍ، فَالْمَعْنَى: لَا أَزَالُ أَسِيرُ إِلَى أَنْ أَبْلُغَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَا يَبْرَحُ مَسِيرِي حَتَّى أَبْلُغَ وَقِيلَ: مَعْنَى لَا أَبْرَحُ: لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ وَقِيلَ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَرِحَ التام، بمعنى زال يزال، ومجمع الْبَحْرَيْنِ مُلْتَقَاهُمَا. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَقِيلَ: بَحْرُ الْأُرْدُنِّ وَبَحْرُ الْقُلْزُمِ، وَقِيلَ: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ طَنْجَةَ، وَقِيلَ: بِإِفْرِيقِيَّةَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ مُوسَى وَالْخَضِرُ، وَهُوَ مِنَ الضَّعْفِ بِمَكَانٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا يَصِحُّ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أَيْ: أَسِيرُ زَمَانًا طَوِيلًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحُقْبُ بِالضَّمِّ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الَّذِي يَعَرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْحُقْبَ وَالْحُقْبَةَ زَمَانٌ مِنَ الدَّهْرِ مُبْهَمٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ، كَمَا أَنَّ رَهْطًا وَقَوْمًا مِنْهُمْ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ. وَسَبَبُ هَذِهِ الْعَزِيمَةِ عَلَى السَّيْرِ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ مُوسَى مَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ؟ فَقَالَ:
أَنَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ أَعْلَمَ مِنْكَ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ فَلَمَّا بَلَغا أَيْ: مُوسَى وَفَتَاهُ مَجْمَعَ بَيْنِهِما أَيْ: بَيْنِ الْبَحْرِينِ، وَأُضِيفَ مَجْمَعُ إِلَى الظَّرْفِ تَوَسُّعًا، وَقِيلَ: الْبَيْنُ: بِمَعْنَى الِافْتِرَاقِ، أَيِ: الْبَحْرَانِ الْمُفْتَرِقَانِ يَجْتَمِعَانِ هُنَاكَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِمُوسَى وَالْخَضِرِ، أَيْ: وَصَلَا الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ اجْتِمَاعُ شَمْلِهِمَا، وَيَكُونُ الْبَيْنُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْوَصْلِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى نَسِيا حُوتَهُما قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إنهما تزوّدا حوتا مملّحا في زنبيل، وكان يُصِيبَانِ مِنْهُ عِنْدَ حَاجَتِهِمَا إِلَى الطَّعَامِ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فُقْدَانَهُ أَمَارَةً لَهُمَا عَلَى وجدان المطلوب. والمعنى أنهما نسيا تفقّد أَمْرِهِ، وَقِيلَ: الَّذِي نَسِيَ إِنَّمَا هُوَ فَتَى مُوسَى لِأَنَّهُ وَكَّلَ أَمْرَ الْحُوتِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ إِذَا فَقَدَهُ، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَضَعَ فَتَاهُ الْمِكْتَلَ الَّذِي فِيهِ الحوت فأحياه الله،
__________
(1) . طه: 91.(3/352)
فَتَحَرَّكَ وَاضْطَرَبَ فِي الْمِكْتَلِ، ثُمَّ انْسَرَبَ فِي الْبَحْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً انْتِصَابُ سَرَبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لاتخذ، أَيِ: اتَّخَذَ سَبِيلًا سَرَبًا، وَالسَّرَبُ: النَّفَقُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَرْضِ لِلضَّبِّ وَنَحْوِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمْسَكَ جَرْيَةَ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي انْسَرَبَ فِيهِ الْحُوتُ، فَصَارَ كَالطَّاقِ، فَشَبَّهَ مَسْلَكِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ مَعَ بَقَائِهِ وَانْجِيَابِ الْمَاءِ عَنْهُ بِالسَّرَبِ الَّذِي هُوَ الْكُوَّةُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْأَرْضِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمَّا وَقَعَ فِي الْمَاءِ جَمَدَ مَذْهَبُهُ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ كَالسَّرَبِ، فَلَمَّا جَاوَزَا ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَتْ عِنْدَهُ الصَّخْرَةُ وَذَهَبَ الْحُوتُ فِيهِ انْطَلَقَا، فَأَصَابَهُمَا مَا يُصِيبُ الْمُسَافِرَ مِنَ النَّصَبِ وَالْكَلَالِ، وَلَمْ يَجِدَا النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَا الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْخَضِرُ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: فَلَمَّا جاوَزا أَيْ: مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ الَّذِي جُعِلَ مَوْعِدًا لِلْمُلَاقَاةِ قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا وهو ما يأكل بِالْغَدَاةِ، وَأَرَادَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحُوتِ الَّذِي حَمَلَاهُ مَعَهُمَا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً أَيْ: تَعَبًا وَإِعْيَاءً، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ سَفَرِنَا هَذَا إِلَى السَّفَرِ الْكَائِنِ مِنْهُمَا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَجِدَا النَّصَبَ إِلَّا فِي ذَلِكَ دُونَ مَا قَبْلَهُ قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أَيْ: قَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ تَعْجِيبُهُ لِمُوسَى مِمَّا وَقَعَ لَهُ مِنَ النِّسْيَانِ هُنَاكَ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ الْأَمْرِ مِمَّا لَا يُنْسَى لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ الْبَاهِرَةِ، وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَ مَا دَهَانِي، أَوْ نَابَنِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ. وَتِلْكَ الصَّخْرَةُ كَانَتْ عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ الَّذِي هُوَ الْمَوْعِدُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا دُونَ أَنْ يَذْكُرَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ لِكَوْنِهَا مُتَضَمِّنَةً لِزِيَادَةِ تَعْيِينِ الْمَكَانِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمَعُ مَكَانًا مُتَّسِعًا يَتَنَاوَلُ مَكَانَ الصَّخْرَةِ وَغَيْرَهُ، وَأَوْقَعَ النِّسْيَانَ عَلَى الْحُوتِ دُونَ الْغَدَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْغَدَاءَ الْمَطْلُوبَ هُوَ ذَلِكَ الْحُوتُ الَّذِي جَعَلَاهُ زَادًا لَهُمَا، وَأَمَارَةً لِوَجَدَانِ مَطْلُوبِهِمَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ النِّسْيَانِ، فَقَالَ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ بما يقع منه من الوسوسة، وأَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَنْسَانِيهِ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: «وَمَا أَنْسَانِيهِ أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ» . وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً انْتِصَابُ عَجَبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي كَمَا مَرَّ فِي سَرَبًا، وَالظَّرْفُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ يُوشَعَ، أَخْبَرَ مُوسَى أَنَّ الْحُوتَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ عَجَبًا لِلنَّاسِ، وَمَوْضِعُ التَّعَجُّبِ أَنْ يَحْيَا حُوتٌ قَدْ مَاتَ وَأُكِلَ شِقُّهُ، ثُمَّ يَثِبُ إِلَى الْبَحْرِ، وَيَبْقَى أَثَرُ جَرْيَتِهِ فِي الْمَاءِ لَا يَمْحُو أَثَرَهَا جَرَيَانُ مَاءِ الْبَحْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِبَيَانِ طَرَفٍ آخَرَ مِنْ أَمْرِ الْحُوتِ، فَيَكُونُ مَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ اعْتِرَاضًا قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ أَيْ: قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتَ مِنْ فَقْدِ الْحُوتِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هُوَ الَّذِي كُنَّا نَطْلُبُهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي نُرِيدُهُ هُوَ هُنَالِكَ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أَيْ: رَجَعَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي جَاءَا مِنْهَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا لِئَلَّا يُخْطِئَا طَرِيقَهُمَا، وَانْتِصَابُ قَصَصًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَاصِّينَ أَوْ مُقْتَصِّينَ، وَالْقَصَصُ فِي اللُّغَةِ: اتِّبَاعُ الْأَثَرِ فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا هُوَ الْخَضِرُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَخَالَفَ فِي ذلك ما لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ لَيْسَ هُوَ الْخَضِرَ بَلْ عَالِمٌ آخَرُ، قِيلَ: سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ، قِيلَ: وَاسْمُهُ بَلِيَا بْنُ مِلْكَانَ، ثُمَّ وَصَفَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: آتَيْناهُ(3/353)
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا
قِيلَ: الرَّحْمَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: النِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وَهُوَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ مِنْ لَدُنَّا تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَتَعْظِيمٌ لَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِيمَا فَعَلَ مُوسَى وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالرِّحْلَةِ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ طَلَبَ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ نِهَايَتَهُ، وَأَنْ يَتَوَاضَعَ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ. ثُمَّ قَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا مَا دَارَ بَيْنَ مُوسَى وَالْخَضِرِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فَقَالَ: قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً فِي هَذَا السُّؤَالِ مُلَاطَفَةٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي حُسْنِ الْأَدَبِ لِأَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ عَلَى أَنْ يُعْلِّمَهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ. وَالرُّشْدُ: الْوُقُوفُ عَلَى الْخَيْرِ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتُعَلِّمَنِي، أَيْ: عِلْمًا ذَا رُشْدٍ أَرْشُدُ بِهِ، وَقُرِئَ «رَشَدًا» بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْبُخْلِ وَالْبَخَلِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الْمُتَعَلِّمَ تَبَعٌ لِلْعَالِمِ وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْمَرَاتِبُ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى، فَقَدْ يَأْخُذُ الْفَاضِلُ عَنِ الْفَاضِلِ، وَقَدْ يَأْخُذُ الْفَاضِلُ عَنِ الْمَفْضُولِ إِذَا اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِعِلْمٍ لَا يَعْلَمُهُ الْآخَرُ، فَقَدْ كَانَ عِلْمُ مُوسَى عِلْمَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَضَاءِ بِظَاهِرِهَا، وَكَانَ عِلْمُ الْخَضِرِ عِلْمَ بَعْضِ الْغَيْبِ
وَمَعْرِفَةِ الْبَوَاطِنِ قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أَيْ: قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: إِنَّكَ لَا تُطِيقُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا تَرَاهُ مِنْ عِلْمِي لِأَنَّ الظَّوَاهِرَ الَّتِي هِيَ عِلْمُكَ لَا تُوَافِقُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَى عِلَّةِ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَقَالَ: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أَيْ: كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى عِلْمٍ ظَاهِرُهُ مُنْكَرٌ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ، وَمِثْلُكَ مَعَ كَوْنِكَ صَاحِبَ شَرْعٍ لَا يَسُوغُ لَهُ السكوت على منكر والإقرار عليه، وخبرا مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرَكَ، وَالْخُبْرُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، وَالْخَبِيرُ بِالْأُمُورِ: هُوَ الْعَالِمُ بِخَفَايَاهَا، وَبِمَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاخْتِبَارِ مِنْهَا قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً أَيْ: قَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ: سَتَجِدُنِي صَابِرًا مَعَكَ، مُلْتَزِمًا طَاعَتَكَ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً فَجُمْلَةُ وَلَا أَعْصِي مَعْطُوفَةٌ عَلَى صَابِرًا، فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ شَامِلًا لِلصَّبْرِ وَنَفِيِ الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمَشِيئَةِ مُخْتَصٌّ بِالصَّبْرِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ لَا يَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ فِيهِ، وَنَفْيُ الْمَعْصِيَةِ مَعْزُومٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الصَّبْرَ، وَنَفْيَ الْمَعْصِيَةِ مُتَّفِقَانِ في كون كل واحد منهما معزوم عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَفِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَدْرِي كَيْفَ حَالُهُ فِيهِ فِي المستقبل. قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تُشَاهِدُهُ مِنْ أَفْعَالِي الْمُخَالِفَةِ لِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أَيْ: حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْمُبْتَدِئَ لَكَ بِذِكْرِهِ، وَبَيَانِ وجهه وما يؤول إليه، وهذه الجمل المعنونة بقال وَقَالَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا جَوَابَاتٌ عَنْ سُؤَالَاتٍ مُقَدَّرَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ يَنْشَأُ السُّؤَالُ عَنْهَا مِمَّا قَبْلَهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْخَضِرُ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَنُسِئَ لَهُ فِي أَجْلِهِ، حَتَّى يُكَذِّبَ الدَّجَّالَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءٌ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ(3/354)
فِي قَوْلِهِ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. قَالَ: بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمَا نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ إِفْرِيقِيَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: طَنْجَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً قَالَ: سَبْعِينَ خَرِيفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: دَهْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: نَسِيا حُوتَهُما قَالَ: كَانَ مَمْلُوحًا مَشْقُوقَ الْبَطْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً قَالَ: أَثَرُهُ يَابِسٌ فِي الْبَحْرِ كَأَنَّهُ فِي حَجَرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قَالَ: عَوْدُهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا قَالَ: أَعْطَيْنَاهُ الْهُدَى وَالنُّبُوَّةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدْ رُوِيَتْ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَأَتَمُّهَا وَأَكْمَلُهَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنَّهَا اخْتَلَفَتْ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، وَكُلُّهَا مَرْوِيَّةٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، وَبَعْضُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَعْضُهَا فِي أَحَدِهِمَا، وَبَعْضُهَا خَارِجٌ عَنْهُمَا. وَقَدْ رُوِيَتْ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَمِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ عِنْدَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْخَطِيبِ وَابْنِ عَسَاكِرَ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَفِي ذَلِكَ مَا يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ، وَهِيَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الَبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذِبَ عَدُوُّ اللَّهِ. حَدَّثَنَا أُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ. ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يوشع بن نون، حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَا مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا فَقَالَ مُوسَى: ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قَالَ سُفْيَانُ: يَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ تِلْكَ الصَّخْرَةَ عِنْدَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ لَا يُصِيبُ مَاؤُهَا مَيْتًا إِلَّا عَاشَ، قَالَ: وَكَانَ الْحُوتُ قَدْ أُكِلَ مِنْهُ، فَلَمَّا قُطِّرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ عَاشَ، قَالَ: فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسْجًى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَيْتُكَ(3/355)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ عَلَّمَكَ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ قَالَ مُوسَى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَقَالَ له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً؟ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، قالَ: لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ الَّذِي وَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً- قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى. قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً- فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قال: مائل، فقال خضر بِيَدِهِ هَكَذَا فَأَقَامَهُ، فَ قالَ مُوسَى: قَوْمٌ آتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلِمَ يُضَيِّفُونَا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً- قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: «وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا» وَكَانَ يَقْرَأُ: «وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنِينَ» وَبَقِيَّةُ رِوَايَاتِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْأَلْفَاظُ فِي بَعْضِهَا، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِطَالَةِ بذكرها، وكذلك روايات غير سعيد عنه.
[سورة الكهف (18) : الآيات 71 الى 82]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80)
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)(3/356)
قَوْلُهُ: فَانْطَلَقا أَيْ: مُوسَى وَالْخَضِرُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَطْلُبَانِ السَّفِينَةَ، فَمَرَّتْ بِهِمْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَحَمَلُوهُمْ حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قِيلَ: قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا، وَقِيلَ: لَوْحَيْنِ مِمَّا يَلِي الْمَاءَ، وَقِيلَ: خَرَقَ جِدَارَ السَّفِينَةِ لِيَعِيبَهَا، وَلَا يَتَسَارَعُ الْغَرَقُ إِلَى أَهْلِهَا قالَ مُوسَى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أَيْ: لَقَدْ أَتَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، يُقَالُ: أَمِرَ الْأَمْرُ إِذَا كَبُرَ، وَالْأَمْرُ: الِاسْمُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَمْرُ: الدَّاهِيَةُ الْعَظِيمَةُ وَأَنْشَدَ:
قَدْ لَقِيَ الْأَقْرَانُ مِنِّي نُكْرًا ... داهية دهياء إدّا «1» إمرا
وقال القتبي: الْأَمْرُ: الْعَجَبُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَمِرَ أَمْرُهُ يَأْمُرُ إِذَا اشْتَدَّ، وَالِاسْمُ الْأَمْرُ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لِيَغْرَقَ أَهْلُهَا بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَرَفْعِ أَهْلِهَا عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ الْمَضْمُومَةِ وَنَصْبِ أَهْلِهَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ قالَ أَيْ: الْخَضِرُ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أَذْكَرَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ لَهُ سَابِقًا: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ف قالَ لَهُ مُوسَى لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِنِسْيَانِي أَوْ مَوْصُولَةً، أَيْ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِالَّذِي نسيته، وهو قول الخضر: فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَالنِّسْيَانُ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مُوسَى نَسِيَ ذَلِكَ، أَوْ بِمَعْنَى التَّرْكِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَنْسَ مَا قَالَهُ لَهُ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَرْهَقْتُهُ عُسْرًا: إِذَا كَلَّفْتَهُ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى عَامِلْنِي بِالْيُسْرِ لَا بِالْعُسْرِ. وَقُرِئَ عُسُرًا بِضَمَّتَيْنِ فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ أَيْ: الْخَضِرُ، وَلَفْظُ الْغُلَامِ يَتَنَاوَلُ الشَّابَّ الْبَالِغَ كَمَا يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ، قِيلَ: كَانَ الْغُلَامُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَاقْتَلَعَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ قالَ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأُوَيْسٌ بِأَلِفٍ بَعْدَ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ اسْمُ فَاعِلٍ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ دُونِ أَلِفٍ، الزَّاكِيَةُ: الْبَرِيئَةُ مِنَ الذُّنُوبِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الزَّاكِيَةُ: الَّتِي لَمْ تُذْنِبْ، وَالزَّكِيَّةُ: الَّتِي أَذْنَبَتْ ثُمَّ تَابَتْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الزَّاكِيَةُ وَالزَّكِيَّةُ لُغَتَانِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الزَّاكِيَةُ وَالزَّكِيَّةُ مِثْلُ الْقَاسِيَةِ وَالْقَسِيَّةِ، وَمَعْنَى بِغَيْرِ نَفْسٍ بِغَيْرِ قَتْلِ نَفْسٍ مُحَرَّمَةٍ حَتَّى يَكُونَ قَتْلُ هَذِهِ قِصَاصًا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أَيْ: فَظِيعًا مُنْكَرًا لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ. قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْكَرُ مِنَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِ الْقَتْلِ لَا يُمَكِنُ تَدَارُكُهُ، بِخِلَافِ نَزْعِ اللَّوْحِ مِنَ السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِإِرْجَاعِهِ وَقِيلَ: النُّكْرُ أَقَلُّ مِنَ الْإِمْرِ لِأَنَّ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَهْوَنُ مِنْ إِغْرَاقِ أَهْلِ السَّفِينَةِ. قِيلَ: اسْتَبْعَدَ مُوسَى أَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَلَمْ يَتَأَوَّلْ للخضر بأنه يحلّ القتل بأسباب أخرى قالَ الْخَضِرُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً زَادَ هُنَا لَفْظَ لَكَ لِأَنَّ سَبَبَ الْعِتَابِ أَكْثَرُ، وَمُوجِبَهُ أَقْوَى وَقِيلَ: زَادَ لَفْظُ لَكَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ كَمَا تَقُولُ لمن توبّخه:
__________
(1) . في المطبوع: وأمرا، والمثبت من مجاز القرآن (1/ 409) وتفسير القرطبي (11/ 19) .(3/357)
لَكَ أَقُولُ وَإِيَّاكَ أَعْنِي قالَ مُوسَى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، أَوْ بَعْدَ هَذِهِ النَّفْسِ الْمَقْتُولَةِ فَلا تُصاحِبْنِي أَيْ: لَا تَجْعَلْنِي صَاحِبًا لَكَ، نَهَاهُ عَنْ مُصَاحَبَتِهِ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى التَّعَلُّمِ لِظُهُورِ عُذْرِهِ، وَلِذَا قَالَ: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً يُرِيدُ أَنَّكَ قَدْ أَعْذَرْتَ حَيْثُ خَالَفْتُكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا كَلَامُ نَادِمٍ شَدِيدِ النَّدَامَةِ، اضْطَرَّهُ الْحَالُ إِلَى الِاعْتِرَافِ وَسُلُوكِ سَبِيلِ الْإِنْصَافِ. قَرَأَ الْأَعْرَجُ تَصْحَبَنِّي بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُصاحِبْنِي وَقَرَأَ يَعْقُوبُ تُصْحِبْنِي بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَرَوَاهَا سَهْلٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَتْرُكْنِي أَصْحَبُكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَدُنِّي بِضَمِّ الدَّالِ إِلَّا أَنَّ نَافِعًا وَعَاصِمًا خَفَّفَا النُّونَ، وَشَدَّدَهَا الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ لَدُنِّي بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الدَّالِ. قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَهِيَ غَلَطٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا التَّغْلِيطُ لَعَلَّهُ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ الْعَرَبِيَّةِ فَصَحِيحَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عُذْراً بِسُكُونِ الذَّالِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِضَمِّ الذَّالِ. وَحَكَى الدَّانِيُّ أَنَّ أُبَيًّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا، بِإِضَافَةِ الْعُذْرِ إِلَى نَفْسِهِ فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قِيلَ: هِيَ أَيْلَةُ، وَقِيلَ: أَنْطَاكِيَةُ، وَقِيلَ: بَرْقَةُ، وَقِيلَ: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى أَذْرَبِيجَانَ، وَقِيلَ: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الرُّومِ اسْتَطْعَما أَهْلَها هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لقرية، وَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، أَوْ لِكَرَاهَةِ اجْتِمَاعِ الضَّمِيرَيْنِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْكُلْفَةِ، أَوْ لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِإِظْهَارِهِمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما أَيْ: أَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمَا مَا هُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ مِنْ ضِيَافَتِهِمَا، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ السُّؤَالِ وَحِلِّ الْكُدْيَةِ «1» فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ:
فَإِنْ رُدِدْتُ فَمَا فِي الرَّدِّ مَنْقَصَةٌ ... عَلِيَّ قَدْ رُدَّ مُوسَى قَبْلُ وَالْخَضِرُ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ تَحْرِيمُ السُّؤَالِ بِمَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْكَثِيرَةِ فَوَجَدا فِيها أَيْ:
فِي الْقَرْيَةِ جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ إِسْنَادُ الْإِرَادَةِ إِلَى الْجِدَارِ مَجَازٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْجِدَارُ لَا يُرِيدُ إِرَادَةً حَقِيقِيَّةً إِلَّا أَنَّ هَيْئَةَ السُّقُوطِ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ كَمَا تَظْهَرُ أَفْعَالُ الْمُرِيدِينَ الْقَاصِدِينَ فَوُصِفَ بالإرادة، ومنه قول الرّاعي:
في مهمه فلقت به هاماتها ... فلق الْفُؤُوسِ إِذَا أَرَدْنَ نُصُولَا
وَمَعْنَى الِانْقِضَاضِ: السُّقُوطُ بِسُرْعَةٍ، يُقَالُ: انْقَضَّ الْحَائِطُ إِذَا وَقَعَ، وَانْقَضَّ الطَّائِرُ: إِذَا هَوَى مِنْ طَيَرَانِهِ فَسَقَطَ عَلَى شَيْءٍ، وَمَعْنَى فَأَقَامَهُ: فَسَوَّاهُ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ مَائِلًا فَرَدَّهُ كَمَا كَانَ، وَقِيلَ: نَقَضَهُ وَبَنَاهُ، وَقِيلَ:
أَقَامَهُ بِعَمُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَسَحَهُ بِيَدِهِ قالَ مُوسَى لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أَيْ: عَلَى إِقَامَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ، تَحْرِيضًا مِنْ مُوسَى لِلْخَضِرِ عَلَى أَخْذِ الْأَجْرِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لَوْ شِئْتَ لَمْ تُقِمْهُ حَتَّى يُقْرُونَا فَهُوَ الْأَجْرُ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْيَزِيدِيُّ وَالْحَسَنُ «لَتَخَذْتَ» يُقَالُ: تَخَذَ فُلَانٌ يَتْخَذُ تَخْذًا مِثْلُ اتَّخَذَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ لَاتَّخَذْتَ قالَ الْخَضِرُ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
__________
(1) . «الكدية» : تكفّف الناس والاستجداء.(3/358)
عَلَى إِضَافَةِ فِرَاقُ إِلَى الظَّرْفِ اتِّسَاعًا، أَيْ: هَذَا الْكَلَامُ وَالْإِنْكَارُ مِنْكَ عَلَى تَرْكِ الْأَجْرِ هُوَ الْمُفَرِّقُ بَيْنَنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى هَذَا فِرَاقُ بَيْنِنَا، أَيْ: هَذَا فِرَاقُ اتِّصَالِنَا، وَكَرَّرَ بَيْنَ تَأْكِيدًا، وَلَمَّا قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى بِهَذَا أَخَذَ فِي بَيَانِ الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ بِسَبَبِهِ تِلْكَ الْأَفْعَالَ الَّتِي أَنْكَرَهَا مُوسَى فَقَالَ: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً وَالتَّأْوِيلُ: رُجُوعُ الشَّيْءِ إِلَى مَآلِهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْبَيَانِ لَهُ فَقَالَ: أَمَّا السَّفِينَةُ يَعْنِي الَّتِي خَرَقَهَا فَكانَتْ لِمَساكِينَ لِضُعَفَاءَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ مَنْ أَرَادَ ظُلْمَهُمْ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرَ تِلْكَ السَّفِينَةِ يكرونها من الذي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ وَيَأْخُذُونَ الْأُجْرَةَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أَيْ: أَجْعَلَهَا ذَاتَ عَيْبٍ بِنَزْعِ مَا نَزَعْتُهُ مِنْهَا وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ قال المفسرون: يعني أمامهم، ووراء يَكُونُ بِمَعْنَى أَمَامَ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ «1» وَقِيلَ: أَرَادَ خَلْفَهُمْ، وَكَانَ طَرِيقُهُمْ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ بِأَنَّهُ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ لَا مَعِيبَةٍ، وَقَدْ قُرِئَ بِزِيَادَةِ «صَالِحَةٍ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ بِتَشْدِيدِ السِّينِ مِنْ مَسَاكِينَ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا، فَقِيلَ: هُمْ مَلَّاحُو السَّفِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَسَّاكَ هُوَ الَّذِي يُمْسِكُ السَّفِينَةَ، وَالْأَظْهَرُ قِرَاءَةٌ الْجُمْهُورِ: بِالتَّخْفِيفِ وَأَمَّا الْغُلامُ يَعْنِي الَّذِي قَتَلَهُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ هُوَ كَذَلِكَ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما أَيْ: يُرْهِقَ الْغُلَامُ أَبَوَيْهِ، يُقَالُ: رَهَقَهُ، أَيْ: غَشِيَهُ، وَأَرْهَقَهُ: أَغَشَاهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ خَشِينَا أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أن يتبعاه في دينه، وهو الكفر، وطُغْياناً مَفْعُولُ يُرْهِقَهُمَا وَكُفْراً مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَ الْوَالِدَيْنِ طُغْيَانًا عَلَيْهِمَا وَكُفْرًا لِنِعْمَتِهِمَا بِعُقُوقِهِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَخَشِينَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى: كَرِهْنَا كَرَاهَةَ مَنْ خَشِيَ سُوءَ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ فَغَيَّرَهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْخَضِرِ. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَتْلَ الْخَضِرِ لِهَذَا الْغُلَامِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ بَالِغًا، وَقَدِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِكُفْرِهِ، وَقِيلَ: كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ لِذَلِكَ، وَيَكُونُ مَعْنَى فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً: أَنَّ الْخَضِرَ خَافَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ أَنْ يَذُبَّا عَنْهُ وَيَتَعَصَّبَا لَهُ فَيَقَعَا فِي الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ وَالِارْتِدَادِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي قَتْلِ الْخَضِرِ لَهُ إِذَا كَانَ بَالِغًا كَافِرًا، أَوْ قَاطِعًا لِلطَّرِيقِ، هَذَا فِيمَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْخَضِرِ شَرِيعَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تُسَوِّغُ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْغُلَامُ صَبِيًّا غَيْرَ بَالِغٍ، فَقِيلَ: إِنَّ الْخَضِرَ عَلِمَ بِإِعْلَامِ اللَّهِ لَهُ أَنَّهُ لَوْ صَارَ بَالِغًا لَكَانَ كَافِرًا يَتَسَبَّبُ عَنْ كُفْرِهِ إِضْلَالُ أَبَوَيْهِ وَكُفْرُهُمَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يَأْبَاهُ، فَإِنَّ قَتْلَ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَلَا قَدْ جَرَى عَلَيْهِ قَلَمُ التَّكْلِيفِ لِخَشْيَةِ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَا يَجُوزُ بِهِ قَتْلُهُ لَا يَحِلُّ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ حَلَّ فِي شَرِيعَةٍ أُخْرَى، فَلَا إِشْكَالَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ نَبِيًّا فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَالْمَعْنَى: أَرَدْنَا أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللَّهُ بَدَلَ هَذَا الْوَلَدِ وَلَدًا خَيْرًا مِنْهُ زَكاةً أَيْ: دِينًا وَصَلَاحًا
__________
(1) . إبراهيم: 17.(3/359)
وَطَهَارَةً مِنَ الذُّنُوبِ وَأَقْرَبَ رُحْماً قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرِ وَابْنُ عَامِرٍ رُحْماً بِضَمِّ الْحَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا، وَمَعْنَى الرحم: الرحمة، يقال: رحمه الله رحمة ورحمي، وَالْأَلِفُ لِلتَّأْنِيثِ وَأَمَّا الْجِدارُ يَعْنِي الَّذِي أَصْلَحَهُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ هِيَ الْقَرْيَةُ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا، وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْقَرْيَةِ لُغَةً وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قِيلَ: كَانَ مَالًا جَسِيمًا كَمَا يُفِيدُهُ اسْمُ الْكَنْزِ، إِذْ هُوَ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْكَنْزَ إِذَا أُفْرِدَ فَمَعْنَاهُ الْمَالُ الْمَدْفُونُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا قِيلَ: كَنْزُ عِلْمٍ وَكَنْزُ فَهْمٍ وَقِيلَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ وَقِيلَ: صُحُفٌ مَكْتُوبَةٌ وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَكَانَ صَلَاحُهُ مُقْتَضِيًا لِرِعَايَةِ وَلَدَيْهِ وَحِفْظِ مَالِهِمَا، قِيلَ: هُوَ الَّذِي دَفَنَهُ، وَقِيلَ هُوَ الْأَبُ السَّابِعُ مِنْ عِنْدِ الدَّافِنِ لَهُ، وَقِيلَ الْعَاشِرُ فَأَرادَ رَبُّكَ أَيْ: مَالِكُكَ وَمُدَبِّرُ أَمْرِكَ، وَأَضَافَ الرَّبَّ إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى تَشْرِيفًا لَهُ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أَيْ: كَمَالَهُمَا وَتَمَامَ نُمُوِّهِمَا وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجِدَارُ، وَلَوِ انْقَضَّ لَخَرَجَ الْكَنْزُ مِنْ تَحْتِهِ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لَهُمَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ:
مَرْحُومَيْنِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أَيْ: عَنِ اجْتِهَادِي وَرَأْيِي، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، فَقَدْ عَلِمَ بِقَوْلِهِ: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ الْخَضِرُ عَنْ أَمْرِ نَفْسِهِ ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً
أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ تلك البيانات الَّتِي بَيَّنْتُهَا لَكَ وَأَوْضَحْتُ وُجُوهَهَا تَأْوِيلُ مَا ضَاقَ صَبْرُكَ عَنْهُ وَلَمْ تُطِقِ السُّكُوتَ عَلَيْهِ وَمَعْنَى التَّأْوِيلِ هُنَا هُوَ الْمَآلُ الَّذِي آلَتْ إِلَيْهِ تِلْكَ الْأُمُورُ، وَهُوَ اتِّضَاحُ مَا كَانَ مُشْتَبِهًا عَلَى مُوسَى وَظُهُورِ وَجْهِهِ، وَحُذِفَ التَّاءُ مِنْ تَسْطِعْ تَخْفِيفًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً يَقُولُ: نُكْرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِمْراً فقال: عَجَبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ قَالَ: لَمْ يَنْسَ، وَلَكِنَّهَا مَنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ الْخَضِرُ عَبْدًا لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ، إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَرَهُ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا مُوسَى، وَلَوْ رَآهُ الْقَوْمُ لَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَبَيْنَ قَتْلِ الْغُلَامِ. وَأَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنَدُهُ إِلَّا قَوْلَهُ:
وَلَوْ رَآهُ الْقَوْمُ إِلَخْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لِمَا ذَكَرَهُ، أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ أَهْلُ السَّفِينَةِ وَأَهْلُ الْغُلَامِ، لَا لِكَوْنِهِ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ، بَلْ لِكَوْنِهِ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِهِمْ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَيُمْكِنُ أَنَّ أَهَلَ السَّفِينَةِ وَأَهْلَ الْغُلَامِ قَدْ عَرَفُوهُ وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُ الْأَنْبِيَاءُ، فَسَلَّمُوا لِأَمْرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: نَفْساً زَكِيَّةً قَالَ: مُسْلِمَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمْ تَبْلُغِ الْخَطَايَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: شَيْئاً نُكْراً قَالَ:
النُّكْرُ: أَنْكَرُ مِنَ الْعَجَبِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ الْخَضِرَ تَعْرِفُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ فَاقْتُلْهُمْ. وَزَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى(3/360)
عَنْهُ: وَلَكِنَّكَ لَا تَعْلَمُ، قَدْ نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِمْ فَاعْتَزِلْهُمْ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ أَدْرَكَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً مُثَقَّلَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: أَنْ يُضَيِّفُوهُما مُشَدَّدَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَهَدَمَهُ، ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيهِ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا أَنَّهُ مَسَحَهُ بِيَدِهِ أَوْلَى. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً مُخَفَّفَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى، لَوْ صَبَرَ لَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِ، وَلَكِنْ قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ قَالَ: كَتَبَ عُثْمَانُ «وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا» .
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ «فَخَافَ رَبُّكَ أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
خَيْراً مِنْهُ زَكاةً قَالَ: دِينًا وَأَقْرَبَ رُحْماً قَالَ: مَوَدَّةً، فَأُبْدِلَا جَارِيَةً وَلَدَتْ نَبِيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قَالَ: كَانَ الْكَنْزُ لِمَنْ قَبْلَنَا وَحُرِّمَ عَلَيْنَا، وَحُرِّمَتِ الْغَنِيمَةُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا وَأُحِلَّتْ لَنَا، فَلَا يَعْجَبَنَّ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: فَمَا شَأْنُ الْكَنْزِ؟ أُحِلَّ لِمَنْ قَبْلَنَا وَحُرِّمَ عَلَيْنَا؟ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِلُّ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، وَهِيَ السُّنَنُ وَالْفَرَائِضُ، يُحِلُّ لِأُمَّةٍ وَيُحْرِّمُ عَلَى أُخْرَى. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وصححه، وابن مردويه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قَالَ:
«ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قَالَ: أُحِلَّتْ لَهُمُ الْكُنُوزُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْغَنَائِمُ، وَأُحِلَّتْ لَنَا الْغَنَائِمُ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْكُنُوزُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ قَالَ: إِنَّ الْكَنْزَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مُصْمَتٌ فِيهِ: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ نَصِبَ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ ذَكَرَ النَّارَ ثُمَّ ضَحِكَ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ ذَكَرَ الْمَوْتَ ثُمَّ غَفَلَ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَفِي نَحْوِ هَذَا رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِذِكْرِهَا فَائِدَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَالْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي(3/361)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
قَوْلِهِ: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قَالَ: حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُصْلِحُ بِصَلَاحِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأَهْلَ دُوَيْرَتِهِ وَأَهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ فِيهِمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِصَلَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَيَحْفَظُهُ فِي دُوَيْرَتِهِ، وَالدُّوَيْرَاتِ حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي سِتْرٍ مِنَ اللَّهِ وَعَافِيَةٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عِمَارَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ نَسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى بِذِكْرٍ وَقَدْ كَانَ مَعَهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال: إِنَّهُ شَرِبَ مِنَ الْمَاءِ فَخُلِّدَ، فَأَخَذَهُ الْعَالِمُ فَطَابَقَ بِهِ سَفِينَةً ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهَا لَتَمُوجُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، الْحَسَنُ مَتْرُوكٌ، وأبوه غير معروف.
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 91]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
لَمَّا أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ سُؤَالَيْنِ مِنْ سُؤَالَاتِ الْيَهُودِ، وَانْتَهَى الْكَلَامُ إِلَى حَيْثُ انْتَهَى شَرْعَ سُبْحَانَهُ فِي السُّؤَالِ الثَّالِثِ وَالْجَوَابِ عَنْهُ، فَالْمُرَادُ بِالسَّائِلِينَ هُنَا هُمُ الْيَهُودُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَقِيلَ: هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلْقُوسَ الَّذِي مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا الْيُونَانِيُّ بَانِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مصر، اسمه مرزبان بن مردبة الْيُونَانِيُّ، مِنْ وَلَدِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَلِكٌ اسْمُهُ هُرْمُسُ، وَقِيلَ: مَلِكٌ اسْمُهُ هَرْدِيسُ، وَقِيلَ: شَابٌ مِنَ الرُّومِ، وَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا، وَقِيلَ: كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاكِ، وَقِيلَ: مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ أَوْلَادِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ السُّهَيْلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ عِلْمِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُمَا اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْآخَرُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: هُوَ أَبُو كَرِبٍ الْحِمْيَرِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَرَجَّحَ الرَّازِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، قَالَ: لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مُلْكُهُ مِنَ السِّعَةِ وَالْقُوَّةِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا التَّنْزِيلُ إِنَّمَا هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ الْيُونَانِيُّ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ كُتُبُ التَّارِيخِ، قَالَ:
فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ، قَالَ: وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ كَانَ تِلْمِيذًا لِأَرِسْطَاطَالِيسَ الْحَكِيمِ، وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَتَعْظِيمُ اللَّهِ إِيَّاهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَرِسْطَاطَالِيسَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ.
قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: قُلْتُ: لَيْسَ كُلُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ بَاطِلًا فَلَعَلَّهُ أَخَذَ مِنْهُمْ مَا صَفَا وَتَرَكَ مَا كَدُرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَجَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُمَا اثْنَانِ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ مَا بَنَاهُ وَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَكَانَ وَزِيرَهُ الْخَضِرُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْإِسْكَنْدَرُ الْمَقْدُونِيُّ الْيُونَانِيُّ، وَكَانَ وزيره(3/362)
الْفَيْلَسُوفُ الْمَشْهُورُ أَرِسْطَاطَالِيسُ، وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ، هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ رَاوِيًا لَهُ عَنِ الْأَزْرَقِيِّ وَغَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ ذكرنا طرفا صالحا من أَخْبَارِهِ فِي كِتَابِ «الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ» بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَحَكَى أَبُو السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا بَيَّنَّا هَذَا يَعْنِي أَنَّهُمَا اثْنَانِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ هُوَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ خَطَأٌ كَبِيرٌ وَفَسَادٌ كَثِيرٌ، كَيْفَ لَا، وَالْأَوَّلُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا مُؤْمِنًا، وَمَلِكًا عَادِلًا، وَوَزِيرُهُ الْخَضِرُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ كَانَ كَافِرًا، وَوَزِيرُهُ أَرِسْطَاطَالِيسُ الْفَيْلَسُوفُ، وَكَانَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الزَّمَانِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ؟ انْتَهَى. قُلْتُ: لَعَلَّهُ ذَكَرَ هَذَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ سَابِقًا، وَسَمَّاهُ بِالْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ هُوَ أَنَّهُمَا اثْنَانِ كَمَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَالْأَزْرَقِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمْ، لَا كَمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَادَّعَى أَنَّهُ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ كُتُبُ التَّوَارِيخِ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ هَلْ هُوَ نَبِيٌّ أَمْ لَا؟ وَسَيَأْتِي مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ آخِرَ هَذَا الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهُ سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْأَزْهَرِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، لِأَنَّهُ بَلَغَ قَرْنَ الشَّمْسِ مِنْ مَطْلَعِهَا، وَقَرْنَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ ضَفِيرَتَانِ مِنْ شَعَرٍ، وَالضَّفَائِرُ تُسَمَّى قُرُونًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا ... شُرْبَ النَّزِيفِ «2» بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ
وَالْحَشْرَجُ: مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ وَقِيلَ: إِنَّهُ رَأَى فِي أَوَّلِ مُلْكِهِ كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَى قَرْنَيِ الشَّمْسِ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ وَقِيلَ: كَانَ لَهُ قَرْنَانِ تَحْتَ عِمَامَتِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ دَعَا إِلَى اللَّهِ فَشَجَّهُ قَوْمُهُ عَلَى قَرْنِهِ، ثُمَّ دَعَا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر وقيل: إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَرِيمُ الطَّرَفَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ شَرَفٍ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ انْقَرَضَ فِي وَقْتِهِ قَرْنَانِ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ حَيُّ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا قَاتَلَ قَاتَلَ بِيَدَيْهِ وَرِكَابَيْهِ جَمِيعًا وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أُعْطِيَ عِلْمَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ دَخَلَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَلَكَ فَارِسَ وَالرُّومَ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَلَكَ الرُّومَ وَالتُّرْكَ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كان لتاجه قرنان. قوله: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أَيْ: سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ أَيُّهَا السَّائِلُونَ مِنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ خَبَرًا، وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ سَيَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْهُ ذِكْرًا، فَقَالَ: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أَيْ: أَقْدَرْنَاهُ بِمَا مَهَّدْنَا لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَجَعَلْنَا لَهُ مُكْنَةً وَقُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ الْمَسِيرَ فِي مَوَاضِعِهَا، وَذَلَّلَ لَهُ طُرُقَهَا حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْهَا أَيْنَ شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ؟ وَمِنْ جُمْلَةِ تَمْكِينِهِ فِيهَا أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ سَوَاءً فِي الْإِضَاءَةِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَطْلُوبِهِ سَبَباً أَيْ: طَرِيقًا يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا يُرِيدُهُ فَأَتْبَعَ سَبَباً مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَالْمَعْنَى طَرِيقًا تُؤَدِّيهِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَأَتْبَعَ سببا من
__________
(1) . هو عمر بن أبي ربيعة.
(2) . «النزيف» : المحموم الذي منع من الماء.(3/363)
الْأَسْبَابِ الَّتِي أُوتِيَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أُوتِيَ سَبَبًا فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَقِيلَ: أَتْبَعَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا يَتَسَبَّبُ بِهِ إِلَى مَا يُرِيدُ وَقِيلَ: بَلَاغًا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ، وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَسْتَعِينُ بِهِ الْمُلُوكُ مِنْ فَتْحِ الْمَدَائِنِ وَقَهْرِ الْأَعْدَاءِ. وَأَصْلُ السَّبَبِ الْحَبْلُ، فَاسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَأَتْبَعَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَبُو عَمْرٍو بِوَصْلِهَا. قَالَ الْأَخْفَشُ: تَبِعْتُهُ وَأَتْبَعْتُهُ بِمَعْنًى، مِثْلُ رَدَفْتُهُ وَأَرْدَفْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ «1» . قَالَ النَّحَّاسُ: وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ:
لِأَنَّهَا مِنَ السَّيْرِ. وَحَكَى هُوَ والأصمعي أنه يقال: تبعه واتّبعه إِذَا سَارَ وَلَمْ يَلْحَقْهُ، وَأَتْبَعَهُ إِذَا لَحِقَهُ. قال أبو عبيدة: ومثله: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ «2» .. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنَ الْفَرْقِ وَإِنْ كَانَ الأصمعي قد حكاه فلا يقبل إلا بعلّة أَوْ دَلِيلٍ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَحِقُوهُمْ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ لما خرج موسى وأصحابه من البحر وحصر فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ فِي الْبَحْرِ انْطَبَقَ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ. وَالْحَقُّ فِي هَذَا أَنْ تَبِعَ وَاتَّبَعَ وَأَتْبَعَ لُغَاتٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى السَّيْرِ حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أَيْ: نِهَايَةَ الْأَرْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ لِأَنَّ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ النِّهَايَةِ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ الْمُضِيُّ فِيهِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ حَامِيَةٍ: أَيْ حَارَّةٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ حَمِئَةٍ أَيْ: كَثِيرَةِ الْحَمْأَةِ، وَهِيَ الطِّينَةُ السَّوْدَاءُ، تَقُولُ: حَمَأْتُ الْبِئْرَ حَمْأً بِالتَّسْكِينِ إِذَا نَزَعْتَ حَمْأَتَهَا، وحمئت البئر حمأ بِالتَّحْرِيكِ كَثُرَتْ حَمْأَتُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَامِيَةً مِنَ الْحَمْأَةِ، فَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ وَقُلِبَتْ يَاءً، وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَيُقَالُ كَانَتْ حَارَّةً وَذَاتَ حَمْأَةٍ. قِيلَ: وَلَعَلَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا بَلَغَ سَاحِلَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ رَآهَا كَذَلِكَ فِي نَظَرِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُمَكِّنَهُ اللَّهُ مِنْ عُبُورِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْعَيْنِ الَّتِي تَغْرُبُ فِيهَا الشَّمْسُ «3» ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ هَذَا بَعْدَ أَنْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، وَمَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ وَالْبَحْرُ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَمُجَرَّدُ الِاسْتِبْعَادِ لَا يُوجِبُ حَمْلَ الْقُرْآنِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً الضَّمِيرُ فِي عِنْدَهَا إِمَّا لِلْعَيْنِ أَوْ لِلشَّمْسِ. قِيلَ: هُمْ قَوْمٌ لِبَاسُهُمْ جُلُودُ الْوَحْشِ، وَكَانُوا كُفَّارًا، فَخَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ، فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أَيْ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَهُمْ بِالْقَتْلِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ أَمْرًا ذَا حُسْنٍ، أَوْ أَمْرًا حُسْنًا، مُبَالَغَةً بِجَعْلِ الْمَصْدَرِ صِفَةً لِلْأَمْرِ، وَالْمُرَادُ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَتَعْلِيمُهُمُ الشَّرَائِعَ. قالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مُخْتَارًا لِلدَّعْوَةِ الَّتِي هِيَ الشِّقُّ الْأَخِيرُ مِنَ التَّرْدِيدِ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ وَلَمْ يَقْبَلْ دَعْوَتِي فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فِي الْآخِرَةِ فَيُعَذِّبُهُ فِيهَا عَذاباً نُكْراً أَيْ: مُنْكَرًا فَظِيعًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَدَّ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ نَبِيٌّ فَيُخَاطَبُ بِهَذَا، فَكَيْفَ يَقُولُ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ وَكَيْفَ يَقُولُ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ فَيُخَاطِبُهُ بِالنُّونِ، قَالَ: وَالتَّقْدِيرُ قُلْنَا يَا مُحَمَّدُ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَلْزَمُ لِجَوَازِ أَنْ يكون الله عزّ وجلّ خاطبه
__________
(1) . الحجر: 18.
(2) . الشعراء: 60.
(3) . القول الأول هو السديد الذي يتطابق مع الحقيقة العلمية.(3/364)
عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ فِي وَقْتِهِ، وَكَأَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ خَاطَبَ أُولَئِكَ الْقَوْمَ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطِبًا لِلنَّبِيِّ الَّذِي خَاطَبَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ، أَوْ خَاطَبَ قَوْمَهُ الَّذِينَ وَصَلَ بِهِمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: أَنْ فِي قَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَوْ رُفِعَتْ لَكَانَ صَوَابًا بِمَعْنَى فَأَمَّا هُوَ، كَقَوْلِ الشاعر:
فسيرا فَإِمَّا حَاجَةٌ تَقْضِيَانِهَا ... وَإِمَّا مَقِيلٌ صَالِحٌ وَصَدِيقُ
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ دَعْوَتِي وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ فَلَهُ جَزاءً بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: جَزَاءٌ الْخَصْلَةُ الْحُسْنَى عِنْدَ اللَّهِ، أَوِ الْفَعْلَةُ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَإِضَافَةُ الْجَزَاءِ إِلَى الْحُسْنَى الَّتِي هِيَ الْجَنَّةُ كَإِضَافَةِ حَقِّ الْيَقِينِ وَدَارِ الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَزَاءُ مِنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، أَيْ: أُعْطِيهِ وَأَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى بِنَصْبِ جَزَاءً وَتَنْوِينِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: انْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مَجْزِيًّا بِهَا جَزَاءً، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ بِنَصْبِ جَزاءً مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ عَلَى حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِهِ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ حَذْفِ تَنْوِينٍ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقُرِئَ بِرَفْعِ جَزَاءٌ مُنَوَّنًا عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْحُسْنَى بَدَلٌ مِنْهُ وَالْخَبَرُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أَيْ: مِمَّا نَأْمُرُ بِهِ قَوْلًا ذَا يُسْرٍ لَيْسَ بِالصَّعْبِ الشَّاقِّ، أَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ مُبَالَغَةً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أَيْ: طَرِيقًا آخَرَ غَيْرَ الطَّرِيقِ الْأُولَى، وَهِيَ الَّتِي رَجَعَ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، وَسَارَ فِيهَا إِلَى الْمَشْرِقِ حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أَيِ: الْمَوْضِعَ الَّذِي تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوَّلًا مِنْ مَعْمُورِ الأرض، مكان طلوع، لِعَدَمِ الْمَانِعِ شَرْعًا وَلَا عَقْلًا مِنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً يَسْتُرُهُمْ، لَا مِنَ الْبُيُوتِ وَلَا مِنَ اللِّبَاسِ، بَلْ هُمْ حُفَاةٌ عُرَاةٌ لَا يَأْوُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِمَارَةِ. قِيلَ: لِأَنَّهُمْ بِأَرْضٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهَا الْبِنَاءُ كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أَيْ: كَذَلِكَ أَمْرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَتْبَعَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغَ، وَقَدْ عَلِمْنَا حِينَ مَلَّكْنَاهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِذَلِكَ الْمُلْكِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ سِتْرًا مِثْلَ ذَلِكَ السِّتْرِ الَّذِي جَعَلْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالثِّيَابِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: كَذَلِكَ بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ مِثْلَ مَا بَلَغَ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقِيلَ:
الْمَعْنَى: كَذَلِكَ تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَبِيلِ الَّذِي تَغْرُبُ عَلَيْهِمْ، فَقَضَى فِي هَؤُلَاءِ كَمَا قَضَى فِي أُولَئِكَ مِنْ تَعْذِيبِ الظَّالِمِينَ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْإِحَاطَةِ بِمَا لَدَيْهِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، كَمَا قُلْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ إِنَّمَا تَذْكُرُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيِّينَ، إِنَّكَ سَمِعْتَ ذِكْرَهُمْ مِنَّا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ نَبِيٍّ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ إِلَّا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالُوا: ذُو الْقَرْنَيْنِ، قَالَ: مَا بَلَغَنِي عَنْهُ شَيْءٌ، فَخَرَجُوا فَرِحِينَ قَدْ غَلَبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَبْلُغُوا بَابَ الْبَيْتِ حَتَّى نَزَلَ جبريل بهؤلاء الآيات وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ(3/365)
وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ وَمَا أَدْرِي أَذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ وَمَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا؟» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنَبِيٌّ هُوَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يقول: «هو عبد ناصح الله فَنَصَحَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي «فُتُوحِ مِصْرَ» ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ: أَنَبِيًّا كَانَ أَمْ مَلِكًا؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا مَلِكًا، وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا أَحَبَّ اللَّهَ فَأَحَبَّهُ اللَّهُ، وَنَصَحَ لِلَّهِ فَنَصَحَهُ اللَّهُ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ لِجِهَادِهِمْ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ الْآخَرِ فَمَاتَ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ لِجِهَادِهِمْ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، وَإِنَّ فِيكُمْ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: ذُو الْقَرْنَيْنِ نبيّ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأحوص بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ: «هُوَ مَلِكٌ مَسَحَ الْأَرْضَ بِالْأَسْبَابِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي «فُتُوحِ مِصْرَ» ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ في العظمة، عن خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكُلَاعِيِّ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ «الْأَضْدَادِ» ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُنَادِي بِمِنًى:
يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ عمر: ها أنتم قد سمعتم بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا بَالُكُمْ وَأَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ؟ وَفِي الْبَابِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا يُغْنِي عَنْهُ مَا قَدْ أَوْرَدْنَاهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي «فُتُوحِ مِصْرَ» ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ حَدِيثًا يَتَضَمَّنُ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا جَاءُوا لَهُ ابْتِدَاءً، وَكَانَ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ أَنَّهُ كَانَ شَابًّا مِنَ الرُّومِ، وَأَنَّهُ بَنَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَأَنَّهُ عَلَا بِهِ مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّدِّ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي مَتْنِهِ نَكَارَةٌ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ جَرِيرٍ وَالْأُمَوِيِّ فِي مَغَازِيهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَالْعَجَبُ أن أبا زرعة الرازي مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِهِ «دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» انْتَهَى.
وَقَدْ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ السُّيُوطِيُّ فِي «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» ، وَسَاقَ أَيْضًا خَبَرًا طَوِيلًا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالشِّيرَازِيِّ فِي الْأَلْقَابِ وَأَبِي الشَّيْخِ، وَفِيهِ أَشْيَاءُ مُنْكَرَةٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ خَبَرًا طَوِيلًا عَنْ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَنَحْوَهَا مَنْقُولَةٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِأَنْ لَا نُصَدِّقَهُمْ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ إِلَيْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً قَالَ: عِلْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنْتَ تَقُولُ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ يَرْبِطُ خَيْلَهُ بِالثُّرَيَّا، قَالَ لَهُ كَعْبٌ:
إِنْ كُنْتُ قُلْتُ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طريق عثمان بن حاضر «1» أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بن أبي
__________
(1) . في المطبوع: عثمان بن أبي حاضر، قال ابن حجر في التقريب (2/ 7) : وهو وهم.(3/366)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
سُفْيَانَ قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ «تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ» قَالَ ابْنُ عباس: فقلت لمعاوية ما نقرؤها إلا حَمِئَةٍ فسأل معاوية عبد بْنَ عَمْرٍو كَيْفَ تَقْرَؤُهَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَمَا قَرَأْتَهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: فِي بَيْتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ:
سَلْ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَا، وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلى المغرب. قال ابن حاضر: لو أني عند كما أَيَّدْتُكَ بِكَلَامٍ تَزْدَادُ بِهِ بَصِيرَةً فِي حَمِئَةٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: فِيمَا نَأْثِرُ قَوْلُ تُبَّعٍ فِيمَا ذَكَرَ بِهِ ذَا الْقَرْنَيْنِ فِي كَلَفِهِ بِالْعِلْمِ وَاتِّبَاعِهِ إِيَّاهُ:
قَدْ كان ذو القرنين عمرو مسلما ... ملكا تذلّ له الملوك وتحسد
فَأَتَى الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي ... أَسْبَابَ مُلْكٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدٍ
فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا ... في عين ذي خلب وثأط حرمد
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا الْخَلَبُ؟ قُلْتُ: الطِّينُ بِكَلَامِهِمْ، قَالَ: فَمَا الثَّاطُ؟ قُلْتُ: الْحَمْأَةُ. قَالَ: فما الحرمد؟ قُلْتُ: الْأَسْوَدُ فَدَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامًا فَقَالَ: اكْتُبْ مَا يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أن النبي كَانَ يَقْرَأُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مثله.
[سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 98]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96)
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ سَفَرَ ذِي الْقَرْنَيْنِ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ نَاحِيَةُ الْقُطْرِ الشَّمَالِيِّ بَعْدَ تَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِ، فَقَالَ:
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أَيْ: طَرِيقًا ثَالِثًا مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَحْيَى الْيَزِيدِيُّ وَأَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: السَّدُّ إِنْ كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ بِضَمِّ السِّينِ حَتَّى يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ: هُوَ مِمَّا فَعَلَهُ اللَّهُ وَخَلَقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ الْعِبَادِ فَهُوَ بالفتح حتى يكون حدثا. وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كُلُّ مَا قَابَلَكَ فَسَدَّ مَا وَرَاءَهُ فَهُوَ سَدٌّ وَسُدُّ نَحْوُ الضَّعْفِ وَالضُّعْفِ، وَالْفَقْرِ وَالْفُقْرِ، وَالسَّدَّانِ هُمَا جَبَلَانِ مِنْ قِبَلِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَانْتِصَابُ بَيْنَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ كَمَا ارْتَفَعَ بِالْفَاعِلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» . وَقِيلَ: مَوْضِعُ بَيْنَ السَّدَّيْنِ هُوَ مُنْقَطَعُ أَرْضِ التُّرْكِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ لَا جَبَلَا أَرْمِينِيَّةَ وأذربيجان.
__________
(1) . الأنعام: 94.(3/367)
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي «تَارِيخِهِ» أَنَّ صَاحِبَ أَذْرَبِيجَانَ أَيَّامَ فَتْحِهَا وَجَّهَ إِنْسَانًا مِنْ نَاحِيَةِ الْجُزُرِ فَشَاهَدَهُ، وَوَصَفَ أَنَّهُ بُنْيَانٌ رَفِيعٌ وَرَاءَ خندق وثيق منيع، ووَجَدَ مِنْ دُونِهِما أَيْ: مِنْ وَرَائِهِمَا مَجَازًا عَنْهُمَا، وَقِيلَ: أَمَامَهُمَا قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُفْقِهُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ مِنْ أَفْقَهَ إِذَا أَبَانَ، أَيْ: لَا يُبَيِّنُونَ لِغَيْرِهِمْ كَلَامًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ، أَيْ: لَا يَفْهَمُونَ كَلَامَ غَيْرِهِمْ، وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَمَعْنَاهُمَا لَا يَفْهَمُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَا يُفْهِمُونَ غَيْرَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ لُغَةِ أَنْفُسِهِمْ قالُوا أَيْ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ لَا يُفْهِمُونَ قَوْلًا، قِيلَ: إِنَّ فَهْمَ ذِي الْقَرْنَيْنِ لِكَلَامِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِتُرْجُمَانِهِمْ، فَقَالَ لِذِي القرنين بما قالوا له: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اسْمَانِ عَجَمِيَّانِ بِدَلِيلِ مَنْعِ صَرْفِهِمَا، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُ.
وَقِيلَ: مُشْتَقَّانِ مِنْ أَجَّ الظَّلِيمُ فِي مَشْيِهِ إِذَا هَرْوَلَ، وتأججت النار إذا تلهبت، قرأهما الجمهور غير هَمْزٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِالْهَمْزِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَجْهُ هَمْزِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ هَمَزَتْ حُرُوفًا لَا يُعْرَفُ للهمز فيها أصل كقولهم: كبأثت وَرَثَأَتْ وَاسْتَشْأَتْ الرِّيحُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَرَبِيَّيْنِ، فَمَنْ هَمَزَ فَهُوَ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ مِثْلَ يَرْبُوعٍ، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ فَقَلَبَهَا أَلِفًا مِثْلَ رَاسٍ. وَأَمَّا مَأْجُوجُ، فَهُوَ مَفْعُولُ مِنْ أَجَّ، وَالْكَلِمَتَانِ مَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ فِي الِاشْتِقَاقِ. قَالَ: وَتُرِكَ الصَّرْفُ فِيهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا عَرَبِيَّيْنِ لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّعْرِيفِ كَأَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِمْ فَقِيلَ: هُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ يَأْجُوجُ مِنَ التُّرْكِ وَمَأْجُوجُ من الجيل وَالدَّيْلَمِ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: احْتَلَمَ آدَمُ فَاخْتَلَطَ مَاؤُهُ بِالتُّرَابِ فَخُلِقُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَحْتَلِمُونَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ، كَذَلِكَ قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي صِفَتِهِمْ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَصِفُهُمْ بِصِغَرِ الْجُثَثِ وَقِصَرِ الْقَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِفُهُمْ بِكِبَرِ الْجُثَثِ وَطُولِ الْقَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ مَخَالِبُ كَمَخَالِبِ السِّبَاعِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ صِنْفًا يَفْتَرِشُ إِحْدَى أُذُنَيْهِ وَيَلْتَحِفُ بِالْأُخْرَى، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَخْبَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ.
وَاخْتُلِفَ فِي إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، فَقِيلَ: هُوَ أَكْلُ بَنِي آدَمَ، وَقِيلَ: هُوَ الظُّلْمُ وَالْغَشْمُ وَالْقَتْلُ وَسَائِرُ وُجُوهِ الْإِفْسَادِ وَقِيلَ: كَانُوا يَخْرُجُونَ إِلَى أَرْضِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ شَكَوْهُمْ إِلَى ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ فَلَا يَدَعُونَ فِيهَا شَيْئًا أَخْضَرَ إِلَّا أَكَلُوهُ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنْ بَابِ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ ذِي الْقَرْنَيْنِ.
وَقُرِئَ خَرَاجًا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْخَرَاجُ يَقَعُ عَلَى الضَّرِيبَةِ، وَيَقَعُ عَلَى مَالِ الْفَيْءِ، وَيَقَعُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَعَلَى الْغَلَّةِ. وَالْخَرَاجُ أَيْضًا: اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْخَرْجُ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْخَرْجُ الْجِزْيَةُ، وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: الْخَرْجُ مَا يُخْرِجُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ مَالِهِ، وَالْخَرَاجُ: مَا يَجْبِيهِ السُّلْطَانُ وَقِيلَ:
هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أَيْ: رَدْمًا حَاجِزًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. وَقُرِئَ سَدًّا بِفَتْحِ السِّينِ.
قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: الضَّمُّ هُوَ الِاسْمُ، وَالْفَتْحُ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْفَتْحُ وَالضَّمُّ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي(3/368)
إِسْحَاقَ: مَا رَأَتْهُ عَيْنَاكَ فَهُوَ سُدٌّ بِالضَّمِّ، وَمَا لَا تَرَى فَهُوَ سَدٌّ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ وَبِالضَّمِّ فِي السَّدَّيْنِ قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي أَيْ: قَالَ لَهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ: مَا بَسَطَهُ اللَّهُ لِي مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ خَيْرٌ مِنْ خَرْجِكُمْ، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمُ الْمُعَاوَنَةَ لَهُ فَقَالَ: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَيْ: بِرِجَالٍ مِنْكُمْ يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ، أَوْ أَعِينُونِي بِآلَاتِ الْبِنَاءِ، أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: بِعَمَلٍ تَعْمَلُونَهُ مَعِي. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ «مَا مَكَّنَنِي» بِنُونَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً هَذَا جَوَابُ الْأَمْرِ، وَالرَّدْمُ: مَا جُعِلَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَتَّصِلَ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: يُقَالُ رَدَمْتُ الثُّلْمَةَ أَرْدِمُهَا بِالْكَسْرِ رَدْمًا، أَيْ: سَدَدْتُهَا، وَالرَّدْمُ أَيْضًا الِاسْمُ، وَهُوَ السَّدُّ، وَقِيلَ: الرَّدْمُ أَبْلَغُ مِنَ السَّدِّ، إِذِ السَّدُّ كُلُّ مَا يُسَدُّ بِهِ، وَالرَّدْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ نَحْوِهِمَا حَتَّى يَقُومَ مِنْ ذَلِكَ حِجَابٌ مَنِيعٌ، وَمِنْهُ رَدَمَ ثَوْبَهُ: إِذَا رَقَعَهُ بِرِقَاعٍ مُتَكَاثِفَةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدِّمِ «1»
............... ........
أَيْ: مِنْ قَوْلٍ يَرْكَبُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي: أعطوني وناولوني، وزبر الْحَدِيدِ جَمْعُ زُبْرَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الزُّبْرَةُ مِنَ الْحَدِيدِ الْقِطْعَةُ الضَّخْمَةُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: معنى آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ايتوني بِهَا، فَلَمَّا أُلْقِيَتِ الْيَاءُ زِيدَتْ أَلِفًا، وَعَلَى هَذَا فَانْتِصَابُ زُبُرَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ وَالصَّدَفَانِ: جَانِبَا الْجَبَلِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ لِجَانِبَيِ الْجَبَلِ صَدَفَانِ إِذَا تَحَاذَيَا لِتَصَادُفِهِمَا، أَيْ: تَلَاقِيهِمَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ والهروي. قال الشاعر:
كلا الصّدفين ينفذه سِنَاهَا ... تُوقِدُ مِثْلَ مِصْبَاحِ الظَّلَامِ
وَقَدْ يُقَالُ لِكُلِّ بِنَاءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ صَدَفٌ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ الصَّدَفَيْنِ بِفَتْحِ الصَّادِ وَالدَّالِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَالدَّالِ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ. وَقَرَأَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّ الدَّالِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ لِأَنَّهَا أَشْهَرُ اللُّغَاتِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ زُبَرَ الْحَدِيدِ، فَجَعَلَ بيني بِهَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ حَتَّى سَاوَاهُمَا قالَ انْفُخُوا أَيْ: قَالَ لِلْعَمَلَةِ «2» : انْفُخُوا عَلَى هَذِهِ الزُّبَرِ بِالْكِيرَانِ حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَنْفُوخَ فِيهِ، وَهُوَ الزُّبَرُ نَارًا: أَيْ كَالنَّارِ فِي حَرِّهَا وَإِسْنَادُ الْجَعْلِ إِلَى ذِي الْقَرْنَيْنِ مَجَازٌ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِالنَّفْخِ. قِيلَ: كَانَ يَأْمُرُ بِوَضْعِ طَاقَةٍ مِنَ الزُّبَرِ وَالْحِجَارَةِ ثُمَّ يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى يتحمّى، وَالْحَدِيدُ إِذَا أُوقِدَ عَلَيْهِ صَارَ كَالنَّارِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالنُّحَاسِ الْمُذَابِ فَيُفْرِغُهُ عَلَى تِلْكَ الطَّاقَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْقِطْرُ النُّحَاسُ الذَّائِبُ، وَالْإِفْرَاغُ: الصَّبُّ، وَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْقِطْرُ الْحَدِيدُ الْمُذَابُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
هُوَ الرَّصَاصُ الْمُذَابُ فَمَا اسْطاعُوا أَصْلُهُ اسْتَطَاعُوا، فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْمُتَقَارِبَانِ، وَهُمَا التاء والطاء خففوا
__________
(1) . وعجزه: أم هل عرفت الدّار بعد توهّم.
(2) . أي العمّال. [.....](3/369)
بِالْحَذْفِ. قَالَ ابْنُ السِّكِيتِ: يُقَالُ مَا أَسْتَطِيعُ، وَمَا أَسْطِيعُ، وَمَا أَسْتِيعُ. وَبِالتَّخْفِيفِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ فَمَا اسْطاعُوا بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ كَأَنَّهُ أَرَادَ اسْتَطَاعُوا فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الطَّاءِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةُ الْوَجْهِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ فَمَا اسْتَطَاعُوا عَلَى الْأَصْلِ، وَمَعْنَى أَنْ يَظْهَرُوهُ أَنْ يَعْلُوهُ أَيْ فَمَا اسْتَطَاعَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَنْ يَعْلُوا عَلَى ذَلِكَ الرَّدْمِ لِارْتِفَاعِهِ وَمَلَاسَتِهِ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً يُقَالُ نَقَبْتُ الْحَائِطَ: إِذَا خَرَقْتَ فِيهِ خَرْقًا فَخَلَصَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا قَدَرُوا أَنْ يَعْلُوا عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِهِ وَانْمِلَاسِهِ، وَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَنْقُبُوهُ مِنْ أَسْفَلِهِ لِشِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أَيْ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مُشِيرًا إِلَى السَّدِّ: هَذَا السَّدُّ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، أَيْ: أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَجَاوِزِينَ لِلسَّدِّ ولمن خلفهم ممن يخشى عليه مَعَرَّتَهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ السَّدُّ وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى التَّمْكِينِ مِنْ بِنَائِهِ فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أَيْ: أَجَلُ رَبِّي أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَهُ دَكَّاءَ أَيْ: مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا «1» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَيْ:
مُسْتَوِيًا، يُقَالُ نَاقَةٌ دَكَّاءٌ: إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أَيْ: جَعَلَهُ مَدْكُوكًا مُلْصَقًا بِالْأَرْضِ. وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: قطعا متكسرا. قال الشاعر:
هل غير غاد دَكَّ غَارًا فَانْهَدَمَ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: دَكَكْتُهُ، أَيْ: دَقَقْتَهُ. وَمَنْ قَرَأَ دَكَّاءً بِالْمَدِّ وَهُوَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَرَادَ التَّشْبِيهَ بِالنَّاقَةِ الدَّكَّاءِ، وَهِيَ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا، أَيْ: مِثْلُ دَكَّاءٍ لِأَنَّ السَّدَّ مُذَكَّرٌ فَلَا يُوصَفُ بِدَكَّاءٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ دَكًّا بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَمَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ: مَدْكُوكًا وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أَيْ: وَعْدُهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، أَوِ الْوَعْدُ الْمَعْهُودُ حَقًّا ثَابِتًا لَا يَتَخَلَّفُ، وَهَذَا آخِرُ قَوْلِ ذِي الْقَرْنَيْنِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قَالَ: الْجَبَلَيْنِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالَ: التُّرْكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ شِبْرٌ وَشِبْرَانِ وَأَطْوَلُهُمْ ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ آدَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ وَلَوْ أُرْسِلُوا لَأَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ مَعَايِشَهُمْ، وَلَا يَمُوتُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ ثَلَاثَ أُمَمٍ:
تَاوِيلُ، وَتَارِيسُ، وَمَنْسَكُ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: «أَنَّهُ لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
__________
(1) . الفجر: 21.(3/370)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
«إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَفْتَحُونَهُ غَدًا، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ أَشَدَّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ، وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ حَفَرُوا، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَفْتَحُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَسْتَثْنِي، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَسْتَقُونَ الْمِيَاهَ، وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ قَسْرًا وَعُلُوًّا، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَهْلِكُونَ» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ وَتَبْطَرُ وَتَشْكُرُ شُكْرًا مِنْ لُحُومِهِمْ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ قَالَتِ: «اسْتَيْقَظَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وَحَلَّقَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . وَأَخْرَجَا نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قَوْلِهِ: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً قَالَ: أَجْرًا عَظِيمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: رَدْماً قَالَ: هُوَ كَأَشَدِّ الْحِجَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: زُبَرَ الْحَدِيدِ قَالَ:
قِطَعُ الْحَدِيدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ. قَالَ: الْجَبَلَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن مجاهد قال: رؤوس الْجَبَلَيْنِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قِطْراً قَالَ: النُّحَاسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ قَالَ: أَنْ يَرْتَقُوهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَنْ يَعْلُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ دَكَّاءَ قَالَ: لَا أَدْرِي الْجَبَلَيْنِ يعني به أم بينهما.
[سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 108]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)
قَوْلُهُ: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ كَلَامِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَالضَّمِيرُ فِي بَعْضِهِمْ لِيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَيْ: تَرَكْنَا بَعْضَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَوْمَ مَجِيءِ الْوَعْدِ، أَوْ يَوْمَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُمْ، يُقَالُ: مَاجَ النَّاسُ إِذَا دَخَلَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ حَيَارَى كَمَوْجِ الْمَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَضْطَرِبُونَ وَيَخْتَلِطُونَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَعْضِهِمْ لِلْخَلْقِ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ: وَجَعَلْنَا(3/371)
بَعْضَ الْخَلْقِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَتَرَكْنَا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَوْمَ كَمَالِ السَّدِّ وَتَمَامِ عِمَارَتِهِ بَعْضُهُمْ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فِي الْأَنْعَامِ، قِيلَ: هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً فَإِنَّ الْفَاءَ تُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّفْخَةَ الْأُولَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا ذِكْرُ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ.
وَالْمَعْنَى: جَمَعْنَا الْخَلَائِقَ بعد تلاشي أبدانهم ومصيرهم تُرَابًا جَمْعًا تَامًّا عَلَى أَكْمَلِ صِفَةٍ وَأَبْدَعِ هَيْئَةٍ وَأَعْجَبِ أُسْلُوبٍ وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الْمُرَادُ بِالْعَرْضِ هُنَا الْإِظْهَارُ، أَيْ: أَظْهَرْنَا لَهُمْ جَهَنَّمَ حَتَّى شَاهَدُوهَا يَوْمَ جَمْعِنَا لَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ عَظِيمٌ لِمَا يَحْصُلُ مَعَهُمْ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا مِنَ الْفَزَعِ وَالرَّوْعَةِ.
ثُمَّ وَصَفَ الْكَافِرِينَ الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي أَيْ: كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي غِطَاءٍ وَهُوَ مَا غَطَّى الشَّيْءَ وَسَتَرَهُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ عَنْ ذِكْرِي عَنْ سَبَبِ ذِكْرِي، وَهُوَ الْآيَاتُ الَّتِي يُشَاهِدُهَا مَنْ لَهُ تَفَكُّرٌ وَاعْتِبَارٌ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّمْجِيدِ، فَأَطْلَقَ الْمُسَبَّبَ عَلَى السَّبَبِ، أَوْ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ وَتَدَبُّرِ فَوَائِدِهِ. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْعَمَى عَنِ الدَّلَائِلِ التَّكْوِينِيَّةِ أَوِ التَّنْزِيلِيَةِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا، أَرَادَ أَنْ يَصِفَهُمْ بِالصَّمَمِ عَنِ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ فَقَالَ: وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ لِمَا فِيهِ الْحَقُّ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قَالَ وَكَانُوا صُمًّا لَأَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ يَسْتَطِيعُ السَّمْعَ إِذَا صِيحَ بِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِي ذِكْرِ غِطَاءِ الْأَعْيُنِ وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ السَّمَاعِ تَمْثِيلٌ لِتَعَامِيهِمْ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ بِالْأَبْصَارِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْحُسْبَانُ هُنَا بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَنَظَائِرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَفَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِمَا عَبَدُوهُ مَعَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ اللَّهِ، وَتَمَرُّدِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَمَعْنَى أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَيْ: يَتَّخِذُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَسِيحُ وَالشَّيَاطِينُ أَوْلِياءَ أَيْ: مَعْبُودِينَ، قَالَ الزَّجَّاجُ:
الْمَعْنَى أَيَحْسَبُونَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ ذَلِكَ، وَقُرِئَ أَفَحَسِبَ بِسُكُونِ السِّينِ، وَمَعْنَاهُ أَكَافِيهِمْ وَمُحْسِبُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِيهِمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا حَسِبُوا إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أَيْ: هَيَّأْنَاهَا لَهُمْ نُزُلًا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ عِنْدَ وُرُودِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: النُّزُلُ: الْمَأْوَى وَالْمَنْزِلُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي يُعَدُّ لِلضَّيْفِ، فَيَكُونُ تَهْكُّمًا بِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَهَنَّمَ مُعَدَّةٌ لَهُمْ عِنْدَنَا كَمَا يُعَدُّ النُّزُلُ لِلضَّيْفِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا انْتِصَابُ أَعْمَالًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْجَمْعُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِرَادَةِ الْأَنْوَاعِ مِنْهَا، وَمَحَلُّ الْمَوْصُولِ وَهُوَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الفعل عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِضَلَالِ السَّعْيِ بُطْلَانُهُ وَضَيَاعُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الذَّمِّ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْأَخْسَرِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ أَيْضًا هُوَ أُولَئِكَ وَمَا بَعْدَهُ، وَأَوَّلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ هُوَ أَوْلَاهَا، وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ
__________
(1) . آلِ عمران: 21.(3/372)
فَاعِلِ ضَلَّ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ فِي ذَلِكَ مُنْتَفِعُونَ بِآثَارِهِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً لِتَكْمِيلِ الْخُسْرَانِ وَبَيَانِ سَبَبِهِ، هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الأوّل الراجح لا على الوجوه الآخرة، فَإِنَّهَا هِيَ الْجَوَابُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ: كُفْرُهُمْ بِدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ مِنَ الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ وَالتَّنْزِيلِيَّةِ، وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِلِقَائِهِ: كُفْرُهُمْ بِالْبَعْثِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَيْ: الَّتِي عَمِلُوهَا مِمَّا يَظُنُّونَهُ حَسَنًا، وَهُوَ خُسْرَانٌ وَضَلَالٌ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أَيْ: لَا يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَنَا قَدْرٌ وَلَا نَعْبَأُ بِهِمْ، وَقِيلَ: لَا يُقَامُ لَهُمْ مِيزَانٌ تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَهَؤُلَاءِ لَا حَسَنَاتٍ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرَبُ تَقُولُ مَا لِفُلَانٍ عِنْدَنَا وَزْنٌ، أَيْ: قَدْرٌ لِخِسَّتِهِ، وَيُوصَفُ الرَّجُلُ بِأَنَّهُ لَا وَزْنَ لَهُ لِخِفَّتِهِ، وَسُرْعَةِ طَيْشِهِ، وَقِلَّةِ تَثَبُّتِهِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرٌ وَلَا مَنْزِلَةٌ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ يُقِيمُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: فَلَا يُقِيمُ اللَّهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فَقَالَ: ذلِكَ أَيْ: الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ جَزَاؤُهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: جَهَنَّمُ عَطْفَ بَيَانٍ لِلْجَزَاءِ، أَوْ جُمْلَةُ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ مُبْتَدَأٌ وخبر الجملة خَبَرُ ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَى الْكُفْرِ اتِّخَاذَ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّخَاذَ رُسُلِهِ هُزُوًا، فَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ هُزُوًا أَنَّهُمْ مَهْزُوءٌ بِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، فَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ، وَقِيلَ: الْخَوَارِجُ، وَقِيلَ: الرُّهْبَانُ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ لِكُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا الْوَعِيدِ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْوَعْدَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَهُمَا حَتَّى كَانُوا عَلَى ضِدِّ صِفَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ كانَتْ لَهُمْ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: كَانَتْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ كَانَتْ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفِرْدَوْسُ فِيمَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْعِنَبُ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْفِرْدَوْسَ الْبُسْتَانُ بِاللُّغَةِ الرُّومِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ النُّزُلِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَالْمَعْنَى:
كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارُ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا مُعَدًّا لَهُمْ مُبَالَغَةً فِي إِكْرَامِهِمْ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْحِوَلُ مَصْدَرٌ، أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ تَحَوُّلًا عَنْهَا إِذْ هِيَ أَعْزُ مِنْ أَنْ يَطْلُبُوا غَيْرَهَا، أَوْ تَشْتَاقَ أَنْفُسُهُمْ إِلَى سِوَاهَا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ:
الْحِوَلُ اسْمٌ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ يَقُومُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ الْحِوَلَ التَّحْوِيلُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ الْآيَةَ قَالَ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً قَالَ: لَا يَعْقِلُونَ سَمْعًا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال أبو عبيد بِجَزْمِ السِّينِ وَضَمِّ الْبَاءِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ(3/373)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:
سَأَلْتُ أَبِي قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأما النصارى فكذبوا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ «1» ، وَكَانَ سَعْدٌ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ والفريابي وسعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الْحَرُورِيَّةُ هُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَالْحَرُورِيَّةُ: قَوْمٌ زَاغُوا فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي خميصة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ ابن أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا إِنَّهُمُ الرُّهْبَانُ الَّذِينَ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي السَّوَارِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَسَأَلَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ فَقَالَ:
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا قَالَ: فَجَرَةُ قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا قَالَ:
لَا أَظُنُّ إِلَّا أَنَّ الْخَوَارِجَ مِنْهُمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهَا سُرَّةُ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْفِرْدَوْسِ يَسْمَعُونَ أَطِيطَ الْعَرْشِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَمِنْ فَوْقِهَا يَكُونُ الْعَرْشُ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ» ، وَالْأَحَادِيثُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
الْفِرْدَوْسُ بُسْتَانٌ بِالرُّومِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُوَ الْكَرْمُ بِالنَّبَطِيَّةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ كَعْبًا عَنِ الْفِرْدَوْسِ قَالَ: هِيَ جَنَّاتُ الْأَعْنَابِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا قال: متحوّلا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 109 الى 110]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
__________
(1) . البقرة: 27.(3/374)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ نَبَّهَ عَلَى كَمَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَ الْمِدَادُ مِدَادًا لِإِمْدَادِهِ الْكَاتِبَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَمَجِيءِ الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَيُقَالُ لِلزَّيْتِ الَّذِي يُوقَدُ بِهِ السِّرَاجُ مِدَادٌ، وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ هُنَا الْجِنْسُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كُتِبَتْ كَلِمَاتُ عِلْمِ اللَّهِ وحكمته، وفرض أن جنس البحر مدادا لَهَا لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ نُفُودِ الْكَلِمَاتِ، وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِ الْبَحْرِ مِدَادًا لَنَفِدَ أَيْضًا، وَقِيلَ فِي بَيَانِ الْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِلْقَلَمِ وَالْقَلَمُ يَكْتُبُ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَقَوْلُهُ:
وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً كَلَامٌ مِنْ جِهَتِهِ سُبْحَانَهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كانَ وَفِيهِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَأْكِيدٍ، وَالْوَاوُ لِعَطْفِ مَا بَعْدَهُ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ مَدْلُولٍ عَلَيْهَا بِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُهُ لَوْ لم يجيء بمثله مدادا وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، وَالْمَدَدُ الزِّيَادَةُ وَقِيلَ: عَنَى سُبْحَانَهُ بِالْكَلِمَاتِ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ وَلَا مُنْتَهًى، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَقَدْ عَبَّرَتِ الْعَرَبُ عَنِ الْفَرْدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَوَجْهٌ نَقِيُّ اللَّوْنِ صَافٍ يُزَيِّنُهُ ... مَعَ الْجِيدِ لُبَّاتٌ لَهَا وَمَعَاصِمُ
فَعَبَّرَ بِاللُّبَّاتِ عَنِ اللُّبَّةِ. قَالَ الْجِبَائِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِهِ قَدْ تَنْفَدُ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَا ثَبَتَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِ تِلْكَ الصِّفَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ نَفَادَ شَيْءٍ قَبْلَ نَفَادِ شَيْءٍ آخَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفَادِ الشَّيْءِ الْآخَرِ، وَلَا عَلَى عَدَمِ نَفَادِهِ، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا كَثْرَةُ كَلِمَاتِ اللَّهِ بِحَيْثُ لَا تَضْبِطُهَا عُقُولُ الْبَشَرِ أَمَّا أَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ، أَوْ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآيَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَابِعَةٌ لِمَعْلُومَاتِهِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَالْكَلِمَاتُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مِدَادًا وَهِيَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مَدَداً وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَ التَّوَاضُعِ، فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ: إِنَّ حَالِي مَقْصُورٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ لَا يَتَخَطَّاهَا إِلَى الْمَلَكِيَّةِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ لَا يَدَّعِي الْإِحَاطَةَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ امْتَازَ عَنْهُمْ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: يُوحى إِلَيَّ وَكَفَى بِهَذَا الْوَصْفِ فَارِقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَشَرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَفِي هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّوْحِيدِ فَقَالَ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الرجاء توقع وصول الْخَيْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمَعْنَى، مَنْ كَانَ لَهُ هَذَا الرَّجَاءُ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَهُوَ مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ عَمَلُ خَيْرٍ يُثَابُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ سَوَاءٌ كَانَ صَالِحًا، أَوْ طَالِحًا، حَيَوَانًا أَوْ جَمَادًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ أَحَدًا. وَأَقُولُ:
إِنَّ دُخُولَ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى دُخُولِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِ هَذَا الْخَفِيِّ تَحْتَهَا، إِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِهِ هُوَ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.(3/375)
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لِكَلِماتِ رَبِّي يَقُولُ: عِلْمُ رَبِّيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ يَنْفَدُ مَاءُ الْبَحْرِ قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ كَلَامُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ جُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ إِذَا صَلَّى أَوْ صَامَ أَوْ تَصَدَّقَ فَذُكِرَ بِخَيْرٍ ارْتَاحَ لَهُ، فَزَادَ فِي ذَلِكَ لِقَالَةِ النَّاسِ فَلَا يُرِيدُ بِهِ اللَّهُ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتِقُ وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى، وَأَتَصَدَّقُ وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى، فَنَزَلَتْ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ» وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَهُ هَنَّادٌ فِي الزُّهْدِ عَنْهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ:
لَا أَجْرَ لَهُ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَعَادَ الرَّجُلُ فَقَالَ: لَا أَجْرَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْإِخْلَاصِ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الرِّيَاءَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، ثُمَّ قَرَأَ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ شَدَّادٍ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي، مَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا فَإِنَّ عَمَلَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَهُ أنا عنه غنيّ» . وأخرج أحمد والحكيم والترمذي، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيخِ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي لِمَكَانِ رَجُلٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ، قُلْتُ: أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ؟ قَالَ: يُصْبِحُ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ وَيُوَاقِعُ شَهْوَتَهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ جَرِيرٍ(3/376)
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ» وَفِي لَفْظٍ: «فَمَنْ أَشْرَكَ بِي أَحَدًا فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ» ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الرِّيَاءِ وَأَنَّهُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُهُ، وَقَدِ اسْتَوْفَاهَا صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، بَلِ الشِّرْكُ الْجَلِيُّ يَدْخُلُ تَحْتَهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُوَ الرِّيَاءُ كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِخُصُوصِهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا خَاتِمَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَكَفَتْهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالشِّيرَازِيُّ فِي الْأَلْقَابِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنِ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ، كَانَ لَهُ نُورٌ مِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ إِلَى مَكَّةَ حَشْوُهُ الْمَلَائِكَةُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: غَرِيبٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَنْ حَفِظَ خَاتِمَةَ الْكَهْفِ كَانَ لَهُ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ لَدُنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ وَقَالَ: إِنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا أَثَرٌ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ آخِرُ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْكَهْفُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ، وَلَعَلَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا مَا يَنْسَخُهَا وَلَا يُغِيِّرُ حُكْمَهَا، بَلْ هِيَ مُثْبَتَةٌ مُحْكَمَةٌ، فَاشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَرَوَى بِالْمَعْنَى على ما فهمه.(3/377)
كهيعص (1)
سورة مريم
أَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ بِمَكَّةَ سُورَةُ كهيعص. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ مَرْيَمَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَالَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ اللَّهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ كهيعص فَبَكَى النَّجَاشِيُّ حَتَّى أخضل لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ القصّة بطولها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
قَوْلُهُ: كهيعص قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ هَذِهِ الْحُرُوفَ مُقَطَّعَةً، وَوَصَلَهَا الْبَاقُونَ، وَأَمَالَ أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وَعَكَسَ ذَلِكَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ، وَأَمَالَهُمَا جَمِيعًا الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَخَلَفٌ، وَقَرَأَهُمَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَفَتْحَهُمَا الْبَاقُونَ. وَعَنْ خَارِجَةَ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَضُمُّ كَافَ، وَحَكَى عَنْ غَيْرِهِ أنه كان بضم هَا.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ ضَمُّ الْكَافِ وَلَا الْهَاءِ وَلَا الْيَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَحْسَنِ مَا فِي هَذَا، وَالْإِمَالَةُ جَائِزَةٌ فِي هَا وَفِي يَا، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ جَمَاعَةٌ. وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا أَنَّهُ كَانَ يُشِمُّ الرَّفْعَ فَقَطْ. وَأَظْهَرَ الدَّالَ مِنْ هِجَاءَ: صَادْ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أبي عبيد وَأَدْغَمَهَا الْبَاقُونَ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ التَّفْخِيمَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِمَالَةَ فَرْعٌ عَنْهُ، فَمَنْ قَرَأَ بِتَفْخِيمِ الْهَاءِ وَالْيَاءِ فَقَدْ عَمِلَ بِالْأَصْلِ، وَمَنْ أَمَالَهُمَا فَقَدْ عَمِلَ بِالْفَرْعِ، وَمَنْ أَمَالَ أَحَدَهُمَا وَفَخَّمَ الْآخَرَ فَقَدْ عَمِلَ بِالْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمَحِلِّ هَذِهِ الْفَاتِحَةِ إِنْ جُعِلَتِ اسْمًا لِلسُّورَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهَا مَا بَعْدَهَا، قَالَهُ الفرّاء. واعترضه(3/378)
الزَّجَّاجُ فَقَالَ: هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ كهيعص لَيْسَ هُوَ مِمَّا أَنْبَأَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَنْ زَكَرِيَّا، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ وَعَمَّا بُشِّرَ بِهِ، وَلَيْسَ كهيعص مِنْ قِصَّتِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، فَقَوْلُهُ: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ. وَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكَ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ. قال الزجّاج: ذكر مرتفع بالمضمر، وَالْمَعَنَى: هَذَا الَّذِي نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا يَعْنِي إِجَابَتَهُ إِيَّاهُ حِينَ دَعَاهُ وَسَأَلَهُ الْوَلَدَ، وَانْتِصَابُ عَبْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلرَّحْمَةِ قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: لِلذِّكْرِ. وَمَعْنَى ذِكْرِ الرَّحْمَةِ بُلُوغُهَا وَإِصَابَتُهَا، كَمَا يُقَالُ: ذَكَرَنِي مَعْرُوفُ فُلَانٍ، أَيْ: بَلَغَنِي. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ ذِكْرُ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ «عَبْدُهُ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَفَاعِلُ الذِّكْرِ هُوَ عَبْدُهُ، وَزَكَرِيَّا عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ ذَكَرَ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ عَبَدُهُ، وَقَرَأَ ابْنُ مَعْمَرٍ عَلَى الْأَمْرِ، وَتَكُونُ الرَّحْمَةُ عَلَى هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ زَكَرِيَّا، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ رَحْمَةٌ لِأُمَّتِهِ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ رَحْمَةِ، وَقِيلَ: ذِكْرُ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ زَكَرِيَّا. وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ كَوْنِ نِدَائِهِ هَذَا خَفِيًّا، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ، وَقِيلَ: أَخْفَاهُ لِئَلَّا يُلَامَ عَلَى طَلَبِهِ لِلْوَلَدِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَلِكَوْنِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: أَخْفَاهُ مَخَافَةً مِنْ قَوْمِهِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ قَدْ صَارَ ضَعِيفًا، هَرِمًا، لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجَهْرِ قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: نَادَى رَبَّهُ، يُقَالُ: وَهَنَ يَهِنُ وَهْنًا إِذَا ضَعُفَ، فَهُوَ وَاهِنٌ، وَقُرِئَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، أَرَادَ أَنَّ عِظَامَهُ فَتَرَتْ وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَذَكَرَ الْعَظْمَ لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ، وَبِهِ قِوَامُهُ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ، فَإِذَا وَهَنَ تَدَاعَى وَتَسَاقَطَتْ قُوَّتُهُ، وَلِأَنَّ أَشَدَّ مَا فِي الْإِنْسَانِ صُلْبُهُ، فَإِذَا وَهَنَ كَانَ مَا وَرَاءَهُ أَوْهَنَ، وَوَحَّدَ العظم قصدا إِلَى الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِشُمُولِ الْوَهَنِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعِظَامِ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِإِدْغَامِ السِّينِ فِي الشِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِعَدَمِهِ، وَالِاشْتِعَالُ فِي الْأَصْلِ: انْتِشَارُ شُعَاعِ النَّارِ، فَشَبَّهَ بِهِ انْتِشَارَ بَيَاضِ شَعَرِ الرَّأْسِ فِي سَوَادِهِ بِجَامِعِ الْبَيَاضِ وَالْإِنَارَةِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ، بِأَنْ حَذَفَ الْمُشَبَّهَ بِهِ وَأَدَاةَ التَّشْبِيهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ أَبْدَعِ الِاسْتِعَارَاتِ وَأَحْسَنِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لِلشَّيْبِ إِذَا كَثُرَ جِدًّا قد اشتعل رأس فلان، وأنشد للبيد:
إن تَرِي رَأْسِي أَمْسَى وَاضِحًا ... سُلِّطَ الشَّيْبُ عَلَيْهِ فَاشْتَعَلَ
وَانْتِصَابُ شَيْبًا عَلَى التَّمْيِيزِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَعْنًى اشْتَعَلَ: شَابَ.
قَالَ النَّحَّاسُ: قَوْلُ الْأَخْفَشِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فَعَلَ، وَالْمَصْدَرِيَّةُ أَظْهَرُ فِيمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْأَصْلُ اشْتَعَلَ شَيْبُ رَأْسِي، فَأُسْنِدَ الِاشْتِعَالُ إِلَى الرَّأْسِ لِإِفَادَةِ الشُّمُولِ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ خَائِبًا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، بَلْ كُلَّمَا دَعَوْتُكَ اسْتَجَبْتَ لِي.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَجْمَعَ فِي دُعَائِهِ بَيْنَ الْخُضُوعِ، وَذِكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَ زَكَرِيَّا هَاهُنَا، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً غَايَةَ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ وَإِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْقُصُورِ عَنْ نَيْلِ مَطَالِبِهِ، وَبُلُوغِ مَآرِبِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ذِكْرُ مَا عَوَّدَهُ اللَّهُ مِنَ الْإِنْعَامِ(3/379)
عَلَيْهِ بِإِجَابَةِ أَدْعِيَتِهِ، يُقَالُ: شَقِيَ بِكَذَا، أَيْ: تَعِبَ فِيهِ، وَلَمْ يُحَصِّلْ مَقْصُودَهُ مِنْهُ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي قَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَأَبُوهُ عَلِيٌّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ «خَفَّتِ» بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَفَاعِلُهُ الْمَوالِيَ أَيْ: قَلُّوا وَعَجَزُوا عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ بَعْدِي، أو انقطعوا بالموت، مأخوذا من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه قراءة شَاذَّةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «خِفْتُ» بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ ضمير يعود إلى زكريا، ومفعوله الموالي، ومن وَرَائِي مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ لَا بِخِفْتُ، وَتَقْدِيرُهُ: خِفْتُ فِعْلَ الْمَوَالِي مِنْ بَعْدِي. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَرائِي بِالْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قرأ بالقصر مفتوح الياء، مثل عصاي، والموالي هُنَا:
هُمُ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ يَرِثُونَ وَسَائِرُ الْعَصَبَاتِ مِنْ بَنِي الْعَمِّ وَنَحْوِهُمْ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي هَؤُلَاءِ مَوَالِيَ، قَالَ الشَّاعِرُ «1» :
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لَا تَنْشُرُوا «2» بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا
قِيلَ: الْمَوَالِي النَّاصِرُونَ لَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْمَخَافَةِ مِنْ زَكَرِيَّا لِمَوَالِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَقِيلَ: خَافَ أَنْ يَرِثُوا مَالَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَرِثَهُ وَلَدُهُ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمْ كَانُوا مُهْمِلِينَ لِأَمْرِ الدِّينِ، فَخَافَ أَنْ يَضِيعَ الدِّينُ بِمَوْتِهِ، فَطَلَبَ وَلِيًّا يَقُومُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرَّثُونَ، وَهُمْ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَعْتَنُوا بِأُمُورِ الدُّنْيَا، فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا وِرَاثَةَ الْمَالِ، بَلِ الْمُرَادُ وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْقِيَامُ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَقَدْ ثبت عن نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «نَحْنُ مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» . وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً الْعَاقِرُ: هِيَ الَّتِي لَا تَلِدُ لِكِبَرِ سِنِّهَا، وَالَّتِي لَا تَلِدُ أَيْضًا لِغَيْرِ كِبَرٍ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَا يَلِدُ عاقر أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ:
لَبِئْسَ الْفَتَى إِنْ كُنْتَ أَعْوَرَ عَاقِرَا «3»
............... .....
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ اسْمُ امْرَأَتِهِ أَشَاعَ بِنْتَ فَاقُودَ بْنِ مَيْلَ، وَهِيَ أُخْتُ حَنَّةَ، وَحَنَّةُ هِيَ أمّ مريم. وقال القتبي: هي أشاع بنت عمران، فعلى القول يَكُونُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ابْنَ خَالَةِ أُمِّ عِيسَى، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونَانِ ابْنَيْ خَالَةٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أَيْ: أَعْطِنِي مِنْ فَضْلِكَ وَلِيًّا، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِطَلَبِ الْوَلَدِ لِمَا عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ صَارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ فِي حَالَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا حُدُوثُ الْوَلَدِ بَيْنَهُمَا وَحُصُولُهُ مِنْهُمَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ ابْنَ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: بَلْ أَرَادَ بالوليّ الذي طلبه هو الولد، ولا مانع من سؤال من كَانَ مِثْلَهُ لِمَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ يُكْرِمُ رُسُلَهُ بِمَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قَرَأَ أهل الحرمين والحسن وعاصم
__________
(1) . هو الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لهب.
(2) . في تفسير القرطبي (11/ 78) : لا تنبشوا.
(3) . وعجزه: جبانا فما عذري لدى كلّ محضر.(3/380)
وحمزة وابن محيصن واليزيدي ويحيى بن المبارك «1» بِالرَّفْعِ فِي الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِلْوَلِيِّ وَلَيْسَا بِجَوَابٍ لِلدُّعَاءِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْجَزْمِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا جَوَابٌ لِلدُّعَاءِ. وَرَجَّحَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: هِيَ أَصْوَبُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ طَلَبَ وَلِيًّا هَذِهِ صِفَتُهُ فَقَالَ: هَبْ لِي الَّذِي يَكُونُ وَارِثِي. وَرَجَّحَ ذَلِكَ النَّحَّاسُ وَقَالَ: لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْمُجَازَاةِ، تَقُولُ: أَطِعِ اللَّهَ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، أَيْ: إِنْ تُطِعْهُ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، وَكَيْفَ يُخْبِرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا، أَعْنِي كَوْنَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلِيًّا يَرِثُهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَالْوِرَاثَةُ هُنَا هِيَ وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ عَلَى مَا هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا سَلَفَ. وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ يَعْقُوبَ الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ يَعْقُوبُ بن ماهان أخو عمران بن ماهان، وبه قال الكلبي ومقاتل، وآل يَعْقُوبَ هُمْ خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَؤُولُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ لِلْقَرَابَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ أَوِ الْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءُ وَمُلُوكٌ، وَقُرِئَ: يَرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ يَرِثُنِي. وَقُرِئَ وَأَرِثُ آلَ يَعْقُوبَ أَيْ: أَنَا. وقرئ أو يرث آل يعقوب بلفظ التخيير على أن المخيّر فاعل وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ فِي غَايَةِ الشُّذُوذِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أَيْ: مَرْضِيًّا فِي أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَقِيلَ: رَاضِيًا بِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ، وَقِيلَ: رَجُلًا صَالِحًا تَرْضَى عَنْهُ، وَقِيلَ: نَبِيًّا كَمَا جَعَلْتَ آباءه أنبياء يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى قَالَ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا النِّدَاءَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْمَلَائِكَةِ، لقوله في آل عمران: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ «2» ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: فَاسْتَجَابَ لَهُ دُعَاءَهُ، فقال: يا زكريا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ بيحيى وزكريا.
قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَ يَحْيَى لِأَنَّهُ حَيِيَ بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي أُوتِيَهَا لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
مَعْنَاهُ لَمْ نُسَمِّ أَحَدًا قَبْلَهُ يَحْيَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِثْلًا وَلَا نَظِيرًا، فيكون على هذا مأخوذ مِنَ الْمُسَامَاةِ أَوِ السُّمُوِّ، وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَمْ تَلِدْ عَاقِرٌ مِثْلَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَفِي إِخْبَارِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَهُ أَحَدٌ فَضِيلَةٌ لَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَسْمِيَتَهُ بِهِ، وَلَمْ يَكِلْهَا إِلَى الْأَبَوَيْنِ. وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِاسْمٍ لَمْ يُوضَعْ لِغَيْرِهِ يُفِيدُ تَشْرِيفَهُ وَتَعْظِيمَهُ قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي: كيف أو من أين يكون لِي غُلَامٌ؟ وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارَ، بَلِ التَّعَجُّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، حَيْثُ يُخْرِجُ وَلَدًا مِنِ امْرَأَةٍ عَاقِرٍ وَشَيْخٍ كَبِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا يُقَالُ: عَتَا الشَّيْخُ يَعْتُو عِتِيًّا إِذَا انْتَهَى سِنُّهُ وَكَبُرَ، وَشَيْخٌ عَاتٍ إِذَا صَارَ إلى حال اليبس والجفاف، والأصل عتوّ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ فَأَبْدَلُوهُ يَاءً لِكَوْنِهَا أَخَفَّ، وَمِثْلُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّمَا يُعْذَرُ الْوَلِيدُ وَلَا يُعْ ... ذَرُ مَنْ كَانَ فِي الزَّمَانِ عِتِيَّا
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَالْأَعْمَشُ عِتِيًّا بِكَسْرِ العين، وقرأ الباقون بضم
__________
(1) . قوله: (واليزيدي ويحيى بن المبارك) ، الصواب: ويحيى بن المبارك اليزيدي.
(2) . آل عمران: 39.(3/381)
الْعَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا النَّصْبُ أَيْضًا عَلَى الْحَالِ، وَكِلَا الْجُمْلَتَيْنِ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِبْعَادِ وَالتَّعَجُّبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أَيْ: كَيْفَ يَحْصُلُ بَيْنَنَا وَلَدٌ الْآنَ، وَقَدْ كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا لَمْ تَلِدْ فِي شَبَابِهَا وَشَبَابِي، وَهِيَ الْآنَ عَجُوزٌ، وَأَنَا شَيْخٌ هَرِمٌ؟ ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ الْمُشْعِرِ بِالتَّعَجُّبِ وَالِاسْتِبْعَادِ بِقَوْلِهِ: قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ الْكَافُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَيْ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ زَكَرِيَّا، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: قالَ رَبُّكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ النَّصْبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ:
قَالَ قَوْلًا مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ بذلك إِلَى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً لِإِزَالَةِ اسْتِبْعَادِ زَكَرِيَّا بَعْدَ تَقْرِيرِهِ، أَيْ: قَالَ هُوَ مَعَ بُعْدِهِ عِنْدَكَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَهُوَ فَيْعَلٌ مِنْ هَانَ الشَّيْءُ يَهُونُ إِذَا لَمْ يَصْعُبْ وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الْمُرَادِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: خَلْقُهُ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: فَخَلْقُ الْوَلَدِ لَكَ كَخَلْقِكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُ ابْتِدَاءً وَأَوْجَدَهُ مِنَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ، فَإِيجَادُ الْوَلَدِ لَهُ بِطْرِيقِ التَّوَالُدِ الْمُعْتَادِ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ وَأَسْهَلُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْسِبْ ذَلِكَ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَوْنِهِ الْمَخْلُوقَ مِنَ الْعَدَمِ حَقِيقَةً بِأَنْ يَقُولَ: وَقَدْ خَلَقْتُ أَبَاكَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ لَهُ حَظٌّ مِنْ إِنْشَاءِ آدَمَ مِنَ الْعَدَمِ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةَ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ وَقَدْ خَلَقْنَاكَ مِنْ قَبْلُ قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ عَلَامَةً تدلني على وقوع المسؤول وَتَحَقُّقِهِ وَحُصُولِ الْحَبَلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ تَعْرِيفُهُ وَقْتَ الْعُلُوقِ حَيْثُ كَانَتِ الْبِشَارَةُ مُطْلَقَةً عَنْ تَعْيِينِهِ.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَهُ تَاقَتْ إِلَى سُرْعَةِ الْأَمْرِ، فَسَأَلَ اللَّهَ آيَةً يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى قُرْبِ مَا منّ به عليه، وقيل: طلب آية تدله عَلَى أَنَّ الْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا مِنَ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ أَوْهَمَهُ بِذَلِكَ، كَذَا قال الضحاك والسدّي، وهو بعيد جدّا قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ مُسْتَوْفًى، وَانْتِصَابُ «سَوِيًّا» عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: آيَتُكَ أَنْ لَا تَقْدِرَ عَلَى الْكَلَامِ وَالْحَالُ أنك سويّ الخلق ليس بك آفة تَمْنَعُكَ مِنْهُ، وَقَدْ دَلَّ بِذِكْرِ اللَّيَالِي هُنَا وَالْأَيَّامِ فِي آلِ عِمْرَانَ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ وَهُوَ مُصَلَّاهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَرْبِ، كَأَنَّ مُلَازِمَهُ يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ وَقِيلَ: مِنَ الْحَرَبِ مُحَرَّكًا، كَأَنَّ مُلَازِمَهُ يَلْقَى حَرَبًا وَتَعَبًا وَنَصَبًا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا قِيلَ: مَعْنَى أَوْحَى: أَوْمَأَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: إِلَّا رَمْزاً وَقِيلَ: كَتَبَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْقُرَظِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ مُنَبِّهٍ، وَبِالثَّانِي قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَحْيُ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا ... بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ
وَقَالَ عنترة:(3/382)
كَوَحْيِ صَحَائِفَ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى ... فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طمطميّ «1»
وأَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ سَبِّحُوا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مُفَسِّرَةٌ، وَالْمَعْنَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ بِأَنْ صَلُّوا، أَوْ أَيْ صَلُّوا، وَانْتِصَابُ بُكْرَةً وَعَشِيًّا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَشِيُّ يُؤَنَّثُ، وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ إِذَا أُبْهِمَ. قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ الْعَشِيُّ جَمْعُ عَشِيَّةٍ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ هُوَ قَوْلُهُمْ سُبْحَانَ اللَّهِ فِي الْوَقْتَيْنِ، أَيْ: نَزِّهُوا رَبَّكُمْ طَرَفَيِ النَّهَارِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
كهيعص كَبِيرٌ هَادٍ أَمِينٌ عَزِيزٌ صَادِقٌ، وَفِي لَفْظٍ كَافٍ بَدَلُ كَبِيرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَآدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي التَّوْحِيدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كهيعص قَالَ: كَافٌ مِنْ كِرِيمٍ، وَهَاءٌ مِنْ هَادٍ، وَيَاءٌ مِنْ حَكِيمٍ، وَعَيْنٌ مِنْ عَلِيمٍ، وَصَادٌ مَنْ صَادِقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كهيعص هُوَ الْهِجَاءُ الْمُقَطَّعُ الْكَافُ مِنَ الْمَلِكِ، وَالْهَاءُ مِنَ اللَّهِ، وَالْيَاءُ وَالْعَيْنُ مِنَ الْعَزِيزِ، وَالصَّادُ مِنَ الْمُصَوِّرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ كهيعص فَحَدَّثَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَافٌ هَادٍ عَالِمٌ صَادِقٌ» . وَأَخْرَجَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ عَلِيٍّ قَالَتْ: كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ يَا كهيعص اغْفِرْ لِي. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كهيعص قَالَ: الْكَافُ الْكَافِي، وَالْهَاءُ الْهَادِي، وَالْعَيْنُ الْعَالِمُ، وَالصَّادُ الصَّادِقُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي كهيعص وحم ويس وَأَشْبَاهِ هَذَا: هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ.
وَكَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَقَعَ بَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَصِحَّ مَرْفُوعًا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَمَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مَا يُخَالِفُهُ، وَقَدْ يُرْوَى عَنِ الصَّحَابِيِّ نَفْسِهِ التَّفَاسِيرُ الْمُتَخَالِفَةُ الْمُتَنَاقِضَةُ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ، فَلَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُجَّةً، بَلِ الْحَقُّ الْوَقْفُ، وَرَدُّ الْعِلْمِ فِي مِثْلِهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ آخِرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ زَكَرِيَّا بْنُ أَزَرَ بْنِ مُسْلِمٍ، مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ دَعَا رَبَّهُ سِرًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي إِلَى قَوْلِهِ: خِفْتُ الْمَوالِيَ قَالَ: وَهُمُ الْعَصَبَةُ يَرِثُنِي نُبُوَّتِي وَنُبُوَّةَ آلِ يَعْقُوبَ، فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال:
__________
(1) . «الطمطمي» : الأعجم الذي لا يفصح.(3/383)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعْتَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ سَخِرَ بِكَ، فَشَكَّ وَقَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ يَقُولُ مِنْ أَيْنَ يَكُونُ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ، قَالَ اللَّهُ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي قال: الورثة، وهم عصبة الرجل. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ زَكَرِيَّا لَا يولد له فسأل ربه فقال: ربّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قَالَ: يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ: مِثْلًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: لَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ عِتِيًّا أَوْ عِسِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: عِتِيًّا قَالَ: لَبِثَ زَمَانًا فِي الْكِبَرِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هَرِمًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا قَالَ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ، وَفِي لَفْظٍ مِنْ غَيْرِ خَرَسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا:
فَأَوْحى إِلَيْهِمْ قَالَ: كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ سَبِّحُوا قَالَ: أمرهم بالصلاة بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
[سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15]
يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
قَوْلُهُ: يَا يَحْيى هَاهُنَا حَذْفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَقَالَ اللَّهُ لِلْمَوْلُودِ يَا يَحْيَى، أَوْ فَوُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَبَلَغَ الْمَبْلَغَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ فِيهِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا يَحْيَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فَوَهَبْنَا لَهُ وَقُلْنَا لَهُ يَا يَحْيَى. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ حِينَئِذٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا مُخْتَصًّا بِهِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُهُ الْآنَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَخْذِ إِمَّا الْأَخْذُ الْحِسِّيُّ أَوِ الْأَخْذُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْقِيَامُ بِمَا فِيهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ بِتَحْصِيلِ مَلَكَةٍ تَقْتَضِي سُهُولَةَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْإِحْجَامِ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: بِقُوَّةٍ أَيْ: بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ وَاجْتِهَادٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْحِكْمَةُ، وَهِيَ الْفَهْمُ لِلْكِتَابِ الَّذِي أُمِرَ بِأَخْذِهِ وَفَهْمُ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ، وَقِيلَ:
هِيَ الْعِلْمُ وَحِفْظُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الْعَقْلُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ صَالِحًا لِحَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ. قِيلَ: كَانَ يَحْيَى عِنْدَ هَذَا الْخِطَابِ لَهُ ابْنَ سَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: ابْنُ ثَلَاثٍ وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الْحُكْمِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْحَنَانُ: الرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ وَالْعَطْفُ وَالْمَحَبَّةُ، وَأَصْلُهُ تَوَقَانُ النَّفْسِ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَنِينِ النَّاقَةِ عَلَى وَلَدِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ حَنَانُكَ يَا رَبِّ وَحَنَانَيْكَ يَا رَبِّ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُرِيدُ رَحْمَتَكَ. قَالَ طَرَفَةُ:
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ(3/384)
وقال امرؤ القيس:
ويمنحها بنو شمجى بن جرم «1» ... مَعِيزَهُمْ حَنَانَكَ ذَا الْحَنَانِ
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْحَنَّانُ: مُشَدَّدًا، مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْحَنَانُ مُخَفَّفًا: الْعَطْفُ وَالرَّحْمَةُ، وَالْحَنَانُ: الرِّزْقُ وَالْبَرَكَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحَنَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَيْضًا مَا عَظُمَ مِنَ الْأُمُورِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْعَبْدَ لَأَتَّخِذَنَّ قَبْرَهُ حَنَانًا، يَعْنِي بِلَالًا، لَمَّا مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُعَذَّبُ وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ هُوَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَى ذَلِكَ لَأَتَرَحَّمَنَّ عَلَيْهِ، وَلَأَتَعَطَّفَنَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ:
تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ ... فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا
وَمَعْنَى مِنْ لَدُنَّا من جنابنا، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَعْطَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ لَدُنَّا كَائِنَةً فِي قَلْبِهِ يَتَحَنَّنُ بِهَا عَلَى النَّاسِ، وَمِنْهُمْ أَبَوَاهُ وَقَرَابَتُهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُمْ من الكفر وَزَكاةً معطوف على ما قَبْلَهُ، وَالزَّكَاةُ:
التَّطْهِيرُ وَالْبَرَكَةُ وَالتَّنْمِيَةُ وَالْبِرُّ، أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُبَارَكًا لِلنَّاسِ يَهْدِيهِمْ إِلَى الْخَيْرِ وَقِيلَ: زَكَّيْنَاهُ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَتَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَقِيلَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقْنَا بِهِ عَلَى أَبَوَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَكانَ تَقِيًّا أَيْ: مُتَجَنِّبًا لِمَعَاصِي اللَّهِ مُطِيعًا لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مَعْصِيَةً قَطُّ وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
مَعْطُوفٌ عَلَى «تَقِيًّا» ، الْبَرُّ هُنَا بِمَعْنَى:
الْبَارِّ، فَعْلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَالْمَعْنَى: لَطِيفًا بِهِمَا مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
أَيْ: لَمْ يَكُنْ مُتَكَبِّرًا وَلَا عَاصِيًا لِوَالِدَيْهِ أَوْ لِرَبِّهِ، وَهَذَا وَصْفٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلِينِ الْجَانِبِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ وَسَلامٌ عَلَيْهِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ أَمَانٌ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا التَّحِيَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ، فَهِيَ أَشْرَفُ وَأَنْبَهُ مِنَ الْأَمَانِ، لِأَنَّ الْأَمَانَ مُتَحَصِّلٌ لَهُ بِنَفْيِ الْعِصْيَانِ عَنْهُ، وَهُوَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ يُسَلِّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى يَوْمَ وُلِدَ
أَنَّهُ أُمِّنَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ حَيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهَكَذَا مَعْنَى يَوْمَ يَمُوتُ
وَهَكَذَا معنى يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
قِيلَ: أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: يَوْمَ وُلِدَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ لِأَنَّهُ يَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَرَفَهُمْ وَأَحْكَامًا لَيْسَ لَهُ بِهَا عَهْدٌ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ لِأَنَّهُ يَرَى هَوْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَخَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَحْيَى بِالْكَرَامَةِ وَالسَّلَامَةِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ قَالَ: بِجِدٍّ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا قَالَ: الْفَهْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: يَقُولُ اعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنْ فَرَائِضَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: اللُّبُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا قَالَ: «أُعْطِيَ الْفَهْمَ وَالْعِبَادَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ بَدْلَةٌ: وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، مِنْ طَرِيقِ نَهْشَلِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عن ابن عباس
__________
(1) . في المطبوع: بنو سلخ بن بكر، والمثبت من الديوان ص (143) .(3/385)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ الْغِلْمَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبْ، فَقَالَ يَحْيَى: مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا، اذْهَبُوا نُصَلِّي، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ فهو ممّن أوتي الحكم صبيا» . وأخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَحَناناً قَالَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ إلا أنّي أظنّه يعطف الله عَلَى عَبْدِهِ بِالرَّحْمَةِ، وَقَدْ فَسَّرَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِالرَّحْمَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَزَكاةً قَالَ:
بَرَكَةً، وَفِي قَوْلِهِ: وَكانَ تَقِيًّا قَالَ: طَهُرَ فَلَمْ يعمل بذنب.
[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 26]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ
هَذَا شُرُوعٌ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِ عِيسَى، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَذِهِ السُّورَةُ، أَيِ: اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِصَّةَ مَرْيَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ جِنْسُ الْقُرْآنِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الذِّكْرُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الذِّكْرُ، وَهُوَ قِصَّةُ مَرْيَمَ، أَوْ خَبَرُ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ
الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ هُوَ ذَلِكَ الْمُضَافُ الْمُقَدَّرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ مَرْيَمَ لِأَنَّ الْأَزْمَانَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا فِيهَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَرْيَمَ خَبَرَهَا، وَفِي هَذَا الْإِبْدَالِ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْخِيمِ شَأْنِ الْوَقْتِ لِوُقُوعِ قِصَّتِهَا الْعَجِيبَةِ فِيهِ، وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ وَالرَّمْيُ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «1» . وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَنَحَّتْ وَتَبَاعَدَتْ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: اعْتَزَلَتْ، وَقِيلَ: انْفَرَدَتْ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ انْتِبَاذِهَا، فَقِيلَ: لِأَجْلِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ سبحانه، وقيل: لتطهر من حيضها، ومِنْ أَهْلِها مُتَعْلِّقٌ بِانْتَبَذَتْ، وَانْتِصَابُ مَكاناً شَرْقِيًّا
عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: مَكَانًا مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ، وَالشَّرْقُ بِسُكُونِ الرَّاءِ:
الْمَكَانُ الَّذِي تَشْرُقُ فِيهِ الشَّمْسُ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَكَانَ بِالشَّرْقِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ جِهَةَ الشَّرْقِ لِأَنَّهَا مَطْلَعُ الْأَنْوَارِ، حكى معناه ابن جرير.
