مَوْضِعٍ، وَتَرْكُ الْأَوَّلِ لِإِيثَارِ الثَّانِي، وَالْهَجْرُ: ضِدُّ الْوَصْلِ، وَالتَّهَاجُرُ: التَّقَاطُعُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالْمُجَاهَدَةُ: اسْتِخْرَاجُ الْجُهْدِ، جَهَدَ مُجَاهَدَةً وَجِهَادًا، وَالْجِهَادُ وَالتَّجَاهُدُ: بَذْلُ الْوُسْعِ. وَقَوْلُهُ: يَرْجُونَ مَعْنَاهُ: يَطْمَعُونَ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَرْجُونَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَادِحَةِ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَلَوْ بَلَغَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كُلَّ مَبْلَغٍ. وَالرَّجَاءُ: الأمل، يقال: رجوت فلانا، أرجو رَجَاءً وَرَجَاوَةً. وَقَدْ يَكُونُ الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «1» أَيْ: لَا تَخَافُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ بَعَثَ رَهْطًا، وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، أَوْ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْطَلِقَ بَكَى شَوْقًا وَصَبَابَةً إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ فَبَعَثَ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: لَا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى الْمَسِيرِ مَعَكَ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ وَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَخَبَّرَهُمُ الْخَبَرَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَرَجَعَ رَجُلَانِ، وَمَضَى بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيَّ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أَوْ جُمَادَى، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ الْآيَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصَابُوا وِزْرًا فَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا إلى آخر الآية.
وأخرج ابن الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ هُوَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ:
إِنَّ الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدُّوهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ. فَقَالَ اللَّهُ: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ فِيهِ، وأن محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً، فَلَقُوا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنَ الطَّائِفِ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَإِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ جُمَادَى، وَكَانَتْ أَوَّلَ رَجَبٍ وَلَمْ يَشْعُرُوا، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَرْسَلُوا يُعَيِّرُونَهُ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ مُصَابُ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ. وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي تَعْيِينِ السَّبَبِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: أُحِلَّ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي بَرَاءَةٌ فِي قَوْلِهِ:
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ مَنْسُوخٌ، وَلَا بَأْسَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ في براءة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «3» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ قَالَ: الشِّرْكُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ قَالَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قوله:
أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ قَالَ: هَؤُلَاءِ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَهْلَ رَجَاءٍ، إِنَّهُ مَنْ رَجَا طَلَبَ،
__________
(1) . نوح: 13.
(2) . التوبة: 36.
(3) . التوبة: 5.(1/251)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
وَمَنْ خَافَ هَرَبَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
السائلون في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْخَمْرُ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَمَرَ إِذَا سَتَرَ، وَمِنْهُ: خِمَارُ الْمَرْأَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ غَطَّى شَيْئًا فَقَدْ خَمَرَهُ، وَمِنْهُ «خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ» وَسُمِّي خَمْرًا: لِأَنَّهُ يَخْمُرُ الْعَقْلَ، أَيْ: يُغَطِّيهِ وَيَسْتُرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ يُقَالُ لَهُ: الْخَمْرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، لِأَنَّهُ يُغَطِّي مَا تَحْتَهُ وَيَسْتُرُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَخْمَرَتِ الْأَرْضُ: كَثُرَ خَمْرُهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمْرَ الطَّرِيقِ
أَيْ: جَاوَزْتُمَا الْوَهْدَ وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا: لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أُدْرِكَتْ، كَمَا يُقَالُ: قَدِ اخْتَمَرَ الْعَجِينُ، أَيْ: بَلَغَ إِدْرَاكُهُ، وَخُمِّرَ الرَّأْيُ: أَيْ: تُرِكَ حَتَّى تَبَيَّنَ فِيهِ الْوَجْهُ وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا:
لِأَنَّهَا تُخَالِطُ الْعَقْلَ، مِنَ الْمُخَامَرَةِ وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَمْرِ، لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أُدْرِكَتْ ثُمَّ خَالَطَتِ الْعَقْلَ فَخَمَّرَتْهُ، أَيْ: سَتَرَتْهُ، وَالْخَمْرُ: مَاءُ الْعِنَبِ الَّذِي غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَمَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ عِكْرِمَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ فَهُوَ حَلَالٌ، أَيْ: مَا دُونُ الْمُسْكِرِ فِيهِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى حَلِّ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ. وَقَدْ أَطَلْتُ الْكَلَامَ عَلَى الْخَمْرِ فِي شَرْحِي لِلْمُنْتَقَى فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَالْمَيْسِرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْيُسْرِ، وَهُوَ وُجُوبُ الشَّيْءِ لِصَاحِبِهِ، يُقَالُ يَسُرَ لِي كَذَا: إِذَا وَجَبَ فَهُوَ يَيْسِرُ يُسْرًا وَمَيْسَرًا، وَالْيَاسِرُ اللَّاعِبُ بِالْقِدَاحِ. وَقَدْ يَسُرَ يَيْسُرُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَعِنْهُمُ وَايْسُرْ كَمَا يَسَرُوا بِهِ ... وَإِذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَيْسِرُ: الْجَزُورُ الَّتِي كَانُوا يَتَقَامَرُونَ عَلَيْهِ، سُمِّيَ مَيْسِرًا: لِأَنَّهُ يُجَزَّأُ أَجْزَاءً، فَكَأَنَّهُ مَوْضِعُ التَّجْزِئَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ جَزَّأْتُهُ فَقَدْ يَسَّرْتُهُ، وَالْيَاسِرُ: الْجَازِرُ. قَالَ: وَهَذَا الْأَصْلُ فِي الْيَاسِرِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلضَّارِبِينَ بِالْقِدَاحِ وَالْمُتَقَامِرِينَ عَلَى الْجَزُورِ: يَاسِرُونَ، لِأَنَّهُمْ جَازِرُونَ، إِذْ كَانُوا سَبَبًا لِذَلِكَ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَيَسَرَ الْقَوْمُ الْجَزُورَ: إِذَا اجْتَزَرُوهَا، وَاقْتَسَمُوا أَعْضَاءَهَا ثُمَّ قَالَ: وَيُقَالُ يَسَرَ الْقَوْمُ: إِذَا قَامَرُوا، وَرَجُلٌ مَيْسِرٌ وَيَاسِرٌ بِمَعْنًى، وَالْجَمْعُ أَيْسَارٌ. قَالَ النَّابِغَةُ:
إِنِّي أُتَمِّمُ أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الْأُدُمَا
وَالْمُرَادُ بِالْمَيْسِرِ فِي الْآيَةِ: قِمَارُ الْعَرَبِ بِالْأَزْلَامِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ:(1/252)
كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ قِمَارٌ مِنْ نَرْدٍ أَوْ شِطْرَنْجٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَهُوَ الْمَيْسِرُ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ وَالْكِعَابِ، إِلَّا مَا أُبِيحَ مِنَ الرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ وَالْقُرْعَةِ فِي إِفْرَازِ الْحُقُوقِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَيْسِرُ مَيْسِرَانِ: مَيْسِرُ اللَّهْوِ، وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ، فَمِنْ مَيْسِرِ اللَّهْوِ: النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَالْمَلَاهِي كُلُّهَا، وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ: مَا يَتَخَاطَرُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا قُومِرَ بِهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ مُطُوَّلًا فِي هَذَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ عند وقوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. قَوْلُهُ:
قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ يَعْنِي: الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ، فَإِثْمُ الْخَمْرِ: أَيْ: إِثْمُ تَعَاطِيهَا، يَنْشَأُ مِنْ فَسَادِ عَقْلِ مُسْتَعْمِلِهَا، فَيَصْدُرُ عَنْهُ مَا يَصْدُرُ عَنْ فَاسِدِ الْعَقْلِ مِنَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ، وَقَوْلِ الْفُحْشِ وَالزُّورِ، وَتَعْطِيلِ الصَّلَوَاتِ، وَسَائِرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِثْمُ الْمَيْسِرِ: أَيْ: إِثْمُ تعاطيه، فما ينشأ عن ذلك من الفقر وذهاب المال في غير طائل، والعداوة وإيحاش الصُّدُورِ. وَأَمَّا مَنَافِعُ الْخَمْرِ: فَرِبْحُ التِّجَارَةِ فِيهَا وَقِيلَ: مَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الطَّرَبِ وَالنَّشَاطِ وَقُوَّةِ الْقَلْبِ وَثَبَاتِ الْجَنَانِ، وَإِصْلَاحِ الْمَعِدَةِ، وَقُوَّةِ الْبَاءَةِ وَقَدْ أَشَارَ شُعَرَاءُ الْعَرَبِ إِلَى شَيْءٍ من ذلك قال:
فإذا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ
وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ
وَقَالَ مَنْ أَشَارَ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ:
رَأَيْتُ الْخَمْرَ صَالِحَةً وَفِيهَا ... خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الْحَلِيمَا
فَلَا- وَاللَّهِ- أَشْرَبُهَا صَحِيحَا ... وَلَا أَشْفِي بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا
وَلَا أُعْطِي بِهَا ثَمَنًا حَيَاتِي ... وَلَا أَدْعُو لَهَا أَبَدًا نَدِيمَا
وَمَنَافِعُ الْمَيْسِرِ: مَصِيرُ الشَّيْءِ إِلَى الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ تَعَبٍ وَلَا كَدٍّ، وَمَا يَحْصُلُ مِنَ السُّرُورِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ عِنْدَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ مِنْهَا سَهْمٌ صَالِحٌ. وَسِهَامُ الْمَيْسِرِ أَحَدَ عَشَرَ، مِنْهَا سَبْعَةٌ لَهَا فَرُوضٌ عَلَى عَدَدِ مَا فِيهَا مِنَ الْحُظُوظِ. الْأَوَّلُ:
الْفَذُّ، بِفَتْحِ الْفَاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَفِيهِ عَلَامَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَهُ نَصِيبٌ، وَعَلَيْهِ نَصِيبٌ. الثَّانِي: التَّوْأَمُ، بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِيهِ عَلَامَتَانِ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ نَصِيبَانِ. الثَّالِثُ: الرَّقِيبُ، وَفِيهِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ. الرَّابِعُ: الْحِلْسُ بِمُهْمَلَتَيْنِ، الْأُولَى مَكْسُورَةٌ وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ، وَفِيهِ أَرْبَعُ عَلَامَاتٍ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَنْصِبَاءَ. الْخَامِسُ: النَّافِرُ، بِالنُّونِ وَالْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَيُقَالُ: النَّافِسُ، بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَكَانَ الرَّاءِ، وَفِيهِ خَمْسُ عَلَامَاتٍ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ خَمْسَةُ أَنْصِبَاءَ. السَّادِسُ: الْمُسْبَلُ، بِضَمِّ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْمُهْمِلَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِيهِ سِتُّ عَلَامَاتٍ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ أَنْصِبَاءَ. السَّابِعُ. الْمُعَلَّى، بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ، وَفِيهِ سَبْعُ عَلَامَاتٍ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ سَبْعَةُ أَنْصِبَاءَ، وَهُوَ أَكْثَرُ السِّهَامِ حَظًّا، وَأَعْلَاهَا قَدْرًا، فَجُمْلَةُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْدًا. وَالْجَزُورُ تُجْعَلُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا، هَكَذَا قَالَ الأصمعي،(1/253)
وَبَقِيَ مِنَ السِّهَامِ أَرْبَعَةٌ أَغْفَالًا لَا فُرُوضَ لَهَا، وَهِيَ: الْمَنِيحُ، بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَكَسْرِ النُّونِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَبَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ. وَالسَّفِيحُ، بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، بَعْدَهَا مهملة. والوغد، بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، بَعْدَهَا مُهْمَلَةً، وَالضَّعْفُ بِالْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ ثُمَّ فَاءٌ، وَإِنَّمَا أَدْخَلُوا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي لَا فُرُوضَ لَهَا بَيْنَ ذَوَاتِ الْفُرُوضِ لِتَكْثُرَ السِّهَامُ عَلَى الَّذِي يُجِيلُهَا وَيَضْرِبُ بِهَا فَلَا يَجِدُ إِلَى الْمَيْلِ مَعَ أَحَدٍ سَبِيلًا.
وَقَدْ كَانَ الْمُجِيلُ لِلسِّهَامِ يَلْتَحِفُ بِثَوْبٍ، وَيَحْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الرِّبَابَةِ، بِكَسْرِ الْمُهْمِلَةِ، وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ الْخَرِيطَةُ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا السِّهَامُ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا بِاسْمِ كُلِّ رَجُلٍ سَهْمًا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمٌ لَهُ فَرْضٌ أَخَذَ فَرْضَهُ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمٌ لَا فَرْضَ لَهُ، لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا وَغُرِّمَ قِيمَةَ الْجَزُورِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءَ إِلَى الْفُقَرَاءِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الْأَصْمَعِيَّ أَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الْجَزُورَ تُقَسَّمُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَقَالَ: إِنَّمَا تُقَسَّمُ عَلَى عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: بِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا نَفْعٌ فَالْإِثْمُ الَّذِي يَلْحَقُ مُتَعَاطِيَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ هَذَا النَّفْعِ، لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ يُسَاوِي فَسَادَ الْعَقْلِ الْحَاصِلَ بِالْخَمْرِ، فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الشُّرُورِ مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَصْرُ وَكَذَلِكَ لَا خَيْرَ فِي الْمَيْسِرِ يُسَاوِي مَا فِيهَا مِنَ الْمُخَاطَرَةِ بِالْمَالِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْفَقْرِ، وَاسْتِجْلَابِ الْعَدَاوَاتِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَهَتْكِ الْحُرَمِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: كَثِيرٌ بِالْمُثَلَّثَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَإِثْمُهُمَا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمَا. قَوْلُهُ: قُلِ الْعَفْوَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ:
بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أبو عمرة وَحْدَهُ: بِالرَّفْعِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَبِالرَّفْعِ قَرَأَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، قَالَ النَّحَّاسُ: إِنْ جُعِلَتْ ذَا بِمَعْنَى: الَّذِي، كَانَ الِاخْتِيَارُ الرَّفْعَ عَلَى مَعْنَى الَّذِي يُنْفِقُونَ هُوَ الْعَفْوُ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَا وَذَا شَيْئًا وَاحِدًا كَانَ الِاخْتِيَارُ النصب على المعنى: قُلْ يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ، وَالْعَفْوُ: مَا سَهُلَ وَتَيَسَّرَ وَلَمْ يَشُقُّ عَلَى الْقَلْبِ وَالْمَعْنَى: أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عَنْ حَوَائِجِكُمْ وَلَمْ تُجْهِدُوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ وَقِيلَ: هُوَ مَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَةِ الْعِيَالِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ نَفَقَاتُ التَّطَوُّعِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَفِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ. قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي: في أمر النفقة. وقوله: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تَتَفَكَّرُونَ أَيْ: تتفكرون في أمرهما، فتحسبون مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا تُصْلِحُونَ بِهِ مَعَايِشَ دُنْيَاكُمْ، وَتُنْفِقُونَ الْبَاقِيَ فِي الْوُجُوهِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا، وَفِي الْآخِرَةِ وَبَقَائِهَا، فَتَرْغَبُونَ عَنِ الْعَاجِلَةِ إِلَى الْآجِلَةِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أَيْ: لِتَتَفَكَّرُوا فِي أَمْرِ الدنيا والآخرة، وليس هذا بجيد. قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
«1» وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى «2» وَقَدْ كَانَ ضَاقَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ الْأَمْرُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْإِصْلَاحِ هُنَا: مُخَالَطَتُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ لِأَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ مِنْ مُجَانَبَتِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ بِالْبَيْعِ، وَالْمُضَارَبَةِ، والإجارة، ونحو ذلك. قوله:
__________
(1) . الأنعام: 152.
(2) . النساء: 10.(1/254)
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْمُخَالَطَةِ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُخَالَطَةُ الْيَتَامَى: أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمُ الْمَالُ وَيَشُقَّ عَلَى كَافِلِهِ أَنْ يُفْرِدَ طَعَامَهُ عَنْهُ، وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ خَلْطِهِ بِعِيَالِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مَا يَرَى أَنَّهُ كَافِيهِ بِالتَّحَرِّي، فَيَجْعَلُهُ مَعَ نَفَقَةِ أَهْلِهِ، وَهَذَا قَدْ تَقَعُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَهِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُخَالَطَةِ: الْمُعَاشَرَةُ لِلْأَيْتَامِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا: الْمُصَاهَرَةُ لَهُمْ.
وَالْأَوْلَى: عَدَمُ قَصْرِ الْمُخَالَطَةِ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ، بَلْ تَشْمَلُ كُلَّ مُخَالَطَةٍ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ. وَقَوْلُهُ:
فَإِخْوانُكُمْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ تَحْذِيرٌ لِلْأَوْلِيَاءِ، أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهُوَ يجازي كل أحد بعلمه، ومن أَصْلَحَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَفْسَدَ فَعَلَى نَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ: لَأَعْنَتَكُمْ أَيْ: وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ ذَلِكَ شَاقًّا عَلَيْكُمْ، وَمُتْعِبًا لَكُمْ، وَأَوْقَعَكُمْ فِيمَا فِيهِ الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ: الْعَنَتُ هُنَا: مَعْنَاهُ الْهَلَاكُ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَصْلُ الْعَنَتِ:
الْمَشَقَّةُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَصْلُ الْعَنَتِ: التَّشْدِيدُ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَعْنَى الْهَلَاكِ. وَقَوْلُهُ: عَزِيزٌ أَيْ:
لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ غَالِبٌ لَا يُغَالَبُ حَكِيمٌ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ بِمَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ، وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تُذْهِبُ بالمال والعقل، فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في سورة النساء:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «1» فَكَانَ يُنَادِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ:
أَنْ لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «2» قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نَشْرَبُ الْخَمْرَ فأنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الْآيَةَ، فَقُلْنَا نَشْرَبُ مِنْهَا مَا يَنْفَعُنَا، فَنَزَلَتْ فِي الْمَائِدَةِ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «3» الآية، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ انْتَهَيْنَا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُخَاطِرُ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَأَيُّهُمَا قَمَرَ صَاحِبَهُ ذَهَبَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ. وَقَوْلُهُ:
قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ يَعْنِي: مَا يَنْقُصُ مِنَ الدِّينِ عِنْدَ شُرْبِهَا وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يَقُولُ: فِيمَا يُصِيبُونَ مِنْ لَذَّتِهَا، وَفَرَحِهَا إِذَا شَرِبُوا وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما يَقُولُ: مَا يَذْهَبُ مِنَ الدِّينِ، فَالْإِثْمُ فِيهِ أَكْبَرُ مِمَّا يُصِيبُونَ مِنْ لَذَّتِهَا وَفَرَحِهَا إِذَا شَرِبُوهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى الْآيَةَ، فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَهَا عِنْدَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا، ثُمَّ إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرِبُوهَا فَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَكَلَّمُوا بِمَا لَمْ يَرْضَ اللَّهُ مِنَ الْقَوْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ «4» الآية، فحرّم
__________
(1) . النساء: 43.
(2) . المائدة: 91- 92.
(3) . المائدة: 90.
(4) . المائدة: 90.(1/255)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
الْخَمْرَ وَنَهَى عَنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مَنَافِعُهُمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَإِثْمُهُمَا بَعْدَ مَا حَرَّمَهُمَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: أَنَّ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ حِينَ أُمِرُوا بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أتوا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَدْرِي مَا هَذِهِ النَّفَقَةُ الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا فِي أَمْوَالِنَا، فَمَا ننفق منها؟ فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُنْفِقُ مَالَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَلَا مَا يَأْكُلُ حَتَّى يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْعَفْوُ: هُوَ مَا لَا يَتَبَيَّنُ فِي أَمْوَالِكُمْ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّدَقَةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعَفْوَ مَا يَفْضُلُ عَنْ أَهْلِكَ، وَفِي لَفْظٍ قَالَ:
الْفَضْلُ عَنِ الْعِيَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: قُلِ الْعَفْوَ قَالَ: لَمْ تُفْرَضْ فِيهِ فَرِيضَةٌ مَعْلُومَةٌ ثم قال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ثُمَّ نَزَلَتْ فِي الْفَرَائِضِ بَعْدَ ذَلِكَ مُسَمَّاةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . وَثَبَتَ نَحْوُهُ فِي الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قَالَ: يَعْنِي فِي زَوَالِ الدُّنْيَا، وَفَنَائِهَا، وَإِقْبَالِ الْآخِرَةِ، وَبَقَائِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى الآية، انطلق من كن عِنْدَهُ يَتِيمٌ يَعْزِلُ طَعَامَهُ عَنْ طَعَامِهِ، وَشَرَابَهُ عَنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْصِلُ لَهُ الشَّيْءَ مِنْ طَعَامِهِ، فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ، أَوْ يَفْسُدَ فَيَرْمِيَ بِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى الْآيَةَ. فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ قَالَ: الْمُخَالَطَةُ: أَنْ يَشْرَبَ مِنْ لَبَنِكَ، وَتَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهِ، وَيَأْكُلَ مِنْ قَصْعَتِكَ، وَتَأْكُلَ مِنْ قَصْعَتِهِ، وَيَأْكُلَ مِنْ ثَمَرَتِكَ، وَتَأْكُلَ مِنْ ثَمَرَتِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ قَالَ: يَعْلَمُ مَنْ يَتَعَمَّدُ أَكَلَ مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّجُ مِنْهُ، وَلَا يَأْلُو عَنْ إِصْلَاحِهِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ يَقُولُ: لَوْ شَاءَ مَا أَحَلَّ لَكُمْ مَا أَعَنْتُكُمْ مِمَّا لَا تَتَعَمَّدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَأَعْنَتَكُمْ يَقُولُ: لَأَحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّهُ وَسَّعَ وَيَسَّرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ قَالَ: وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا.
[سورة البقرة (2) : آية 221]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)(1/256)
قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِضَمِّهَا قِيلَ وَالْمَعْنَى: كَانَ الْمُتَزَوِّجُ لَهَا أَنْكَحَهَا مِنْ نَفْسِهَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُشْرِكَاتِ الْوَثَنِيَّاتُ وَقِيلَ:
إِنَّهَا تَعُمُّ الْكِتَابِيَّاتِ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُشْرِكُونَ: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «1» وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنِ اللَّهَ حَرَّمَ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ فِيهَا وَالْكِتَابِيَّاتُ مِنَ الْجُمْلَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ فَخَصَّصَتِ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ. وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ وَالْمُشْرِكَاتِ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَيُجَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ: بِأَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ من أوّل من نَزَلَ وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ. وَقَدْ قَالَ بِهِ- مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ- عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَطَلْحَةُ، وَجَابِرٌ، وَحُذَيْفَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، كَمَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ، وَالْقُرْطُبِيُّ. وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْمَذْكُورِينَ، وَزَادَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَوَائِلِ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ لَا يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ «2» . وَقَالَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ «3» وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِينَ يَعُمُّ، فَهَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ كَمَا قَدَّمْنَا. قَوْلُهُ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَيْ: وَلَرَقِيقَةٌ مُؤْمِنَةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمَةِ: الْحُرَّةُ، لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا سَيَأْتِي، لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ، فَإِنَّ تَفْضِيلَ الْأَمَةِ الرَّقِيقَةِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ تَفْضِيلُ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ بِالْأَوْلَى. وَقَوْلُهُ:
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ أَيْ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمُ الْمُشْرِكَةُ، مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا ذَاتَ جَمَالٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ شَرَفٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. قَوْلُهُ: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أَيْ: لَا تُزَوِّجُوهُمْ بِالْمُؤْمِنَاتِ حَتَّى يُؤْمِنُوا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَطَأُ الْمُؤْمِنَةَ بِوَجْهٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَاضَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ التَّاءِ مَنْ: تُنْكِحُوا. وَقَوْلُهُ: وَلَعَبْدٌ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَأَمَةٌ وَالتَّرْجِيحُ كَالتَّرْجِيحِ. قَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أَيْ: إِلَى الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ، فَكَانَ فِي مُصَاهَرَتِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ وَمُصَاحَبَتِهِمْ مِنَ الْخَطَرِ الْعَظِيمِ مَا لَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يتعرضوا له، ويدخلوا فيه وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ أَيْ: إِلَى الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْجَنَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ أَيْ: بِأَمْرِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: بِتَيْسِيرِهِ وَتَوْفِيقِهِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، اسْتَأْذَنَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي عَنَاقَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ ذَاتَ حظ من جمال، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ وَأَبُو مَرْثَدٍ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهَا تُعْجِبُنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ
__________
(1) . التوبة: 30.
(2) . البقرة: 105.
(3) . البينة: 1. [.....](1/257)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ قَالَ: اسْتَثْنَى اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «1» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ يَعْنِي: أَهْلَ الْأَوْثَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ النَّخَعِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَأَوَّلَ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ قَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ: رَبُّهَا عِيسَى، أَوْ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَكَانَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهَا، فَلَطَمَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ فَزِعَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَهُ: مَا هِيَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَصُومُ، وَتُصَلِّي، وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ، وَتَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَعْتِقَنَّهَا، وَلَأَتَزَوَّجَنَّهَا، فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: نَكَحَ أَمَةً، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَيُنْكِحُوهُمْ رَغْبَةً فِي أَحْسَابِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ:
وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً لِحُذَيْفَةَ سَوْدَاءَ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا حُذَيْفَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
قَوْلُهُ: الْمَحِيضِ هُوَ الْحَيْضُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: حَاضَتِ الْمَرْأَةُ حَيْضًا وَمَحِيضًا فَهِيَ حَائِضٌ وَحَائِضَةٌ، كذا قال الفراء وأنشد:
كحائضة يزنى بها غير طاهر ونساء حيّض وحوائض، والحيضة بالكسر: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَقِيلَ: الِاسْمُ وَقِيلَ: الْمَحِيضُ: عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِيهِمَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْمَحِيضُ: اسْمُ الْحَيْضِ، وَمِثْلُهُ قول رؤبة:
إليك أشكو شدّة المعيش «2»
__________
(1) . المائدة: 5.
(2) . وعجزه: ومرّ أعوام نتفن ريشي.(1/258)
وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ السَّيَلَانِ وَالِانْفِجَارِ يُقَالُ: حَاضَ السَّيْلُ وَفَاضَ، وَحَاضَتِ الشَّجَرَةُ: أَيْ: سَالَتْ رُطُوبَتُهَا، وَمِنْهُ الْحَيْضُ: أَيِ: الْحَوْضُ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَحُوضُ إِلَيْهِ: أَيْ: يَسِيلُ. وَقَوْلُهُ: قُلْ هُوَ أَذىً أَيْ: قُلْ هُوَ شَيْءٌ يُتَأَذَّى بِهِ، أَيْ: بِرَائِحَتِهِ، وَالْأَذَى: كِنَايَةٌ عَنِ الْقَذَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْمَكْرُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى «1» . ومنه قوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ «2» وَقَوْلُهُ:
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أَيْ: فَاجْتَنِبُوهُنَّ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ إِنْ حُمِلَ الْمَحِيضُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَوْ فِي مَحَلِّ الْحَيْضِ إِنْ حُمِلَ عَلَى الِاسْمِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاعْتِزَالِ: تَرْكُ الْمُجَامَعَةِ، لَا تَرْكُ الْمُجَالَسَةِ أَوِ الْمُلَامَسَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، بَلْ يَجُوزُ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا عَدَا الْفَرْجَ، أَوْ بِمَا دُونَ الْإِزَارِ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَعْتَزِلَ فِرَاشَ زَوْجَتِهِ إِذَا حَاضَتْ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ وَطْءِ الْحَائِضِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ ضَرُورَةِ الدِّينِ. قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ قَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص عنه: بسكون الطاء وضم الهاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: يَطْهُرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَفَتْحِهَا وَفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِهَا. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَيَتَطَهَّرْنَ وَالطُّهْرُ: انْقِطَاعُ الْحَيْضِ، وَالتَّطَهُّرُ:
الِاغْتِسَالُ. وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا لِزَوْجِهَا حَتَّى تَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ: إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ وَتَيَمَّمَتْ حَيْثُ لَا مَاءَ حَلَّتْ لِزَوْجِهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا، وَلَكِنْ تَتَوَضَّأُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا بَعْدَ مُضِيِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الْغُسْلِ، وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ الْعَشْرِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِلْحَلِّ غَايَتَيْنِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْقِرَاءَتَانِ: إِحْدَاهُمَا انْقِطَاعُ الدَّمِ، وَالْأُخْرَى التَّطَهُّرُ مِنْهُ، وَالْغَايَةُ الْأُخْرَى مُشْتَمِلَةٌ عَلَى زِيَادَةٍ عَلَى الْغَايَةِ الْأُولَى، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا. وَقَدْ دَلَّ أَنَّ الْغَايَةَ الْأُخْرَى هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّطَهُّرُ، لَا مُجَرَّدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْآيَتَيْنِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْمُشْتَمِلَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَى زِيَادَةٍ بِالْعَمَلِ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ، كَذَلِكَ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ. قَوْلُهُ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَيْ: فَجَامِعُوهُنَّ، وَكَنَّى عَنْهُ بِالْإِتْيَانِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يُجَامِعُونَهُنَّ فِي الْمَأْتَى الذي أباحه الله، وهو القبل، قيل:
ومِنْ حَيْثُ بِمَعْنَى: فِي حَيْثُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «3» أَيْ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَوْلِهِ: مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ «4» أَيْ: فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ لَكُمْ فِيهِ: أَيْ: مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ وَإِحْرَامٍ وَاعْتِكَافٍ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مِنْ قِبَلِ الطُّهْرِ، لَا مِنْ قِبَلِ الْحَيْضِ وَقِيلَ: مِنْ قِبَلِ الْحَلَالِ، لَا مِنْ قِبَلِ الزِّنَا. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ قِيلَ: الْمُرَادُ: التَّوَّابُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُتَطَهِّرُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْأَحْدَاثِ، وَقِيلَ: التَّوَّابُونَ مِنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ وَقِيلَ: مِنْ إِتْيَانِهِنَّ فِي الْحَيْضِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. قَوْلُهُ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
__________
(1) . البقرة: 264.
(2) . الأحزاب: 48.
(3) . الجمعة: 9.
(4) . فاطر: 40.(1/259)
لَفْظُ الْحَرْثِ يُفِيدُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَمْ تَقَعْ إِلَّا فِي الْفَرْجِ الَّذِي هُوَ الْقُبُلُ خَاصَّةً، إِذْ هُوَ مُزْدَرَعُ الذُّرِّيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْحَرْثَ مُزْدَرَعُ النَّبَاتِ. فَقَدْ شَبَّهَ مَا يُلْقَى فِي أَرْحَامِهِنَّ مِنَ النُّطَفِ الَّتِي مِنْهَا النَّسْلُ بِمَا يُلْقَى فِي الْأَرْضِ مِنَ الْبُذُورِ الَّتِي مِنْهَا النَّبَاتُ بِجَامِعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَادَّةٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَعْنِي:
قَوْلَهُ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: أَنَّى شِئْتُمْ أَيْ: مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ: مِنْ خَلْفٍ، وَقُدَّامٍ، وَبَارِكَةً، وَمُسْتَلْقِيَةً ومضطجعة، إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَرْثِ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
إنّما الأرحام أرضو ... ن لَنَا مُحْتَرَثَاتٌ
فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا ... وَعَلَى اللَّهِ النَّبَاتُ
وَإِنَّمَا عَبَّرَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: أَنَّى لِكَوْنِهَا أَعَمَّ فِي اللُّغَةِ مِنْ كَيْفَ، وَأَيْنَ، وَمَتَى. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَفَسَّرَهَا هُنَا بِكَيْفَ. وَقَدْ ذَهَبَ السَّلَفُ، وَالْخَلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَأَنَّ إِتْيَانَ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرِهَا حَرَامٌ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بن المسيب ونافع وابن عمرو وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، حَكَاهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ: وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابٍ لَهُ يُسَمَّى «كِتَابَ السِّرِّ» وَحُذَّاقُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَمَشَايِخُهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ الْكِتَابَ، وَمَالِكٌ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كِتَابُ سِرٍّ، وَوَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْعُتْبِيَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ ابْنَ شَعْبَانَ أَسْنَدَ جَوَازَ ذَلِكَ إِلَى زُمْرَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَإِلَى مَالِكٍ مِنْ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ: «جِمَاعِ النِّسْوَانِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ» وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: رَوَى أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ فِي دِينِي شَكَّ فِي أَنَّهُ حَلَالٌ، يَعْنِي: وَطْءَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا، ثُمَّ قَرَأَ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ مَالِكٍ مِنْ طُرُقٍ: مَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ ذَلِكَ. وَفِي أَسَانِيدِهَا ضَعْفٌ. وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَمِعَ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ:
مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْلِيلِهِ وَلَا تَحْرِيمِهِ شَيْءٌ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ حَلَالٌ. وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ.
قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: كَانَ الرَّبِيعُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كَذَبَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ مِنْ كُتُبِهِ. قَوْلُهُ: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ: خَيْرًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ «1» وَقِيلَ: ابْتِغَاءَ الْوَلَدِ وَقِيلَ: التَّزْوِيجَ بِالْعَفَائِفِ، وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ فِيهِ تَحْذِيرٌ عَنِ الْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّحْذِيرِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ تَأْنِيسٌ لِمَنْ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَيَجْتَنِبُ الشَّرَّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْبَيْتِ، وَلَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذلك، فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ الْآيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَاصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ» وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: مَنْ أَتَى الْمَرْأَةَ في دبرها كان ولده
__________
(1) . البقرة: 110.(1/260)
أحول، فجاؤوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، وَعَنْ إِتْيَانِ الْحَائِضِ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الْأَذَى: الدَّمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ يَقُولُ: اعْتَزِلُوا نِكَاحَ فُرُوجِهِنَّ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ قَالَ: مِنَ الدَّمِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ قَالَ: بِالْمَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَسْتَطِيبَ بِالْمَاءِ وَيَأْتِيَهَا قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قَالَ: يَعْنِي: أَنْ يَأْتِيَهَا طَاهِرًا غَيْرَ حَائِضٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قَالَ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنْ حَيْثُ نَهَاكُمْ أَنْ تَأْتُوهُنَّ وَهُنَّ حُيَّضٌ، يَعْنِي:
مِنْ قِبَلِ الْفَرْجِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ مِنْ قِبَلِ التَّزْوِيجِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ قَالَ: مِنَ الذُّنُوبِ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ قَالَ: بِالْمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: التَّوْبَةُ: مِنَ الذُّنُوبِ، وَالتَّطْهِيرُ: مِنَ الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ خَلْفِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ إِنْ شَاءَ مجبّية، وإن شاء غير مجبّية، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَصَرَّحُوا أَنَّهُ السبب، ومن الراوين لذلك عبد الله ابن عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ، وَأُمُّ سَلَمَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ: «أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض نساء الأنصار عن التّجبية، فَتَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ وَقَالَ: صِمَامًا وَاحِدًا» وَالصِّمَامُ: السبيل. وأخرج أحمد وعبد ابن حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلَيِ اللَّيْلَةَ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ هَذِهِ الْآيَةَ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ يَقُولُ: أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: ائْتِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا كَانَ فِي الْفَرْجِ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ أَوَهِمَ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ مَعَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَانُوا يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ، فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ، وَذَلِكَ أَسْتُرُ مَا تَكُونُ المرأة،(1/261)
وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِفِعْلِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شَرْحًا، وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلَاتٍ، وَمُدْبِرَاتٍ، وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ.
فَذَهَبَ يَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي، فَسَرَى أَمْرُهُمَا، فبلغ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ يَقُولُ: مُقْبِلَاتٌ وَمُدْبِرَاتٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرْجِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فِي دُبُرِهَا فَأَوْهَمَ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَحَاشُّ النِّسَاءِ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ: «أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، فَقَالَ: حَلَالٌ أَوْ لَا بَأْسَ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ:
كَيْفَ قُلْتَ؟ أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فنعم، أما مِنْ دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلَا، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا هِيَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: إِتْيَانُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ كُفْرٌ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ طَرْقٍ مِنْهَا عِنْدَ الْبَزَّارِ عَنْ عمر مرفوعا، وعند النسائي مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ. وَعِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا، وَعِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ أَيْضًا عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا، وَعِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ طَلْقِ بْنِ يَزِيدَ أَوْ يَزِيدَ بْنِ طَلْقٍ مَرْفُوعًا، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه عند عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ مَرْفُوعًا، وَقَدْ ثَبَتَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَرْفُوعًا، وَمَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَرَأْتُ ذَاتَ يَوْمٍ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَتَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ نَزَلَتْ فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قَالَ: فِي الدُّبُرِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ نَافِعٌ: مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا؟ فَقَالَ: لَا إِلَّا فِي دُبُرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا؟ فَقَالَ: هَذَا شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَسَلْهُ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ السَّائِبِ: فَقَالَ: قَذَرٌ وَلَوْ كَانَ حَلَالًا. وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِحَلِّ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ أَيْضًا، وعن مالك بن أنس،(1/262)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
وعند ابْنِ جَرِيرٍ وَالْخَطِيبِ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ وَالْحَاكِمِ وَالْخَطِيبِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِثْلَ هَذَا، وَلَيْسَ فِي أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى أَقْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَمَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي فَهْمِهِ. وَقَدْ فَسَّرَهَا لَنَا رَسُولُ اللَّهِ «1» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَابِرُ أَصْحَابِهِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ هَذَا الْمُخْطِئُ فِي فَهْمِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَمَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ أَحَلَّتْ ذَلِكَ، وَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ، بَلِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، فَكَوْنُ ذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي تَحْلِيلِهِ، فَإِنَّ الْآيَاتِ النَّازِلَةَ عَلَى أَسْبَابٍ تَأْتِي تَارَةً بِتَحْلِيلِ هَذَا، وَتَارَةً بِتَحْرِيمِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَ، فَقَالَ: مَعْنَاهَا: إِنْ شِئْتُمْ فَاعْزِلُوا وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَا تَعْزِلُوا. رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وعن سعيد ابن الْمُسَيَّبِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
الْعُرْضَةُ: النُّصْبَةُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. يُقَالُ جَعَلْتُ فُلَانًا عُرْضَةً لِكَذَا، أَيْ: نُصْبَةً. وَقِيلَ: الْعُرْضَةُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلْمَرْأَةُ: عُرْضَةٌ لِلنِّكَاحِ، إِذَا صَلَحَتْ لَهُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ، وَلِفُلَانٍ عُرْضَةٌ، أَيْ:
قُوَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ
وَمِثْلُهُ قَوْلُ أوس بن حجر:
وأدماء مثل الفحل يَوْمًا عَرَضْتُهَا ... لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ
وَيُطْلَقُ الْعُرْضَةُ عَلَى الْهِمَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ أَيْ: هِمَّتُهَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ لَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ فِيهِ فَعَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ: أَنَّ الْعُرْضَةَ النُّصْبَةُ كَالْقُبْضَةِ وَالْغُرْفَةِ يَكُونُ ذَلِكَ اسْمًا لِمَا تَعْرِضُهُ دُونَ الشَّيْءِ، أَيْ: تَجْعَلُهُ حَاجِزًا لَهُ، وَمَانِعًا مِنْهُ، أَيْ:
لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ حَاجِزًا وَمَانِعًا لِمَا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْلِفُ عَلَى بَعْضِ الْخَيْرِ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ إِحْسَانٍ إِلَى الْغَيْرِ، أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ: بِأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِهِ، مُعَلِّلًا لِذَلِكَ الِامْتِنَاعِ: بِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، يَنْهَاهُمُ الله أن يجعلونه عُرْضَةً لِأَيْمَانِهِمْ، أَيْ: حَاجِزًا لِمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ وَمَانِعًا مِنْهُ، وَسُمِّيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ: يَمِينًا، لِتَلَبُّسِهِ بِالْيَمِينِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوا عطف بيان لأيمانكم، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ مَانِعًا لِلْأَيْمَانِ الَّتِي هي بركم، وتقواكم،
__________
(1) . رحم الله الشوكاني لو اكتفى بعرض هذا التفسير الصادر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي يتفق مع الفطرة السوية، والنظافة الإسلامية من الأقذار والأدواء.(1/263)
وَإِصْلَاحُكُمْ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِأَيْمانِكُمْ بِقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلُوا أَيْ: لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ لِأَيْمَانِكُمْ مانعا وحاجزا، ويجوز أن يتعلق بعرضة، أَيْ: لَا تَجْعَلُوهُ شَيْئًا مُعْتَرِضًا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْبِرِّ، وَمَا بَعْدَهُ. وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْعُرْضَةَ: الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ، يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَجْعَلُوا الْيَمِينَ بِاللَّهِ قُوَّةً لِأَنْفُسِكُمْ، وَعُدَّةً فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْخَيْرِ. وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعُرْضَةِ بِالْهِمَّةِ- وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الرَّابِعِ: وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ لَا يَزَالُ عُرْضَةً لِلنَّاسِ، أَيْ: يَقَعُونَ فِيهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ: وَلَا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم، فتبتذلونه بكثرة الحلف به، ومنه: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ «1» . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْمُكْثِرِينَ لِلْحِلْفِ فَقَالَ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «2» . وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِقِلَّةِ الْأَيْمَانِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ «3» مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوا عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ مُعَرَّضًا لِأَيْمَانِكُمْ إِرَادَةَ أَنْ تَبَرُّوا، وَتَتَّقُوا، وَتُصْلِحُوا، لِأَنَّ مَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ بِاللَّهِ يَجْتَرِئُ عَلَى الْحِنْثِ وَيَفْجُرُ فِي يَمِينِهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:
أَقْوَالٌ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي فِيهِ خَيْرٌ اعْتَلَّ بِاللَّهِ، فَقَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَهُوَ لَمْ يَحْلِفْ وَقِيلَ: مَعْنَاهَا: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كَاذِبِينَ إِذَا أَرَدْتُمُ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى أَنْ لَا تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَا تَتَصَدَّقُوا وَلَا تُصْلِحُوا وَعَلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ فَكَفِّرُوا عَنِ الْيَمِينِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَبَرُّوا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيِ: الْبِرُّ وَالتَّقْوَى، وَالْإِصْلَاحُ أَوْلَى. قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ، أَيْ: لَا تَمْنَعُكُمُ الْيَمِينُ بِاللَّهِ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَيْضًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَبَرُّوا، فَحُذِفَ لَا، كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «4» أَيْ: لَا تَضِلُّوا. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ: فِي أَنْ تَبَرُّوا وَقَوْلُهُ: سَمِيعٌ أَيْ: لِأَقْوَالِ الْعِبَادِ عَلِيمٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ. وَاللَّغْوُ: مَصْدَرُ لَغَا يَلْغُو لَغْوًا، وَلَغَى يَلْغِي لَغْيًا: إِذَا أَتَى بِمَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، أَوْ بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَهُوَ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَاللَّغْوُ مِنَ الْيَمِينِ: هُوَ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَمِنْهُ:
اللَّغْوُ فِي الدِّيَةِ، وَهُوَ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَوْلَادِ الإبل، قال جرير:
ويذهب بينها «5» المرئيّ لَغْوًا ... كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الْحُوَارَا
وَقَالَ آخَرُ:
وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا ورفث التّكلّم
__________
(1) . المائدة: 89.
(2) . القلم: 10.
(3) . في القرطبي (3/ 97) : صدرت. وفي اللسان، وديوان كثيّر ص 325: سبقت.
(4) . النساء: 176.
(5) . في لسان العرب، مادة «لغا» : ويهلك وسطها. والبيت قاله ذو الرّمّة يهجو هشام بن قيس المرئيّ، أحد بني امرئ القيس بن زيد مناة.(1/264)
أَيْ: لَا يَتَكَلَّمْنَ بِالسَّاقِطِ وَالرَّفَثِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُعَاقِبُكُمُ اللَّهُ بِالسَّاقِطِ مِنْ أَيْمَانِكُمْ، وَلَكِنْ يُعَاقِبُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، أَيِ: اقْتَرَفَتْهُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ: وَهِيَ الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ «1» ومثله قول الشاعر:
ولست بمأخوذ بلغو تقوله ... إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ، فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا: أَنَّهُ: قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ فِي حَدِيثِهِ وَكَلَامِهِ، غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِلْيَمِينِ، وَلَا مُرِيدٍ لَهَا. قال المروزي: هذه مَعْنَى لَغْوِ الْيَمِينِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَظُنُّ إِلَّا أَنَّهُ إِيَّاهُ فَإِذَا لَيْسَ هُوَ مَا ظَنَّهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالزَّيْدِيَّةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ: أَنْ تَحْلِفَ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَمَكْحُولٌ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّغْوَ هُوَ يَمِينُ الْمَعْصِيَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبير، وأخوه عروة، كالذي يقسم ليشر بن الْخَمْرَ، أَوْ لَيَقْطَعَنَّ الرَّحِمَ وَقِيلَ: لَغْوُ الْيَمِينِ: هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ:
كَأَنْ يَقُولُ: أَعْمَى اللَّهُ بَصَرَهُ، أَذْهَبَ اللَّهُ مَالَهُ، هُوَ يهودي، هو مُشْرِكٌ. قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
لَغْوُ الْيَمِينِ: أَنْ يَتَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَيَقُولَ أَحَدُهُمَا: وَاللَّهِ لَا أَبِيعُكَ بِكَذَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: وَاللَّهِ لَا أَشْتَرِيهِ بِكَذَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَغْوُ الْيَمِينِ: هِيَ الْمُكَفِّرَةُ، أَيْ: إِذَا كُفِّرَتْ سَقَطَتْ وَصَارَتْ لَغْوًا. وَالرَّاجِحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمُطَابَقَتِهِ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلِدَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ أَيْ: حَيْثُ لَمْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا تَقُولُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ دُونِ عَمْدٍ وَقَصْدٍ. وَآخَذَكُمْ بِمَا تَعَمَّدَتْهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَكَلَّمَتْ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ، وَتِلْكَ هِيَ الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ الْمَقْصُودَةُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ يَقُولُ: لَا تَجْعَلْنِي عُرْضَةً لِيَمِينِكَ أَنْ لَا تَصْنَعَ الْخَيْرَ، وَلَكِنْ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يُكَلِّمَ قَرَابَتَهُ، أَوْ لَا يَتَصَدَّقَ، وَيَكُونَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مُغَاضِبَةٌ فَيَحْلِفَ لَا يُصْلِحُ بَيْنَهُمَا، وَيَقُولُ: قَدْ حَلَفْتُ، قَالَ: يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَإِنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ لِي عَتِيقٌ، وَكُلَّ مَالٍ لِي سِتْرٌ لِلْبَيْتِ، فَقَالَتْ: لَا تَجْعَلْ مَمْلُوكِيكَ عُتَقَاءَ وَلَا تَجْعَلْ مَالَكَ سِتْرًا لَلْبَيْتِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ فِي شَأْنِ مِسْطَحٍ.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» .
وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ قَطِيعَةَ رَحِمٍ أَوْ مَعْصِيَةً فَبِرُّهُ أَنْ يَحْنَثَ فِيهَا وَيَرْجِعَ عن يمينه» .
__________
(1) . المائدة: 89. [.....](1/265)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا نَذْرَ وَلَا يَمِينَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَلَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ مَالِكٍ الْجُشَمِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَأْتِينِي ابْنُ عَمِّي فَأَحْلِفُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ، فَقَالَ: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، وَكَلَّا وَاللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ اللَّغْوِ فِي الْيَمِينِ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ: كَلَّا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن عائشة أنها قالت في تفسير الْآيَةَ: إِنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْقَوْمُ يَتَدَارَوْنَ فِي الْأَمْرِ، يَقُولُ هَذَا: لَا وَاللَّهِ، وَيَقُولُ هَذَا: كَلَّا وَاللَّهِ، يَتَدَارَوْنَ فِي الْأَمْرِ، لَا تَعْقِدُ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: هُوَ اللَّغْوُ فِي الْمُزَاحَةِ وَالْهَزْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبِلَى وَاللَّهِ. فَذَاكَ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ فِيمَا عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ثُمَّ لَا يَفْعَلُهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ: قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ يَنْتَضِلُونَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَرَمَى رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَاللَّهِ، وَأَخْطَأْتَ وَاللَّهِ، فَقَالَ الذي مع النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: حَنَثَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ!؟ فَقَالَ: كَلَّا، أَيْمَانُ الرُّمَاةِ لَغْوٌ، لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَلَا عُقُوبَةَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَمْرٍو: أَنَّ اللَّغْوَ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ تَحْلِفَ وَأَنْتَ غَضْبَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ: حَلِفُ الْإِنْسَانِ عَلَى الشَّيْءِ يَظُنُّ أَنَّهُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا: أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ النَّخَعِيِّ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ ثُمَّ يَنْسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ يَعْنِي: إِذْ تَجَاوَزَ عَنِ الْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا حَلِيمٌ إِذْ لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا الْكَفَّارَةَ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
قوله: يُؤْلُونَ أي: يحلفون: والمصدر إيلاء وَأَلِيَّةً وَإِلْوَةً، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ آلُوا يقال آلى يؤالي إيلاء وَيَأْتَلِي بِالتَّاءِ ائْتِلَاءً، أَيْ: حَلَفَ، وَمِنْهُ: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ «1» ، ومنه:
__________
(1) . النور: 22.(1/266)
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ
الْبَيْتَ «1» وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْإِيلَاءِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْإِيلَاءَ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَلَفَ على أربعة أشهر فما دونها لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ يَمِينًا مَحْضًا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: الْإِيلَاءُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدَا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ أَنْ لَا يَمَسَّهَا أَبَدًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ لَمْ يَطَأْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ بِالْإِيلَاءِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَقَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِهِمْ يَشْمَلُ الْحَرَائِرَ وَالْإِمَاءَ إِذَا كُنَّ زَوْجَاتٍ، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ الْعَبْدُ إِذَا حَلَفَ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، قَالُوا:
وَإِيلَاؤُهُ كَالْحُرِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ: إِنَّ أَجْلَهُ شَهْرَانِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِيلَاءُ الْأَمَةِ نِصْفُ إِيلَاءِ الْحُرَّةِ. وَالتَّرَبُّصُ: التَّأَنِّي، وَالتَّأَخُّرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا
وَقَّتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلضِّرَارِ عَنِ الزَّوْجَةِ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُؤْلُونَ السَّنَةَ، وَالسَّنَتَيْنِ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ ضِرَارَ النِّسَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ هِيَ الَّتِي لَا تُطِيقُ الْمَرْأَةُ الصَّبْرَ عن زوجها زيادة عليها. قوله: فَإِنْ فاؤُ أَيْ: رَجَعُوا وَمِنْهُ: حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «2» أَيْ:
تَرْجِعَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلظِّلِّ بَعْدَ الزَّوَالِ: فَيْءٌ، لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ، يُقَالُ: فَاءَ يَفِيءُ فَيْئَةً وَفُيُوءًا، وَإِنَّهُ لِسَرِيعُ الْفَيْئَةِ، أَيِ: الرَّجْعَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَفَاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ ... وَمِنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ قَاضِيَا
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ: عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ: الْجِمَاعُ لِمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرُ مَرَضٍ أَوْ سِجْنٍ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ فَأَبَى الْوَطْءَ فُرِّقَ بَيْنِهِمَا إِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ، قَالَهُ مَالِكٌ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِذَا أَشْهَدَ عَلَى فَيْئَتِهِ بِقَلْبِهِ فِي حَالِ الْعُذْرِ أَجْزَأَهُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَدْ أَوْجَبَ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمُولِي إِذَا فَاءَ بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ الْكَفَّارَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ الْعَزْمُ: الْعَقْدُ عَلَى الشَّيْءِ، وَيُقَالُ: عَزَمَ يَعْزِمُ عَزْمًا وَعَزِيمَةً وَعُزْمَانًا، وَاعْتَزَمَ اعْتِزَامًا، فَمَعْنَى عَزَمُوا الطَّلَاقَ: عَقَدُوا عَلَيْهِ قُلُوبَهُمْ. وَالطَّلَاقُ: مِنْ طَلَقَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُقُ، كَنَصَرَ يَنْصُرُ، طَلَاقًا فَهِيَ طَالِقٌ وَطَالِقَةٌ أَيْضًا، وَيَجُوزُ طَلُقَتْ بِضَمِّ اللَّامِ، مِثْلُ عَظُمَ يَعْظُمُ، وَأَنْكَرَهُ الْأَخْفَشُ. وَالطَّلَاقُ: حلّ عقد النِّكَاحِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ مَا لَمْ يَقَعْ إِنْشَاءُ تَطْلِيقٍ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: سَمِيعٌ، وَسَمِيعٌ يَقْتَضِي مَسْمُوعًا بَعْدَ الْمُضِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِ عَلِيمٌ بِعَزْمِهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أشهر. واعلم: أن أهل كل
__________
(1) . وعجز البيت: وإن سبقت منه الأليّة برّت.
(2) . الحجرات: 9.(1/267)
مَذْهَبٍ قَدْ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِمَا يُطَابِقُ مَذْهَبَهُمْ وَتَكَلَّفُوا بِمَا لَمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَلَا دَلِيلَ آخَرَ، وَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَجَلَ لِمَنْ يُولِي- أَيْ: يَحْلِفُ مِنِ امْرَأَتِهِ- أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا لِعِبَادِهِ بِحُكْمِ هَذَا الْمُولِي بَعْدَ هَذِهِ المدّة: فَإِنْ فاؤُ رَجَعُوا إِلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِتِلْكَ الْيَمِينِ بَلْ يَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أَيْ: وَقَعَ الْعَزْمُ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، وَالْقَصْدُ لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِذَلِكَ مِنْهُمْ عَلِيمٌ بِهِ، فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِي لَا شَكَّ فيه ولا شبهة، فمن حلف أن لا يَطَأَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِمُدَّةٍ أَوْ قَيَّدَ بِزِيَادَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ عَلَيْنَا إِمْهَالُهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِمَّا رَجَعَ إِلَى نِكَاحِ امْرَأَتِهِ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَمَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ قَبْلَهَا، أَوْ طَلَّقَهَا وَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْمُطَلِّقِ لِامْرَأَتِهِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا إِذَا وَقَّتَ بِدُونِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ اعْتَزَلَ امْرَأَتَهُ الَّتِي حَلَفَ مِنْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، كَمَا فعل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَإِنَّهُ اعْتَزَلَهُنَّ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي هِيَ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَنَثَ فِي يَمِينِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَكَانَ مُمْتَثِلًا لِمَا صَحَّ عَنْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَلَيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» .
وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
الْإِيلَاءُ: أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يُجَامِعُهَا أَبَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ لِامْرَأَتِهِ بِاللَّهِ لَا يَنْكِحُهَا، فَتَتَرَبَّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ هُوَ نَكَحَهَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ ينكحها خيره السلطان، إما: أن يَفِيءُ، وَإِمَّا: أَنْ يَعْزِمَ فَيُطَلِّقَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ إيلاء الجاهلية السنة والسنتين مِنْ ذَلِكَ، فَوَقَّتَ اللَّهُ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ إِيلَاؤُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْإِيلَاءُ إِيلَاءَانِ: إِيلَاءٌ فِي الْغَضَبِ، وَإِيلَاءٌ فِي الرِّضَا فَأَمَّا الْإِيلَاءُ فِي الْغَضَبِ: فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي الرِّضَا فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا إِيلَاءَ إِلَّا بِغَضَبٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ: «فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْفَيْءُ: الْجِمَاعُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْفَيْءُ: الرِّضَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: الْفَيْءُ: الْإِشْهَادُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ قَالَ: الْفَيْءُ: الْجِمَاعُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَجْزَأَهُ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَرَضٌ، أَوْ سَفَرٌ، أَوْ حَبْسٌ، أَوْ شَيْءٌ يُعْذَرُ بِهِ فَإِشْهَادُهُ فَيْءٌ. وَلِلسَّلَفِ فِي الْفَيْءِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَيَنْبَغِي الرُّجُوعُ إِلَى مَعْنَى الْفَيْءِ لُغَةً، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِيلَاءِ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى(1/268)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
يُوقِفَ فَيُطَلِّقَ أَوْ يُمْسِكَ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ الْأَرْبَعَةُ الأشهر فيوقف فَإِنْ فَاءَ وَإِلَّا طَلَّقَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدَةَ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالُوا: الْإِيلَاءُ: تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ إِذَا مَرَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ، فَهِيَ أَمْلَكُ بِنَفْسِهَا، وَلِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذَا أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ، وَالْمُتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إِلَى مَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهُوَ مَا عَرَّفْنَاكَ فَاشْدُدْ عَلَيْهِ يَدَيْكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: إِيلَاءُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قال: إيلاء العبد نحو إيلاء الحرّ.
[سورة البقرة (2) : آية 228]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
قَوْلُهُ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ خُصِّصَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «1» فَوَجَبَ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَخَرَجَتْ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَذَلِكَ خَرَجَتِ الْحَامِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «2» وَكَذَلِكَ خَرَجَتِ الْآيِسَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ «3» والتربص: الانتظار، قيل: هو خبرا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ: أَيْ:
لِيَتَرَبَّصْنَ، قَصَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُخْرَجَ الْخَبَرِ تَأْكِيدَ وُقُوعِهِ، وَزَادَهُ تَأْكِيدًا وُقُوعُهُ خبر لِلْمُبْتَدَأِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَهَذَا بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وُجِدَتْ مُطَلَّقَةٌ لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى خِلَافِ مُخْبِرِهِ. وَالْقُرُوءُ: جَمْعُ قُرْءٍ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَرَأَ: «قُرُوٍّ» بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِالْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ:
الْوَاحِدُ قُرْءٌ بِضَمِّ الْقَافِ. وَقَالَ: أَبُو زَيْدٍ بِالْفَتْحِ، وَكِلَاهُمَا قَالَ: أَقَرَأَتِ الْمَرْأَةُ: حَاضَتْ، وَأَقْرَأَتْ: طَهُرَتْ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَقَرَأَتِ الْمَرْأَةُ: إِذَا صَارَتْ صَاحِبَةَ حَيْضٍ، فَإِذَا حَاضَتْ قُلْتَ: قَرَأَتْ، بِلَا أَلِفٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسَمِّي الْحَيْضَ: قُرْءًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الطُّهْرَ: قُرْءًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُهُمَا جَمِيعًا، فَيُسَمِّي الْحَيْضَ مَعَ الطُّهْرِ: قُرْءًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقُرْءَ فِي الْأَصْلِ: الْوَقْتُ يُقَالُ: هَبَّتِ الرِّيَاحُ لِقُرْئِهَا وَلِقَارِئِهَا، أَيْ: لِوَقْتِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَرَهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلٍ ... إِذَا هبّت لقارئها الرّياح
__________
(1) . الأحزاب: 49.
(2) . الطلاق: 4.