__________
(1) . آل عمران: 187.(3/386)
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نُبُوَّةِ مَرْيَمَ، فَقِيلَ: إِنَّهَا نَبِيَّةٌ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْإِرْسَالِ إِلَيْهَا وَمُخَاطَبَتِهَا لِلْمَلَكِ وَقِيلَ: لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَلَّمَهَا الْمَلَكُ وَهُوَ عَلَى مِثَالِ الْبَشَرِ، وَقَدْ تقدّم الكلام في هذا فِي آلِ عِمْرَانَ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
أَيِ: اتَّخَذَتْ مِنْ دُونِ أَهْلِهَا حِجَابًا يَسْتُرُهَا عَنْهُمْ لِئَلَّا يَرَوْهَا حَالَ الْعِبَادَةِ، أَوْ حَالَ التَّطَهُّرِ مِنَ الْحَيْضِ، وَالْحِجَابُ: السِّتْرُ وَالْحَاجِزُ فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: هُوَ رُوحُ عِيسَى لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
أَيْ:
تَمَثَّلَ جِبْرِيلُ لَهَا بَشَرًا مُسْتَوِيَ الْخَلْقِ لَمْ يَفْقِدْ مِنْ نُعُوتِ بَنِي آدَمَ شَيْئًا، قِيلَ: وَوَجْهُ تَمَثُّلِ الْمَلَكِ لَهَا بَشَرًا أَنَّهَا لَا تُطِيقُ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الْمَلَكِ وَهُوَ عَلَى صُورَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ حَسَنٍ كَامِلِ الْخَلْقِ قَدْ خَرَقَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ ظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا بِسُوءٍ، فاستعاذت بالله منه، وقالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أَيْ:
مِمَّنْ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَخَافُهُ وَقِيلَ: إِنَّ تَقِيًّا اسْمُ رَجُلٍ صَالِحٍ، فَتَعَوَّذَتْ مِنْهُ تَعَجُّبًا وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ فَاجِرٍ مَعْرُوفٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَلَا تَتَعَرَّضْ لِي قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
أَيْ: قَالَ لَهَا جِبْرِيلُ: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ الَّذِي اسْتَعَذْتِ بِهِ، وَلَسْتُ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ مَا خَطَرَ بِبَالِكِ مِنْ إِرَادَةِ السُّوءِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
جَعَلَ الْهِبَةَ مِنْ قِبَلِهِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا فِيهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْإِعْلَامِ لَهَا مِنْ جِهَتِهِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ النَّفْخِ قَامَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ لِيَهَبَ عَلَى مَعْنَى أَرْسَلَنِي لِيَهَبَ لَكِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ. وَالزَّكِيُّ: الطَّاهِرُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّذِي يَنْمُو عَلَى النَّزَاهَةِ وَالْعِفَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالزَّكِيِّ النَّبِيِّ قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أَيْ: لَمْ يَقْرُبْنِي زَوْجٌ وَلَا غَيْرُهُ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا الْبَغِيُّ: هِيَ الزَّانِيَةُ الَّتِي تَبْغِي الرِّجَالَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُهُ بَغُويٌ عَلَى فَعُولٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَتِ الْغَيْنُ لِلْمُنَاسَبَةِ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: إِنَّهُ فَعِيلٌ وَزِيَادَةُ ذِكْرِ كَوْنِهَا لَمْ تَكُ بَغِيًّا مَعَ كَوْنِ قَوْلِهَا لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يَتَنَاوَلُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ تَنْزِيهًا لِجَانِبِهَا مِنَ الْفَحْشَاءِ وَقِيلَ: مَا اسْتَبْعَدَتْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَرَادَتْ كَيْفَ يكون هذا الْوَلَدُ هَلْ مِنْ قِبَلِ زَوْجٍ تَتَزَوَّجُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمْ يَخْلُقُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءً؟ وَقِيلَ: إن المسّ عبادة عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ، وَعَلَى هَذَا لَا يُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ قَوْلِهَا: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شُمُولِهِ أَوْلَى بِاسْتِعْمَالَاتِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَا يُوجَدُ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ مِمَّا يَطُولُ تِعْدَادُهُ اه. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ: وَلِنَجْعَلَ هَذَا الْغُلَامَ، أَوْ خَلْقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، آيَةً لِلنَّاسِ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ عِلَّةٌ لِمُعَلَّلٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: خَلَقْنَاهُ لِنَجْعَلَهُ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ أُخْرَى مُضْمَرَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَجُمْلَةُ: قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْقَائِلُ هُوَ الْمَلَكُ، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ زَكَرِيَّا. وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَةً مِنَّا مَعْطُوفٌ عَلَى آيَةً: أَيْ وَلِنَجْعَلَهُ رَحْمَةً عَظِيمَةً كَائِنَةً مِنَّا لِلنَّاسِ لِمَا ينالونه منه مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيِرِ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ رَحْمَةٌ لِأُمَّتِهِ وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أَيْ: وَكَانَ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ أَمْرًا مُقَدَّرًا قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَجَفَّ بِهِ الْقَلَمُ فَحَمَلَتْهُ هَاهُنَا كَلَامٌ مَطْوِيٌّ، وَالتَّقْدِيرُ: فَاطْمَأَنَّتْ إِلَى قَوْلِهِ فَدَنَا مِنْهَا فَنَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا فَوَصَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى بَطْنِهَا فَحَمَلَتْهُ وَقِيلَ: كَانَتِ النَّفْخَةُ فِي ذَيْلِهَا، وَقِيلَ: فِي فَمِهَا. قِيلَ: إِنَّ وَضْعَهَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَذَا الْحَمْلِ مِنْ(3/387)
غَيْرِ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِلْحَمْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا أَيْ: تَنَحَّتْ وَاعْتَزَلَتْ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَالْقَصِيُّ: هُوَ الْبَعِيدُ. قِيلَ: كَانَ هَذَا الْمَكَانُ وَرَاءَ الْجَبَلِ، وَقِيلَ: أَبْعَدُ مَكَانٍ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَقِيلَ:
أَقْصَى الْوَادِي، وَقِيلَ: إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةً فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ أَيْ: أَلْجَأَهَا وَاضْطَرَّهَا، وَمِنْهُ قول زهير:
أجاءته المخافة والرّجاء «1»
وقرأ شبيل فَاجَأَهَا مِنَ الْمُفَاجَأَةِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَلَمَّا أَجَاءَهَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ أَجَاءَهَا مَنْقُولٌ مِنْ جَاءَ، إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ قَدْ تَعَيَّنَ بَعْدَ النَّقْلِ إِلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ مَوْضُوعٌ بِوَضْعٍ مُسْتَقِلٍّ، وَالْمَخَاضُ مَصْدَرُ مَخَضَتِ المرأة تمخض مخاضا وَمَخَاضًا إِذَا دَنَا وِلَادُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِهَا، وَالْجِذْعُ: سَاقُ النَّخْلَةِ الْيَابِسَةِ، كَأَنَّهَا طَلَبَتْ شَيْئًا تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمَا تَتَعَلَّقُ الْحَامِلُ لِشِدَّةِ وَجَعِ الطَّلْقِ بِشَيْءٍ مِمَّا تَجِدُهُ عِنْدَهَا، وَالتَّعْرِيفُ إِمَّا للجنس أو للعهد قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا أَيْ: قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، تَمَنَّتِ الْمَوْتَ لِأَنَّهَا خَافَتْ أَنْ يُظَنَّ بِهَا السُّوءُ فِي دِينِهَا، أَوْ لِئَلَّا يَقَعَ قَوْمٌ بِسَبَبِهَا فِي الْبُهْتَانِ وَكُنْتُ نَسْياً النَّسْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الشَّيْءُ الْحَقِيرُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنْسَى، وَلَا يُذْكُرَ، وَلَا يُتَأَلَّمَ لِفَقْدِهِ كالوتد والحبل، ومنه قول الكميت:
أتجعلنا جسرا لِكَلْبِ قَضَاعَةَ ... وَلَسْنَا بِنَسْيٍ فِي مَعْدٍ وَلَا دَخْلِ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: النَّسْيُ: مَا تُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ مِنْ خِرَقِ اعْتِلَالِهَا، فَتَقُولُ مَرْيَمُ نَسْياً مَنْسِيًّا أَيْ: حَيْضَةً مُلْقَاةً، وَقَدْ قُرِئَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ الْحِجْرِ وَالْحَجْرِ، وَالْوِتْرِ والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي نسئا بِالْهَمْزِ مَعَ كَسْرِ النُّونِ. وَقَرَأَ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ بِالْهَمْزِ مَعَ فَتْحِ النُّونِ. وَقَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ نَسِيًّا بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِدُونِ هَمْزٍ، وَالْمَنْسِيُّ: الْمَتْرُوكُ الَّذِي لَا يُذَكَرُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَناداها مِنْ تَحْتِها أَيْ: جِبْرِيلُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهَا، وَكَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا تَحْتَ الْأَكَمَةِ، وَقِيلَ: تَحْتَ النَّخْلَةِ، وَقِيلَ: الْمُنَادِي هُوَ عِيسَى. وَقَدْ قُرِئَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ مِنْ وَكَسْرِهَا. وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَحْزَنِي تَفْسِيرٌ لِلنِّدَاءِ أَيْ:
لَا تَحْزَنِي، أَوِ الْمَعْنَى بِأَنْ لَا تَحْزَنِي عَلَى أَنَّهَا الْمَصْدَرِيَّةُ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ:
السريّ النهر الصغير، المعنى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَ قَدَمِكِ نَهْرًا. قِيلَ: كَانَ نَهْرًا قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ فِيهِ الْمَاءَ لِمَرْيَمَ، وَأَحْيَا بِهِ ذَلِكَ الْجِذْعَ الْيَابِسَ الَّذِي اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ حَتَّى أَوْرَقَ وَأَثْمَرَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّرِيِّ هُنَا عِيسَى، وَالسَّرِيُّ: الْعَظِيمُ مِنَ الرِّجَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ سَرِيٌّ، أَيْ: عَظِيمٌ، وَمِنْ قَوْمٍ سُرَاةٍ، أَيْ:
عِظَامٍ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ الْهَزُّ التَّحْرِيكُ: يُقَالُ هَزَّهُ فَاهْتَزَّ، وَالْبَاءُ فِي بِجِذْعِ النَّخْلَةِ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ هَزَّهُ وَهَزَّ بِهِ، وَالْجِذْعُ: هُوَ أَسْفَلُ الشَّجَرَةِ. قَالَ قُطْرُبٌ: كلّ خشبة
__________
(1) . وصدره: وجار سار معتمدا إلينا.(3/388)
فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ فَهِيَ جِذْعٌ، وَمَعْنَى إِلَيْكِ: إِلَى جِهَتِكِ، وَأَصْلُ تَسَّاقَطُ تَتَسَاقَطُ فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي السِّينِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ تُساقِطْ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ وَالْحَسَنُ بِضَمِّ التَّاءِ مَعَ التَّخْفِيفِ وَكَسْرِ الْقَافِ. وَقُرِئَ تَتَسَاقَطْ بِإِظْهَارِ التَّاءَيْنِ. وَقُرِئَ بِالتَّحْتِيَّةِ مَعَ تَشْدِيدِ السِّينِ. وَقُرِئَ تَسْقُطُ، وَيَسْقُطُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَوْقِيَّةِ جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلنَّخْلَةِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّحْتِيَّةِ جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلْجِذْعِ وَانْتِصَابُ رُطَباً عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لِلتَّمْيِيزِ، وعلى البعض الآخر على المفعولية لتساقط. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْأَخْفَشُ: يَجُوزُ انْتِصَابُ رُطَبًا بِهُزِّي، أَيْ: هُزِّي إِلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، أَيْ: عَلَى جِذْعِهَا، وَضَعَّفَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْجَنِيُّ: الْمَأْخُوذُ طَرِيًّا، وَقِيلَ: هُوَ مَا طُلِبَ وَصَلُحَ لِلِاجْتِنَاءِ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَنِيُّ وَالْمَجْنِيُّ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، أَيْ:
رُطَبًا طَرِيًّا طَيِّبًا فَكُلِي وَاشْرَبِي أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الرُّطَبِ وَذَلِكَ الْمَاءِ، أَوْ مِنَ الرُّطَبِ وَعَصِيرِهِ، وَقَدَّمَ الْأَكْلَ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ النَّهْرِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرُّطَبِ لِأَنَّ احْتِيَاجَ النُّفَسَاءِ إِلَى أَكْلِ الرُّطَبِ أَشَدُّ مِنِ احْتِيَاجِهَا إِلَى شُرْبِ الْمَاءِ.
ثُمَّ قَالَ: وَقَرِّي عَيْناً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْقَافِ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ قُرِئَ بِكَسْرِهَا، قَالَ: وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ. وَالْمَعْنَى: طِيبِي نَفْسًا وَارْفُضِي عَنْكِ الْحُزْنَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرِّ وَالْقُرَّةِ وَهُمَا الْبَرْدُ، وَالْمَسْرُورُ بَارِدُ الْقَلْبِ سَاكِنُ الْجَوَارِحِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَقَرِّي عَيْنًا بِرُؤْيَةِ الْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ لَكِ. وَقَالَ الشَّيْبَانِيُّ: مَعْنَاهُ نَامِي.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، أَيْ: أَنَامَ عَيْنَهُ وَأَذْهَبَ سَهَرَهُ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً أصله ترأيين، مِثْلَ تَسْمَعِينَ، خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ وَسَقَطَتِ النُّونُ لِلْجَزْمِ وَيَاءُ الضَّمِيرِ لِلسَّاكِنَيْنِ بَعْدَ لُحُوقِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَمِثْلُ هَذَا مَعَ عَدَمِ لُحُوقِ نُونِ التَّوْكِيدِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ:
إِمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ حَاكِي لَوْنُهُ ... طُرَّةَ صُبْحٍ تَحْتَ أَذْيَالِ الدُّجَى
وَقَرَأَ طلحة وأبو جعفر وَشَيْبَةُ تَرَيْنَ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ مُخَفَّفَةً. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهِيَ شَاذَّةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أَيْ: قَوْلِي إِنْ طَلَبَ مِنْكِ الْكَلَامَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أَيْ صَمْتًا وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا صَمْتًا» بِالْجَمْعِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ: «صَوْمًا وَصَمْتًا» بِالْوَاوِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الصَّوْمَ هُنَا الصَّمْتُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا وَمَعْنَى الصَّوْمِ فِي اللُّغَةِ أَوْسَعُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ مُمْسِكٍ عَنْ طَعَامٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ سَيْرٍ فَهُوَ صَائِمٌ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّوْمِ هُنَا الصَّمْتُ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلصَّوْمِ. وَقِرَاءَةُ أَنَسٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ هُنَا غَيْرُ الصَّمْتِ كَمَا تُفِيدُهُ الْوَاوُ. وَمَعْنَى فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أَنَّهَا لَا تُكَلِّمُ أَحَدًا مِنَ الْإِنْسِ بَعْدَ إِخْبَارِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ، بَلْ إِنَّمَا تُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ وَتُنَاجِي رَبَّهَا وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمْ تُخْبِرْهُمْ هُنَا بِاللَّفْظِ، بَلْ بِالْإِشَارَةِ الْمُفِيدَةِ لِلنَّذْرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
قال: مكانا أظلتها الشَّمْسَ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي(3/389)
حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: إِنَّمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً لِأَنَّ مَرْيَمَ اتَّخَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذُوا مِيلَادَهُ قِبْلَةً، وَإِنَّمَا سَجَدَتِ الْيَهُودُ عَلَى حَرْفٍ حِينَ نَتَقَ فَوْقَهُمُ الْجَبَلُ، فَجَعَلُوا يَنْحَرِفُونَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، يَتَخَوَّفُونَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَسَجَدُوا سَجْدَةً رَضِيَهَا اللَّهُ، فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا:
خَرَجَتْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ لِحَيْضٍ أَصَابَهَا، فَلَمَّا طَهُرَتْ إِذَا هِيَ بِرَجُلٍ مَعَهَا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً
ففزعت وقالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
فَخَرَجَتْ وَعَلَيْهَا جِلْبَابُهَا، فَأَخَذَ بِكُمِّهَا فَنَفَخَ فِي جيب دِرْعِهَا، وَكَانَ مَشْقُوقًا مِنْ قُدَّامِهَا، فَدَخَلَتِ النَّفْخَةُ صَدْرَهَا فَحَمَلَتْ، فَأَتَتْهَا أُخْتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّا لَيْلَةً تَزُورُهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْ لَهَا الْبَابَ الْتَزَمَتْهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا: يَا مَرْيَمُ أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى، قالت مريم: أشعرت [أيضا] «1» أَنِّي حُبْلَى، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا: فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي سَجَدَ لِلَّذِي فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ «2» فَوَلَدَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا يَحْيَى، وَلَمَّا بَلَغَ أَنْ تَضَعَ مَرْيَمُ خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ فَناداها جِبْرِيلُ مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي فَلَمَّا وَلَدَتْهُ ذَهَبَ الشَّيْطَانُ، فَأَخْبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ، فَلَمَّا أَرَادُوهَا عَلَى الْكَلَامِ أَشَارَتْ إِلَى عِيسَى فَتَكَلَّمَ فَ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ الْآيَاتِ، وَلَمَّا وُلِدَ لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ صَنَمٌ إِلَّا خَرَّ لِوَجْهِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَرْيَمَ قَالَ: حِينَ حَمَلَتْ وَضَعَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: وَضَعَتْ لِثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
قَالَ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: تَمَثَّلَ لَهَا رُوحُ عِيسَى فِي صُورَةِ بَشَرٍ فَحَمَلَتْهُ، قَالَ:
حَمَلَتِ الَّذِي خَاطَبَهَا، دَخَلَ فِي فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَكاناً قَصِيًّا قَالَ:
نَائِيًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَ: كَانَ جِذْعًا يَابِسًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا قَالَ: لَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أَكُ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا قَالَ: حَيْضَةً مُلْقَاةً.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ نَوْفٍ الَبِكَالِيِّ وَالضَّحَّاكِ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: فَناداها مِنْ تَحْتِها قَالَ: الَّذِي نَادَاهَا جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ السَّلَفِ، هَلْ هَذَا الْمُنَادِي هُوَ جِبْرِيلُ أَوْ عِيسَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ: قَرَأَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النُّجُودِ فَناداها مِنْ تَحْتِها بِالنَّصْبِ، قَالَ: وَقَالَ عَاصِمٌ مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَهُوَ عِيسَى، وَمَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ فَهُوَ جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مردويه وابن النجار عن
__________
(1) . ما بين حاصرتين من الدر المنثور.
(2) . آل عمران: 39. [.....](3/390)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
ابْنِ عُمَرَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ السِّرِيَّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ لِمَرْيَمَ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا نَهْرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَهَا لِتَشْرَبَ مِنْهُ» . وَفِي إِسْنَادِهِ أيوب بن نهيك الحلبي قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ أبو زرعة: منكر الحديث، قال أَبُو فَتْحٍ الْأَزَدِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّهُ غَرِيبٌ جِدًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قَالَ «النَّهْرُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ، وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ فِي الْآيَةِ: هُوَ الْجَدْوَلُ، وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْمَوْقُوفَ أَصَحُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ أَنَّ السِّرِيَّ هُوَ عِيسَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: رُطَباً جَنِيًّا قَالَ: طَرِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً قَالَ: صَمْتًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ:
«صوما صمتا» .
[سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 33]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
لَمَّا اطْمَأَنَّتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِمَا رَأَتْ مِنَ الْآيَاتِ وَفَرَغَتْ من نفاسها فَأَتَتْ بِهِ أَيْ: بِعِيسَى، وَجُمْلَةُ تَحْمِلُهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَكَانَ إِتْيَانُهَا إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَكَانِ الْقَصِيِّ الَّذِي انْتَبَذَتْ فِيهِ، فَلَمَّا رَأَوُا الْوَلَدَ مَعَهَا حَزِنُوا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ صَالِحِينَ ف قالُوا مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ أَيْ: فَعَلْتِ شَيْئاً فَرِيًّا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَرِيُّ الْعَجِيبُ النَّادِرُ، وَكَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ. وَالْفَرْيُ: الْقَطْعُ، كَأَنَّهُ مِمَّا يَخْرِقُ الْعَادَةَ، أَوْ يُقْطَعُ بِكَوْنِهِ عَجِيبًا نَادِرًا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْفَرِيُّ: الْجَدِيدُ مِنَ الْأَسْقِيَةِ، أَيْ: جِئْتِ بِأَمْرٍ بَدِيعٍ جَدِيدٍ لَمْ تُسْبَقِي إِلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: الْفَرِيُّ: الْمُخْتَلَقُ الْمُفْتَعَلُ، يُقَالُ: فَرَيْتُ وَأَفْرَيْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْوَلَدُ مِنَ الزِّنَا كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ «1» . وقال مجاهد: الفريّ: العظيم.
يا أُخْتَ هارُونَ قَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ، وَفِي هَارُونَ الْمَذْكُورِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ هَارُونُ أَخُو مُوسَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَتْ نَظُنُّهَا مِثْلَ هَارُونَ فِي الْعِبَادَةِ كَيْفَ تَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا؟ وَقِيلَ: كَانَتْ مَرْيَمُ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، فَقِيلَ لَهَا يَا أُخْتَ هَارُونَ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ: يَا أَخَا الْعَرَبِ وَقِيلَ: كَانَ لَهَا آخر مِنْ أَبِيهَا اسْمُهُ هَارُونَ وَقِيلَ: هَارُونُ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقِيلَ: بَلْ كان
__________
(1) . الممتحنة: 12.(3/391)
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رَجُلٌ فَاجِرٌ اسْمُهُ هَارُونُ، فنسبوها إليه على وجهة التَّعْيِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا هَذَا فِيهِ تقرير لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْيِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ الْفَاحِشَةَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الصَّالِحِينَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى عِيسَى، وَإِنَّمَا اكْتَفَتْ بِالْإِشَارَةِ وَلَمْ تَأْمُرْهُ بِالنُّطْقِ لِأَنَّهَا نَذَرَتْ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا عَنِ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ، هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا كَانَتْ إِذْ ذَاكَ فِي أَيَّامِ نَذْرِهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَيَّامِ نَذْرِهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اقْتِصَارَهَا عَلَى الْإِشَارَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِظْهَارِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَنَّ هَذَا الْمَوْلُودَ يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْعِبَارَةِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ إِشَارَتِهَا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْلُودِ بِأَنْ يُكَلِّمَهُمْ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فِي الْكَلَامِ حَشْوٌ زَائِدٌ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ نُكَلِّمُ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ «1» :
............... ...
وَجِيرَانٌ لَنَا كَانُوا كِرَامِ «2»
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ «مَنْ» فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ يَكُونُ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فَكَيْفَ نُكَلِّمُهُ. وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ «كَانَ» زَائِدَةٌ وَقَدْ نَصَبَتْ صَبِيًّا، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْقَائِلَ بِزِيَادَتِهَا يَجْعَلُ النَّاصِبَ لَهُ الْفِعْلَ، وَهُوَ نُكَلِّمُ كَمَا سَبَقَ تَقْدِيرُهُ وَقِيلَ: إِنَّ «كَانَ» هُنَا هِيَ التَّامَّةُ الَّتِي بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ. وَرُدَّ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَامَّةً لَاسْتَغْنَتْ عَنِ الْخَبَرِ. وَالْمَهْدُ: هُوَ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ يُتَّخَذُ لِتَنْوِيمِ الصَّبِيِّ. وَالْمَعْنَى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ سَبِيلُهُ أَنْ يُنَوَّمَ فِي الْمَهْدِ لِصِغَرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ هُنَا حِجْرُ الْأُمِّ، وَقِيلَ:
سَرِيرٌ كَالْمَهْدِ، فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى كَلَامَهُمْ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا نَطَقَ بِهِ الِاعْتِرَافُ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ آتانِيَ الْكِتابَ أَيْ: الْإِنْجِيلَ، أَيْ: حَكَمَ لِي بِإِيتَائِي الْكِتَابَ وَالنُّبُوَّةَ فِي الْأَزَلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَلَا قَدْ صَارَ نَبِيًّا وَقِيلَ: إِنَّهُ آتَاهُ الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ بَعِيدٌ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ أَيْ: حَيْثُمَا كُنْتُ، وَالْبَرَكَةُ: أَصْلُهَا مِنْ بُرُوكِ الْبَعِيرِ، وَالْمَعْنَى: جَعَلَنِي ثَابِتًا فِي دِينِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْبَرَكَةُ هِيَ الزِّيَادَةُ وَالْعُلُوُّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلَنِي فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ زَائِدًا عَالِيًا مُنْجَحًا وَقِيلَ مَعْنَى الْمُبَارَكِ النَّفَّاعُ لِلْعِبَادِ، وَقِيلَ: الْمُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ، وَقِيلَ: الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ أَيْ: أَمَرَنِي بِهَا وَالزَّكاةِ زَكَاةِ الْمَالِ، أَوْ تَطْهِيرِ النَّفْسِ مَا دُمْتُ حَيًّا أَيْ: مُدَّةَ دَوَامِ حَيَاتِي، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمَاضِيَةُ هِيَ مِنْ بَابِ تَنْزِيلِ مَا لَمْ يَقَعْ مَنْزِلَةَ الواقع تنبيها على تحقيق وُقُوعِهِ لِكَوْنِهِ قَدْ سَبَقَ فِي الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ وَبَرًّا بِوالِدَتِي مَعْطُوفٌ عَلَى مُبَارَكًا، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْبِرِّ بِوَالِدَتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ، وَقُرِئَ وَبَرًّا بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ مُبَالَغَةً وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا الْجَبَّارُ: الْمُتَعَظِّمُ الَّذِي لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا، وَالشَّقِيُّ: الْعَاصِي لِرَبِّهِ، وَقِيلَ: الْخَائِبُ، وَقِيلَ: الْعَاقُّ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّلَامُ هُنَا بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، أَيْ: السَّلَامَةُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ، فَلَمْ يَضُرَّنِي الشَّيْطَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا أَغْوَانِي عند الموت ولا عند البعث
__________
(1) . هو الفرزدق.
(2) . وصدره: فكيف إذا رأيت ديار قوم.(3/392)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةُ. قِيلَ: وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، وَقِيلَ: لِلْعَهْدِ، أَيْ: وَذَلِكَ السَّلَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَى يَحْيَى فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ مُوَجَّهٌ إِلَيَّ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمِ الْمَسِيحُ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ حَتَّى بَلَغَ الْمُدَّةَ الَّتِي تَتَكَلَّمُ فِيهَا الصِّبْيَانُ فِي الْعَادَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قَالَ:
بَعْدَ أربعين يوما بعد ما تعافت مِنْ نِفَاسِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ مَا تقرؤون يَا أُخْتَ هارُونَ وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
«أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ؟» وَهَذَا التَّفْسِيرُ النَّبَوِيُّ يُغْنِي عَنْ سَائِرِ مَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى قَدْ دَرَسَ الْإِنْجِيلَ وَأَحْكَامَهَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: آتانِيَ الْكِتابَ الْآيَةَ، قَالَ: قَضَى أَنْ أَكُونَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ عِيسَى: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ قَالَ: جَعَلَنِي نَفَّاعًا لِلنَّاسِ أَيْنَمَا اتَّجَهْتُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً قَالَ: «مُعَلِّمًا وَمُؤَدِّبًا» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا يقول: عصيّا.
[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَلِكَ الَّذِي قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، لَا مَا تَقُولُهُ النَّصَارَى مِنْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَأَنَّهُ إِلَهٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ قَوْلَ الْحَقِّ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ. فَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ نَعْتٌ لِعِيسَى أَيْ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلُ الْحَقِّ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَسُمِّيَ قَوْلَ الْحَقِّ كَمَا سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ، وَالْحَقُّ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: هَذَا الْكَلَامُ قَوْلُ الْحَقِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، مِثْلُ حَقُّ الْيَقِينِ وَقِيلَ: الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَقُرِئَ: «قَالَ الْحَقَّ» ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ قَوْلَ الْحَقِّ بِضَمِّ الْقَافِ، وَالْقَوْلُ وَالْقُولُ وَالْقَالُ والمقال بمعنى واحد، والَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(3/393)
صِفَةٌ لِعِيسَى أَيْ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ قَوْلَ الْحَقِّ، وَمَعْنَى يَمْتَرُونَ يختلفون على أنه من المماراة، أو يشكو عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمِرْيَةِ. وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي عِيسَى فَقَالَتِ الْيَهُودُ: هُوَ سَاحِرٌ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: هُوَ ابْنُ اللَّهِ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أَيْ: مَا صَحَّ ولا استقام ذلك، و «أَنْ» فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «مِنْ» فِي مِنْ وَلَدٍ مُؤَكِّدَةٌ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ فَقَالَ: سُبْحانَهُ أَيْ: تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ شَأْنُهُ، تَعَالَى سُلْطَانُهُ، فَقَالَ: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ: إِذَا قَضَى أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِلَا تَأْخِيرٍ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي إِيرَادِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَبْكِيتٌ عَظِيمٌ لِلنَّصَارَى، أَيْ: مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ كَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ؟ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ أَنْ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ عِيسَى، وَقَرَأَ أُبَيٌّ إِنَّ اللَّهَ بِغَيْرِ وَاوٍ، قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ النَّصْبِ بِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى الصَّلَاةِ، وَجَوَّزَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ عَطْفَهُ عَلَى أَمْرًا هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ أَنَّهُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، هُوَ الطَّرِيقُ الْقَيِّمُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَلَا يَضِلُّ سَالِكُهُ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ مِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالْأَحْزَابُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَيْ: فَاخْتَلَفَتِ الْفِرَقُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَمْرِ عِيسَى، فَالْيَهُودُ قَالُوا: إِنَّهُ سَاحِرٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ ابْنُ يُوسُفَ النَّجَّارِ، وَالنَّصَارَى اخْتَلَفَتْ فِرَقُهُمْ فِيهِ، فَقَالَتِ النَّسْطُورِيَّةُ مِنْهُمْ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وقالت الملكية: هو ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَقَالَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَفْرَطَتِ النَّصَارَى وَغَلَتْ، وَفَرَّطَتِ الْيَهُودُ وَقَصَّرَتْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَهُمُ الْمُخْتَلِفُونَ فِي أَمْرِهِ مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَيْ: مِنْ شُهُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَجْرِي فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، أَوْ مِنْ مَكَانِ الشُّهُودِ فِيهِ، أَوْ مِنْ شَهَادَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ:
الْمَعْنَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْ حُضُورِهِمُ الْمَشْهَدَ الْعَظِيمَ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ لِلتَّشَاوُرِ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ قَالَ أَبُو العباس: الْعَرَبُ تَقُولُ هَذَا فِي مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ، فَيَقُولُونَ: أسمع بزيد وَأَبْصِرْ بِهِ، أَيْ: مَا أَسْمَعُهُ وَأَبْصَرُهُ، فَعَجَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ. يَوْمَ يَأْتُونَنا أَيْ: لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أَيْ: فِي الدُّنْيَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: وَاضِحٍ ظَاهِرٍ، وَلَكِنَّهُمْ أَغْفَلُوا التَّفَكُّرَ وَالِاعْتِبَارَ وَالنَّظَرَ فِي الْآثَارِ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ أَيْ: يَوْمَ يَتَحَسَّرُونَ جَمِيعًا، فَالْمُسِيءُ يَتَحَسَّرُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَالْمُحْسِنُ عَلَى عَدَمِ اسْتِكْثَارِهِ مِنَ الْخَيْرِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ: فُرِغَ مِنَ الْحِسَابِ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ، وَصَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: غَافِلِينَ عَمَّا يُعْمَلُ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها أَيْ: نُمِيتُ سُكَّانَهَا فَلَا يَبْقَى بِهَا أَحَدٌ يَرِثُ الْأَمْوَاتَ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَرِثَ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا حَيْثُ أَمَاتَهُمْ جَمِيعًا وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أَيْ: يُرَدُّونَ إِلَيْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قَوْلَ الْحَقِّ قَالَ: اللَّهُ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ(3/394)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ قَالَ: اجْتَمَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، مِنْ كُلِّ قَوْمٍ عَالِمَهُمْ، فَامْتَرَوْا فِي عِيسَى حِينَ رُفِعَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ اللَّهُ هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَحْيَا مَنْ أَحْيَا، وَأَمَاتَ مَنْ أَمَاتَ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُمُ الْيَعْقُوبِيَّةُ فَقَالَتِ الثَّلَاثَةُ: كَذَبْتَ ثُمَّ قَالَ اثْنَانِ مِنْهُمْ لِلثَّالِثِ: قُلْ فِيهِ، فَقَالَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَهُمُ النَّسْطُورِيَّةُ فَقَالَ اثْنَانِ: كَذَبْتَ ثُمَّ قَالَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ لِلْآخَرِ: قُلْ فِيهِ، فَقَالَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، اللَّهُ إِلَهٌ، وَعِيسَى إِلَهٌ، وَأُمُّهُ إِلَهٌ، وَهُمُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ، وَهُمْ مُلُوكُ النَّصَارَى فَقَالَ الرَّابِعُ: كَذَبْتَ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ مِنْ كَلِمَتِهِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَتْبَاعٌ عَلَى مَا قَالَ فَاقْتَتَلُوا، فَظَهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ «1» ، قال قتادة: وهم الذي قَالَ اللَّهُ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قَالَ: اخْتَلَفُوا فِيهِ فَصَارُوا أَحْزَابًا، فَاخْتَصَمَ الْقَوْمُ، فَقَالَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ: أُنْشِدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَطْعَمُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَنَامُ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَخَصَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَاقْتَتَلَ الْقَوْمُ، فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْيَعْقُوبِيَّةَ ظَهَرَتْ يَوْمَئِذٍ وَأُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قَوْلِهِ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَقُولُ: الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ أَسْمَعُ شَيْءٍ وَأَبْصَرُهُ، وَهُمُ الْيَوْمَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتُونَنا قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، يُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيْشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ:
نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثم ينادي: يا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتٌ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتٌ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ الْآيَةَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ وقال:
أَهْلُ الدُّنْيَا فِي غَفْلَةٍ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَوْمَ الْحَسْرَةِ: هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ القيامة، وقرأ:
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «2» ، وَعَلِيٌّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَالْآيَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ لَا بمطابقة ولا تضمّن ولا التزام.
[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
__________
(1) . آل عمران: 21.
(2) . الزمر: 56.(3/395)
قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ مَعْطُوفٌ عَلَى وَأَنْذِرْ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ الرَّسُولِ إِيَّاهُ فِي الْكِتَابِ أَنْ يَتْلُوَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ كَقَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ «1» ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِأَنْ يَذْكُرَهُ، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ مَا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالصِّدِّيقُ كَثِيرُ الصِّدْقِ، وَانْتِصَابُ نبيا على أنه خبر آخر لكان، أي: اذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين، وإِذْ قالَ لِأَبِيهِ
بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَتَعْلِيقُ الذِّكْرِ بِالْوَقْتِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَذْكِيرُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ هُوَ آزَرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَالتَّاءُ فِي «يَا أَبَتِ» عِوَضٌ عَنِ الْيَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي لِمَ تَعْبُدُ
لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ مَا لَا يَسْمَعُ
مَا تَقُولُهُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَلا يُبْصِرُ
مَا تَفْعَلُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَمِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَفْعَلُهَا مُرِيدًا بِهَا الثَّوَابَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُ السَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ، وَلَا يُبْصِرُ شَيْئًا مِنَ الْمُبْصَرَاتِ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَجْلِبُ لَكَ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْكَ ضَرَرًا، وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا آزَرُ، أَوْرَدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَبِيهِ الدَّلَائِلَ وَالنَّصَائِحَ، وَصَدَّرَ كُلًّا مِنْهَا بِالنِّدَاءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلرِّفْقِ وَاللِّينِ اسْتِمَالَةً لِقَلْبِهِ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، ثُمَّ كَرَّرَ دَعْوَتَهُ إِلَى الحق فقال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ نَصِيبٌ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَبِيهِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَجَدَّدَ لَهُ حُصُولُ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ مِنْهُ إِلَى الْحَقِّ، وَيَقْتَدِرُ بِهِ عَلَى إِرْشَادِ الضَّالِّ، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِ فَقَالَ: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا مُسْتَوِيًا مُوَصِّلًا إِلَى الْمَطْلُوبِ مُنَجِّيًا مِنَ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِنَصِيحَةٍ أُخْرَى زَاجِرَةٍ لَهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، فقال: يا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ أَيْ: لَا تُطِعْهُ، فَإِنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ هِيَ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا حِينَ تَرَكَ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَمَنْ أَطَاعَ مَنْ هُوَ عَاصٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ، وَالْعَاصِي حَقِيقٌ بِأَنْ تُسْلَبَ عَنْهُ النِّعَمُ وَتَحِلَّ بِهِ النِّقَمُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعَصِيُّ وَالْعَاصِي بِمَعْنًى وَاحِدٍ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ الْبَاعِثَ عَلَى هَذِهِ النَّصَائِحِ فَقَالَ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى أَخَافُ هُنَا أَعْلَمُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ الْخَوْفَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ غَيْرُ جَازِمٍ بِمَوْتِ أَبِيهِ عَلَى الْكُفْرِ، إِذْ لَوْ كَانَ جَازِمًا بِذَلِكَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِنُصْحِهِ، وَمَعْنَى الْخَوْفِ عَلَى الْغَيْرِ: هُوَ أَنْ يَظُنَّ وُصُولَ الضَّرَرِ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أَيْ: إِنَّكَ إِذَا أَطَعْتَ الشَّيْطَانَ كُنْتَ مَعَهُ فِي النَّارِ وَاللَّعْنَةِ، فَتَكُونُ بِهَذَا السَّبَبِ مُوَالِيًا، أَوْ تَكُونُ بِسَبَبِ مُوَالَاتِهِ فِي الْعَذَابِ مَعَهُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ ولاية حقيقية لقوله سبحانه:
__________
(1) . الشعراء: 69.(3/396)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «1» وَقِيلَ: الْوَلِيُّ بِمَعْنَى التَّالِي، وَقِيلَ: الْوَلِيُّ بِمَعْنَى الْقَرِيبِ، أَيْ: تَكُونَ لِلشَّيْطَانِ قَرِيبًا مِنْهُ فِي النَّارِ، فَلَمَّا مَرَّتْ هَذِهِ النَّصَائِحُ النَّافِعَةُ وَالْمَوَاعِظُ الْمَقْبُولَةُ بِسَمْعِ آزَرَ قَابَلَهَا بِالْغِلْظَةِ وَالْفَظَاظَةِ وَالْقَسْوَةِ، ف قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ، وَالْمَعْنَى: أَمُعْرِضٌ أَنْتَ عَنْ ذَلِكَ وَمُنْصَرِفٌ إِلَى غَيْرِهِ؟ ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ أَيْ: بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: بِاللِّسَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَأَشْتُمَنَّكَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَأَضْرِبَنَّكَ، وَقِيلَ: لَأُظْهِرَنَّ أَمْرَكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أَيْ: زَمَانًا طَوِيلًا.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ: هَجَرْتُهُ مَلِيًّا وملوة وملوة وملاوة وَمَلَاوَةً، بِمَعْنَى الْمَلَاوَةِ مِنَ الزَّمَانِ، وَهُوَ الطَّوِيلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ:
فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ ... وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرَمَّلَاتُ مَلِيَّا
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: اعْتَزِلْنِي سَالِمَ الْعِرْضِ لَا تُصِيبُكَ مِنِّي مَعَرَّةٌ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، فَمَلِيًّا عَلَى هَذَا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُنْتَصِبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ إِصْرَارَ أَبِيهِ عَلَى الْعِنَادِ قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ أَيْ: تَحِيَّةُ تَوْدِيعٍ وَمُتَارَكَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «2» وَقِيلَ مَعْنَاهُ:
أَمَنَةٌ مِنِّي لَكَ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَإِنَّمَا أَمَّنَهُ مَعَ كُفْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: الدُّعَاءُ لَهُ بِالسَّلَامَةِ، اسْتِمَالَةً لَهُ وَرِفْقًا بِهِ، ثُمَّ وَعَدَهُ بِأَنْ يَطْلُبَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَأَلُّفًا لَهُ وَطَمَعًا فِي لِينِهِ وَذَهَابِ قَسْوَتِهِ:
وَالشَّيْخُ لَا يَتْرُكُ أَخْلَاقَهُ ... حَتَّى يُوَارَى فِي ثَرَى رَمْسِهِ «3»
وَكَانَ مِنْهُ هَذَا الْوَعْدُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَحِقُّ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «4» بَعْدَ قَوْلِهِ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «5» . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى: سَأَطْلُبُ لَكَ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ كَانَ بِي كَثِيرَ الْبِرِّ وَاللُّطْفِ، يُقَالُ: حَفِيَ بِهِ وَتَحَفَّى إِذَا بَرَّهُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ حَفِيَ بِي حَفَاوَةً وَحَفْوَةً.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أَيْ: عَالِمًا لَطِيفًا يُجِيبُنِي إِذَا دَعَوْتُهُ. ثُمَّ صَرَّحَ الْخَلِيلُ بِمَا تَضَمَّنَهُ سَلَامُهُ مِنَ التَّوْدِيعِ وَالْمُتَارَكَةِ فَقَالَ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: أُهَاجِرُ بِدِينِي عَنْكُمْ وَعَنْ مَعْبُودَاتِكُمْ حَيْثُ لَمْ تَقْبَلُوا نصحي، ولا نجعت فيكم دعوتي وَأَدْعُوا رَبِّي وحده عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أَيْ: خَائِبًا، وَقِيلَ: عاصيا. قيل: أراد بهذا الدعاء: هو أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ وَلَدًا وَأَهْلًا يَسْتَأْنِسُ بِهِمْ فِي اعْتِزَالِهِ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِمْ عِنْدَ وَحْشَتِهِ وقيل: أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى لِلشَّكِّ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَدْرِي هَلْ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهِ أَمْ لَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أَيْ: جَعَلْنَا هَؤُلَاءِ الْمَوْهُوبِينَ لَهُ أَهْلًا وَوَلَدًا بَدَلَ الْأَهْلِ الَّذِينَ فارقهم
__________
(1) . الزخرف: 67.
(2) . الفرقان: 69.
(3) . البيت لصالح بن عبد القدوس. (تاريخ بغداد 9/ 303) .
(4) . التوبة: 114.
(5) . التوبة: 114.(3/397)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أَيْ: كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَانْتِصَابُ «كُلًّا» عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِجَعَلْنَا، قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَدَاهُمْ، أَيْ: كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَعَلْنَا نَبِيًّا، لَا بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا بِأَنْ جَعَلْنَاهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَذَكَرَ هَذَا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِجَعْلِهِمْ أَنْبِيَاءَ لِبَيَانِ أَنَّ النُّبُوَّةَ هِيَ مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الْمَالُ، وَقِيلَ: الْأَوْلَادُ، وَقِيلَ: الْكِتَابُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْدَرِجَ تَحْتَهَا جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا لِسَانُ الصِّدْقِ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، عَبَّرَ عَنْهُ بِاللِّسَانِ لِكَوْنِهِ يُوجَدُ بِهِ «1» ، كَمَا عَبَّرَ بِالْيَدِ عَنِ الْعَطِيَّةِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الصِّدْقِ وَوَصْفُهُ بِالْعُلُوِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِمَا يُقَالُ فِيهِمْ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى أَلْسُنِ الْعِبَادِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَأَرْجُمَنَّكَ قَالَ: لَأَشْتُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ: حِينًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ: اجْتَنِبْنِي سَوِيًّا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: اجْتَنِبْنِي سَالِمًا قَبْلَ أَنْ تُصِيبَكَ مِنِّي عُقُوبَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ مَلِيًّا: دَهْرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَالِمًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا قَالَ: لَطِيفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ قَالَ: يَقُولُ وهبنا له إسحاق ولدا «2» وَيَعْقُوبَ ابْنَ ابْنِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ:
وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا قَالَ: الثناء الحسن.
[سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 63]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
قَفَّى سُبْحَانَهُ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ بِقِصَّةِ مُوسَى لِأَنَّهُ تِلْوُهُ فِي الشَّرَفِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ لِئَلَّا يَفْصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِكْرِ يَعْقُوبَ، أَيْ: وَاقْرَأْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ قِصَّةَ مُوسَى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قَرَأَ أهل الكوفة بفتح اللام،
__________
(1) . أي الثناء الحسن.
(2) . من الدر المنثور (5/ 514) .(3/398)
أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُخْتَارًا وَأَخْلَصْنَاهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، أَيْ: أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ وَالتَّوْحِيدَ لِلَّهِ غَيْرَ مُرَاءٍ لِلْعِبَادِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا أَيْ: أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ فَأَنْبَأَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِشَرَائِعِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ، فَهَذَا وَجْهُ ذِكْرِ النَّبِيِّ بَعْدَ الرَّسُولِ مَعَ اسْتِلْزَامِ الرِّسَالَةِ لِلنُّبُوَّةِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالرَّسُولِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ لَا الشَّرْعِيَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: الرَّسُولُ: الَّذِي مَعَهُ كِتَابٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالنَّبِيُّ: الَّذِي يُنْبِئُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ كِتَابٌ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ ذِكْرَ الْأَعَمِّ قَبْلَ الْأَخَصِّ، إِلَّا أَنَّ رِعَايَةَ الْفَاصِلَةِ اقْتَضَتْ عَكْسَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي:
طه: بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى «1» انْتَهَى. وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أَيْ: كَلَّمْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ، وَهُوَ جَبَلٌ بَيْنَ مِصْرَ وَمَدْيَنَ اسْمُهُ زُبَيْرٌ، وَمَعْنَى الْأَيْمَنِ: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ الْجَانِبُ عَنْ يَمِينِ مُوسَى، فَإِنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَالنِّدَاءُ وَقَعَ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ يَمِينَ الْجَبَلِ نَفْسِهِ. فَإِنَّ الْجِبَالَ لَا يَمِينٌ لَهَا وَلَا شِمَالٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَيْمَنِ الْمَيْمُونِ، وَمَعْنَى النِّدَاءِ: أَنَّهُ تَمَثَّلَ لَهُ الْكَلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا أَيْ: أَدْنَيْنَاهُ بِتَقْرِيبِ الْمَنْزِلَةِ حَتَّى كَلَّمْنَاهُ، وَالنَّجِيُّ بِمَعْنَى الْمُنَاجِي كَالْجَلِيسِ وَالنَّدِيمِ، فَالتَّقْرِيبُ هُنَا هُوَ تَقْرِيبُ التَّشْرِيفِ وَالْإِكْرَامِ، مُثِّلَتْ حَالُهُ بِحَالِ مَنْ قَرَّبَهُ الْمَلِكُ لِمُنَاجَاتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَرَّبَهُ مِنْهُ فِي الْمَنْزِلَةِ حَتَّى سَمِعَ مُنَاجَاتَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ. وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَيْ: مِنْ نِعْمَتِنَا، وَقِيلَ: مِنْ أجل رحمتنا، وهارُونَ عطف بيان، ونَبِيًّا حَالٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ قَالَ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي- هارُونَ أَخِي «2» . وَوَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِسْمَاعِيلَ بِصِدْقِ الْوَعْدِ مَعَ كَوْنِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا بِذَلِكَ مُبَالِغًا فِيهِ، وَنَاهِيكَ بِأَنَّهُ وَعَدَ الصَّبْرَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِذَلِكَ، وَكَانَ يَنْتَظِرُ لِمَنْ وَعَدَهُ بِوَعْدٍ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، حَتَّى قيل: إنه انتظر بعض مَنْ وَعَدَهُ حَوْلًا. وَالْمُرَادُ بِإِسْمَاعِيلَ هُنَا هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَقَالَ:
هُوَ إسماعيل بن حزقيل، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَسَلَخُوا جِلْدَةَ رَأْسِهِ، فَخَيَّرَهُ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَاسْتَعْفَاهُ وَرَضِيَ بِثَوَابِهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِسْمَاعِيلَ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ شَرِيعَةٍ فَإِنَّ أَوْلَادَ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَصَفَهُ بِالرِّسَالَةِ لِكَوْنِ إِبْرَاهِيمَ أَرْسَلَهُ إِلَى جُرْهُمٍ وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِأَهْلِهِ هُنَا أُمَّتُهُ، وَقِيلَ: جُرْهُمٌ، وَقِيلَ: عَشِيرَتُهُ كما في قوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «3» . وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ- هُنَا- هُمَا الْعِبَادَتَانِ الشَّرْعِيَّتَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيُّ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أَيْ: رَضِيًّا زَاكِيًا صَالِحًا. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: مَنْ قَالَ مَرْضِيٌّ بَنَى عَلَى رَضِيتُ، قَالَا: وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ مَرْضُوٌّ وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ اسْمُ إِدْرِيسَ أَخْنُوخُ، قِيلَ: هُوَ جَدُّ نُوحٍ، فَإِنَّ نُوحًا هُوَ ابْنُ لَامِكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ أَخْنُوخَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ جَدَّ أَبِي نُوحٍ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا خَطَأٌ، وَامْتِنَاعُ إِدْرِيسَ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَنَظَرَ فِي النُّجُومِ وَالْحِسَابِ، وَأَوَّلُ مَنْ خَاطَ الثِّيَابَ. قِيلَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ مِنْ بَنِي آدَمَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا فَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ رفعه إلى السماء الرابعة، وقيل: إلى
__________
(1) . طه: 70. [.....]
(2) . طه: 29- 30.
(3) . الشعراء: 214.(3/399)
السَّادِسَةِ، وَقِيلَ: إِلَى الثَّانِيَةِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَفِيهِ: «وَمِنْهُمْ إِدْرِيسُ فِي الثَّانِيَةِ» ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِرَفْعِهِ مَكَانًا عَلِيًّا: مَا أُعْطِيَهُ مِنْ شَرَفِ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ رُفِعَ إِلَى الْجَنَّةِ أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِينَ مِنْ أول السورة إلى هنا، والموصول صفته، ومن النبيين بيان للموصول، ومِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بَدَلٌ مِنْهُ بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ، وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ فِي «مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ» لِلتَّبْعِيضِ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أَيْ: مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَهُ وَهُمْ مَنْ عَدَا إِدْرِيسَ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَهُمُ الْبَاقُونَ وَإِسْرائِيلَ أَيْ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَمِنْهُمْ مُوسَى وَهَارُونُ وَيَحْيَى وَعِيسَى وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ:
مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ إِدْرِيسَ وَحْدَهُ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ:
وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَأَرَادَ بقوله: وَمن ذرّية إِسْرائِيلَ مُوسَى وَهَارُونَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَمِمَّنْ هَدَيْنا أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هَدَيْنَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَاجْتَبَيْنا بِالْإِيمَانِ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا وهذا خبر لأولئك، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ هُوَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ خُشُوعِهِمْ لِلَّهِ وَخَشْيَتِهِمْ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُبْحَانَ «1» بَيَانُ مَعْنَى خَرُّوا سُجَّدًا يُقَالُ: بَكَى يَبْكِي بُكَاءً وَبُكِيًّا. قَالَ الْخَلِيلُ: إِذَا قَصَرْتَ الْبُكَاءَ فَهُوَ مِثْلُ الْحُزْنِ أَيْ: لَيْسَ مَعَهُ صَوْتٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» :
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا ... وما يغني البكاء ولا العويل
و «سُجَّداً» مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا آيَاتِ اللَّهِ بَكَوْا وَسَجَدُوا، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَلَمَّا مَدَحَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ تَرْغِيبًا لِغَيْرِهِمْ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَسُلُوكِ طَرِيقَتِهِمْ ذَكَرَ أَضْدَادَهُمْ تَنْفِيرًا لِلنَّاسِ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ، فَقَالَ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَيْ: عَقِبُ سُوءٍ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ لِعَقِبِ الْخَيْرِ خَلَفٌ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَلِعَقِبِ الشَّرِّ خَلْفٌ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ أَضاعُوا الصَّلاةَ قَالَ الْأَكْثَرُ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخَّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَقِيلَ: أَضَاعُوا الْوَقْتَ، وَقِيلَ: كَفَرُوا بِهَا وَجَحَدُوا وَجُوبِهَا، وَقِيلَ: لَمْ يَأْتُوا بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ تَرَكَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِهَا، أَوْ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِهَا، أَوْ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا فَقَدْ أَضَاعَهَا، وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْإِضَاعَةِ مَنْ تَرَكَهَا بِالْمَرَّةِ أَوْ جَحَدَهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ فَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ، وَقِيلَ: فِي النَّصَارَى، وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَمَعْنَى وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ أَيْ: فَعَلُوا مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ وَتَرْغَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا الْغَيُّ: هُوَ الشَّرُّ عِنْدَ أَهْلِ اللغة، كما أن الخير هو
__________
(1) . سورة الإسراء.
(2) . هو عبد الله بن رواحة.(3/400)
الرَّشَادُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ شَرًّا لَا خَيْرًا وَقِيلَ: الْغَيُّ الضَّلَالُ، وَقِيلَ: الْخَيْبَةُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حذف، والتقدير: سيلقون جَزَاءَ الْغَيِّ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سبحانه:
يَلْقَ أَثاماً «1» ، أَيْ: جَزَاءَ أَثَامٍ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أَيْ: تَابَ مِمَّا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ تَضْيِيعِ الصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَرَجَعَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَآمَنَ بِهِ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، وَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الْكَفَرَةِ لَا فِي الْمُسْلِمِينَ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَأَبُو بَكْرٍ يَدْخُلُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أَيْ: لَا يُنْقَصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُوَفِّي إِلَيْهِمْ أُجُورَهُمْ، وَانْتِصَابُ جَنَّاتِ عَدْنٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الجنة، بدل البعض لكون جنات عدن بعض مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ جَنَّاتُ عَدْنٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقُرِئَ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَوْلَا الْخَطُّ لَكَانَ جَنَّةَ عَدْنٍ، يَعْنِي: بِالْإِفْرَادِ مَكَانَ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجَنَّاتِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْوَاعِ لِلْجِنْسِ. وَقُرِئَ بِنَصْبِ الْجَنَّاتِ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ قُرِئَ جَنَّةَ بِالْإِفْرَادِ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِجَنَّاتِ عَدْنٍ، وبالغيب فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْجَنَّاتِ، أَوْ مِنْ عِبَادِهِ، أَيْ: مُتَلَبِّسَةً، أَوْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْغَيْبِ، وَقُرِئَ بِصَرْفِ عَدْنٍ، وَمَنْعِهَا عَلَى أَنَّهَا عَلَمٌ لِمَعْنَى الْعَدْنِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ، أَوْ عَلَمٌ لِأَرْضِ الْجَنَّةِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أَيْ: مَوْعُودُهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْجَنَّاتُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. قَالَ الْفَرَّاءُ:
لَمْ يَقُلْ آتِيًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ، وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً هُوَ الْهَذَرُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْغَى وَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ صُدُورِ اللَّغْوِ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: اللَّغْوُ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ إِلَّا سَلاماً هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ: أَيْ سَلَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ سَلَامَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
السَّلَامُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ السَّلَامَةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَسْمَعُونَ مَا يُؤْلِمُهُمْ وَإِنَّمَا يَسْمَعُونَ مَا يُسَلِّمُهُمْ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ بُكْرَةٌ وَلَا عَشِيَّةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ رِزْقَهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا أَيْ:
هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفْنَا أَحْوَالَهَا نُورِثُهَا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى كَمَا يَبْقَى عَلَى الْوَارِثِ مَالُ مَوْرُوثِهِ. قَرَأَ يَعْقُوبُ نُورِثُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ:
نُورِثُ مَنْ كَانَ تَقِيًّا مِنْ عِبَادِنَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا قَالَ:
النَّبِيُّ الَّذِي يُكَلَّمُ وَيُنَزَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُرْسَلُ، وَلَفْظُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَيْسُوا بِرُسُلٍ يُوحَى إِلَى أَحَدِهِمْ وَلَا يُرْسَلُ إِلَى أَحَدٍ. وَالرُّسُلُ: الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يُوحَى إِلَيْهِمْ وَيُرْسَلُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ قَالَ: جَانِبِ الْجَبَلِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا قَالَ:
نَجَا بِصِدْقِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: قَرَّبَهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ، يَكْتُبُ فِي اللَّوْحِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ
__________
(1) . الفرقان: 68.(3/401)
قَالَ: كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى، وَلَكِنْ إِنَّمَا وَهَبَ لَهُ نُبُوَّتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قَالَ: كَانَ إِدْرِيسُ خَيَّاطًا، وَكَانَ لَا يَغْرِزُ غُرْزَةً إِلَّا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي وَلَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ أَفْضَلُ عَمَلًا مِنْهُ، فَاسْتَأْذَنَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فَأَهْبِطُ إِلَى إِدْرِيسَ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَى إِدْرِيسَ فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُكَ لِأَخْدُمَكَ، قَالَ: كَيْفَ تَخْدُمُنِي وَأَنْتَ مَلَكٌ وَأَنَا إِنْسَانٌ؟ ثُمَّ قَالَ إِدْرِيسُ: هَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ شَيْءٌ؟ قَالَ الْمَلَكُ: ذاك أخي من الملائكة، قال: هل يستطيع أن ينسئني؟ قال: أما أن يُؤَخِّرُ شَيْئًا أَوْ يُقَدِّمُهُ فَلَا، وَلَكِنْ سَأُكَلِّمُهُ لَكَ فَيَرْفُقُ بِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ:
ارْكَبْ بَيْنَ جَنَاحِي، فَرَكِبَ إِدْرِيسُ فَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا، فَلَقِيَ مَلَكَ الْمَوْتِ وَإِدْرِيسُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: عَلِمْتُ حَاجَتَكَ تُكَلِّمُنِي فِي إِدْرِيسَ، وَقَدْ مُحِيَ اسْمُهُ مِنَ الصَّحِيفَةِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِهِ إِلَّا نِصْفُ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَمَاتَ إِدْرِيسُ بَيْنَ جَنَاحَيِ الْمَلَكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلْتُ كَعْبًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَهَذَا هُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي يَرْوِيهَا كَعْبٌ.
وَأَخْرَجَ ابن أي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رُفِعَ إِدْرِيسُ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا عُرِجَ بِي رَأَيْتُ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: رُفِعَ إِدْرِيسُ كَمَا رُفِعَ عِيسَى وَلَمْ يَمُتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِدْرِيسُ هُوَ إِلْيَاسُ. وَحَسَّنَهُ السُّيُوطِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ: هَذِهِ تَسْمِيَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ أَمَّا مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ: فَإِدْرِيسُ وَنُوحٌ وَأَمَّا مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ فَإِبْرَاهِيمُ وَأَمَّا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ: فَإِسْمَاعِيلُ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ وَأَمَّا ذُرِّيَّةُ إِسْرَائِيلَ: فَمُوسَى، وَهَارُونُ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَتَرَاكَبُونَ فِي الطُّرُقِ كَمَا تَرَاكَبُ الْأَنْعَامُ، لَا يَسْتَحْيُونَ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: أَضاعُوا الصَّلاةَ قَالَ: لَيْسَ إِضَاعَتُهَا تَرْكَهَا، قَدْ يُضَيِّعُ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ وَلَا يَتْرُكُهُ، وَلَكِنَّ إِضَاعَتَهَا: إِذَا لَمْ يُصَلِّهَا لِوَقْتِهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ الْآيَةَ قَالَ: «يَكُونُ خَلْفٌ مِنْ بَعْدِ سِتِّينَ سَنَةً أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ثُمَّ يَكُونُ خَلْفٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةٌ: مُؤْمِنٌ، وَمُنَافِقٌ، وَفَاجِرٌ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَهْلِكُ مِنْ أُمَّتِي أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ اللّين، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْلُ الْكِتَابِ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَتَعَلَّمُونَ الْكِتَابَ يُجَادِلُونَ بِهِ الَّذِينَ آمنوا. قلت: ما أهل اللّين؟ قَالَ: قَوْمٌ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَيُضَيِّعُونَ الصَّلَوَاتِ» . وَأَخْرَجَ(3/402)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُرْسِلُ بِالصَّدَقَةِ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ وَتَقُولُ:
لَا تُعْطُوا مِنْهَا بَرْبَرِيًّا وَلَا بَرْبَرِيَّةً، فَإِنِّي سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «هُمُ الْخَلْفُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قَالَ:
خُسْرًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قَالَ: الْغَيُّ نَهْرٌ، أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ بَعِيدُ الْقَعْرِ، خَبِيثُ الطَّعْمِ، يُقْذَفُ فِيهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ. وَقَدْ قَالَ بِأَنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ. وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «لو أَنَّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْرِ أَوَاقٍ قُذِفَ بِهَا مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ مَا بَلَغَتْ قَعْرَهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا، ثُمَّ تَنْتَهِي إِلَى غَيٍّ وَأَثَامٍ، قُلْتُ: وَمَا غَيٌّ وَأَثَامٌ؟
قَالَ: نَهْرَانِ فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِمَا صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَهُمَا اللَّذَانِ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً «1» » . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْغَيُّ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: بُكْرَةً وَعَشِيًّا قَالَ: يُؤْتَوْنَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا كَانُوا يُؤْتَوْنَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، مِنْ طَرِيقِ أَبَانٍ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ قَالَا: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ لَيْلٍ؟ قَالَ: وَمَا هَيَّجَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَذْكُرُ فِي الْكِتَابِ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَقُلْتُ: اللَّيْلُ مِنَ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ هُنَاكَ لَيْلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ، يَرُدُّ الْغُدُوَّ عَلَى الرَّوَاحِ وَالرَّوَاحَ عَلَى الْغُدُوِّ، تَأْتِيهِمْ طُرَفُ الْهَدَايَا مِنَ اللَّهِ لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ غَدَاةٍ مِنْ غَدَوَاتِ الْجَنَّةِ، وَكُلُّ الْجَنَّةِ غَدَوَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ يُزَفُّ إِلَى وَلِيِّ اللَّهِ فِيهَا زَوْجَةٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَأَدْنَاهُنَّ الَّتِي خُلِقَتْ مِنَ الزَّعْفَرَانِ» قَالَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا حَدِيثٌ منكر.
[سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 72]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
__________
(1) . الفرقان: 68.(3/403)
قَوْلُهُ: وَما نَتَنَزَّلُ أَيْ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: قُلْ يَا جِبْرِيلُ وَمَا نَتَنَزَّلُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَبْطَأَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ جِبْرِيلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ. قِيلَ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عِنْدَ دُخُولِهَا: وَمَا نَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْجِنَانَ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَمَا نَتَنَزَّلُ عَلَيْكَ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَنَا بِالتَّنَزُّلِ. وَالثَّانِي: وَمَا نَتَنَزَّلُ عَلَيْكَ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ الَّذِي يَأْمُرُكَ بِهِ بِمَا شَرَعَهُ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ، وَالتَّنَزُّلُ: النُّزُولُ عَلَى مَهْلٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ النُّزُولِ. ثُمَّ أَكَّدَ جِبْرِيلُ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ أَيْ:
مِنَ الْجِهَاتِ وَالْأَمَاكِنِ، أَوْ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، فَلَا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نَنْتَقِلَ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، أَوْ مِنْ زَمَانٍ إِلَى زَمَانٍ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وَمَشِيئَتِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَقِيلَ: الْأَرْضُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا إِذَا نَزَلْنَا، وَالسَّمَاءُ الَّتِي وَرَاءَنَا وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقِيلَ: مَا مَضَى من أعمارنا وما غبر «1» مِنْهَا وَالْحَالَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، فَلَا نُقْدِمُ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَالَ: «وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ» ، وَلَمْ يَقُلْ وَمَا بَيْنَ ذَيْنِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ: وَمَا بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «2» . وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أَيْ: لَمْ يَنْسَكَ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْكَ الْوَحْيُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَا يَنْسَى مِنْهَا شَيْئًا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ يَنْسَى الْإِرْسَالَ إِلَيْكَ عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي يُرْسِلُ فِيهِ رُسُلَهُ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيْ: خَالِقُهُمَا وَخَالِقُ مَا بَيْنَهُمَا، وَمَالِكُهُمَا وَمَالِكُ مَا بَيْنَهُمَا، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَالنِّسْيَانُ مُحَالٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَتِهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا فَقَالَ: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ كَوْنَهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِأَنْ يُعْبَدَ، وَعُدِّيَ فِعْلُ الصَّبْرِ بِاللَّامِ دُونَ عَلَى الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الثَّبَاتِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ وَلَا نَظِيرٌ حَتَّى يُشَارِكَهُ فِي الْعِبَادَةِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ خَالِصَةٍ لَهُ سُبْحَانَهُ، فَلَمَّا انْتَفَى الْمُشَارِكُ اسْتَحَقَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ وَتُخْلَصَ لَهُ، هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمِيِّ هُوَ الشَّرِيكُ فِي الْمُسَمَّى وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: الشَّرِيكُ فِي الِاسْمِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، فَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّهُ لَمْ يُسَمَّ شَيْءٌ مِنَ الْأَصْنَامِ وَلَا غَيْرِهَا بِاللَّهِ قَطُّ، يَعْنِي بَعْدَ دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي عُوِّضَتْ عَنِ الْهَمْزَةِ وَلَزِمَتْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا اسْمُهُ الرَّحْمَنُ غَيْرَهُ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ خَالِقٌ وَقَادِرٌ وَعَالِمٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ، وَعَلَى هَذَا لَا سَمِيَّ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ أَسْمَائِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ وَإِنْ سُمِّيَ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْإِنْكَارِ هُنَا نَفْيُ الْمَعْلُومِ على أبلغ وجه وأكمله وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ «إِذَا مَا متّ» على الخبر، والمراد بالإنسان
__________
(1) . غبر هنا: بمعنى بقي، وتأتي بمعنى: مضى. انظر القاموس.