(3) . الطلاق: 4.(1/269)
فَيُقَالُ لِلْحَيْضِ: قُرْءٌ، وَلِلطُّهْرِ: قُرْءٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ. وَقَدْ أَطْلَقَتْهُ الْعَرَبُ تَارَةً:
عَلَى الْأَطْهَارِ، وَتَارَةً: عَلَى الْحَيْضِ، فَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأَطْهَارِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشَدُّ لْأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا
مُوَرِّثَةٍ مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
أَيْ: أَطْهَارِهِنَّ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْحَيْضِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَا رُبَّ ذِي حَنْقٍ عَلَيَّ قَارِضِ ... لَهُ قُرُوٌّ كَقُرُوِّ الْحَائِضِ «1»
يَعْنِي أَنَّهُ طَعَنَهُ فَكَانَ لَهُ دَمٌ كَدَمِ الْحَائِضِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مأخوذ من قرء الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ وَهُوَ جَمْعُهُ، وَمِنْهُ: الْقُرْآنُ، لِاجْتِمَاعِ الْمَعَانِي فِيهِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
ذراعي عيطل عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقَرَا جَنِينَا
أَيْ: لَمْ تَجْمَعْهُ فِي بَطْنِهَا. وَالْحَاصِلُ أن القرء فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِاشْتِرَاكِ، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَعْيِينِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْقُرُوءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: هِيَ الْحَيْضُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: هِيَ الْأَطْهَارُ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ الْوَقْتُ، فَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ فَهِيَ عَلَى هَذَا مُفَسَّرَةٌ فِي الْعَدَدِ، مُجْمَلَةٌ فِي الْمَعْدُودِ، فَوَجَبَ طَلَبُ الْبَيَانِ لِلْمَعْدُودِ مِنْ غَيْرِهَا فَأَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الآية: الحيض، بقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» وَبُقُولِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَبِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي بقوله تعالى:
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ «2» وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالطَّلَاقِ وَقْتَ الطُّهْرِ. ولقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» وَذَلِكَ لِأَنَّ زَمَنَ الطُّهْرِ هُوَ الَّذِي تُطَلَّقُ فِيهِ النِّسَاءُ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا أَدْرَكْنَا أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِنَا إِلَّا يَقُولُ: بِأَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْ فِيهِ اعْتَدَّتْ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَلَوْ سَاعَةً وَلَوْ لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا ثَانِيًا بَعْدَ حَيْضَةٍ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ. انْتَهَى. وَعِنْدِي أَنْ لَا حُجَّةَ فِي بَعْضِ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. أَمَّا قَوْلُ الْأَوَّلِينَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» فَغَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَطْلَقَ الْأَقْرَاءَ عَلَى الْحَيْضِ، وَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى هَذَا، وَتَارَةً عَلَى هَذَا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأَقْرَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم في
__________
(1) . في القرطبي (3/ 114) :
يَا رَبِّ ذِي ضَغَنٍ عَلَيَّ فَارِضٌ ... لَهُ قروء كقروء الحائض
(2) . الطلاق: 1.(1/270)
الْأَمَةِ: «وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» فَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَيْضًا، وَدَلَالَتُهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ قَوِيَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ.
فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ شَيْءٌ مِنَ الْحَيْضِ، عَلَى فَرْضِ تَفْسِيرِ الْأَقْرَاءِ بِالْأَطْهَارِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْحَيْضِ، كَمَا هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأَطْهَارِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ التَّنَازُعَ فِي اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِعِدَّتِهِنَّ يَصِيرُ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِمُحْتَمَلٍ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» الْحَدِيثَ، فَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَدَلَالَتُهُ قَوِيَّةٌ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ أَوْ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدَ جَوَّزَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَمْلَ الْمُشْتَرَكَ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، وَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، وَيَنْدَفِعُ النِّزَاعُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَمْيِيزَ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ: قُرُوءٍ، وَهِيَ جَمْعُ كَثْرَةِ دُونَ أَقْرَاءٍ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُمْ يَتَّسِعُونَ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمْعَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ. قَوْلُهُ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قِيلَ: المراد به: الحيض وَقِيلَ:
كِلَاهُمَا، وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنِ الْكِتْمَانِ: مَا فِيهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجِ وَإِذْهَابِ حَقِّهِ فَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: حِضْتُ، وَهِيَ لَمْ تَحِضْ، ذَهَبَتْ بِحَقِّهِ مِنَ الِارْتِجَاعِ وَإِذَا قَالَتْ: لَمْ تَحِضْ، وَهِيَ قَدْ حَاضَتْ، أَلْزَمَتْهُ مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ، فَأَضَرَّتْ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَمْلُ، رُبَّمَا تَكْتُمُهُ لِتَقْطَعَ حَقَّهُ مِنَ الِارْتِجَاعِ، وَرُبَّمَا تَدَّعِيهِ لِتُوجِبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْإِضْرَارِ بِالزَّوْجِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تُصَدَّقُ فِيهَا الْمَرْأَةُ إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْكَاتِمَاتِ، وَبَيَانُ أَنَّ مَنْ كَتَمَتْ ذَلِكَ مِنْهُنَّ لَمْ تَسْتَحِقَّ اسْمَ الْإِيمَانِ. وَالْبُعُولَةُ: جَمْعُ بَعْلٍ وَهُوَ الزَّوْجُ، سُمِّيَ: بَعْلًا، لِعُلُوِّهِ عَلَى الزَّوْجَةِ لِأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى الرَّبِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: أَتَدْعُونَ بَعْلًا «1» أَيْ: رَبًّا وَيُقَالُ: بُعُولٌ، وَبُعُولَةٌ، كَمَا يُقَالُ فِي جَمْعِ الذَّكَرِ: ذُكُورٌ، وَذُكُورَةٌ، وَهَذِهِ التَّاءُ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَهُوَ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّمَاعُ وَالْبُعُولَةُ أَيْضًا تَكُونُ مَصْدَرًا مِنْ: بَعَلَ الرَّجُلُ يَبْعَلُ، مِثْلُ: مَنَعَ يَمْنَعُ، أَيْ: صَارَ بَعْلًا.
وَقَوْلُهُ: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ أَيْ: بِرُجْعَتِهِنَّ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ التَّخْصِيصِ لِعُمُومِ قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ لأنه يعم المثلثات وَغَيْرَهُنَّ. وَقَوْلُهُ: فِي ذلِكَ يَعْنِي: فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، فَإِنِ انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ فَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا، وَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَأْنَفٍ بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ وَمَهْرٍ جَدِيدٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ وَالرَّجْعَةُ تَكُونُ بِاللَّفْظِ، وَتَكُونُ بِالْوَطْءِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُرَاجِعُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ بِلَا خِلَافٍ. وَقَوْلُهُ: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً أَيْ: بِالْمُرَاجَعَةِ: أَيْ: إِصْلَاحَ حَالِهِ مَعَهَا وَحَالِهَا مَعَهُ، فَإِنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا «2» قِيلَ: وَإِذَا قَصَدَ بِالرَّجْعَةِ الضِّرَارَ فَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَإِنِ ارْتَكَبَ بِذَلِكَ مُحَرَّمًا وَظَلَمَ نَفْسَهُ، وَعَلَى هذا: فيكون الشرط المذكور في الآية للحث للأزواج عَلَى قَصْدِ الصَّلَاحِ، وَالزَّجْرِ لَهُمْ عَنْ قَصْدِ الضرار، وليس المراد به:
__________
(1) . الصافات: 125.
(2) . البقرة: 231.(1/271)
جَعْلَ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ. قَوْلُهُ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: لَهُنَّ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى الرِّجَالِ بِمِثْلِ مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ، فَيُحْسِنُ عِشْرَتَهَا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ لِنِسَائِهِمْ، وَهِيَ كَذَلِكَ، تُحْسِنُ عِشْرَةَ زَوْجِهَا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ عَادَةِ النِّسَاءِ أَنَّهُنَّ يَفْعَلْنَهُ لِأَزْوَاجِهِنَّ مِنْ طَاعَةٍ، وَتَزَيُّنٍ، وَتَحَبُّبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أَيْ: مَنْزِلَةٌ لَيْسَتْ لَهُنَّ، وَهُوَ قِيَامُهُ عَلَيْهَا فِي الْإِنْفَاقِ، وَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَالْعَقْلِ وَالْقُوَّةِ، وَلَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ أَكْثَرُ مِمَّا لَهَا، وَكَوْنُهُ يَجِبُ عَلَيْهَا امْتِثَالُ أَمْرِهِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ رِضَاهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضِيلَةِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ إِلَّا كَوْنُهُنَّ خُلِقْنَ مِنَ الرِّجَالِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ:
طُلِّقْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ حِينَ طُلِّقْتُ الْعِدَّةَ لِلطَّلَاقِ، فَقَالَ:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ «1» فَنُسِخَ وَقَالَ: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «2» . وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم، والدارقطني، والبيهقي، من طرق عن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتِ: الْأَقْرَاءُ: الْأَطْهَارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْمَذْكُورُونَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: الْأَقْرَاءُ: الْحَيْضُ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قَالَ: ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكْتُمُ حَمْلَهَا حَتَّى تَجْعَلَهُ لِرَجُلٍ آخَرَ، فَنَهَاهُنَّ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْحَمْلُ وَالْحَيْضُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيِنِ وَهِيَ حَامِلٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَضَعْ حَمْلَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ قَالَ: فِي الْعِدَّةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَزَادَ مَا لَمْ يُطَلِّقْهَا ثَلَاثًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ قَالَ: إِذَا أَطَعْنَ اللَّهَ، وَأَطَعْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ صُحْبَتَهَا، وَيَكُفَّ عَنْهَا أَذَاهُ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ سَعَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، أَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كُسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وابن
__________
(1) . الطلاق: 4.
(2) . الأحزاب: 49.(1/272)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ «أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ قَالَ: فَضْلُ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهَا مِنَ الْجِهَادِ، وَفَضْلُ مِيرَاثِهِ عَلَى مِيرَاثِهَا، وَكُلُّ مَا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُطَلِّقُهَا وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الأمر شيء. وأخرج عن زيد بن أسلم قال:
الإمارة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 229 الى 230]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
الْمُرَادُ بِالطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ: هُوَ الرَّجْعِيُّ، بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، أَيِ: الطَّلَاقُ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الرَّجْعَةُ لِلْأَزْوَاجِ هُوَ مَرَّتَانِ، أَيِ: الطَّلْقَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، إِذْ لَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: مَرَّتانِ وَلَمْ يَقُلْ طَلْقَتَانِ إشارة إلى أن يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لَا طَلْقَتَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، كَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ، إِمَّا إِيقَاعُ الثَّالِثَةِ التي بها تبين الزوجة، أو الإمساك وَاسْتِدَامَةُ نِكَاحِهَا، وَعَدَمُ إِيقَاعِ الثَّالِثَةِ عَلَيْهَا قَالَ سُبْحَانَهُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَيْ:
فَإِمْسَاكٌ بَعْدَ الرَّجْعَةِ لِمَنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلْقَتَيْنِ بِمَعْرُوفٍ، أَيْ: بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَيْ: بِإِيقَاعِ طَلْقَةٍ ثَالِثَةٍ عَلَيْهَا مِنْ دُونِ ضِرَارٍ لَهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَيْ: بِرَجْعَةٍ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَيْ: بِتَرْكِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الثَّانِيَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: الطَّلاقُ مُبْتَدَأٌ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: عَدَدُ الطَّلَاقِ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الرَّجْعَةُ مَرَّتَانِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي إِرْسَالِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً: هَلْ يَقَعُ ثَلَاثًا، أَوْ وَاحِدَةً فَقَطْ. فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي مَنْ عَدَاهُمْ وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَدْ قَرَّرْتُهُ فِي مُؤَلَّفَاتِي تَقْرِيرًا بَالِغًا، وَأَفْرَدْتُهُ بِرِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. قَوْلُهُ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً الْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ، أَيْ: لَا يَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يَأْخُذُوا مِمَّا دَفَعُوهُ إِلَى نِسَائِهِمْ مِنَ الْمَهْرِ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَّةِ لَهُنَّ، وَتَنْكِيرُ «شَيْئًا» لِلتَّحْقِيرِ، أَيْ: شَيْئًا نَزْرًا فَضْلًا عَنِ الْكَثِيرِ، وَخَصَّ مَا دَفَعُوهُ إِلَيْهِنَّ بِعَدَمِ حَلِّ الْأَخْذِ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ الَّتِي يَمْلِكْنَهَا مِنْ غَيْرِ الْمَهْرِ لِكَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْسُ الزَّوْجِ، وَتَتَطَلَّعُ لِأَخْذِهِ دُونَ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ فِي مِلْكِهَا، عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَخَذَ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهَا لَا يَحِلُّ لَهُ كَانَ مَا عَدَاهُ مَمْنَوْعًا مِنْهُ بِالْأَوْلَى، وَقِيلَ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَإِنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، وَعَلَى هَذَا: يَكُونُ إِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَيْهِمْ، لِكَوْنِهِمُ الْآمِرِينَ بِذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ:(1/273)
مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ فَإِنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى غَيْرِ الْأَزْوَاجِ بِعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْأَزْوَاجِ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِهِمْ، وَقِيلَ:
إِنَّ الثَّانِي أَوْلَى لِئَلَّا يَتَشَوَّشَ النَّظْمُ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَيْ: لَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ: عَدَمَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا لِلزَّوْجَيْنِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمَا الْوَفَاءَ بِهَا، مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالطَّاعَةِ، فَإِنْ خَافَا ذَلِكَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَى الرَّجُلِ فِي الْأَخْذِ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْإِعْطَاءِ، بِأَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْ ذَلِكَ النِّكَاحِ بِبَذْلِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ يَرْضَى بِهِ الزَّوْجُ، فَيُطَلِّقُهَا لِأَجْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْخُلْعُ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، وَأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ مَعَ ذَلِكَ الْخَوْفِ، وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ مَا أَخَذَ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى رَدِّهِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: إِلَّا أَنْ يَخافا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ، وهو الأئمة الحكام وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ. وَقَدِ احْتَجَّ بِذَلِكَ مَنْ جَعَلَ الْخُلْعَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ.
وَقَدْ ضَعَّفَ النَّحَّاسُ اخْتِيَارَ أَبِي عُبَيْدٍ الْمَذْكُورَ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ: إِذَا خَافَ الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ، أَوِ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ- وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَئِمَّةً وَحُكَّامًا- عَدَمَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهِيَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمَا كَمَا سَلَفَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً «1» وَهُوَ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الِاثْنَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا طَلَبَ الزَّوْجُ مِنَ الْمَرْأَةِ زِيَادَةً عَلَى مَا دَفَعَهُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَهْرِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ الْمَرْأَةُ، هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟! وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْجَوَازُ لِعَدَمِ تَقْيِيدِهِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَالَ طَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَسَيَأْتِي مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أَيْ: أَحْكَامُ النِّكَاحِ وَالْفِرَاقِ الْمَذْكُورَةُ هِيَ حُدُودُ اللَّهِ الَّتِي أُمِرْتُمْ بِامْتِثَالِهَا، فَلَا تَعْتَدُوهَا بِالْمُخَالَفَةِ لَهَا، فَتَسْتَحِقُّوا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنَ التَّسْجِيلِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها أَيِ: الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا سُبْحَانَهُ بقوله: تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَيْ: فَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالتَّثْلِيثِ فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أَيْ: حَتَّى تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ. وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمَنْ وَافَقَهُ قَالُوا: يَكْفِي مُجَرَّدُ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْعَقْدِ مِنَ الْوَطْءِ، لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ، وَهُوَ زِيَادَةٌ يَتَعَيَّنُ قَبُولُهَا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نِكَاحًا شَرْعِيًّا مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، لَا نِكَاحًا غَيْرَ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ، بَلْ حِيلَةٌ لِلتَّحْلِيلِ، وَذَرِيعَةٌ إِلَى رَدِّهَا إِلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لِلْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّهِ وَذَمِّ فَاعِلِهِ، وَأَنَّهُ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ الَّذِي لَعَنَهُ الشَّارِعُ، وَلَعَنَ مَنِ اتَّخَذَهُ لِذَلِكَ. قَوْلُهُ:
فَإِنْ طَلَّقَها أَيِ: الزَّوْجُ الثَّانِي فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَيِ: الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَتَراجَعا أي:
__________
(1) . النساء: 20.(1/274)
يَرْجِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَنَكَحَتْ زَوْجًا وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ فَارَقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ نَكَحَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ. قَوْلُهُ: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ: حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ الْوَاجِبَةَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ ظَنُّ ذَلِكَ، بِأَنْ يَعْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَدَمَ الْإِقَامَةِ لِحُدُودِ اللَّهِ، أَوْ تَرَدَّدَا أَوْ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمَا الظَّنُّ، فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فِي هَذَا النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلْمَعْصِيَةِ لِلَّهِ وَالْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى الزَّوْجَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا سَلَفَ، وَخَصَّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَعَ عُمُومِ الدَّعْوَةِ لِلْعَالِمِ وَغَيْرِهِ، وَوُجُوبِ التَّبْلِيغِ لِكُلِّ فَرْدٍ، لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْبَيَانِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ، فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا مَا دَنَا وَقْتُ انقضاء عدتها ارتجعها، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا آوِيكِ إِلَيَّ وَلَا تَحِلِّينَ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمِئِذٍ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يُطَلِّقْ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهَا:
أَنَّهَا أَتَتْهَا امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْهَا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الطَّلَاقِ، قَالَتْ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ قَالَ: التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ الثَّالِثَةُ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ لِلثَّالِثَةِ:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: التَّسْرِيحُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الطَّلَاقُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قَالُوا: وَهُوَ الْمِيقَاتُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الرَّجْعَةُ، فَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ وَيُرَاجِعَ بِمَعْرُوفٍ، وَإِمَّا أَنْ يَسْكُتَ عَنْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَتَكُونَ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس في الآية نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ امْرَأَتِهِ الَّذِي نَحَلَهَا وَغَيْرِهِ، لَا يَرَى أَنَّ عَلَيْهِ جُنَاحًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً فَلَمْ يَصِحَّ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ إِلَّا بِحَقِّهَا، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَقَالَ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ وَسُوءُ الْخُلُقِ مِنْ قِبَلِهَا، فَتَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْكَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، والشافعي، وأحمد،
__________
(1) . النساء: 4. [.....](1/275)
وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهَا كَانَتْ تحت ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ إِلَى الصُّبْحِ فَوَجَدَهَا عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ فَقَالَ:
مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذه حبيبة بنت سهل، قد ذكرت مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ، فَقَالَتْ حَبِيبَةُ:
يا رسول الله! كل ما أعطاني عندي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذْ مِنْهَا، فَأَخَذَ مِنْهَا» وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَفِي حَبِيبَةَ، وَكَانَتِ اشْتَكَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَدَعَاهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:
وَيَطِيبُ لِي ذَلِكَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ ثَابِتٌ: قَدْ فَعَلْتُ، فَنَزَلَتْ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الْآيَةَ» .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ الله بن سلول امرأة ثابت ابن قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ «أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنْ لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا، وَأَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:
اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» . وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ: «فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادَ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: «أَتَتِ امرأة النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنِّي أَبْغَضُ زَوْجِي وَأُحِبُّ فِرَاقَهُ، قَالَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَصْدَقَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الزِّيَادَةُ مِنْ مَالِكِ فَلَا» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قيس فذكر الْقِصَّةَ، وَفِيهِ «أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ: أنه أمر النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ثَابِتًا أَنْ يَأْخُذَ مَا سَاقَ وَلَا يَزْدَادُ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَفِيهَا «فَرَدَّتْ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ وَزَادَتْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الْمُخْتَلِعَاتِ «اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا» . وَفِي لَفْظٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلزَّوْجِ:
«خُذْ وَلَوْ عِقَاصَهَا» . قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَجَازَ عُثْمَانُ الْخَلْعَ دُونَ عِقَاصِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّ الْمُخْتَلِعَاتِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: عَنْ ثَوْبَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ وَقَالَ: الْمُخْتَلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» . وَمِنْهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ فَتَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ. وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا» . وَمِنْهَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» وَمِنْهَا: عَنْ عُقْبَةَ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ، لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتدّ(1/276)
بِحَيْضَةٍ» وَلِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ: «أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ، أَوْ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتِ: اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي، فَجِئْتُ عُثْمَانَ فَسَأَلْتُهُ مَاذَا عَلَيَّ مِنَ الْعِدَّةِ؟
فَقَالَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْكِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِكِ فَتَمْكُثِينَ حَتَّى تَحِيضِي حَيْضَةً، قَالَتْ: إِنَّمَا أَتْبَعُ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مريم المغالية، وكانت تحت ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً فَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا» وَلَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُ هَذَا مِنَ الْمَرْفُوعِ، بَلْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ كَعِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ الْقُرْآنِ. وَالْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ مَا وَرَدَ عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُخَصِّصُ عُمُومَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ يَقُولُ: فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي. فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا مِثُلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟
لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» . وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَلَمْ يُسَمِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الصَّحَابَةُ صَاحِبَةَ الْقِصَّةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْعُمَيْصَاءَ أَوِ الرُّمَيْصَاءَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم» وفي آخره: «فقال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رَجُلٌ غَيْرُهُ» . وَقَدْ ثَبَتَ لَعْنُ الْمُحَلِّلِ فِي أَحَادِيثَ مِنْهَا: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ قَالَ «لعن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَمِنْهَا: عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيِّ مَرْفُوعًا مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْهَا: عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِثْلُهُ، وَمِنْهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِثْلُهُ، وَمِنْهَا: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ، وَمِنْهَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِثْلُهُ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ فِي ذَمِّ التَّحْلِيلِ وَفَاعِلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا يَقُولُ: إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْأَوَّلِ فَدَخَلَ بِهَا الْآخَرُ فَلَا حَرَجَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا طَلَّقَهَا الْآخَرُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَقَدْ حَلَّتْ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ قَالَ: أَمْرَ الله وطاعته.(1/277)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
[سورة البقرة (2) : آية 231]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
الْبُلُوغُ إِلَى الشَّيْءِ: مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ: الْوُصُولُ إِلَيْهِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْبُلُوغُ بِمَعْنَى الْمُقَارَبَةِ إِلَّا مَجَازًا لِعَلَاقَةٍ مَعَ قَرِينَةٍ كَمَا هُنَا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَدْ بَلَغَتْ آخِرَ جزء من مدّة الْعِدَّةِ وَجَاوَزَتْهُ إِلَى الْجُزْءِ الَّذِي هُوَ الْأَجَلُ لِلِانْقِضَاءِ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إن معنى فَبَلَغْنَ هُنَا: قَارَبْنَ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَضْطَرُّ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْإِمْسَاكِ، وَالْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ: هُوَ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، أَيْ: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَقَارَبْنَ آخِرَ الْعِدَّةِ فَلَا تُضَارُّوهُنَّ بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِاسْتِمْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ وَاسْتَدَامَتِهَا بَلِ اخْتَارُوا أَحَدَ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِضِرَارٍ، أَوِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، أَيْ: تَرْكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ ضِرَارٍ، وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ حَتَّى يَقْرُبَ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، ثُمَّ مُرَاجَعَتُهَا لَا عَنْ حَاجَةٍ وَلَا لمحبة، ولكن لقصد تطويل العدّة وتوسيع مُدَّةَ الِانْتِظَارِ ضِراراً لِقَصْدِ الِاعْتِدَاءِ مِنْكُمْ عَلَيْهِنَّ وَالظُّلْمِ لَهُنَّ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِعِقَابِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْعَذَابِ، لِأَنَّ إِتْيَانَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ تَعَرُّضٌ لِعَذَابِ اللَّهِ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً أَيْ: لَا تأخذوا أحكام الله على طريقة الهزء، فَإِنَّهَا جِدٌّ كُلُّهَا، فَمَنْ هَزَلَ فِيهَا فَقَدْ لَزِمَتْهُ، نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَفْعَلُوا كَمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ أَوْ يُعْتِقُ أَوْ يَتَزَوَّجُ وَيَقُولُ: كُنْتُ لَاعِبًا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ هَازِلًا أَنَّ الطَّلَاقَ يَلْزَمُهُ. قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيِ: النِّعْمَةَ الَّتِي صِرْتُمْ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ فِي جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، وَظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَالْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَالْحِكْمَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي سَنَّهَا لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَعِظُكُمْ بِهِ أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ، وَأَفْرَدَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهِمَا فِي النِّعْمَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، تَنْبِيهًا عَلَى خَطَرِهِمَا وَعِظَمِ شَأْنِهِمَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَيَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ يُضَارُّهَا وَيُعَطِّلُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مَالِكٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن ثور بن يزيد. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مَالِكٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا أَشْهَدَ عَلَى رَجَعَتِهَا، يُرِيدُ أَنْ يُطَوِّلَ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ؟ يَقُولُ: قَدْ طَلَّقْتُكِ، قَدْ رَاجَعْتُكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ، قَدْ رَاجَعْتُكِ، لَيْسَ هَذَا طَلَاقُ(1/278)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
الْمُسْلِمِينَ، طَلِّقُوا الْمَرْأَةَ فِي قُبُلِ عِدَّتِهَا «1» » . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ:
كَانَ الرَّجُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي، ثُمَّ يَقُولُ كُنْتُ لَاعِبًا، وَيَقُولُ: قَدْ أُعْتِقْتَ، وَيَقُولُ: كُنْتُ لَاعِبًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ قَالَهُنَّ لَاعِبًا أَوْ غَيْرَ لَاعِبٍ فَهُنَّ جَائِزَاتٌ عَلَيْهِ: الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ، وَالْعَتَاقُ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ ثُمَّ يَقُولُ: لَعِبْتُ وَيُعْتِقُ ثُمَّ يَقُولُ: لَعِبْتُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ فَقَالَ لَعِبْتُ فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ، يَقَعُ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ وَهُوَ يَلْعَبُ، لَا يُرِيدُ الطَّلَاقَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فَأَلْزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّلَاقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا نَحْوَ حَدِيثِ عُبَادَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، والطّلاق، والرّجعة» .
[سورة البقرة (2) : آية 232]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ وَبِقَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْأَزْوَاجِ، وَيَكُونَ مَعْنَى الْعَضْلِ مِنْهُمْ: أَنْ يَمْنَعُوهُنَّ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ مَنْ أَرَدْنَ مِنَ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ لِحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالسَّلَاطِينِ غَيْرَةً عَلَى مَنْ كُنَّ تَحْتَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ أَنْ يَصِرْنَ تَحْتَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لِمَا نالوه من رئاسة الدُّنْيَا وَمَا صَارُوا فِيهِ مِنَ النَّخْوَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ يَتَخَيَّلُونَ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ جِنْسِ بَنِي آدَمَ، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْوَرَعِ وَالتَّوَاضُعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَيَكُونَ مَعْنَى إِسْنَادِ الطَّلَاقِ إِلَيْهِمْ:
أَنَّهُمْ سَبَبٌ لَهُ لِكَوْنِهِمُ الْمُزَوِّجِينَ لِلنِّسَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ مِنَ الْأَزْوَاجِ الْمُطَلِّقِينَ لَهُنَّ. وَبُلُوغُ الْأَجَلِ الْمَذْكُورِ هُنَا، الْمُرَادُ بِهِ: الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، أَيْ: نِهَايَتُهُ لَا كَمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى. وَالْعَضْلُ: الْحَبْسُ. وَحَكَى الْخَلِيلُ: دَجَاجَةٌ مُعْضَلَةٌ: قَدِ احْتَبَسَ بَيْضُهَا وَقِيلَ: الْعَضْلُ: التَّضْيِيقُ وَالْمَنْعُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْحَبْسِ، يُقَالُ: أَرَدْتُ أَمْرًا فَعَضَلْتَنِي عَنْهُ، أَيْ: مَنَعْتَنِي وَضَيَّقْتَ عَلَيَّ، وَأُعْضِلَ الْأَمْرُ: إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْكَ فِيهِ الْحِيَلُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
أَصْلُ الْعَضْلِ: مِنْ قَوْلِهِمْ عَضَلَتِ النَّاقَةُ: إِذَا نَشِبَ وَلَدُهَا فَلَمْ يَسْهُلْ خُرُوجُهُ، وَعَضَلَتِ الدَّجَاجَةُ: نَشِبَ بَيْضُهَا، وَكُلُّ مُشْكِلٍ عِنْدَ الْعَرَبِ مُعْضِلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
إِذَا الْمُعْضِلَاتُ تَصَدَّيْنَ لِي ... كَشَفْتُ خفاء لها بالنّظر
__________
(1) . وفي رواية: في قبل طهرهنّ، أي: في إقباله وأوله وحين يمكنها الدخول في العدة والشروع فيها، فتكون لها محسوبة، وذلك في حالة الطهر، النهاية (4/ 9) .(1/279)
وَيُقَالُ: أَعْضَلَ الْأَمْرُ: إِذَا اشْتَدَّ، وَدَاءٌ عُضَالٌ: أَيْ: شَدِيدٌ عَسِيرُ الْبُرْءِ أَعْيَا الْأَطِبَّاءَ، وَعَضَلَ فُلَانٌ آيِمَهُ:
أَيْ: مَنَعَهَا، يَعْضُلُهَا بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ لغتان. قوله: أَنْ يَنْكِحْنَ أَيْ: مِنْ أَنْ يَنْكِحْنَ، فَمَحَلُّهُ الْجَرُّ عِنْدَ الْخَلِيلِ، وَالنُّصْبُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ. وَقَوْلُهُ: أَزْواجَهُنَّ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُطَلِّقُونَ لَهُنَّ فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ يُرِدْنَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَهُ فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا سَيَكُونُ، وَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فُصِّلَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ مَعَ كَوْنِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ جَمْعًا حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْفَرِيقِ وَنَحْوِهِ. وَقَوْلُهُ: ذلِكُمْ مَحْمُولٌ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ، خَالَفَ سُبْحَانَهُ مَا بَيْنَ الْإِشَارَتَيْنِ افْتِنَانًا. وَقَوْلُهُ: أَزْكى أَيْ: أَنْمَى وَأَنْفَعُ وَأَطْهَرُ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا لَكُمْ فِيهِ الصَّلَاحُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: كَانَتْ لِي أُخْتٌ فَأَتَانِي ابْنُ عَمٍّ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ مَا كَانَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَهَوِيَهَا وَهَوِيَتْهُ، ثُمَّ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا لُكَعُ أَكْرَمْتُكَ بِهَا وَزَوَّجْتُكَهَا فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، وَاللَّهِ لَا تَرْجِعُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَعَلِمَ اللَّهُ حَاجَتَهُ إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله قوله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الْآيَةَ، قَالَ: فَفِيَّ نَزَلَتْ الْآيَةُ، فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ، فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ تَزْوِيجُهَا، وَأَنْ يُرَاجِعَهَا وَتُرِيدَ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، فَمَنَعَهَا وَلِيُّهَا مِنْ ذَلِكَ، فَنَهَى اللَّهُ أَنْ يَمْنَعُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، كَانَتْ لَهُ ابْنَةُ عَمٍّ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فأراد مراجعتها، فأتى جَابِرٌ، فَقَالَ:
طَلَّقْتَ بِنْتَ عَمِّنَا ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَهَا الثَّانِيَةَ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ زَوْجَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يَعْنِي: بِمَهْرٍ وَبَيِّنَةٍ وَنِكَاحٍ مُؤْتَنَفٍ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ:
«أَنْكِحُوا الْأَيَامَى، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْعَلَائِقُ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ أَهْلُهُنَّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ قَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ مِنْ حُبِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا لَا تَعْلَمُ أَنْتَ أَيُّهَا الْوَلِيُّ.
__________
(1) . أي: نكاح مستأنف جديد.(1/280)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
[سورة البقرة (2) : آية 233]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ، ذَكَرَ الرَّضَاعَ، لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَفْتَرِقَانِ وَبَيْنَهُمَا وَلَدٌ، وَلِهَذَا قِيلَ:
إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالْمُطَلَّقَاتِ وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ. وَقَوْلُهُ: يُرْضِعْنَ قِيلَ: هُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ مَضْمُونِهِ وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ عَلَى بَابِهِ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ عَلَى حَسَبِ مَا سلف في قوله: يَتَرَبَّصْنَ وَقَوْلُهُ: كامِلَيْنِ تَأْكِيدٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ تَحْقِيقِيٌّ لَا تَقْرِيبِيٌّ. وَقَوْلُهُ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ أَيْ: ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِرْضَاعَ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ حَتْمًا، بَلْ هُوَ التَّمَامُ، وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونِهِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: «لِمَنْ أَرَادَ أَنْ تَتِمَّ» بِفَتْحِ التَّاءِ، وَرَفْعِ الرَّضَاعَةِ، عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْجَارُودُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ: بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ: الرَّضْعَةَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْمِلَ الرَّضَاعَةَ» . قَالَ النَّحَّاسُ:
لَا يَعْرِفُ الْبَصْرِيُّونَ الرَّضَاعَةَ إِلَّا بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ جَوَازَ الْكَسْرِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأُمِّ لِوَلَدِهَا، وَقَدْ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقْبَلِ الرَّضِيعُ غَيْرَهَا. قَوْلُهُ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ أَيْ: عَلَى الْأَبِ الَّذِي يُولَدُ لَهُ، وَآثَرَ هَذَا اللَّفْظَ دُونَ قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوَالِدِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَادَ لِلْآبَاءِ، لَا لِلْأُمَّهَاتِ، وَلِهَذَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِمْ دُونَهُنَّ، كَأَنَّهُنَّ إِنَّمَا وَلَدْنَ لَهُمْ فَقَطْ، ذُكِرَ مَعْنَاهُ فِي الْكَشَّافِ، وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ هُنَا: الطَّعَامُ الْكَافِي الْمُتَعَارَفُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِالْكُسْوَةِ: مَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ أَيْضًا وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى الْآبَاءِ لِلْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ. وَهَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُطَلَّقَاتِ فَنَفَقَتُهُنَّ وَكُسْوَتُهُنَّ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ مِنْ غَيْرِ إِرْضَاعِهِنَّ لِأَوْلَادِهِنَّ. وَقَوْلُهُ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها هُوَ تَقْيِيدٌ لِقَوْلِهِ:
بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: هَذِهِ النَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ الْوَاجِبَتَانِ عَلَى الْأَبِ بِمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ لَا يُكَلِّفُ مِنْهَا إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ وُسْعِهِ، وَطَاقَتِهِ، لَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَعْجِزُ عَنْهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لَا تُكَلَّفُ الْمَرْأَةُ الصَّبْرَ عَلَى التَّقْتِيرِ فِي الْأُجْرَةِ، وَلَا يُكَلَّفُ الزَّوْجُ مَا هُوَ إِسْرَافٌ بَلْ يُرَاعَى الْقَصْدُ. قَوْلُهُ: لَا تُضَارَّ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَجَمَاعَةٌ، وَرَوَاهُ أَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِ وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: «تُضَارَّ» بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ على النهي، وأصله: لا تضارر، على البناء للفاعل أو المفعول، أَيْ: لَا تُضَارِرِ الْأَبَ بِسَبَبِ الْوَلَدِ، بِأَنْ تَطْلُبَ مِنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكُسْوَةِ، أَوْ: بِأَنْ تُفَرِّطَ فِي حِفْظِ الْوَلَدِ، وَالْقِيَامِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَوْ: لَا تُضَارَرُ مِنْ زَوْجِهَا، بِأَنْ يُقَصِّرَ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْتَزَعُ وَلَدُهَا مِنْهَا بِلَا سَبَبٍ، وَهَكَذَا قِرَاءَةُ الرَّفْعِ تَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «لَا تُضَارَرْ» عَلَى الْأَصْلِ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ: «لَا تُضَارْ» بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِسْكَانُ وَالتَّشْدِيدُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ «لَا تُضَارِرْ» بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِوَلَدِهِ، صِلَةً لِقَوْلِهِ تُضَارُّ، عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى تَضُرُّ، أي: لا تضرّ والدة بولدها، فتسيئ تَرْبِيَتَهُ، أَوْ تُقَصِّرَ فِي غِذَائِهِ وَأُضِيفَ الْوَلَدُ تَارَةً إِلَى الْأَبِ وَتَارَةً إِلَى الْأُمِّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذا الْجُمْلَةُ تَفْصِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَتَقْرِيرٌ لَهَا، أَيْ: لَا يُكَلِّفُ كُلُّ وَاحِدٍ(1/281)
مِنْهُمَا الْآخَرَ مَا لَا يُطِيقُهُ، فَلَا تُضَارَّهُ بِسَبَبِ وَلَدِهِ. قَوْلُهُ: وَعَلَى الْوارِثِ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ:
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَمَا بَيْنَهُمَا تَفْسِيرٌ لِلْمَعْرُوفِ، أَوْ تَعْلِيلٌ لَهُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَقِيلَ: هُوَ وَارِثُ الصَّبِيِّ، أَيْ: إِذَا مَاتَ الْمَوْلُودُ له كان عَلَى وَارِثِ هَذَا الصَّبِيِّ الْمَوْلُودِ إِرْضَاعُهُ، كَمَا كَانَ يَلْزَمُ أَبَاهُ ذَلِكَ، قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى خِلَافٍ بَيْنِهِمْ:
هَلْ يَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ نَصِيبًا مِنَ الْمِيرَاثِ؟ أَوْ عَلَى الذُّكُورِ فَقَطْ؟ أَوْ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا مِنْهُ؟ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالوارث: وارث الأب عليه نفقة المرضعة، وكسوتها بالمعروف، قاله مَالِكٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمِثْلِ مَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَإِنَّهَا لَا تَلْزَمُ الرَّجُلَ نَفَقَةُ أَخٍ، وَلَا ذِي قَرَابَةٍ، وَلَا ذِي رَحِمٍ مِنْهُ وَشَرَطَهُ الضَّحَّاكُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أُخِذَتْ أُجْرَةُ رَضَاعِهِ مِنْ مَالِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ: هُوَ الصَّبِيُّ نَفْسُهُ: أَيْ: عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ إِرْضَاعُ نَفْسِهِ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ وَوَرِثَ مِنْ مَالِهِ، قاله قبيصة بن ذؤيب، وبشير بن نصر قَاضِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ: هُوَ الْبَاقِي مِنْ وَالِدِي الْمَوْلُودِ بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ مِنْهُمَا، فَإِذَا مَاتَ الْأَبُ كَانَ عَلَى الْأُمِّ كِفَايَةُ الطِّفْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ أَيْ: وَارْثُ الْمُرْضِعَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْنَعَ بِالْمَوْلُودِ كَمَا كَانَتِ الْأُمُّ تَصْنَعُهُ بِهِ مِنَ الرَّضَاعِ وَالْخِدْمَةِ وَالتَّرْبِيَةِ. وَقِيلَ:
إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِضْرَارُ بِالْأُمِّ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَبِ، وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ الْعَطْفُ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، إِذْ لَوْ أَرَادَ الْجَمِيعَ الَّذِي هُوَ الرَّضَاعُ وَالْإِنْفَاقُ وعدم الضرر لقال:
وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ هَؤُلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْمُضَارَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَأَوَّلَهُ كَافَّةُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا حَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِثْلُ ذَلِكَ: أَنْ لَا تُضَارَّ. وَأَمَّا الرِّزْقُ، وَالْكِسْوَةُ، فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْهُ. وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: مِثْلَ مَا قَدَّمْنَا عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَدَعْوَى النَّسْخِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ ضَعْفُ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ، فَإِنَّ مَا خَصَّصُوا بِهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى: أَيْ: عَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالْمُرْضِعَةِ قَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها لِصِدْقِ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مُضَارَّةٍ تَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَوْلُودِ لَهُ أَوْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: لَوْ أَرَادَ الْجَمِيعَ لَقَالَ: مِثْلَ هَؤُلَاءِ، فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ الْبَيِّنِ، فَإِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يَصْلُحُ لِلْمُتَعَدِّدِ كَمَا يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ بِتَأْوِيلِ: الْمَذْكُورِ أَوْ نَحْوِهِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَارِثِ: وَارِثُ الصَّبِيِّ، فَيُقَالُ عَلَيْهِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا حَقِيقَةً مَعَ وُجُودِ الصَّبِيِّ حَيًّا، بَلْ هُوَ وَارِثٌ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي: فَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَمْلُ الْوَارِثِ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، لَكِنَّ فِي إِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مَعَ غِنَى الصَّبِيِّ مَا فِيهِ، وَلِهَذَا قَيَّدَهُ الْقَائِلُ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فَقِيرًا، وَوَجْهُ الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ الْوَارِثِ مَا تَقَدَّمَ من ذكر الوالدات والمولود له(1/282)
والولد، فَاحْتَمَلَ أَنْ يُضَافَ الْوَارِثُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ: فَإِنْ أَرادا فِصالًا الضَّمِيرُ لِلْوَالِدَيْنِ.
وَالْفِصَالُ: الْفِطَامُ عَنِ الرَّضَاعِ، أَيِ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالثَّدْيِ، وَمِنْهُ سُمِّي الْفَصِيلُ لِأَنَّهُ مَفْصُولٌ عَنْ أُمِّهِ.
وَقَوْلُهُ: عَنْ تَراضٍ مِنْهُما أَيْ: صَادِرًا عَنْ تَرَاضٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ إِذَا كَانَ الْفِصَالُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِي ذَلِكَ الْفِصَالِ. سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَبَ وَحْدَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ الصَّبِيَّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ، وَهُنَا اعْتَبَرَ سُبْحَانَهُ تَرَاضِيَ الْأَبَوَيْنِ وَتَشَاوُرَهُمَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِرَادَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمَا، أَوْ يُقَالَ: إِنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَبَوَانِ لِلصَّبِيِّ حَيَّيْنِ بِأَنْ كَانَ الْمَوْجُودُ أَحَدَهُمَا، أَوْ كَانَتِ الْمُرْضِعَةُ لِلصَّبِيِّ ظِئْرًا غَيْرَ أُمِّهِ. وَالتَّشَاوُرُ: اسْتِخْرَاجُ الرَّأْيِ، يُقَالُ: شُرْتُ الْعَسَلَ: اسْتَخْرَجْتُهُ، وَشُرْتُ الدَّابَّةُ: أَجْرَيْتُهَا لِاسْتِخْرَاجِ جَرْيِهَا، فَلَا بُدَّ لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ إِذَا أَرَادَ فِصَالَ الرَّضِيعِ أَنْ يُرَاضِيَ الْآخَرَ، وَيُشَاوِرَهُ، حَتَّى يَحْصُلَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا لِأَوْلَادِكُمْ غَيْرَ الْوَالِدَةِ. وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ حَذَفَ اللَّامَ لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا الْمَرَاضِعَ أَوْلَادَكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَدِّ، أَيْ: أَعْطَيْتُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِالْقَصْرِ، أَيْ: فَعَلْتُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أولادكم غير أمهاتهم إِذَا سَلَّمْتُمْ إِلَى الْأُمَّهَاتِ أَجْرَهُنَّ بِحِسَابِ مَا قَدْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ إِلَى وَقْتِ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ مِنْ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، أَيْ: سَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَرَضِيَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَنِ اتِّفَاقٍ مِنْهُمَا، وَقَصْدِ خَيْرٍ، وَإِرَادَةِ مَعْرُوفٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: سَلَّمْتُمْ عَامًّا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ تَغْلِيبًا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْخِطَابُ لِلرِّجَالِ فَقَطْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِذَا سَلَّمْتُمْ لِمَنْ أَرَدْتُمُ اسْتِرْضَاعَهَا أَجْرَهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا أَرَدْتُمْ إِيتَاءَهُ، أَيْ: إِعْطَاءَهُ إِلَى الْمُرْضِعَاتِ بِالْمَعْرُوفِ: أَيْ: بِمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ مِنْ أَجْرِ الْمُرْضِعَاتِ، مِنْ دُونِ مُمَاطَلَةٍ لَهُنَّ، أَوْ حَطِّ بَعْضِ مَا هُوَ لَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ عَدَمَ تَوْفِيرِ أَجْرِهِنَّ يَبْعَثُهُنَّ عَلَى التَّسَاهُلِ بِأَمْرِ الصَّبِيِّ وَالتَّفْرِيطِ فِي شَأْنِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ
قَالَ: الْمُطَلَّقَاتُ.
حَوْلَيْنِ قَالَ: سَنَتَيْنِ. لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يَقُولُ: لَا تأبى أن ترضعه لِتَشُقَّ عَلَى أَبِيهِ. وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يقول: ولا يضارّ الولد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها لذلك. وَعَلَى الْوارِثِ قَالَ: يَعْنِي: الْوَلِيَّ مَنْ كَانَ. مِثْلُ ذلِكَ قَالَ: النَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَفَالَتُهُ، وَرِضَاعُهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ(1/283)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
لِلْمَوْلُودِ مَالٌ، وَأَنْ لَا تُضَارَّ أُمُّهُ. فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ قَالَ: غَيْرُ مُسِيئِينَ فِي ظُلْمِ أَنْفُسِهِمَا وَلَا إِلَى صَبِيِّهِمَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ قَالَ: خِيفَةُ الضَّيْعَةِ عَلَى الصَّبِيِّ. فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ: حِسَابُ مَا أُرْضِعَ بِهِ الصَّبِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير في تفسيره هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ هِيَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ قَالَ: مَا أَعْطَيْتُمُ الظِّئْرَ مِنْ فَضْلٍ عَلَى أَجْرِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ قَالَ: إِنَّهَا الْمَرْأَةُ تُطَلَّقُ أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الَّتِي تَضَعُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ: أَنَّهَا تُرْضِعُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، وَإِذَا وَضَعَتْ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ ثَلَاثَةً وعشرين شهرا، لتمام ثلاثين شهرا، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت إحدى وَعِشْرِينَ شَهْرًا، ثُمَّ تَلَا: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «1» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ: عَلَى قَدْرِ الْمَيْسَرَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُلْقِيَ وَلَدَهَا عَلَيْهِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُرْضِعُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَارَّهَا فَيَنْتَزِعَ مِنْهَا وَلَدَهَا وَهِيَ تُحِبُّ أَنْ تُرْضِعَهُ وَعَلَى الْوارِثِ قَالَ:
هُوَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ قَالَ:
هُوَ وَارِثُ الصَّبِيِّ يُنْفِقُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَزَادَ: إِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ لَا مَالَ لَهُ مِثْلُ الَّذِي عَلَى وَالِدِهِ مِنْ أَجْرِ الرَّضَاعِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ قَالَ: هُوَ الصَّبِيُّ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ قَالَ: لَا يُضَارُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فَإِنْ أَرادا فِصالًا قَالَ: الْفِطَامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. قَالَ: التَّشَاوُرُ فِيمَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ، لَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْطِمَهُ إِلَّا أَنْ يَرْضَى، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يفطمه إلا أن ترضى.
وأخرجوا أيضا عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ قَالَ: أُمَّهُ أَوْ غَيْرَهَا. فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ قَالَ: إِذَا سَلَّمْتَ لَهَا أَجْرَهَا. مَا آتَيْتُمْ: مَا أَعْطَيْتُمْ.
[سورة البقرة (2) : آية 234]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَاتَّصَلَ بِذِكْرِهَا ذِكْرُ الْإِرْضَاعِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِثْلُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَالرِّجَالُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا، أَيْ: وَلَهُمْ زَوْجَاتٌ، فَالزَّوْجَاتُ يَتَرَبَّصْنَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويذرون
__________
(1) . الأحقاف: 15.(1/284)
أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ: مِنْهُ. وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَعْنَى: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يَتَرَبَّصْنَ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً لَا يُلَائِمُ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ النَّكِرَةِ الْمُعَادَةِ الْمُغَايَرَةُ.
وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: إِنَّ الْخَبَرَ عَنِ: الَّذِينَ، مَتْرُوكٌ، وَالْقَصْدُ الْإِخْبَارُ عَنْ أَزْوَاجِهِمْ بِأَنَّهُنَّ يَتَرَبَّصْنَ.
وَوَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْعِدَّةِ لِلْوَفَاةِ هَذَا الْمِقْدَارَ أَنَّ الْجَنِينَ الذَّكَرَ يَتَحَرَّكُ فِي الْغَالِبِ لِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَالْأُنْثَى لِأَرْبَعَةٍ، فَزَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ عَشْرًا، لِأَنَّ الْجَنِينَ رُبَّمَا يَضْعُفُ عَنِ الْحَرَكَةِ فَتَتَأَخَّرُ حَرَكَتُهُ قَلِيلًا وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْ هَذَا الْأَجَلِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا تَكُونُ عِدَّتُهَا هَذِهِ الْعِدَّةَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «1» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْحَامِلَ تَعْتَدُّ بِآخِرِ الْأَجَلَيْنِ، جَمْعًا بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَإِعْمَالًا لَهُمَا، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُنَاسِبُ قَوَانِينَ اللُّغَةِ وَلَا قَوَاعِدَ الشَّرْعِ، وَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِ الْخَاصِّ مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِ الْعَامِّ إِلَّا بَيَانُ أَنَّ حُكْمَهُ مُغَايِرٌ لِحُكْمِ الْعَامِّ وَمُخَالِفٌ لَهُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَذِنَ لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ الْوَضْعِ وَالتَّرَبُّصُ الثَّانِي وَالتَّصَبُّرُ عَنِ النِّكَاحِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَالْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَذَاتِ الْحَيْضِ وَالْآيِسَةِ، وَأَنَّ عِدَّتَهُنَّ جميعا للوفاة أربعة أشهر وعشر، وَقِيلَ إِنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِجْمَاعًا إِلَّا مَا يُحْكَى عَنِ الْأَصَمِّ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إِلَّا مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ، وَلَيْسَ بِالثَّابِتِ عَنْهُ، وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَصَمُّ وَابْنُ سِيرِينَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْعُمُومِ، وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ عَدَاهُمَا قِيَاسُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى الْحَدِّ فَإِنَّهُ ينصف للأمة بقوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «2» . وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ: «طَلَاقِ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ: إِلَّا جَعْلُ طَلَاقِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ طَلَاقِ الْحُرَّةِ، وَعِدَّتِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّتِهَا، ولكنه لما لم يمكن أَنْ يُقَالَ طَلَاقُهَا تَطْلِيقَةٌ وَنِصْفٌ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَةٌ وَنِصْفٌ، لِكَوْنِ ذَلِكَ لَا يُعْقَلُ، كَانَتْ عِدَّتُهَا وَطَلَاقُهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ جَبْرًا للكسر، ولكن هاهنا أمر يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي جَعْلِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ مَعْرِفَةِ خُلُوِّهَا مِنَ الْحَمْلِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِتِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ كَوْنِ عِدَّتِهَا فِي غَيْرِ الْوَفَاةِ حَيْضَتَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِهِ خُلُوُّ الرَّحِمِ، وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ الْفَرْقِ مَا سَيَأْتِي فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ لِمَوْتِ سَيِّدِهَا. فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عبد العزيز، والأوزاعي، وإسحاق ابن رَاهَوَيْهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إِنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَا تَلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ «عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سيدها أربعة أشهر وعشر» . أخرجه أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وضعفه أحمد، وأبو عبيد. قال الدَّارَقُطْنِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَقَتَادَةُ: عدّتها
__________
(1) . الطلاق: 4.
(2) . النساء: 25.(1/285)
شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ، وَغَيْرُ الْحَائِضِ شَهْرٌ، وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ الْمُرَادُ بِالْبُلُوغِ هُنَا: انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنَ التَّزَيُّنِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا يُخَالِفُ شَرْعًا وَلَا عَادَةً مُسْتَحْسَنَةً.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ: عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ. وقد ثبت ذلك فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: النَّهْيُ عَنِ الْكُحْلِ لِمَنْ هِيَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَالْإِحْدَادُ: تَرْكُ الزِّينَةِ مِنَ الطِّيبِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْجَيِّدَةِ، وَالْحُلِيِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْبَائِنَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ كُتُبُ الْفُرُوعِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ اعْتَدَّتْ سَنَةً فِي بَيْتِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ الْآيَةَ، فَهَذِهِ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا. وَقَالَ فِي ميراثها: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ.. «1» فَبَيَّنَ مِيرَاثَ الْمَرْأَةِ، وَتَرَكَ الْوَصِيَّةَ وَالنَّفَقَةَ فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يَقُولُ: إِذَا طُلِّقَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِذَا انْقَضَّتْ عِدَّتُهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَصَنَّعَ وَتَتَعَرَّضَ لِلتَّزْوِيجِ، فَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر عن أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: ضُمَّتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ الْعَشْرُ إِلَى الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّ فِي الْعَشْرِ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يَقُولُ: إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يَعْنِي: أَوْلِيَاءَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الطِّيبَ وَالزِّينَةَ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنِ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ، وَأَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهَا أَبَقُوا حَتَّى إِذَا تَطَرَّفَ الْقَدُومَ «2» لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَنْزِلٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم، فانصرفت حتى إذا كنت فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ، فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ قَالَتْ: فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، فَقَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذلك فأخبرته، فاتبعه وقضى به.
__________
(1) . النساء: 12.
(2) . القدوم: بالتخفيف والتشديد، موضع إلى ستة أميال من المدينة، وتطرّف: وصل إلى أطرافه.(1/286)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
[سورة البقرة (2) : آية 235]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
الْجُنَاحُ: الْإِثْمُ، أَيْ: لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ وَالتَّعْرِيضُ: ضِدُّ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ مِنْ عَرَضَ الشَّيْءَ، أَيْ: جَانَبَهُ، كَأَنَّهُ يَحُومُ بِهِ حَوْلَ الشَّيْءِ وَلَا يُظْهِرُهُ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِكَ: عَرَّضْتُ الرَّجُلَ، أَيْ: أَهْدَيْتُ لَهُ. وَمِنْهُ:
أَنَّ رَكْبًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَرَّضُوا رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابًا بِيضًا، أَيْ: أَهْدَوْا لَهُمَا، فَالْمُعَرِّضُ بِالْكَلَامِ يُوصِلُ إِلَى صَاحِبِهِ كَلَامًا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، أَنَّ الْكِنَايَةَ: أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ. وَالتَّعْرِيضُ: أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ، كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ: جِئْتُكَ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ، وَلِأَنْظُرَ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا:
وحسبك بالتسليم منّي تقاضيا كأنه إِمَالَةُ الْكَلَامِ إِلَى عَرَضٍ يَدُلُّ عَلَى الْغَرَضِ، وَيُسَمَّى: التَّلْوِيحُ، لِأَنَّهُ يَلُوحُ مِنْهُ مَا يُرِيدُهُ. انْتَهَى. وَالْخِطْبَةُ بِالْكَسْرِ: مَا يَفْعَلُهُ الطَّالِبُ مِنَ الطَّلَبِ، وَالِاسْتِلْطَافِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، يُقَالُ: خَطَبَهَا يَخْطُبُهَا خِطْبَةً وَخِطْبًا.
وَأَمَّا الْخُطْبَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ: فَهِيَ الْكَلَامُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الرَّجُلُ خَاطِبًا. وَقَوْلُهُ: أَكْنَنْتُمْ مَعْنَاهُ: سَتَرْتُمْ، وَأَضْمَرْتُمْ مِنَ التَّزْوِيجِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْإِكْنَانُ: التَّسَتُّرُ وَالْإِخْفَاءُ، يُقَالُ: أَكْنَنْتُهُ وَكَنَنْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَمِنْهُ: بِيضٌ مَكْنُونٌ، وَدُرٌّ مَكْنُونٌ. وَمِنْهُ أَيْضًا: أَكَنَّ الْبَيْتُ صَاحِبَهُ، أَيْ: سَتَرَهُ. وَقَوْلُهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أَيْ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ لَا تَصْبِرُونَ عَنِ النُّطْقِ لَهُنَّ بِرَغْبَتِكُمْ فِيهِنَّ، فَرَخَّصَ لَكُمْ فِي التَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ فِيهِ طَرَفًا مِنَ التَّوْبِيخِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ «1» . وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا مَعْنَاهُ: عَلَى سِرٍّ، فَحَذَفَ الْحَرْفَ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى السِّرِّ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: نِكَاحًا، أَيْ: لَا يَقُلِ الرَّجُلُ لِهَذِهِ الْمُعْتَدَّةِ تَزَوَّجِينِي، بَلْ يُعَرِّضُ تَعْرِيضًا. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ السِّرُّ: الزِّنَا، أَيْ:
لَا يَكُنْ مِنْكُمْ مُوَاعَدَةٌ عَلَى الزِّنَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ التَّزْوِيجِ بَعْدَهَا. قَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ:
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ الْقِصَاعِ
وَقِيلَ: السِّرُّ: الْجِمَاعُ، أَيْ: لَا تَصِفُوا أَنْفُسَكُمْ لَهُنَّ بِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ تَرْغِيبًا لَهُنَّ فِي النِّكَاحِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أمثالي
ومثله قول الأعشى:
فلن يطلبوا سرّها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها
__________
(1) . البقرة: 187.(1/287)
أَرَادَ: تَطْلُبُونَ نِكَاحَهَا لِكَثْرَةِ مَالِهَا، وَلَنْ تُسَلِّمُوهَا لقلة مالها، والاستدراك بقوله: وَلكِنْ مِنْ مُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أَيْ: فَاذْكُرُوهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْمُعْتَدَّةِ بِمَا هُوَ رَفَثٌ: مِنْ ذِكْرِ جِمَاعٍ، أَوْ تَحْرِيضٍ عَلَيْهِ، لَا يَجُوزُ. وَقَالَ أَيْضًا:
أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْمُوَاعَدَةِ فِي الْعِدَّةِ لِلْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهَا، وَلِلْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ وَلِلسَّيِّدِ فِي أَمَتِهِ. قَوْلُهُ:
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى: لَكِنْ، وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ: هُوَ مَا أُبِيحَ مِنَ التعريض. ومنه صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا وَقَالَ: هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُواعِدُوهُنَّ أَيْ:
لَا تُوَاعِدُوهُنَّ مُوَاعِدَةً قَطُّ إِلَّا مُوَاعَدَةً مَعْرُوفَةً غَيْرَ مُنْكَرَةٍ، فَجَعَلَهُ عَلَى هَذَا اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا، وَوَجْهُ مَنْعِ كَوْنِهِ مُنْقَطِعًا: أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَعْلِ التَّعْرِيضِ مَوْعُودًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ طَرِيقُ الْمُوَاعِدَةِ، لَا أَنَّهُ الْمَوْعُودُ فِي نَفْسِهِ. قَوْلُهُ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْعَزْمِ، يُقَالُ: عَزَمَ الشَّيْءَ، وَعَزَمَ عليه، والمعنى هنا: لا تعزموا على عقدة النِّكَاحِ ثُمَّ حَذَفَ عَلَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالْحَذْفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا تَعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ مَعْنَى تَعْزِمُوا وَتَعْقِدُوا وَاحِدٌ وَقِيلَ: إِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ يَتَقَدَّمُهُ فَيَكُونُ فِي هَذَا النَّهْيِ مُبَالَغَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا نُهِيَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الشَّيْءِ، كَانَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِالْأَوْلَى. قَوْلُهُ: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ يُرِيدُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَالْكِتَابُ هُنَا:
هُوَ الْحَدُّ، وَالْقَدْرُ الَّذِي رُسِمَ مِنَ الْمُدَّةِ، سَمَّاهُ: كِتَابًا، لِكَوْنِهِ مَحْدُودًا، وَمَفْرُوضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «1» وَهَذَا الْحُكْمُ أَعْنِي: تَحْرِيمَ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ قَالَ: التَّعْرِيضُ أَنْ تَقُولَ: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَإِنِّي لَأُحِبُّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا وَأَمْرِهَا، وَإِنَّ مِنْ شَأْنِي النِّسَاءَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ لِيَ امْرَأَةً صَالِحَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ لَهَا: إِنْ رَأَيْتِ أَنْ لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ هَيَّأَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: يَقُولُ إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي تَزَوَّجْتُكِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ قَالَ: أَسْرَرْتُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ قَالَ: بِالْخَطِيئَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ذِكْرُهُ إِيَّاهَا فِي نَفْسِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا
قَالَ: يَقُولُ لَهَا إِنِّي عَاشِقٌ، وَعَاهِدِينِي أَنْ لَا تَتَزَوَّجِي غَيْرِي، وَنَحْوَ هَذَا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ رَأَيْتِ أَنْ لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي السِّرِّ: أَنَّهُ الزِّنَا، كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ مِنْ أَجْلِ الزِّنَا وَهُوَ يُعَرِّضُ بِالنِّكَاحِ. وَأَخْرَجَ عبد الرزاق، وابن المنذر فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً قَالَ: يَقُولُ إِنَّكِ لِجَمِيلَةٌ، وَإِنَّكِ إِلَيَّ خَيْرٌ، وَإِنَّ النِّسَاءَ مِنْ حَاجَتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ
__________
(1) . النساء: 103.(1/288)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
قَالَ: لَا تَنْكِحُوا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ قال: حتى تنقضي العدّة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237]
لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
الْمُرَادُ بِالْجُنَاحِ هُنَا: التَّبِعَةُ مِنَ الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ، فَرَفْعُهُ رَفْعٌ لِذَلِكَ، أَيْ: لَا تَبِعَةَ عَلَيْكُمْ بِالْمَهْرِ وَنَحْوِهِ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ:
أَيْ مُدَّةُ عَدَمِ مَسِيسِكُمْ. وَنَقَلَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ مِنْ بَابِ اعْتِرَاضِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ لِيَكُونَ الثَّانِي قَيْدًا لِلْأَوَّلِ كَمَا فِي قَوْلِكَ: إِنْ تَأْتِنِي إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ أُكْرِمْكَ، أَيْ: إِنْ تَأْتِنِي مُحْسِنًا إِلَيَّ وَالْمَعْنَى: إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ غَيْرَ مَاسِّينَ لَهُنَّ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مَوْصُولَةٌ، أَيْ: إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ اللَّاتِي لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، وَهَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ:
أَوْ تَفْرِضُوا فَقِيلَ: أَوْ: بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَفْرِضُوا وَقِيلَ: بِمَعْنَى: حَتَّى، أَيْ: حَتَّى تَفْرِضُوا وَقِيلَ: بِمَعْنَى: الْوَاوِ، أَيْ: وَتَفْرِضُوا. وَلَسْتُ أَرَى لِهَذَا التَّطْوِيلِ وَجْهًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنِ الْمُطَلِّقِينَ مَا لَمْ يَقَعْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: أَيْ مُدَّةُ انْتِفَاءِ ذَلِكَ الْأَحَدِ، وَلَا يَنْتَفِي الْأَحَدُ الْمُبْهَمُ إِلَّا بِانْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر الْمِثْلِ، وَإِنْ وُجِدَ الْفَرْضُ وَجَبَ نِصْفُهُ مَعَ عَدَمِ الْمَسِيسِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جُنَاحٌ، أَيِ: الْمُسَمَّى، أَوْ نِصْفُهُ، أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُطَلَّقَاتِ أَرْبَعٌ:
مُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا مَفْرُوضٌ لَهَا، وَهِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهَا نَهْيُ الْأَزْوَاجِ عَنْ أَنْ يَأْخُذُوا مِمَّا آتَوْهُنَّ شَيْئًا، وَأَنَّ عِدَّتَهُنَّ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ. وَمُطَلَّقَةٌ غَيْرُ مَفْرُوضٍ لَهَا وَلَا مَدْخُولٍ بِهَا، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ هُنَا فَلَا مَهْرَ لَهَا، بَلِ الْمُتْعَةُ، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَمُطَلَّقَةٌ مَفْرُوضٌ لَهَا غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، وَهِيَ المذكورة بقوله تعالى هُنَا: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَمُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا غَيْرُ مَفْرُوضٍ لَهَا، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ مَا لَمْ تُجَامِعُوهُنَّ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «مِنْ قَبْلِ أَنْ تُجَامِعُوهُنَّ» أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ:
«مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ» وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: «تَمَاسُوهُنَّ» مِنَ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَرِيضَةِ هُنَا: تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ.