(2) . البقرة: 68.(3/404)
هَاهُنَا الْكَافِرُ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ وَقِيلَ: اللَّامُ فِي الْإِنْسَانِ لِلْجِنْسِ بِأَسْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِلَّا الْبَعْضُ، وَهُمُ الْكَفَرَةُ فَقَدْ يُسْنَدُ إِلَى الْجَمَاعَةِ مَا قَامَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «أُخْرَجُ» أَيْ: مِنَ الْقَبْرِ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ فِعْلٌ دَلَّ عَلَيْهِ «أُخْرَجُ» لِأَنَّ مَا بَعْدَ اللَّامِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ التَّوْبِيخِيِّ، وَالْوَاوَ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا إِعْمَالُ الْفِكْرِ، أَيْ: أَلَا يَتَفَكَّرُ هَذَا الْجَاحِدُ فِي أَوَّلِ خَلْقِهِ فَيَسْتَدِلَّ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَالِابْتِدَاءُ أَعْجَبُ وَأَغْرَبُ مِنَ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ النَّشْأَةَ الْأُولَى هِيَ إِخْرَاجٌ لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ من العدم إلى الوجود ابتداعا واختراعا، لم يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ كَالْمِثَالِ لَهُ، وَأَمَّا النَّشْأَةُ الْآخِرَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا النَّشْأَةُ الْأُولَى فَكَانَتْ كَالْمِثَالِ لَهَا، وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ قَبْلَ الْحَالَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ، وَجُمْلَةُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ أَصْلًا، فَإِعَادَتُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ شَيْئًا مَوْجُودًا أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ. قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا أَوَلَا يَذَّكَّرُ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَصْلُهُ يَتَذَكَّرُ. وَقَرَأَ شيبة ونافع وعصام وَابْنُ عَامِرٍ يَذْكُرُ بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ أو لا يَتَذَكَّرُ. ثُمَّ لَمَّا جَاءَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْحُجَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي حُجَجِ الْبَعْثِ حُجَّةٌ أَقْوَى مِنْهَا، أَكَّدَهَا بِالْقَسَمِ بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ مُضَافًا إِلَى رَسُولِهِ تشريفا له وتعظيما، فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَمَعْنَى لَنَحْشُرَنَّهُمْ: لَنَسُوقَنَّهُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً كَمَا كَانُوا، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّياطِينَ لِلْعَطْفِ عَلَى الْمَنْصُوبِ، أَوْ بِمَعْنَى مَعَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَاحِدِينَ يَحْشُرُهُمُ الله مع شياطينهم الذين أغروهم وَأَضَلُّوهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى جَعْلِ اللَّامِ فِي الْإِنْسَانِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ، وَأَمَّا عَلَى جَعْلِهَا لِلْجِنْسِ فَكَوْنُهُ قَدْ وُجِدَ فِي الْجِنْسِ مَنْ يُحْشَرُ مَعَ شَيْطَانِهِ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا الْجِثِيُّ: جَمْعُ جَاثٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَجْثُو جُثُوًّا، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ: جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ لِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَرَوْعَةِ الْحِسَابِ، أَوْ لِكَوْنِ الْجِثِيِّ عَلَى الرُّكَبِ شَأْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً «1» ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بُقُولِهِ جِثِيًّا جَمَاعَاتٌ، وَأَصْلُهُ جَمْعُ جَثْوَةٍ، وَالْجَثْوَةُ: هِيَ الْمَجْمُوعُ مِنَ التُّرَابِ أَوِ الحجارة. قال طرفة:
تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ... صَفَائِحُ صُمٍّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ الشِّيعَةُ: الْفِرْقَةُ الَّتِي تَبِعَتْ دِينًا مِنَ الْأَدْيَانِ، وَخَصَّصَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: هِيَ الطَّائِفَةُ الَّتِي شَاعَتْ، أَيْ: تَبِعَتْ غَاوِيًا مِنَ الْغُوَاةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً «2» . وَمَعْنَى: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا مَنْ كَانَ أَعْصَى لِلَّهِ وَأَعْتَى فَإِنَّهُ يَنْزِعُ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ أَعَصَاهُمْ وَأَعْتَاهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا طَرَحَهُمْ فِي جَهَنَّمَ. وَالْعِتِيُّ هَاهُنَا مَصْدَرٌ كَالْعُتُوِّ، وَهُوَ التَّمَرُّدُ فِي الْعِصْيَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لِنَنْزِعَنَّ مِنْ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ قادتهم ورؤوسهم في الشرّ. وقد
__________
(1) . الجاثية: 28.
(2) . الأنعام: 159.(3/405)
اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ «أَيُّهُمْ» بِالضَّمِّ إِلَّا هارون القارئ فَإِنَّهُ قَرَأَهَا بِالْفَتْحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِي رَفْعِ «أَيُّهُمْ» ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ قَوْلُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ إِنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْحِكَايَةِ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ أَيُّهُمْ أَشَدُّ، وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ أَبِيتُ مِنَ الْفَتَاةِ بِمَنْزِلٍ ... فَأَبِيتُ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومُ
أَيْ: فَأَبِيتُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ هُوَ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَأَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ، يَعْنِي الزَّجَّاجَ، يَخْتَارُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَسْتَحْسِنُهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ يُونُسَ: وَهُوَ أَنَّ لَنَنْزِعَنَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُلْغَى وَتُعَلَّقُ، فَهَذَا الْفِعْلُ عِنْدَهُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي أَيِّ، وَخَصَّصَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وغيرهما التعليق بأفعال الشك ونحوها مِمَّا لَمْ يَتَحَقَّقُ وُقُوعُهُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ أَيُّهُمْ هَاهُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَخَوَاتِهِ فِي الْحَذْفِ، وَقَدْ غَلَّطَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ هَذَا جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ حَتَّى قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا تَبَيَّنَ لِي أَنَّ سِيبَوَيْهِ غَلِطَ فِي كِتَابِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا. وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي إِعْرَابِ أَيُّهُمْ هَذِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَلَامٌ طَوِيلٌ. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا يُقَالُ: صَلَى يصلى صُلِيًّا «1» ، مِثْلُ مَضَى الشَّيْءُ يَمْضِي مُضِيًّا، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ:
صَلَيْتُ الرَّجُلَ نَارًا إِذَا أَدْخَلْتَهُ النَّارَ وَجَعَلْتَهُ يَصْلَاهَا، فَإِنْ أَلْقَيْتَهُ إِلْقَاءً كَأَنَّكَ تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصلّيته تصلية، ومنه وَيَصْلى سَعِيراً «2» وَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَلِيَ فُلَانٌ النَّارَ بِالْكَسْرِ يَصْلَى صِلِيًّا احْتَرَقَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا. قَالَ العجّاج «3» :
والله لولا النار أن نصلاها وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا هُمْ أَوْلَى بِصِلِيِّهَا، أَوْ صِلِيُّهُمْ أَوْلَى بِالنَّارِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها الْخِطَابُ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ، أَوْ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ، فَيَكُونُ الْتِفَاتًا، أَيْ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَارِدُهَا، أَيْ: وَاصِلُهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْوُرُودِ، فَقِيلَ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، وَيَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْوُرُودُ هُوَ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ وَقِيلَ: لَيْسَ الْوُرُودُ الدُّخُولَ، إِنَّمَا هو كما تقول:
وَرَدْتُ الْبَصْرَةَ وَلَمْ أَدْخُلْهَا. وَقَدْ تَوَقَّفَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْوُرُودِ، وَحَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «4» قَالُوا: فَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ ضَمِنَ اللَّهَ أَنْ يُبْعِدَهُ عَنْهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ لَا يَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «5» فَإِنَّ الْمُرَادَ أَشْرَفَ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زرقا جمامه ... وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْوُرُودَ هُوَ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، أَوِ الْوُرُودُ عَلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ خَامِدَةٌ فِيهِ جمع بين
__________
(1) . صليا: بضم الصاد، قراءة نافع وعليها التفسير.
(2) . الانشقاق: 12.
(3) . نسبه في اللسان مادة (فيه) إلى الزفيان، وأورده في أبيات.
(4) . الأنبياء: 101. [.....]
(5) . القصص: 23.(3/406)
الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْجَمْعُ بِحَمْلِ الْوُرُودِ عَلَى دُخُولِ النَّارِ مَعَ كَوْنِ الدَّاخِلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُبْعَدًا مِنْ عَذَابِهَا، أَوْ بِحَمْلِهِ عَلَى الْمُضِيِّ فَوْقَ الْجِسْرِ الْمَنْصُوبِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الصِّرَاطُ كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أَيْ: كَانَ وُرُودُهُمُ الْمَذْكُورُ أَمْرًا مَحْتُومًا قَدْ قَضَى سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعِقَابَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ، وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ هَذَا مُشَبَّهٌ بِالْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ تَطَرُّقِ الْخُلْفِ إِلَيْهِ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيِ: اتَّقَوْا مَا يُوجِبُ النَّارَ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَمَعَاصِيهِ، وَتَرْكُ مَا شَرَعَهُ، وَأَوْجَبَ الْعَمَلَ بِهِ. قَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ نُنْجِي بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَنْجَى، وَبِهَا قَرَأَ حُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ وَالْكِسَائِيُّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ ابن أبي ليلى «ثمّه نَذَرُ» بِفَتْحِ الثَّاءِ «1» مِنْ ثَمَّ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِفِعْلِ مَا يُوجِبُ النَّارَ، أَوْ ظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِمَظْلَمَةٍ فِي النَّفْسِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ، وَالْجِثِيُّ: جَمْعُ جَاثٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا تَفْسِيرُ الْجِثِيِّ وَإِعْرَابُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟ فَنَزَلَتْ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» وَزَادَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَكَانَ ذَلِكَ الْجَوَابُ لِمُحَمَّدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْبِقَاعِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَأَيُّهَا أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، وَكَانَ قَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَلَيَّ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ بِرَبِّي عَلَيَّ مَوْجِدَةً، فَقَالَ: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «أَبْطَأَ جِبْرِيلُ على النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالَ لَهُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَا نَزَلْتَ حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَنَا كُنْتُ إِلَيْكَ أَشْوَقَ، وَلَكِنِّي مَأْمُورٌ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ أَنْ قُلْ لَهُ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَبْطَأَتِ الرُّسُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أتاه جبريل فقال: «مَا حَبَسَكَ عَنِّي؟ قَالَ: وَكَيْفَ نَأْتِيكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَقُصُّونَ أَظْفَارَكُمْ، وَلَا تُنَقُّونَ بَرَاجِمَكُمْ، وَلَا تَأْخُذُونَ شَوَارِبَكُمْ، وَلَا تَسْتَاكُونَ؟ وَقَرَأَ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا قَالَ: مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَما خَلْفَنا قَالَ: مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَما بَيْنَ ذلِكَ قَالَ: مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَما بَيْنَ ذلِكَ قَالَ: مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ لِلرَّبِّ شَبَهًا أَوْ مَثَلًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم، والحاكم
__________
(1) . في القرطبي: أي: هناك.(3/407)
وصحّحه، والبيهقي فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا؟ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ يُسَمَّى الرَّحْمَنَ غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَعْلَمُ لِإِلَهِكَ مِنْ وَلَدٍ؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ قَالَ: الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جِثِيًّا قَالَ: قُعُودًا، وَفِي قَوْلِهِ: عِتِيًّا قَالَ: مَعْصِيَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: عِتِيًّا قَالَ: عِصِيًّا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ قَالَ: لَنَنْزِعَنَّ مِنْ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ قادتهم ورؤوسهم فِي الشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: نَحْشَرُ الْأَوَّلَ عَلَى الْآخِرِ حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتِ الْعِدَّةُ أثارهم جميعا، ثم بدأ بالأكابر جرما، ثم قرأ: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ إِلَى قَوْلِهِ:
عِتِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا قَالَ:
يَقُولُ إِنَّهُمْ أَوْلَى بِالْخُلُودِ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبيهقي عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ بَعْضُنَا لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُنَا يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ وَأَهْوَى بِأُصْبُعِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ صَمْتًا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهَا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وسعيد بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَاصَمَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، وَقَالَ نَافِعٌ: لَا، فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «1» ، وَقَالَ: وَرَدُوا أَمْ لَا؟ وَقَرَأَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ «2» أَوَرَدُوا أَمْ لَا؟ أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا؟. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قَالَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا دَاخِلُهَا. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: وُرُودُهَا الصِّرَاطَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَرِدُ النَّاسُ كُلُّهُمُ النَّارَ، ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَحُضْرِ الْفَرَسِ «3» ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّحْلِ، ثُمَّ كَمَشْيِهِ» وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإن منكم إلا واردها» يقول: مجتاز فيها. وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ، قَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قَالَتْ: أَلَمْ تَسْمَعِيهِ يَقُولُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وغيرهما
__________
(1) . الأنبياء: 98.
(2) . هود: 98.
(3) . الحضر بالضم: العدو.(3/408)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» ثُمَّ قَرَأَ سُفْيَانُ:
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُتَطَوِّعًا، لَا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ، لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنَيْهِ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» وَالْأَحَادِيثُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ جِدًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: حَتْماً مَقْضِيًّا قَالَ: قَضَاءٌ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الخطيب في تالي التلخيص عَنْ عِكْرِمَةَ حَتْماً مَقْضِيًّا قَالَ: قَسَمًا وَاجِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا قَالَ: باقين فيها.
[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 80]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً (77)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
الضمير في عَلَيْهِمْ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ في قوله: أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَيْ: هَؤُلَاءِ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ تَعَذَّرُوا بِالدُّنْيَا، وَقَالُوا: لَوْ كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ وَكُنَّا عَلَى الْبَاطِلِ لَكَانَ حَالُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبَ مِنْ حَالِنَا، وَلَمْ يَكُنْ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُهِينَ أَوْلِيَاءَهُ وَيُعِزَّ أَعْدَاءَهُ، وَمَعْنَى «الْبَيِّنَاتِ» : الْوَاضِحَاتِ الَّتِي لَا تَلْتَبِسُ مَعَانِيهَا وَقِيلَ: ظَاهِرَاتُ الْإِعْجَازِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا حُجَجٌ وَبَرَاهِينُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا وَاضِحَةً، وَوَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ السَّبَبُ لِصُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ عَنْهُمْ، وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا هُمُ الْمُتَمَرِّدُونَ الْمُصِرُّونَ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى قَالُوا: لِلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: لِأَجْلِهِمْ، وَقِيلَ: هَذِهِ اللَّامُ هِيَ لَامُ التَّبْلِيغِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ أَيْ: خَاطَبُوهُمْ بِذَلِكَ وَبَلَّغُوا الْقَوْلَ إِلَيْهِمْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً الْمُرَادُ بِالْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا أَفَرِيقُنَا خَيْرٌ أَمْ فَرِيقُكُمْ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَشِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ «مُقَامًا» بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، أَيْ: مَنْزِلًا وَمَسْكَنًا، وَقِيلَ: الْمَقَامُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ بِالْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْبَرُ جَاهًا وَأَكْثَرُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا، وَالنَّدِيُّ وَالنَّادِي: مَجْلِسُ الْقَوْمِ وَمُجْتَمَعُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ «1» وَنَادَاهُ: جَالَسَهُ فِي النَّادِي، وَمِنْهُ دَارُ النَّدْوَةِ لأن
__________
(1) . العنكبوت: 29.(3/409)
الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا فِي أُمُورِهِمْ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أُنَادِي بِهِ آلَ الْوَلِيدِ وجعفرا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ الْقَرْنُ: الْأُمَّةُ والجماعة هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً الْأَثَاثُ: الْمَالُ أَجْمَعُ:
الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ وَالْبَقَرُ وَالْعَبِيدُ وَالْمَتَاعُ، وَقِيلَ: هُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هُوَ الْجَدِيدُ مِنَ الْفَرْشِ، وَقِيلَ:
اللِّبَاسُ خَاصَّةً. وَاخْتَلَفَتِ الْقِرَاءَاتُ فِي «وَرِئْيًا» فَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ ذَكْوَانَ «وَرِيًّا» بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأَيْتُ ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ فَأُبْدِلَ مِنْهَا يَاءٌ وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: هُمْ أَحْسَنُ مَنْظَرًا وَبِهِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَحُسْنُ الْمَنْظَرِ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ حُسْنِ اللِّبَاسِ، أَوْ حسن الأبدان وتنعمها، أو مجموع الأمرين. وقرأ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ «وَرِئْيًا» بِالْهَمْزِ، وَحَكَاهَا وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَمَعْنَاهَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَنْ هَمَزَ جَعَلَهُ مِنَ الْمَنْظَرِ مِنْ رَأَيْتُ، وَهُوَ مَا رَأَتْهُ الْعَيْنُ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ وَكُسْوَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمُحَمَّدِ بْنِ نُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ:
أَشَاقَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا ... بِذِي الرِّئْيِ الْجَمِيلِ مِنَ الْأَثَاثِ
وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، أَوْ يَكُونَ مِنْ رُوِيَتْ أَلْوَانُهُمْ أَوْ جُلُودُهُمْ رِيًّا أَيِ: امْتَلَأَتْ وَحَسُنَتْ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ مَعْنَى هَذَا كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْوَاحِدِيُّ. وَحَكَى يَعْقُوبُ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ قَرَأَ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ، فَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ غَلَطٌ، وَوَجَّهَهَا بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ كَانَ أَصْلُهَا الْهَمْزَةَ فَقُلِبَتْ يَاءً ثُمَّ حُذِفَتْ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِالزَّايِ مَكَانَ الرَّاءِ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي ويزيد البربري، وَالزِّيُّ: الْهَيْئَةُ وَالْحُسْنُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوَيْتُ، أَيْ: جَمَعْتُ، فَيَكُونُ أَصْلُهَا زَوْيًا فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَالزِّيُّ: مَحَاسِنُ مَجْمُوعَةٌ قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُفْتَخِرِينَ بِحُظُوظِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَيْ: مَنْ كَانَ مُسْتَقِرًا فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا هَذَا وَإِنْ كَانَ على صيغة الأمر، فالمراد به الخبر، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ لِبَيَانِ الْإِمْهَالِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِلْعُصَاةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِتَنْقَطِعَ مَعَاذِيرُ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَيُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «1» ، أَوْ لِلِاسْتِدْرَاجِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «2» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الدُّعَاءُ بِالْمَدِّ وَالتَّنْفِيسِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ جَزَاءَ ضَلَالَتِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَمُدَّهُ فِيهَا لِأَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يُؤَكِّدُ مَعْنَى الْخَبَرِ كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَقُولُ أَفْعَلُ ذَلِكَ وَآمُرُ بِهِ نَفْسِي حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ يَعْنِي الَّذِينَ مُدَّ لَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ، وَجَاءَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى مَنْ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اعْتِبَارٌ بِلَفْظِهَا، وَهَذِهِ غَايَةٌ لِلْمَدِّ، لَا لِقَوْلِ الْمُفْتَخِرِينَ إِذْ لَيْسَ فِيهِ امْتِدَادٌ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ هَذَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ مَا يُوعَدُونَ أَيْ: هَذَا الَّذِي تُوعَدُونَ هُوَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَإِمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ حِينَئِذٍ مِنَ الْعَذَابِ الْأُخْرَوِيِّ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً
__________
(1) . فاطر: 37.
(2) . آل عمران: 178.(3/410)
هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ جَوَابٌ عَلَى الْمُفْتَخِرِينَ أَيْ: هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا، إِذَا عَايَنُوا مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، أَوِ الْأُخْرَوِيِّ، فَسَيَعْلَمُونَ عِنْدَ ذلك من هو شرّ مكانا من الفريقين، وأضعف جندا منهما، أي: أنصارا وأعوانا. والمعنى: أنهم سيعلمون عند ذلك أنهم شَرٌّ مَكَانًا لَا خَيْرٌ مَكَانًا، وَأَضْعَفُ جُنْدًا لَا أَقْوَى وَلَا أَحْسَنُ مِنْ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لِلْمُفْتَخِرِينَ هُنَالِكَ جُنْدًا ضُعَفَاءَ، بَلْ لَا جُنْدَ لَهُمْ أَصْلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً «1» . ثُمَّ لَمَّا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَ أَهْلِ الْهِدَايَةِ فَقَالَ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْهُدَى يَجُرُّ إِلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَالْخَيْرُ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ الْعِبَادَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْوَاوُ فِي «وَيَزِيدُ» لِلِاسْتِئْنَافِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِ الْمُهْتَدِينَ وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى فَلْيَمْدُدْ وَقِيلَ: لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةِ: مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَزِيدَهُمْ يَقِينًا، كَمَا جَعَلَ جَزَاءَ الْكَافِرِينَ أَنْ يَمُدَّهُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً هِيَ الطَّاعَاتُ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا خَيْرًا عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابًا، أَنَّهَا أَنْفَعُ عَائِدَةً مِمَّا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْكُفَّارُ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَخَيْرٌ مَرَدًّا الْمَرَدُّ هَاهُنَا مَصْدَرٌ كالردّ، والمعنى: وخير مردّ لِلثَّوَابِ عَلَى فَاعِلِهَا لَيْسَتْ كَأَعْمَالِ الْكُفَّارِ الَّتِي خَسِرُوا فِيهَا، وَالْمَرَدُّ: الْمَرْجِعُ وَالْعَاقِبَةُ وَالتَّفَضُّلُ لِلتَّهَكُّمِ بهم وللقطع بِأَنَّ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ لَا خَيْرَ فِيهَا أَصْلًا. ثُمَّ أَرْدَفَ سُبْحَانَهُ مَقَالَةَ أُولَئِكَ الْمُفْتَخِرِينَ بِأُخْرَى مِثْلِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا أَيْ: أَخْبِرْنِي بِقِصَّةِ هَذَا الْكَافِرِ وَاذْكُرْ حَدِيثَهُ عَقِبَ حَدِيثِ أُولَئِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوا أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبَرَ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الشَّيْءِ مِنْ أَسْبَابِ صِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْهُ، وَالْآيَاتُ تَعُمُّ كُلَّ آيَةٍ وَمِنْ جُمْلَتِهَا آيَةُ الْبَعْثِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ: أَنَظَرْتَ فَرَأَيْتَ، وَاللَّامُ فِي لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً هِيَ الْمُوَّطِئَةُ لِلْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَأُوتَيَنَّ فِي الْآخِرَةِ مَالًا وَوَلَدًا، أَيِ: انْظُرْ إِلَى حَالِ هَذَا الْكَافِرِ، وَتَعَجَّبْ مِنْ كَلَامِهِ وَتَأَلِّيهِ عَلَى اللَّهِ مَعَ كُفْرِهِ بِهِ وَتَكْذِيبِهِ بِآيَاتِهِ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْلِ هَذَا الْكَافِرِ بِمَا يَدْفَعُهُ وَيُبْطِلُهُ، فَقَالَ: أَطَّلَعَ
عَلَى الْغَيْبَ أَيْ:
أَعَلِمَ مَا غَابَ عَنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بذلك، فإن لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْعِلْمِ إِلَّا بِإِحْدَى هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَظَرَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا؟ وَقِيلَ:
مَعْنَى أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟: أَمْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَرْحَمَهُ بِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَمْ قَدَّمَ عَمَلًا صَالِحًا فَهُوَ يَرْجُوهُ. وَاطَّلَعَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: اطَّلَعَ الْجَبَلَ إِذَا ارْتَقَى إِلَى أَعْلَاهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَوُلْدًا بِضَمِّ الْوَاوِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، يُقَالُ: وَلَدٌ وَوُلْدٌ كَمَا يُقَالُ عَدَمٌ وَعُدْمٌ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا ... قَدْ ثمّروا مالا وولدا
__________
(1) . الكهف: 43.(3/411)
وَقَالَ آخَرُ:
فَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ... وَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ
وَقِيلَ: الْوُلْدُ بِالضَّمِّ لِلْجَمْعِ وَبِالْفَتْحِ لِلْوَاحِدِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَنَّهُ يُؤْتَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنْ أَقَمْتُ عَلَى دِينِ آبَائِي لَأُوتَيَنَّ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْ كُنْتُ عَلَى بَاطِلٍ لَمَا أُوتِيتُ مَالًا وَوَلَدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ كَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ هَذَا الْكَافِرُ مِنْ أَنَّهُ يُؤْتَى المال والود سَيُكْتَبُ مَا يَقُولُ، أَيْ: سَنَحْفَظُ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ فَنُجَازِيهِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ سَنُظْهِرُ مَا يَقُولُ، أَوْ سَنَنْتَقِمُ مِنْهُ انْتِقَامَ مَنْ كُتِبَتْ مَعْصِيَتُهُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أَيْ: نَزِيدُهُ عَذَابًا فَوْقَ عَذَابِهِ مَكَانَ مَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ مِنَ الْإِمْدَادِ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، أَوْ نُطَوِّلُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ عَذَابُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أَيْ: نُمِيتُهُ فَنَرِثُهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ. وَالْمَعْنَى: مُسَمَّى مَا يَقُولُ وَمِصْدَاقُهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: نَحْرِمُهُ مَا تَمَنَّاهُ وَنُعْطِيهِ غَيْرَهُ وَيَأْتِينا فَرْداً أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، بَلْ نَسْلُبُهُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي أَنْ نُؤْتِيَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا يَقُولُ نَفْسُ الْقَوْلِ لَا مُسَمَّاهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا أَمَتْنَاهُ حُلْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَهُ، وَيَأْتِينَا رَافِضًا لَهُ مُنْفَرِدًا عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً قَالَ: قُرَيْشٌ تَقُولُهُ لَهَا وَلِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ مَقاماً قَالَ: الْمَنَازِلُ وَأَحْسَنُ نَدِيًّا قَالَ: الْمَجَالِسُ، وَفِي قَوْلِهِ: أَحْسَنُ أَثاثاً قال: المتاع والمال وَرِءْياً قَالَ: الْمَنْظَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا فَلْيَدَعْهُ اللَّهُ فِي طُغْيَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ فِي حَرْفِ أُبَيٍّ:
«قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُ يَزِيدُهُ اللَّهُ ضَلَالَةً» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ مِنْ حَدِيثِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيِّنًا «1» وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: فَإِنِّي إِذَا مِتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ جِئْتَنِي وَلِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَرْجُو بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ قَالَ: مَالُهُ وولده.
__________
(1) . أي حدّادا.(3/412)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 95]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
حَكَى سُبْحَانَهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَتَأَلَّوْا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنِ اتِّخَاذِهِمُ الْآلِهَةَ مَنْ دُونِ اللَّهِ لِأَجَلِ يَتَعَزَّزُونَ بِذَلِكَ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَى لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا لِيَكُونُوا لَهُمْ أَعْوَانًا.
قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لِيَكُونُوا لَهُمْ شُفَعَاءَ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لِيَتَعَزَّزُوا بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَيَمْتَنِعُوا بِهَا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا وَتَوَهَّمُوا، وَالضَّمِيرُ فِي الْفِعْلِ إِمَّا لِلْآلِهَةِ، أَيْ: سَتَجْحَدُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ عِبَادَةَ الْكُفَّارِ لَهَا يوم ينطقها الله سبحانه لأنها عند ما عَبَدُوهَا جَمَادَاتٌ لَا تَعْقِلُ ذَلِكَ، وَإِمَّا لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ: سَيَجْحَدُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «1» وقوله: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ «2» ، وَيَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «3» وقرأ أبو نُهَيْكٍ كَلًّا بِالتَّنْوِينِ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَعَ ذَلِكَ ضَمُّ الْكَافِ وَفَتْحُهَا، فَعَلَى الضَّمِّ هِيَ بِمَعْنَى جَمِيعًا وَانْتِصَابِهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: سَيَكْفُرُونَ «كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ» «4» ، وَعَلَى الْفَتْحِ يَكُونُ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَلَّ هَذَا الرَّأْيُ كَلًّا، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ هِيَ الصَّوَابُ، وَهِيَ حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أَيْ: تَكُونُ هَذِهِ الْآلِهَةُ الَّتِي ظَنُّوهَا عِزًّا لَهُمْ ضِدًّا عَلَيْهِمْ: أَيْ ضِدًّا لِلْعِزِّ وَضِدُّ الْعِزِّ: الذُّلُّ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَيَكُونُ الْمُشْرِكُونَ لِلْآلِهَةِ ضِدًّا وَأَعْدَاءً يَكْفُرُونَ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانُوا يُحِبُّونَهَا وَيُؤْمِنُونَ بِهَا أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ. ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي مَعْنَى هَذَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ خَلَّيْنَا بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ فَلَمْ نَعْصِمْهُمْ مِنْهُمْ وَلَمْ نُعِذْهُمْ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «5» . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ وَقُيِّضُوا لَهُمْ بِكُفْرِهِمْ، قَالَ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً «6» فَمَعْنَى الْإِرْسَالِ هَاهُنَا التَّسْلِيطُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ لِإِبْلِيسَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ «7» وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِي تَمَامُ الْآيَةِ، وَهُوَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فإن الأزّ والهزّ والاستفزاز معناه التَّحْرِيكُ وَالتَّهْيِيجُ وَالْإِزْعَاجُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشياطين
__________
(1) . القصص: 63.
(2) . النحل: 86.
(3) . الأنعام: 23.
(4) . أي اتخاذهم الآلهة. [.....]
(5) . الحجر: 42 والإسراء: 65.
(6) . الزخرف: 36.
(7) . الإسراء: 64.(3/413)
تُحَرِّكُ الْكَافِرِينَ وَتُهَيِّجُهُمْ وَتُغْوِيهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ التَّسْلِيطُ لَهَا عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَزِّ الِاسْتِعْجَالُ، وَهُوَ مُقَارِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ تَحْرِيكٌ وَتَهْيِيجٌ وَاسْتِفْزَازٌ وَإِزْعَاجٌ، وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ لِتَعْجِيبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَالِهِمْ وَلِلتَّنْبِيهِ لَهُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ بِإِضْلَالِ الشَّيَاطِينِ وَإِغْوَائِهِمْ، وَجُمْلَةُ: «تَؤُزُّهُمْ أَزًّا» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا تَفْعَلُ الشَّيَاطِينُ بِهِمْ؟ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ تَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ إِهْلَاكَهُمْ بِسَبَبِ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَعِنَادِهِمْ لِلْحَقِّ، وَتَمَرُّدِهِمْ عَنْ دَاعِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يَعْنِي نَعُدُّ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ وَالشُّهُورَ وَالسِّنِينَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ إِلَى انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ، وَقِيلَ: نَعُدُّ أَنْفَاسَهُمْ، وَقِيلَ: خُطُوَاتِهِمْ، وَقِيلَ: لَحَظَاتِهِمْ، وَقِيلَ:
السَّاعَاتِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: نَعُدُّ أَعْمَالَهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ فَإِنَّمَا نُؤَخِّرُهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. ثُمَّ لَمَّا قَرَّرَ سُبْحَانَهُ أَمْرَ الْحَشْرِ وَأَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ مُنْكِرِيهِ أَرَادَ أَنْ يَشْرَحَ حَالَ الْمُكَلَّفِينَ حِينَئِذٍ، فَقَالَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَقِيلَ:
مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَمَعْنَى حَشْرِهِمْ إِلَى الرَّحْمَنِ حَشْرِهِمْ إِلَى جَنَّتِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ، كَقَوْلِهِ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي «1» وَالْوَفْدُ: جَمْعُ وَافِدٍ كَالرَّكْبِ جَمْعُ رَاكِبٍ، وَصَحْبٍ جَمْعُ صَاحِبٍ، يُقَالُ: وَفَدَ يَفِدُ وَفْدًا إِذَا خَرَجَ إِلَى مَلِكٍ أَوْ أَمْرٍ خَطِيرٍ كَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً السَّوقُ: الْحَثُّ عَلَى السَّيْرِ، وَالْوِرْدُ: الْعِطَاشُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُمُ الْمُشَاةُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
هُمُ الْمُشَاةُ الْعِطَاشُ كَالْإِبِلِ تَرِدُ الْمَاءَ. وَقِيلَ: وِرْدًا، أَيْ: لِلْوِرْدِ، كَقَوْلِكَ: جِئْتُكَ إِكْرَامًا، أَيْ: لِلْإِكْرَامِ، وَقِيلَ: أَفْرَادًا. قِيلَ: ولا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَهُمْ يُسَاقُونَ مُشَاةً عِطَاشًا أَفْرَادًا، وَأَصْلُ الْوِرْدِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَرِدُ الْمَاءَ مِنْ طَيْرٍ أَوْ إِبِلٍ أَوْ قَوْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْوِرْدُ: الْمَاءُ الَّذِي يُورَدُ، وَجُمْلَةُ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ بَعْضِ مَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْأُمُورِ، وَالضَّمِيرُ فِي «يَمْلِكُونَ» رَاجِعٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَقِيلَ:
لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً، وَقِيلَ: لِلْمُجْرِمِينَ خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى «لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ» : أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَشْفَعُوا لِغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُ غَيْرُهُمْ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْ: لَا يَمْلِكُ الْفَرِيقَانِ الْمَذْكُورَانِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اسْتَعَدَّ لِذَلِكَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ الشَّافِعِينَ لِغَيْرِهِمْ بِأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا مُتَّقِيًا، فَهَذَا مَعْنَى اتِّخَاذِ الْعَهْدِ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى اتِّخَاذِ الْعَهْدِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: عَهِدَ الْأَمِيرُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا أَمَرَهُ بِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى اتِّخَاذِ الْعَهَدِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَعَلَى الِاتِّصَالِ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ مَحَلُّ «مَنْ» فِي مَنِ اتَّخَذَ الرَّفْعَ عَلَى الْبَدَلِ، أَوِ النَّصْبَ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَا يَمْلِكُ الْمُجْرِمُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَمْلِكُ الْمُجْرِمُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وُلْدًا بِضَمِّ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ في المواضع
__________
(1) . الصافات: 99.(3/414)
الأربعة الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ يَزْعُمُ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَفِيهِ رَدٌّ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنْعَاءِ، وَالْإِدُّ كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الدَّاهِيَةُ وَالْأَمْرُ الْفَظِيعُ، وَكَذَلِكَ الْأَدَّةُ، وَجَمْعُ الْأَدَّةِ إِدَدٌ، يُقَالُ: أَدَّتْ فلانا الداهية تؤدّه أدا بِالْفَتْحِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ «أَدًّا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ «آدًّا» مِثْلُ «مَادًّا» ، وَهِيَ مأخوذة من الثقل، يقال: آده الحمل يؤوده أودا: أَثْقَلَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أَيْ: عَظِيمًا فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلْتُمْ قَوْلًا عَظِيمًا. وَقِيلَ: الْإِدُّ: الْعَجَبُ، وَالْإِدَّةُ: الشَّدَّةُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَالتَّرْكِيبُ يَدُورُ عَلَى الشِّدَّةِ وَالثِّقَلِ. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ قَرَأَ نَافِعٌ والكسائي وحفص وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «يَكَادُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بالفوقية، وقرأ نافع وابن كثير وحفص تتفطّرن بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ يَنْفَطِرْنَ بِالتَّحْتِيَّةِ مِنَ الِانْفِطَارِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «1» وقوله: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «2» وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «يَتَصَدَّعْنَ» وَالِانْفِطَارُ وَالتَّفَطُّرُ: التَّشَقُّقُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أَيْ: وَتَكَادُ أَنْ تَنْشَقَّ الْأَرْضُ، وَكَرَّرَ الْفِعْلَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ تَتَفَطَّرْنَ وَتَنْشَقُّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَتَخِرُّ الْجِبالُ أَيْ: تَسْقُطُ وَتَنْهَدِمُ، وَانْتِصَابُ هَدًّا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ الْخُرُورَ فِي مَعْنَاهُ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَتَنْهَدُّ هَدًّا، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَهْدُودَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: لِأَنَّهَا تَنْهَدُّ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: يُقَالُ هَدَّنِي الْأَمْرُ وَهَدَّ رُكْنِي، أَيْ: كَسَرَنِي وَبَلَغَ مِنِّي.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هَدَّ الْبِنَاءَ يَهُدُّهُ هَدًّا كَسَّرَهُ وَضَعْضَعَهُ، وَهَدَّتْهُ الْمُصِيبَةُ أَوْهَنَتْ رُكْنَهُ، وَانْهَدَّ الْجَبَلُ، أَيِ:
انْكَسَرَ، وَالْهَدَّةُ: صَوْتُ وَقْعِ الْحَائِطِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَمَحَلُّ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً الْجَرُّ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي مِنْهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِمَعْنَى لِأَنْ دَعَوْا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ بِتَقْدِيرِ الْخَافِضِ، وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ هَدًّا. وَالدُّعَاءُ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ، أَيْ: سَمَّوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، أَوْ بِمَعْنَى النِّسْبَةِ، أَيْ: نَسَبُوا لَهُ وَلَدًا وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أَيْ: لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَلِيقُ بِهِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَقْتَضِي الْجِنْسِيَّةَ وَالْحُدُوثَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، أَوْ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَالْحَالُ أَنَّهُ مَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: مَا كُلُّ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ آتِي اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُقِرًّا بِالْعُبُودِيَّةِ خَاضِعًا ذَلِيلًا، كَمَا قَالَ: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «3» أَيْ: صَاغِرِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبِيدُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَدًا لَهُ؟ وَقُرِئَ «آتي» عَلَى الْأَصْلِ لَقَدْ أَحْصاهُمْ أَيْ: حَصَرَهُمْ وَعَلِمَ عَدَدَهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أَيْ: عَدَّ أَشْخَاصَهُمْ بَعْدَ أَنْ حَصَرَهُمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أَيْ:
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مَالَ مَعَهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ «4» .
__________
(1) . الإنفطار: 1.
(2) . المزمل: 18.
(3) . النمل: 87.
(4) . الشعراء: 188.(3/415)
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا قَالَ: أَعْوَانًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ ضِدًّا قَالَ: حَسْرَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا تُغْوِيهِمْ إِغْوَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا قَالَ: تُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا إِلَى مَعَاصِي اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفْداً قَالَ: رُكْبَانًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفْداً قَالَ: عَلَى الْإِبِلِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثِ طرائق: راغبين وراهبين، واثنان عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تُقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وِرْداً قَالَ: عِطَاشًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَتَبَرَّأَ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي عَهْدٌ فَلْيَقُمْ، فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ قَالَ هَذَا فِي الدُّنْيَا، قُولُوا: اللَّهُمَّ فاطر السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى عَمَلِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاجْعَلْهُ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُؤَدِّيهِ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُورًا فَقَدْ سَرَّنِي، وَمَنْ سَرَّنِي فَقَدِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَمَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا فَلَا تَمَسُّهُ النَّارُ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «من جاء بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدْ حَافَظَ عَلَى وُضُوئِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْئًا جَاءَ وَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُ، وَمَنْ جَاءَ قَدِ انْتَقَصَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ رَحِمَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا قَالَ: قَوْلًا عَظِيمًا، وَفِي قَوْلِهِ: تَكادُ السَّماواتُ قال: إن الشرك فرغت منه السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، وَكَادَتْ تَزُولُ مِنْهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَكَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ كَذَلِكَ يَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الْمُوَحِّدِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا قَالَ: هَدْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الْجَبَلَ لَيُنَادِي الْجَبَلَ بِاسْمِهِ، يَا فُلَانُ هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ ذَكَرَ اللَّهَ؟ فَإِذَا قَالَ نَعَمْ اسْتَبْشَرَ.(3/416)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
قَالَ عَوْنٌ: أَفَيَسْمَعَنَّ الزُّورَ إِذَا قِيلَ وَلَا يَسْمَعَنَّ الْخَيْرَ؟ هُنَّ لِلْخَيْرِ أَسْمَعُ، وَقَرَأَ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً الآيات.
[سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَ مَا خَصَّهُمْ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِقَبَائِحِ الْكَافِرِينَ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أَيْ: حُبًّا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ يَجْعَلُهُ لَهُمْ مِنْ دُونِ أَنْ يَطْلُبُوهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا يَقْذِفُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ، وَالسِّينُ فِي سَيَجْعَلُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّهُ مَجْعُولٌ مِنْ بَعْدِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقُرِئَ وِدًّا بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الضَّمِّ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ خُصُوصًا هَذِهِ السُّورَةَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَبَيَانِ حَالِ الْمُعَانِدِينَ فَقَالَ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أَيْ: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ بِإِنْزَالِنَا لَهُ عَلَى لُغَتِكَ، وَفَصَّلْنَاهُ وَسَهَّلْنَاهُ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى، وَالْفَاءُ لِتَعْلِيلِ كَلَامٍ يَنْسَاقُ إِلَيْهِ النَّظْمُ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلِّغْ هَذَا الْمَنْزِلَ أَوْ بَشِّرْ بِهِ أَوْ أَنْذِرْ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ الْآيَةَ. ثُمَّ عَلَّلَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّيْسِيرِ فَقَالَ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أَيِ: الْمُتَلَبِّسِينَ بِالتَّقْوَى، الْمُتَّصِفِينَ بِهَا وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا اللُّدُّ: جَمْعُ الْأَلَدِّ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَدُّ الْخِصامِ «1» قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَيْتُ نَجِيًّا لِلْهُمُومِ كَأَنَّنِي ... أُخَاصِمُ أَقْوَامًا ذَوِي جَدَلٍ لُدًّا
وَقَالَ أَبُوُ عُبَيْدَةَ: الْأَلَدُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَيَدَّعِي الْبَاطِلَ، وَقِيلَ: اللُّدُّ الصُّمُّ، وَقِيلَ: الظُّلْمَةُ وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أَيْ: مِنْ أُمَّةٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَفِي هَذَا وَعْدٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِهَلَاكِ الْكَافِرِينَ وَوَعِيدٌ لَهُمْ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: هَلْ تَشْعُرُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ تَرَاهُ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً الرِّكْزُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ رَكَزَ الرُّمْحَ إِذَا غَيَّبَ طرفه في الأرض. قال طرفة:
وصادقنا «2» سَمْعُ التَّوَجُّسِ لِلسَّرَى ... لِرِكْزٍ خَفِيٍّ أَوْ لِصَوْتٍ مُفَنَّدٍ «3»
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدِسٌ ... بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعِهِ كذب
__________
(1) . البقرة: 204.
(2) . في المطبوع: وصادفتها. والمثبت من شرح المعلقات السبع ص (99) تحقيق يوسف بديوي، طبع دار ابن كثير.
(3) . في شرح المعلقات السبع: مندّد.(3/417)
أي: ما فِي اسْتِمَاعِهِ كَذِبٌ بَلْ هُوَ صَادِقُ الِاسْتِمَاعِ، وَالنَّدِسُ: الْحَاذِقُ، وَالنَّبْأَةُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّكْزُ: مَا لَا يُفْهَمُ مِنْ صَوْتٍ أَوْ حَرَكَةٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وجد في نَفْسَهُ عَلَى فِرَاقِ أَصْحَابِهِ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ بِكَمَالِهَا لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ سَنَدُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا قَالَ: مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «قُلِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا، وَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ وُدًّا، وَاجْعَلْ لِي فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِي عَلِيٍّ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وُدًّا قَالَ: مَحَبَّةً فِي النَّاسِ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن قَوْلِهِ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا مَا هُوَ؟
قَالَ: الْمَحَبَّةُ الصَّادِقَةُ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ» . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ يُنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَبْغَضْتُ فُلَانًا، فَيُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُنْزِلُ لَهُ الْبَغْضَاءَ فِي الْأَرْضِ» وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا قَالَ: فُجَّارًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: صُمًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَ: هَلْ تَرَى مِنْهُمْ مَنْ أَحَدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قوله: رِكْزاً قال: صوتا.(3/418)
طه (1)
سورة طه
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ طه بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي التَّوْحِيدِ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «أن اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَرَأَ طه ويس قَبْلَ أن يخلق السّموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ الْقُرْآنَ قَالَتْ: طُوبَى لِأُمَّةٍ يَنْزِلُ عَلَيْهَا هَذَا، وَطُوبَى لِأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا، وَطُوبَى لِأَلْسِنَةٍ تَكَلَّمَتْ بِهَذَا» . قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ وَشَيْخُهُ تُكُلِّمَ فيهما، يعني إبراهيم بن مهاجر بن مسمار وَشَيْخَهُ عُمَرَ بْنَ حَفْصِ بْنِ ذَكْوَانَ، وَهُمَا مِنْ رِجَالِ إِسْنَادِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ السُّورَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْأَنْعَامُ مِنَ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَأُعْطِيتُ سُورَةَ طه وَالطَّوَاسِينَ مِنْ أَلْوَاحِ مُوسَى، وَأُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْقُرْآنِ وَخَوَاتِيمَ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، وَأُعْطِيتُ الْمُفَصَّلَ نَافِلَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ قُرْآنٍ يُوضَعُ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يَقْرَءُونَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا سُورَةَ طَه وَيَس، فَإِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَ قِصَّةَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَعَ أُخْتِهِ وَخَبَّابٌ وَقِرَاءَتُهُمَا طه، وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ إِسْلَامِ عُمَرَ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9)
إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
قَوْلُهُ: طه قَرَأَ بِإِمَالَةِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَمَالَهُمَا جَمِيعًا أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ. وَقَرَأَهُمَا أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهِيَ كُلُّهَا لُغَاتٌ صَحِيحَةٌ فَصِيحَةٌ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: لَا وَجْهَ لِلْإِمَالَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ(3/419)
الْعَرَبِيَّةِ لِعِلَّتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا يَاءٌ وَلَا كَسْرَةٌ حَتَّى تَكُونَ الْإِمَالَةُ، وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الطَّاءَ مِنْ مَوَانِعِ الْإِمَالَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابَهِ الَّذِي لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ بِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى يَا رَجُلُ فِي لُغَةِ عُكْلٍ، وَفِي لُغَةِ عَكٍّ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَوْ قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنْ عَكٍّ يَا رَجُلُ لَمْ يُجِبْ حَتَّى تَقُولَ طه، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ:
دَعَوْتُ بِطه فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلًا «1»
وَيُرْوَى: مُزَايِلًا، وَقِيلَ: إِنَّهَا فِي لُغَةِ عَكٍّ بِمَعْنَى يَا حَبِيبِي. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هِيَ كَذَلِكَ فِي لُغَةِ طَيٍّ أَيْ:
بِمَعْنَى يَا رَجُلُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: هِيَ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ النّبطية، وبه قال السدّي وسعيد بن جبير. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي لُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَرَوَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي تِلْكَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا إِذَا صَحَّ النَّقْلُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا اسْمٌ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا اسْمٌ لِلسُّورَةِ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهَا حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ يَدُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى مَعْنًى. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا هَذِهِ الْحُرُوفُ عَلَى أَقْوَالٍ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ مُتَعَسَّفَةٌ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهَا طُوبَى لِمَنِ اهْتَدَى. الْقَوْلُ الثَّامِنُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: طَإِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ الصَّلَاةِ حَتَّى كَادَتْ قَدَمَاهُ تَتَوَرَّمُ وَيَحْتَاجُ إِلَى التَّرَوُّحِ، فَقِيلَ لَهُ طَإِ الْأَرْضَ، أَيْ: لَا تَتْعَبْ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى التَّرَوُّحِ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ طَه يَعْنِي: طَإِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ طَهْ عَلَى وَزْنِ دَعْ، أَمْرٌ بِالْوَطْءِ، وَالْأَصْلُ طَأْ فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً. وَقَدْ حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعْنَاهَا: يَا رَجُلُ، يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: هِيَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ وَالنَّبَطِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ، وَيَقُولُ الْكَلْبِيُّ: هِيَ بِلُغَةِ عَكٍّ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَلُغَةُ قُرَيْشٍ وَافَقَتْ تِلْكَ اللُّغَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُخَاطِبْ نَبِيَّهُ بِلِسَانِ غَيْرِ قُرَيْشٍ، انْتَهَى. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا لِهَذَا الْمَعْنَى فِي لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ كَانَتْ ظَاهِرَةَ الْمَعْنَى، وَاضِحَةَ الدَّلَالَةِ، خَارِجَةً عَنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ الَّتِي قَدَّمْنَا بَيَانَ كَوْنِهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ العجم، واستعملتها الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى كَسَائِرِ الْكَلِمَاتِ الْعَجَمِيَّةِ الَّتِي اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ الْمَوْجُودَةِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهَا صَارَتْ بِذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَجُمْلَةُ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم
__________
(1) . البيت لمتمّم بن نويرة.
«موائل» : واءل: طلب النجاة.(3/420)
عَمَّا كَانَ يَعْتَرِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ التَّعَبِ، وَالشَّقَاءُ يَجِيءُ فِي مَعْنَى التَّعَبِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي اللُّغَةِ الْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ذُو الْعَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ ... وَأَخُو الْجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوَةِ يَنْعَمُ
وَالْمَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَتْعَبَ بِفَرْطِ تَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُفْرِهِمْ، وَتَحَسُّرِكَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «1» قَالَ النَّحَّاسُ: بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ: هَذِهِ اللَّامُ فِي لِتَشْقى لَامُ النَّفْيِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لَامُ الْجُحُودِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هِيَ لَامُ الْخَفْضِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْآيَةِ هُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ طه كَسَائِرِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَتْ تَعْدِيدًا لِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ، وَإِنْ جُعِلَتِ اسْمًا لِلسُّورَةِ كَانَ قَوْلُهُ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى خَبَرًا عَنْهَا، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهَا يَا رَجُلُ، أَوْ بِمَعْنَى الْأَمْرِ بِوَطْءِ الْأَرْضِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لِصَرْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَانْتِصَابُ إِلَّا تَذْكِرَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ له لأنزلنا، كَقَوْلِكَ: مَا ضَرَبْتُكَ لِلتَّأْدِيبِ إِلَّا إِشْفَاقًا عَلَيْكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ لِتَشْقَى، أَيْ: مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً. وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّذْكِرَةَ لَيْسَتْ بِشَقَاءٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ لِتُذَكِّرَ بِهِ تَذْكِرَةً، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى بِهِ، مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا لِلتَّذْكِرَةِ، وَانْتِصَابُ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ تَنْزِيلًا، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَذْكِرَةً، وَقِيلَ:
هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى المدح، وقيل: منصوب بيخشى، أَيْ: يَخْشَى تَنْزِيلًا مِنَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقِيلَ:
مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ بِتَأَوُّلِهِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ تَنْزِيلٌ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى هَذَا تَنْزِيلٌ وَمِمَّنْ خَلَقَ مُتَعَلِّقٌ بِتَنْزِيلًا أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لَهُ وتخصيص خلق الأرض والسموات لِكَوْنِهِمَا أَعْظَمَ مَا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عزّ وجلّ، والعلا: جَمَعُ الْعُلْيَا، أَيِ: الْمُرْتَفِعَةُ، كَجَمْعِ كُبْرَى وَصُغْرَى عَلَى كُبَرٍ وَصُغَرٍ. وَمَعْنَى الْآيَةِ إِخْبَارُ الْعِبَادِ عَنْ كَمَالِ عَظَمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَعَظِيمِ جَلَالِهِ، وَارْتِفَاعُ الرَّحْمنُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا عَلَى الْمَدْحِ أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقُرِئَ بِالْجَرِّ، قَالَ الزجاج: على البدل من «مِمَّنْ» ، وَجَوَّزَ النَّحَّاسُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي خَلَقَ، وَجُمْلَةُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ الرَّحْمَنِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ مُبْتَدَأً.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: قَالَ ثَعْلَبٌ: الِاسْتِوَاءُ: الْإِقْبَالُ عَلَى الشَّيْءِ، وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْبَحْثِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا يَطُولُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ عَنْهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِغَيْرِ حَدٍّ وَلَا كَيْفٍ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ سَبَقَهُ الْجَمَاهِيرُ من السلف الصالح الذي يقرّون الصِّفَاتِ كَمَا وَرَدَتْ مِنْ دُونِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَأْوِيلٍ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ: أَنَّهُ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُدَبِّرُهُ وَما بَيْنَهُما مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَما تَحْتَ الثَّرى الثرى في اللغة: التراب
__________
(1) . الكهف: 6.(3/421)
النَّدِيُّ، أَيْ: مَا تَحْتَ التُّرَابِ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ الثَّرَى الَّذِي تَحْتَ الصَّخْرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الثَّوْرُ الَّذِي تَحْتَ الْأَرْضِ «1» وَلَا يَعْلَمُ مَا تَحْتَ الثَّرَى إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى الْجَهْرُ بِالْقَوْلِ: هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ وَالسِّرُّ مَا حَدَّثَ بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ وَأَسَرَّهُ إِلَيْهِ، وَالْأَخْفَى مِنَ السِّرِّ هُوَ مَا حَدَّثَ بِهِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَأَخْطَرَهُ بِبَالِهِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ تَجْهَرْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، فَلَا حَاجَةَ لَكَ إِلَى الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ، وَفِي هَذَا مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الْجَهْرِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً «2» وَقِيلَ: السِّرُّ مَا أَسَرَّ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ، وَالْأَخْفَى مِنْهُ هُوَ مَا خَفِيَ عَلَى ابْنِ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ، وَقِيلَ: السِّرُّ مَا أَضْمَرَهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ، وَالْأَخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَا أَضْمَرَهُ أَحَدٌ وَقِيلَ: السِّرُّ سِرُّ الْخَلَائِقِ، وَالْأَخْفَى مِنْهُ سِرُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ: إِنَّ الْأَخْفَى مَا لَيْسَ فِي سِرِّ الْإِنْسَانِ وَسَيَكُونُ فِي نَفْسِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الشَّرِيكِ، الْمُسْتَحِقِّ لِتَسْمِيَتِهِ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَقَالَ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَاللَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ اللَّهُ، وَجُمْلَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ اخْتِصَاصِ الْإِلَهِيَّةِ بِهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا هُوَ، وَهَكَذَا جُمْلَةُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى مُبَيِّنَةٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَهِيَ التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ «3» ، وَالْحُسْنَى: تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَالْأَسْمَاءُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهَا الْحُسْنَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي «يَعْلَمُ» . ثُمَّ قَرَّرَ سُبْحَانَهُ أَمْرَ التَّوْحِيدِ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْخَبَرِ الْغَرِيبِ، فَقَالَ: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَمَعْنَاهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَاهُ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ ذَاكَ. وَفِي سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ مَشَاقِّ أَحْكَامِ النُّبُوَّةِ، وَتَحَمُّلِ أَثْقَالِهَا وَمُقَاسَاةِ خُطُوبِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْقِصَّةُ الْوَاقِعَةُ لِمُوسَى، وإِذْ رَأى نَارًا ظَرْفٌ لِلْحَدِيثِ، وَقِيلَ:
الْعَامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، أَيِ: اذْكُرْ، وَقِيلَ: يُقَدَّرُ مُؤَخَرًا، أَيْ: حِينَ رَأَى نَارًا كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ لِلنَّارِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ لَمَّا خَرَجَ مسافرا إلى أمه بعد استئذانه لشعيب فلما رَآهَا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ هُنَا امْرَأَتُهُ، وَالْجَمْعُ لِظَاهِرِ لَفْظِ الْأَهْلِ أَوْ لِلتَّفْخِيمِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمَرْأَةُ وَالْوَلَدُ وَالْخَادِمُ، وَمَعْنَى امْكُثُوا: أَقِيمُوا مَكَانَكُمْ، وَعَبَّرَ بِالْمُكْثِ دُونَ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تَقْتَضِي الدَّوَامَ، وَالْمُكْثَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ لِأَهُلِهِ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَكَذَا فِي الْقَصَصِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا عَلَى لُغَةِ مَنْ قال: مررت بهو
__________
(1) . هذا القول لا يستند إلى أي دليل شرعي ويتنافى مع الحقائق العلمية فلا يعتد به. [.....]
(2) . الأعراف: 205.
(3) . الأعراف: 180.(3/422)
يَا رَجُلُ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّ حَمْزَةَ خَالَفَ أَصْلَهُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ خَاصَّةً إِنِّي آنَسْتُ نَارًا أَيْ: أَبْصَرْتُ، يُقَالُ: آنَسْتُ الصَّوْتَ سَمِعْتُهُ، وَآنَسْتُ الرَّجُلَ: أَبْصَرْتُهُ. وَقِيلَ: الْإِينَاسُ الْإِبْصَارُ الْبَيِّنُ، وَقِيلَ: الْإِينَاسُ مُخْتَصٌّ بِإِبْصَارِ مَا يُؤْنِسُ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْمُكْثِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْقَبَسِ، وَوُجُودُ الْهُدَى، متوقعين بني الْأَمْرِ عَلَى الرَّجَاءِ فَقَالَ: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَيْ: أَجِيئُكُمْ مِنَ النَّارِ بِقَبَسٍ، وَالْقَبَسُ: شُعْلَةٌ مِنَ النَّارِ، وَكَذَا الْمِقْبَاسُ، يُقَالُ: قَبَسْتُ مِنْهُ نَارًا أَقْبِسُ قَبْسًا فَأَقْبَسَنِي أَيْ: أَعْطَانِي، وَكَذَا اقْتَبَسْتُ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: أَقْبَسْتُ الرَّجُلَ عِلْمًا وَقَبَسْتُهُ نَارًا فَإِنْ كُنْتَ طَلَبْتَهَا لَهُ قُلْتَ أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سَوَاءً، قَالَ: وَقَبَسْتُهُ أَيْضًا فِيهِمَا. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أَيْ: هَادِيًا يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ وَيَدُلَّنِي عَلَيْهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ هَادِيًا، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ، أَوْ عَبَّرَ بِالْمَصْدَرِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: ذَا هُدًى، وَكَلِمَةُ «أَوْ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ دُونَ الْجَمْعِ، وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مُسْتَعْلُونَ عَلَى أَقْرَبِ مَكَانٍ إِلَيْهَا فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ أَيْ: فَلَمَّا أَتَى النَّارَ الَّتِي آنَسَهَا نُودِيَ مِنَ الشَّجَرَةِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، أَيْ: مِنْ جِهَتِهَا، وَمِنْ نَاحِيَتِهَا يَا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أَيْ: نُودِيَ، فَقِيلَ: يَا مُوسَى. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالْيَزِيدِيُّ أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بكسرها، أي: إني فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّوَاضُعِ، وَأَقْرَبُ إِلَى التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ وَحُسْنِ التَّأَدُّبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا كَانَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْخَلْعِ لِلنَّعْلَيْنِ: تَفْرِيغُ الْقَلْبِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَهُوَ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ.
ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ الأمر بالخلع فقال: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً الْمُقَدَّسُ: الْمُطَهَّرُ، وَالْقُدْسُ: الطَّهَارَةُ، وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ: الْمُطَهَّرَةُ، سُمِيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ مِنْهَا الْكَافِرِينَ وَعَمَّرَهَا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَطُوًى: اسْمٌ لِلْوَادِي. قال الجوهري: وطوى اسم موضع بالشام يكسر طاؤه وَيُضَمُّ، يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ، فَمَنْ صَرَفَهُ جَعَلَهُ اسْمَ وَادٍ وَمَكَانٍ وَجَعَلَهُ نَكِرَةً، وَمَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ جَعْلَهُ بَلْدَةً وَبُقْعَةً وَجَعَلَهُ مَعْرِفَةً، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ «طِوًى» بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا. وَقِيلَ: إِنَّ طُوًى كَثُنًى مِنَ الطَّيِّ مَصْدَرٌ لَنُودِيَ، أَوْ لِلْمُقَدَّسِ، أَيْ:
نُودِيَ نِدَاءَيْنِ، أَوْ قُدِّسَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَإِنَّا اخْتَرْنَاكَ بِالْجَمْعِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَوْلَى مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْخَطِّ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا أَوْلَى بِنَسَقِ الْكَلَامِ لِقَوْلِهِ: يَا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، وَمَعْنَى اخْتَرْتُكَ: اصْطَفَيْتُكَ لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: فَاسْتَمِعْ لِلَّذِي يُوحَى إِلَيْكَ، أَوْ لِلْوَحْيِ، وَجُمْلَةُ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ بَدَلٌ مِنْ «مَا» فِي «لِمَا يُوحَى» . ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالْعِبَادَةِ فَقَالَ: فَاعْبُدْنِي وَالْفَاءُ هُنَا كَالْفَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ اخْتِصَاصَ الْإِلَهِيَّةِ بِهِ سُبْحَانَهُ مُوجِبٌ لِتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي خَصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهَا دَاخِلَةً تَحْتَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ طَاعَةٍ وَأَفْضَل عِبَادَةٍ، وَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ لِذِكْرِي، أَيْ: لِتَذْكُرَنِي فَإِنَّ الذِّكْرَ الْكَامِلَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي ضِمْنِ الْعِبَادَةِ(3/423)
وَالصَّلَاةِ، أَوِ الْمَعْنَى: لِتَذْكُرَنِي فِيهِمَا لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى الْأَذْكَارِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَقِمِ الصَّلَاةَ مَتَى ذَكَرْتَ أَنَّ عَلَيْكَ صَلَاةً. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لِأَذْكُرَكَ بِالْمَدْحِ فِي عِلِّيِّينَ، فَالْمَصْدَرُ عَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الْفَاعِلِ أَوْ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ، أَيْ: إِنَّ السَّاعَةَ الَّتِي هِيَ وَقْتُ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ آتِيَةٌ، فَاعْمَلِ الْخَيْرَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ.