قَوْلُهُ: وَمَتِّعُوهُنَّ أَيْ: أَعْطُوهُنَّ شَيْئًا يَكُونُ مَتَاعًا لَهُنَّ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. وَمِنْ أَدِلَّةِ الوجوب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا «1» وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالْقَاضِي شُرَيْحٌ، وَغَيْرُهُمْ:
إِنَّ الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَذْكُورَةِ مَنْدُوبَةٌ لَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَلَوْ كَانَتْ واجبة لأطلقها
__________
(1) . الأحزاب: 49.(1/289)
عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ، بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أَيْ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِذَلِكَ وَالْقِيَامَ بِهِ شَأْنُ أهل التقوى، كل مُسْلِمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ أَيْضًا: هَلِ الْمُتْعَةُ مَشْرُوعَةٌ لِغَيْرِ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ أَمْ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ إِلَّا لَهَا فَقَطْ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِي غَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْفَرْضِ أَمْ مَنْدُوبَةٌ فَقَطْ؟ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ «1» وبقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا «2» وَالْآيَةُ الْأُولَى عَامَّةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَالثَّانِيَةُ فِي أزواج النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَدْ كُنَّ مَفْرُوضًا لَهُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّهَا تَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَإِنْ كَانَتْ مَفْرُوضًا لها لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ «3» قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَحْزَابِ نَسَخَتِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى: أَنَّ الْمُتْعَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالتَّسْمِيَةِ، لِأَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى، أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَغَيْرَ الْمَدْخُولَةِ الَّتِي قَدْ فَرَضَ لَهَا زَوْجُهَا فَرِيضَةً، أَيْ: سَمَّى لَهَا مَهْرًا، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، تَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى، وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا ابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ. وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْفَرْضِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا الْمُتْعَةَ إِذَا كَانَتْ حُرَّةً. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ أَمَةً فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَهَا الْمُتْعَةَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: لَا مُتْعَةَ لَهَا لِأَنَّهَا تَكُونُ لِسَيِّدِهَا، وهو لا يستحق ما لا فِي مُقَابِلِ تَأَذِّي مَمْلُوكَتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا شَرَعَ الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْفَرْضِ، لِكَوْنِهَا تَتَأَذَّى بِالطَّلَاقِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُتْعَةِ الْمَشْرُوعَةِ هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرٍ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا حَدَّ لَهَا مَعْرُوفٌ، بَلْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُتْعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ إِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي قَدْرِ الْمُتْعَةِ وَجَبَ لها نصف مهر مثلها، ولا ينقص عن خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَلِلسَّلَفِ فِيهَا أَقْوَالٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِحَالِ الزَّوْجِ، فَالْمُتْعَةُ مِنَ الْغَنِيِّ فَوْقَ الْمُتْعَةِ من الفقير. وقرأ الْجُمْهُورُ: عَلَى الْمُوسِعِ بِسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَهُوَ الَّذِي اتَّسَعَتْ حَالُهُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَفَتْحِهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: قَدْرُهُ بِسُكُونِ الدَّالِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ بِفَتْحِ الدَّالِ فِيهِمَا. قَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: هُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَهَكَذَا يُقْرَأُ فِي قَوْلِهِ تعالى: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «4» . وقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «5» والمقتر: المقلّ، ومتاعا: مصدر مؤكد لِقَوْلِهِ:
وَمَتِّعُوهُنَّ، وَالْمَعْرُوفُ: مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ، وَالْعَادَةِ الْمُوَافِقَةِ لَهُ. وَقَوْلُهُ: حَقًّا وَصْفٌ لِقَوْلِهِ:
مَتاعاً أَوْ: مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، يُقَالُ: حَقَّقْتُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَأَحْقَقْتُ، أَيْ:
أَوْجَبْتُ. قَوْلُهُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ الْآيَةَ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المتعة لا تجب لهذه المطلقة
__________
(1) . البقرة: 241.
(2) . الأحزاب: 28.
(3) . الأحزاب: 29.
(4) . الرعد: 17. [.....]
(5) . الأنعام: 91.(1/290)
لِوُقُوعِهَا فِي مُقَابَلَةِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْفَرْضِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْمُتْعَةَ. وَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ أَيْ:
فَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ نِصْفُ مَا سَمَّيْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الْمَهْرِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنِصْفُ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَا الْجُمْهُورِ: بِالنَّصْبِ، أَيْ: فَادْفَعُوا نِصْفَ مَا فَرَضْتُمْ، وَقُرِئَ أَيْضًا: بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ أَيْضًا عَلَى: أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا زَوْجُهَا وَمَاتَ وَقَدْ فَرَضَ لَهَا مَهْرًا تَسْتَحِقُّهُ كَامِلًا بِالْمَوْتِ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَلْوَةِ: هَلْ تَقُومُ مَقَامَ الدُّخُولِ وَتَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ بِهَا كَمَالَ الْمَهْرِ كَمَا تَسْتَحِقُّهُ بِالدُّخُولِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَالْكُوفِيُّونَ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَجِبُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا الْعِدَّةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجِبُ إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَسِيسَ هُوَ الْجِمَاعُ، وَلَا تَجِبُ عِنْدَهُ الْعِدَّةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَيِ: الْمُطَلَّقَاتُ، وَمَعْنَاهُ: يَتْرُكْنَ وَيَصْفَحْنَ، وَوَزْنُهُ يَفْعَلْنَ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، وَقِيلَ: مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَاهُ: يَتْرُكْنَ النِّصْفَ الَّذِي يَجِبُ لَهُنَّ عَلَى الْأَزْوَاجِ. وَلَمْ تَسْقُطِ النُّونُ مَعَ إِنَّ، لِأَنَّ جَمْعَ الْمُؤَنَّثِ فِي الْمُضَارِعِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الرَّفْعِ، وَالنَّصْبِ، وَالْجَزْمِ لِكَوْنِ النُّونِ ضَمِيرًا، وَلَيْسَتْ بِعَلَامَةِ إِعْرَابٍ كَمَا فِي الْمُذَكَّرِ فِي قَوْلِكَ: الرِّجَالُ يَعْفُونَ، وَهَذَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يَعْنِي: الرِّجَالَ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَفْظًا. ومعنى قوله:
أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ قَوْلِهِ: «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ» لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَبْنِيٌّ وَهَذَا مُعْرَبٌ قِيلَ هُوَ الزَّوْجُ، وَبِهِ قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَشُرَيْحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَمَكْحُولٌ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَهُوَ الْجَدِيدُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ قُوَّةٌ وَضَعْفٌ أَمَّا قُوَّتُهُ: فَلِكَوْنِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً هُوَ الزَّوْجُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ رَفْعُهُ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَلِكَوْنِ الْعَفْوِ مِنْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَمَا قَالُوا بِهِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِعَفْوِهِ أَنْ يُعْطِيَهَا الْمَهْرَ كَامِلًا غَيْرَ ظَاهِرٍ.
لِأَنَّ الْعَفْوَ لَا يُطْلَقُ على الزيادة. وقيل: المراد بقوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ هُوَ الْوَلِيُّ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَرَبِيعَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ، وَفِيهِ قُوَّةٌ وَضَعْفٌ أَمَّا قُوَّتُهُ فَلِكَوْنِ مَعْنَى الْعَفْوِ فِيهِ مَعْقُولًا وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَلِكَوْنِ عُقْدَةِ النِّكَاحِ بِيَدِ الزَّوْجِ لَا بِيَدِهِ، وَمِمَّا يَزِيدُ هَذَا الْقَوْلَ ضَعْفًا:
أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الزَّوْجِ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ. وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا، وَالْمَهْرُ مَالُهَا. فَالرَّاجِحُ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً.
الثَّانِي: أَنَّ عَفْوَهُ بِإِكْمَالِ الْمَهْرِ هُوَ صَادِرٌ عَنِ الْمَالِكِ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ بِخِلَافِ الْوَلِيِّ، وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ عَفْوًا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ أَنَّهُمْ يَسُوقُونَ الْمَهْرَ كَامِلًا عِنْدَ الْعَقْدِ كَانَ الْعَفْوُ مَعْقُولًا، لِأَنَّهُ تَرَكَهُ لَهَا وَلَمْ يَسْتَرْجِعِ النِّصْفَ مِنْهُ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي الْكَشَّافِ، لِأَنَّهُ(1/291)
عَفْوٌ حَقِيقِيٌّ، أَيْ: تَرْكٌ لِمَا يُسْتَحَقُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُشَاكَلَةٌ، أَوْ يَطِيبَ فِي تَوْفِيَةِ الْمُهْرِ قَبْلَ أَنْ يَسُوقَهُ الزَّوْجُ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى قِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ تَغْلِيبًا وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ، وَالشَّعْبِيُّ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ مَعَ الرِّجَالِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ، لِأَنَّ عَفْوَ الْوَلِيِّ عَنْ شَيْءٍ لَا يَمْلِكُهُ لَيْسَ هُوَ أَقْرَبَ إِلَى التَّقْوَى، بَلْ أَقْرَبُ إِلَى الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ. قَوْلُهُ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْوَاوِ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: بِكَسْرِهَا، وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَلَا تَنَاسَوُا وَالْمَعْنَى: أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَنْسَيَانِ التَّفَضُّلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: أَنْ تَتَفَضَّلَ الْمَرْأَةُ بِالْعَفْوِ عَنِ النِّصْفِ، وَيَتَفَضَّلَ الرَّجُلُ عَلَيْهَا بِإِكْمَالِ الْمَهْرِ، وَهُوَ إِرْشَادٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنَ الْأَزْوَاجِ إِلَى تَرْكِ التَّقَصِّي عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَالْمُسَامَحَةِ فِيمَا يَسْتَغْرِقُهُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِلْوَصْلَةِ التي قد وقعت بينهما مِنْ إِفْضَاءِ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ، وَهِيَ وَصْلَةٌ لَا يُشْبِهُهَا وَصْلَةٌ، فَمِنْ رِعَايَةِ حَقِّهَا وَمَعْرِفَتِهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا الْحِرْصُ مِنْهُمَا عَلَى التَّسَامُحِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فِيهِ مِنْ تَرْغِيبِ الْمُحْسِنِ وَتَرْهِيبِ غَيْرِهِ مَا لَا يَخْفَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً قَالَ: الْمَسُّ: النِّكَاحُ، وَالْفَرِيضَةُ: الصداق وَمَتِّعُوهُنَّ قَالَ:
هُوَ عَلَى الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُمَتِّعَهَا عَلَى قَدْرِ عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا مَتَّعَهَا بِخَادِمٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا مَتَّعَهَا بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مُتْعَةُ الطَّلَاقِ: أَعْلَاهَا الْخَادِمُ وَدُونَ ذَلِكَ الْوَرِقُ، وَدُونَ ذَلِكَ الْكُسْوَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ عُمَرَ قَالَ: أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنَ الْمُتْعَةِ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا.
وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ مَتَّعَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَرُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ. وَعَنْ شُرَيْحٍ: أَنَّهُ مَتَّعَ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ مَتَّعَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ كَانَ يُمَتِّعُ بِالْخَادِمِ وَالنَّفَقَةِ أَوْ بِالْكُسْوَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ قَالَ الْمَسُّ: الْجِمَاعُ، فَلَهَا نِصْفُ صَدَاقِهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ. وَهِيَ الْمَرْأَةُ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ يُزَوِّجُهَا غَيْرُ أَبِيهَا، فَجَعَلَ اللَّهُ الْعَفْوَ لَهُنَّ إِنْ شِئْنَ عَفَوْنَ بِتَرْكِهِنَّ، وَإِنْ شِئْنَ أَخَذْنَ نصف الصداق أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَهُوَ أَبُو الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ، جُعِلَ الْعَفْوُ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهَا مَعَهُ أَمْرٌ إِذَا طُلِّقَتْ مَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيَخْلُو بِهَا وَلَا يَمَسُّهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا: لَيْسَ لَهَا إِلَّا نِصْفُ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَإِنْ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ: الزَّوْجُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ(1/292)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ:
هُوَ أَبُوهَا وَأَخُوهَا وَمَنْ لَا تُنْكَحُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بن حميد، وابن جرير، وعن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قَالَ: فِي هَذَا أَوْ غَيْرِهِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَّ قَوْمًا أَتَوُا ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالُوا:
إِنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ مِنَّا امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَجْمَعْهَا إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. فَقَالَ: أَرَى أَنْ أَجْعَلَ لَهَا صَدَاقًا كَصَدَاقِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ نَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ، مِنْهُمْ: مُغَفَّلُ بْنُ سِنَانٍ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَضَيْتَ مِثْلَ الَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا بَرْوَعُ بِنْتُ وَاشِقٍّ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا: لَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَا صَدَاقَ لَهَا. وَقَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ أَعْرَابِيٍّ مِنْ أَشْجَعَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ فَرَضَ لَهَا صَدَاقًا: لَهَا الصَّدَاقُ وَالْمِيرَاثُ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شيبة، والبيهقي عن عمر ابن الْخَطَّابِ: أَنَّهُ قَضَى فِي الْمَرْأَةِ يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ: أَنَّهُ إِذَا أُرْخِيَتِ السُّتُورُ فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ قَالَ: إِذَا أَرْخَى سِتْرًا، وَأَغْلَقَ بَابًا، فَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ: أَنَّهُ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا، أَوْ أَرْخَى سِتْرًا، فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ وَالْعِدَّةُ، وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَشَفَ امْرَأَةً فَنَظَرَ إِلَى عورتها فقد وجب الصداق.
[سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
الْمُحَافَظَةُ عَلَى الشَّيْءِ: الْمُدَاوَمَةُ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ، وَالْوُسْطَى: تَأْنِيثُ الْأَوْسَطِ، وَأَوْسَطُ الشَّيْءِ وَوَسَطُهُ:
خِيَارُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ:
يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرِهِمْ ... وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وَوَسَطَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَسِطُهُمْ، أَيْ: صَارَ فِي وَسَطِهِمْ: وَأَفْرَدَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهَا فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ تَشْرِيفًا لَهَا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحُلْوَانِيُّ وَقَرَأَ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ: الْوُصْطَى، بِالصَّادِّ لِمُجَاوَرَةِ الطَّاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ: كَالسِّرَاطِ وَالصِّرَاطِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا أَوْرَدْتُهَا فِي شَرْحِي لِلْمُنْتَقَى، وَذَكَرْتُ مَا تَمَسَّكَتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ، وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ وَأَصَحُّهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهَا الْعَصْرُ، لِمَا ثَبَتَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَأَهْلِ السُّنَنِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: كُنَّا نَرَاهَا الْفَجْرَ حَتَّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ(1/293)
الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَأَجْوَافَهُمْ نَارًا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا. وَوَرَدَ فِي تَعْيِينِ أَنَّهَا الْعَصْرُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ يَوْمِ الْأَحْزَابِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، مِنْهَا: عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ، وَمِنْهَا: عَنْ سَمُرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَمِنْهَا: عَنْهُ أَيْضًا عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدَ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُ سَعِيدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ، فَهَذِهِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا الْعَصْرُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصحابة في تعيين أنها العصر آثار كثيرة، وَفِي الثَّابِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ، كَمَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُمَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَابِرٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَرْفُوعِ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَا تَقُومُ بِمِثْلِ ذَلِكَ حُجَّةٌ، لَا سِيَّمَا إِذَا عَارَضَ مَا قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ثُبُوتًا يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى فِيهِ التَّوَاتُرُ، وَإِذَا لَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ لَمْ تقم بأقوال من بعدهم من التابعين، وتابعيهم بِالْأَوْلَى، وَهَكَذَا لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةُ الْوُسْطَى الْمَغْرِبُ، وَهَكَذَا لَا اعْتِبَارَ بِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّهَا الظَّهْرُ، أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى إِمْعَانِ نَظَرٍ وَفِكْرٍ مَا وَرَدَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِمَّا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الظَّهْرُ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ» . وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ، بَلِ الْمَرْوِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذلك بأن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِالْهَاجِرَةِ، وَكَانَتْ أَثْقَلَ الصَّلَاةِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَيْنَ يَقَعُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهَكَذَا الِاعْتِبَارُ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهَا الظَّهْرُ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ. فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُمَا أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ لِأَبِي رَافِعٍ مَوْلَاهَا- وَقَدْ أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا: إذا أتيت على هذا الْآيَةِ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فَتَعَالَ حَتَّى أُمْلِيهَا عَلَيْكَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُبَ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْهَا مَالِكٌ، وَعَبْدُ بْنُ
حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَزَادُوا: وَقَالَتْ أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ: أَنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا(1/294)
وَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قَالَ: فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهَا أَمَرَتْ مَنْ يَكْتُبُ لَهَا مُصْحَفًا، وَقَالَتْ لَهُ كَمَا قَالَتْ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. فَغَايَةُ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الثَّلَاثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَنَّهُنَّ يَرْوِينَ هَذَا الْحَرْفَ هَكَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى أَنَّهَا الظَّهْرُ أَوْ غَيْرُهَا، بَلْ غَايَةُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَطْفُ صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى صَلَاةِ الْوُسْطَى أَنَّهَا غَيْرُهَا، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يُعَارِضُ مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُبُوتًا لَا يَدْفَعُ أَنَّهَا الْعَصْرُ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي نَقَلَتْهَا أمهات المؤمنين بِإِثْبَاتِ قَوْلِهِ: «وَصَلَاةُ الْعَصْرِ» مُعَارَضَةٌ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ عَنْ حُمَيْدَةَ قَالَتْ: قَرَأْتُ فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّ عَائِشَةَ أَمَرَتْ بِمُصْحَفٍ لَهَا أَنْ يُكْتَبَ وَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتُمْ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ فَلَا تَكْتُبُوهَا حَتَّى تُؤْذِنُونِي، فَلَمَّا أَخْبَرُوهَا أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا قَالَتِ: اكْتُبُوهَا صَلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ: قَالَ كَانَ مَكْتُوبًا فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أبي ابن كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّحَاوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَيَقْرَؤُهَا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ الْمَحَامِلِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ تَلَاهَا كَذَلِكَ فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ تُعَارِضُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ بِاعْتِبَارِ التِّلَاوَةِ وَنَقْلِ الْقِرَاءَةِ، وَيَبْقَى مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّعْيِينِ صَافِيًا عَنْ شَوْبِ كَدَرِ الْمُعَارَضَةِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي نَقَلَتْهَا حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ.
وأخرج عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:
نَزَلَتْ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ فَقَرَأْنَاهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ، فَأَنْزَلَ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فَقِيلَ له: هي إِذَنْ صَلَاةُ الْعَصْرِ؟ قَالَ: قَدْ حَدَّثْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ نَحْوَهُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا وَعَرَفْتَ مَا سُقْنَاهُ تَبَيَّنَ لَكَ: أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَمَّا حُجَجُ بَقِيَّةِ الْأَقْوَالِ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَبَعْضُ الْقَائِلِينَ عَوَّلَ عَلَى أَمْرٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّهَا صَلَاةُ كَذَا، لِأَنَّهَا وُسْطَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَّ قَبْلَهَا كَذَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْدَهَا كَذَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَهَذَا الرَّأْيُ الْمَحْضُ وَالتَّخْمِينُ الْبَحْتُ لَا ينبغي أن تسند إِلَيْهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى فَرْضِ عَدَمِ وُجُودِ مَا يُعَارِضُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالثُّبُوتِ عَنْ(1/295)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ ويا لله الْعَجَبُ مِنْ قَوْمٍ لَمْ يَكْتَفُوا بِتَقْصِيرِهِمْ فِي عِلْمِ السُّنَّةِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ خَيْرِ الْعُلُومِ وَأَنْفَعِهَا، حَتَّى كَلَّفُوا أَنْفُسَهُمُ التَّكَلُّمَ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ، والتجرؤ عَلَى تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هدى، فجاؤوا بِمَا يُضْحَكُ مِنْهُ تَارَةً وَيُبْكَى مِنْهُ أُخْرَى. قَوْلُهُ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ الْقُنُوتُ: قِيلَ: هُوَ الطَّاعَةُ، أَيْ: قُومُوا لِلَّهِ فِي صَلَاتِكُمْ طَائِعِينَ، قَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جبير، والضحاك، والشافعي. وَقِيلَ:
هُوَ الْخُشُوعُ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَانِتًا لِلَّهِ يَدْعُو رَبَّهُ ... وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَلْ
وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْقُنُوتَ طُولُ الْقِيَامِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: سَاكِتِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ صَاحِبَهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْحَاجَةِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْقُنُوتِ فِي اللُّغَةِ: الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ، فَكُلُّ مَعْنًى يُنَاسِبُ الدَّوَامَ يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْقُنُوتِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ: أَنَّ للقنوت ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَعْنًى، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَقَى، وَالْمُتَعَيِّنُ هَاهُنَا حَمْلُ الْقُنُوتِ عَلَى السُّكُوتِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً الْخَوْفُ: هُوَ الْفَزَعُ، وَالرِّجَالُ: جَمْعُ رَجُلٍ أَوْ رَاجِلٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ رَجِلَ الْإِنْسَانُ يَرْجَلُ رَاجِلًا: إِذَا عَدِمَ الْمَرْكُوبَ وَمَشَى عَلَى قَدَمَيْهِ فَهُوَ رَجُلٌ وَرَاجِلٌ. يَقُولُ أَهْلُ الْحِجَازِ:
مَشَى فُلَانٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيًا رَجُلًا. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، ذَكَرَ حَالَةَ الْخَوْفِ أَنَّهُمْ يُضِيعُونَ فِيهَا مَا يُمْكِنُهُمْ وَيَدْخُلُ تَحْتَ طَوْقِهِمْ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ بِفِعْلِهَا حَالَ التَّرَجُّلِ وَحَالَ الرُّكُوبِ، وَأَبَانَ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ لَازِمَةٌ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حدّ الخوف المبيح لذلك، والبحث مستوفى فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. قَوْلُهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ أَيْ:
إِذَا زَالَ خَوْفُكُمْ فَارْجِعُوا إِلَى مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ، مُسْتَقْبِلِينَ الْقِبْلَةَ، قَائِمِينَ بِجَمِيعِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: خَرَجْتُمْ مِنْ دَارِ السَّفَرِ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: كَما عَلَّمَكُمْ أَيْ: مِثْلُ مَا عَلَّمَكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ وَالْكَافُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذِكْرًا كَائِنًا كَتَعْلِيمِهِ إِيَّاكُمْ، أَوْ: مِثْلُ تَعْلِيمِهِ إِيَّاكُمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَلِفِينَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى؟
فَقَالَ: هِيَ فِيهِنَّ فَحَافِظُوا عَلَيْهِنَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَقَالَ: حَافِظْ عَلَى الصَّلَوَاتِ تُدْرِكْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ: أَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، قَالَ: حَافِظْ عَلَيْهِنَّ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ أَصَبْتَهَا، إِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: سُئِلَ شُرَيْحٌ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالَ: حَافِظُوا عَلَيْهَا تُصِيبُوهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا(1/296)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي تَعْيِينِهَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ مِثْلَ مَا قَدَّمْنَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ قَالَ: مُصَلِّينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ أَهْلِ دِينٍ يَقُومُونَ فِيهَا عاصين، وقوموا أَنْتُمْ مُطِيعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ قَالَ: مِنَ الْقُنُوتِ: الرُّكُوعُ وَالْخُشُوعُ، وَطُولُ الرُّكُوعِ: يَعْنِي طُولَ الْقِيَامِ، وَغَضَّ الْبَصَرِ، وَخَفْضَ الْجَنَاحِ وَالرَّهْبَةَ لِلَّهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» .
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْقُنُوتِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، هَلْ هُوَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهَلْ هُوَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ أَوْ بَعْضِهَا، وَهَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالنَّوَازِلِ أَمْ لَا؟ وَالرَّاجِحُ اخْتِصَاصُهُ بِالنَّوَازِلِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً قَالَ: يُصَلِّي الرَّاكِبُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَالرَّاجِلُ عَلَى رِجْلَيْهِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ يَعْنِي: كَمَا عَلَّمَكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّاكِبُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَالرَّاجِلُ عَلَى رِجْلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قال: إذا كانت المسايفة فليومئ بِرَأْسِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً قَالَ: رَكْعَةً رَكْعَةً.
وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ قَالَ: خَرَجْتُمْ مِنْ دَارِ السَّفَرِ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
هَذَا عَوْدٌ إِلَى بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ فِيمَا سَلَفَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هذه الآية هل مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا مَنْسُوخَةٌ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُنَّ مِنَ الْمِيرَاثِ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مجاهد أن هذه الآية لَا نَسْخَ فِيهَا، وَأَنَّ الْعِدَّةَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ وَصِيَّةً مِنْهُ: سُكْنَى سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَإِنْ شَاءَتِ الْمَرْأَةُ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالْقَاضِي عِيَاضٍ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ(1/297)
في صحيحه. وقوله: وَصِيَّةً قرأها نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْكِسَائِيِّ: بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ لِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ مُقَدَّمًا، أَيْ: عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ وَقِيلَ: إِنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: لِأَزْواجِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّهُ خبر مبتدأ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَصِيَّةُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وَصِيَّةٌ أَوْ حكم الذين يتوفون وصية. وقرأ أبو عمرو وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ: بِالنَّصْبِ، عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً، أَوْ: أَوْصَى اللَّهُ وَصِيَّةً، أَوْ:
كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةً. وَقَوْلُهُ: مَتاعاً منصوب بوصية، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا، أَوْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ ذَلِكَ مَتَاعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ. وَالْمَتَاعُ هُنَا: نَفَقَةُ السَّنَةِ. وَقَوْلُهُ: غَيْرَ إِخْراجٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: مَتاعاً وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ، كَأَنَّهُ قَالَ لَا إِخْرَاجًا وَقِيلَ: إِنَّهُ حَالٌ، أَيْ: مَتِّعُوهُنَّ غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَنْ يُوصُوا قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ بِهِمْ لِأَزْوَاجِهِمْ أَنْ يُمَتَّعْنَ بَعْدَهُمْ حَوْلًا كَامِلًا بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى مِنْ تَرِكَتِهِمْ، وَلَا يَخْرُجْنَ مِنْ مَسَاكِنِهِنَّ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خَرَجْنَ يَعْنِي بِاخْتِيَارِهِنَّ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَى الوليّ والحاكم وغيرهما فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ وَالتَّزَيُّنِ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ مَعْرُوفٍ أَيْ: بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الشَّرْعِ غَيْرَ مُنْكَرٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ: على أن النساء كنّ مخيرات في الْحَوْلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَتْمٍ عَلَيْهِنَّ وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُنَّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْجُنَاحِ هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: فِيما فَعَلْنَ وَقَوْلُهُ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ قَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: هِيَ الْمُتْعَةُ، وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالثَّيِّبَاتِ اللَّوَاتِي قَدْ جُومِعْنَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُتْعَةِ لِلَّوَاتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ الْأَزْوَاجُ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمُتْعَةِ وَالْخِلَافَ فِي كَوْنِهَا خَاصَّةً بِمَنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْفَرْضِ أَوْ عَامَّةً لِلْمُطَلَّقَاتِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَامِلَةٌ لِلْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ مُتْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْفَرْضِ، وَغَيْرِ الْوَاجِبَةِ وَهِيَ مُتْعَةُ سَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فَقَطْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُتْعَةِ هُنَا: النَّفَقَةُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَلَمْ تَكْتُبْهَا أَوْ تدعها؟ قال: يا بن أَخِي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا نَفَقَتُهَا وَسُكْنَاهَا فِي الدَّارِ سَنَةً، فَنَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ، فَجُعِلَ لَهُنَّ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ مِمَّا تَرَكَ الزَّوْجُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ عَطَاءٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَيْسَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا نَفَقَةٌ حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَسَخَتْهَا- وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً «1» وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ قَالَ:
النِّكَاحُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ
__________
(1) . الْبَقَرَةِ: 234.(1/298)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
قَالَ رَجُلٌ: إِنْ أَحْسَنْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ أَفْعَلْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ «1» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَتَّابِ بْنِ خُصَيْفٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْفَرَائِضِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إِلَّا الَّتِي تطلقها ولم تدخل بها فقد فُرِضَ لَهَا، كَفَى بِالنِّصْفِ مَتَاعًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
لِكُلِّ مُؤْمِنَةٍ طُلِّقَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً مُتْعَةٌ وَقَرَأَ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا طَلَّقَ حَفْصُ بْنُ الْمُغِيرَةِ امْرَأَتَهُ فاطمة أتت النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِزَوْجِهَا:
«مَتِّعْهَا، قَالَ: لَا أَجِدُ مَا أُمَتِّعُهَا، قَالَ: فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَتَاعِ، مَتِّعْهَا وَلَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ» .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ في الآية، قال: لكلّ مطلقة متعة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ، وَالرُّؤْيَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ لَا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: تَنَبَّهْ إِلَى أَمْرِ الَّذِينَ خَرَجُوا، وَلَا تَحْتَاجُ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَذَا قِيلَ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا الَّتِي بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى التَّنْبِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَمَّنَةً مَعْنَى الِانْتِهَاءِ، أَيْ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَيْهِمْ أَوْ مَعْنَى الْوُصُولِ، أَيْ: أَلَمْ يَصِلْ عِلْمُكَ إِلَيْهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ، أَيْ: أَلَمْ تَنْظُرْ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا. جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانَتْ بِمَكَانٍ مِنَ الشُّيُوعِ وَالشُّهْرَةِ يَحْمِلُ كُلَّ أَحَدٍ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْلُومَةِ لِكُلِّ فَرْدٍ، أَوِ الْمُبْصَرَةِ لِكُلِّ مُبْصِرٍ، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ أُخْبِرُوا بِهَا وَدَوَّنُوهَا وَأَشْهَرُوا أَمْرَهَا، وَالْخِطَابُ هُنَا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ. وَالْكَلَامُ جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي مَقَامِ التَّعْجِيبِ، ادِّعَاءً لِظُهُورِهِ وَجَلَائِهِ بِحَيْثُ يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِهِ الشَّاهِدُ وَالْغَائِبُ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ أُلُوفٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ خَرَجُوا، وَأُلُوفٌ: مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ: حَذَرَ الْمَوْتِ مَفْعُولٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا هُوَ أَمْرُ تَكْوِينٍ، عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِمَوْتِهِمْ دُفْعَةً، أَوْ: تَمْثِيلٌ، لِإِمَاتَتِهِ سُبْحَانَهُ إِيَّاهُمْ مَيْتَةَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، كَأَنَّهُمْ أُمِرُوا فَأَطَاعُوا. قَوْلُهُ: ثُمَّ أَحْياهُمْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، أَيْ: قَالَ اللَّهُ لَهُمْ:
مُوتُوا فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، أَوْ: عَلَى قَالَ، لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنِ الْإِمَاتَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ التَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَضْلٍ، لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: لَذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على الناس جميعا، وأما هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا فَلِكَوْنِهِ أَحْيَاهُمْ، لِيَعْتَبِرُوا، وَأَمَّا الْمُخَاطَبُونَ: فَلِكَوْنِهِ قَدْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ بقصة هؤلاء. قوله
__________
(1) . البقرة: 237.(1/299)
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: اشْكُرُوا فَضْلَهُ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا قَصَّ عَلَيْكُمْ وَقَاتِلُوا، هَذَا إِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا رَاجِعًا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِيرَادُ هَذِهِ الْقِصَّةِ لتشجيع المسلمين على الجهاد وقيل إن الْخِطَابُ لِلَّذِينِ أُحْيُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: مُوتُوا وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَقَالَ لَهُمْ: قَاتِلُوا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لِلَّذِينِ أُحْيُوا. وَقَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي ذَلِكَ، وَ «مَنْ» اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَرْفُوعَةُ الْمَحَلِّ بِالِابْتِدَاءِ، وَ «ذَا» خَبَرُهُ، وَ «الَّذِي» وَصِلَتُهُ وَصْفٌ لَهُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَإِقْرَاضُ اللَّهِ: مَثَلٌ لِتَقْدِيمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ فَاعِلُهُ الثَّوَابَ، وَأَصْلُ الْقَرْضِ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُلْتَمَسُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، يُقَالُ: أَقْرَضَ فُلَانٌ فُلَانًا، أَيْ: أَعْطَاهُ مَا يَتَجَازَاهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا جُوزِيَتْ قَرْضًا فَاجْزِهِ
.......
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَرْضُ فِي اللُّغَةِ: الْبَلَاءُ الْحَسَنُ، وَالْبَلَاءُ السَّيِّئُ.
قَالَ أُمَيَّةُ:
كُلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَنًا ... أَوْ سَيِّئًا وَمَدِينًا مِثْلَ مَا دَانَا
وقال آخر:
تجازى الْقُرُوضَ بِأَمْثَالِهَا ... فَبِالْخَيْرِ خَيْرًا وَبِالشَّرِّ شَرَّا
وَقَالَ الْكِسَائِي: الْقَرْضُ: مَا أَسْلَفْتَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ سَيِّئٍ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ: الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْمِقْرَاضُ، وَاسْتِدْعَاءُ الْقَرْضِ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ تَأْنِيسٌ وَتَقْرِيبٌ لِلنَّاسِ بِمَا يَفْهَمُونَهُ. وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ: شَبَّهَ عَطَاءَ الْمُؤْمِنِ مَا يَرْجُو ثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ بِالْقَرْضِ، كَمًّا شَبَّهَ إِعْطَاءَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي أَخْذِ الْجَنَّةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَقَوْلُهُ:
حَسَناً أَيْ: طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ مِنْ دُونِ مَنٍّ وَلَا أَذًى. وَقَوْلُهُ: فَيُضاعِفَهُ قَرَأَ عَاصِمٌ وَغَيْرُهُ: بِالْأَلِفِ وَنَصْبِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عمرة وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَرَفْعِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ:
فَيُضَعِّفَهُ بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ مَعَ تَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَنَصْبِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِالتَّشْدِيدِ وَرَفْعِ الْفَاءِ. فَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ، وَمَنْ رَفَعَ فَعَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هُوَ يُضَاعِفُهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِ هَذَا التَّضْعِيفِ عَلَى أَقْوَالٍ. وَقِيلَ: لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، وَالْقَبْضُ: التَّقْتِيرُ، وَالْبَسْطُ: التَّوْسِيعُ وَفِيهِ وَعِيدٌ بِأَنَّ مَنْ بَخِلَ مِنَ الْبَسْطِ يُوشِكُ أَنْ يُبَدَّلَ بِالْقَبْضِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَيْ: هُوَ يُجَازِيكُمْ بِمَا قَدَّمْتُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِذَا أَنْفَقْتُمْ مِمَّا وَسَّعَ بِهِ عَلَيْكُمْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ بَخِلْتُمْ عَاقَبَكُمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ، وَقَالُوا: نَأْتِي أَرْضًا لَيْسَ بِهَا مَوْتٌ، حَتَّى(1/300)
إِذَا كَانُوا بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا قَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فَمَاتُوا، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُحْيِيَهُمْ حَتَّى يَعْبُدُوهُ، فَأَحْيَاهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: أَنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا دَاوَرْدَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَفِيهَا: أَنَّهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ دِيَارَهُمْ هِيَ أَذَرِعَاتٌ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ:
كَانُوا تِسْعَةَ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَدِّثِي الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى أَنْحَاءٍ، وَلَا يَأْتِي الِاسْتِكْثَارُ مِنْ طُرُقِهَا بِفَائِدَةٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ، وَعَنْ دُخُولِ الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ بِهَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ لِيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟
قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَلَهُ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ» . وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: أَضْعافاً كَثِيرَةً قَالَ: هَذَا التَّضْعِيفُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا هُوَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَكْتُبُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ» فَحَجَجْتُ ذَلِكَ الْعَامَ وَلَمْ أَكُنْ أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ إِلَّا لِأَلْقَاهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: ليس هذا قلت، ولم يحفظ الَّذِي حَدَّثَكَ، إِنَّمَا قُلْتُ: «إِنَّ اللَّهَ لِيُعْطِيَ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَةٍ» ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
أَوَ لَيْسَ تَجِدُونَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فالكثيرة عند الله أكثر من ألف أَلِفٍ وَأَلْفَيْ أَلِفٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُ الْحَسَنَةَ أَلْفَيْ أَلِفِ حَسَنَةٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ «1» إِلَى آخِرِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي فَنَزَلَتْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً قَالَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي فَنَزَلَتْ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «3» قَالَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَنَزَلَتْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَالَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فنزلت:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ قَالَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَنَزَلَتْ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ هَذِهِ أَحْسَنُهَا وَسَتَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فَابْحَثْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ قَالَ: يَقْبِضُ: الصَّدَقَةَ، وَيَبْسُطُ: قَالَ يُخْلِفُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قَالَ: مِنَ التُّرَابِ وَإِلَى التُّرَابِ تَعُودُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الآية قال:
__________
(1) . البقرة: 261.
(2) . الزمر: 10.
(3) . الأنعام: 160.(1/301)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِيمَنْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ لَا يَجِدُ قُوَّةً، وَفِيمَنْ لَا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ يَجِدُ غِنًى، فَنَدَبَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْقَرْضِ فَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَالَ: يَبْسُطُ عَلَيْكَ وَأَنْتَ ثَقِيلٌ عَنِ الْخُرُوجِ لَا تُرِيدُهُ، وَيَقْبِضُ عَنْ هَذَا وَهُوَ يَطِيبُ نَفْسًا بِالْخُرُوجِ وَيَخِفُّ لَهُ، فقوّه مما بيدك يكن لك الحظ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 252]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَالْمَلَأُ: الأشراف من الناس، كأنهم مُلِئُوا شَرَفًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُمُّوا بِذَلِكَ: لِأَنَّهُمْ مَلِئُونَ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ. ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ قِصَّةً أُخْرَى جَرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مُوسى مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَعَامِلُهَا مُقَدَّرٌ، أَيْ:
كَائِنَيْنِ مِنْ بَعْدِ مُوسَى: أَيْ: بَعْدِ وَفَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: لِنَبِيٍّ لَهُمُ قِيلَ: هُوَ شَمْوِيلُ بْنُ يَارَ بْنِ عَلْقَمَةَ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْعَجُوزِ، وَيُقَالُ فِيهِ: شَمْعُونُ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَقِيلَ: مِنْ نَسْلِ هَارُونَ وَقِيلَ: هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ يُوشَعَ هُوَ فَتَى مُوسَى، وَلَمْ يُوجَدْ دَاوُدُ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ وَقِيلَ: اسْمُهُ(1/302)
إِسْمَاعِيلُ. وَقَوْلُهُ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أَيْ: أَمِيرًا نَرْجِعُ إِلَيْهِ وَنَعْمَلُ عَلَى رَأْيِهِ. وَقَوْلُهُ: نُقاتِلْ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الْفِعْلِ، عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَلِكِ. وَقُرِئَ: بِالنُّونِ وَالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ حَالٌ أَوْ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَقَوْلُهُ: هَلْ عَسَيْتُمْ بِالْفَتْحِ لِلسِّينِ وَبِالْكَسْرِ لُغَتَانِ، وَبِالثَّانِيَةِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَبِالْأُولَى قَرَأَ الْبَاقُونَ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَقِرَاءَةُ الْكَسْرِ ضَعِيفَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ لِلْكَسْرِ وَجْهٌ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَجْهُ الْكَسْرِ قَوْلُ الْعَرَبِ، هُوَ عَسَّ بِذَلِكَ، مِثْلُ حَرَّ وَشَجَّ، وَقَدْ جَاءَ فَعَلَ وَفَعِلَ فِي نَحْوِ نَقَمَ وَنَقِمَ، فَكَذَلِكَ عَسَيْتُ وَعَسِيتُ، وَكَذَا قَالَ مَكِّيٌّ. وَقَدْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ أَيْضًا الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ، فَلَا وَجْهَ لِتَضْعِيفِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، أَيْ: هَلْ قاربتم ألا تُقَاتِلُوا، وَإِدْخَالُ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى فِعْلِ الْمُقَارَبَةِ لِتَقْرِيرِ مَا هُوَ مُتَوَقَّعٌ عِنْدَهُ، وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ كَائِنٌ، وَفُصِلَ بَيْنَ عَسَى وَخَبَرِهَا بِالشَّرْطِ لِلدَّلَالَةِ على الاعتناء به. قال الزجاج: أن لا تُقَاتِلُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: أَيْ: هَلْ عَسَيْتُمْ مُقَاتَلَةً.
قَالَ الْأَخْفَشُ: «أَنْ» فِي قَوْلِهِ: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ زَائِدَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ:
وَمَا مَنَعَنَا؟ كَمَا تقول: الك أَلَّا تُصَلِّيَ؟ وَقِيلَ: الْمَعْنَى، وَأَيُّ شَيْءٍ لَنَا فِي أَنْ لَا نُقَاتِلَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَجْوَدُهَا. وَقَوْلُهُ: وَقَدْ أُخْرِجْنا تَعْلِيلٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَإِفْرَادُ الْأَوْلَادِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّبْيُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ بِمَكَانٍ فَوْقَ مَكَانِ سَائِرِ الْقَرَابَةِ فَلَمَّا كُتِبَ أَيْ: فُرِضَ، أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا لِاضْطِرَابِ نِيَّاتِهِمْ وَفُتُورِ عَزَائِمِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ اكْتَفَوْا بِالْغُرْفَةِ. وَقَوْلُهُ: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شُرُوعٌ فِي تَفْصِيلِ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَبِيِّهِمْ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
وَطَالُوتُ: اسْمٌ أعجمي، وكان سقاء وَقِيلَ: مُكَارِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ، وَهُمْ بَنُو لَاوِي، وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمُلْكِ، وَهُمْ بَنُو يَهُوذَا، فَلِذَلِكَ: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أَيْ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ حَتَّى نَتَّبِعَهُ لِشَرَفِهِ أَوْ لِمَالِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ، أَعْنِي قَوْلَهُ:
وَنَحْنُ أَحَقُّ حَالِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ أي: اختاره اللَّهِ هُوَ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَجْهَ الِاصْطِفَاءِ: بِأَنَّ اللَّهَ زَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ، الَّذِي هُوَ مَلَاكُ الْإِنْسَانِ، وَرَأْسُ الْفَضَائِلِ، وَأَعْظَمُ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْجِسْمِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْأَثَرُ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا، فَكَانَ قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَبَدَنِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ، لَا شَرَفُ النَّسَبِ. فَإِنَّ فَضَائِلَ النَّفْسِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ فَالْمُلْكُ مُلْكُهُ، وَالْعَبِيدُ عَبِيدُهُ، فَمَا لَكُمْ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى شَيْءٍ لَيْسَ هُوَ لَكُمْ وَلَا أَمْرُهُ إِلَيْكُمْ؟ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَوْلُهُ: واسِعٌ أَيْ: وَاسِعُ الْفَضْلِ، يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُلْكَ، وَيَصْلُحُ لَهُ. وَالتَّابُوتُ: فَعَلُوتٌ مِنَ التَّوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، أَيْ: عَلَامَةُ مُلْكِهِ إِتْيَانُ التَّابُوتِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ، أَيْ: رُجُوعُهُ إِلَيْكُمْ وَهُوَ صُنْدُوقُ التَّوْرَاةِ. وَالسَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، أَيْ: فِيهِ سَبَبُ سُكُونِ قُلُوبِكُمْ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّحِيحُ أَنَّ التَّابُوتَ كَانَتْ فِيهِ أَشْيَاءُ فَاضِلَةٌ مِنْ بَقَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَآثَارِهِمْ، فَكَانَتِ النُّفُوسُ(1/303)
تَسْكُنُ إِلَى ذَلِكَ وَتَأْنَسُ بِهِ وَتَتَقَوَّى. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّكِينَةِ عَلَى أَقْوَالٍ سَيَأْتِي بَيَانُ بَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي الْبَقِيَّةِ. فَقِيلَ: هِيَ عَصَا مُوسَى وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قيل: المراد بِآلِ مُوسَى وَهَارُونَ:
هُمَا أَنْفُسُهُمَا، أَيْ: مِمَّا تَرَكَ هَارُونُ وَمُوسَى، وَلَفْظُ آلِ: مُقْحَمَةٌ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِمَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ: الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي يَعْقُوبَ، لِأَنَّهُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، فَسَائِرُ قَرَابَتِهِ وَمَنْ تَنَاسَلَ مِنْهُ آلٌ لَهُمَا. وَفَصَلَ: مَعْنَاهُ: خَرَجَ بِهِمْ، فَصَلْتُ الشَّيْءَ فَانْفَصَلَ، أَيْ: قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ، وَأَصْلُهُ مُتَعَدٍّ، يُقَالُ فَصَلَ نَفْسَهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ اللَّازِمِ كَانْفَصَلَ وَقِيلَ: إِنَّ فَصَلَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمَتَعَدِّيًا، يُقَالُ: فَصَلَ عَنِ الْبَلَدِ فُصُولًا، وَفَصَلَ نَفْسَهُ فَصَلًا. وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ. وَالنَّهَرُ: قِيلَ هُوَ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِنَهَرٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ، وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ بِسُكُونِ الْهَاءِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ طَاعَتِهِمْ، فَمَنْ أَطَاعَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ أَطَاعَ فِيمَا عَدَاهُ، وَمَنْ عَصَى فِي هَذَا وَغَلَبَتْهُ نَفْسُهُ فَهُوَ بِالْعِصْيَانِ فِي سَائِرِ الشَّدَائِدِ أَحْرَى، وَرَخَّصَ لَهُمْ في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال، وفيه أن الغرفة تكف سورة الْعَطَشِ عِنْدَ الصَّابِرِينَ عَلَى شَظَفِ الْعَيْشِ، الدَّافِعِينَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الرَّفَاهِيَةِ. فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ أَيْ: كَرِعَ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْغُرْفَةِ، «ومن» ابْتِدَائِيَّةٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ: لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ، كَأَنَّهُ بَعْضُهُ لِاخْتِلَاطِهِمَا وَطُولِ صُحْبَتِهِمَا، وَهَذَا مَهِيعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يُقَالُ: طَعِمْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: ذُقْتُهُ، وَأَطْعَمْتُهُ الْمَاءَ، أَيْ: أَذَقْتَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يُقَالُ لَهُ: طَعَامٌ، وَالِاغْتِرَافُ: الْأَخْذُ مِنَ الشَّيْءِ بِالْيَدِ أَوْ بِآلَةٍ، وَالْغَرَفُ: مِثْلُ الِاغْتِرَافِ، وَالْغُرْفَةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَقَدْ قُرِئَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا، فَالْفَتْحُ لِلْمَرَّةِ، وَالضَّمُّ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُغْتَرَفِ وَقِيلَ:
بِالْفَتْحِ: الْغُرْفَةُ بِالْكَفِّ الْوَاحِدَةِ، وَبِالضَّمِّ: الْغُرْفَةُ بِالْكَفَّيْنِ وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا يَدْلِفُونَ إِلَى مَاءٍ بِآنِيَةٍ ... إِلَّا اغْتِرَافًا مِنَ الْغُدْرَانِ بِالرَّاحِ
قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا سَيَأْتِي بَيَانُ عَدَدِهِمْ، وَقُرِئَ: إِلَّا قَلِيلٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ هَجْرِ اللَّفْظِ إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى، أَيْ: لم يطعه إِلَّا قَلِيلٌ، وَهُوَ تَعَسُّفٌ. قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاوَزَهُ أَيْ: جَاوَزَ النَّهْرَ طَالُوتُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَهُمُ الْقَلِيلُ الَّذِينَ أَطَاعُوهُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي قوّة اليقين، فبعضهم قال قوله:
لا طاقَةَ لَنَا وقالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي: يتيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ. وَالْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُمْ، مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، أَيْ: قَطَعْتُهُ، وَقَوْلُهُ: بَرَزُوا أَيْ: صَارُوا فِي الْبَرَازِ، وَهُوَ الْمُتَّسِعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَجَالُوتُ: أَمِيرُ الْعَمَالِقَةِ. قَالُوا: أَيْ: جَمِيعُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِفْرَاغُ: يُفِيدُ مَعْنَى الْكَثْرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا هَذَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَعَدَمِ الْفَشَلِ، يُقَالُ: ثَبَتَ قَدَمُ فُلَانٍ عَلَى كذا(1/304)
إِذَا اسْتَقَرَّ لَهُ وَلَمْ يَزَلْ عَنْهُ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ فِي الْحَرْبِ: إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَهُ وَالنَّصْرُ مَعَهُ قَوْلُهُ: وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ هُمْ جَالُوتُ وَجُنُودُهُ. وَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمِرِ إِظْهَارًا لِمَا هُوَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ كُفْرُهُمْ، وَذَكَرَ النَّصْرَ بَعْدَ سُؤَالِ تَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ: لِكَوْنِ الثَّانِي هُوَ غَايَةُ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ الهزم: الكسر، وَمِنْهُ سِقَاءٌ مُنْهَزِمٌ، أَيِ: انْثَنَى بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مَعَ الْجَفَافِ وَمِنْهُ مَا قِيلَ فِي زَمْزَمَ: إِنَّهَا هِزْمَةُ جِبْرِيلَ، أَيْ: هَزَمَهَا بِرِجْلِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ، وَالْهِزْمُ: مَا يُكْسَرُ مِنْ يَابِسِ الْحَطَبِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: بِأَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ. قَوْلُهُ: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ هُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ ثُمَّ تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ ويقال: داود بن زكريا ابن بِشُوِي، مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاعِيًا، وَكَانَ أَصْغَرَ إِخْوَتِهِ، اخْتَارَهُ طَالُوتُ لِمُقَاتَلَةِ جَالُوتَ فَقَتَلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ هُنَا: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ تَعْلِيمُهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَمَنْطِقَ الطَّيْرِ وَقِيلَ: هِيَ إِعْطَاؤُهُ السِّلْسِلَةَ الَّتِي كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا. قَوْلُهُ: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قِيلَ: إِنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَاضِي، وَفَاعِلُ هَذَا الْفِعْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَقِيلَ: دَاوُدُ، وَظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّمَهُ مِمَّا قَضَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَمَا بَعْدَهُ. قَوْلُهُ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قَرَأَهُ الْجَمَاعَةُ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ وَقَرَأَ نَافِعٌ: دِفَاعُ وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِدَفَعَ، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: دَافِعٌ وَدَفْعٌ وَاحِدٌ مِثْلُ:
طَرَقْتُ نَعْلِي وَطَارَقْتُهُ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ وَأَنْكَرَ قِرَاءَةَ دِفَاعُ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُغَالِبُهُ أَحَدٌ، قَالَ مَكِّيٌّ: يُوهِمُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ وَلَيْسَ بِهِ، وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ: أي: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ وبعضهم: بَدَلٌ مِنْ النَّاسَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ أَسْبَابَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ بِبَعْضٍ آخَرَ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يَكُفُّونَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَيَرُدُّونَهُمْ عَنْهُ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لِتَغَلُّبِ أَهْلِ الْفَسَادِ عَلَيْهَا وَإِحْدَاثِهِمْ لِلشُّرُورِ الَّتِي تُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَتَنْكِيرُ فَضْلٍ لِلتَّعْظِيمِ. وَآيَاتُ اللَّهِ: هِيَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا: الْخَبَرُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُطَّلِعِينَ عَلَى أَخْبَارِ الْعَالَمِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ رُسُلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، تَقْوِيَةً لِقَلْبِهِ، وتثبيتا لجنانه، وتشييدا لِأَمْرِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ:
هَذَا حِينَ رُفِعَتِ النُّبُوَّةُ وَاسْتُخْرِجَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَكَانَتِ الْجَبَابِرَةُ قَدْ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ وَذَلِكَ حِينَ أَتَاهُمُ التَّابُوتُ، قَالَ: وَكَانَ مِنْ إِسْرَائِيلَ سِبْطَانِ: سِبْطُ نُبُوَّةٍ، وَسِبْطُ خِلَافَةٍ، فَلَا تَكُونُ الْخِلَافَةُ إِلَّا فِي سِبْطِ الْخِلَافَةِ، وَلَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ إِلَّا فِي سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً، قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنْ أَحَدِ السِّبْطَيْنِ لَا مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ سِبْطِ الْخِلَافَةِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُسَلِّمُوا لَهُ الرِّيَاسَةَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ وَكَانَ مُوسَى حِينَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ(1/305)
تَكَسَّرَتْ وَرُفِعَ مِنْهَا وَجُمِعَ مَا بَقِيَ فَجَعَلَهُ فِي التَّابُوتِ، وَكَانَتِ الْعَمَالِقَةُ قَدْ سَبَتْ ذَلِكَ التَّابُوتَ، وَالْعَمَالِقَةُ:
فِرْقَةٌ مِنْ عَادٍ كَانُوا بِأَرْيِحَاءَ، فَجَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: نَعَمْ، فَسَلَّمُوا لَهُ وَمَلَّكُوهُ، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا حَضَرُوا قِتَالًا قَدَّمُوا التَّابُوتَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَيَقُولُونَ: إِنَّ آدَمَ نَزَلَ بِذَلِكَ التَّابُوتِ: وَبِالرُّكْنِ، وَبِعَصَا مُوسَى مِنَ الْجَنَّةِ. وَبَلَغَنِي:
أَنَّ التَّابُوتَ وَعَصَا مُوسَى فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، وَأَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ فَلَا يَأْتِي التَّطْوِيلُ بِذِكْرِ ذَلِكَ بِفَائِدَةٍ يُعْتَدُّ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَزادَهُ بَسْطَةً يَقُولُ: فَضِيلَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ يَقُولُ: كَانَ عَظِيمًا جَسِيمًا يَفْضُلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعُنُقِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْحَرْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ أَنَبِيًّا كَانَ طَالُوتُ؟ قَالَ: لَا، لَمْ يَأْتِهِ وَحْيٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَابُوتِ مُوسَى مَا سِعَتُهُ؟ قَالَ: نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّكِينَةُ: الرَّحْمَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قال: السكينة: الطمأنينة. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: السَّكِينَةُ دَابَّةٌ قَدْرُ الْهِرِّ لَهَا عَيْنَانِ لَهُمَا شُعَاعٌ، وَكَانَ إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَخْرَجَتْ يَدَيْهَا وَنَظَرَتْ إِلَيْهِمْ فَيُهْزَمُ الْجَيْشُ مِنَ الرُّعْبِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: السَّكِينَةُ: رِيحٌ خَجُوجٌ وَلَهَا رَأْسَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: السَّكِينَةُ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ هِيَ بَعْدُ رِيحٌ هَفَّافَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السَّكِينَةُ مِنَ اللَّهِ كَهَيْئَةِ الرِّيحِ، لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْهِرِّ، وَجَنَاحَانِ، وَذَنَبٌ مِثْلُ ذَنَبِ الهرّ. وأخرج سعيد ابن منصور، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ: طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ يُغْسَلُ بِهَا قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قال: هي روح من الله يتكلم، إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ تَكَلَّمَ فَأَخْبَرَهُمْ بِبَيَانِ مَا يُرِيدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هِيَ شَيْءٌ تَسْكُنُ إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِيهِ سَكِينَةٌ، أَيْ: وَقَارٌ.
وَأَقُولُ: هَذِهِ التَّفَاسِيرُ الْمُتَنَاقِضَةُ لَعَلَّهَا وَصَلَتْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَعْلَامِ مِنْ جِهَةِ اليهود أقمأهم الله، فجاؤوا بِهَذِهِ الْأُمُورِ لِقَصْدِ التَّلَاعُبِ بِالْمُسْلِمِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّشْكِيكِ عَلَيْهِمْ، وَانْظُرْ إِلَى جَعْلِهِمْ لَهَا تَارَةً حَيَوَانًا وَتَارَةً جَمَادًا وَتَارَةً شَيْئًا لَا يُعْقَلُ، كَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: كَهَيْئَةِ الرِّيحِ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْهِرِّ، وَجَنَاحَانِ وَذَنَبٌ مِثْلُ ذَنَبِ الْهِرِّ.