وَمَعْنَى أَكادُ أُخْفِيها مُخْتَلَفٌ فِيهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَقُطْرُبٌ: هَذَا عَلَى عَادَةِ مُخَاطَبَةِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ إِذَا بَالَغُوا فِي كِتْمَانِ الشَّيْءِ: كَتَمْتُهُ حَتَّى مِنْ نَفْسِي، أَيْ: لَمْ أُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ بَالَغَ فِي إِخْفَاءِ السَّاعَةِ، فَذَكَرَهُ بِأَبْلَغِ مَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: أُخْفِيها بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَمَعْنَاهُ أُظْهِرُهَا، وكذا روى أبو عبيد عَنِ الْكِسَائِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ وقاء بْنِ إِيَاسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَلَيْسَ لِهَذِهِ الرِّوَايَةُ طَرِيقٌ غَيْرُ هَذَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ «الرَّدِّ» قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ، حَدَّثَنَا الْكِسَائِيُّ فَذَكَرَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَجْوَدُ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ مَا رَوَاهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: أُخْفِيها بِضَمِّ الْهَمْزَةِ.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَعْنَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ أَكَادُ أُظْهِرُهَا، مِنْ خَفَيْتُ الشَّيْءِ إِذَا أَظْهَرْتُهُ أُخْفِيهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُخْفِيهَا بِضَمِّ الْأَلِفِ مَعْنَاهُ أُظْهِرُهَا، لِأَنَّهُ يُقَالُ خَفَيْتُ الشَّيْءَ وَأَخْفَيْتُهُ مِنْ حُرُوفِ الْأَضْدَادِ يقع عَلَى السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: خَفَيْتُ وَأَخْفَيْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا حَسَنٌ، وَقَدْ أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ وَسِيبَوَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَخْفَاهُ أَظْهَرَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَإِنْ تَكْتُمُوا «1» الدَّاءَ لَا نُخْفِهِ ... وَإِنْ تَبْعَثُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدُ
أَيْ: وَإِنْ تَكْتُمُوا الدَّاءَ لَا نُظْهِرُهُ. وَقَدْ حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّهُ بِضَمِّ النُّونِ مَنْ تخفه، وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْسِ:
خَفَاهُنَّ مِنْ أَنِفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا ... خفاهنّ ودق من عشيّ مجلّب «2»
أَيْ: أَظْهَرَهُنَّ. وَقَدْ زَيَّفَ النَّحَّاسُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أُظْهِرُهَا، وَلَا سِيَّمَا وَأُخْفِيهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، فَكَيْفَ تَرِدُ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الشَّائِعَةُ! وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فِي الْآيَةِ تَفْسِيرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ يَنْقَطِعُ عَلَى أَكَادُ، وَبَعْدَهُ مُضْمَرٌ، أَيْ: أَكَادُ آتِي بِهَا، وَوَقَعَ الابتداء ب أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى، وَمِثْلُهُ قَوْلُ عمير بن ضابئ البرجمي:
__________
(1) . في الديوان ص (186) : تدفنوا.
(2) . «الودق» : المطر. «المجلب» : الذي له جلبة.(3/424)
هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلَى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلَائِلُهُ
أَيْ: وَكِدْتُ أَفْعَلُ، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ السلب وليس من الْأَضْدَادَ، وَمَعْنَى أُخْفِيهَا: أُزِيلُ عَنْهَا خَفَاءَهَا، وَهُوَ سَتْرُهَا، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ أَشْكَيْتُهُ، أَيْ: أَزَلْتُ شَكْوَاهُ.
وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ «أَكَادُ» زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَ: وَمِثْلُهُ: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها «1» ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» :
سَرِيعٌ إِلَى الْهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلَاحَهُ ... فَمَا أَنْ يَكَادَ قَرْنُهُ يَتَنَفَّسُ
قَالَ: وَالْمَعْنَى أَكَادُ أُخْفِيهَا، أَيْ: أُقَارِبُ ذَلِكَ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَامَ وَأَنْ يَكُونَ لَمْ يَقُمْ، وَدَلَّ على أنه قد أَخْفَاهَا بِدَلَالَةٍ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا، وَقَوْلُهُ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى مُتَعَلِّقٌ بِآتِيَةٌ، أَوْ بِأُخْفِيهَا، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِسَعْيِهَا، وَالسَّعْيُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْأَفْعَالِ، فَهُوَ هُنَا يَعُمُّ الْأَفْعَالَ وَالتُّرُوكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ تَارِكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُعَاقَبٌ بِتَرْكِهِ مَأْخُوذٌ بِهِ فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أَيْ: لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، وَالتَّصْدِيقِ بِهَا، أَوْ عَنْ ذِكْرِهَا وَمُرَاقَبَتِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها مِنَ الْكَفَرَةِ، وَهَذَا النَّهْيُ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَهْيٌ له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الِانْصِدَادَ، أَوْ عَنْ إِظْهَارِ اللِّينِ لِلْكَافِرِينَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي «عَنْهَا» لِلصَّلَاةِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعَ هَواهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: مَنْ لَا يُؤْمِنُ، وَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ، أَيْ: هَوَى نَفْسِهِ بِالِانْهِمَاكِ فِي اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ الْفَانِيَةِ فَتَرْدى أَيْ: فَتَهْلِكُ لِأَنَّ انْصِدَادَكَ عَنْهَا بِصَدِّ الكَّافِرِينَ لَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْهَلَاكِ وَمُسْتَتْبِعٌ لَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم:
«أوّل مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَانَ يَقُومُ عَلَى صَدْرِ قَدَمَيْهِ إِذَا صَلَّى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: لَقَدْ شَقِيَ هَذَا الرَّجُلُ بِرَبِّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَرْبِطُ نَفْسَهُ بِحَبْلٍ لِئَلَّا يَنَامَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ، يَقُومُ عَلَى كُلِّ رِجْلٍ حَتَّى نَزَلَتْ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وَحَسَّنَ السُّيُوطِيُّ إِسْنَادَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ إِذَا صَلَّى، فَقَامَ عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ طه بِرِجْلَيْكَ ف مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: طه قَالَ: يَا رَجُلُ. وَأَخْرَجَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طه بِالنَّبَطِيَّةِ. أَيْ: طَأْ يَا رَجُلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عنه أيضا قال: هو كقولك اقْعُدْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: طَه بِالنَّبَطِيَّةِ يَا رَجُلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ
__________
(1) . النور: 40.
(2) . هو زيد الخيل.(3/425)
جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: طه يَا رَجُلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: طه هُوَ كَقَوْلِكَ يَا مُحَمَّدُ بِلِسَانِ الْحَبَشِ. وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اخْتِلَافٌ وَتَدَافُعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن لِي عِنْدَ رَبِّي عَشَرَةَ أَسْمَاءٍ، قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: حَفِظْتُ مِنْهَا ثَمَانِيَةً: مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ، وَالْفَاتِحُ، وَالْخَاتَمُ، وَالْمَاحِي، وَالْعَاقِبُ، وَالْحَاشِرُ» وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَالَ لَهُ الِاسْمَانِ الْبَاقِيَانِ طه وَيس. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى قَالَ: يَا رَجُلُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ عَلَى رِجْلَيْهِ فَهِيَ لُغَةٌ لِعَكٍّ إِنْ قُلْتَ لِعَكِّيٍّ يَا رَجُلُ لَمْ يَلْتَفِتْ، وَإِذَا قُلْتَ طه الْتَفَتَ إِلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طه قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما تَحْتَ الثَّرى قَالَ:
الثَّرَى كُلُّ شَيْءٍ مُبْتَلٍّ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا تَحْتَ هَذِهِ الْأَرْضِ؟ قَالَ: الْمَاءُ، قِيلَ: فَمَا تَحْتَ الْمَاءِ؟ قَالَ: ظُلَمَةٌ، قِيلَ: فَمَا تَحْتَ الظُّلْمَةِ؟ قَالَ: الْهَوَاءُ، قِيلَ: فَمَا تَحْتَ الْهَوَاءِ؟
قَالَ: الثَّرَى، قِيلَ: فَمَا تَحْتَ الثَّرَى؟ قَالَ: انْقَطَعَ عِلْمُ الْمَخْلُوقِينَ عِنْدَ عِلْمِ الْخَالِقِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ويَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى قَالَ: السِّرُّ مَا أَسَرَّهُ ابْنُ آدَمَ فِي نَفْسِهِ، وَأَخْفَى مَا خَفِيَ عَنِ ابْنِ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قَبْلَ أَنْ يعمله، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِيمَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ وَمَا بَقِيَ عِلْمٌ وَاحِدٌ، وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «1» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: السِّرُّ مَا عَلِمْتَهُ أَنْتَ، وَأَخْفَى مَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِكَ مِمَّا لَمْ تَعْلَمْهُ. وَأَخْرَجَهُ عبد الله ابن أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: يَعْلَمُ مَا تُسِرُّ فِي نَفْسِكَ وَيَعْلَمُ مَا تَعْمَلُ غَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ قَالَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَقِيلَ لَهُ اخْلَعْهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً قَالَ: الْمُبَارَكُ طُوىً قَالَ: اسْمُ الْوَادِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً يَعْنِي الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ بِوَادِيهَا لَيْلًا فَطَوَى، يُقَالُ: طَوَيْتُ وَادِي كَذَا وَكَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: طُوىً قَالَ: طَأِ الْوَادِيَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَقْرَؤُهَا لِلذِّكْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله:
__________
(1) . لقمان: 28.(3/426)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
أَكادُ أُخْفِيها قَالَ: لَا أُظْهِرُ عَلَيْهَا أَحَدًا غَيْرِي. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي.
[سورة طه (20) : الآيات 17 الى 35]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
قَوْلُهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ تِلْكَ اسْمٌ نَاقِصٌ وُصِلَتْ بِيَمِينِكَ، أَيْ:
مَا الَّتِي بِيَمِينِكَ؟ وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: تِلْكَ بِمَعْنَى هَذِهِ، وَلَوْ قَالَ مَا ذَلِكَ لَجَازَ، أَيْ: مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ؟
وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى سُؤَالِ مُوسَى عَمَّا فِي يَدِهِ مِنَ الْعَصَا التَّنْبِيهُ لَهُ عَلَيْهَا لِتَقَعَ الْمُعْجِزَةُ بِهَا بَعْدَ التَّثْبِيتِ فِيهَا وَالتَّأَمُّلِ لَهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَقْصُودُ السُّؤَالِ تَقْرِيرُ الْأَمْرِ حَتَّى يَقُولَ مُوسَى هِيَ عَصَايَ لِتَثْبِيتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا اعْتَرَفَ، وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمَ اللَّهُ مَا هِيَ فِي الْأَزَلِ، وَمَحَلُّ مَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَتِلْكَ خَبَرُهُ، وَبِيَمِينِكَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ اسْمَ إِشَارَةٍ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا مَوْصُولًا كَانَ بِيَمِينِكَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ قالَ هِيَ عَصايَ قَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَصَى عَلَى لُغَةِ هُذَيْلٍ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ عَصَايِ بِكَسْرِ الْيَاءِ لالتقاء الساكنين، أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أَيْ: أَتَحَامَلُ عَلَيْهَا فِي الْمَشْيِ، وَأَعْتَمِدُهَا عِنْدَ الْإِعْيَاءِ وَالْوُقُوفِ، وَمِنْهُ الِاتِّكَاءُ وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي هَشَّ بِالْعَصَا يَهُشُّ هَشًّا إِذَا خَبَطَ بِهَا الشَّجَرَ لِيُسْقِطَ مِنْهُ الْوَرَقَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَهُشُّ بِالْعَصَا عَلَى أَغْنَامِي ... مِنْ نَاعِمِ الأراك والبشام
وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: أَهُسُّ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ زَجْرُ الْغَنَمِ، وَكَذَا قَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أَيْ: حَوَائِجُ وَاحِدُهَا مَأْرَبَةٌ وَمَأْرُبَةٌ وَمَأْرِبَةٌ، مُثَلَّثُ الرَّاءِ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقُطْرُبٌ، ذَكَرَ تَفْصِيلَ مَنَافِعِ الْعَصَا، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالْإِجْمَالِ.
وَقَدْ تَعَرَّضَ قَوْمٌ لِتَعْدَادِ مَنَافِعِ الْعَصَا فَذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ: مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ: عَصَايَ أَرْكُزُهَا لِصَلَاتِي، وَأُعِدُّهَا لِعِدَّاتِي، وَأَسُوقُ بِهَا دَابَّتِي، وَأَقْوَى بِهَا عَلَى سَفَرِي، وَأَعْتَمِدُ بِهَا فِي مِشْيَتِي، لتتسع خطوتي، وَأَثِبُ بِهَا النَّهْرَ، وَتُؤَمِّنُنِي الْعَثْرَ، وَأُلْقِي عَلَيْهَا كسائي فتقيني الحرّ، وتدفئني مِنَ الْقَرِّ، وَتُدْنِي إِلَيَّ مَا بَعُدَ مِنِّي، وهي محمل سُفْرَتِي، وَعَلَاقَةَ إِدَاوَتِي، أَعْصِي بِهَا عِنْدَ الضِّرَابِ، وأقرع به الْأَبْوَابَ، وَأَقِي بِهَا عَقُورَ(3/427)
الْكِلَابِ، وَتَنُوبُ عَنِ الرُّمْحِ فِي الطِّعَانِ، وَعَنِ السَّيْفِ عِنْدَ مُنَازَلَةِ الْأَقْرَانِ، وَرِثْتُهَا عَنْ أَبِي، وَأُوَرِّثُهَا بَعْدِي بُنَيَّ، انْتَهَى.
وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى مُصَنَّفٍ فِي مُجَلَّدٍ لَطِيفٍ فِي مَنَافِعِ الْعَصَا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَذَكَرَ فِيهِ أَخْبَارًا وَأَشْعَارًا وَفَوَائِدَ لَطِيفَةً وَنُكَتًا رَشِيقَةً. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِمُوسَى فِي عَصَاهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْعِظَامِ وَالْآيَاتِ الْجِسَامِ مَا أُمِّنَ بِهِ مِنْ كَيْدِ السَّحَرَةِ وَمَعَرَّةِ الْمُعَانِدِينَ، وَاتَّخَذَهَا سُلَيْمَانُ لِخُطْبَتِهِ وَمَوْعِظَتِهِ وَطُولِ صَلَاتِهِ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ صَاحِبَ عَصَا النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَنَزَتِهِ «1» ، وَكَانَ يَخْطُبُ بِالْقَضِيبِ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عَادَةُ الْعَرَبِ الْعُرْبَاءِ أَخْذُ الْعَصَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْكَلَامِ، وَفِي الْمَحَافِلِ وَالْخُطَبِ، قالَ أَلْقِها يَا مُوسى هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِإِلْقَائِهَا لِيُرِيَهُ مَا جَعَلَ لَهُ فِيهَا مِنَ الْمُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ فَأَلْقاها مُوسَى عَلَى الْأَرْضِ فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى وَذَلِكَ بِقَلْبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَوْصَافِهَا وَأَعْرَاضِهَا حَتَّى صَارَتْ حَيَّةً تَسْعَى، أَيْ: تَمْشِي بِسُرْعَةٍ وَخِفَّةٍ، قِيلَ: كَانَتْ عَصًا ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ، فَصَارَ الشُّعْبَتَانِ فَمًا وَبَاقِيهَا جِسْمَ حَيَّةٍ، تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَتَلْتَقِمُ الْحِجَارَةَ مَعَ عِظَمِ جُرْمِهَا وَفَظَاعَةِ مَنْظَرِهَا، فَلَمَّا رَآهَا كَذَلِكَ خَافَ وَفَزِعَ وَوَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ سُبْحَانَهُ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ إِلَى سيرتها، مثل: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «2» قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِأَنَّ مَعْنًى سَنُعِيدُهَا: سَنُسَيِّرُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ: سَائِرَةً، أَوْ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: مُسَيَّرَةً. وَالْمَعْنَى: سَنُعِيدُهَا بَعْدَ أَخْذِكَ لَهَا إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى الَّتِي هِيَ الْعَصَوِيَّةُ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ لَا تَخَفْ بَلَغَ مِنْ عَدَمِ الْخَوْفِ إِلَى أَنْ كَانَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي فَمِهَا وَيَأْخُذُ بِلَحْيِهَا وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: جَنَاحُ الْإِنْسَانِ عَضُدُهُ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: جَنَاحُ الْإِنْسَانِ جَنْبُهُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْجَنْبِ بِالْجَنَاحِ لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْجَنَاحِ، وَقِيلَ: إِلَى بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: مَعَ جَنَاحِكِ، وَجَوَابُ الْأَمْرِ تَخْرُجْ بَيْضاءَ أَيْ: تَخْرُجُ يَدُكَ حَالَ كَوْنِهَا بَيْضَاءَ، وَمَحَلُّ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَائِنَةً مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وَالسُّوءُ الْعَيْبُ، كَنَّى بِهِ عَنِ الْبَرَصِ، أَيْ: تَخْرُجُ بَيْضَاءَ سَاطِعًا نُورُهَا تُضِيءُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَضَوْءِ الشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، وَانْتِصَابُ آيَةً أُخْرى عَلَى الْحَالِ أَيْضًا أَيْ: مُعْجِزَةً أُخْرَى غَيْرَ الْعَصَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ آيَةً مُنْتَصِبَةً عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ بَيْضَاءَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى آتَيْنَاكَ أَوْ نُؤْتِيكَ آيَةً أُخْرَى، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: تَخْرُجْ بَيْضاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ آتَاهُ آيَةً أُخْرَى، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى قِيلَ: والتقدير: فعلنا ذلك لنريك، و «من آيَاتِنَا» مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا، وَالْكُبْرَى: مَعْنَاهَا الْعُظْمَى، وَهُوَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِنُرِيَكَ من آياتنا الآية الْكُبْرَى، أَيْ: لِنُرِيَكَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ يَعْنِي الْيَدَ وَالْعَصَا بَعْضَ آيَاتِنَا الْكُبْرَى، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ هِيَ الْآيَةَ الْكُبْرَى وَحْدَهَا حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْعَصَا، فَيَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْيَدِ إِلَّا تَغَيُّرُ اللَّوْنِ فَقَطْ، بِخِلَافِ الْعَصَا فَإِنَّ فِيهَا مَعَ تَغَيُّرِ اللَّوْنِ الزِّيَادَةَ فِي الْحَجْمِ، وَخَلْقَ الْحَيَاةِ، وَالْقُدْرَةَ عَلَى الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ. ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بالغرض
__________
(1) . «العنزة» : مثل نصف الرمح أو أكبر قليلا، وفيها سنان مثل سنان الرمح.
(2) . الأعراف: 155.(3/428)
الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ قَوْمَهُ تَبَعٌ لَهُ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ طَغى أَيْ: عَصَى وَتَكَبَّرَ وَكَفَرَ وَتَجَبَّرَ وَتَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ؟ وَمَعْنَى شَرْحِ الصَّدْرِ تَوْسِيعُهُ، تَضَرَّعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى رَبِّهِ وَأَظْهَرَ عَجْزَهُ بِقَوْلِهِ: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي «1» ، وَمَعْنَى تَيْسِيرِ الْأَمْرِ تَسْهِيلُهُ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَعْنِي الْعُجْمَةَ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ مِنَ الْجَمْرَةِ الَّتِي أَلْقَاهَا فِي فِيهِ وَهُوَ طِفْلٌ، أَيْ: أَطْلِقْ عَنْ لِسَانِي الْعُقْدَةَ الَّتِي فِيهِ، قِيلَ: أَذْهَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْعُقْدَةَ جَمِيعَهَا بدليل قوله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى وَقِيلَ: لَمْ تَذْهَبْ كُلُّهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ حَلَّ عُقْدَةِ لِسَانِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ سَأَلَ حَلَّ عُقْدَةٍ تَمْنَعُ الْإِفْهَامَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مِنْ لِسانِي أَيْ: كَائِنَةً مِنْ عُقَدِ لِسَانِي، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قوله: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً «2» ، وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: وَلا يَكادُ يُبِينُ «3» ، وَجَوَابُ الْأَمْرِ قَوْلُهُ: يَفْقَهُوا قَوْلِي أَيْ: يَفْهَمُوا كَلَامِي، وَالْفِقْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْفَهْمُ، ثُمَّ خُصَّ بِهِ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ، وَالْعَالِمُ بِهِ فَقِيهٌ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي- هارُونَ أَخِي الوزير: المؤازر كالأكيل المؤاكل لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَنِ السُّلْطَانِ وِزْرَهُ، أَيْ:
ثِقَلَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَاشْتِقَاقُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْوَزَرِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يَعْتَصِمُ بِهِ لِيَنْجَى مِنَ الْهَلَكَةِ، وَالْوَزِيرُ:
الَّذِي يَعْتَمِدُ الْمَلِكُ عَلَى رَأْيِهِ فِي الْأُمُورِ وَيَلْتَجِئُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ مشتق من المؤازرة، وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ، وَانْتِصَابُ وَزِيرًا وَهَارُونَ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَا اجْعَلْ، وَقِيلَ: مَفْعُولَاهُ: لِي وَزِيرًا، وَيَكُونُ هَارُونَ عَطْفَ بَيَانٍ لِلْوَزِيرِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيَكُونُ لِي مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنًا لِي، وَمِنْ أَهْلِي صِفَةٌ لِوَزِيرًا، وَأَخِي بَدَلٌ مِنْ هَارُونَ. قرأ الجمهور اشْدُدْ بهمزة وصل، وأَشْرِكْهُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ كِلَاهُمَا عَلَى صِيغَةِ الدُّعَاءِ، أَيْ: يَا رَبِّ أَحْكِمْ بِهِ قُوَّتِي وَاجْعَلْهُ شَرِيكِي فِي أَمْرِ الرِّسَالَةِ، وَالْأَزْرُ: الْقُوَّةُ، يُقَالُ: آزَرَهُ أَيْ: قَوَّاهُ وَقِيلَ: الظَّهْرُ، أَيِ: اشْدُدْ بِهِ ظَهْرِي. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ اشْدُدْ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَأَشْرِكْهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَيْ أَشْدُدْ أَنَا بِهِ أَزْرِي، وَأُشْرِكْهُ أَنَا فِي أَمْرِي. قَالَ النَّحَّاسُ: جَعَلُوا الْفِعْلَيْنِ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ جَوَابًا لِقَوْلِهِ «اجْعَلْ لِي وَزِيراً» ، وَقَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ أَخِي ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً هَذَا التَّسْبِيحُ وَالذِّكْرُ هَمَّا الْغَايَةُ مِنَ الدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْمُرَادُ: التَّسْبِيحُ هُنَا بِاللِّسَانِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةَ، وَانْتِصَابُ كَثِيرًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً الْبَصِيرُ: الْمُبْصِرُ، وَالْبَصِيرُ: الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ: إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا عَالِمًا فِي صِغَرِنَا فَأَحْسَنْتَ إِلَيْنَا، فَأَحْسِنْ إِلَيْنَا أَيْضًا كَذَلِكَ الْآنَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَصَا مُوسَى قَالَ: أَعْطَاهُ إِيَّاهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِذْ تَوَجَّهَ إِلَى مَدْيَنَ فَكَانَتْ تُضِيءُ لَهُ بِاللَّيْلِ، وَيَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ فَتُخْرِجُ لَهُ النَّبَاتَ، وَيَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِهِ وَرَقُ الشَّجَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي قَالَ: أَضْرِبُ بِهَا الشَّجَرَ فَيَتَسَاقَطُ مِنْهُ الْوَرَقُ عَلَى غَنَمِي، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وأخرج ابن المنذر وابن
__________
(1) . الشعراء: 13.
(2) . القصص: 34.
(3) . الزخرف: 52.(3/429)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ قَالَ: حَوَائِجُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ تُضِيءُ لَهُ بِاللَّيْلِ، وَكَانَتْ عَصَا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قَالَ: وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَيَّةً فَمَرَّتْ بِشَجَرَةٍ فَأَكَلَتْهَا، وَمَرَّتْ بِصَخْرَةٍ فَابْتَلَعَتْهَا، فَجَعَلَ مُوسَى يَسْمَعُ وَقْعَ الصَّخْرَةِ فِي جَوْفِهَا فَوَلَّى مُدْبِرًا فَنُودِيَ أَنْ يَا مُوسَى خُذْهَا، فَلَمْ يَأْخُذْهَا، ثُمَّ نُودِيَ الثَّانِيَةَ أَنْ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ، فَقِيلَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ فَأَخَذَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قَالَ: حَالَتَهَا الْأُولَى. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَيْضًا: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي- هارُونَ أَخِي قَالَ: كَانَ أَكْبَرُ مِنْ مُوسَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي قَالَ: نبىء هارون ساعتئذ حين نبيء موسى.
[سورة طه (20) : الآيات 36 الى 44]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى (40)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)
لَمَّا سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح صَدْرَهُ، وَيُيَسِّرَ لَهُ أَمْرَهُ، وَيَحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ، وَيَجْعَلْ لَهُ وَزِيرًا مِنْ أَهْلِهِ، أَخْبَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَجَابَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ، فَقَالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى أَيْ:
أعطيت ما سألته، والسؤل: الْمَسْؤُولُ، أَيِ: الْمَطْلُوبُ كَقَوْلِكَ: خَبَرٌ بِمَعْنَى مَخْبُورٍ، وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ يَا مُوسَى لِتَشْرِيفِهِ بِالْخِطَابِ مَعَ رِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِتَقْوِيَةِ قَلْبِ مُوسَى بِتَذْكِيرِهِ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالْمَنُّ: الْإِحْسَانُ وَالْإِفْضَالُ. وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ أَحْسَنَّا إِلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَهِيَ حَفِظُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ مِنْ شرّ الأعداء كما بينه سبحانه ها هنا، وَأُخْرَى تَأْنِيثُ آخَرَ بِمَعْنَى غَيْرَ إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى أَيْ: مَنَنَّا ذَلِكَ الوقت، وهو وقت الإيحاء فإذ ظَرْفٌ لِلْإِيحَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيحَاءِ إِلَيْهَا إِمَّا مُجَرَّدُ الْإِلْهَامِ لَهَا أَوْ فِي النَّوْمِ بِأَنْ أَرَاهَا ذَلِكَ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ أَوْ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ، لَا عَلَى طَرِيقِ النُّبُوَّةِ كَالْوَحْيِ إِلَى مَرْيَمَ أَوْ بِإِخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِذَلِكَ وانتهى الخبر إليها، والمراد بما يُوحَى مَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَمْرِ لَهَا، أَبْهَمَهُ أَوَّلًا وَفَسَّرَهُ ثَانِيًا تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، وَجُمْلَةُ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ مُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ الْوَحْيَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ بِأَنِ اقْذِفِيهِ، وَالْقَذْفُ هَاهُنَا الطَّرْحُ، أَيِ: اطْرَحِيهِ فِي التَّابُوتِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ التَّابُوتِ فِي الْبَقَرَةِ فِي قِصَّةِ طَالُوتَ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ أَيِ: اطْرَحِيهِ فِي الْبَحْرِ، وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ أَوِ النَّهْرُ الْكَبِيرُ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا أَمْرٌ وَفِيهِ الْمُجَازَاةُ، أَيِ: اقْذِفِيهِ يُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، وَالْأَمْرُ لِلْبَحْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ(3/430)
يَفْهَمُ وَيُمَيِّزُ، لَمَّا كَانَ إِلْقَاؤُهُ إِيَّاهُ بِالسَّاحِلِ أَمْرًا وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالسَّاحِلُ: هُوَ شَطُّ الْبَحْرِ، سُمِّيَ سَاحِلًا لِأَنَّ الْمَاءَ سَحَلَهُ قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَلِي السَّاحِلَ مِنِ الْبَحْرِ لَا نَفْسُ السَّاحِلِ، وَالضَّمَائِرُ هَذِهِ كُلُّهَا لِمُوسَى لَا لِلتَّابُوتِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُلْقِيَ مَعَهُ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ مُوسَى مَعَ كَوْنِ الضَّمَائِرِ قَبْلَ هَذَا وَبَعْدَهُ لَهُ، وَجُمْلَةُ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ جَوَابُ الْأَمْرِ بِالْإِلْقَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَدُوِّ فِرْعَوْنُ، فَإِنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ النِّيلُ الْمَعْرُوفُ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ نَهْرٌ إِلَى دَارِ فِرْعَوْنَ فَسَاقَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ النَّهْرِ إِلَى دَارِهِ، فَأَخَذَ التَّابُوتَ فَوَجَدَ مُوسَى فِيهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَحْرَ أَلْقَاهُ بِالسَّاحِلِ، فَنَظَرَهُ فِرْعَوْنُ فَأَمَرَ مَنْ يَأْخُذُهُ وَقِيلَ: وَجَدَتْهُ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أَيْ: أَلْقَى اللَّهُ عَلَى مُوسَى مَحَبَّةً كَائِنَةً مِنْهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحبَّهُ وَقِيلَ: جَعَلَ عَلَيْهِ مَسْحَةً مِنْ جَمَالٍ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَحَبَّهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمَعْنَى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ رَحْمَتِي، وَقِيلَ: كَلِمَةُ مِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَلْقَيْتُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَلْقَيْتُ مِنِّي عَلَيْكَ مَحَبَّةً، أَيْ: أَحْبَبْتُكَ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ أَحَبَّهُ النَّاسُ وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أَيْ: وَلِتُرَبَّى وَتُغَذَّى بِمَرْأًى مِنِّي، يُقَالُ: صَنَعَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ إِذَا رَبَّاهَا، وَصَنَعَ فَرَسَهُ إِذَا دَاوَمَ عَلَى عَلْفِهِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرُ عَلى عَيْنِي بِمَرْأًى مِنِّي صَحِيحٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ فِي هَذَا تَخْصِيصٌ لِمُوسَى، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ بِمَرْأًى مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ الْمَعْنَى لِتُغَذَّى عَلَى مَحَبَّتِي وَإِرَادَتِي، تَقُولُ:
أَتَّخِذُ الْأَشْيَاءَ عَلَى عَيْنِي، أَيْ: عَلَى مَحَبَّتِي. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْعَيْنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُقْصَدُ بِهَا قَصْدُ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: غَدَا فُلَانٌ عَلَى عَيْنِي، أَيْ: عَلَى الْمَحَبَّةِ مِنِّي. قِيلَ: وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلْتُ ذَلِكَ لِتُصْنَعَ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِأَلْقَيْتُ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهُ، أَيْ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي قَدَّرْنَا مَشْيَ أُخْتِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ وَلِتُصْنَعَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْأَمْرِ، وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ بِفَتْحِ التَّاءِ. وَالْمَعْنَى:
وَلِتَكُونَ حَرَكَتُكَ وَتَصَرُّفُكَ بِمَشِيئَتِي، وَعَلَى عَيْنٍ مِنِّي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ظَرْفٌ لَأَلْقَيْتُ، أَوْ لِتُصْنَعَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ «إِذْ أَوْحَيْنَا» وَأُخْتُهُ اسْمُهَا مَرْيَمُ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ وَذَلِكَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مُتَعَرِّفَةً لِخَبَرِهِ فَوَجَدَتْ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتَهُ آسِيَةَ يَطْلُبَانِ لَهُ مُرْضِعَةً، فَقَالَتْ لَهُمَا هَذَا الْقَوْلَ، أَيْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَضُمُّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَيُرَبِّيهِ، فَقَالَا لَهَا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَتْ: أُمِّي، فَقَالَا: هَلْ لَهَا لَبَنٌ؟ قَالَتْ:
نَعَمْ، لَبَنُ أَخِي هَارُونَ، وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى بِسَنَةٍ، وَقِيلَ: بِأَكْثَرَ، فَجَاءَتِ الْأُمُّ فَقَبِلَ ثَدْيَهَا، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ ثَدْيَ مُرْضِعَةٍ غَيْرِهَا، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «فَرَدَدْنَاكَ» ، وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْهُ كَيْ تَقِرَّ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَرَرْتُ بِهِ عَيْنًا قُرَّةً وَقُرُورًا، وَرَجُلٌ قَرِيرُ الْعَيْنِ، وَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُهُ تَقَرُّ وَتَقِرُّ، نَقِيضُ سَخِنَتْ، وَالْمُرَادُ بِقُرَّةِ الْعَيْنِ: السُّرُورُ بِرُجُوعِ وَلَدِهَا إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ طَرَحْتُهُ فِي الْبَحْرِ وَعَظُمَ عَلَيْهَا فِرَاقُهُ وَلا تَحْزَنَ أَيْ: لَا يَحْصُلُ لَهَا مَا يُكَدِّرُ ذَلِكَ السُّرُورَ مِنَ الْحُزْنِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلَوْ أَرَادَ الْحُزْنَ بِالسَّبَبِ الَّذِي قَرَّتْ عَيْنُهَا بِزَوَالِهِ لَقَدَّمَ نَفْيَ الْحُزْنِ عَلَى قُرَّةِ الْعَيْنِ، فَيُحْمَلُ هَذَا النَّفْيُ لِلْحُزْنِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِسَبَبٍ يَطْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَاوَ لَمَّا كَانَتْ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ كَانَ هَذَا الْحَمْلُ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا(3/431)
تَحْزَنْ أَنْتَ يَا مُوسَى بِفَقْدِ إِشْفَاقِهَا، وَهُوَ تَعَسُّفٌ وَقَتَلْتَ نَفْساً الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ هُنَا: نَفْسُ الْقِبْطِيِّ الَّذِي وَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ، وَكَانَ قتله له خَطَأً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أَيِ: الْغَمِّ الْحَاصِلِ مَعَكَ مِنْ قَتْلِهِ خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ أَوِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوْ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَقِيلَ: الْغَمُّ هُوَ الْقَتْلُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَمَا أَبْعَدَ هَذَا! وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً الْفِتْنَةُ تَكُونُ بِمَعْنَى الْمِحْنَةِ، وَبِمَعْنَى الْأَمْرِ الشَّاقِّ، وَكُلِّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ، وَالْفُتُونُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالثُّبُورِ وَالشُّكُورِ وَالْكُفُورِ، أَيِ: ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً، وَاخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ فِتْنَةٍ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِدَادِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ كَحُجُورٍ فِي حُجْرَةٍ، وَبُدُورٍ فِي بُدْرَةٍ، أَيْ: خَلَّصْنَاكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ مِنَ الْمِحَنِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا قَبْلَ أَنْ يَصْطَفِيَهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ، وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ تَنْجِيَتِهِ مِنَ الْغَمِّ الْحَاصِلِ لَهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَتَنْجِيَتِهِ مِنِ الْمِحَنِ هُوَ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِ بِصُنْعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ، وَتَقْوِيَةِ قَلْبِهِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ مَا سَيَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا، فَخَرَجْتَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ فَلَبِثْتَ سِنِينَ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ، وَكَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَحْذِفُونَ كَثِيرًا مِنَ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى مَعْرُوفًا، وَمَدْيَنُ: هِيَ بَلَدُ شُعَيْبٍ، وَكَانَتْ عَلَى ثَمَانِي مَرَاحِلَ مِنْ مِصْرَ هَرَبَ إِلَيْهَا مُوسَى فَأَقَامَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ، وَهِيَ أَتَمُّ الْأَجَلَيْنِ وَقِيلَ: أَقَامَ عِنْدَ شُعَيْبٍ ثَمَانَ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا عَشْرٌ مَهْرُ امْرَأَتِهِ ابْنَةِ شُعَيْبٍ، وَمِنْهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً بَقِيَ فيها عنده حتى ولد له، والفاء في «فَلَبِثْتَ» تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِحَنِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ مَا كَانَ قَبْلَ لُبْثِهِ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى أَيْ: فِي وَقْتٍ سَبَقَ فِي قَضَائِي وَقَدَرِي أَنْ أُكَلِّمَكَ وَأَجْعَلَكَ نَبِيًّا، أَوْ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَانِ يُوحَى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ رَأْسُ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ، أَوْ عَلَى مَوْعِدٍ قَدْ عَرَفْتَهُ بِإِخْبَارِ شُعَيْبٍ لَكَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
نَالَ الْخِلَافَةَ إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرٍ
وَكَلِمَةُ ثُمَّ الْمُفِيدَةُ لِلتَّرَاخِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَجِيئَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ ضَلَالِ الطَّرِيقِ وَتَفَرُّقِ غَنَمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي الِاصْطِنَاعُ: اتِّخَاذُ الصَّنْعَةِ، وَهِيَ الْخَيْرُ تُسْدِيهِ إِلَى إِنْسَانٍ، وَالْمَعْنَى: اصْطَنَعْتُكَ لِوَحْيِي وَرِسَالَتِي لِتَتَصَرَّفَ عَلَى إِرَادَتِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ اخْتَرْتُكَ لِإِقَامَةِ حُجَّتِي، وَجَعَلْتُكَ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي، وَصِرْتَ بِالتَّبْلِيغِ عَنِّي بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَكُونُ أَنَا بِهَا لَوْ خَاطَبْتُهُمْ وَاحْتَجَجْتُ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِمَا خَوَّلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ الْعُظْمَى بِتَقْرِيبِ الْمَلِكِ لِبَعْضِ خَوَاصِّهِ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ أَيْ: وَلْيَذْهَبْ أَخُوكَ، وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاصْطِنَاعِ. وَمَعْنَى بِآياتِي بِمُعْجِزَاتِي الَّتِي جَعَلْتُهَا لَكَ آيَةً، وَهِيَ التِّسْعُ الْآيَاتِ وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي أَيْ: لَا تَضْعُفَا وَلَا تَفْتُرَا، يُقَالُ: وَنَى يَنِي وَنْيًا إِذَا ضَعُفَ. قَالَ الشَّاعِرُ «1» :
فَمَا وَنِيَ مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرَ ... لَهُ الإله ما مضى وما غبر
__________
(1) . هو العجاج.(3/432)
وقال امرؤ القيس:
مسحّ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الْوَنَى ... أَثَرْنَ غُبَارًا بالكديد المركّل «1»
قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي ذِكْرِي وَعَنْ ذِكِرِي سَوَاءٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تُقَصِّرَا عَنْ ذِكْرِي بِالْإِحْسَانِ إِلَيْكُمَا، وَالْإِنْعَامِ عَلَيْكُمَا وَذِكْرُ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى «لَا تَنِيَا» لَا تُبْطِئَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «لَا تَهِنَا فِي ذِكْرِي» اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى هَذَا أَمْرٌ لَهُمَا جَمِيعًا بِالذِّهَابِ، وَمُوسَى حَاضِرٌ وَهَارُونُ غَائِبٌ تَغْلِيبًا لِمُوسَى لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي أَدَاءِ الرسالة، وعلّل الأمر بالذهاب بقوله: إِنَّهُ طَغى أَيْ: جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ وَالتَّمَرُّدِ، وَخَصَّ مُوسَى وَحْدَهُ بِالْأَمْرِ بِالذَّهَابِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَجَمَعَهُمَا هُنَا تَشْرِيفًا لِمُوسَى بِإِفْرَادِهِ، وَتَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ بِالذِّهَابِ بِالتَّكْرِيرِ. وَقِيلَ: إِنَّ فِي هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي ذِهَابُ أَحَدِهِمَا. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ:
أَمْرٌ لِمُوسَى بِالذِّهَابِ إِلَى كُلِّ النَّاسِ، وَالثَّانِي: أَمْرٌ لَهُمَا بِالذِّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ. ثُمَّ أَمَرَهُمَا سُبْحَانَهُ بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ لَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْإِجَابَةِ، فَإِنَّ التَّخْشِينَ بَادِئَ بَدْءٍ يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ النُّفُورِ وَالتَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ، وَالْقَوْلُ اللَّيِّنُ: هُوَ الَّذِي لَا خُشُونَةَ فِيهِ، يُقَالُ: لِأَنَّ الشَّيْءَ يَلِينُ لِينًا، وَالْمُرَادُ تَرْكُهُمَا لِلتَّعْنِيفِ، كَقَوْلِهِمَا: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى «2» ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ هُوَ الْكُنْيَةُ لَهُ، وَقِيلَ: أَنْ يَعِدَاهُ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا إِنْ أَجَابَ، ثُمَّ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ لَهُ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أَيْ: بَاشَرَا ذَلِكَ مُبَاشَرَةَ مَنْ يَرْجُو وَيَطْمَعُ، فَالرَّجَاءُ رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ: سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: «لَعَلَّ» لَفْظَةُ طَمَعٍ وَتَرَجٍّ، فَخَاطَبَهُمْ بِمَا يَعْقِلُونَ. وقيل: لعلّ ها هنا بمعنى الاستفهام. والمعنى:
فانظرا هَلْ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، وَقِيلَ: بِمَعْنَى كَيْ. والتذكير: النَّظَرُ فِيمَا بَلَّغَاهُ مِنَ الذَّكَرِ وَإِمْعَانُ الْفِكْرِ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي الْإِجَابَةِ، وَالْخَشْيَةُ هِيَ خَشْيَةُ عِقَابِ اللَّهِ الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى لِسَانِهِمَا، وَكَلِمَةُ «أَوْ» لِمَنْعِ الْخُلُوِّ دُونَ الْجَمْعِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ قَالَ: هُوَ النِّيلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي قَالَ: كَانَ كُلُّ مَنْ رَآهُ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ مَحَبَّتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: حَبَّبْتُكَ إِلَى عِبَادِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي قَالَ: تُرَبَّى بِعَيْنِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: لِتُغَذَّى عَلَى عَيْنِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ: أَنْتَ بِعَيْنِي إِذْ جَعَلَتْكَ أُمُّكَ فِي التَّابُوتِ، ثُمَّ فِي الْبَحْرِ، وَإِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنما قتل موسى الذي
__________
(1) . «مسح» : سحّ: انصبّ. «السابحات» : التي تبسط يديها إذا عدت. «الونى» : الفتور. «الكديد» : ما غلظ من الأرض. «المركل» : الذي ركلته الخيل بحوافرها. [.....]
(2) . النازعات: 18.(3/433)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأً، يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ قَالَ: مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً قَالَ: أَخْلَصْنَاكَ إِخْلَاصًا» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً قَالَ: ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: اخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَثَرًا طَوِيلًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَمَنْ أَحَبَّ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنِ النَّسَائِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قال: لميقات. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ عَلى قَدَرٍ قَالَ: مَوْعِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ وَلا تَنِيا قَالَ: لَا تُبْطِئَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: قَوْلًا لَيِّناً قَالَ: كَنَّهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَنَّيَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قال: هل يتذكر.
[سورة طه (20) : الآيات 45 الى 59]
قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى (49)
قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54)
مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَفْرُطَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَعْجَلَ وَيُبَادِرَ بِعُقُوبَتِنَا، يُقَالُ: فَرَطَ مِنْهُ أَمْرٌ، أَيْ: بَدَرَ، وَمِنْهُ الْفَارِطُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْقَوْمَ إِلَى الْمَاءِ، أَيْ: يُعَذِّبُنَا عَذَابَ الْفَارِطِ فِي الذَّنْبِ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ، كَذَا قَالَ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ أَيْضًا: فَرَطَ مِنْهُ أَمْرٌ وَأَفْرَطَ: أَسْرَفَ، وَفَرَّطَ: تَرَكَ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ يَفْرُطَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، أَيْ: يَحْمِلُهُ حَامِلٌ عَلَى التَّسَرُّعِ إِلَيْنَا، وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ مِنَ الْإِفْرَاطِ، أَيْ: يَشْتَطُّ فِي أَذِيَّتِنَا. قَالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ أَفْرَطَ الْعِلْجُ عَلَيْنَا وَعَجَّلَ وَمَعْنَى أَوْ أَنْ يَطْغى قَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَجُمْلَةُ قالَ لَا تَخافا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، نَهْيٌ لَهُمَا عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي حَصَلَ مَعَهُمَا مِنْ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي مَعَكُما أَيْ: بِالنَّصْرِ(3/434)
لَهُمَا، وَالْمَعُونَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَمَعْنَى أَسْمَعُ وَأَرى إِدْرَاكُ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْهُ خَافِيَةٌ، وَلَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْهُمَا، ثُمَّ أَمَرَهُمَا بِإِتْيَانِهِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ بَعْدَ أَمْرِهِمَا بِالذِّهَابِ إِلَيْهِ، فَلَا تَكْرَارَ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ: خَلِّ عَنْهُمْ وَأَطْلِقْهُمْ مِنَ الْأَسْرِ وَلا تُعَذِّبْهُمْ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانُوا عِنْدَ فِرْعَوْنَ فِي عَذَابٍ شَدِيدٍ: يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ، وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، وَيُكَلِّفُهُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ. ثُمَّ أَمَرَهُمَا سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَا لِفِرْعَوْنَ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ قِيلَ: هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، وَقِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُمَا: وَمَا هِيَ؟ فَأَدْخَلَ مُوسَى يَدَهُ فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَهَا شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ، فَعَجِبَ فِرْعَوْنُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُرِهِ مُوسَى الْعَصَا إِلَّا يَوْمَ الزِّينَةِ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أَيِ: السَّلَامَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى سَلِمَ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ عَزَّ وجلّ ومن عَذَابِهِ، وَلَيْسَ بِتَحِيَّةٍ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِابْتِدَاءِ لِقَاءٍ وَلَا خِطَابٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَلِمَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى سَوَاءٌ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ: الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ فِي الدُّنْيَا وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّكْذِيبِ:
التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَبِرُسُلِهِ، وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ عَنْ قبولها والإيمان بها قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى أَيْ:
قَالَ فِرْعَوْنُ لَهُمَا: فَمَنْ رَبُّكُمَا؟ فَأَضَافَ الرَّبَّ إِلَيْهِمَا وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى نَفْسِهِ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِ لَهُمَا وَلِجَحْدِهِ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَخَصَّ مُوسَى بِالنِّدَاءِ لكونه الأصل في الرسالة، وقيل: لمطابقة رؤوس الْآيِ قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أي: قال موسى مجيبا له، و «ربنا» مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «رَبُّنَا» خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا بَعْدَهُ صِفَتَهُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ خَلْقَهُ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَرَوَى زَائِدَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ «خَلَقَهُ» بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرَوَاهَا نُصَيْرٌ عَنِ الْكِسَائِيِّ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ خَلْقَهُ ثَانِيَ مَفْعُولَيْ أَعْطَى. وَالْمَعْنَى: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ وَشَكْلَهُ الَّذِي يُطَابِقُ الْمَنْفَعَةَ الْمَنُوطَةَ بِهِ الْمُطَابِقَةَ لَهُ كَالْيَدِ لِلْبَطْشِ، وَالرِّجْلِ لِلْمَشْيِ، وَاللِّسَانِ لِلنُّطْقِ، وَالْعَيْنِ لِلنَّظَرِ، وَالْأُذُنِ لِلسَّمْعِ، كَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صَلَاحَهُ وَهَدَاهُ لِمَا يُصْلِحُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فِي خَلْقِ الْبَهَائِمِ، وَلَا خَلَقَ الْبَهَائِمَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ... وَكَذَاكَ اللَّهُ مَا شَاءَ فَعَلَ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى: خَلَقَ لِلرَّجُلِ الْمَرْأَةَ، وَلِكُلِّ ذَكَرٍ مَا يُوَافِقُهُ مِنِ الْإِنَاثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلْقَهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى هُوَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لَأَعْطَى، أَيْ: أَعْطَى خَلْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَيَرْتَفِقُونَ بِهِ، وَمَعْنَى ثُمَّ هَدى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَدَاهُمْ إِلَى طُرُقِ الِانْتِفَاعِ بِمَا أَعْطَاهُمْ فَانْتَفَعُوا بِكُلِّ شَيْءٍ فِيمَا خُلِقَ لَهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ صِفَةً لِلْمُضَافِ أَوْ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَمْ يُخْلِهِ مِنْ عَطَائِهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا: أَيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَيُوَافِقُ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى.(3/435)
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى لَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ مَا احْتَجَّ بِهِ مُوسَى فِي ضِمْنِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى مِنْ أَنَّ الْخَلْقَ وَالْهِدَايَةَ ثَابِتَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ خَالِقٍ وَهَادٍ، وَذَلِكَ الْخَالِقُ وَالْهَادِي هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ. قَالَ فِرْعَوْنُ: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأَوْلَى؟ فَإِنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِالرَّبِّ الَّذِي تَدْعُو إليه يا موسى، بل عبدت الأوثان ونحوها مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَعْنَى الْبَالِ: الْحَالُ وَالشَّأْنُ، أَيْ: مَا حَالُهُمْ؟ وَمَا شَأْنُهُمْ؟ وَقِيلَ:
إِنَّ سُؤَالَ فِرْعَوْنَ عَنِ الْقُرُونِ الْأُولَى مُغَالَطَةٌ لِمُوسَى لَمَّا خَافَ أَنْ يُظْهِرَ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ قَدْ قَهَرَهُ بِالْحُجَّةِ، أَيْ: مَا حَالُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ؟ وَمَاذَا جرى عليهم من الحوادث؟ فأجابه موسى، ف قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أَيْ: إِنَّ هَذَا الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا أَنَا. وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَعْنَى عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أَنَّ عِلْمَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَنَحْوَهَا مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ سَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا فِي كِتَابٍ أَنَّهَا مُثْبَتَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مَحْفُوظَةٌ عِنْدَ اللَّهِ يُجَازِي بِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: عِلْمُ أَعْمَالِهِا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ. وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ «فِي كِتابٍ» ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. قَالَ: وَمَعْنَى لَا يَضِلُّ لَا يهلك، من قوله: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «1» ، وَلا يَنْسى شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَقَدْ نَزَّهَهُ عَنِ الْهَلَاكِ وَالنِّسْيَانِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى لَا يَضِلُّ لَا يُخْطِئُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَغِيبُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَصْلُ الضَّلَالِ الْغَيْبُوبَةُ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى كِتَابٍ، وَلَا يَضِلُّ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَنْسَى مَا عَلِمَهُ مِنْهَا، حُكِيَ هَذَا عَنِ الزَّجَّاجِ أَيْضًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ أَشْبَهُهَا بِالْمَعْنَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ كَقَوْلِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ هَاتَيْنِ الجملتين صفة لكتاب، والمعنى: أن الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو نَاسٍ لَهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِرَبِّي مُتَضَمِّنَةٌ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خبر مبتدأ محذوف، أو في محل نصب عَلَى الْمَدْحِ. قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ مَهْداً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: مَهَّدَهَا مَهْدًا، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذَاتِ مَهْدٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُمَهَّدُ كَالْفِرَاشِ لِمَا يُفْرَشُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِهَادًا وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قالا: لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْجَمْعُ أَوْلَى مِنَ الْمَصْدَرِ لِأَنَّ هذا الموضوع لَيْسَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ إِلَّا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِهَادًا مُفْرَدًا كَالْفِرَاشِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَمَعْنَى الْمِهَادِ: الْفِرَاشُ، فَالْمِهَادُ: جَمْعُ الْمَهْدِ، أَيْ: جَعَلَ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنْهَا مَهْدًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا السَّلْكُ: إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: أَدْخَلَ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِكُمْ طُرُقًا تَسْلُكُونَهَا وَسَهَّلَهَا لَكُمْ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً هُوَ مَاءُ الْمَطَرِ، قِيلَ: إِلَى هُنَا انْتَهَى كَلَامُ مُوسَى، وَمَا بَعْدَهُ هُوَ فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ:
هُوَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْ مُوسَى، مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْزَلَ، وَإِنَّمَا الْتَفَتَ إِلَى التَّكَلُّمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ظُهُورِ ما فيه من
__________
(1) . السجدة: 10.(3/436)
الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ. وَنُوقِشَ بِأَنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ مَعَ اسْتِلْزَامِهِ فَوْتَ الِالْتِفَاتِ لِعَدَمِ اتِّحَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَحْكِيٌّ عَنْ وَاحِدٍ هُوَ مُوسَى، وَالْحَاكِي لِلْجَمِيعِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَالْمَعْنَى: فَأَخْرَجْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ بِسَبَبِ الْحَرْثِ وَالْمُعَالَجَةِ أَزْوَاجًا، أَيْ: ضُرُوبًا وَأَشْبَاهًا مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَقَوْلُهُ: «مِنْ نَبَاتٍ» صِفَةٌ لِأَزْوَاجًا، أَوْ بَيَانٌ لَهُ، وَكَذَا «شَتَّى» صِفَةٌ أُخْرَى لَهُ، أَيْ: مُتَفَرِّقَةٌ، جَمْعُ شَتِيتٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ أَزْوَاجًا شَتَّى مِنْ نَبَاتٍ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ النَّبَاتُ شَتَّى، فَيَجُوزُ أَنْ يكون «شتى» نعتا لأزوجا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلنَّبَاتِ، يُقَالُ: أَمْرٌ شَتٌّ، أَيْ: مُتَفَرِّقٌ، وَشَتَّ الْأَمْرُ شَتًّا وَشَتَاتًا تَفَرَّقَ، وَاشْتَتَّ مِثْلُهُ، وَالشَّتِيتُ: الْمُتَفَرِّقُ. قَالَ رُؤْبَةُ:
جَاءَتْ مَعًا وَأَطْرَقَتْ شَتِيتًا «1»
............... ...
وَجُمْلَةُ كُلُوا وَارْعَوْا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: قَائِلِينَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ، يُقَالُ: رَعَتِ الْمَاشِيَةُ الْكَلَأَ وَرَعَاهَا صَاحِبُهَا رِعَايَةً، أَيْ: أَسَامَهَا وَسَرَّحَهَا، يَجِيءُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَالنُّهَى: الْعُقُولُ، جَمْعُ نُهْيَةٍ، وَخَصَّ ذَوِي النُّهَى لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّفْسَ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُوسَى احْتِجَاجٌ عَلَى فِرْعَوْنَ فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ جَوَابًا لقوله: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها خَلَقْناكُمْ وَمَا بَعْدَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ سَابِقًا. قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي أَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ وَأَوْلَادُهُ مِنْهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ نُطْفَةٍ مَخْلُوقَةٍ مِنَ التُّرَابِ فِي ضِمْنِ خَلْقِ آدَمَ لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ لَهُ حَظٌّ مِنْ خَلْقِهِ وَفِيها أَيْ: فِي الْأَرْضِ نُعِيدُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتُدْفَنُونَ فِيهَا وَتَتَفَرَّقُ أَجَزَاؤُكُمْ حَتَّى تَصِيرَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَجَاءَ بِفِي دُونَ إِلَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَمِنْها أَيْ: مِنَ الْأَرْضِ نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى أَيْ: بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَتَأْلِيفِ الْأَجْسَامِ وَرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَيْهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَالتَّارَةُ كَالْمَرَّةِ وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها أَيْ: أَرَيْنَا فِرْعَوْنَ وَعَرَّفْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ هِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلْعَهْدِ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ جَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى، وَالَّتِي جَاءَ بِهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ مُوسَى قَدْ كَانَ عَرَّفَهُ جَمِيعَ مُعْجِزَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ حُجَجُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الدَّالَّةُ عَلَى تَوْحِيدِهِ فَكَذَّبَ وَأَبى أَيْ: كَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى، وَأَبَى عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَ فِرْعَوْنُ كُفْرُ عِنَادٍ لِأَنَّهُ رَأَى الْآيَاتِ وَكَذَّبَ بِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. وَجُمْلَةُ قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ فِرْعَوْنُ بَعْدَ هَذَا؟ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ، أَيْ: جِئْتَ يَا مُوسَى لِتُوهِمَ النَّاسَ بِأَنَّكَ نبيّ يجب
__________
(1) . وتمامه: وهي تثير السّاطع السّخّيتا.
«السخيت» : دقاق التراب.(3/437)
عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُكَ، وَالْإِيمَانُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، حَتَّى تَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ الْإِيهَامُ الَّذِي هُوَ شُعْبَةٌ مِنَ السِّحْرِ إِلَى أَنْ تَغْلِبَ عَلَى أَرْضِنَا وَتُخْرِجَنَا مِنْهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَلْعُونُ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْأَرْضِ لِتَنْفِيرِ قَوْمِهِ عَنْ إِجَابَةِ مُوسَى، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِي أَذْهَانِهِمْ وَتَقَرَّرَ فِي أَفْهَامِهِمْ أَنَّ عَاقِبَةَ إِجَابَتِهِمْ لِمُوسَى الْخُرُوجُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ كَانُوا غَيْرَ قَابِلَيْنِ لِكَلَامِهِ، وَلَا نَاظِرِينَ فِي مُعْجِزَاتِهِ، وَلَا مُلْتَفِتِينَ إِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَاللَّامُ هِيَ الْمُوطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: وَاللَّهِ لَنُعَارِضَنَّكَ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ السِّحْرِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ الَّذِي جِئْتَ بِهِ سِحْرٌ يَقْدِرُ عَلَى مَثَلِهِ السَّاحِرُ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً هُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ:
وَعْدًا، وَقِيلَ: اسْمُ مَكَانٍ، أَيِ: اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مَعْلُومًا، أَوْ مَكَانًا مَعْلُومًا لَا نُخْلِفُهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا نُخْلِفُهُ أَيْ: لَا نُخْلِفُ ذَلِكَ الْوَعْدَ، وَالْإِخْلَافُ: أَنْ تَعِدَ شَيْئًا وَلَا تنجزه.
قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع، وكذلك الوعد. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ لَا نُخْلِفُهُ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ اجْعَلْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَوْعِدًا، أَيْ:
لَا نُخْلِفُ ذَلِكَ الْوَعْدَ نَحْنُ وَلا أَنْتَ وَفَوَضَ تَعْيِينَ الْمَوْعِدِ إِلَى مُوسَى إِظْهَارًا لِكَمَالِ اقْتِدَارِهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى، وَانْتِصَابُ مَكاناً سُوىً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْعِدٍ.
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ سُوىً بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ كَسْرَ السِّينِ لِأَنَّهَا اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ الْفَصِيحَةُ وَالْمُرَادُ مَكَانًا مُسْتَوِيًا، وَقِيلَ: مَكَانًا مُنْصِفًا عَدْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: يُقَالُ سِوًى وَسُوًى، أَيْ: عَدْلٌ، يَعْنِي عَدْلًا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ. قَالَ زُهَيْرٌ:
أَرَوْنَا خُطَّةً لَا ضَيْمَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فيها السّواء
قال أبو عبيدة والقتبي: مَعْنَاهُ مَكَانًا وَسَطًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمُوسَى بْنِ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ:
وَإِنَّ أَبَانَا كان حلّ ببلدة ... سوى بين قيس عيلان وَالْفَزَرِ
وَالْفَزَرُ: سَعْدُ بْنُ زَيْدِ مَنَاةَ. ثُمَّ وَاعَدَهُ مُوسَى بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَ قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عِيدٍ يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَوْمُ السَّبْتِ، وَقِيلَ: يَوْمُ النَّيْرُوزِ، وَقِيلَ: يَوْمُ كَسْرِ الْخَلِيجِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ وَالسُّلَمِيُّ وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ يَوْمُ الزِّينَةِ بِالنَّصْبِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، أَيْ:
فِي يَوْمِ الزِّينَةِ إِنْجَازُ مَوْعِدَنَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مَوْعِدُكُمْ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْمِيعَادُ زَمَانًا بَعْدَ أَنْ طَلَبَ منه فرعون أن يكون سُوًى، لِأَنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى مَكَانٍ مَشْهُورٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَوْعِدُكُمْ مَكَانُ يَوْمِ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى مَعْطُوفٌ عَلَى يَوْمِ الزِّينَةِ فَيَكُونُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَوْ عَلَى الزِّينَةِ فَيَكُونُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، يَعْنِي ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ مِصْرَ. وَالْمَعْنَى:
يُحْشَرُونَ إِلَى الْعِيدِ وَقْتَ الضُّحَى، وَيَنْظُرُونَ فِي أَمْرِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يُحْشَرُونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ضُحًى فَذَلِكَ الْمَوْعِدُ. قَالَ: وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ بِحَشْرِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالضُّحَى قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
ضَحْوَةُ النَّهَارِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الضُّحَى، وَهُوَ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ، وَخَصَّ الضُّحَى لِأَنَّهُ أَوَّلُ(3/438)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
النَّهَارِ، فَإِذَا امْتَدَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا كَانَ فِي النَّهَارِ مُتَّسَعٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْجَحْدَرَيُّ وَأَنْ يَحْشُرَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ: أَيْ: وَأَنْ يَحْشُرَ اللَّهُ النَّاسَ ضُحًى. وَرُوِيَ عَنِ الْجَحْدَرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ وَأَنْ نَحْشُرَ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: وَأَنْ تُحْشَرَ أَنْتَ يَا فِرْعَوْنُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا قَالَ: يُعَجِّلُ أَوْ أَنْ يَطْغى قَالَ: يَعْتَدِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: أَسْمَعُ وَأَرى قَالَ: أَسْمَعُ مَا يَقُولُ وَأَرَى مَا يُجَاوِبُكُمَا بِهِ، فَأُوحِي إِلَيْكُمَا فَتُجَاوِبَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ قَالَ: رَبِّ أَيَّ شيء أقول؟ قال: قل أهيا شراهيا. قال الأعمش: تَفْسِيرُ ذَلِكَ:
الْحَيُّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْحَيُّ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ. وَجَوَّدَ السُّيُوطِيُّ إِسْنَادَهُ، وَسَبَقَهُ إِلَى تَجْوِيدِ إِسْنَادِهِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ: كَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ قَالَ: خَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ زَوْجَهُ ثُمَّ هَدى قَالَ: هَدَاهُ لِمَنْكَحِهِ وَمَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَسْكَنِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَضِلُّ رَبِّي قَالَ:
لَا يُخْطِئُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَباتٍ شَتَّى قَالَ:
مُخْتَلِفٌ. وَفِي قَوْلِهِ: لِأُولِي النُّهى قَالَ: لِأُولِي التُّقَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ لِأُولِي النُّهى قَالَ:
لِأُولِي الْحِجَا وَالْعَقْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: إِنَّ الْمَلَكُ يَنْطَلِقُ فَيَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ، فَيَذُرُّهُ عَلَى النُّطْفَةِ، فَيَخْلُقُ مِنَ التُّرَابِ وَمِنَ النُّطْفَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: لَمَّا وُضِعَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَبْرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، بِسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» . وَفِي حَدِيثٍ فِي السُّنَنِ: «أَنَّهُ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَأَلْقَاهَا فِي الْقَبْرِ وَقَالَ:
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ، ثُمَّ أُخْرَى وَقَالَ: وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ، ثُمَّ أُخْرَى وَقَالَ: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ قَالَ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عمرو نحوه.