وَهَكَذَا كُلُّ مَنْقُولٍ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَنَاقَضُ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا يُعْقَلُ فِي الْغَالِبِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ الْمُتَنَاقِضَةِ مَرْوِيًّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَأْيًا رَآهُ قَائِلُهُ، فَهُمْ أَجَّلُ قَدْرًا مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ وَبِمَا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ. إِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْوَاجِبَ الرُّجُوعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى السَّكِينَةِ لُغَةً وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى رُكُوبِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُتَعَسِّفَةِ الْمُتَنَاقِضَةِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَنْهَا سَعَةً، وَلَوْ ثَبَتَ لَنَا فِي السَّكِينَةِ تَفْسِيرٌ عَنِ النَّبِيِّ(1/306)
صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ بَلْ ثبت أنها تنزلت على بَعْضِ الصَّحَابَةِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا: فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ» . وَلَيْسَ فِي هَذَا إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الَّتِي سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم سكينة سَحَابَةٌ دَارَتْ عَلَى ذَلِكَ الْقَارِئِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى قَالَ: عَصَاهُ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كَانَ فِي التَّابُوتِ عَصَا مُوسَى، وَعَصَا هَارُونَ، وَثِيَابُ مُوسَى، وَثِيَابُ هَارُونَ، وَلَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْمَنُّ، وَكَلِمَةُ الْفَرَجِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الكريم وسبحان الله ربّ السموات السَّبْعِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ قَالَ: أَقْبَلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ تَحْمِلُهُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي بَيْتِ طَالُوتَ فَأَصْبَحَ فِي دَارِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً قَالَ: عَلَامَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ يَقُولُ: بِالْعَطَشِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّهْرِ- وهو نهر الأردن- كرع فيها عَامَّةُ النَّاسِ فَشَرِبُوا مِنْهُ، فَلَمْ يَزِدْ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ إِلَّا عَطَشًا، وَأَجْزَأَ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ وَانْقَطَعَ الظَّمَأُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ قَالَ: الْقَلِيلُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةُ عَشَرَ، عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، بِضْعَةُ عَشَرَ وَثَلَاثُمِائَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: «أَنْتُمْ بِعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ يَوْمَ لَقِيَ جَالُوتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَشَرِبُوا مِنْهُ كُلُّهُمْ إِلَّا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا عِدَّةُ أَصْحَابِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فردّهم طالوت ومضى في ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ قَالَ: الَّذِينَ يَسْتَيْقِنُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ طَالُوتُ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ، فَبَعَثَ أَبُو دَاوُدَ مَعَ دَاوُدَ بِشَيْءٍ إِلَى إِخْوَتِهِ، فَقَالَ داود لطالوت: ماذا لي وأقتل جالوت؟ فقال: لك ثلث ملكي وأنكحت ابْنَتِي، فَأَخَذَ مِخْلَاةً فَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَوَاتٍ، ثُمَّ سَمَّى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ إِلَهِي وَإِلَهِ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَخَرَجَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلَهُ في مرجمته، فَرَمَى بِهَا جَالُوتَ فَخَرَقَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ بَيْضَةً عَنْ رَأْسِهِ وَقَتَلَتْ مَا وَرَاءَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَقَاصِيصَ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قَالَ: يَدْفَعُ اللَّهُ بِمَنْ يُصَلِّي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي، وَبِمَنْ يَحُجُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ، وَبِمَنْ يُزَكِّي عَمَّنْ لَا يُزَكِّي. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ(1/307)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
عَنْ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلَاءَ» ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الآية، وفي إسناده يحيى ابن سعيد العطار الحمصي وهو ضعيف جدا.
[سورة البقرة (2) : آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
قَوْلُهُ: تِلْكَ الرُّسُلُ قِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ، فَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَقِيلَ:
هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَقِيلَ: إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بَلَغَ عِلْمُهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ مَزَايَا الْكَمَالِ فَوْقَ مَا جَعَلَهُ لِلْآخَرِ، فَكَانَ الْأَكْثَرُ مَزَايَا فَاضِلًا وَالْآخَرُ مَفْضُولًا. وَكَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى: أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، كَذَلِكَ دَلَّتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «1» وَقَدِ اسْتَشْكَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:
«لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ» وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» وَفِي لَفْظِ: «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذَا القول منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بِالتَّفْضِيلِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَاسِخٌ لِلْمَنْعِ مِنَ التَّفْضِيلِ وَقِيلَ: إنه قال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ كَمَا قَالَ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بن متّى» تواضعا، معه عِلْمِهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْجِدَالِ وَالْخِصَامِ فِي الأنبياء، فيكون مخصوصا بمثل ذلك، إلا إِذَا كَانَ صُدُورُ ذَلِكَ مَأْمُونًا وَقِيلَ: إِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ فَقَطْ، لِأَنَّهَا خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَفَاضُلَ فِيهَا، وَلَا نَهْيَ عَنِ التَّفَاضُلِ بِزِيَادَةِ الْخُصُوصِيَّاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ: النَّهْيُ عَنِ التَّفْضِيلِ لِمُجَرَّدِ الْأَهْوَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ. وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ ضَعْفٌ.
وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُفَضِّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ الْمَزَايَا الَّتِي هِيَ مَنَاطُ التَّفْضِيلِ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْبَشَرِ، فَقَدْ يَجْهَلُ أَتْبَاعُ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْضَ مَزَايَاهُ وَخُصُوصِيَّاتِهِ فَضْلًا عَنْ مَزَايَا غَيْرِهِ، وَالتَّفْضِيلُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا هَذَا فَاضِلًا وَهَذَا مَفْضُولًا، لَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِبَعْضِهَا أَوْ بِأَكْثَرِهَا أَوْ بِأَقَلِّهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ تَفْضِيلٌ بِالْجَهْلِ، وَإِقْدَامٌ عَلَى أَمْرٍ لَا يَعْلَمُهُ الْفَاعِلُ لَهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إِلَّا الْقُرْآنُ فِي الْإِخْبَارِ لَنَا بِأَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْبَشَرِ أَنْ يُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ؟ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَالْقُرْآنُ فِيهِ الْإِخْبَارُ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَالسُّنَّةُ فِيهَا النَّهْيُ لِعِبَادِهِ أَنْ يُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، فَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْجَمْعِ بينهما زاعما أنهما
__________
(1) . الإسراء: 55.(1/308)
مُتَعَارِضَانِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا. قَوْلُهُ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَهُوَ مُوسَى، وَنَبِيُّنَا سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي آدَمَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ» . وَقَدْ ثَبَتَ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. قَوْلُهُ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هَذَا الْبَعْضُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ عَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ به نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِكَثْرَةِ مَزَايَاهُ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَفْضِيلِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِدْرِيسُ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ رَفَعَهُ مَكَانًا عَلِيًّا وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أُولُو الْعَزْمِ وَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبْهَمَ هَذَا الْبَعْضَ الْمَرْفُوعَ، فَلَا يَجُوزُ لَنَا التَّعَرُّضُ لِلْبَيَانِ لَهُ إِلَّا بِبُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ مِنْ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمْ يَرِدْ مَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ، فَالتَّعَرُّضُ لِبَيَانِهِ هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَحْضِ الرَّأْيِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْهُ وَقَدْ جَزَمَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ نَبِيُّنَا صلّى الله عليه وسلم، وأطالوا في ذلك، واستدلوا لما خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَمَزَايَا الْكَمَالِ، وَخِصَالِ الْفَضْلِ، وَهُمْ- بِهَذَا الْجَزْمِ بِدَلِيلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ- قَدْ وَقَعُوا فِي خَطَرَيْنِ، وَارْتَكَبُوا نَهْيَيْنِ، وَهُمَا: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ، وَالدُّخُولُ فِي ذَرَائِعِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَفْضِيلًا صَرِيحًا فَهُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ بِلَا شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ،، لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْبَعْضَ الْمَرْفُوعَ دَرَجَاتٍ هُوَ النَّبِيُّ الْفُلَانِيُّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّفْضِيلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ نَبِيَّنَا الْمُصْطَفَى صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تتقرّب إليه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالدُّخُولِ فِي أَبْوَابٍ نَهَاكَ عَنْ دُخُولِهَا فَتَعْصِيَهُ، وَتُسِيءَ، وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ مُطِيعٌ مُحْسِنٌ. قَوْلُهُ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أَيِ: الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ مِنْ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَإِبْرَاءِ الْمَرْضَى وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا. قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ: مِنْ بَعْدِ الرُّسُلِ وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الثَّانِي مَذْكُورٌ صَرِيحًا، وَالْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ اقْتِتَالِهِمْ مَا اقْتَتَلُوا، فَمَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، أَيْ: وَلَكِنَّ الِاقْتِتَالَ نَاشِئٌ عَنِ اخْتِلَافِهِمُ اخْتِلَافًا عَظِيمًا، حَتَّى صَارُوا مللا مختلفة فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ عَدَمَ اقْتِتَالِهِمْ بَعْدَ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ، وَلَا مُبَدِّلَ لِقَضَائِهِ، فَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ قَالَ: اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَجَعَلَ عِيسَى كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ، وَآتَى دَاوُدَ زَبُورًا، وَآتَى سُلَيْمَانَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَغَفَرَ لِمُحَمَّدٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ قَالَ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، وَأَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قَالَ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مُوسَى وَعِيسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ(1/309)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَمُعَاوِيَةُ، إِذْ أَقْبَلَ عَلِيٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاوِيَةَ: «أَتُحِبُّ عَلِيًّا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ بَيْنَكُمْ فِتْنَةٌ هُنَيْهَةٌ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَا بَعْدُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَفْوُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ، قَالَ: رَضِينَا بِقَضَاءِ اللَّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ» قال السيوطي: وسنده واه.
[سورة البقرة (2) : آية 254]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
ظَاهِرُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا الْوُجُوبُ، وَقَدْ حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفَرْضِ لِذَلِكَ وَلِمَا فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَجْمَعُ زَكَاةَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي ذِكْرِ الْقِتَالِ وَأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي صُدُورِ الْكَافِرِينَ يَتَرَجَّحُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّدْبَ إِنَّمَا هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ إِنْفَاقُ الْمَالِ مَرَّةً وَاجِبًا، وَمَرَّةً نَدْبًا، بِحَسَبِ تَعَيُّنِ الْجِهَادِ وَعَدَمِ تَعَيُّنِهِ. قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ أَيْ: أَنْفِقُوا مَا دُمْتُمْ قَادِرِينَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ مَا لَا يُمْكِنُكُمُ الْإِنْفَاقُ فِيهِ وَهُوَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ أَيْ: لَا يَتَبَايَعُ النَّاسُ فِيهِ. وَالْخُلَّةُ: خَالِصُ الْمَوَدَّةِ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَخَلُّلِ الْأَسْرَارِ بَيْنَ الصَّدِيقَيْنِ. أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا خُلَّةَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ نَافِعَةٌ وَلَا شَفَاعَةَ مُؤَثِّرَةٌ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِنَصْبِ لَا بَيْعَ وَلَا خَلَّةَ وَلَا شَفَاعَةَ، مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا مُنَوَّنَةً، وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ لِلْعَرَبِ، وَوَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ النُّحَاةِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ حَسَّانَ:
أَلَا طِعَانٌ ولا فرسان عادية ... إلا تجشّؤكم حَوْلَ التَّنَانِيرِ «1»
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ الرَّاعِي:
وَمَا صَرَمْتُكِ حَتَّى قُلْتِ مُعْلِنَةً ... لَا نَاقَةٌ لِيَ فِي هَذَا وَلَا جَمَلُ
وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ: التَّغَايُرُ بِرَفْعِ الْبَعْضِ، وَنَصْبِ الْبَعْضِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ. قَوْلُهُ:
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ مَانِعُ الزَّكَاةِ مَنْعًا يُوجِبُ كُفْرَهُ، لِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابن جريج في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ قَالَ: مِنَ الزَّكَاةِ وَالتَّطَوُّعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: يُقَالُ نَسَخَتِ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَنَسَخَ شَهْرُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ نَاسًا يَتَخَالَلُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَشْفَعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَأَمَّا يَوْمُ القيامة فلا خلة إلا
__________
(1) . ورد في ديوان حسان: (ألا طعان ألا فرسان عادية) .(1/310)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
خُلَّةُ الْمُتَّقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَلَمْ يَقُلْ وَالظَّالِمُونَ هم الكافرون.
[سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا هُوَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَالْحَيُّ: الْبَاقِي وَقِيلَ:
الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يُحَوَّلُ وَقِيلَ: الْمُصَرِّفُ لِلْأُمُورِ، وَالْمُقَدِّرُ لِلْأَشْيَاءِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ: إِنَّهُ يُقَالُ: حَيٌّ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ أَوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. وَالْقَيُّومُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، وَقِيلَ: الْقَائِمُ بِذَاتِهِ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ وَقِيلَ: الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ وَحِفْظِهِ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَنَامُ وَقِيلَ: الَّذِي لَا بَدِيلَ لَهُ. وَأَصْلُ قَيُّومٍ: قَيْوُومٌ اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَأُدْغِمَتِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ قَلْبِ الْوَاوِ يَاءً. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ: «الْحَيُّ الْقَيَّامُ» بِالْأَلِفِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ: الْقَيُّومَ، أَعْرَفُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَأَصَحُّ بِنَاءً، وَأَثْبَتُ عِلَّةً. وَالسِّنَةُ: النُّعَاسُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالنُّعَاسُ: مَا يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ مِنَ الْفُتُورِ وَانْطِبَاقِ الْعَيْنَيْنِ، فَإِذَا صار في القلب صار نوما. وفرّق المفضل بَيْنَ السِّنَةِ وَالنُّعَاسِ وَالنَّوْمِ فَقَالَ: السِّنَةُ مِنَ الرَّأْسِ، وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ أَنَّ السِّنَةَ لَا يُفْقَدُ مَعَهَا الْعَقْلُ، بِخِلَافِ النَّوْمِ فَإِنَّهُ اسْتِرْخَاءُ أَعْضَاءِ الدِّمَاغِ مِنْ رُطُوبَاتِ الْأَبْخِرَةِ حَتَّى يُفْقَدَ مَعَهُ الْعَقْلُ، بَلْ وَجَمِيعُ الْإِدْرَاكَاتِ بِسَائِرِ الْمَشَاعِرِ وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَا يَعْتَرِيهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا، وَقَدَّمَ السِّنَةَ عَلَى النَّوْمِ، لِكَوْنِهَا تَتَقَدَّمُهُ فِي الْوُجُودِ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنِ السِّنَةَ مَا تَتَقَدَّمُ النَّوْمَ، فَإِذَا كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ مُقَدِّمَةِ النَّوْمِ، فَإِذَا قِيلَ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ دُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ نَوْمٌ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى، فَكَانَ ذِكْرُ النَّوْمِ تَكْرَارًا، قُلْنَا: تَقْدِيرُ الْآيَةِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْخُذَهُ نَوْمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، فَإِنَّ النَّوْمَ قَدْ يَرِدُ ابْتِدَاءً مِنْ دُونِ مَا ذُكِرَ مِنَ النُّعَاسِ. وَإِذَا وَرَدَ عَلَى الْقَلْبِ وَالْعَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ:
نَوْمٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: سِنَةٌ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيُ السِّنَةِ نَفْيَ النَّوْمِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ الْعَرَبِ نَفْيُهُمَا جَمِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَلَا سِنَةٌ طَوَالَ الدَّهْرِ تَأْخُذُهُ ... وَلَا يَنَامُ وَمَا فِي أَمْرِهِ فَنَدُ
فَلَمْ يَكْتَفِ بِنَفْيِ السِّنَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ السِّنَةَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ النَّوْمَ، فَقَدْ يَأْخُذُهُ النَّوْمُ وَلَا تَأْخُذُهُ السِّنَةُ فَلَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ فِي النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ عَلَى نَفْيِ السِّنَةِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ نَفْيَ النَّوْمِ، وَهَكَذَا لَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى نَفْيِ النَّوْمِ لَمْ يُفِدْ نَفْيَ السِّنَةِ، فَكَمْ مِنْ ذِي سِنَةٍ غَيْرُ نَائِمٍ وَكَرَّرَ حَرْفَ النَّفْيِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى شُمُولِ النَّفْيِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْفَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِشَفَاعَةٍ(1/311)
أَوْ غَيْرِهَا، وَالتَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ لَهُ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مِنَ الدَّفْعِ فِي صُدُورِ عُبَّادِ الْقُبُورِ، وَالصَّدِّ فِي وُجُوهِهِمْ، وَالْفَتِّ فِي أَعَضَادِهِمْ، مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُبْلَغُ مَدَاهُ، وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْهُ فَوْقَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى «2» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «3» بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَقَدْ بَيَّنَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ صِفَةَ الشَّفَاعَةِ، وَلِمَنْ هِيَ؟ وَمَنْ يَقُومُ بِهَا؟.
قَوْلُهُ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الضميران لما في السموات وَالْأَرْضِ بِتَغْلِيبِ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ: عِبَارَةٌ عَنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِمْ وَالْمُتَأَخِّرِ عَنْهُمْ، أَوْ عَنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا فِيهِمَا. قَوْلُهُ:
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِحَاطَةِ، وَالْعِلْمُ هُنَا: بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ، أَيْ: لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ. قَوْلُهُ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الْكُرْسِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْجِسْمُ الَّذِي وَرَدَتِ الْآثَارُ بِصِفَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَقَدْ نَفَى وُجُودَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ خَطَأً بَيِّنًا، وَغَلِطُوا غَلَطًا فَاحِشًا.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ الْكُرْسِيَّ هُنَا: عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ. قَالُوا: وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعُلَمَاءِ: الْكَرَاسِيُّ، وَمِنْهُ: الْكُرَّاسَةُ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، ومنه قول الشاعر:
يحفّ بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسيّ بالأحداث حِينَ تَنُوبُ
وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَقِيلَ: كُرْسِيُّهُ: قُدْرَتُهُ الَّتِي يُمْسِكُ بِهَا السموات وَالْأَرْضَ، كَمَا يُقَالُ: اجْعَلْ لِهَذَا الْحَائِطِ كُرْسِيًّا، أَيْ: مَا يَعْمِدُهُ وَقِيلَ: إِنَّ الْكُرْسِيَّ هُوَ الْعَرْشُ، وَقِيلَ: هُوَ تَصْوِيرٌ لِعَظَمَتِهِ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُلْكِ. وَالْحَقُّ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إِلَّا مُجَرَّدُ خَيَالَاتٍ تَسَبَّبَتْ عَنْ جَهَالَاتٍ وضلالات، والمراد بكونه وسع السموات وَالْأَرْضَ أَنَّهَا صَارَتْ فِيهِ، وَأَنَّهُ وَسِعَهَا، وَلَمْ يَضِقْ عَنْهَا لِكَوْنِهِ بَسِيطًا وَاسِعًا. وَقَوْلُهُ: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما معناه: لا يثقله، يقال:
أَدْنَى الشَّيْءِ، بِمَعْنَى: أَثْقَلَنِي وَتَحَمَّلْتُ مِنْهُ مَشَقَّةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قوله: يَؤُدُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْكُرْسِيِّ لِأَنَّهُ من أمر الله والْعَلِيُّ يُرَادُ بِهِ: عُلُوُّ الْقُدْرَةِ وَالْمَنْزِلَةِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ الْعَلِيُّ عَنْ خَلْقِهِ بِارْتِفَاعِ مَكَانِهِ عَنْ أَمَاكِنِ خَلْقِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ أَقْوَالُ جَهَلَةٍ مُجَسِّمِينَ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا تُحْكَى. انْتَهَى. وَالْخِلَافُ فِي إِثْبَاتِ الْجِهَةِ مَعْرُوفٌ فِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالنِّزَاعُ فِيهِ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ، وَالْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعْرُوفَةٌ، وَلَكِنَّ النَّاشِئَ عَلَى مَذْهَبٍ يَرَى غَيْرَهُ خَارِجًا عَنِ الشَّرْعِ وَلَا يَنْظُرُ فِي أَدِلَّتِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُمَا الْمِعْيَارُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيَتَبَيَّنُ بِهِ الصَّحِيحُ مِنَ الْفَاسِدِ: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ «4» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الظَّاهِرِ الْغَالِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «5» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ
وَالْعَظِيمُ: بِمَعْنَى: عَظُمَ شَأْنُهُ وَخَطَرُهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى: بيان لقيامه بتدبير الخلق
__________
(1) . الأنبياء: 28.
(2) . النجم: 26.
(3) . النبأ: 28.
(4) . المؤمنون: 71.
(5) . القصص: 4.(1/312)
وَكَوْنِهِ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ غَيْرَ سَاهٍ عَنْهُ. وَالثَّانِيَةُ: بَيَانٌ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَا يُدَبِّرُهُ. وَالْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: بَيَانٌ لِكِبْرِيَاءِ شَأْنِهِ.
وَالْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ: بَيَانٌ لِإِحَاطَتِهِ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ وَعِلْمِهِ بِالْمُرْتَضَى مِنْهُمُ الْمُسْتَوْجِبِ لِلشَّفَاعَةِ وَغَيْرِ الْمُرْتَضَى. وَالْجُمْلَةُ الْخَامِسَةُ: بَيَانٌ لِسَعَةِ عِلْمِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا، أَوْ لِجَلَالِهِ وَعِظَمِ قَدْرِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: الْحَيُّ أَيْ: حَيٌّ لَا يَمُوتُ والْقَيُّومُ الْقَائِمُ الَّذِي لَا بَدِيلَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: الْقَيُّومُ قَالَ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْقَيُّومُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ قَالَ: السِّنَةُ:
النُّعَاسُ، وَالنَّوْمُ: هُوَ النَّوْمُ. وَأَخْرَجُوا إِلَّا الْبَيْهَقِيَّ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: السِّنَةُ: رِيحُ النَّوْمِ الَّذِي تَأْخُذُهُ فِي الْوَجْهِ فَيَنْعَسُ الْإِنْسَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَالَ: مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا وَما خَلْفَهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: مَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَما خَلْفَهُمْ: مَا أَضَاعُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ قَالَ: عِلْمُهُ، ألا ترى إلى قوله: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الصِّفَاتِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ قَالَ: كُرْسِيُّهُ مَوْضِعُ قَدَمِهِ، وَالْعَرْشُ لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ السموات السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ بُسِطْنَ ثُمَّ وُصِلْنَ بِعْضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ مَا كُنَّ فِي سَعَتِهِ: يَعْنِي: الْكُرْسِيِّ، إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقَةِ فِي الْمَفَازَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُرْسِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده ما السّموات السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلْقَةِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: «أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَعَظَّمَ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَقَالَ: إِنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السموات وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ «1» الرَّحْلِ الْجَدِيدِ مِنْ ثِقَلِهِ» وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَلِيفَةَ، وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ. وَفِي سَمَاعِهِ مِنْ عُمَرَ نَظَرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ. وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ الْفَزَارِيُّ الْكُوفِيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي وَصْفِ الْكُرْسِيِّ آثَارٌ لَا حَاجَةَ فِي بَسْطِهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ حَدِيثًا فِي صِفَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَوْرَدَ ابْنُ مردويه عن
__________
(1) . الأطيط: صوت الأقتاب التي توضع على ظهر البعير. [.....](1/313)
بُرَيْدَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما قَالَ: لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أبي حاتم عنه: وَلا يَؤُدُهُ قَالَ: وَلَا يُكْثِرُهُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الآية أحاديث. وأخرج أحمد، ومسلم واللفظ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سَأَلَهُ: أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ، قَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ» .
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ جُرْنٌ فِيهِ تَمْرٌ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُهُ، فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ، فَحَرَسَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ شِبْهِ الْغُلَامِ الْمُحْتَلِمِ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ فَرَدَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ، جِنِّيٌ أَمْ إِنْسِيٌّ؟ قَالَ: جِنِّيٌ، قُلْتُ: نَاوِلْنِي يَدَكَ، فَنَاوَلَنِي فَإِذَا يَدُهُ يَدُ كَلْبٍ وَشَعْرُهُ شَعْرُ كَلْبٍ، فَقُلْتُ: هَكَذَا خُلِقَ الْجِنُّ؟ قَالَ: لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنُّ أَنَّ مَا فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنِّي، قُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ طَعَامِكَ، فَقَالَ لَهُ أُبَيٌّ: فَمَا الَّذِي يُجِيرُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ، آيَةُ الْكُرْسِيِّ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أُجِيرَ مِنَّا حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ أُجِيرَ مِنَّا حَتَّى يُمْسِيَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: «صَدَقَ الْخَبِيثُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ الْأَسْقَعِ الْبَكْرِيِّ «أن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ جَاءَهُمْ فِي صِفَةِ الْمُهَاجِرِينَ، فَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ أَيُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ حَتَّى انْقَضَتِ الْآيَةُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ الدارمي عن أيفع بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلَاعِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «وكلني رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو وَذَكَرَ قِصَّةً، وَفِي آخِرِهَا أَنَّهُ قَالَ لَهُ: دَعْنِي أُعْلِمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَأَخْبَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَمَّا إِنَّهُ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ:
«ذَلِكَ شَيْطَانُ كَذَا» . وَأَخْرَجَ نَحْوَ ذَلِكَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيَةٌ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ، لَا تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فِيهِ شَيْطَانٌ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ» . قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ زَائِدَةَ مَرْفُوعًا: «لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ، وسنام القرآن الْبَقَرَةِ، وَفِيهَا آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ» ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فيه شعبة(1/314)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
وَضَعَّفَهُ، وَكَذَا ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَتَرَكَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَكَذَّبَهُ السَّعْدِيُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والم اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «إِنَّ فِيهِمَا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ» .
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي فَضْلِهَا غَيْرُ هَذِهِ، وَوَرَدَ أَيْضًا فِي فَضْلِ قِرَاءَتِهَا دُبُرَ الصَّلَوَاتِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَوَرَدَ أَيْضًا فِي فَضْلِهَا مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا لَهَا أَحَادِيثُ، وَوَرَدَ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ كثير.
[سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257]
لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)
قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ لأن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَهَ الْعَرَبَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، وَالنَّاسِخُ لها: قوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «1» وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «2» وَقَالَ: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ «3» ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ، بَلِ الَّذِينَ يُكْرَهُونَ هُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْأَنْصَارِ خَاصَّةً، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ تَحْتَ السَّيْفِ: إِنَّهُ مُكْرَهٌ، فَلَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي السَّبْيِ مَتَى كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: أَيْ: لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، جَلِيٌّ دَلَائِلُهُ، وَبَرَاهِينُهُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَرَهَ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، بَلْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَحَ صَدْرَهُ وَنَوَّرَ بَصِيرَتَهُ دَخَلَ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلَبَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الدُّخُولُ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا مَقْسُورًا، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا سَادِسًا. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَيْ: لَمْ يُجْرِ اللَّهُ أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَلَكِنْ عَلَى التَّمْكِينِ وَالِاخْتِيَارِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «4» أَيْ:
لَوْ شَاءَ لَقَسَرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَبُنِيَ الْأَمْرُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا سَابِعًا.
وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ وَيَتَعَيَّنُ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ: أَنَّهَا فِي السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهُوَ:
أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاةً لَا يَكَادُ يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أجليت يهود بني النضير كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا. فَنَزَلَتْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ،
__________
(1) . التوبة: 73.
(2) . التوبة: 123.
(3) . الفتح: 16.