[سورة طه (20) : الآيات 60 الى 70]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70)(3/439)
قَوْلُهُ: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أَيِ: انْصَرَفَ مِنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ لَيُهَيِّئَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا تَوَاعَدَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ:
مَعْنَى تَوَلَّى أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَجَمَعَ كَيْدَهُ أَيْ: جَمَعَ مَا يَكِيدُ بِهِ مِنْ سِحْرِهِ وَحِيلَتِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ جَمَعَ السَّحَرَةَ، قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ أربعمائة، وقيل: اثنا عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا ثُمَّ أَتى أَيْ: أَتَى الْمَوْعِدُ الَّذِي تَوَاعَدَا إِلَيْهِ مَعَ جَمْعِهِ الَّذِي جَمَعَهُ، وَجُمْلَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْوَيْلِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ وَيْلًا. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِدَاءً كَقَوْلِهِ: يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «1» . فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ السُّحْتُ: الِاسْتِئْصَالُ، يُقَالُ: سَحَتَ وَأَسْحَتَ بِمَعْنًى، وَأَصْلُهُ اسْتِقْصَاءُ الشَّعْرِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا شُعْبَةَ فَيُسْحِتَكُمْ بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ أَسْحَتَ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهِ مَنْ سَحَتَ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِلنَّهْيِ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أَيْ: خَسِرَ وَهَلَكَ وَالْمَعْنَى: قَدْ خَسِرَ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ أَيَّ كَذِبٍ كَانَ فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أَيِ: السَّحَرَةُ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ مُوسَى تَنَاظَرُوا وَتَشَاوَرُوا وَتَجَاذَبُوا أَطْرَافَ الْكَلَامِ فِي ذلك وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي: من موسى، وكان نَجْوَاهُمْ هِيَ قَوْلَهُمْ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى سِحْرًا فَسَنَغْلِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَسَيَكُونُ لَهُ أَمْرٌ وَقِيلَ: الَّذِي أَسَرُّوهُ أَنَّهُ إِذَا غَلَبَهُمُ اتَّبَعُوهُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَقِيلَ: الَّذِي أَسَرُّوهُ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ مُوسَى: «وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ» ، قَالُوا: «مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ» . وَالنَّجْوَى: الْمُنَاجَاةُ، يَكُونُ اسْمًا وَمَصْدَرًا.
قَرَأَ أَبُو عمرو إنّ هذين لَسَاحِرَانِ بِتَشْدِيدِ الْحَرْفِ الدَّاخِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَبِالْيَاءِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى إِعْمَالِ إِنَّ عَمَلَهَا الْمَعْرُوفَ، وَهُوَ نَصْبُ الِاسْمِ وَرَفْعُ الْخَبَرِ وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهَا قَرَأَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبِهَا قَرَأَ عَاصِمٌ الجحدري وعيسى ابن عُمَرَ كَمَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُوَافِقَةٌ لِلْإِعْرَابِ الظَّاهِرِ، مُخَالِفَةٌ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ إِنْ هذانِ بِتَخْفِيفِ إِنْ عَلَى أَنَّهَا نَافِيَةٌ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُوَافِقَةٌ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ وَلِلْإِعْرَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ مِثْلَ قِرَاءَتِهِمْ إِلَّا أَنَّهُ يُشَدِّدُ النُّونَ مِنْ «هَذَانِ» . وَقَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ إِنْ هذانِ بِتَشْدِيدِ إِنَّ وَبِالْأَلِفِ، فَوَافَقُوا الرَّسْمَ وَخَالَفُوا الْإِعْرَابَ الظَّاهِرَ. وَقَدْ تَكَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي توجيه قراءة المدنيين
__________
(1) . يس: 52.(3/440)
وَالْكُوفِيِّينَ وَابْنِ عَامِرٍ، وَقَدِ اسْتَوْفَى ذِكْرَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالنَّحَّاسُ، فَقِيلَ: إِنَّهَا لُغَةُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَخَثْعَمَ، وَكِنَانَةَ يَجْعَلُونَ رَفْعَ الْمُثَنَّى وَنَصْبَهُ وَجَرَّهُ بِالْأَلِفِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَرَى ... مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
تَزَوُّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذُنَاهُ ضَرْبَةً «2»
............... .....
وَقَوْلُ الْآخَرِ»
:
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا
وَمِمَّا يؤيّد هذا تصريح شيبويه وَالْأَخْفَشِ وَأَبِي زَيْدٍ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ: إِنَّ هَذِهِ القراءة على لغة بني الحارث ابن كَعْبٍ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّهَا لُغَةُ بَنِيَ كِنَانَةَ، وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةُ خَثْعَمٍ، وَقِيلَ: إِنَّ «إِنْ» بِمَعْنَى نَعَمْ هَاهُنَا كَمَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ عَنْ عَاصِمٍ، وَكَذَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: رَأَيْتُ الزَّجَّاجَ وَالْأَخْفَشَ يَذْهَبَانِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: نَعَمْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لِلْمُحِبِّ شِفَاءٌ ... مِنْ جَوَى حُبِّهِنَّ إِنِ اللِّقَاءُ
أَيْ: نَعَمِ اللِّقَاءُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: إن هذان لَهُمَا سَاحِرَانِ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُبْتَدَأَ وَهُوَ هُمَا.
وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَلِفَ فِي هَذَا مُشَبَّهَةٌ بِالْأَلِفِ فِي يَفْعَلَانِ فَلَمْ تُغَيَّرْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ: إِنَّهُ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ عَنْ قُدَمَاءِ النَّحْوِيِّينَ، وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُقَالُ هَذَا بِالْأَلِفِ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانَتِ التَّثْنِيَةُ لَا تُغَيِّرُ الْوَاحِدَ أُجْرِيَتِ التَّثْنِيَةُ مَجْرَى الْوَاحِدِ، فَثَبَتَ الْأَلِفُ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَهَذِهِ أَقْوَالٌ تَتَضَمَّنُ توجيه هذه القراءة توجيها تَصِحُّ بِهِ وَتَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْخَطَأِ، وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْكَاتِبِ لِلْمُصْحَفِ. يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ بِسِحْرِهِما الَّذِي أَظْهَرَاهُ وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى قَالَ الْكِسَائِيُّ: بِطَرِيقَتِكُمْ: بِسُنَّتِكُمْ، وَالْمُثْلَى نَعْتٌ، كَقَوْلِكَ: امْرَأَةٌ كُبْرَى، تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى يَعْنُونَ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: هَؤُلَاءِ طَرِيقَةُ قَوْمِهِمْ وَطَرَائِقُ قَوْمِهِمْ لِأَشْرَافِهِمْ، وَالْمُثْلَى تَأْنِيثُ الْأَمْثَلِ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ، يُقَالُ: فُلَانٌ أَمْثَلُ قَوْمِهِ، أَيْ:
أَفْضَلُهُمْ، وَهُمُ الْأَمَاثِلُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمَا إِنْ يَغْلِبَا بِسِحْرِهِمَا مَالَ إِلَيْهِمَا السَّادَةُ وَالْأَشْرَافُ مِنْكُمْ، أَوْ يَذْهَبَا بِمَذْهَبِكُمُ الَّذِي هُوَ أَمْثَلُ الْمَذَاهِبِ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ الْإِجْمَاعُ: الْإِحْكَامُ وَالْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ، قاله الفراء.
__________
(1) . رجل من بني أسد، قال الفراء: ما رأيت أفصح منه. وفي اللسان: هو المتلمس.
(2) . وعجزه: دعته إلى هابي التّراب عقيم. والبيت لهوبر الحارثي. والهابي من التراب: ما ارتفع ودقّ.
(3) . هو أبو النجم، وقال بعضهم: هو رؤبة.(3/441)
تَقُولُ: أَجْمَعْتُ عَلَى الْخُرُوجِ، مِثْلُ أَزْمَعْتُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لِيَكُنْ عَزْمُكُمْ كُلُّكُمْ كَالْكَيْدِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قَطْعِ الْهَمْزَةِ فِي أَجْمَعُوا إِلَّا أَبَا عَمْرٍو، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِوَصْلِهَا وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الْجَمْعِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَفِيمَا حُكِيَ لِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ عَلَى أَبِي عَمْرٍو أَنْ يَقْرَأَ بِخِلَافِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أَيْ: مُصْطَفِّينَ مُجْتَمِعِينَ لِيَكُونَ أَنْظَمَ لِأُمُورِهِمْ وَأَشَدَّ لِهَيْبَتِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّفُّ: مَوْضِعُ الْمَجْمَعِ، وَيُسَمَّى الْمُصَلَّى الصَّفَّ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ: ثُمَّ ائْتُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي تَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِعِيدِكُمْ وَصَلَاتِكُمْ، يُقَالُ: أَتَيْتُ الصَّفَّ بِمَعْنَى أَتَيْتُ الْمُصَلَّى، فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ انْتِصَابُ صَفًّا عَلَى الْحَالِ، وَعَلَى تَفْسِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ يَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ثُمَّ ائتوا والناس مُصْطَفُّونَ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ. وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ، وَمَنْ تَرَكَ الْهَمْزَةَ أَبْدَلَ مِنْهَا أَلِفًا. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أَيْ: مَنْ غَلَبَ، يُقَالُ: اسْتَعْلَى عَلَيْهِ إِذَا غَلَبَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قَوْلِ السَّحَرَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ. وَجُمْلَةُ قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابًا لسؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا فعلوا بعد ما قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ مَا قَالُوا؟ فَقِيلَ: قَالُوا يا موسى إما أن تلقي، و «أن» مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيِ: اخْتَرْ إِلْقَاءَكَ أَوَّلًا أَوْ إِلْقَاءَنَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أي: الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا، وَمَفْعُولُ تُلْقِيَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ مَا تُلْقِيهِ أَوَّلًا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى مَا يُلْقِيهِ، أَوْ أَوَّلَ مَنْ يَفْعَلُ الْإِلْقَاءَ، وَالْمُرَادُ: إِلْقَاءُ الْعِصِيِّ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَانَتِ السَّحَرَةُ مَعَهُمْ عِصِيٌّ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ أَلْقَى عَصَاهُ يَوْمَ دَخَلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا أَرَادَ السَّحَرَةُ مُعَارَضَتَهُ قَالُوا لَهُ هَذَا الْقَوْلَ، فَ قالَ لَهُمْ مُوسَى: بَلْ أَلْقُوا أَمَرَهُمْ بِالْإِلْقَاءِ أَوَّلًا لِتَكُونَ مُعْجِزَتُهُ أَظْهَرَ إِذَا أَلْقَوْا هُمْ مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ يُلْقِي هُوَ عَصَاهُ فَتَبْتَلِعُ ذَلِكَ، وَإِظْهَارًا لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِسِحْرِهِمْ فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: ألقوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ، وَالْفَاءُ فَصَيْحَةٌ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ أَوْ ظَرْفِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: فَأَلْقَوْا، فَفَاجَأَ مُوسَى وَقْتَ أَنْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ سَعْيُ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ عِصِيُّهُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ الصَّادِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ تُخَيَّلُ بِالْمُثَنَّاةِ لِأَنَّ الْعِصِيَّ وَالْحِبَالَ مُؤَنَّثَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَطَّخُوهَا بِالزِّئْبَقِ، فَلَمَّا أَصَابَهَا حَرُّ الشَّمْسِ ارْتَعَشَتْ وَاهْتَزَّتْ، وَقُرِئَ نُخَيِّلُ بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُخَيِّلُ لِذَلِكَ، وَقُرِئَ يُخَيِّلُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ عَلَى أَنَّ الْمُخَيِّلَ هُوَ الْكَيْدُ، وَقِيلَ: الْمُخَيِّلُ هُوَ «أَنَّهَا تَسْعَى» ، ف «أنّ» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ سَعْيُهَا. ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: بِأَنَّهَا، ثُمَّ حَذَفَ الْبَاءَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، يَعْنِي الْفَوْقِيَّةَ، جَعَلَ أَنَّ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ:
تُخَيَّلُ إِلَيْهِ ذَاتَ سَعْيٍ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تُخَيَّلُ، وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، وَالْبَدَلُ فِيهِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، يُقَالُ: خُيِّلَ إِلَيْهِ إِذَا شُبِّهَ لَهُ وَأُدْخِلَ عَلَيْهِ الْبُهْمَةَ وَالشُّبْهَةُ. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى أَيْ: أَحَسَّ، وَقِيلَ: وَجَدَ، وَقِيلَ: أَضْمَرَ، وَقِيلَ: خَافَ، وَذَلِكَ لِمَا يَعْرِضُ مِنَ الطِّبَاعِ(3/442)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
الْبَشَرِيَّةِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ مَا يُخْشَى مِنْهُ، وَقِيلَ: خَافَ أَنْ يُفْتَتَنَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ، وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ خَوْفِهِ هُوَ أَنَّ سِحْرَهُمْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا أَرَاهُمْ فِي الْعَصَا، فَخَافَ أَنْ يَلْتَبِسَ أَمْرُهُ عَلَى النَّاسِ فَلَا يُؤْمِنُوا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا حَصَلَ مَعَهُ مِنَ الْخَوْفِ بِمَا بَشَّرَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أَيِ: الْمُسْتَعْلِي عَلَيْهِمْ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ يَعْنِي الْعَصَا، وَإِنَّمَا أَبْهَمَهَا تَعْظِيمًا وَتَفْخِيمًا، وَجَزْمُ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ. قُرِئَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَالْأَصْلُ: تَتَلَقَّفُ، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقُرِئَ «تَلْقَفْ» بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ لَقِفَهُ إِذَا ابْتَلَعَهُ بِسُرْعَةٍ، وَقُرِئَ «تَلْقَفُ» بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ فَإِنَّهَا تَتَلَقَّفُ، وَمَعْنَى مَا صَنَعُوا الَّذِي صَنَعُوهُ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِرَاءَةُ بِالْجَزْمِ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَلْقِهَا مُتَلَقِّفَةً، وَجُمْلَةُ إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ تَلْقَفْ، وَارْتِفَاعُ كَيْدٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِإِنَّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ إِلَّا عَاصِمًا. وَقَرَأَ هَؤُلَاءِ «سِحْرٍ» بِكَسْرِ السِّينِ وسكون الحاء، وإضافة الكيد إلى السِّحْرِ عَلَى الِاتِّسَاعِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، أَوْ بِتَقْدِيرِ ذِي سِحْرٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كَيْدُ ساحِرٍ. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أَيْ: لَا يُفْلِحُ جِنْسُ السَّاحِرِ حَيْثُ أَتَى وَأَيْنَ تَوَجَّهَ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أَيْ: فَأَلْقَى ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي شَاهَدُوهُ مِنْ مُوسَى وَالْعَصَا السَّحَرَةَ سُجَّدًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى إِنَّمَا قَدَّمَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ رِعَايَةً لِفَوَاصِلِ الآي، وعناية بتوافق رؤوسها.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ قَالَ: يُهْلِكُكُمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فَيُسْحِتَكُمْ قَالَ: يَسْتَأْصِلُكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن أَبِي صَالِحٍ قَالَ: فَيَذْبَحُكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن عَلِيٍّ وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى قَالَ: يَصْرِفَا وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ أَمْثَلُكُمْ، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي قَوْلِهِ: تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا:
مَا يَأْفِكُونَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَلْقَاهَا مُوسَى فَتَحَوَّلَتْ حَيَّةً تَأْكُلُ حِبَالَهُمْ وَمَا صَنَعُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنُ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ، فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: إِنْ يَكُنْ هذان ساحران فَإِنَّا نَغْلِبُهُمَا فَإِنَّهُ لَا أَسْحَرُ مِنَّا، وَإِنْ كَانَا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنْ خَرُّوا سُجَّدًا. أَرَاهُمُ اللَّهُ فِي سُجُودِهِمْ مَنَازِلَهُمُ الَّتِي إِلَيْهَا يَصِيرُونَ، فَعِنْدَهَا قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ إِلَى قوله: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى.
[سورة طه (20) : الآيات 71 الى 76]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)(3/443)
قَوْلُهُ: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ يُقَالُ: آمَنَ لَهُ وَآمَنَ بِهِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ «1» ، ومن الثاني: قَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ «2» . وَقِيلَ: إِنَّ الْفِعْلَ هُنَا مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ.
وَقُرِئَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ، أَيْ: كَيْفَ آمَنْتُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مِنِّي لَكُمْ بِذَلِكَ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أَيْ: إِنَّ مُوسَى لَكَبِيرُكُمْ، أَيْ: أَسْحَرُكُمْ وَأَعْلَاكُمْ دَرَجَةً فِي صِنَاعَةِ السِّحْرِ، أَوْ مُعَلِّمُكُمْ وَأُسْتَاذُكُمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ قَالَ الْكِسَائِيُّ: الصَّبِيُّ بِالْحِجَازِ إِذَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ مُعَلِّمِهِ قَالَ:
جِئْتُ مِنْ عِنْدِ كَبِيرِي. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّهُ لِعَظِيمِ السِّحْرِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْكَبِيرُ فِي اللُّغَةِ: الرَّئِيسُ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْمُعَلِّمِ: الْكَبِيرُ. أَرَادَ فِرْعَوْنُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُدْخِلَ الشُّبْهَةَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى لَا يُؤْمِنُوا، وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ مُوسَى، وَلَا كَانَ رَئِيسًا لَهُمْ، وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مُوَاصَلَةٌ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أَيْ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ بِكُمْ ذَلِكَ «3» ، وَالتَّقْطِيعُ لِلْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ هُوَ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَمِنْ لِلِابْتِدَاءِ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أَيْ: عَلَى جُذُوعِهَا، كَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ «4» أَيْ: عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُوَيْدِ بْنِ أَبِي كَاهِلٍ:
هُمْ صَلَبُوا الْعَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فَلَا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا
وَإِنَّمَا آثَرَ كَلِمَةَ فِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِهِمْ عَلَيْهَا كَاسْتِقْرَارِ الْمَظْرُوفِ فِي الظَّرْفِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أَرَادَ: لَتَعْلَمُنَّ هَلْ أَنَا أَشَدُّ عَذَابًا لَكُمْ أَمْ مُوسَى؟ وَمَعْنَى أَبْقَى: أَدْوَمُ، وَهُوَ يُرِيدُ بِكَلَامِهِ هَذَا الِاسْتِهْزَاءَ بِمُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّعْذِيبِ فِي شَيْءٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ الْعَذَابَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مُوسَى إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَقِيلَ: أَرَادَ بِمُوسَى رَبَّ مُوسَى عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ أَيْ: لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا بِهِ مُوسَى مِنَ الْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَالْيَدِ وَالْعَصَا. وَقِيلَ:
إِنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْبَيِّنَاتِ مَا رَأَوْهُ فِي سُجُودِهِمْ مِنَ الْمَنَازِلِ الْمُعَدَّةِ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالَّذِي فَطَرَنا مَعْطُوفٌ عَلَى «مَا جَاءَنَا» ، لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا بِهِ مُوسَى مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَعَلَى الَّذِي فَطَرَنَا، أَيْ: خَلَقَنَا، وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ، أَيْ: وَاللَّهِ الَّذِي فَطَرَنَا لَنْ نُؤْثِرَكَ، أَوْ لَا نُؤْثِرُكَ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ذَكَرَهُمَا الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ.
فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ هَذَا جَوَابٌ مِنْهُمْ لِفِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ «لَأُقَطِّعَنَّ» إِلَخْ، وَالْمَعْنَى: فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ، وَاحْكُمْ مَا أَنْتَ حَاكِمٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَنْتَ صَانِعُهُ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ: إِنَّمَا سُلْطَانُكَ عَلَيْنَا وَنُفُوذُ أَمْرِكَ فِينَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْنَا فِيمَا بَعْدَهَا، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَمَا كَافَّةٌ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الرَّفْعَ عَلَى أَنْ تُجْعَلَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ: أَنَّ الَّذِي تقضيه هذه الحياة
__________
(1) . العنكبوت: 26.
(2) . الأعراف: 123.
(3) . فرعون كان ينكر وجود الله تعالى. ولعله أقسم بنفسه.
(4) . الطور: 38.(3/444)
الدُّنْيَا فَقَضَاؤُكَ وَحُكْمُكَ مُنْحَصِرٌ فِي ذَلِكَ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا الَّتِي سَلَفَتْ مِنَّا مِنَ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ مَعْطُوفٌ عَلَى «خَطَايَانَا» ، أَيْ: وَيَغْفِرُ لَنَا الَّذِي أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ السِّحْرِ فِي مُعَارَضَةِ مُوسَى، فَمَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقِيلَ: هِيَ نَافِيَةٌ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ مَوْضُوعٌ عَنَّا وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أَيْ: خَيْرٌ مِنْكَ ثَوَابًا وَأَبْقَى مِنْكَ عِقَابًا، وَهَذَا جَوَابُ قَوْلِهِ: «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى» . إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى الْمُجْرِمُ: هُوَ الْمُتَلَبِّسُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمَعْنَى «لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» : أَنَّهُ لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَنْفَعُهُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَمُوتُ مَيْتَةً مُرِيحَةً، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً مُمْتِعَةً، فَهُوَ يَأْلَمُ كَمَا يَأْلَمُ الْحَيُّ، وَيَبْلُغُ بِهِ حَالُ الْمَوْتِ فِي الْمَكْرُوهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ فِيهَا عَنْ إِحْسَاسِ الْأَلَمِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُنْتَفِعٍ بِحَيَاتِهِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا:
أَلَا مِنْ لِنَفْسٍ لَا تَمُوتُ فَيَنْقَضِي ... شَقَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طَعْمُ
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِ السَّحَرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَالضَّمِيرُ فِي «إِنَّهُ» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلشَّأْنِ. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ أَيْ: وَمَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُصَدِّقًا بِهِ قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، أَيِ: الطَّاعَاتِ، وَالْمَوْصُوفُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ، وَجُمْلَةُ «قَدْ عَمِلَ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَهَكَذَا مُؤْمِنًا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِ فَأُولئِكَ إلى من باعتبار معناه لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى أَيِ: الْمَنَازِلُ الرَّفِيعَةُ الَّتِي قَصَرَتْ دُونَهَا الصِّفَاتُ جَنَّاتُ عَدْنٍ بَيَانٌ لِلدَّرَجَاتِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا، وَالْعَدْنُ: الْإِقَامَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَجُمْلَةُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حَالٌ مِنَ الْجَنَّاتِ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى عَدْنٍ، وَعَدْنٌ عَلَمٌ لِلْإِقَامَةِ كَمَا سَبَقَ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ فِي «لَهُمْ» ، أَيْ: مَاكِثِينَ دَائِمِينَ، وَالإشارة ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ، وهو مبتدأ، وجَزاءُ مَنْ تَزَكَّى خَبَرُهُ، أَيْ: جَزَاءُ مَنْ تَطَهَّرَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ قَالَ: أَخَذَ فِرْعَوْنُ أَرْبَعِينَ غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرَ أَنْ يُعَلَّمُوا السِّحْرَ بِالْفَرَمَا «1» قَالَ: عَلِّمُوهُمْ تَعْلِيمًا لَا يَغْلِبُهُمْ أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهُمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى قَالَ: خَيْرٌ مِنْكَ إِنْ أُطِيعَ، وَأَبْقَى مِنْكَ عَذَابًا إِنْ عُصِيَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يموتون
__________
(1) . «الفرما» : مدينة بمصر.(3/445)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَهْلِهَا فَإِنَّ النَّارَ تُمِيتُهُمْ إِمَاتَةً، ثُمَّ يَقُومُ الشُّفَعَاءُ فَيَشْفَعُونَ، فَيُؤْتَى بِهِمْ ضَبَائِرَ «1» عَلَى نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَاةُ أَوِ الْحَيَوَانُ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْغُثَاءُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ، وَأَنْعَمَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ: «إِنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيَرَوْنَ مَنْ فَوْقَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ» .
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 91]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91)
هَذَا شُرُوعٌ فِي إِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي الْأَعْرَافِ، وَفِي يُونُسَ، وَاللَّامُ فِي «لَقَدْ» هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْكِيدِ مَا لَا يَخْفَى، وأَنْ فِي «أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» ، إِمَّا الْمُفَسِّرَةُ لِأَنَّ فِي الْوَحْيِ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِأَنْ أَسْرِ، أَيْ: أَسْرِ بِهِمْ مِنْ مِصْرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُسْتَوْفًى. فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً أَيِ: اجْعَلْ لَهُمْ طَرِيقًا، وَمَعْنَى يَبَسًا: يَابِسًا، وُصِفَ بِهِ الْفَاعِلُ مُبَالَغَةً، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيْبَسَ لَهُمْ تِلْكَ الطَّرِيقَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءٌ وَلَا طِينٌ. وَقُرِئَ يَبَساً بِسُكُونِ الْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ مخفف من يبسا المحرك، أو جمع يَابِسٍ كَصَحْبٍ فِي صَاحِبٍ. وَجُمْلَةُ لَا تَخافُ دَرَكاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: آمِنًا مِنْ أَنْ يُدْرِكَكُمُ الْعَدُوُّ، أَوْ صِفَةٌ أُخْرَى لِطَرِيقٍ، وَالدَّرَكُ: اللَّحَاقُ بِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ لَا تَخَفْ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَضْرِبْ لَا تَخَفْ، وَلَا تَخْشَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ: وَلَا أَنْتَ تَخْشَى مِنْ فِرْعَوْنَ أَوْ مِنَ الْبَحْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَخافُ وَهِيَ أَرْجَحُ لِعَدَمِ الْجَزْمِ فِي تَخْشَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ صِفَةً أُخْرَى لطريق، أي:
__________
(1) . أي جماعات.(3/446)
لَا تَخَافُ مِنْهُ وَلَا تَخْشَى مِنْهُ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ أَتْبَعَ هَنَا مُطَاوِعُ تَبِعَ، يُقَالُ: أَتْبَعْتُهُمْ إِذَا تَبِعْتُهُمْ، وَذَلِكَ إِذَا سَبَقُوكَ فَلَحِقْتَهُمْ، فَالْمَعْنَى: تَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَمَعَهُ جُنُودُهُ. وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْأَصْلُ: أَتْبَعَهُمْ جُنُودَهُ، أَيْ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْبَعُوا مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَقُرِئَ فَاتَّبَعَهُمْ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: لَحِقَهُمْ بِجُنُودِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: رَكِبَ الْأَمِيرُ بِسَيْفِهِ، أَيْ: مَعَهُ سَيْفُهُ، وَمَحَلُّ بِجُنُودِهِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: سَابِقًا جُنُودَهُ مَعَهُ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ أَيْ: عَلَاهُمْ وَأَصَابَهُمْ مَا عَلَاهُمْ وَأَصَابَهُمْ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، كما في قوله: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ. وَقِيلَ: غَشِيَهُمْ مَا سُمِعَتْ قِصَّتُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: غَشِيَهُمُ الْبَعْضُ الَّذِي غَشِيَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَغْشَهُمْ كُلُّ مَاءِ الْبَحْرِ، بَلِ الَّذِي غَشِيَهُمْ بَعْضُهُ. فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الَّذِي غَرَّقَهُمْ بَعْضُ الْمَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّهْوِيلِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقُرِئَ: فَغَشَّاهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشَّاهُمْ أَيْ: غَطَّاهُمْ مَا غَطَّاهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى أَيْ: أضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى طريق النَّجَاةِ لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَنْ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ لَا يَفُوتُونَهُ لِكَوْنِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشُونَ فِي طَرِيقٍ يَابِسَةٍ، وَبَيْنَ أَيْدِيهِمُ الْبَحْرُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما هَدى تَأْكِيدٌ لِإِضْلَالِهِ لِأَنَّ الْمُضِلَّ قَدْ يُرْشِدُ مَنْ يُضِلُّهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِنْجَائِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْنَا لَهُمْ بَعْدَ إِنْجَائِهِمْ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لليهود المعاصرين لنبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْآبَاءِ مَعْدُودَةٌ مِنَ النِّعَمِ عَلَى الْأَبْنَاءِ، وَالْمُرَادُ بِعَدُوِّهِمْ هُنَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَذَلِكَ بِإِغْرَاقِهِ وَإِغْرَاقِ قَوْمِهِ فِي الْبَحْرِ بِمَرْأًى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ انْتِصَابُ جَانِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، لَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهُ مَكَانٌ مُعَيَّنٌ غَيْرُ مُبْهَمٍ، وَإِنَّمَا تَنْتَصِبُ الْأَمْكِنَةُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُبْهَمَةً. قَالَ مَكِّيٌّ:
وَهَذَا أَصْلٌ لَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْنَى أَمَرْنَا مُوسَى أَنْ يَأْمُرَكُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ لِنُكَلِّمَهُ بِحَضْرَتِكُمْ فَتَسْمَعُوا الْكَلَامَ، وَقِيلَ: وُعِدَ مُوسَى بَعْدَ إِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ أَنْ يَأْتِيَ جَانِبَ الطَّوْرِ، فَالْوَعْدُ كَانَ لِمُوسَى، وَإِنَّمَا خُوطِبُوا بِهِ لِأَنَّ الْوَعْدَ كَانَ لِأَجْلِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ «وَوَعَدْنَاكُمْ» بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّ الْوَعْدَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى خَاصَّةً، وَالْمُوَاعَدَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا في البقرة هذا المعنى، و «الأيمن» مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْجَانِبِ، وَالْمُرَادُ يَمِينُ الشَّخْصِ لِأَنَّ الْجَبَلَ لَيْسَ لَهُ يَمِينٌ وَلَا شِمَالٌ، فَإِذَا قِيلَ: خُذْ عَنْ يَمِينِ الْجَبَلِ فَمَعْنَاهُ عَنْ يَمِينِكَ مِنَ الْجَبَلِ. وَقُرِئَ بِجَرِّ «الْأَيْمَنِ» عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَنِّ بِالتَّرَنْجَبِينِ وَالسَّلْوَى بِالسَّمَّانِيِّ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَإِنْزَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَانَ فِي التِّيهِ. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ كُلُوا، وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ:
الْمُسْتَلَذَّاتُ، وَقِيلَ: الْحَلَالُ، عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي ذَلِكَ. وَقَرَأَ حمزة والكسائي والأعمش: قد أنجيتكم من عدوّكم ووعدتكم جانب الطور كلوا من طيبات ما رزقتكم بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنُونِ العظمة فيها. وَلا تَطْغَوْا فِيهِ الطغيان: التَّجَاوُزُ أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُوا مَا هُوَ جَائِزٌ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ وَقِيلَ:
الْمَعْنَى: لَا تَجْحَدُوا نِعْمَةَ اللَّهِ فَتَكُونُوا طَاغِينَ وَقِيلَ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ وَلَا تَنْسَوْا شُكْرَهَا وَقِيلَ: لَا تَعْصُوا الْمُنْعِمَ، أَيْ: لَا تَحْمِلَنَّكُمُ السَّعَةُ وَالْعَافِيَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الطُّغْيَانِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ(3/447)
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ طُغْيَانٌ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي هَذَا جَوَابُ النَّهْيِ أَيْ: يَلْزَمُكُمْ غَضَبِي وَيَنْزِلُ بِكُمْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ، أَيْ: حُضُورِ وَقْتِ أَدَائِهِ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْكِسَائِيُّ فَيَحِلَّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَذَلِكَ قَرَءُوا «يَحْلُلْ» بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْكَسْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الضَّمِّ لِأَنَّ الضَّمَّ مِنَ الْحُلُولِ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ، وَيَحِلُّ بِالْكَسْرِ يَجِبُ، وَجَاءَ التَّفْسِيرُ بِالْوُجُوبِ لَا بِالْوُقُوعِ، وَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ.
وَمَعْنَى فَقَدْ هَوى: فقد هلك. قَالَ الزَّجَّاجُ فَقَدْ هَوى أَيْ: صَارَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، وَهِيَ قَعْرُ النَّارِ، مِنْ هَوَى يَهْوِي هَوْيًا، أَيْ: سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَهَوَى فُلَانٌ، أَيْ: مَاتَ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أَيْ: لِمَنْ تَابَ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي أَعْظَمُهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمَلِ عَمَلًا صَالِحًا مِمَّا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَحَسَّنَهُ ثُمَّ اهْتَدى أَيِ: اسْتَقَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَمُوتَ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: لَمْ يَشُكَّ فِي إِيمَانِهِ، وَقِيلَ: أَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ: تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيَهْتَدِيَ بِهِ، وَقِيلَ: عَلِمَ أَنَّ لِذَلِكَ ثَوَابًا وَعَلَى تَرْكِهِ عِقَابًا، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ مِمَّا بَعْدَهُ. وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى هَذَا حِكَايَةٌ لِمَا جَرَى بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ مُوسَى عِنْدَ مُوَافَاتِهِ الْمِيقَاتَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
وَكَانَتِ الْمُوَاعَدَةُ أَنْ يُوَافِيَ مُوسَى وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ قَوْمِهِ، فَسَارَ مُوسَى بِهِمْ، ثُمَّ عَجَّلَ مِنْ بَيْنِهِمْ شَوْقًا إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا أَعَجَلَكَ؟ أَيْ: مَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى الْعَجَلَةِ حَتَّى تَرَكْتَ قَوْمَكَ وَخَرَجتَ مِنْ بَيْنِهِمْ؟ فَأَجَابَ مُوسَى عَنْ ذَلِكَ قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أَيْ: هُمْ بِالْقُرْبِ مِنِّي، تَابِعُونَ لِأَثَرِي، وَاصِلُونَ بَعْدِي.
وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ يَسِيرُونَ خَلْفَهُ، بَلْ أَرَادَ أَنَّهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ يَنْتَظِرُونَ عَوْدَهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ مُصَرِّحًا بِسَبَبِ مَا سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أَيْ: لِتَرْضَى عَنِّي بِمُسَارَعَتِي إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِكَ أَوْ لِتَزْدَادَ رِضًا عَنِّي بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قال عيسى بن عمر: بنو تيم يقولون أولى مَقْصُورَةً، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ أُولاءِ مَمْدُودَةً. وَقَرَأَ ابن أبي إسحاق ونصر وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَلى أَثَرِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَمَعْنَى «عَجِلْتُ إِلَيْكَ» : عَجِلْتُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرْتَنِي بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ لِتَرْضَى عَنِّي، يُقَالُ: رَجُلٌ عَجِلٌ وَعَجُولٌ وَعَجْلَانُ: بَيِّنُ الْعَجَلَةِ، وَالْعَجَلَةُ: خِلَافُ الْبُطْءِ.
وَجُمْلَةُ قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ اللَّهُ لَهُ؟
فَقِيلَ: قَالَ إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَيِ: ابْتَلَيْنَاهُمْ وَاخْتَبَرْنَاهُمْ وَأَلْقَيْنَاهُمْ فِي فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
صَيَّرْنَاهُمْ مَفْتُونِينَ أَشْقِيَاءَ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِكَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ مَعَ هَارُونَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أَيْ: دَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، فَدَخَلَ فِي دِينِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الظَّاهِرِ وَفِي قَلْبِهِ مَا فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْبَقَرِ، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ تُعْرَفُ بِالسَّامِرَةِ، وَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّمَا تَخَلَّفَ مُوسَى عَنِ الْمِيعَادِ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ لِمَا صَارَ مَعَكُمْ مِنَ الْحُلِيِّ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِإِلْقَائِهَا فِي النَّارِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْعِجْلِ مَا كَانَ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قِيلَ: وَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْمِهِ بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا: ذَا الْقَعْدَةِ، وَعَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْأَسَفُ: الشَّدِيدُ الْغَضَبُ، وَقِيلَ: الْحَزِينُ، وقد(3/448)
مَضَى فِي الْأَعْرَافِ بَيَانُ هَذَا مُسْتَوْفًى. قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّوْبِيخِيِّ، وَالْوَعْدُ الْحَسَنُ: وَعَدَهُمْ بِالْجَنَّةِ إِذَا أَقَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُسْمِعَهُمْ كلامه في التوراة في لِسَانِ مُوسَى لِيَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا، فَيَسْتَحِقُّوا ثَوَابَ عَمَلِهِمْ، وَقِيلَ: وَعَدَهُمُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ:
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ الْآيَةَ أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَوَعَدَكُمْ ذَلِكَ، فَطَالَ عَلَيْكُمُ الزَّمَانُ فَنَسِيتُمْ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: يَلْزَمَكُمْ وَيَنْزِلَ بِكُمْ، وَالْغَضَبُ: الْعُقُوبَةُ وَالنِّقْمَةُ، وَالْمَعْنَى: أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلًا يَكُونُ سَبَبَ حُلُولِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أَيْ: مَوْعِدَكُمْ إِيَّايَ، فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُمْ وَعَدُوهُ أَنْ يُقِيمُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مِنَ الطُّورِ، وَقِيلَ: وَعَدُوهُ أَنْ يَأْتُوا عَلَى أَثَرِهِ إلى الميقات، فتوقّفوا فأجابوه، وقالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ الَّذِي وَعَدْنَاكَ بِمَلْكِنا بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعَاصِمٍ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِأَنَّهَا عَلَى اللُّغَةِ الْعَالِيَةِ الْفَصِيحَةِ، وَهُوَ مَصْدَرُ مَلَكْتُ الشَّيْءَ أَمْلِكُهُ مِلْكًا، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِمَلِكِنَا أُمُورَنَا، أَوْ بِمَلْكِنَا الصَّوَابَ، بَلْ أَخْطَأْنَا وَلَمْ نَمْلِكْ أَنْفُسَنَا وَكُنَّا مُضْطَرِّينَ إِلَى الْخَطَأِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِمَلْكِنا بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالْمَعْنَى بِسُلْطَانِنَا، أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا مُلْكٌ فَنُخْلِفُ مَوْعِدَكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْفَتْحَ وَالْكَسْرَ وَالضَّمَّ فِي بِمَلْكِنَا كُلُّهَا لُغَاتٍ فِي مَصْدَرِ مَلَكْتُ الشَّيْءَ وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُويْسٌ حُمِّلْنا بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ مُخَفَّفَةً، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا حِلْيَةَ الْقَوْمِ مَعَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَمَا حَمَلُوهَا كُرْهًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا اسْتَعَارُوهَا مِنْهُمْ حِينَ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مَعَ مُوسَى، وَأَوْهَمُوهُمْ أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي عِيدٍ لَهُمْ أَوْ وَلِيمَةٍ وَقِيلَ: هُوَ مَا أَخَذُوهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَذَفَهُمُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِلِ، وَسُمِّيَتْ أَوْزَارًا، أَيْ: آثَامًا لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَخْذُهَا، وَلَا تَحِلُّ لَهُمُ الْغَنَائِمُ فِي شَرِيعَتِهِمْ. وَالْأَوْزَارُ فِي الْأَصْلِ الْأَثْقَالُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِالزِّينَةِ هُنَا الْحُلِيُّ فَقَذَفْناها أَيْ: طَرَحْنَاهَا فِي النَّارِ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنْ إِثْمِهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: طَرَحْنَاهَا إِلَى السَّامِرِيِّ لِتَبْقَى لَدَيْهِ حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى فَيَرَى فِيهَا رَأْيَهُ فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أَيْ: فَمِثْلُ ذَلِكَ الْقَذْفِ أَلْقَاهَا السَّامِرِيُّ، قِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ قَالَ لَهُمْ حِينَ اسْتَبْطَأَ الْقَوْمُ رُجُوعَ مُوسَى. إِنَّمَا احْتَبَسَ عَنْكُمْ لِأَجْلِ مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْحُلِيِّ، فَجَمَعُوهُ وَدَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَرَمَى بِهِ فِي النَّارِ وَصَاغَ لَهُمْ مِنْهُ عِجْلًا، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، فَصَارَ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَيْ: يَخُورُ كَمَا يَخُورُ الْحَيُّ مِنَ الْعُجُولِ، وَالْخُوَارُ: صَوْتُ الْبَقَرِ، وَقِيلَ: خُوَارُهُ كَانَ بِالرِّيحِ لِأَنَّهُ كَانَ عَمَلٌ فِيهِ خُرُوقًا، فَإِذَا دَخَلَتِ الرِّيحُ فِي جَوْفِهِ خَارَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ، فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى أَيْ قَالَ السَّامِرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَنَسِيَ أَيْ: فَضَلَّ مُوسَى وَلَمْ يَعْلَمْ مَكَانَ إِلَهِهِ هَذَا، وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فِي الطُّورِ وَقِيلَ:
الْمَعْنَى: فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَذْكُرَ لَكُمْ أَنَّ هَذَا إِلَهُهُ وَإِلَهُكُمْ وَقِيلَ: النَّاسِي هُوَ السَّامِرِيُّ، أَيْ: تَرَكَ السَّامِرِيُّ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْإِيمَانِ وَضَلَّ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا أَيْ: أفلا(3/449)
يَعْتَبِرُونَ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي أَنَّ هَذَا الْعِجْلَ لَا يِرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، أَيْ: لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ جَوَابًا، وَلَا يُكَلِّمُهُمْ إِذَا كَلَّمُوهُ، فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْمُكَالَمَةِ، فَإِنَّ فِي أَلَّا يَرْجِعُ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَفِيهَا ضَمِيرٌ مُقَدَّرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْعِجْلِ، وَلِهَذَا ارْتَفَعَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فِي فِتْيَةٍ مِنْ سُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ
أَيْ: أَنَّهُ هَالِكٌ. وَقُرِئَ بِنَصْبِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّهَا النَّاصِبَةُ، وَجُمْلَةُ وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَرْجِعُ، أَيْ: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ ضَرًّا وَلَا يَجْلِبَ إِلَيْهِمْ نَفْعًا وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَالْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ، أَيْ: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلِ أن يأتي موسى ويرجع إليهم يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أَيْ: وَقَعْتُمْ فِي الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ الْعِجْلِ، وَابْتُلِيتُمْ بِهِ، وَضَلَلْتُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ لِأَجْلِهِ، قِيلَ: وَمَعْنَى الْقَصْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ «إِنَّمَا» هُوَ أَنَّ الْعَجَلَ صَارَ سَبَبًا لِفِتْنَتِهِمْ لَا لِرَشَادِهِمْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فُتِنُوا بِالْعِجْلِ لَا بِغَيْرِهِ. وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي أي: ربكم الرحمن لا العجل، فاتبعوني في أمري لكم بعبادة الله، ولا تتبعوا السامريّ في أمره لكم بعبادة الْعِجْلُ، وَأَطِيعُوا أَمْرِي لَا أَمْرَهُ قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى أَجَابُوا هَارُونَ عَنْ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِهَذَا الْجَوَابِ الْمُتَضَمِّنِ لِعِصْيَانِهِ، وَعَدَمِ قَبُولِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ وَحَذَّرَهُمْ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ أَيْ: لَنْ نَزَالَ مُقِيمِينَ عَلَى عِبَادَةِ هَذَا الْعِجْلِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، فَيَنْظُرَ هَلْ يُقَرِّرُنَا عَلَى عِبَادَتِهِ أَوْ يَنْهَانَا عَنْهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ اعْتَزَلَهُمْ هَارُونُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِمَا فَعَلَهُ السَّامِرِيُّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: يَبَساً قَالَ:
يَابِسًا لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ وَلَا طِينٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَخافُ دَرَكاً مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَلا تَخْشى مِنَ الْبَحْرِ غَرَقًا.
وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ هَوى: شَقِيَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أيضا وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ قال:
من الشِّرْكِ وَآمَنَ قَالَ: وَحَّدَ اللَّهَ وَعَمِلَ صالِحاً قَالَ: أَدَّى الْفَرَائِضَ ثُمَّ اهْتَدى قَالَ: لَمْ يُشَكِّكْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ أيضا وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ قال: من تَابَ مِنَ الذَّنْبِ، وَآمَنَ مِنَ الشِّرْكِ، وَعَمِلَ صَالِحًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ثُمَّ اهْتَدى عَلِمَ أَنَّ لِعَمَلِهِ ثَوَابًا يُجْزَى عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ اهْتَدى قال: ثم استقام ولزم السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ الله: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى الْآيَةَ، قَالَ: فَرَأَى فِي ظِلِّ الْعَرْشِ رَجُلًا فَعَجِبَ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ قَالَ: لَا أُحَدِّثُكَ مَنْ هُوَ، لَكِنْ سَأُخْبِرُكَ بِثَلَاثٍ فِيهِ:
كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يَعُقُّ والديه، ولا يمشي بالتميمة. وأخرج الفريابي وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا تَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ عَمِدَ السَّامِرِيُّ(3/450)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
فَجَمَعَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ حُلِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَرَبَهُ عِجْلًا، ثُمَّ أَلْقَى الْقَبْضَةَ فِي جَوْفِهِ فَإِذَا هُوَ عِجْلٌ جَسَدٌ لَهُ خُوَارٌ، فَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا، فَلَمَّا أَنْ رَجَعَ مُوسَى أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ مَا قَالَ، فَقَالَ مُوسَى لِلسَّامِرِيِّ: مَا خَطْبُكَ قَالَ:
فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي «1» فَعَمِدَ مُوسَى إِلَى الْعِجْلِ، فَوَضَعَ مُوسَى عَلَيْهِ الْمَبَارِدَ فَبَرَدَهُ بِهَا وَهُوَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ، فَمَا شَرِبَ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَعْبُدُ ذَلِكَ الْعِجْلَ إِلَّا اصْفَرَّ وَجْهُهُ مِثْلَ الذَّهَبِ، فَقَالُوا لِمُوسَى: مَا تَوْبَتُنَا؟ قَالَ: يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَأَخَذُوا السَّكَاكِينَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ أَخَاهُ وَأَبَاهُ وَابْنَهُ، وَلَا يُبَالِي بِمَنْ قَتَلَ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: مُرْهُمْ فَلْيَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لِمَنْ قُتِلَ وَتُبْتُ عَلَى مَنْ بَقِيَ. وَالْحِكَايَاتُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِمَلْكِنا قَالَ: بِأَمْرِنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ بِمَلْكِنا قَالَ: بِطَاقَتِنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بِسُلْطَانِنَا.
وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ قَالَ: فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يذكر لكم أن هذا إلهه.
[سورة طه (20) : الآيات 92 الى 101]
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)
جُمْلَةُ قالَ يَا هارُونُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُوسَى لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ أَخَذَ بِشُعُورِ رَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ وَبِلِحْيَتِهِ، وَقَالَ: مَا مَنَعَكَ مِنِ اتِّبَاعِي وَاللُّحُوقِ بِي عند ما وَقَعُوا فِي هَذِهِ الضَّلَالَةِ وَدَخَلُوا فِي الْفِتْنَةِ، وقيل معنى ما مَنَعَكَ أَلَّا تَتَّبِعَنِ: مَا مَنَعَكَ مِنِ اتِّبَاعِي فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ: هَلَّا قَاتَلْتَهُمْ إِذْ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي لَوْ كُنْتُ بَيْنَهُمْ لَقَاتَلْتُهُمْ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: هلّا فارقتهم، و «لا» في «أن لا تَتَّبِعَنِي» زَائِدَةٌ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِمَنَعَ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكَ حِينَ رُؤْيَتِكَ لِضَلَالِهِمْ مِنِ اتِّبَاعِي. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَنَظَائِرِهِ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ خَالَفْتَ أَمْرِي لَكَ بِالْقِيَامِ لِلَّهِ وَمُنَابَذَةِ مَنْ خَالَفَ دِينَهُ وأقمت بين هؤلاء الذين اتّخذوا العجل
__________
(1) . طه: 96. [.....](3/451)
إِلَهًا؟ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «أَمْرِي» : هُوَ قَوْلُهُ الذي حكى الله عنه: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ «1» ، فَلَمَّا أَقَامَ مَعَهُمْ وَلَمْ يُبَالِغْ فِي الْإِنْكَارِ عليهم نسبه إلى عصيانه الَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
قُرِئَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ لِلْمِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْأُمِّ مَعَ كَوْنِهِ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ استعطافا له وترقيقا لقلبه، ومعنى لا بِرَأْسِي
وَلَا بِشِعْرِ رَأْسِي، أَيْ: لَا تَفْعَلْ هَذَا بِي عُقُوبَةً مِنْكَ لِي، فَإِنَّ لِي عذرا هونِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
أَيْ: خَشِيتُ إِنْ خَرَجْتُ عَنْهُمْ وَتَرَكْتُهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فَتَقُولَ إِنِّي فَرَّقْتُ جَمَاعَتَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَارُونَ لَوْ خَرَجَ لَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَتَخَلَّفَ مَعَ السَّامِرِيِّ عِنْدَ الْعِجْلِ آخَرُونَ، وَرُبَّمَا أَفْضَى ذلك إلى القتال بينهم، ومعنى لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
وَلَمْ تَعْمَلْ بِوَصِيَّتِي لَكَ فِيهِمْ، إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَهُمْ وَتَقُولَ لَمْ تَعْمَلْ بِوَصِيَّتِي لَكَ فِيهِمْ وَتَحْفَظْهَا، وَمُرَادُهُ بِوَصِيَّةِ مُوسَى لَهُ هُوَ قَوْلُهُ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ قال أبو عبيد: معنى لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
وَلَمْ تَنْتَظِرْ عَهْدِي وَقُدُومِي لِأَنَّكَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، فَاعْتَذَرَ هَارُونُ إِلَى مُوسَى هَاهُنَا بِهَذَا، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فِي الْأَعْرَافِ بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ هُنَالِكَ حَيْثُ قَالَ:
إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي «2» ثُمَّ تَرَكَ موسى الْكَلَامَ مَعَ أَخِيهِ وَخَاطَبَ السَّامِرِيَّ فَ قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أَيْ: مَا شَأْنُكَ؟ وَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أَيْ: قَالَ السَّامِرِيُّ مُجِيبًا عَلَى مُوسَى: رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْا، أَوْ عَلِمْتُ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَفَطِنْتُ لِمَا لَمْ يَفْطُنُوا لَهُ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَى فَرَسِ الْحَيَاةِ، فَأُلْقِيَ فِي ذِهْنِهِ أَنْ يَقْبِضَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ لَا يَقَعُ عَلَى جَمَادٍ إِلَّا صَارَ حَيًّا. وَقَرَأَ حمزة والكسائي والأعمش وخلف ما لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يُخَاطِبَ مُوسَى بِذَلِكَ، وَيَدَّعِيَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مُوسَى، وَقُرِئَ بِضَمِّ الصَّادِ فِيهِمَا وَبِكَسْرِهَا فِي الْأَوَّلِ وَفَتْحِهَا فِي الثَّانِي، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فَقَبَصْتُ قَبْصَةً بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَبْضَ بِالْمُعْجَمَةِ: هُوَ الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ، وَبِالْمُهْمَلَةِ: بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَالْقُبْضَةُ بِضَمِّ الْقَافِ: الْقَدْرُ الْمَقْبُوضُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ مَا قَبَضْتُ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: وَرُبَّمَا جَاءَ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ قُرِئَ قَبْضَةً بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِهَا، وَمَعْنَى الْفَتْحِ الْمَرَّةُ مِنَ الْقَبْضِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْمَقْبُوضِ وَهُوَ مَعْنَى الْقُبْضَةِ بِضَمِّ الْقَافِ، وَمَعْنَى مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ حَافِرُ فَرَسِ جِبْرِيلَ، وَمَعْنَى فَنَبَذْتُها فَطَرَحْتُهَا فِي الْحُلِيِّ الْمُذَابَةِ الْمَسْبُوكَةِ عَلَى صُورَةِ الْعِجْلِ وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ: زَيَّنَتْ أَيْ: وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّسْوِيلِ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَقِيلَ: مَعْنَى سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي: حدّثني نَفْسِي، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى مِنْهُ ذَلِكَ قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ أَيْ: فَاذْهَبْ مِنْ بَيْنِنَا، وَاخْرُجْ عَنَّا، فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَيْ: مَا دمت حيا، وطول حَيَاتِكَ، أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ. الْمِسَاسُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُمَاسَّةِ أَيْ: لَا يَمَسُّكَ أَحَدٌ وَلَا تَمَسُّ أَحَدًا، لَكِنْ لَا بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ مِنْكَ،
__________
(1) . الأعراف: 142.
(2) . الأعراف: 150.(3/452)
بَلْ بِمُوجِبِ الِاضْطِرَارِ الْمُلْجِئِ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَنْفِيَ السَّامِرِيَّ عَنْ قَوْمِهِ، وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يُخَالِطُوهُ وَلَا يَقْرَبُوهُ وَلَا يُكَلِّمُوهُ عُقُوبَةً لَهُ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى ذَلِكَ هَرَبَ، فَجَعَلَ يَهِيمُ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ السِّبَاعِ وَالْوَحْشِ لَا يَجِدُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَمَسُّهُ، حَتَّى صَارَ كَمَنْ يَقُولُ لَا مِسَاسَ لِبُعْدِهِ عَنِ النَّاسِ وَبُعْدِ النَّاسِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
حَمَّالُ رَايَاتٍ بِهَا قَنَاعِسًا ... حَتَّى تَقُولَ الْأُزْدُ لَا مَسَايِسًا
قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُسِرَتِ السِّينُ لِأَنَّ الْكَسْرَةَ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: وَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ لَا مِسَاسَ مِثْلُ قِطَامِ فَإِنَّمَا بُنِيَ عَلَى الْكَسْرِ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْمَسُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ الْمُبَرِّدَ يَقُولُ: إِذَا اعْتَلَّ الشَّيْءُ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ وَجَبَ أَنْ يُبْنَى، وَإِذَا اعْتَلَّ مِنْ جِهَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ، لِأَنَّهُ ليس بعد الصرف إلا البناء، فمساس ودراك اعْتَلَّ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: مِنْهَا أَنَّهُ مَعْدُولٌ، ومنها أنه مؤنث، وَمِنْهَا أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، فَلَمَّا وَجَبَ الْبِنَاءُ فِيهِ وَكَانَتِ الْأَلِفُ قَبْلَ السِّينِ سَاكِنَةً كُسِرَتِ السِّينُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَعْنِي الزَّجَّاجَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ، وَأَلْزَمَ أَبَا الْعَبَّاسِ: إِذَا سُمِّيَتِ امْرَأَةٌ بِفِرْعَوْنَ: أَنْ يَبْنِيَهُ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. وَقَدْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَبُو حَيْوَةَ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. وَحَاصِلُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى لَا مِسَاسَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِ مُمَاسَّةَ النَّاسِ، وَكَانَ إِذَا مَاسَّهُ أَحَدٌ حُمَّ الْمَاسُّ وَالْمَمْسُوسُ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَصِيحُ إِذَا رَأَى أَحَدًا:
لَا مِسَاسَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ مُخَالَطَتِهِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَارَ مَهْجُورًا فَلَا يَقُولُ هُوَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْحِكَايَةُ، أَيْ: أَجْعَلُكَ يَا سَامِرِيُّ بِحَيْثُ إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْ حَالِكِ قُلْتَ لَا مِسَاسَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ انْقِطَاعُ نَسْلِهِ، وَأَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُمَاسَّةِ الْمَرْأَةِ، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ أَيْ: لَنْ يُخْلِفَكَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَوْعِدَ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَوْعِدُ مَصْدَرٌ، أَيْ: إِنَّ لَكَ وَعْدًا لِعَذَابِكَ، وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: يُكَافِئُكَ اللَّهُ عَلَى مَا فَعَلْتَ فِي الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْيَزِيدِيُّ وَالْحَسَنُ «لَنْ تُخْلِفَهُ» بِكَسْرِ اللَّامِ، وَلَهُ على هذا الْقِرَاءَةِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: سَتَأْتِيهِ وَلَنْ تَجِدَهُ مُخْلِفًا، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدْتُهُ، أَيْ: وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا. وَالثَّانِي: عَلَى التَّهْدِيدِ، أَيْ: لَا بُدَّ لَكَ مِنْ أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَنْ نُخْلِفَهُ بِالنُّونِ أَيْ: لَنْ يُخْلِفَهُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَبِالْفَوْقِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، مَعْنَاهُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً ظَلْتَ أَصْلُهُ ظَلِلْتَ، فَحُذِفَتِ اللَّامُ الْأُولَى تَخْفِيفًا، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا. وَقَرَأَ الأعمش باللامين عَلَى الْأَصْلِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ظَلْتَ بِكَسْرِ الظَّاءِ. وَالْمَعْنَى: انْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي دُمْتَ وَأَقَمْتَ عَلَى عِبَادَتِهِ، وَالْعَاكِفُ: الْمُلَازِمُ لَنُحَرِّقَنَّهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنْ حَرَّقَهُ يُحَرِّقُهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ مَنْ أَحْرَقَهُ يُحْرِقُهُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَشْهَبُ وَالْعُقَيْلِيُّ لَنُحَرِّقَنَّهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً، مِنْ حَرَقْتُ الشَّيْءَ أَحْرِقُهُ حَرْقًا إِذَا بَرَدْتَهُ وَحَكَكْتَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، أَيْ: لَنُبَرِّدَنَّهُ(3/453)
بِالْمَبَارِدِ، وَيُقَالُ لِلْمُبَرِّدِ الْمُحْرِقُ. وَالْقِرَاءَةُ الْأَوْلَى أَوْلَى، وَمَعْنَاهَا الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ، وَكَذَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، وقد جمع بين هذه القراءات الثلاث بِأَنَّهُ أَحْرَقَ، ثُمَّ بَرَّدَ بِالْمُبَرِّدِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «لَنَذْبَحَنَّهُ ثُمَّ لَنَحْرِقَنَّهُ» ، وَاللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً النَّسْفُ: نَفْضُ الشَّيْءِ لِيَذْهَبَ بِهِ الرِّيحُ. قَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ لَنَنْسِفَنَّهُ بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَالْمِنْسَفُ: مَا يُنْسَفُ بِهِ الطعام، وهو شيء متصوب الصَّدْرِ أَعْلَاهُ مُرْتَفِعٌ، وَالنُّسَافَةُ: مَا يَسْقُطُ مِنْهُ إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا هذا العجل الذي فتنكم بِهِ السَّامِرِيَّ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَسِعَ» بِكَسْرِ السِّينِ مُخَفَّفَةً.
وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ، وَانْتِصَابُ عِلْمًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ، أَيْ: وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ «وَسَّعَ» بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَفَتْحِهَا فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَكُونُ انْتِصَابُ عِلْمًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ فَاعِلٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَدْ مَرَّ نَحْوُ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ:
كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ خَبَرَ مُوسَى كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ أَيْ: مِنْ أَخْبَارِ الْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ لِتَكُونَ تَسْلِيَةً لَكَ وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِكَ، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: بَعْضُ أَخْبَارِ ذَلِكَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنُ، وَسُمِّيَ ذِكْرًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُوجِبَاتِ لِلتَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الشَّرَفُ كقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ثُمَّ تَوَعَّدَ سُبْحَانَهُ الْمُعْرِضِينَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ فَقَالَ:
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهُ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَا عَمِلَ بِمَا فِيهِ، وَقِيلَ:
أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ الْمُعْرِضَ عَنْهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا أَيْ: إِثْمًا عَظِيمًا وَعُقُوبَةً ثقيلة بسبب إعراضه خالِدِينَ فِيهِ فِي الْوِزْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ فِي جَزَائِهِ، وَانْتِصَابُ خَالِدِينَ عَلَى الْحَالِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أَيْ: بِئْسَ الْحِمْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أَيْ: سَاءَ لَهُمْ حِمْلًا وِزْرُهُمْ، وَاللَّامُ لِلْبَيَانِ كَمَا فِي هَيْتَ لَكَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ: أَمَرَهُ مُوسَى أَنْ يُصْلِحَ وَلَا يَتَّبِعَ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ. فَكَانَ مِنْ إِصْلَاحِهِ أَنْ يُنْكِرَ الْعِجْلَ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا في قوله: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
قَالَ:
لَمْ تَنْتَظِرْ قَوْلِي مَا أَنَا صَانِعٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ تَرْقُبْ ولم تَحْفَظْ قَوْلِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ قَالَ: عُقُوبَةٌ لَهُ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ قَالَ: لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً قَالَ: أَقَمْتَ لَنُحَرِّقَنَّهُ قَالَ بِالنَّارِ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ قَالَ:
لَنَذْرِيَنَّهُ فِي الْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ لَنُحَرِّقَنَّهُ خَفِيفَةٌ وَيَقُولُ: إِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لَا تُحْرَقُ بِالنَّارِ، بَلْ تُسْحَلُ بِالْمِبْرَدِ، ثُمَّ تُلْقَى عَلَى النَّارِ فَتَصِيرُ رَمَادًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ:
الْيَمِّ: الْبَحْرُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْيَمِّ: النَّهْرُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً قَالَ: مَلَأَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً قَالَ:(3/454)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وِزْراً قَالَ: إِثْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا يَقُولُ: بِئْسَ مَا حَمَلُوا.
[سورة طه (20) : الآيات 102 الى 112]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (106)
لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)
الظرف هو يَوْمَ يُنْفَخُ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ هُوَ اذْكُرْ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْفَخُ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو عَمْرٍو عَلَى قِرَاءَتِهِ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُ فَإِنَّهُ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ يُنْفَخُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْ إِسْرَافِيلُ، وَقَرَأَ أَبُو عِيَاضٍ فِي الصُّورِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، جَمْعُ صُورَةٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَقَرَأَ طَلْحَةَ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْحَسَنُ يُحْشَرُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مبنيا للمفعول، ورفع «المجرمون» وَهُوَ خِلَافُ رَسْمِ الْمُصْحَفِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُجْرِمِينَ الْمُشْرِكُونَ وَالْعُصَاةُ الْمَأْخُوذُونَ بِذُنُوبِهِمُ الَّتِي لَمْ يَغْفِرْهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِ يَوْمَئِذٍ يَوْمُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَانْتِصَابُ زُرْقًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ: زُرْقَ الْعُيُونِ، وَالزُّرْقَةُ: الْخُضْرَةُ فِي الْعَيْنِ كَعَيْنِ السِّنَّوْرِ، وَالْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِزُرْقَةِ العين، وقال الفرّاء زُرْقاً: أي عميا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: عِطَاشًا، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ لِأَنَّ سَوَادَ الْعَيْنِ يَتَغَيَّرُ بِالْعَطَشِ إِلَى الزُّرْقَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَنَّى بِقَوْلِهِ زُرْقًا عَنِ الطَّمَعِ الْكَاذِبِ إِذَا تَعَقَّبَتْهُ الْخَيْبَةُ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شخوص البصر من شدّة الخوف، ومنه قول الشاعر:
لقد زرقت عيناك يا ابن مُعَكْبَرٍ ... كَمَا كُلُّ ضَبِيٍّ مِنَ اللُّؤْمِ أَزْرَقٌ
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «1» مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ حَالَاتٍ وَمَوَاطِنَ تَخْتَلِفُ فِيهَا صِفَاتُهُمْ، وَيَتَنَوَّعُ عِنْدَهَا عَذَابُهُمْ، وَجُمْلَةُ يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا هُمْ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْخَفْتُ فِي اللُّغَةِ: السُّكُونُ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ خَفَضَ صَوْتَهُ: خَفَتَهُ. وَالْمَعْنَى يَتَسَارَرُونَ، أَيْ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سِرًّا إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَشْرَ لَيَالٍ، وَقِيلَ: فِي الْقُبُورِ، وقيل: بين النفختين.
والمعنى: أنهم يستقصرون مُدَّةَ مَقَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْقُبُورِ، أَوْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ لِشِدَّةِ مَا يَرَوْنَ مِنْ أهوال
__________
(1) . الإسراء: 97.(3/455)
الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَشْرِ عَشْرُ سَاعَاتٍ. ثُمَّ لَمَّا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أَيْ: أَعْدَلُهُمْ قَوْلًا، وَأَكْمَلُهُمْ رَأْيًا، وَأَعْلَمُهُمْ عِنْدَ نَفْسِهِ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَنِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَمْثَلِهِمْ لِكَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى شِدَّةِ الهول، لا لكونه أقرب إلى الصدق وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ أَيْ: عَنْ حَالِ الْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ:
يَقْلَعُهَا قَلْعًا مِنْ أُصُولِهَا، ثُمَّ يُصَيِّرُهَا رَمْلًا يَسِيلُ سَيْلًا، ثُمَّ يُسَيِّرُهَا كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ تُطَيِّرُهَا الرِّيَاحُ هَكَذَا وَهَكَذَا، ثُمَّ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ لجواب شَرْطٌ مُقَدَّرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ سَأَلُوكَ فَقُلْ، أَوْ لِلْمُسَارَعَةِ إِلَى إِلْزَامِ السَّائِلِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَيَذَرُها رَاجِعٌ إِلَى الْجِبَالِ بِاعْتِبَارِ مَوَاضِعِهَا، أَيْ:
فَيَذْرُ مَوَاضِعَهَا بَعْدَ نَسْفِ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ قَاعًا صَفْصَفاً قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: القاع الصفصف:
الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء، وقال الفراء: القاع: مستنقع الماء، والصفصف: القرعاء الْمَلْسَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْقَاعُ: الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ، وَالْجَمْعُ: أَقْوُعٌ وَأَقْوَاعٌ وَقِيعَانٌ. وَالظَّاهِرُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْقَاعَ: الْمَوْضِعُ الْمُنْكَشِفُ، وَالصَّفْصَفُ: الْمُسْتَوِي الْأَمْلَسُ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
وَكَمْ دُونَ بَيْتِكَ مِنْ صَفْصَفٍ ... وَدَكْدَاكِ رَمْلٍ وَأَعْقَادِهَا «1»
وَانْتِصَابُ قَاعًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَذْرُ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، وَالصَّفْصَفُ صِفَةٌ لَهُ، وَمَحَلُّ لَا تَرى فِيها عِوَجاً النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِقَاعًا، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْجِبَالِ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، وَالْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ التَّعَوُّجُ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَالْأَمْتُ: التِّلَالُ الصِّغَارُ، وَالْأَمْتُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَقِيلَ: الْعِوَجُ: الْمَيْلُ، وَالْأَمْتُ: الْأَثَرُ، مِثْلُ الشِّرَاكِ، وَقِيلَ: الْعِوَجُ: الْوَادِي، وَالْأَمْتُ: الرَّابِيَةُ، وَقِيلَ:
هما الارتفاع، وقيل: العوج: الصدوع، وَالْأَمْتُ: الْأَكَمَةُ، وَقِيلَ: الْأَمْتُ: الشُّقُوقُ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ:
الْأَمْتُ: أَنْ يَغْلُظَ فِي مَكَانٍ وَيَدِقَّ فِي مَكَانٍ، وَوَصَفُ مَوَاضِعِ الْجِبَالِ بِالْعِوَجِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ هَاهُنَا يَدْفَعُ مَا يُقَالُ:
إِنَّ الْعِوَجَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي وَبِفَتْحِهَا فِي الْأَعْيَانِ، وَقَدْ تَكَلَّفَ لِذَلِكَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا عَنْهُ غِنًى، وَفِي غَيْرِهِ سَعَةٌ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ أَيْ: يَوْمَ نَسْفِ الْجِبَالِ يَتَّبِعُ النَّاسُ دَاعِيَ اللَّهِ إِلَى الْمَحْشَرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي صَوْتَ الْحَشْرِ، وَقِيلَ: الدَّاعِي هُوَ إِسْرَافِيلُ إِذَا نَفَخَ فِي الصُّورِ لَا عِوَجَ لَهُ، أَيْ: لَا مَعْدِلَ لَهُمْ عَنْ دُعَائِهِ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَزِيغُوا عَنْهُ، أَوْ يَنْحَرِفُوا مِنْهُ، بَلْ يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقِيلَ: لَا عِوَجَ لِدُعَائِهِ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ أَيْ: خَضَعَتْ لهيبته، وقيل:
ذلت، وقيل: سكتت، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ:
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والجبال الخشّع
__________
(1) . البيت للأعشى.
«الدكداك» : الرمل المستوي. «الأعقاد» : المنعقد من الرمل المتراكب.(3/456)
فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً الْهَمْسُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ صَوْتُ نَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا يَعْنِي صَوْتَ أَخْفَافِ الْإِبِلِ.
وَقَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ نَفْسَهُ:
لَيْثٌ يَدُقُّ الْأَسَدَ الْهَمُوسَا ... والأقهبين «1» الْفِيلَ وَالْجَامُوسَا
يُقَالُ لِلْأُسْدِ: الْهَمُوسُ، لِأَنَّهُ يَهْمِسُ في الظلمة، أي: يطأ وطأ خفيا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا كُلُّ صَوْتٍ خَفِيٍّ سَوَاءٌ كَانَ بِالْقَدَمِ، أَوْ مِنَ الْفَمِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «فَلَا يَنْطِقُونَ إِلَّا هَمْسًا» يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أَيْ: يَوْمَ يَقَعُ مَا ذَكَرَ لَا تنفع الشفاعة من شافع كائنا من كَانَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ أَيْ: إِلَّا شَفَاعَةَ مِنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أَيْ: رَضِيَ قَوْلَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، أَوْ رَضِيَ لِأَجْلِهِ قَوْلَ الشَّافِعِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي أَنْ يُشْفَعَ لَهُ، وَكَانَ لَهُ قَوْلٌ يُرْضَى، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» ، وَقَوْلُهُ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «3» ، وقوله: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «4» . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أَيْ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ هُنَا جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، أَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَعْبُدَهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهَا وَمَا خَلْفَهَا وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أَيْ: بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا تُحِيطُ عُلُومُهُمْ بِذَاتِهِ، وَلَا بِصِفَاتِهِ، وَلَا بِمَعْلُومَاتِهِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أَيْ: ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى عَنَتْ فِي اللُّغَةِ خَضَعَتْ، يقال:
عنا يَعْنُو عَنْوًا إِذَا خَضَعَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ: عَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ
وَقِيلَ هُوَ مِنَ الْعَنَاءِ، بِمَعْنَى التَّعَبِ. وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أَيْ: خَسِرَ مِنْ حَمَلَ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ، وَقِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أَيِ: الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ إِيمَانٍ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ فَلا يَخافُ ظُلْماً يُصَابُ بِهِ مِنْ نَقْصِ ثَوَابٍ فِي الْآخِرَةِ وَلا هَضْماً الْهَضْمُ: النَّقْصُ وَالْكَسْرُ، يُقَالُ هَضَمْتُ لَكَ مِنْ حَقِّي، أَيْ: حَطَطْتُهُ وَتَرَكْتُهُ، وَهَذَا يَهْضِمُ الطَّعَامَ، أَيْ: يُنْقِصُ ثِقَلَهُ، وَامْرَأَةٌ هَضِيمُ الْكَشْحِ، أَيْ: ضَامِرَةُ الْبَطْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَمُجَاهِدٌ «لَا يَخَفْ» بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَخافُ عَلَى الْخَبَرِ.
__________
(1) . سمّي الفيل والجاموس أقهبين للونهما وهو الغبرة.
(2) . الأنبياء: 28.
(3) . مريم: 87.
(4) . المدثر: 48.(3/457)
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَقَالَ: رَأَيْتَ قَوْلَهُ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً وَأُخْرَى عُمْياً «1» قَالَ: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيهِ حَالَاتٌ يَكُونُونَ فِي حَالٍ زُرْقًا، وَفِي حَالٍ عُمْيًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ قَالَ: يَتَسَارَرُون. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شيبة وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً قَالَ: أَوْفَاهُمْ عَقْلًا، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: أَعْلَمُهُمْ في نفسه. وأخرج ابن المنذر وابن جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ: كَيْفَ يَفْعَلُ رَبُّكَ بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً قَالَ: لَا نَبَاتَ فِيهِ لَا تَرى فِيها عِوَجاً قَالَ: وَادِيًا وَلا أَمْتاً قَالَ: رَابِيَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هِيَ الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا رَابِيَةٌ مُرْتَفِعَةٌ وَلَا انْخِفَاضٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِوَجاً قَالَ: مَيْلًا وَلا أَمْتاً قَالَ: الْأَمْتُ:
الْأَثَرُ، مِثْلُ الشِّرَاكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلْمَةٍ تَطْوِي السَّمَاءَ، وَتَتَنَاثَرُ النُّجُومُ، وَتَذْهَبُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَيُنَادِي مُنَادٍ فَيَتَّبِعُ الناس الصوت يؤمّونه، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي الْآيَةِ: قَالَ: لَا عِوَجَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ قال: سكتت فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً قَالَ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا هَمْساً قَالَ: صَوْتُ وَطْءِ الْأَقْدَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سِرُّ الْحَدِيثِ وَصَوْتُ الْأَقْدَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ قَالَ: ذَلَّتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَشَعَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: خَضَعَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ: الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً قَالَ: شِرْكًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً قَالَ: شِرْكًا فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً قَالَ: ظُلْماً أَنْ يُزَادَ فِي سَيِّئَاتِهِ وَلا هَضْماً قَالَ: يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: لَا يَخَافُ أَنْ يُظْلَمَ فِي سَيِّئَاتِهِ، وَلَا يُهْضَمَ فِي حَسَنَاتِهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَلا هَضْماً قَالَ:
غَصَبًا.
__________
(1) . هي في قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً [الإسراء: 97] .(3/458)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
[سورة طه (20) : الآيات 113 الى 122]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117)
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122)
قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ مَعْطُوفٌ على قوله: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ أَنْزَلْنَاهُ، أَيِ: الْقُرْآنَ حَالَ كَوْنِهِ قُرْآناً عَرَبِيًّا أَيْ: بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِيَفْهَمُوهُ وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ بَيَنَّا فِيهِ ضُرُوبًا مِنَ الْوَعِيدِ تَخْوِيفًا وَتَهْدِيدًا، أَوْ كَرَّرْنَا فِيهِ بَعْضًا مِنْهُ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ: كَيْ يَخَافُوا اللَّهَ فَيَتَجَنَّبُوا مَعَاصِيَهُ، وَيَحْذَرُوا عِقَابَهُ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أَيِ: اعْتِبَارًا وَاتِّعَاظًا، وَقِيلَ: وَرَعًا، وَقِيلَ:
شَرَفًا، وَقِيلَ: طَاعَةً وَعِبَادَةً لِأَنَّ الذِّكْرَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «أَوْ نُحْدِثُ» بالنون فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَمَّا بَيَّنَ لِلْعِبَادِ عَظِيمَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَيْ:
جَلَّ اللَّهُ عَنْ إِلْحَادِ الْمُلْحِدِينَ وَعَمَّا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ فِي صِفَاتِهِ، فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الَّذِي بِيَدِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ أَيْ ذُو الْحَقِّ. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أَيْ: يُتَمُّ إِلَيْكَ وَحْيُهُ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَادِرُ جِبْرِيلَ فَيَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ جِبْرِيلُ مِنَ الْوَحْيِ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى مَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
«1» عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تُلْقِهِ إِلَى النَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ بَيَانُ تَأْوِيلِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَيَعْقُوبُ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَقْضِيَ» بِالنُّونِ ونصب وحيه وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي: سَلْ رَبَّكَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِكِتَابِهِ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَالْجُمْلَةُ مستأنفة مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَصْرِيفِ الْوَعِيدِ، أَيْ: لَقَدْ أَمَرْنَاهُ وَوَصَّيْنَاهُ، وَالْمَعْهُودُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي مِنْ نَهْيِهِ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَنَسِيَ قَرَأَ الْأَعْمَشُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالنِّسْيَانِ هَنَا: تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا وَقَعَ بِهِ العهد إليه فيه، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقِيلَ: النِّسْيَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهُ نَسِيَ مَا عَهِدَ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِ وَيَنْتَهِي عَنْهُ، وَكَانَ آدَمُ مَأْخُوذًا بِالنِّسْيَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ النِّسْيَانُ مَرْفُوعًا عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَسْلِيَةُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. أَيْ: أَنَّ طَاعَةَ بَنِي آدَمَ لِلشَّيْطَانِ أَمْرٌ قَدِيمٌ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ إِنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ فَقَدْ نَقَضَ أَبُوهُمْ آدَمُ، كَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقُشَيْرِيُّ، واعترضه ابن عطية قائلا بأن كون
__________
(1) . القيامة: 16.(3/459)
آدَمَ مُمَاثِلًا لِلْكُفَّارِ الْجَاحِدِينَ بِاللَّهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقُرِئَ فَنُسِّيَ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ مَكْسُورَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: فَنَسَّاهُ إِبْلِيسُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً الْعَزْمُ فِي اللُّغَةِ: تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ، وَالْمُضِيُّ عَلَى الْمُعْتَقَدِ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَقَدْ كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَصَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا وَسْوَسَ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ لَانَتْ عَرِيكَتُهُ، وَفَتَرَ عَزْمُهُ، وَأَدْرَكَهُ ضَعْفُ الْبَشَرِ وَقِيلَ: الْعَزْمُ الصَّبْرُ، أَيْ: لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ عَزْمٌ، أَيْ: صَبْرٌ وَثَبَاتٌ عَلَى التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنه: كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا عَلَى الذنب، وبه قال ابن كيسان، وقيل: ولم نَجِدْ لَهُ رَأْيًا مَعْزُومًا عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي كَيْفِيَّةِ ظُهُورِ نِسْيَانِهِ وَفِقْدَانِ عَزْمِهِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ مقدّر، أي: وَاذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وَتَعْلِيقُ الذِّكَرِ بِالْوَقْتِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِذِكْرِ الْوَقْتِ كَانَ ذِكْرُ مَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ لَازِمًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى، وَمَعْنَى فَتَشْقى فَتَتْعَبُ فِي تَحْصِيلِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمَعَاشِ كَالْحَرْثِ وَالزَّرْعِ، وَلَمْ يَقُلْ فَتَشْقَيَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ مَعَ آدَمَ وَحْدَهُ، ثُمَّ عَلَّلَ مَا يُوجِبُهُ ذَلِكَ النَّهْيُ بِمَا فِيهِ الرَّاحَةُ الْكَامِلَةُ عَنِ التَّعَبِ وَالِاهْتِمَامِ فَقَالَ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى أَيْ: فِي الْجَنَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَكَ فِيهَا تَمَتُّعًا بِأَنْوَاعِ الْمَعَايِشِ وَتَنَعُّمًا بِأَصْنَافِ النِّعَمِ مِنَ الْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ وَالْمَلَابِسِ الْبَهِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى عَنْهُ الْجُوعَ وَالْعُرْيَ أَفَادَ ثُبُوتَ الشِّبَعِ وَالِاكْتِسَاءِ له، وهكذا قوله: وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى فَإِنَّ نَفْيَ الظَّمَأِ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَ الرَّيِّ وَوُجُودَ الْمَسْكَنِ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ مشقة الضحو. يقال ضحا الرجل يضحو ضَحْوًا إِذَا بَرَزَ لِلشَّمْسِ فَأَصَابَهُ حَرُّهَا، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا أَنَّهُ قَدْ كَفَاهُ الِاشْتِغَالَ بِأَمْرِ الْمَعَاشِ وَتَعَبِ الْكَدِّ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أُصُولَ الْمَتَاعِبِ فِي الدُّنْيَا هِيَ تَحْصِيلُ الشِّبَعِ وَالرَّيِّ وَالْكُسْوَةِ وَالْكِنِّ، وَمَا عَدَا هَذِهِ فَفَضَلَاتٌ يُمْكِنُ الْبَقَاءُ بِدُونِهَا، وَهُوَ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِآدَمَ أَنَّهُ إِنْ أَطَاعَهُ فَلَهُ فِي الْجَنَّةِ هَذَا كُلُّهُ، وَإِنْ ضَيَّعَ وَصِيَّتَهُ وَلَمْ يَحْفَظْ عَهْدَهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الدنيا، فيحلّ به التعب والنصب بما يَدْفَعُ الْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَالظَّمَأَ وَالضَّحْوَ، فَالْمُرَادُ بِالشَّقَاءِ شَقَاءُ الدُّنْيَا كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَا شَقَاءُ الْأُخْرَى. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ كَدِّ يَدَيْهِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا «وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ» بِفَتْحِ أَنْ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى «إِنَّ لَكَ» .
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أَيْ: أَنْهَى إِلَيْهِ وَسْوَسَتَهُ، وَجُمْلَةُ قالَ يَا آدَمُ إِلَى آخِرِهِ إِمَّا بَدَلٌ مَنْ وَسْوَسَ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
فَمَاذَا قال له في وسوسته؟ وشَجَرَةِ الْخُلْدِ هِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي مَنْ أَكْلَ مِنْهَا لَمْ يَمُتْ أَصْلًا وَمُلْكٍ لَا يَبْلى أَيْ: لَا يَزُولُ وَلَا يَنْقَضِي فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ فِي الْأَعْرَافِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَعْنَى «طَفِقَا» فِي الْعَرَبِيَّةِ: أَقْبَلَا، وَقِيلَ: جَعْلًا يُلْصِقَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ التِّينِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أَيْ: عَصَاهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَغَوَى، فَضَلَّ عَنِ الصَّوَابِ أَوْ عَنْ مَطْلُوبِهِ، وَهُوَ الْخُلُودُ بأكل تلك الشجرة، وقيل: فسد عليه عيشته بِنُزُولِهِ إِلَى الدُّنْيَا، وَقِيلَ: جَهِلَ مَوْضِعَ رُشْدِهِ،(3/460)
وَقِيلَ: بُشِمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا بِاسْتِزْلَالِ إِبْلِيسَ وَخَدَائِعِهِ إِيَّاهُ، وَالْقَسَمُ لَهُ بالله إنه لَمِنَ النَّاصِحِينَ، حَتَّى دَلَّاهُ بِغُرُورٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَنْبُهُ عَنِ اعْتِقَادٍ مُتَقَدِّمٍ وَنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، فَنَحْنُ نَقُولُ: عَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، انْتَهَى. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخْبِرَ الْيَوْمَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ. قُلْتُ: لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ عَصَاهُ، وَكَمَا يُقَالُ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَمِمَّا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى:
عَصَى أَبُو الْعَالَمِ وَهُوَ الَّذِي ... مِنْ طِينَةٍ صَوَّرَهُ اللَّهُ
وَأَسْجَدَ الْأَمْلَاكَ مِنْ أَجْلِهِ ... وَصَيَّرَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ
أَغْوَاهُ إِبْلِيسُ فَمَنْ ذَا أَنَا الْمِسْ ... كِينُ إِنَّ إِبْلِيسَ أَغْوَاهُ
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أَيِ: اصْطَفَاهُ وَقَرَّبَهُ. قَالَ ابْنُ فُورَكَ: كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ آدَمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِدَلِيلِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الِاجْتِبَاءَ وَالْهِدَايَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَجَائِزٌ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ وَجْهًا وَاحِدًا فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى أَيْ: تَابَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَهَدَاهُ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى التَّوْبَةِ. قِيلَ: وَكَانَتْ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ هُوَ وَحَوَّاءُ بِقَوْلِهِمَا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» وَقَدْ مَرَّ وَجْهُ تَخْصِيصِ آدَمَ بِالذِّكْرِ دُونَ حَوَّاءَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ أَيِ: الْقُرْآنُ ذِكْراً قَالَ: جِدًّا وَوَرَعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ: لَا تَعْجَلْ حَتَّى نُبَيِّنَهُ لَكَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَطَمَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ، فجاءت إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ تَطْلُبُ قِصَاصًا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا الْقِصَاصَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ الْآيَةَ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتِ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «2» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْجَلْ الْآيَةَ قَالَ: لَا تَتْلُهُ عَلَى أَحَدٍ حَتَّى نُتِمَّهُ لَكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي التَّوْحِيدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ.
وأخرج عبد الغني بن سعيد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ أَنْ لَا تَقْرَبَ الشَّجَرَةَ فَنَسِيَ:
فَتَرَكَ عَهْدِي وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً قَالَ: حِفْظًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنْهُ أَيْضًا فَنَسِيَ فَتَرَكَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً يَقُولُ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَزْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عنه أيضا: أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى قَالَ: لَا يُصِيبُكَ فِيهَا عَطَشٌ وَلَا حَرٌّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، وَهِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حاجّ
__________
(1) . الأعراف: 23.
(2) . النساء: 34.(3/461)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
آدَمَ مُوسَى قَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَأَشْقَيْتَهُمْ بِمَعْصِيَتِكَ، قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، أَوْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحجّ آدم موسى» .
[سورة طه (20) : الآيات 123 الى 127]
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
قَوْلُهُ: قالَ اهْبِطا قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ، أَيِ: انْزِلَا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، خَصَّهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْهُبُوطِ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الْبَشَرِ، ثُمَّ عَمَّمَ الْخِطَابَ لَهُمَا وَلِذَرِّيَّتِهِمَا فَقَالَ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَاطَبَهُمَا فِي هَذَا وَمَا بَعْدَهُ خِطَابُ الْجَمْعِ لِأَنَّهُمَا مَنْشَأُ الْأَوْلَادِ. وَمَعْنَى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ تَعَادِيهِمْ فِي أَمْرِ الْمَعَاشِ وَنَحْوِهِ، فَيَحْدُثُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقِتَالُ وَالْخِصَامُ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى أَيْ: لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي أَيْ: عَنْ دِينِي، وَتِلَاوَةِ كِتَابِي، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَلَمْ يَتَّبِعْ هُدَايَ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أَيْ: فَإِنَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَعِيشَةً ضَنْكًا، أَيْ: عَيْشًا ضَيِّقًا.
يُقَالُ: مَنْزِلٌ ضَنْكٌ وَعَيْشٌ ضَنْكٌ، مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَمَا فَوْقَهُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ ... مِثْلِي إِذَا نَزَلُوا بِضَنْكِ الْمُنَزِلِ
وَقُرِئَ ضُنْكَى بِضَمِّ الضَّادِ عَلَى فُعْلَى. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ وَتَمَسَّكَ بِدِينِهِ أَنْ يَعِيشَ فِي الدُّنْيَا عَيْشًا هَنِيًّا غَيْرَ مَهْمُومٍ وَلَا مَغْمُومٍ وَلَا مُتْعِبٍ نَفْسَهُ، كما قال سبحانه: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «1» ، وَجَعَلَ لِمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هُدَاهُ وَأَعْرَضَ عَنْ دِينِهِ أَنْ يَعِيشَ عَيْشًا ضَيِّقًا وَفِي تَعَبٍ وَنَصَبٍ، وَمَعَ مَا يُصِيبُهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَتَاعِبِ، فَهُوَ فِي الْأُخْرَى أَشَدُّ تَعَبًا وَأَعْظَمُ ضِيقًا وَأَكْثَرُ نَصَبًا، وَذَلِكَ مَعْنَى وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى أَيْ: مَسْلُوبَ الْبَصَرِ، وَقِيلَ: المراد العمى عَنِ الْحُجَّةِ، وَقِيلَ: أَعْمَى عَنْ جِهَاتِ الْخَيْرِ لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَقَدْ قِيلَ: إن المراد بالمعيشة الضَّنْكَى عَذَابُ الْقَبْرِ، وَسَيَأْتِي مَا يُرَجِّحُ هَذَا وَيُقَوِّيهِ قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً فِي الدُّنْيَا قالَ كَذلِكَ أَيْ: مِثْلِ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَنْتَ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها أَيْ: أَعْرَضْتَ عَنْهَا، وَتَرَكْتَهَا، وَلَمْ تَنْظُرْ فِيهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أَيْ: مِثْلِ ذَلِكَ النِّسْيَانِ الَّذِي كُنْتَ فَعَلْتَهُ فِي الدُّنْيَا تُنْسَى، أَيْ: تُتْرَكُ فِي الْعَمَى وَالْعَذَابِ فِي النَّارِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ: إِنَّهُ يَخْرُجُ بَصِيرًا مِنْ قَبْرِهِ فَيَعْمَى فِي حَشْرِهِ وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ أي: مثل
__________
(1) . النحل: 97.(3/462)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِيهِ، وَالْإِسْرَافُ: الِانْهِمَاكُ فِي الشَّهَوَاتِ، وَقِيلَ: الشِّرْكُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بَلْ كَذَّبَ بِهَا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ أَيْ: أَفْظَعُ مِنَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكَى وَأَبْقى أَيْ: أَدْوَمُ وَأَثْبَتُ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ اتَّبَعَ كِتَابَ اللَّهِ هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ فِي الدُّنْيَا، وَوَقَاهُ سُوءَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَجَارَ اللَّهُ تَابِعَ الْقُرْآنِ مِنْ أَنْ يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا أَوْ يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قَالَ: لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وسعيد ابن مَنْصُورٍ، وَمُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ: مَعِيشَةً ضَنْكاً قَالَ: «عَذَابُ الْقَبْرِ» .
وَلَفَظُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: «يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه» . ولفظ ابن أبي حاتم قال: «ضمة القبر» .
وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قَالَ: «الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَى:
أَنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً يَنْهَشُونَ لَحْمَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رَفْعُهُ مُنْكَرٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قَالَ: «عَذَابُ الْقَبْرِ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ والطبراني وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قَالَ: عَذَابُ الْقَبْرِ، وَمَجْمُوعُ ما ذكرنا هنا يرجّح تَفْسِيرَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكَى بِعَذَابِ الْقَبْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ «عَذَابِ الْقَبْرِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ فَسَّرَ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَى بِالشَّقَاءِ. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قَالَ: عَمِيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا جَهَنَّمَ، وَفِي لَفْظٍ: لَا يُبْصِرُ إِلَّا النَّارَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ قَالَ: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ.
[سورة طه (20) : الآيات 128 الى 135]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)(3/463)
قَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا، وَفَاعِلُ يَهْدِ هُوَ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَأَنْكَرَ الْبَصْرِيُّونَ مِثْلَ هَذَا لِأَنَّ الْجُمَلَ لَا تَقَعُ فَاعِلًا، وَجَوَّزَهُ غَيْرُهُمْ. قَالَ الْقَفَّالُ: جَعَلَ كَثْرَةَ مَا أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ مُبَيَّنًا لَهُمْ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ كَمِ اسْتِفْهَامٌ، فَلَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمُ الْأَمْرُ بِإِهْلَاكِنَا مَنْ أَهْلَكْنَاهُ، وَحَقِيقَتُهُ تَدُلُّ عَلَى الْهُدَى، فَالْفَاعِلُ هُوَ الْهُدَى، وَقَالَ: كَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَهْلَكْنَا، وَقِيلَ: إِنَّ فَاعِلَ يَهْدِ ضَمِيرٌ لِلَّهِ أَوْ لِلرَّسُولِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ تُفَسِّرُهُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ:
أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِأَهْلِ مَكَّةَ خَبَرُ مَنْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ حَالَ كَوْنِ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ وَيَتَقَلَّبُونَ فِي دِيَارِهِمْ، أَوْ حَالَ كَوْنِ هَؤُلَاءِ يَمْشُونَ في مساكن القرون الذي أَهْلَكْنَاهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْمَعِيشَةِ فَيَرَوْنَ بِلَادَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ خَاوِيَةً خَارِبَةً مِنْ أَصْحَابِ الْحَجْرِ وَثَمُودَ وَقُرَى قَوْمِ لُوطٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اعْتِبَارَهُمْ لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ نَهْدِ بِالنُّونِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ، وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَتَقْرِيرٌ لِلْهِدَايَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى مَضْمُونِ كَمْ أَهْلَكْنَا إِلَى آخِرِهِ. وَالنُّهَى: جُمَعُ نُهْيَةٍ، وَهِيَ الْعَقْلُ: أَيْ لِذَوِي الْعُقُولِ الَّتِي تَنْهَى أَرْبَابَهَا عَنِ الْقَبِيحِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أَيْ: وَلَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ، وَهِيَ وَعْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِتَأْخِيرِ عَذَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ لَكانَ عِقَابُ ذُنُوبِهِمْ لِزاماً أَيْ: لَازِمًا لَهُمْ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمْ بِحَالٍ وَلَا يَتَأَخَّرُ. وَقَوْلُهُ: وَأَجَلٌ مُسَمًّى مَعْطُوفٌ عَلَى كَلِمَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَوْ يَوْمُ بَدْرٍ وَاللِّزَامُ مَصْدَرُ لَازَمَ، قِيلَ: وَيَجُوزُ عَطْفُ «وَأَجَلٌ مُسَمَّى» عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي كَانَ الْعَائِدِ إِلَى الْأَخْذِ الْعَاجِلِ الْمَفْهُومِ مِنَ السِّيَاقِ، تَنْزِيلًا لِلْفَصْلِ بِالْخَبَرِ مَنْزِلَةَ التَّأْكِيدِ، أَيْ: لَكَانَ الْأَخْذُ الْعَاجِلُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَازِمَيْنِ لَهُمْ كَمَا كَانَا لَازِمَيْنِ لِعَادٍ وَثَمُودَ، وَفِيهِ تَعَسُّفٌ ظَاهِرٌ.
ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَطَاعِنِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَحْتَفِلُ بِهِمْ فَإِنَّ لِعَذَابِهِمْ وَقْتًا مَضْرُوبًا لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ. وَقِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِهِ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: وَالْمُرَادُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَمَا يفيد قَوْلُهُ: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ غُرُوبِها فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ الْعَتَمَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْآنَاءِ: السَّاعَاتُ، وَهِيَ جَمْعُ إِنًى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ، وَهُوَ السَّاعَةُ، وَمَعْنَى فَسَبِّحْ أَيْ: فَصَلِّ وَأَطْرافَ النَّهارِ أَيِ:
الْمَغْرِبَ وَالظُّهْرَ لِأَنَّ الظُّهْرَ فِي آخِرِ طَرَفِ النَّهَارِ الْأَوَّلِ، وَأَوَّلِ طَرَفِ النَّهَارِ الْآخَرِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى(3/464)
صَلَاةِ الظُّهْرِ هِيَ بِقَوْلِهِ: وَقَبْلَ غُرُوبِها لِأَنَّهَا هِيَ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ، وَلَوْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَاةِ، بَلِ الْمُرَادُ التَّسْبِيحُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، أَيْ: قَوْلُ الْقَائِلِ سُبْحَانَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعِيدًا مِنَ الصواب، والتسبيح وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ، وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى إِلَّا لِقَرِينَةٍ تَصْرِفُ ذَلِكَ إِلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَجُمْلَةُ لَعَلَّكَ تَرْضى مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ فَسَبِّحْ، أَيْ: سَبِّحْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ رَجَاءَ أَنْ تَنَالَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا تَرْضَى بِهِ نَفْسُكَ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ تُرْضَى بِضَمِّ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ: يَرْتَضِيكَ رَبُّكَ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الحجر «1» . والمعنى: لا تطل نظر عينيك، و «أَزْواجاً» مفعول «متعنا» ، و «زهرة» مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: جَعَلْنَا أَوْ أَعْطَيْنَا، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي «بِهِ» بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ النَّصْبُ لَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، فَإِنَّهُ مَجْرُورٌ كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِهِ أَخَاكَ. وَرَجَّحَ الْفَرَّاءُ النَّصْبَ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُنْتَصِبَةً عَلَى الْمَصْدَرِ، مِثْلَ «صِبْغَةَ اللَّهِ» وَ «وَعَدَ اللَّهُ» وزَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا: زِينَتُهَا وَبَهْجَتُهَا بِالنَّبَاتِ وَغَيْرِهِ.
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ زَهْرَةَ بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَهِيَ نَوْرُ النَّبَاتِ، وَاللَّامُ فِي لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَتَّعْنَا، أَيْ: لِنَجْعَلَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ وَضَلَالَةً، ابْتِلَاءً مِنَّا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ «2» ، وقيل: لنعذبنهم، وَقِيلَ: لِنُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ فِي التَّكْلِيفِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى أَيْ: ثَوَابُ اللَّهِ، وَمَا ادَّخَرَ لِصَالِحِي عِبَادِهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا رَزَقَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ، وَهَذَا يَنْقَطِعُ، وَهُوَ مَعْنَى: وَأَبْقى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الرِّزْقِ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهِا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْخَيْرِيَّةِ الْمُحَقَّقَةَ وَالدَّوَامَ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ فِي الرِّزْقِ الْأُخْرَوِيِّ لَا الدُّنْيَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا طَيِّبًا: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «3» . وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَأْمُرَ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ بَيْتِهِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ أُمَّتِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ لَهُ بِالصَّلَاةِ، بَلْ قَصَرَ الْأَمْرَ عَلَى أَهْلِهِ، إِمَّا لِكَوْنِ إِقَامَتِهِ لَهَا أَمْرًا مَعْلُومًا، أَوْ لِكَوْنِ أَمْرِهِ بِهَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَوْ لِكَوْنِ أَمْرِهِ بِالْأَمْرِ لِأَهْلِهِ أَمْرًا له، ولهذا قال: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي: اصْبِرْ عَلَى الصَّلَاةِ، وَلَا تَشْتَغِلْ عَنْهَا بِشَيْءٍ من أمور الدنيا لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أَيْ: لَا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ نَفْسَكَ وَلَا أَهْلَكَ، وَتَشْتَغِلَ بِذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَنَرْزُقُهُمْ وَلَا نُكَلِّفُكَ ذَلِكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أَيِ: الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ، وَهِيَ الْجَنَّةُ لِأَهْلِ التَّقْوَى عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى هِيَ مَلَاكُ الْأَمْرِ، وَعَلَيْهَا تَدُورُ دَوَائِرُ الْخَيْرِ وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ: هَلَّا يَأْتِينَا مُحَمَّدٌ بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ، كَمَا كَانَ يَأْتِي بِهَا مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَذَلِكَ كَالنَّاقَةِ وَالْعَصَا، أَوْ هَلَّا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَدِ اقْتَرَحْنَاهَا عَلَيْهِ؟ فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى يُرِيدُ بالصحف
__________
(1) . الحجر: 88. [.....]
(2) . الكهف: 7.
(3) . النحل: 96.(3/465)
الْأُولَى التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَسَائِرَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِنُبُوَّتِهِ وَالتَّبْشِيرُ بِهِ، وَذَلِكَ يَكْفِي، فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِصِدْقِهَا وَصِحَّتِهَا، وَفِيهَا مَا يَدْفَعُ إِنْكَارَهُمْ لِنُبُوَّتِهِ، وَيُبْطِلُ تَعَنُّتَاتِهِمْ وَتَعَسُّفَاتِهِمْ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ إِهْلَاكُنَا لِلْأُمَمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاقْتَرَحُوا الْآيَاتِ، فَمَا يُؤَمِّنُهُمْ إِنْ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ كَحَالِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَوْ لَمْ تَأْتِهِمْ آيَةٌ هِيَ أُمُّ الْآيَاتِ وَأَعْظَمُهَا فِي بَابِ الْإِعْجَازِ يَعْنِي الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ بُرْهَانٌ لِمَا فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَحَفْصٌ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيِّنَةِ الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ، فَذَكَرُوا الْفِعْلَ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الْبَيِّنَةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ القراءة ابن عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَيَجُوزُ «بَيِّنَةٌ» بِالتَّنْوِينِ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِذَا نُوِّنَتْ بَيِّنَةٌ وَرُفِعَتْ جُعِلَتْ «مَا» بَدَلًا مِنْهَا، وَإِذَا نُصِبَتْ فَعَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى مُبَيَّنًا، وَهَذَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْجَوَازُ النَّحْوِيُّ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْقِرَاءَةُ بِهِ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أَيْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِ الْبَيِّنَةِ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ لَقالُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أَيْ: هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فِي الدُّنْيَا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الرَّسُولُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَنَخْزى بِدُخُولِ النَّارِ، وَقُرِئَ نَذِلَّ، وَنَخْزى عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ مَعْذِرَةَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ إِهْلَاكِهِمْ، وَلِهَذَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ «1» . قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ مُتَرَبِّصٌ، أَيْ: مُنْتَظِرٌ لِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، فَتَرَبَّصُوا أَنْتُمْ فَسَتَعْلَمُونَ عَنْ قَرِيبٍ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أَيْ: فَسَتَعْلَمُونَ بِالنَّصْرِ وَالْعَاقِبَةِ مَنْ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمَنِ اهْتَدى مِنَ الضلالة ونزع عن الغواية، و «من» فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْفَرَّاءُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَعْنَى مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ مَنْ لَمْ يَضِلَّ، وَإِلَى أَنَّ مَعْنَى مَنِ اهْتَدى مَنْ ضَلَّ ثُمَّ اهْتَدَى، وَقِيلَ: «مَنْ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَحُكِيَ عَنِ الزَّجَّاجَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ أَبُو رَافِعٍ «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ السَّوِيِّ عَلَى فِعْلَى، وَرُدَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّ تَأْنِيثَ الصِّرَاطِ شَاذٌّ، وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَسَطِ وَالْعَدْلِ، اه.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أَلَمْ نُبَيِّنْ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ نَحْوَ عَادٍ وَثَمُودَ وَمَنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى يَقُولُ: هَذَا مِنْ مَقَادِيمِ الْكَلَامِ، يَقُولُ: لَوْلَا كَلِمَةٌ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى:
الْكَلِمَةُ الَّتِي سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكانَ لِزاماً قَالَ: مَوْتًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عنه في قوله:
__________
(1) . الملك: 9.(3/466)
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ الْآيَةَ قَالَ: هِيَ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَالَ: «قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، وَقَرَأَ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ رُؤْبَةَ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَرَائِطِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «أَضَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا يُصْلِحُهُ، فَأَرْسَلَنِي إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَنْ بِعْنَا أَوْ سَلِّفْنَا دَقِيقًا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ، فَقَالَ: لَا إِلَّا بِرَهْنٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَمَّا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ، أَمِينٌ فِي الْأَرْضِ، وَلَئِنْ أَسْلَفَنِي أَوْ بَاعَنِي لَأَدَّيْتُ إِلَيْهِ، اذْهَبْ بِدِرْعِي الْجَدِيدِ، فَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآية:
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» كأنه يُعَزِّيهِ عَنِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِنَّ أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: بَرَكَاتُ الْأَرْضِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ النَّجَّارَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ:
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ كَانَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَجِيءُ إِلَى بَابِ عَلِيٍّ صَلَاةَ الْغَدَاةِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ يَقُولُ: «الصَّلَاةُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ» : إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ثَابِتٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَتْ أَهْلَهُ خَصَاصَةٌ نَادَى أَهْلَهُ: يَا أَهْلَاهُ صَلُّوا صَلُّوا» قَالَ ثَابِتٌ: وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، بِإِسْنَادٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ: صَحِيحٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَتْ بِأَهْلِهِ شِدَّةٌ أَوْ ضِيقٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَقَرَأَ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ الْآيَةَ.
__________
(1) . الأحزاب: 33.(3/467)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
سورة الأنبياء
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وهي مائة واثنتا عشرة آية.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَنُو إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأَوَّلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَكْرَمَ عَامِرٌ مَثْوَاهُ، وَكَلَّمَ فِيهِ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَقْطَعْتُ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَادِيًا مَا فِي الْعَرَبِ وَادٍ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْطَعَ لَكَ مِنْهُ قِطْعَةً تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ عَامِرٌ:
لَا حَاجَةَ لِي فِي قِطْعَتِكَ، نَزَلَتِ الْيَوْمَ سُورَةٌ أَذْهَلَتْنَا عَنِ الدُّنْيَا. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
يُقَالُ: قَرُبَ الشَّيْءُ وَاقْتَرَبَ، وَقَدِ اقْتَرَبَ الْحِسَابُ: أَيْ قَرُبَ الْوَقْتُ الَّذِي يُحَاسَبُونَ فِيهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
الْمَعْنَى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ وَقْتُ حِسابُهُمْ أَيِ: الْقِيَامَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «2» . وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ، وَتَقْدِيمُهَا هِيَ وَمَجْرُورِهَا عَلَى الْفَاعِلِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعَةِ، وَمَعْنَى اقْتِرَابِ وَقْتِ الْحِسَابِ:
دُنُوُّهُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَمَوْتُ كُلِّ إِنْسَانٍ قِيَامُ سَاعَتِهِ، وَالْقِيَامَةُ أَيْضًا قَرِيبَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، فَمَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا أَقَلُّ مِمَّا مَضَى، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْعُمُومُ. وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ: عَذَابُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أي: هم في
__________
(1) . قال القرطبي: يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن، كالمال التّلاد.
(2) . القمر: 1.(3/468)
غَفْلَةٍ بِالدُّنْيَا مُعْرِضُونَ عَنِ الْآخِرَةِ، غَيْرُ مُتَأَهِّبِينَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْقِيَامِ بِفَرَائِضِهِ، وَالِانْزِجَارِ عَنْ مَنَاهِيهِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِوَصْفِ الذِّكْرِ لِكَوْنِهِ مُحْدَثًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ لِأَنَّ الذِّكْرَ هُنَا هُوَ الْقُرْآنُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي حُدُوثِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ لِأَنَّهُ مُتَجَدِّدٌ فِي النُّزُولِ. فَالْمَعْنَى مُحْدَثٌ تَنْزِيلُهُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ:
أَعْنِي قِدَمَ الْقُرْآنِ وَحُدُوثَهُ قَدِ ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ فِي الدَّوْلَةِ الْمَأْمُونِيَّةِ وَالْمُعْتَصِمِيَّةِ وَالْوَاثِقِيَّةِ، وَجَرَى لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مَا جَرَى مِنَ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَالْحَبْسِ الطَّوِيلِ، وَضُرِبَ بِسَبَبِهَا عُنُقُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْخُزَاعِيِّ، وَصَارَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا بَعْدَهُ، وَالْقِصَّةُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَتِهَا طَالَعَ تَرْجَمَةَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ «النُّبَلَاءِ» لِمُؤَرِّخِ الْإِسْلَامِ الذَّهَبِيِّ. وَلَقَدْ أَصَابَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ بِامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَحُدُوثِهِ، وَحَفِظَ اللَّهُ بِهِمْ أُمَّةَ نَبِيِّهِ عَنِ الِابْتِدَاعِ، وَلَكِنَّهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى الْجَزْمِ بِقِدَمِهِ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَفَّرُوا مَنْ قَالَ بِالْحُدُوثِ، بَلْ جَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ قال لفظي: القرآن مخلوق، بَلْ جَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ وَقَفَ، وَلَيْتَهُمْ لَمْ يُجَاوِزُوا حَدَّ الْوَقْفِ وَإِرْجَاعِ الْعِلْمِ إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى وَقْتِ قِيَامِ الْمِحْنَةِ وَظُهُورِ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَا نُقِلَ عَنْهُمْ كَلِمَةٌ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا دَعَوْا إِلَيْهِ، وَالتَّمَسُّكُ بِأَذْيَالِ الْوَقْفِ، وَإِرْجَاعِ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَى عَالِمِهِ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى، وَفِيهِ السَّلَامَةُ وَالْخُلُوصُ مِنْ تَكْفِيرِ طَوَائِفَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا مِنْ فَاعِلِ استمعوه، ولاهِيَةً قُلُوبُهُمْ حَالٌ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي الِاسْتِمَاعِ مَعَ اللَّعِبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَلَهْوَةِ الْقُلُوبِ، وَقُرِئَ «لَاهِيَةٌ» بِالرَّفْعِ، كَمَا قُرِئَ «مُحْدَثٌ» بِالرَّفْعِ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا النَّجْوَى: اسْمٌ مِنَ التَّنَاجِي، وَالتَّنَاجِي لَا يَكُونُ إِلَّا سِرًّا، فَمَعْنَى إِسْرَارِ النَّجْوَى: الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِخْفَاءِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ الْمَوْصُولِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي «أَسَرُّوا» ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الذَّمِّ وَقِيلَ: هُوَ فَاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ:
يَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ خَفْضٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُبَرِّدُ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ «أَسَرُّوا» عَلَى لُغَةِ مَنْ يُجَوِّزُ الْجَمْعَ بَيْنَ فَاعِلِينَ، كَقَوْلِهِمْ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ، وَمِثْلُهُ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ومنه قول الشاعر:
................
فاهتدين النّبال للأغراض «1»
__________
(1) . وصدره: بك نال النّضال دون المساعي.(3/469)
وقول الآخر «1» :
ولكن ديافيّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ... بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهُ «2»
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا أَسَرُّوا النَّجْوَى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَسَرُّوا هُنَا مِنَ الْأَضْدَادِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَخْفَوْا كَلَامَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَظْهَرُوهُ وَأَعْلَنُوهُ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ قَبْلَهَا، أَيْ: قَالُوا هَلْ هَذَا الرَّسُولُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلَكُمْ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْكُمْ بِشَيْءٍ؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنَ النَّجْوَى، وَهَلْ بِمَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ: وَأَسَرُّوا هَذَا الْحَدِيثَ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَنَظَائِرِهِ، وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانَ بَشَرًا مِثْلَكُمْ، وَكَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ سِحْرًا، فَكَيْفَ تُجِيبُونَهُ إِلَيْهِ وَتَتَّبِعُونَهُ، فَأَطْلَعَ الله نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَنَاجَوْا بِهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُقَالُ فِيهِمَا، وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ «قَالَ رَبِّي» أَيْ:
قَالَ مُحَمَّدٌ: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا تَنَاجَيْتُمْ بِهِ. قِيلَ: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُمْ أَسَرُّوا هَذَا الْقَوْلَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ وَهُوَ السَّمِيعُ لِكُلِّ مَا يَسْمَعُ الْعَلِيمُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا أَسَرُّوا دُخُولًا أَوَّلِيًّا بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: قَالُوا الَّذِي تَأْتِي بِهِ أَضْغَاثُ أحلام. قال القتبي: أَضْغَاثُ الْأَحْلَامِ:
الرُّؤْيَا الْكَاذِبَةُ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ: الْأَضْغَاثُ: مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ، وَهَذَا إِضْرَابٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حِكَايَةٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ، وَانْتِقَالٌ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِهِمُ السَّابِقِ إِلَى حِكَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ إِضْرَابَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ:
أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، قَالَ: بَلِ افْتَراهُ أَيْ: بَلْ قَالُوا افْتَرَاهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَضْرَبُوا عَنْ هَذَا، وَقَالُوا: بَلْ هُوَ شاعِرٌ وَمَا أَتَى بِهِ مِنْ جِنْسِ الشِّعْرِ، وَفِي هَذَا الِاضْطِرَابِ مِنْهُمْ، وَالتَّلَوُّنِ وَالتَّرَدُّدِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ، لَا يَدْرُونَ مَا هُوَ وَلَا يَعْرِفُونَ كُنْهَهُ؟ أَوْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَرَادُوا أَنْ يَدْفَعُوهُ بِالصَّدْرِ، وَيَرْمُوهُ بِكُلِّ حَجَرٍ وَمَدَرٍ، وَهَذَا شَأْنُ مَنْ غَلَبَتْهُ الْحُجَّةُ وَقَهَرَهُ الْبُرْهَانُ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ، قَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ وَهَذَا جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قُلْنَا فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أَيْ: كَمَا أُرْسِلَ مُوسَى بِالْعَصَا وَغَيْرِهَا، وَصَالِحٌ بِالنَّاقَةِ، وَمَحَلُّ الْكَافِ الْجَرُّ صِفَةً لِآيَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَكَانَ سُؤَالُهُمْ هَذَا سُؤَالَ تَعَنُّتٍ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَكْفِي، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِذَا أَعْطَاهُمْ مَا يَقْتَرِحُوهُ لَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ «3» . قَالَ الزَّجَّاجُ: اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَقَعُ معها إمهال، فقال الله مجيبا لهم:
__________
(1) . هو الفرزدق.
(2) . «دياف» : موضع بالجزيرة، وهم نبط الشام. «السليط» : الزيت.
(3) . الأنفال: 22.(3/470)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَيْ: قَبْلَ مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَمَعْنَى «مِنْ قَرْيَةٍ» مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، وَوَصَفَ الْقَرْيَةَ بِقَوْلِهِ:
أَهْلَكْناها أَيْ: أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا، أَوْ أَهْلَكْنَاهَا بِإِهْلَاكِ أَهْلِهَا، وَفِيهِ بَيَانٌ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ أَنَّ الْمُقْتَرِحِينَ إِذَا أُعْطُوا مَا اقْتَرَحُوهُ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة، و «من» فِي «مِنْ قَرْيَةٍ» مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْمَعْنَى: مَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ مِنَ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا بِسَبَبِ اقْتِرَاحِهِمْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ، فَكَيْفَ نُعْطِيهِمْ مَا يَقْتَرِحُونَ، وَهُمْ أُسْوَةُ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تُؤْمِنْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ عِنْدَ إِعْطَاءِ مَا اقْتَرَحُوا، فَكَيْفَ يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ لَوْ أُعْطُوا مَا اقْتَرَحُوا، ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْلِهِمْ: «هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ أَيْ: لَمْ نُرْسِلْ قَبْلَكَ إِلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ إِلَّا رِجَالًا مِنَ الْبَشَرِ، وَلَمْ نُرْسِلْ إِلَيْهِمْ مَلَائِكَةً، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «1» وجملة «نُوحِي إِلَيْهِمْ» مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِرْسَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تكون صفة ل «رجالا» ، أَيْ: مُتَّصِفِينَ بِصِفَةِ الْإِيحَاءِ إِلَيْهِمْ. قَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نُوحِي بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ «يوحى» . ثُمَّ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كانوا يجهلون هذا، فقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَأَهْلُ الذِّكْرِ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَعْنَى «إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» : إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ مِنَ الْبَشَرِ، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا ذُكِرَ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ جَائِزٌ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَلَوْ سَلِمَ لَكَانَ الْمَعْنَى سُؤَالَهُمْ عَنِ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا عَنِ الرَّأْيِ الْبَحْتِ، وَلَيْسَ التَّقْلِيدُ إِلَّا قَبُولَ قَوْلِ الْغَيْرِ دُونَ حُجَّتِهِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي رِسَالَةٍ بَسِيطَةٍ سَمَّيْنَاهَا «الْقَوْلَ الْمُفِيدَ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ» . ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَتِهِمْ أَكَّدَ كَوْنَ الرُّسُلِ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ فَقَالَ: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ أَيْ: أَنَّ الرُّسُلَ أُسْوَةٌ لِسَائِرِ أَفْرَادِ بَنِي آدَمَ فِي حُكْمِ الطَّبِيعَةِ، يأكلون كما يأكلون، ويشربون كما يشربون، وَالْجَسَدُ جِسْمُ الْإِنْسَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ وَاحِدٌ، يَعْنِي الْجَسَدَ يُنْبِئُ عَنْ جَمَاعَةٍ، أَيْ: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ ذَوِي أَجْسَادٍ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، فَجُمْلَةُ «لا يأكلون الطعام» صفة ل «جسدا» ، أَيْ: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْأَكْلِ، بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ وَما كانُوا خالِدِينَ بَلْ يَمُوتُونَ كَمَا يَمُوتُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَقَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الرُّسُلَ لَا يَمُوتُونَ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا، وَجُمْلَةُ ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ مَا أَوْحَيْنَا، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ، أَيْ: أَنْجَزْنَا وَعْدَهُمُ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ بِإِنْجَائِهِمْ وَإِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ إِنْجَاؤُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَإِهْلَاكُ مَنْ كَفَرَ بِالْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ، وَالْمُرَادُ بِ الْمُسْرِفِينَ الْمُجَاوِزُونَ لِلْحَدِّ فِي الكفر والمعاصي، وهم المشركون.
__________
(1) . الإسراء: 95.(3/471)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ قَالَ: «فِي الدُّنْيَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: «مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي: فعل الأحلام إنما هِيَ رُؤْيَا رَآهَا بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ كُلُّ هَذَا قَدْ كَانَ مِنْهُ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ كَمَا جَاءَ عِيسَى وَمُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ وَالرُّسُلِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَيْ: أَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا إِذَا جَاءُوا قَوْمَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَنْظُرُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ أهل مكة للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ مَا تَقُولَهُ حَقًّا، وَيَسُرُّكَ أَنْ نُؤْمِنَ، فَحَوِّلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ كَانَ الَّذِي سَأَلَكَ قَوْمُكَ، وَلَكِنَّهُ إِنْ كَانَ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يُنْظَرُوا، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَأْنَيْتَ بِقَوْمِكَ، قَالَ: «بَلْ أَسَتَأْنِي بِقَوْمِي» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ يَقُولُ: لَمْ نَجْعَلْهُمْ جَسَدًا لَيْسَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جسدا يأكلون الطعام.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 10 الى 25]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14)
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
نَبَّهَ عِبَادَهُ عَلَى عَظِيمِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً يَعْنِي القرآن فِيهِ ذِكْرُكُمْ صفة ل «كتابا» ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الشَّرَفُ، أَيْ: فِيهِ شَرَفُكُمْ، كقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» وَقِيلَ:
فِيهِ ذِكْرُكُمْ، أَيْ: ذِكْرُ أَمْرِ دِينِكُمْ، وَأَحْكَامِ شَرْعِكُمْ وَمَا تَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، وَقِيلَ: فِيهِ حَدِيثُكُمْ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: مَكَارِمُ أَخْلَاقِكُمْ وَمَحَاسِنُ أَعْمَالِكُمْ. وَقِيلَ: فِيهِ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ حَيَاتُكُمْ. قَالَهُ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: فِيهِ مَوْعِظَتُكُمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَلا تَعْقِلُونَ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، أَيْ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، أَوْ لَا تَعْقِلُونَ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا ذُكِرَ، ثم أوعدهم وحذّرهم ما
__________
(1) . الزخرف: 44.(3/472)
جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، فَقَالَ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً كَمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ قَصَمْنَا، وَهِيَ الْخَبَرِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلتَّكْثِيرِ، وَالْقَصْمُ: كَسْرُ الشَّيْءِ وَدَقُّهُ، يُقَالُ: قصمت ظهر فلان إذا كسرته، وانقصمت سِنُّهُ إِذَا انْكَسَرَتْ. وَالْمَعْنَى هُنَا: الْإِهْلَاكُ وَالْعَذَابُ، وَأَمَّا الْفَصْمُ بِالْفَاءِ فَهُوَ الصَّدْعُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ، وَجُمْلَةُ كانَتْ ظالِمَةً فِي مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ، وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ كَانُوا ظَالِمِينَ، أَيْ: كَافِرِينَ بِاللَّهِ مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ، وَالظُّلْمُ فِي الْأَصْلِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَهُمْ وَضَعُوا الْكُفْرَ فِي مَوْضِعِ الْإِيمَانِ وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ أَيْ: أَوْجَدْنَا وَأَحْدَثْنَا بعد إهلاك أهلها قوما ليسوا منهم فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أَيْ: أَدْرَكُوا، أَوْ رَأَوْا عذابنا، وقال الأخفش:
خافوا وتوقّعوا، والبأس: الْعَذَابُ الشَّدِيدُ. إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ الرَّكْضُ: الْفِرَارُ وَالْهَرَبُ وَالِانْهِزَامُ، وَأَصْلُهُ مِنْ رَكَضَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ بِرِجْلَيْهِ، يُقَالُ: رَكْضَ الْفَرَسَ إِذَا كَدَّهُ بِسَاقَيْهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ: رَكَضَ الْفَرَسُ إذا عدا، ومنه: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ «1» . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَهْرُبُونَ مِنْهَا رَاكِضِينَ دَوَابَّهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ:
لَا تَرْكُضُوا أَيْ: لَا تَهْرَبُوا. قِيلَ: إن الملائكة نادتهم بذلك عِنْدَ فِرَارِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ لَهُمْ ذَلِكَ هُمْ مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ وَسُخْرِيَةً مِنْهُمْ وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ أَيْ: إِلَى نِعَمِكُمُ الَّتِي كَانَتْ سَبَبُ بَطَرِكُمْ وكفركم، والمترف: المنعم، يقال: أترف على فُلَانٌ، أَيْ: وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي مَعَاشِهِ.
وَمَساكِنِكُمْ أَيْ: وَارْجِعُوا إِلَى مَسَاكِنِكُمُ الَّتِي كُنْتُمْ تَسْكُنُونَهَا وتفتخرون بها لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ أَيْ:
تَقْصِدُونَ لِلسُّؤَالِ وَالتَّشَاوُرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ عَمَّا نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فَتُخْبِرُونَ بِهِ. وَقِيلَ: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا كَمَا كُنْتُمْ تُسْأَلُونَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِكُمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ الْأَخْبَارِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ حَضُورٍ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا اسْمُهُ شُعَيْبُ بْنُ مُهَدَّمٍ، وَقَبْرُهُ بِجَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ ضِينٌ، وَبَيْنَهُ وبين حضور نحو يريد، قَالُوا: وَلَيْسَ هُوَ شُعَيْبًا صَاحِبَ مَدْيَنَ. قُلْتُ: وآثار القبر بجبل ضين موجودة، وو العامة مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَبْرُ قُدُمِ بْنِ قَادِمٍ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أَيْ: قَالُوا لَمَّا قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا تَرْكُضُوا: يَا وَيْلَنَا، أَيْ: بِإِهْلَاكِنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِنَا، مُسْتَوْجَبِينَ الْعَذَابَ بِمَا قَدَّمْنَا، فَاعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ الْمُوجِبِ لِلْعَذَابِ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أَيْ: مَا زَالَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ دَعْوَاهُمْ، أَيْ:
دَعْوَتَهُمْ، وَالْكَلِمَةُ: هِيَ قَوْلُهُمْ يَا وَيْلَنَا، أَيْ: يَدْعُونَ بِهَا وَيُرَدِّدُونَهَا حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أَيْ:
بِالسُّيُوفِ كَمَا يُحْصَدُ الزَّرْعُ بِالْمِنْجَلِ، وَالْحَصِيدُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَحْصُودِ، وَمَعْنَى خامِدِينَ أنهم ميتون، من خمدت إِذَا طُفِئَتْ، فَشَبَّهَ خُمُودَ الْحَيَاةِ بِخُمُودِ النَّارِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ قَدْ طُفِئَ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أَيْ: لَمْ نَخْلُقْهُمَا عَبَثًا وَلَا بَاطِلًا، بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ لَهُمَا خَالِقًا قَادِرًا يَجِبُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ إِلَى تَكْوِينِ الْعَالَمِ، وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَتَبَايُنِ أَجْنَاسِهَا لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً اللَّهْوُ: مَا يتلهّى به، قيل: اللهو، الزوجة والولد،
__________
(1) . ص: 42.(3/473)
وَقِيلَ: الزَّوْجَةُ فَقَطْ، وَقِيلَ: الْوَلَدُ فَقَطْ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَدْ يُكَنَّى بِاللَّهْوِ عَنِ الْجِمَاعِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبُرْتُ وَأَلَّا يُحْسِنَ اللَّهْوَ أَمْثَالِي
وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ «1» :
وَفِيهِنَّ مَلْهَى لِلصَّدِيقِ وَمَنْظَرُ «2»
................
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قبلها، وجواب لقوله: لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا وَمِنْ جِهَةِ قُدْرَتِنَا لَا مِنْ عِنْدِكُمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ: مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ بِإِضَافَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًا كَبِيرًا. وَقِيلَ: أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: الْأَصْنَامُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَا كُنَّا فَاعِلِينَ.
قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «إِنَّ» للنفي كما ذكره المفسرون، أي: ما فعلنا ذَلِكَ وَلَمْ نَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِ، أَيْ: إِنْ كُنَّا مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا. قَالَ الْفَرَّاءُ:
وَهَذَا أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ بِمَذْهَبِ الْعَرَبِيَّةِ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ هَذَا إِضْرَابٌ عَنِ اتِّخَاذِ اللَّهْوِ، أَيْ:
دَعْ ذَلِكَ الَّذِي قَالُوا فَإِنَّهُ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ، بَلْ شَأْنُنَا أَنْ نَرْمِيَ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ أَيْ: يَقْهَرُهُ، وَأَصْلُ الدَّمْغِ شَجُّ الرَّأْسِ حَتَّى يَبْلُغَ الدِّمَاغَ، وَمِنْهُ الدَّامِغَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى نُذْهِبُهُ ذَهَابَ الصِّغَارِ وَالْإِذْلَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهُ إِصَابَةُ الدِّمَاغِ بِالضَّرْبِ. قِيلَ: أراد بالحق الحجة وبالباطل شبههم اه. وَقِيلَ: الْحَقُّ الْمَوَاعِظُ، وَالْبَاطِلُ الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: الْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: كَذِبُهُمْ. وَوَصْفُهُمُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِغَيْرِ صِفَاتِهِ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أَيْ: زَائِلٌ ذَاهِبٌ، وَقِيلَ: هَالِكٌ تَالِفٌ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَإِذَا هِيَ الْفُجَائِيَّةُ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أَيِ: الْعَذَابُ في الآخرة بسبب وصفكم لله بِمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْوَيْلُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ وَعِيدٌ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مِثْلَ الَّذِي لِأُولَئِكَ وَمَنْ هِيَ التَّعْلِيلِيَّةُ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَبِيدًا وَمِلْكًا، وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَمَالِكُهُمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ شَرِيكًا يُعْبَدُ كَمَا يُعْبَدُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَمَنْ عِنْدَهُ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِكَوْنِهِمْ عِنْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى تَشْرِيفِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أَيْ: لَا يَتَعَاظَمُونَ وَلَا يَأْنَفُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالتَّذَلُّلِ لَهُ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أَيْ: لَا يَعْيَوْنَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَسِيرِ، وَهُوَ الْبَعِيرُ الْمُنْقَطِعُ بِالْإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ، يُقَالُ: حَسَرَ الْبَعِيرَ يَحْسُرُ حُسُورًا أَعْيَا وَكَلَّ، وَاسْتَحْسَرَ وَتَحَسَّرَ مِثْلُهُ، وَحَسَرْتُهُ أَنَا حَسْرًا، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. قَالَ أَبُو زَيْدٍ:
لَا يكلّون «3» ، وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا يَفْشَلُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْتُمْ أَنَّهُمْ أَوْلَادُ
__________
(1) . هو زهير بن أبي سلمى. [.....]
(2) . وعجزه: أنيق لعين النّاظر المتوسّم.
(3) . في تفسير القرطبي (11/ 278) : لا يملون.(3/474)
اللَّهِ عِبَادُ اللَّهِ لَا يَأْنَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَتَعَظَّمُونَ عَنْهَا، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ «1» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا يَنْقَطِعُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ أَيْ: يُنَزِّهُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ دَائِمًا لَا يَضْعُفُونَ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَسْأَمُونَ، وَقِيلَ: يُصَلُّونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: مَجْرَى التَّسْبِيحِ مِنْهُمْ كَمَجْرَى النَّفْسِ مِنَّا لَا يَشْغَلُنَا عَنِ النَّفَسِ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ تَسْبِيحُهُمْ دَائِمٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ قَالَ الْمُفَضَّلُ: مَقْصُودُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْجَحْدُ، أَيْ: لم يتّخذوا آلهة تقدر على الإحياء، و «أم» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ الْوُقُوعِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ «أَمْ» هُنَا بِمَعْنَى هَلْ، أَيْ: هَلِ اتَّخَذَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يُحْيُونَ الْمَوْتَى، وَلَا تَكُونُ «أَمْ» هُنَا بِمَعْنَى بَلْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُمْ إِنْشَاءَ الْمَوْتَى إِلَّا أَنْ تُقَدَّرَ أَمْ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ، فَتَكُونُ «أَمِ» المنقطعة، فيصحّ المعنى، و «من الْأَرْضِ» مُتَعَلِّقٌ بِاتَّخَذُوا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، وَمَعْنَى هُمْ يُنْشِرُونَ هُمْ يَبْعَثُونَ الْمَوْتَى، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْإِنْكَارُ وَالتَّجْهِيلُ، لَا نَفْسُ الِاتِّخَاذِ، فَإِنَّهُ وَاقِعٌ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ. وَالْمَعْنَى: بَلِ اتخذوا آلهة من الأرض هن خَاصَّةً مَعَ حَقَارَتِهِمْ يُنْشِرُونَ الْمَوْتَى، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَا اتَّخَذُوهَا آلِهَةً بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْشِرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ مِنْ أَنْشَرَهُ، أَيْ: أَحْيَاهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: يَحْيَوْنَ وَلَا يَمُوتُونَ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى بُطْلَانِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، فَقَالَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أَيْ: لَوْ كَانَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ آلِهَةٌ مَعْبُودُونَ غَيْرُ اللَّهِ لَفَسَدَتَا، أَيْ: لَبَطَلَتَا، يَعْنِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ وَجُمْهُورُ النُّحَاةِ: إِنَّ «إِلَّا» هُنَا لَيْسَتْ لِلِاسْتِثْنَاءِ، بَلْ بِمَعْنَى غَيْرُ صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، وَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَهَا، وَظَهَرَ فِيهِ إِعْرَابُ غَيْرُ الَّتِي جَاءَتْ إِلَّا بِمَعْنَاهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ «إِلَّا» هُنَا بِمَعْنَى سِوَى، وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ سِوَى اللَّهِ لَفَسَدَتَا، وَوَجْهُ الْفَسَادِ أَنَّ كَوْنَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى الِاسْتِبْدَادِ بِالتَّصَرُّفِ، فَيَقَعُ عِنْدَ ذَلِكَ التَّنَازُعُ وَالِاخْتِلَافُ، وَيَحْدُثُ بِسَبَبِهِ الْفَسَادُ، اه. فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ ثُبُوتِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِالْبُرْهَانِ، أَيْ: تَنَزَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ ثُبُوتِ الشَّرِيكِ لَهُ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِلْعِبَادِ أَنْ يُنَزِّهُوا الرَّبَّ سبحانه عمّا لا يليق به لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لِقُوَّةِ سُلْطَانِهِ وَعَظِيمِ جَلَالِهِ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ قَضَائِهِ وقدره وَهُمْ أي: العباد يُسْئَلُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ، أَيْ: يَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يؤاخذ عل أفعاله وهم يؤاخذون. قيل: والمراد بِذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّ مَنْ يُسْأَلُ عَنْ أَعْمَالِهِ كَالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ إِلَهًا أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أَيْ: بَلِ اتَّخَذُوا، وَفِيهِ إِضْرَابٌ وَانْتِقَالٌ من
__________
(1) . الأعراف: 206.(3/475)
إِظْهَارِ بُطْلَانِ كَوْنِهَا آلِهَةً بِالْبُرْهَانِ السَّابِقِ إِلَى إِظْهَارِ بُطْلَانِ اتِّخَاذِهَا آلِهَةً مَعَ تَوْبِيخِهِمْ بِطَلَبِ الْبُرْهَانِ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ عَلَى دَعْوَى أَنَّهَا آلِهَةٌ، أَوْ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ سِوَى اللَّهِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَا مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ قَدْ مَرَّ بَيَانُهُ، وَأَمَّا دَلِيلُ النَّقْلِ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أَيْ: هَذَا الْوَحْيُ الْوَارِدُ فِي شَأْنِ التَّوْحِيدِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ ذِكْرُ أُمَّتِي وَذِكْرُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَقَدْ أَقَمْتُهُ عَلَيْكُمْ وَأَوْضَحْتُهُ لَكُمْ، فَأَقِيمُوا أَنْتُمْ بُرْهَانَكُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: هَذَا الْقُرْآنُ وَهَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلِي، فَانْظُرُوا هَلْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِاتِّخَاذِ إِلَهٍ سِوَاهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
قِيلَ لَهُمْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ بِأَنَّ رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ أَنْبَأَ أُمَّتَهُ بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي إِلَّا توحيد الله؟ وقيل: معنى الكلام والوعيد وَالتَّهْدِيدُ، أَيِ: افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فَعَنْ قَرِيبٍ يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ.
وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ وَطَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ قَرَأَ: «هَذَا ذِكْرٌ مِنْ مَعِي وَذِكْرٌ مِنْ قَبْلِي» بِالتَّنْوِينِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: إِنَّ الْمَعْنَى هَذَا ذِكْرٌ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيَّ وَمِمَّا هُوَ مَعِيَ وَذِكْرُ مِنْ قَبْلِي. وَقِيلَ: ذِكْرٌ كَائِنٌ مِنْ قَبْلِي، أَيْ: جِئْتُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي.
ثُمَّ لَمَّا تَوَجَّهَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ذَمَّهُمْ بِالْجَهْلِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ فَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَهَذَا إِضْرَابٌ مِنْ جِهَتِهِ سُبْحَانَهُ وَانْتِقَالٌ مِنْ تَبْكِيتِهِمْ بِمُطَالَبَتِهِمْ بِالْبُرْهَانِ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ لِكَوْنِهِمْ جَاهِلِينَ لِلْحَقِّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْحَسَنُ الْحَقُّ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْحَقِّ، أَوْ هُوَ الْحَقُّ، وَجُمْلَةُ فَهُمْ مُعْرِضُونَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ أَكْثَرِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ: فَهُمْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَهْلِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى أَكْثَرِهِمْ مُعْرِضُونَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، فَلَا يَتَأَمَّلُونَ حُجَّةً، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ فِي بُرْهَانٍ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي دَلِيلٍ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ قَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نُوحِي بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، أَيْ: نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا وَفِي هَذَا تَقْرِيرٌ لِأَمْرِ التَّوْحِيدِ وَتَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَخَتَمَ الْآيَةَ بِالْأَمْرِ لِعِبَادِهِ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ فَاعْبُدُونِ فَقَدِ اتَّضَحَ لَكُمْ دَلِيلُ الْعَقْلِ، وَدَلِيلُ النَّقْلِ، وَقَامَتْ عَلَيْكُمْ حُجَّةُ اللَّهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ قَالَ: شَرَفُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِيهِ حَدِيثُكُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: فِيهِ دِينُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ حِمْيَرَ يُقَالُ لَهُ شُعَيْبٌ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَبْدٌ فَضَرَبَهُ بِعَصًا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرُ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَهُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ: وَكَمْ قَصَمْنا إِلَى قَوْلِهِ: خامِدِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ:
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ قَالَ: هِيَ حَضُورُ بَنِي أَزْدٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:
وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ قَالَ: ارْجِعُوا إِلَى دُورِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ قَالَ: هُمْ أَهْلُ حَضُورٍ كَانُوا قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخَتُنَصَّرَ فَقَتَلَهُمْ،(3/476)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
وَفِي قَوْلِهِ: جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ قَالَ: بِالسَّيْفِ ضَرَبَ الْمَلَائِكَةُ وُجُوهَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا إِلَى مَسَاكِنِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مَنِ الْجَزَرِيِّينَ قَالَ: كَانَ اليمن قريتان، يُقَالُ لِإِحْدَاهُمَا حَضُورٌ وَلِلْأُخْرَى قِلَابَةُ، فَبَطَرُوا وَأُتْرِفُوا حَتَّى مَا كَانُوا يُغْلِقُونَ أَبْوَابَهُمْ، فَلِمَا أُتْرِفُوا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا فَدَعَاهُمْ فَقَتَلُوهُ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِ بُخْتُنَصَّرَ أَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَجَهَّزَ لَهُمْ جَيْشًا، فَقَاتَلُوهُمْ فَهَزَمُوا جَيْشَهُ فَرَجَعُوا مُنْهَزِمِينَ إِلَيْهِ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا آخَرَ أَكْثَفَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَهَزَمُوهُمْ أَيْضًا فَلَمَّا رَأَى بُخْتُنَصَّرُ ذَلِكَ غَزَاهُمْ هُوَ بِنَفْسِهِ، فَقَاتَلُوهُمْ فَهَزَمَهُمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنْهَا يَرْكُضُونَ، فَسَمِعُوا مُنَادِيًا يَقُولُ: لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ فَرَجَعُوا، فَسَمِعُوا صَوْتًا مُنَادِيًا يَقُولُ: يَا لَثَارَاتِ النَّبِيِّ فَقُتِلُوا بِالسَّيْفِ، فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: خامِدِينَ. قُلْتُ: وَقُرَى حَضُورٍ مَعْرُوفَةٌ الْآنَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَدِينَةِ صَنْعَاءَ نَحْوُ بَرِيدٍ «1» فِي جِهَةِ الْغَرْبِ مِنْهَا. وأخرج ابن بالمنذر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَصِيداً خامِدِينَ قَالَ: كَخُمُودِ النَّارِ إِذَا طُفِئَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قَالَ: اللَّهْوُ: الْوَلَدُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قَالَ: النِّسَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يَقُولُ: لَا يَرْجِعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قتادة في قوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ قال:
بعباده وَهُمْ يُسْئَلُونَ قَالَ: عَنْ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ قَوْمٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، وما ذلك إلا لأنهم لَا يَعْلَمُونَ قُدْرَةَ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 الى 35]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)
قَوْلُهُ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ هُمْ خُزَاعَةُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَيَصِحُّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ وَلَدًا. وَقَدْ قَالَتِ اليهود: عزير ابن الله، وقالت
__________
(1) . البريد: يساوي نحو (20) كم تقريبا على بعض التقديرات.(3/477)
النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. ثُمَّ نَزَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ. فَقَالَ:
سُبْحانَهُ أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَقُولٌ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعِبَادِ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ قَوْلِهِمْ وَأَبْطَلَهُ فَقَالَ:
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أَيْ: لَيْسُوا كَمَا قَالُوا، بَلْ هم عباد الله سُبْحَانَهُ مُكْرَمُونَ بِكَرَامَتِهِ لَهُمْ، مُقَرَّبُونَ عِنْدَهُ.
وَقُرِئَ مُكْرَمُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ نَصْبَ عِبَادٍ عَلَى مَعْنَى: بَلِ اتَّخَذَ عِبَادًا، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أَيْ: لَا يَقُولُونَ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَهُ أَوْ يَأْمُرُهُمْ بِهِ. كَذَا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ طَاعَتِهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ. وَقُرِئَ «لَا يَسْبُقُونَهُ» بِضَمِّ الْبَاءِ مِنْ سَبَقْتُهُ أَسْبِقُهُ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أَيْ: هُمُ الْعَامِلُونَ بِمَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ، التَّابِعُونَ لَهُ الْمُطِيعُونَ لِرَبِّهِمْ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: يَعْلَمُ مَا عَمِلُوا وَمَا هُمْ عَامِلُونَ، أَوْ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهُوَ الْآخِرَةُ، وَمَا خَلْفَهُمْ وَهُوَ الدُّنْيَا، وَوَجْهُ التَّعْلِيلِ أَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا، لَمْ يَعْمَلُوا عَمَلًا وَلَمْ يَقُولُوا قَوْلًا إِلَّا بِأَمْرِهِ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى
أَيْ: يَشْفَعُ الشَّافِعُونَ لَهُ، وَهُوَ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُشَفَّعُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أَيْ: مِنْ خَشْيَتِهِمْ مِنْهُ، فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ مع التعظيم، والإشفاق: الخوف مع التَّوَقُّعِ وَالْحَذَرِ، أَيْ: لَا يَأْمَنُونَ مَكْرَ اللَّهِ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أَيْ:
مِنْ يَقُلْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنِّي إِلَهٌ مَنْ دُونِ اللَّهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَنَى بِهَذَا إِبْلِيسَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنِّي إِلَهٌ إِلَّا إِبْلِيسَ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ أَيْ: فَذَلِكَ الْقَائِلُ، عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ، كَمَا نَجْزِي غَيْرَهُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْفَظِيعِ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، أَوْ مِثْلَ مَا جَعَلْنَا جَزَاءَ هَذَا الْقَائِلَ جَهَنَّمَ، فَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الْوَاضِعِينَ الْإِلَهِيَّةَ وَالْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مقدّر، والرؤية هي القلبية، أي: لم يتفكروا ولم يَعْلَمُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا قَالَ كَانَتَا، لِأَنَّهُمَا صِنْفَانِ، أَيْ: جَمَاعَتَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «1» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا قَالَ كَانَتَا لِأَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنِ السَّمَاوَاتِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ كَانَتْ سَمَاءً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ الْأَرَضُونَ، وَالرَّتْقُ: السَّدُّ، ضِدُّ الْفَتْقِ، يُقَالُ: رَتَقْتُ الْفَتْقَ أَرْتُقُهُ فَارْتَتَقَ، أَيِ: الْتَأَمَ، وَمِنْهُ الرَّتْقَاءُ لِلْمُنْضَمَّةِ الْفَرْجِ، يَعْنِي: أَنَّهُمَا كَانَتَا شَيْئًا وَاحِدًا مُلْتَزِقَتَيْنِ فَفَصَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ رَتْقًا وَلَمْ يَقُلْ رَتْقَيْنِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَانَتَا ذَوَاتِي رَتْقٍ، وَمَعْنَى فَفَتَقْناهُما فَفَصَلْنَاهُمَا أَيْ: فَصَلْنَا بَعْضَهُمَا مِنْ بَعْضٍ، فَرَفَعْنَا السَّمَاءَ، وَأَبْقَيْنَا الْأَرْضَ مَكَانَهَا وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَيْ: أَحْيَيْنَا بِالْمَاءِ الَّذِي نُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ، فَيَشْمَلُ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَاءَ سَبَبُ حَيَاةِ كُلِّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَاءِ هُنَا النُّطْفَةُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَلا يُؤْمِنُونَ لِلْإِنْكَارِ
__________
(1) . فاطر: 41.(3/478)
عَلَيْهِمْ، حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا مَعَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَيْ:
جِبَالًا ثَوَابِتَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ الْمَيْدُ: التَّحَرُّكُ وَالدَّوَرَانُ، أَيْ: لِئَلَّا تَتَحَرَّكَ وَتَدُورَ بِهِمْ، أَوْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي النَّحْلِ مُسْتَوْفًى. وَجَعَلْنا فِيها أَيْ: فِي الرَّوَاسِي، أَوْ فِي الْأَرْضِ فِجاجاً، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الْمَسَالِكُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مخترق بين جبلين فهو فج وسُبُلًا تَفْسِيرٌ لِلْفِجَاجِ لِأَنَّ الْفَجَّ قَدْ لَا يَكُونُ طَرِيقًا نَافِذًا مَسْلُوكًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إِلَى مَصَالِحَ مَعَاشِهِمْ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَاتُهُمْ وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً عَنْ أَنْ يَقَعَ وَيَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ «1» وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَحْفُوظًا بِالنُّجُومِ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَقَوْلِهِ: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ «2» وَقِيلَ: مَحْفُوظًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى عِمَادٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَحْفُوظِ هُنَا الْمَرْفُوعُ، وَقِيلَ: مَحْفُوظًا عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَقِيلَ: مَحْفُوظًا عَنِ الْهَدْمِ وَالنَّقْضِ وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ أَضَافَ الْآيَاتِ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَجْعُولَةٌ فِيهَا، وَذَلِكَ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِهِمَا، وَمَعْنَى الْإِعْرَاضِ أَنَّهُمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ فِيهَا، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا تُوجِبُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ هَذَا تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ خَلَقَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَارَ لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، أَيْ:
جَعْلَ الشَّمْسَ آيَةَ النَّهَارِ، وَالْقَمَرَ آيَةَ اللَّيْلِ، لِيَعْلَمُوا عَدَدَ الشُّهُورِ وَالْحِسَابِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُبْحَانَ «3» .
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، أَيْ: يَجْرُونَ فِي وَسَطِ الْفَلَكِ، وَيَسِيرُونَ بِسُرْعَةٍ كَالسَّابِحِ فِي الْمَاءِ، وَالْجَمْعُ فِي الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ الْمَطَالِعِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُنَّ بِفِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ، وَجَعَلَهُنَّ فِي الطَّاعَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْقِلُ، جَعَلَ الضَّمِيرَ عَنْهُنَّ ضَمِيرَ الْعُقَلَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ يَسْبَحْنَ أَوْ تَسْبَحُ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّمَا قَالَ يَسْبَحُونَ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ، وَالْفَلَكُ وَاحِدُ أَفْلَاكِ النُّجُومِ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الدوران، ومنه فلكة الْمِغْزَلُ لِاسْتِدَارَتِهَا وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَيْ: دَوَامَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا أَفَإِنْ مِتَّ بِأَجَلِكَ الْمَحْتُومِ فَهُمُ الْخالِدُونَ أَيْ: أَفْهُمُ الْخَالِدُونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: جَاءَ بِالْفَاءِ لِتَدُلَّ عَلَى الشَّرْطِ لِأَنَّهُ جَوَابُ قَوْلِهِمْ سَيَمُوتُ. قَالَ: وَيَجُوزُ حَذْفُ الْفَاءِ وَإِضْمَارُهَا، وَالْمَعْنَى: إِنْ مِتَّ فَهُمْ يَمُوتُونَ أَيْضًا، فَلَا شَمَاتَةَ فِي الْمَوْتِ. وَقُرِئَ مِتَّ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ، وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «4» . كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أَيْ: ذَائِقَةٌ مُفَارِقَةٌ جَسَدَهَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْفُسِ الْمَخْلُوقَةِ كَائِنًا مَا كَانَ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً أَيْ: نَخْتَبِرُكُمْ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، لِنَنْظُرَ كَيْفَ شُكْرُكُمْ وَصَبْرُكُمْ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَبْلُوهُمْ، وَفِتْنَةٌ مَصْدَرٌ لِنَبْلُوَكُمْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ لَا إِلَى غَيْرِنَا فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ إِنَّ اللَّهَ عزّ وجلّ صاهر الجنّ فكانت بنيهم الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَ اللَّهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أَيِ: الْمَلَائِكَةُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا، بَلْ عباد أكرمهم بعبادته
__________
(1) . الحج: 65.
(2) . الحجر: 17.
(3) . أي سورة الإسراء.
(4) . الطور: 30.(3/479)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ يُثْنِي عَلَيْهِمْ وَلا يَشْفَعُونَ قَالَ: لَا تَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى قَالَ: لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الَّذِينَ ارْتَضَاهُمْ لِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى قَالَ: إِنَّ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» .
وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما قَالَ: فُتِقَتِ السَّمَاءُ بِالْغَيْثِ، وَفُتِقَتِ الْأَرْضُ بِالنَّبَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ كانَتا رَتْقاً قَالَ: لَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا شَيْءٌ، وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ كانَتا رَتْقاً قَالَ: مُلْتَصِقَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ قَالَ: نُطْفَةُ الرَّجُلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا قَالَ: بَيْنَ الْجِبَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ فِي فَلَكٍ قَالَ: دَوَرَانٌ يَسْبَحُونَ قَالَ: يَجْرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْهُ كُلٌّ فِي فَلَكٍ قَالَ: فَلَكٌ كَفَلَكَةِ الْمِغْزَلِ يَسْبَحُونَ قَالَ: يَدُورُونَ فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ.
كَمَا تَدُورُ الْفَلَكَةُ فِي الْمِغْزَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ فَلَكُ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عن عائشة قالت: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وقد مات فقبله وقال: وا نبياه وا خليلاه وا صفياه، ثُمَّ تَلَا وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً قَالَ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالطَّاعَةِ والمعصية، والهدى والضلالة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 الى 43]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
__________
(1) . الزمر: 30.(3/480)
قَوْلُهُ: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَعْنِي الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَيْ:
مَا يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا مَهْزُوءًا بِكَ، وَالْهَزْءُ: السُّخْرِيَةُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «1» وَالْمَعْنَى: مَا يَفْعَلُونَ بِكَ إِلَّا اتَّخَذُوكَ هُزُؤًا أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولُونَ أَهَذَا الَّذِي، فَعَلَى هَذَا هُوَ جَوَابُ إِذَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً اعْتِرَاضًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَمَعْنَى يَذْكُرُهَا يَعِيبُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ فُلَانٌ يَذْكُرُ النَّاسَ، أَيْ: يَغْتَابُهُمْ، وَيَذْكُرُهُمْ بِالْعُيُوبِ، وَفُلَانٌ يَذْكُرُ اللَّهَ، أَيْ: يَصِفُهُ بِالتَّعْظِيمِ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُحْذَفُ مَعَ الذَّكَرِ مَا عُقِلَ مَعْنَاهُ، وَعَلَى مَا قَالُوا لَا يَكُونُ الذِّكْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعَيْبُ، وَحَيْثُ يُرَادُ بِهِ الْعَيْبُ يُحْذَفُ مِنْهُ السُّوءُ، قِيلَ: وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
لَا تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا أَطْعَمْتُهُ ... فَيَكُونُ جِلْدُكَ مِثْلَ جَلْدِ الْأَجْرَبِ
أَيْ: لَا تَعِيبِي مُهْرِي، وَجُمْلَةُ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ:
وَهُمْ بِالْقُرْآنِ كَافِرُونَ، أَوْ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي خَلَقَهُمْ كَافِرُونَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَعِيبُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتَهُمُ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بِالسُّوءِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، أَوِ الْقُرْآنِ كَافِرُونَ، فَهُمْ أَحَقُّ بِالْعَيْبِ لَهُمْ وَالْإِنْكَارِ عليهم، فالضمير الأوّل مبتدأ خبره كافرون، و «بذكر» مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي تَأْكِيدٌ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أَيْ: جُعِلَ لِفَرْطِ اسْتِعْجَالِهِ كَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْعَجَلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ بَنَيْتُهُ وَخَلَقْتُهُ مِنَ الْعَجَلَةِ وَعَلَى الْعَجَلَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خُوطِبَتِ الْعَرَبُ بِمَا تَعْقِلُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلَّذِي يَكْثُرُ مِنْهُ الشَّيْءُ خُلِقْتَ مِنْهُ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ مِنْ لَعِبٍ، وَخُلِقْتَ مَنْ لَعِبٍ، تُرِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِ بِذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى هذا المعنى قوله: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «2» وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ، فَإِنَّهُ لَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ صَارَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ، فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ إِلَى رِجْلَيْهِ فَوَقَعَ، فَقِيلَ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ، كَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَكَثِيرٌ مَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي: الْعَجَلُ الطين بلغة حمير. وأنشدوا:
..............
والنخل ينبت بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعَجَلِ «3»
وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «4» وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَى «خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ» أَنَّهُ قِيلَ لَهُ كُنْ فَكَانَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ: خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّحَّاسِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى. سَأُرِيكُمْ آياتِي أَيْ: سَأُرِيكُمْ نَقِمَاتِي مِنْكُمْ بِعَذَابِ النَّارِ فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلُونِي بِالْإِتْيَانِ بِهِ، فَإِنَّهُ نَازِلٌ بِكُمْ لَا مَحَالَةَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ ما
__________
(1) . الحجر: 95.
(2) . الإسراء: 11.
(3) . وصدره: والنبع في الصخرة الصمّاء منبته.
(4) . الأنفال: 32. [.....](3/481)
دَلَّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ: مَتَى حُصُولُ هَذَا الْوَعْدِ الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، قَالُوا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَعْدِ هُنَا الْقِيَامَةُ، وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِنْ كُنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ صَادِقِينَ فِي وَعْدِكُمْ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتْلُونَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الْمُنْذِرَةَ بِمَجِيءِ السَّاعَةِ وَقُرْبِ حُضُورِ الْعَذَابِ، وَجُمْلَةُ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وما بَعْدَهَا مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: لَوْ عَرَفُوا ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ عَلِمُوا الْوَقْتَ الَّذِي لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ لَمَا اسْتَعْجَلُوا الْوَعِيدَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَقْدِيرِ الجواب:
لعلموا صِدْقَ الْوَعْدِ، وَقِيلَ: لَوْ عَلِمُوهُ مَا أَقَامُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ السَّاعَةِ، أَيْ: لَوْ عَلِمُوهُ عِلْمَ يَقِينٍ لَعَلِمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَتَخْصِيصُ الْوُجُوهِ وَالظُّهُورِ بالذكر بمعنى الأمام وَالْخَلْفِ لِكَوْنِهِمَا أَشْهَرَ الْجَوَانِبِ فِي اسْتِلْزَامِ الْإِحَاطَةِ بِهَا لِلْإِحَاطَةِ بِالْكُلِّ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهَا مِنْ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهِمْ، وَمَحَلُّ حِينَ لَا يَكُفُّونَ النَّصْبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الْعِلْمِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ الَّذِي كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَهُ، وَمَعْنَى وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ: وَلَا يَنْصُرُهُمْ أَحَدٌ مِنِ الْعِبَادِ فَيَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَجُمْلَةُ «بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً» مَعْطُوفَةٌ عَلَى «يَكُفُّونَ» ، أَيْ: لَا يَكُفُّونَهَا، بَلْ تَأْتِيهِمُ الْعِدَّةُ أَوِ النَّارُ أَوِ السَّاعَةُ بَغْتَةً، أَيْ: فَجْأَةً فَتَبْهَتُهُمْ قَالَ الجوهري: بهته بهتا: أَخْذَهُ بَغْتًا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
«فَتَبْهَتُهُمْ» أَيْ: تُحَيِّرُهُمْ، وَقِيلَ: فَتَفْجَؤُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أَيْ: صَرْفَهَا عَنْ وُجُوهِهِمْ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى النَّارِ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الْوَعْدِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْعِدَّةِ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الْحِينِ بِتَأْوِيلِهِ بِالسَّاعَةِ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أَيْ: يُمْهَلُونَ وَيُؤَخَّرُونَ لِتَوْبَةٍ وَاعْتِذَارٍ، وَجُمْلَةُ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ مَسُوقَةٌ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْزِيَتِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنِ اسْتَهْزَأَ بِكَ هَؤُلَاءِ فَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَخَطَرِ شَأْنِهِمْ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أَيْ: أَحَاطَ وَدَارَ بِسَبَبِ ذلك بالذين سخروا من أولئك الرسل وهزءوا بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «مَا» مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: فَأَحَاطَ بِهِمُ الأمر الذي كانوا يستهزءون بِهِ، أَوْ فَأَحَاطَ بِهِمُ اسْتِهْزَاؤُهُمْ. أَيْ: جَزَاؤُهُ، عَلَى وَضْعِ السَّبَبِ مَوْضِعَ الْمُسَبَّبِ، أَوْ نَفْسِ الِاسْتِهْزَاءِ، إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعَذَابُ الْأُخْرَوِيُّ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ أَيْ: يَحْرُسُكُمْ وَيَحْفَظُكُمْ، وَالْكَلَاءَةُ: الْحِرَاسَةُ وَالْحِفْظُ، يُقَالُ: كَلَأَهُ الله كلاء بِالْكَسْرِ: أَيْ حَفِظَهُ وَحَرَسَهُ. قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلَؤُهَا ... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا
أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِأُولَئِكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِطَرِيقِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: مَنْ يَحْرُسُكُمْ وَيَحْفَظُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ بَأْسِ الرَّحْمَنِ وَعَذَابِهِ الَّذِي تَسْتَحِقُّونَ حُلُولَهُ بِكُمْ وَنُزُولَهُ عَلَيْكُمْ؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ مَنْ يَحْفَظُكُمْ مِنْ بَأْسِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مَنْ يَحْفَظُكُمْ مِمَّا يُرِيدُ الرَّحْمَنُ إِنْزَالَهُ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَحَكَى الكسائي والفراء: «من يكلوكم» بِفَتْحِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ(3/482)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
أَيْ: عَنْ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَذْكُرُونَهُ وَلَا يخطر بِبَالِهِمْ، بَلْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ، أَوْ عَنِ الْقُرْآنِ، أَوْ عَنْ مَوَاعِظِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ، لِلْإِضْرَابِ وَالِانْتِقَالِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى بَيَانِ جَهْلِهِمْ بِحِفْظِهِ سُبْحَانَهُ إِيَّاهُمْ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ بِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَفْعِ نَفْسِهِ، وَالدَّفْعِ عَنْهَا. وَالْمَعْنَى: بَلْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِنَا. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِنَا تَمْنَعُهُمْ. ثُمَّ وَصَفَ آلِهَتَهُمْ هَذِهِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا تَنْصُرُهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، فَقَالَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أَيْ: هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ نَصْرِ أَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْصُرُوا غَيْرَهُمْ «وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» ، أَيْ: وَلَا هُمْ يُجَارُونَ مِنْ عَذَابِنَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ: لَا يُجِيرُهُمْ مِنَّا أَحَدٌ لِأَنَّ الْمُجِيرَ صَاحِبُ الْجَارِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: صَحِبَكَ اللَّهُ، أَيْ: حَفِظَكَ وَأَجَارَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ مُتَعَوِّذًا ... لِيُصْحَبَ مِنَّا وَالرِّمَاحُ دَوَانِي
تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنَا لَكَ جَارٌ وَصَاحِبٌ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ: مُجِيرٌ مِنْهُ. قَالَ الْمَازِنِيُّ: هُوَ مِنْ أَصْحَبْتُ الرَّجُلَ إِذَا مَنَعْتَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يَتَحَدَّثَانِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جَهْلٍ ضَحِكَ وَقَالَ لأبي سفيان: هذا نبيّ عَبْدِ مَنَافٍ، فَغَضِبَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: مَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ نَبِيٌّ؟! فسمعها النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِي جَهْلٍ فَوَقَعَ بِهِ وَخَوَّفَهُ وَقَالَ: مَا أَرَاكَ مُنْتَهِيًا حَتَّى يُصِيبَكَ مَا أَصَابَ عَمَّكَ، وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: أَمَّا إِنَّكَ لَمْ تَقُلْ مَا قُلْتَ إِلَّا حَمِيَّةً» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قُلْتُ: يَنْظُرُ مَنِ الَّذِي رَوَى عَنْهُ السُّدِّيُّ؟. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نُفِخَ فِي آدَمَ الرُّوحَ صَارَ فِي رَأْسِهِ فَعَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَتْ: الْمَلَائِكَةُ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ قَبْلَ أَنْ تَمُورَ فِي رِجْلَيْهِ فَوَقَعَ، فَقَالَ اللَّهُ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وَقَدْ أَخْرَجَ نَحْوَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ قَالَ:
يَحْرُسُكُمْ، وَفِي قَوْلُهُ: وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قَالَ: لَا يُنْصَرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قَالَ: لَا يُجَارُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ:
قَالَ: لَا يمنعون.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 44 الى 56]
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53)
قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)(3/483)
لَمَّا أَبْطَلَ كَونَ الْأَصْنَامِ نَافِعَةً أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ مُنْتَقِلًا إِلَى بَيَانِ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ هُوَ من اللَّهِ، لَا مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ، وَلَا مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ عَلَى أَسْبَابِ التَّمَتُّعِ، فَقَالَ: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، مَتَّعَهُمُ اللَّهُ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فَاغْتَرُّوا بِذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ، فَرَدَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ قَائِلًا أَفَلا يَرَوْنَ أَيْ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ فَيَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَيْ: أرض الكفر، ننقصها بالظهور عليها مِنْ أَطْرَافِهَا، فَنَفْتَحُهَا بَلَدًا بَعْدَ بَلَدٍ، وَأَرْضًا بَعْدَ أَرْضٍ، وَقِيلَ: نَنْقُصُهَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَقَدْ مَضَى فِي الرَّعْدِ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَنَظَائِرِهِ، أَيْ: كَيْفَ يَكُونُونَ غَالِبِينَ بَعْدَ نَقْصِنَا لِأَرْضِهِمْ مِنْ أَطْرَافِهَا؟ وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغَالِبِينَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أَيْ: أُخَوِّفُكُمْ وَأُحَذِّرُكُمْ بِالْقُرْآنِ، وَذَلِكَ شَأْنِي وَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِمَّا مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، أَوْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَصَمَّ اللَّهُ سَمْعَهُ، وَخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، لَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ. قَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرحمن السلمي ومحمد بن السميقع «وَلَا يُسْمَعُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وأبو حيوة ويحيى ابن الْحَارِثِ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ: إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَا تُسْمِعُ هَؤُلَاءِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ:
وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَامِرٍ لَكَانَ: إِذَا مَا تُنْذِرُهُمْ، فَيَحْسُنُ نَظْمُ الْكَلَامِ، فَأَمَّا إِذا مَا يُنْذَرُونَ فَحَسَنٌ أَنْ يَتَّبِعَ قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الصُّمِّ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ الْمُرَادُ بِالنَّفْحَةِ الْقَلِيلُ، مَأْخُوذٌ مِنْ نَفْحِ الْمِسْكِ قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
وَعُمْرَةٌ من سروات النّساء ... تَنْفَحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانُهَا
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: النَّفْحَةُ: الدَّفْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ الَّتِي دُونَ مُعْظَمِهِ، يُقَالُ: نَفَحَهُ نَفْحَةً بِالسَّيْفِ إِذَا ضَرَبَهُ ضَرْبَةً خَفِيفَةً، وَقِيلَ: هي النصيب، وَقِيلَ: هِيَ الطَّرْفُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، أَيْ: وَلَئِنْ مَسَّهُمْ أَقَلُّ شَيْءٍ مِنَ الْعَذَابِ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أَيْ: لَيَدْعُونَ عَلَى أنفسهم بالويل والهلاك، ويعترفون عليها بالظلم
__________
(1) . هو قيس بن الخطيم.(3/484)
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ الْمَوَازِينُ: جَمْعُ مِيزَانٍ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَوَازِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ، عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فِي صِفَةِ الْمِيزَانِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَقَدْ مَضَى فِي الْأَعْرَافِ، وَفِي الْكَهْفِ فِي هَذَا مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ، وَالْقِسْطِ صِفَةٌ لِلْمَوَازِينِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قِسْطٌ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ، تَقُولُ: مِيزَانُ قِسْطٍ وَمَوَازِينُ قِسْطٍ. وَالْمَعْنَى: ذَوَاتُ قِسْطٍ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَقُرِئَ «الْقِصْطُ» بِالصَّادِّ وَالطَّاءِ. وَمَعْنَى لِيَوْمِ الْقِيامَةِ لِأَهْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ: فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أَيْ: لَا يُنْقَصُ مِنْ إِحْسَانِ مُحْسِنٍ، وَلَا يُزَادُ فِي إِسَاءَةِ مُسِيءٍ وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قَرَأَ نَافِعٌ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ مِثْقَالُ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ: إِنْ وَقَعَ أَوْ وَجَدَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنَصْبِ الْمِثْقَالِ، عَلَى تَقْدِيرِ: وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِوَضْعِ الْمَوَازِينِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَإِنْ كَانَ الظُّلَامَةُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: «فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا» ، وَمِثْقَالُ الشَّيْءِ: مِيزَانُهُ، أَيْ: وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْخِفَّةِ وَالْحَقَارَةِ، فَإِنَّ حَبَّةَ الْخَرْدَلِ مَثَلٌ فِي الصِّغَرِ أَتَيْنا بِها قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْقَصْرِ، أَيْ: أَحْضَرْنَاهَا وَجِئْنَا بها للمجازاة عليها، و «بها» أي: بحبة الخردل.
وقرأ مجاهد وعكرمة «آتينا» بالمدّ على معنى جازينا بها، يُقَالُ: آتِي يُؤَاتِي مُؤَاتَاةً جَازَى وَكَفى بِنا حاسِبِينَ أَيْ: كَفَى بِنَا مُحْصِينَ، وَالْحَسْبُ فِي الْأَصْلِ مَعْنَاهُ الْعَدُّ، وَقِيلَ: كَفَى بِنَا عَالِمِينَ لِأَنَّ مَنْ حَسَبَ شَيْئًا عَلِمَهُ وَحَفِظَهُ، وَقِيلَ: كَفَى بِنَا مُجَازِينَ عَلَى مَا قَدَّمُوهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي تَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ سَابِقًا بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ «1» فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ هُنَا التَّوْرَاةُ لِأَنَّ فِيهَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ هُنَا هُوَ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ «2» . قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَمَعْنَى «وَضِيَاءٌ» أَنَّهُمُ اسْتَضَاءُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْغِوَايَةِ، وَمَعْنَى «وَذِكْرًا» الْمَوْعِظَةُ، أَيْ: أَنَّهُمْ يَتَّعِظُونَ بِمَا فِيهَا، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ، وَوَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَشْيَةَ تُلَازِمُ التَّقْوَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ بَدَلًا مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ بَيَانًا لَهُ، وَمَحَلُّ «بِالْغَيْبِ» النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَخْشَوْنَ عَذَابَهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُمْ، أَوْ هُمْ غَائِبُونَ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ ضِياءً بغير واو. قال الفراء: حذف الْوَاوُ وَالْمَجِيءُ بِهَا وَاحِدٌ، وَاعْتَرَضَهُ الزَّجَّاجُ بِأَنَّ الْوَاوَ تَجِيءُ لِمَعْنًى، فَلَا تُزَادُ. وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أَيْ:
وَهُمْ مِنَ الْقِيَامَةِ خَائِفُونَ وَجِلُونَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ إِلَى الْقُرْآنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
الْمَعْنَى: وَهَذَا الْقُرْآنُ ذِكْرٌ لِمَنْ تَذَكَّرَ بِهِ وَمَوْعِظَةٌ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِ، وَالْمُبَارَكُ: كَثِيرُ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ. وَقَوْلُهُ:
أَنْزَلْناهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلذِّكْرِ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لِلْإِنْكَارِ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِنْكَارِ، أَيْ: كَيْفَ تُنْكِرُونَ كَوْنَهُ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعَ اعْتِرَافِكُمْ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِهِ؟
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أَيِ: الرُّشْدَ اللَّائِقَ بِهِ وَبِأَمْثَالِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ أُعْطِيَ
__________
(1) . الأنبياء: 7.
(2) . الأنفال: 41.(3/485)
رُشْدَهُ قَبْلَ إِيتَاءِ مُوسَى وَهَارُونَ التَّوْرَاةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَعْطَيْنَاهُ هُدَاهُ مِنْ قَبْلِ النُّبُوَّةِ: أَيْ وَفَّقْنَاهُ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ فَرَأَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنَّجْمَ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَقَلُّهُمْ:
وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أَنَّهُ مَوْضِعٌ لِإِيتَاءِ الرُّشْدِ، وَأَنَّهُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِآتَيْنَا أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ حِينَ قَالَ، وَأَبُوهُ هُوَ آزَرُ وَقَوْمِهِ نَمْرُوذُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، وَالتَّمَاثِيلُ:
الْأَصْنَامُ، وَأَصْلُ التِّمْثَالِ الشَّيْءُ الْمَصْنُوعُ مُشَابِهًا لِشَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، يُقَالُ: مَثَّلْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا جَعَلْتُهُ مُشَابِهًا لَهُ، وَاسْمُ ذَلِكَ الْمُمَثَّلِ تِمْثَالٌ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَتَهَا بِقَوْلِهِ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ وَالْعُكُوفُ: عِبَارَةٌ عَنِ اللُّزُومِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الشَّيْءِ، وَاللَّامُ فِي «لَهَا» لِلِاخْتِصَاصِ، وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّعْدِيَةِ لَجِيءَ بِكَلِمَةِ عَلَى، أَيْ: مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَنْتُمْ مُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا؟ وَقِيلَ: إِنَّ الْعُكُوفَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْعِبَادَةِ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أَجَابُوهُ بِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي هُوَ الْعَصَا الَّتِي يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا كُلُّ عَاجِزٍ، وَالْحَبْلُ الَّذِي يَتَشَبَّثُ بِهِ كُلُّ غَرِيقٍ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، أَيْ: وَجَدْنَا آبَاءَنَا يَعْبُدُونَهَا فَعَبَدْنَاهَا اقْتِدَاءً بِهِمْ وَمَشْيًا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَهَكَذَا يُجِيبُ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلَ بِمَحْضِ الرَّأْيِ الْمَدْفُوعِ بِالدَّلِيلِ قَالُوا هَذَا قَدْ قَالَ بِهِ إِمَامُنَا الَّذِي وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهُ مُقَلِّدِينَ وَبِرَأْيِهِ آخِذِينَ، وَجَوَابُهُمْ هُوَ مَا أَجَابَ بِهِ الْخَلِيلُ هَاهُنَا قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: فِي خُسْرَانٍ وَاضِحٍ ظَاهِرٍ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى ذِي عَقْلٍ، فَإِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا الضَّلَالِ ضَلَالٌ، وَلَا يُسَاوِي هَذَا الْخُسْرَانَ خُسْرَانٌ، وَهَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ اسْتَبْدَلُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِسُنَّةِ رَسُولِهِ كِتَابًا قَدْ دُوِّنَتْ فِيهِ اجْتِهَادَاتُ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى دَلِيلٍ يُخَالِفُهَا، إِمَّا لِقُصُورٍ مِنْهُ أَوْ لِتَقْصِيرٍ فِي الْبَحْثِ فَوَجَدَ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مَنْ وَجَدَهُ، وَأَبْرَزَهُ وَاضِحُ الْمَنَارِ:
............
كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ «1»
وَقَالَ: هَذَا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ هَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِهِ، وَأَنْشَدَهُمْ:
دَعُوا كُلَّ قَوْلٍ عِنْدَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ... فَمَا آمِنٌ فِي دِينِهِ كَمُخَاطِرِ
فَقَالُوا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ «2» :
مَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وَإِنْ تُرْشَدَ غَزِيَّةُ أُرْشَدِ
وَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
يَأْبَى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى ... وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ وَاضِحٌ
__________
(1) . وصدره: وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به. «العلم» : الجبل. والبيت للخنساء.
(2) . هو دريد بن الصّمّة.(3/486)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
ثُمَّ لَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ مَقَالَةَ الْخَلِيلِ قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أَيْ: أَجَادٌّ أَنْتَ فِيمَا تَقُولُ أَمْ أَنْتَ لَاعِبٌ مَازِحٌ؟ قَالَ مُضْرِبًا عَمَّا بَنَوْا عَلَيْهِ مَقَالَتَهُمْ مِنَ التَّقْلِيدِ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أَيْ: خَلَقَهُنَّ وَأَبْدَعَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ كَوْنِ رَبِّكُمْ هو ربّ السموات وَالْأَرْضِ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَيِ: الْعَالِمِينَ بِهِ الْمُبَرْهِنِينَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، مُبَرْهِنًا عَلَيْهِ، مُبَيِّنًا لَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبيهقي في الشعب، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَضْرِبُهُمْ وَأَشْتُمُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا عَلَيْكَ وَلَا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَهُمْ خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ» ، رَوَاهُ أحمد هكذا: حدّثنا أبو نوح قراد، أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَهُ، وفي معناه أحاديث. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ قَالَ: التَّوْرَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ زَيْدٍ قَالَ: الْفُرْقانَ: الْحَقُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَيِ: الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ قَالَ: هَدَيْنَاهُ صَغِيرًا، وَفِي قَوْلِهِ:
مَا هذِهِ التَّماثِيلُ قال: الأصنام.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 57 الى 70]
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)(3/487)
قَوْلُهُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ سَيَنْتَقِلُ مِنَ الْمُحَاجَّةِ بِاللِّسَانِ إِلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْفِعْلِ ثقة بالله وَمُحَامَاةً عَلَى دِينِهِ، وَالْكَيْدُ: الْمَكْرُ، يُقَالُ: كَادَهُ يَكِيدُهُ كَيْدًا وَمَكِيدَةً، وَالْمُرَادُ هُنَا الِاجْتِهَادُ فِي كَسْرِ الْأَصْنَامِ. قِيلَ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ سِرًّا، وَقِيلَ: سَمِعَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أَيْ: بَعْدَ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ عِبَادَتِهَا ذَاهِبِينَ مُنْطَلِقِينَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ لَهُمْ عِيدٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَقَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ:
لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا أَعْجَبَكَ دِينُنَا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً فَصِيحَةٌ، أَيْ: فَوَلَّوْا، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا، الْجَذُّ: الْقَطْعُ وَالْكَسْرُ، يُقَالُ: جَذَذْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ وَكَسَرْتُهُ، الْوَاحِدُ: جَذَاذَةٌ، وَالْجُذَاذُ: مَا كُسِرَ مِنْهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَيُقَالُ لِحِجَارَةِ الذَّهَبِ الْجُذَاذُ لِأَنَّهَا تُكْسَرُ. قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «جِذَاذًا» بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ: كَسْرًا وَقَطْعًا، جَمْعُ جَذِيذٍ، وَهُوَ الْهَشِيمُ، مِثْلُ خَفِيفٍ وَخِفَافٍ، وَظَرِيفٍ وَظِرَافٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
جذّذ الأصام فِي مِحْرَابِهَا ... ذَاكَ فِي اللَّهِ الْعَلِيِّ الْمُقْتَدِرِ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، أَيِ: الْحُطَامُ وَالرِّقَاقُ، فِعَالُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهَذَا هُوَ الْكَيْدُ الَّذِي وَعَدَهُمْ به. وقرأ ابن عباس وأبو السمال «جَذَاذًا» بِفَتْحِ الْجِيمِ. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أَيْ: لِلْأَصْنَامِ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَرْجِعُونَ فَيُحَاجُّهُمْ بِمَا سَيَأْتِي فَيَحُجُّهُمْ، وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ إِلَى الصَّنَمِ الْكَبِيرِ يَرْجِعُونَ فَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الْكَاسِرِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَعْبُودِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ فِي الْمُهِمَّاتِ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ لَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ خَبَرًا، فَيَعْلَمُونَ حِينَئِذٍ أَنَّهَا لَا تَجْلِبُ نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ ضَرَرًا، وَلَا تَعْلَمُ بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، وَلَا تُخْبِرُ عَنِ الَّذِي يَنُوبُهَا مِنَ الْأَمْرِ وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ إِلَى اللَّهِ يَرْجِعُونَ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ، وَرَأَوْا مَا حَدَثَ بِآلِهَتِهِمْ، قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَقِيلَ: إِنَّ «مَنْ» لَيْسَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً، بَلْ هِيَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا «إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ، أَيْ: فَاعِلِ هَذَا ظَالِمٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنا فَتًى إِلَخْ، فَإِنَّهُ قَالَ بِهَذَا بَعْضُهُمْ مُجِيبًا لِلْمُسْتَفْهِمِينَ لَهُمْ، وَهَذَا الْقَائِلُ هُوَ الَّذِي سَمِعَ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ. وَمَعْنَى يَذْكُرُهُمْ: يَعِيبُهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَجُمْلَةُ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِفَتًى.
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَارْتَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى مَعْنَى: يُقَالُ لَهُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ، فَهُوَ عَلَى هَذَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَقِيلَ: ارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَقِيلَ: مُرْتَفِعٌ عَلَى النِّدَاءِ.
وَمِنْ غَرَائِبِ التَّدْقِيقَاتِ النَّحْوِيَّةِ، وَعَجَائِبِ التَّوْجِيهَاتِ الْإِعْرَابِيَّةِ، أَنَّ الْأَعْلَمَ الشَّنْتَمَرِيَّ الْأَشْبِيلِيَّ قَالَ:
إِنَّهُ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْإِهْمَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبَ إِلَى رَفْعِهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَالْفَتَى: هُوَ الشَّابُّ، وَالْفَتَاةُ الشَّابَّةُ قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ الْقَائِلُونَ هُمُ السّائلون، أمروا بعضهم أن يأتوا بِهِ ظَاهِرًا بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ. قِيلَ:
إِنَّهُ لَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ نَمْرُوذَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَقَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ يَسْتَحِلُّونَ بِهَا مِنْهُ مَا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يَفْعَلُوهُ بِهِ، وَمَعْنَى لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَعَلَّهُمْ يَحْضُرُونَ عِقَابَهُ حَتَّى يَنْزَجِرَ غَيْرُهُ عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَكْسِرُ الْأَصْنَامَ، أَوْ لَعَلَّهُمْ(3/488)
يَشْهَدُونَ طَعْنَهُ عَلَى أَصْنَامِهِمْ، وَجُمْلَةُ قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ أَتَوْا بِهِ فَاسْتَفْهَمُوهُ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ فِي زَعْمِهِمْ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا أَيْ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ مُقِيمًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، مُبَكِّتًا لَهُمْ، بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، مُشِيرًا إِلَى الصَّنَمِ الَّذِي تَرَكَهُ ولم يكسره فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أَيْ: إِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُمْكِنُهُ النُّطْقَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ وَيَفْهَمُ مَا يقال له فيجيب عنه بما يطابقه، أراد عليه الصلاة والسلام أن يبيّن لهم أن من لا يتكلم ولا يعلم ليس بمستحق للعبادة، وَلَا يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِلَهٌ. فَأُخْرِجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ التَّعْرِيضِ لَهُمْ بِمَا يُوقِعُهُمْ فِي الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الْجَمَادَاتِ الَّتِي عَبَدُوهَا لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ، لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا إِنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، قَالَ لَهُمْ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَنْ يَعْجَزُ عَنِ النُّطْقِ، وَيَقْصُرُ عَنْ أَنْ يَعْلَمَ بِمَا يَقَعُ عِنْدَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؟ فَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ بَابِ فَرْضِ الْبَاطِلِ مَعَ الْخَصْمِ حَتَّى تَلْزَمَهُ الْحُجَّةُ وَيَعْتَرِفَ بِالْحَقِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْطَعُ لِشُبْهَتِهِ وَأَدْفَعُ لِمُكَابَرَتِهِ، وَقِيلَ أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى ذَلِكَ الْكَبِيرِ مِنَ الْأَصْنَامِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَارَ وَغَضِبَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ وَتُعْبَدَ الصِّغَارُ مَعَهُ إِرْشَادًا لَهُمْ إِلَى أَنَّ عِبَادَةَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَدْفَعُ، لَا تُسْتَحْسَنُ فِي الْعَقْلِ مَعَ وُجُودِ خَالِقِهَا وَخَالِقِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وقرأ ابن السّميقع بَلْ فَعَلَهُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، عَلَى مَعْنَى بَلْ فَلَعَلَّ الْفَاعِلَ كَبِيرُهُمْ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: رَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ رُجُوعَ الْمُنْقَطِعِ عَنْ حُجَّتِهِ، الْمُتَفَطِّنِ لِصِحَّةِ حُجَّةِ خَصْمِهِ الْمُرَاجِعِ لِعَقْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَنَبَّهُوا وَفَهِمُوا عِنْدَ هَذِهِ الْمُقَاوَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى الْإِضْرَارِ بِمَنْ فَعَلَ بِهِ مَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بِتِلْكَ الْأَصْنَامِ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ، وَلِهَذَا فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ:
قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِكُمْ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ، وَلَيْسَ الظَّالِمُ مَنْ نَسَبْتُمُ الظُّلْمَ إِلَيْهِ بِقَوْلِكُمْ:
إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أَيْ: رَجَعُوا إِلَى جَهْلِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، شَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَوْدَهُمْ إِلَى الْبَاطِلِ بِصَيْرُورَةِ أَسْفَلِ الشَّيْءِ أَعْلَاهُ، وقيل: المعنى: أنهم طأطئوا رؤوسهم خجلا مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ نكسوا رؤوسهم بِفَتْحِ الْكَافِ، وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَصِحَّ هذا التفسير، بل قال: «نكسوا على رؤوسهم» وَقُرِئَ «نُكِّسُوا» بِالتَّشْدِيدِ، ثُمَّ قَالُوا بَعْدَ أَنْ نُكِسُوا مُخَاطِبِينَ لِإِبْرَاهِيمَ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أَيْ: قَائِلِينَ لِإِبْرَاهِيمَ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ النطق ليس من شأن هذه الأصنام، ف قالَ إِبْرَاهِيمُ مُبَكِّتًا لَهُمْ، وَمُزْرِيًا عَلَيْهِمْ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً مِنَ النَّفْعِ وَلا يَضُرُّكُمْ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ، ثُمَّ تَضَجَّرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَفِي هَذَا تَحْقِيرٌ لَهُمْ وَلِمَعْبُودَاتِهِمْ، وَاللَّامُ فِي «لَكُمْ» لِبَيَانِ الْمُتَأَفَّفِ بِهِ أَيْ: لَكُمْ وَلِآلِهَتِكُمْ، وَالتَّأَفُّفُ: صَوْتٌ يَدُلُّ عَلَى التَّضَجُّرِ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ عُقُولٌ تَتَفَكَّرُونَ بِهَا، فَتَعْلَمُونَ هَذَا الصُّنْعَ الْقَبِيحَ الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ قالُوا حَرِّقُوهُ أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَمَّا أَعْيَتْهُمُ الْحِيلَةُ فِي دَفْعِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَجَزُوا عَنْ مُجَادَلَتِهِ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ مَسَالِكُ الْمُنَاظَرَةِ: حَرِّقُوا إِبْرَاهِيمَ، انْصِرَافًا مِنْهُمْ إِلَى طَرِيقِ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ، وَمَيْلًا مِنْهُمْ إِلَى إِظْهَارِ الْغَلَبَةِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَعَلَى أَيِّ أَمْرٍ اتَّفَقَ، وَلِهَذَا قَالُوا: وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أَيِ: انْصُرُوهَا(3/489)
بِالِانْتِقَامِ مِنْ هَذَا الَّذِي فَعَلَ بِهَا مَا فَعَلَ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لِلنَّصْرِ وَقِيلَ: هَذَا الْقَائِلُ هُوَ نُمْرُوذُ وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَضْرَمُوا النَّارَ، وَذَهَبُوا بِإِبْرَاهِيمَ إِلَيْهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قُلْنَا: يَا نَارُ كُونِي ذَاتَ بَرْدٍ وَسَلَامٍ وَقِيلَ: إِنَّ انْتِصَابَ سَلَامًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَسَلَّمْنَا سَلَامًا عَلَيْهِ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً أَيْ: مَكْرًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أَيْ:
أَخْسَرَ مِنْ كُلِّ خَاسِرٍ وَرَدَدْنَا مَكْرَهُمْ عَلَيْهِمْ فَجَعَلْنَا لَهُمْ عَاقِبَةَ السُّوءِ كَمَا جَعَلْنَا لِإِبْرَاهِيمَ عَاقِبَةَ الْخَيْرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عِيدِهِمْ مَرُّوا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَا تَخْرُجُ مَعَنَا؟ قَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَدْ كَانَ بالأمس قال: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَسَمِعَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا انْطَلَقَ إِلَى أَهْلِهِ، فَأَخَذَ طَعَامًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَلَا تَأْكُلُونَ؟ فَكَسَرَهَا إِلَا كَبِيرَهُمْ، ثُمَّ رَبَطَ فِي يَدِهِ الَّذِي كَسَرَ بِهِ آلِهَتَهُمْ، فَلَمَّا رَجَعَ الْقَوْمُ مِنْ عِيدِهِمْ دَخَلُوا، فَإِذَا هُمْ بِآلِهَتِهِمْ قَدْ كُسِرَتْ، وَإِذَا كَبِيرُهُمْ فِي يَدِهِ الَّذِي كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، قَالُوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا؟
فَقَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا إِبْرَاهِيمَ يقول: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ فَجَادَلَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جُذاذاً قَالَ: حُطَامًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: فُتَاتًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا قَالَ: عَظِيمُ آلِهَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ كُلُّهُنَّ فِي اللَّهِ: قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ وَلَمْ يَكُنْ سَقِيمًا، وَقَوْلُهُ لِسَارَّةَ: أُخْتِي «1» ، وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا» وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا. وَقَدْ رَوَى نَحْوَ هذا أبو يعلى من حديث أَبِي سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا جُمِعَ لِإِبْرَاهِيمَ مَا جُمِعَ، وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ، جَعَلَ خَازِنُ الْمَطَرَ يَقُولُ: مَتَى أُومَرُ بِالْمَطَرِ فَأُرْسِلَهُ؟ فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ، قَالَ اللَّهُ: كُونِي بَرْداً وَسَلاماً فَلَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ نَارٌ إِلَّا طُفِئَتْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أبي حاتم والطبراني عَنْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ تَكُنْ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ عَنْهُ النَّارَ، غَيْرَ الْوَزَغِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَوَّلُ كَلِمَةٍ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:
يا نارُ كُونِي قَالَ: كَانَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي نَادَاهَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ لَمْ يُتْبِعْ بَرْدَهَا سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ يُوثَقُ لِيُلْقَى فِي النَّارِ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَكَ حَاجَةٌ؟
قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: مَا أَحْرَقَتِ النار من إبراهيم
__________
(1) . يراجع فتح الباري حديث رقم (6/ 3358) .
(2) . آل عمران: 173.(3/490)