(4) . يونس: 99.(1/315)
وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ وُجُوهٍ، حَاصِلُهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ زِيَادَاتٍ تَتَضَمَّنُ أَنَّ الْأَنْصَارَ قَالُوا إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، أَيْ: دِينِ الْيَهُودِ، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دِينَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ دِينِنَا، وَأَنَّ اللَّهَ جَاءَ بِالْإِسْلَامِ فَلَنُكْرِهَنَّهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ خَيَّرَ الْأَبْنَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُكْرِهْهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا اخْتَارُوا الْبَقَاءَ عَلَى دِينِهِمْ وَأَدَّوُا الْجِزْيَةَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَعُمُّهُمْ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَتَعْرِيفِ الدِّينِ يُفِيدَانِ ذَلِكَ، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَكِنْ قَدْ خُصَّ هَذَا الْعُمُومُ بِمَا وَرَدَ مِنْ آيَاتٍ فِي إِكْرَاهِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَوْلُهُ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ الرُّشْدُ هُنَا: الْإِيمَانُ، وَالْغَيُّ: الكفر، أي: قد تميز أحدهما من الْآخَرِ. وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ يَتَضَمَّنُ التَّعْلِيلَ لِمَا قَبْلَهُ. وَالطَّاغُوتُ فَعَلُوتٌ مِنْ طَغَى يَطْغِي وَيَطْغُو: إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ اسْمٌ مُذَكَّرٌ مُفْرَدٌ، أَيِ: اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ، كَرَهَبُوتٍ، وَجَبَرُوتٍ، يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَقُلِبَتْ لَامُهُ إِلَى مَوْضِعِ الْعَيْنِ وَعَيْنُهُ إِلَى مَوْضِعِ اللَّامِ كَجَبَذَ وَجَذَبَ، ثُمَّ تُقْلَبُ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَتَحَرُّكِ مَا قَبْلَهَا، فَقِيلَ: طَاغُوتٌ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ وَقِيلَ: أَصْلُ الطَّاغُوتِ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الطُّغْيَانِ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِقَاقٍ، كَمَا قِيلَ: لَآلِئُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ جَمْعٌ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مَرْدُودٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ، وَالشَّيْطَانُ، وَكُلُّ رَأْسٍ فِي الضَّلَالِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ «1» وَقَدْ يَكُونُ جَمْعًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ والجمع الطواغيت، أَيْ: فَمَنْ يَكْفُرُ بِالشَّيْطَانِ أَوِ الْأَصْنَامِ أَوْ أهل الكهانة ورؤوس الضلالة، أو الجميع وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ مَا تَمَيَّزَ لَهُ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَقَدْ فَازَ وَتَمَسَّكَ بِالْحَبْلِ الْوَثِيقِ، أَيِ: الْمُحْكَمِ. وَالْوُثْقَى: فُعْلَى مَنِ الْوِثَاقَةِ، وَجَمْعُهَا وُثُقٌ مِثْلُ الْفُضْلَى وَالْفُضُلِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالدَّلِيلِ، بِمَا هُوَ مُدْرَكٌ بِالْحَاسَّةِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعُرْوَةِ: الْإِيمَانُ، وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْجَمِيعِ. وَالِانْفِصَامُ: الِانْكِسَارُ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَصَمَ الشَّيْءَ: كَسَرَهَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِينَ. وَأَمَّا الْقَصْمُ بِالْقَافِ فَهُوَ الْكَسْرُ مَعَ الْبَيْنُونَةِ، وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الِانْفِصَامَ بِالِانْقِطَاعِ. قَوْلُهُ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الْوَلِيُّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهُوَ النَّاصِرُ. وَقَوْلُهُ:
يُخْرِجُهُمْ تَفْسِيرٌ لِلْوِلَايَةِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَلِيٍّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ أَرَادُوا الْإِيمَانَ، لِأَنَّ مَنْ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ الْإِيمَانُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْإِخْرَاجِ:
إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الْإِرَادَةِ، وَالْمُرَادُ بِالنُّورِ فِي قَوْلِهِ: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ مَا جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نُورٌ لِلْكُفَّارِ أَخْرَجَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ عَنْهُ إِلَى ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، أَيْ: قَرَّرَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِسَبَبِ صَرْفِهِمْ عَنْ إِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا هُنَا: الَّذِينَ ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى كُفْرُهُمْ يخرجهم أولياؤهم من
__________
(1) . النساء: 60.(1/316)
الشياطين ورؤوس الضَّلَالِ مِنَ النُّورِ الَّذِي هُوَ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا إِلَى ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ الَّتِي وَقَعُوا فِيهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ وَزَادَ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَيَّرَ الْأَبْنَاءَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ نَحْوَهُ أيضا، وقال: فلحق بهم:
أي: ببني الْأَبْنَاءَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ نَحْوَهُ أَيْضًا، وَقَالَ: فَلَحِقَ بِهِمْ، أَيْ: بِبَنِي النَّضِيرِ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَبَقِيَ مَنْ أَسْلَمَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كان ناس مِنَ الْأَنْصَارِ مُسْتَرْضَعِينَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَرَادَ أَهْلُوهُمْ أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنُ، كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ، وَكَانَ هُوَ رَجُلًا مُسْلِمًا، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ:
أَلَا أَسْتَكْرِهُهُمَا فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّةَ؟ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ نَحْوَهُ. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ لَيْسَ لَهَا دِينٌ، فَأُكْرِهُوا عَلَى الدِّينِ بِالسَّيْفِ. قَالَ:
وَلَا تُكْرِهُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى وَالْمَجُوسَ إِذَا أَعْطَوُا الْجِزْيَةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَسْلَمَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِعَجُوزٍ نَصْرَانِيَّةٍ: أَسْلِمِي تَسْلَمِي، فَأَبَتْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثُمَّ تَلَا: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. وَرَوَى عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ لِزَنْبَقَ الرُّومِيِّ غُلَامِهِ: لَوْ أَسْلَمْتَ اسْتَعَنْتُ بِكَ عَلَى أَمَانَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَبَى، فَقَالَ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: نسختها جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «1» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الطَّاغُوتُ: السَّاحِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ:
الطَّاغُوتُ: مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك: أنها القرآن. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا الْإِيمَانُ. وَعَنْ سُفْيَانَ: أَنَّهَا كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ تَفْسِيرُ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِسْلَامِ مَرْفُوعًا فِي تَعْبِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لرؤيا عبد الله ابن سَلَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بِعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَإِنَّهُمَا حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِمَا فَقَدْ تَمَسَّكَ بِعُرْوَةِ اللَّهِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ فَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ،
__________
(1) . التوبة: 73.(1/317)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: لَا انْفِصامَ لَها قَالَ: لَا انْقِطَاعَ لَهَا دُونَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ، قَالَ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا كَفَرُوا بِعِيسَى فَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ الْآيَةَ، قَالَ: هُمْ قَوْمٌ آمَنُوا بِعِيسَى فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ كَفَرُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الظُّلُمَاتُ الْكُفْرُ. وَالنُّورُ: الْإِيمَانُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشيخ عن السدي مثله.
[سورة البقرة (2) : آية 258]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِشْهَادٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِإِنْكَارِ النَّفْيِ وَالتَّقْرِيرُ الْمَنْفِيُّ، أَيْ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَوْ نَظَرُكَ إِلَى هَذَا الَّذِي صَدَرَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْمُحَاجَّةُ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ:
أَلَمْ تَرَ بِمَعْنَى: هَلْ رَأَيْتَ، أَيْ: هَلْ رَأَيْتَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ؟ وَهُوَ: النُّمْرُوذُ بْنُ كوس بن كنعان بن سلم ابن نُوحٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ النُّمْرُوذُ بْنُ فَالَخَ بْنِ عامر بن شالخ بن أرفخشذ بْنِ سَامٍ. وَقَوْلُهُ: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أَيْ: لِأَنْ آتَاهُ اللَّهُ، أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ، عَلَى مَعْنَى: أَنَّ إِيتَاءَ الْمُلْكِ أَبَطَرَهُ وَأَوْرَثَهُ الْكِبَرَ وَالْعُتُوَّ، فَحَاجَّ لِذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ وَضَعَ الْمُحَاجَّةَ الَّتِي هِيَ أَقْبَحُ وُجُوهِ الْكُفْرِ مَوْضِعَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ، كَمَا يُقَالُ: عَادَيْتِنِي لِأَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، أَوْ وَقْتَ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ. وَقَوْلُهُ: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ هُوَ ظَرْفٌ لِحَاجَّ وَقِيلَ:
بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ وَهُوَ بَعِيدٌ. قَوْلُهُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ بِفَتْحِ يَاءِ رَبِّيَ، وَقُرِئَ بِحَذْفِهَا. قَوْلُهُ: أَنَا أُحْيِي قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ: أَنَا أُحْيِي بِطَرْحِ الْأَلِفِ الَّتِي بَعْدَ النُّونِ مِنْ أَنَا فِي الْوَصْلِ وَأَثْبَتَهَا نَافِعٌ وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذرّيت السَّنَامَا
أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ فِي الْأَجْسَادِ، وَأَرَادَ الْكَافِرُ: أَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَتْلِ فَيَكُونَ ذَلِكَ إِحْيَاءً، وَعَلَى أَنْ يَقْتُلَ فَيَكُونَ ذَلِكَ إِمَاتَةً، فَكَانَ هَذَا جَوَابًا أَحْمَقَ، لَا يَصِحُّ نَصْبُهُ فِي مُقَابَلَةِ حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ، لأنه أراد غير ما أراد الْكَافِرُ، فَلَوْ قَالَ لَهُ: رَبُّهُ الَّذِي يَخْلُقُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ فِي الْأَجْسَادِ فَهَلْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ لَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ بَادِئَ بَدْءٍ وَفِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلَكِنَّهُ انْتَقَلَ مَعَهُ إِلَى حُجَّةٍ أُخْرَى تَنْفِيسًا لِخِنَاقِهِ، وَإِرْسَالًا لِعِنَانِ الْمُنَاظَرَةِ فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ لِكَوْنِ هَذِهِ الْحُجَّةِ لَا تَجْرِي فِيهَا الْمُغَالَطَةُ، وَلَا يَتَيَسَّرُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهَا بِمَخْرَجِ مُكَابَرَةٍ وَمُشَاغَبَةٍ. قَوْلُهُ: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ بُهِتَ الرَّجُلُ وَبَهَتَ وَبَهِتَ: إِذَا انْقَطَعَ وَسَكَتَ مُتَحِيرًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: بَهَتَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْهَاءِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَبَهُتَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمَّ الْهَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي بُهِتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ قَالَ: وقرأ ابن السميقع: فَبَهَتَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْهَاءِ، عَلَى مَعْنَى: فَبَهَتَ إبراهيم الذي(1/318)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
كفر، فالذي فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَهَتَ بِفَتْحِهِمَا لُغَةً فِي بُهِتَ. وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ قِرَاءَةَ: فَبُهِتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ، قَالَ: وَالْأَكْثَرُ بِالْفَتْحِ فِي الْهَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ فَبَهَتَ بِفَتْحِهِمَا أَنَّهُ بِمَعْنَى: سَبَّ وَقَذَفَ، وَأَنَّ النُّمْرُوذَ هُوَ الَّذِي سَبَّ حِينَ انْقَطَعَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حِيلَةٌ. انْتَهَى. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَلَمْ يَقُلْ فَبُهِتَ الَّذِي حَاجَّ، إِشْعَارًا بِأَنَّ تِلْكَ الْمُحَاجَّةَ كُفْرٌ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ هُوَ: نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَالسُّدِّيِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ أَوَّلَ جَبَّارٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ نُمْرُوذُ، وَكَانَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ يَمْتَارُونَ مِنْ عِنْدِهِ الطَّعَامَ، فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْتَارُ مَعَ مَنْ يَمْتَارُ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ نَاسٌ قَالَ: مَنْ رَبُّكُمْ؟
قَالُوا: أَنْتَ حَتَّى مَرَّ بِهِ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، فَرَدَّهُ بِغَيْرِ طَعَامٍ. فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ فَمَرَّ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ رَمْلٍ أَصْفَرَ فَقَالَ: أَلَا آخُذُ مِنْ هَذَا فَآتِي بِهِ أَهْلِي، فَتَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ حِينَ أَدْخُلُ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ مِنْهُ فَأَتَى أَهْلَهُ فَوَضَعَ مَتَاعَهُ ثُمَّ نَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى مَتَاعِهِ فَفَتَحَتْهُ فَإِذَا هِيَ بِأَجْوَدِ طَعَامٍ رَآهُ آخِذٌ. فَصَنَعَتْ لَهُ مِنْهُ فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ عَهْدُهُ بِأَهْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ طَعَامٌ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ:
مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ، فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ. ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ إِلَى الْجَبَّارِ مَلَكًا أَنْ آمِنْ وَأَتْرُكْكَ عَلَى مُلْكِكَ. قَالَ: فَهَلْ رَبٌّ غَيْرِي؟ فَجَاءَهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: فَاجْمَعْ جُمُوعَكَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَجَمَعَ الْجَبَّارُ جُمُوعَهُ فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَكَ فَفَتَحَ عَلَيْهِ بَابًا مِنَ الْبَعُوضِ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَوْهَا مِنْ كَثْرَتِهَا، فَبَعَثَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأَكَلَتْ شُحُومَهُمْ، وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعِظَامُ، وَالْمَلِكُ كَمَا هُوَ لَا يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ فِي مَنْخَرِهِ، فَمَكَثَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالْمَطَارِقِ، وَأَرْحَمُ النَّاسَ بِهِ مَنْ جَمَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِمَا رَأَسَهُ، وَكَانَ جَبَّارًا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ كَمُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بَنَى صَرْحًا إِلَى السَّمَاءِ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: هُوَ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَ فِي الْأَرْضِ، أَتَى بِرَجُلَيْنِ، قَتَلَ أَحَدَهُمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ، فَقَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال: إلى الإيمان.
[سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)(1/319)
قَوْلُهُ: أَوْ كَالَّذِي أَوْ: لِلْعَطْفِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ رَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ؟ أَلَمْ تَرَ مَنْ هُوَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ؟ فَحُذِفَ قَوْلُهُ: مَنْ هُوَ. وَقَدِ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ أَنَّهَا اسْمِيَّةٌ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَرْيَةَ هِيَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ بَعْدَ تَخْرِيبِ بُخْتُنَصَّرَ لَهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ: أَهْلُهَا. وَقَوْلُهُ:
خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أَيْ: سَاقِطَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، أَيْ: سَقَطَ السَّقْفُ، ثُمَّ سَقَطَتِ الْحِيطَانُ عَلَيْهِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: خَالِيَةٌ مِنَ النَّاسِ وَالْبُيُوتُ قَائِمَةٌ وَأَصْلُ الْخَوَاءِ: الْخُلُوُّ، يُقَالُ:
خَوَتِ الدَّارُ، وَخَوِيَتْ، تَخْوِي خَوَاءً ممدود، وخيّا وَخَوْيًا: أَقْفَرَتْ، وَالْخَوَاءُ أَيْضًا: الْجُوعُ لِخُلُوِّ الْبَطْنِ عَنِ الْغِذَاءِ. وَالظَّاهِرُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: عَلى عُرُوشِها مِنْ خَوَى الْبَيْتُ: إِذَا سَقَطَ، أَوْ مِنْ خَوَتِ الْأَرْضُ: إِذَا تَهَدَّمَتْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ: مِنْ حَالِ كَوْنِهَا كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ أَيْ: مَتَى يُحْيِي؟ أَوْ كَيْفَ يُحْيِي؟ وَهُوَ اسْتِبْعَادٌ لِإِحْيَائِهَا وَهِيَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُشَابِهَةِ لِحَالَةِ الْأَمْوَاتِ الْمُبَايِنَةِ لِحَالَةِ الْأَحْيَاءِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ: لِكَوْنِ الِاسْتِبْعَادِ نَاشِئًا مِنْ جِهَتِهِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ. فَلَمَّا قَالَ الْمَارُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مُسْتَبْعِدًا لِإِحْيَاءِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالْعِمَارَةِ لَهَا، وَالسُّكُونِ فِيهَا، ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ شَكًّا فِي قدرة الله على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية: ليس يدخل شكّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى إِحْيَاءِ قَرْيَةٍ بِجَلْبِ الْعِمَارَةِ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الشَّكُّ إِذَا كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ إِحْيَاءِ مَوْتَاهَا. وَقَوْلُهُ:
مِائَةَ عامٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالْعَامُ: السَّنَةُ، أَصْلُهُ مَصْدَرٌ كَالْعَوْمِ، سُمِّيَ بِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ.
وَقَوْلُهُ: بَعَثَهُ مَعْنَاهُ أَحْيَاهُ. قَوْلُهُ: قالَ كَمْ لَبِثْتَ هُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ مَاذَا قَالَ لَهُ بَعْدَ بَعْثِهِ؟ وَاخْتُلِفَ فِي فَاعِلِ قَالَ فَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وقيل: ناداه بذلك ملك من السَّمَاءِ قِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ وَقِيلَ: غَيْرُهُ وَقِيلَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قِيلَ: رَجُلٌ مِنَ المؤمنين من قومه شاهده عند أَنْ أَمَاتَهُ اللَّهُ وَعُمِّرَ إِلَى عِنْدِ بَعْثِهِ. والأولى أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إلّا عاصما: كم لبتّ بِإِدْغَامِ الثَّاءِ فِي التَّاءِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَخْرَجِ. وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ: بِالْإِظْهَارِ، وَهُوَ أَحْسَنُ، لِبُعْدِ مَخْرَجِ الثَّاءِ مِنْ مَخْرَجِ التَّاءِ. وكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بِنَاءً عَلَى مَا عِنْدَهُ، وَفِي ظَنِّهِ، فَلَا يَكُونُ كَاذِبًا، وَمِثْلُهُ: قَوْلُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ومثله: قوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ: «لَمْ تُقْصَرْ وَلَمْ أَنْسَ» وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصِّدْقَ: مَا طَابَقَ الِاعْتِقَادَ، وَالْكَذِبَ: مَا خَالَفَهُ. وَقَوْلُهُ: قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ هُوَ اسْتِئْنَافٌ أَيْضًا كَمَا سَلَفَ، أَيْ: مَا لَبِثْتَ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بَلْ لبثت مِائَةَ عَامٍ. وَقَوْلُهُ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى هَذَا الْأَثَرِ الْعَظِيمِ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ عَدَمُ تَغَيُّرِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ مَعَ طُولِ تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَهَذَا طَعَامُكُ وَشَرَابُكُ لَمْ يَتَسَنَّهْ» وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: «وَانْظُرْ لِطَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لِمِائَةِ سَنَةٍ» . وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ: «لَمْ يَسَّنَّ» بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ وَحَذْفِ(1/320)
الْهَاءِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَالتَّسَنُّهُ: مَأْخُوذٌ مِنَ السَّنَةِ، أَيْ: لَمْ تُغَيِّرْهُ السُّنُونَ، وَأَصْلُهَا: سَنْهَةٌ، أَوْ سَنْوَةٌ، مِنْ سَنَهَتِ النَّخْلَةُ وَتَسَنَّهَتْ: إِذَا أَتَتْ عَلَيْهَا السُّنُونَ، وَنَخْلَةٌ سنّاء: أَيْ تَحْمِلُ سَنَةً وَلَا تَحْمِلُ أُخْرَى، وَأَسْنَهْتُ عِنْدَ بَنِي فُلَانٍ: أَقَمْتُ عِنْدَهُمْ، وَأَصْلُهُ: يَتَسَنَّا سَقَطَتِ الْأَلِفُ لِلْجَزْمِ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَسِنَ الْمَاءُ: إِذَا تَغَيَّرَ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ يَتَأَسَّنُ مِنْ قَوْلِهِ: حَمَإٍ مَسْنُونٍ «1» قاله أبو عمرو الشيباني. وقال الزَّجَّاجُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَسْنُونٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ مُتَغَيِّرٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَصْبُوبٌ عَلَى سَنَهِ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ انْظُرْ إِلَيْهِ كَيْفَ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ، وَنَخَرَتْ عِظَامُهُ؟ ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ، وَعَادَ كَمَا كَانَ. وَقَالَ الضحاك ووهب ابن مُنَبِّهٍ: انْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ قَائِمًا فِي مِرْبَطِهِ، لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي: مُنَاسَبَتُهُ لِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَدَمَ تَغَيُّرِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ بَعْدَ إِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَبِثَ مِائَةَ عَامٍ، مَعَ أَنَّ عَدَمَ تَغَيُّرِ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، بَلْ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ لَبْثِهِ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، لِزِيَادَةِ اسْتِعْظَامِ ذَلِكَ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ تِلْكَ الْمُدَّةَ، فَإِنَّهُ إِذَا رَأَى طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مَعَ كَوْنِهِ قَدْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ زَادَتِ الْحَيْرَةُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ عِظَامًا نَخِرَةً تَقَرَّرَ لَدَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ صُنْعُ مَنْ تَأْتِي قُدْرَتُهُ بِمَا لَا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ، فَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ سَرِيعُ التَّغَيُّرِ. وَقَدْ بَقِيَ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، وَالْحِمَارُ يَعِيشُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ. وَقَدْ صَارَ كَذَلِكَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.
قَوْلُهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ أَدْخَلَ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ لِفِعْلٍ بَعْدَهَا مَعْنَاهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، وَدَلَالَةً عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ جَعَلْنَا ذَلِكَ. وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْوَاوَ مُقْحَمَةً زَائِدَةً. قَالَ الْأَعْمَشُ: مَوْضِعُ كَوْنِهِ آيَةً: هُوَ أَنَّهُ جاء شابا عَلَى حَالِهِ يَوْمَ مَاتَ، فَوَجَدَ الْأَبْنَاءَ وَالْحَفَدَةَ شُيُوخًا. قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِالزَّايِ، وَالْبَاقُونَ: بِالرَّاءِ. وَرَوَى أَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: «نَنْشُرُهَا» بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّ الشِّينِ وَالرَّاءِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ «كَيْفَ نُنْشِزُهَا» بِالزَّايِ، فَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالزَّايِ: نَرْفَعُهَا، وَمِنْهُ النَّشَزُ: وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ: يَرْفَعُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ. وَأَمَّا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ فَوَاضِحَةٌ مِنْ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى، أَيْ: أَحْيَاهُمْ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أَيْ: نَسْتُرُهَا بِهِ كَمَا نَسْتُرُ الْجَسَدَ بِاللِّبَاسِ، فَاسْتَعَارَ اللِّبَاسَ لِذَلِكَ، كَمَا اسْتَعَارَهُ النَّابِغَةُ لِلْإِسْلَامِ فَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجْلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الْإِسْلَامِ سِرْبَالَا
قَوْلُهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَيْ: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْآيَاتِ، الَّتِي أَرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَمَرَهُ بِالنَّظَرِ إليها والتفكير فِيهَا قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَيْ: لَمَّا اتَّضَحَ لَهُ عِيَانًا مَا كَانَ مُسْتَنْكَرًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ قَبْلَ عِيَانِهِ قالَ أَعْلَمُ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَعْنَاهُ: أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ أَكُنْ عَلِمْتُهُ. وَقَرَأَ حمزة
__________
(1) . الحجر: 26.(1/321)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
وَالْكِسَائِيُّ: قالَ أَعْلَمُ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ خِطَابًا لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّجْرِيدِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قَالَ: خَرَجَ عُزَيْرٌ نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ مَدِينَتِهِ وَهُوَ شَابٌّ، فَمَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ خَرِبَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، فَقَالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَيْنَاهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عِظَامِهِ يَنْضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ كُسِيَتْ لَحْمًا، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، فَقِيلَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَأَتَى مَدِينَتَهُ. وَقَدْ تَرَكَ جَارًا لَهُ إِسْكَافًا شَابًّا فَجَاءَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ عُزَيْرٌ، مِنْهُمُ: ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَمِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، عِنْدَ الْخَطِيبِ وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَمِنْهُمْ: عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَبُرَيْدَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَوَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ: أَنَّ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ هُوَ نَبِيٌّ اسْمُهُ:
أَرْمِيَاءُ، فَمِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَمِنْهُمْ: وهب ابن مُنَبِّهٍ، عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَأَبِي الشَّيْخِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ الْخَضِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَنَّهُ حُزَقْيِلُ. وَرَوَى ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَالْمَشْهُورُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خاوِيَةٌ قَالَ: خَرَابٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: خاوِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: عَلى عُرُوشِها سُقُوفِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: سَاقِطَةٌ عَلَى سُقُوفِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَبِثْتُ يَوْماً ثُمَّ الْتَفَتْ فَرَأَى الشَّمْسَ فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ:
كَانَ طَعَامُهُ الَّذِي مَعَهُ سلة من تين، وشرابه زقّ مِنْ عَصِيرٍ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَتَسَنَّهْ قَالَ: لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: لَمْ يَتَسَنَّهْ لَمْ يُنْتِنْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ:
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ مِثْلَهُ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ نُنْشِزُها قَالَ: نُخْرِجُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جرير عن زيد ابن ثابت قال: نحييها.
[سورة البقرة (2) : آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قَوْلُهُ: وَإِذْ ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ وَقْتَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ مُوَجَّهًا إِلَى الْوَقْتِ دُونَ مَا وَقَعَ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ الْمَقْصُودَ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ طَلَبَ وَقْتِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهُ بِالْأَوْلَى، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِمِثْلِ هَذَا الظَّرْفِ. وَقَوْلُهُ: رَبِّ آثَرَهُ(1/322)
عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِعْطَافِ الْمُوجِبِ لِقَبُولِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الدُّعَاءِ. وَقَوْلُهُ: أَرِنِي قَالَ الْأَخْفَشُ:
لَمْ يُرِدْ رُؤْيَةَ الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ الرُّؤْيَةُ الْقَلْبِيَّةُ هُنَا، لِأَنَّ مَقْصُودَ إِبْرَاهِيمَ: أَنْ يُشَاهِدَ الْإِحْيَاءَ، لِتَحْصُلَ لَهُ الطُّمَأْنِينَةُ، وَالْهَمْزَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْفِعْلِ لِقَصْدِ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَهُوَ الْجُمْلَةُ، أَعْنِي قَوْلَهُ: كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى وَكَيْفَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالظَّرْفِ، أَوْ بِالْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ عُطِفَ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ، وَلَمْ تُؤْمِنْ بِأَنِّي قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ حَتَّى تَسْأَلَنِي إِرَاءَتَهُ قالَ: بَلى عَلِمْتُ وَآمَنْتُ بِأَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ سَأَلْتُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِاجْتِمَاعِ دَلِيلِ الْعِيَانِ إِلَى دَلَائِلِ الْإِيمَانِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي إِحْيَاءِ الْمَوْتَى قَطُّ، وَإِنَّمَا طَلَبَ الْمُعَايَنَةَ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ رُؤْيَةِ مَا أُخْبِرَتْ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» . وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بما صح عنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا فِي الْقُرْآنِ عِنْدِي آيَةٌ أَرْجَى مِنْهَا» . وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَرَجَّحَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ حِكَايَتِهِ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ عِنْدِي مَرْدُودٌ، يَعْنِي: قَوْلَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَاكًّا لَكُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهِ، وَنَحْنُ لَا نَشُكُّ، فَإِبْرَاهِيمُ أَحْرَى أَنْ لَا يَشُكَّ. فَالْحَدِيثُ مَبْنِيٌّ عَلَى نَفْيِ الشَّكِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ أَرْجَى آيَةٍ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهَا الْإِدْلَالَ عَلَى اللَّهِ وَسُؤَالَ الْإِحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَتْ مَظِنَّةَ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ نَقُولَ: هِيَ أَرْجَى آيَةٍ لِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أَيْ:
أَنَّ الْإِيمَانَ كَافٍ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى تَنْقِيرٍ وَبَحْثٍ، قَالَ: فَالشَّكُّ يَبْعُدُ عَلَى مَنْ ثَبَتَ قَدَمُهُ فِي الْإِيمَانِ فَقَطْ، فَكَيْفَ بِمَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَالْخُلَّةِ؟ وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي فِيهَا رَذِيلَةٌ إِجْمَاعًا، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ سُؤَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَائِرَ الْأَلْفَاظِ لِلْآيَةِ لَمْ تُعْطِ شَكًّا، وذلك أن الاستفهام بكيف إِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنْ حَالَةِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، نَحْوُ قَوْلِكَ: كَيْفَ عَلِمَ زَيْدٌ؟ وَكَيْفَ نَسَجَ الثَّوْبَ؟ وَنَحْوُ هَذَا، وَمَتَى قُلْتَ: كَيْفَ ثَوْبُكَ؟ وَكَيْفَ زَيْدٌ؟ فَإِنَّمَا السُّؤَالُ عَنْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَقَدْ تَكُونُ كَيْفَ خَبَرًا عَنْ شَيْءٍ شأنه أن يستفهم عنه بكيف نَحْوِ قَوْلِكَ: كَيْفَ شِئْتَ فَكُنْ، وَنَحْوِ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ؟ وَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِفْهَامٌ عَنْ هَيْئَةِ الْإِحْيَاءِ، وَالْإِحْيَاءُ مُتَقَرِّرٌ، وَلَكِنْ لَمَّا وَجَدْنَا بَعْضَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ شَيْءٍ قَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ إِنْكَارِهِ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ حَالَةٍ لِذَلِكَ الشَّيْءِ يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ فِي نَفْسِهِ لَا يَصِحُّ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مُدَّعٍ: أَنَا أَرْفَعُ هَذَا الْجَبَلَ، فَيَقُولُ الْمُكَذِّبُ لَهُ: أَرِنِي كَيْفَ تَرْفَعُهُ. فَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَجَازٍ فِي الْعِبَارَةِ وَمَعْنَاهَا تَسْلِيمُ جَدَلٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: افْرِضْ أَنَّكَ تَرْفَعُهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي عِبَارَةِ الْخَلِيلِ هَذَا الِاشْتِرَاكُ الْمَجَازِيُّ خَلَّصَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ وَحَمَلَهُ عَلَى أَنْ بَيَّنَ لَهُ الْحَقِيقَةَ فَقَالَ لَهُ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى فَكَمَّلَ الْأَمْرَ وَتَخَلَّصَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ عَلَّلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُؤَالَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ بَالِغٌ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِثْلُ هَذَا الشَّكِّ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، وَالْأَنْبِيَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بالبعث.(1/323)
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، فَقَالَ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1» . وقال اللعين: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «2» وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمْ سَلْطَنَةٌ فَكَيْفَ يُشَكِّكُهُمْ، وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنْ يُشَاهِدَ كَيْفِيَّةَ جَمْعِ أَجْزَاءِ الْمَوْتَى بَعْدَ تَفْرِيقِهَا، وَاتِّصَالِ الْأَعْصَابِ وَالْجُلُودِ بَعْدَ تَمْزِيقِهَا، فَأَرَادَ أَنْ يَرْقَى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، فَقَوْلُهُ: أَرِنِي كَيْفَ طَلَبُ مُشَاهَدَةِ الْكَيْفِيَّةِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
وَلَيْسَتِ الْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَلِفُ إِيجَابٍ وَتَقْرِيرٍ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، وَ «تُؤْمِنْ» : مَعْنَاهُ: إِيمَانًا مُطْلَقًا دَخَلَ فِيهِ فَضْلُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَالطُّمَأْنِينَةُ: اعْتِدَالٌ وَسُكُونٌ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي: لِيُوقِنَ. قَوْلُهُ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْ أَرَدْتَ ذَلِكَ فَخُذْ، وَالطَّيْرُ: اسْمُ جَمْعٍ لِطَائِرٍ، كَرَكْبٍ: لِرَاكِبٍ، أَوْ جَمْعٌ، أَوْ مَصْدَرٌ، وَخُصَّ الطَّيْرُ بِذَلِكَ، قِيلَ: لِأَنَّهُ أَقْرَبُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَقِيلَ: إِنَّ الطَّيْرَ هِمَّتُهُ الطَّيَرَانُ فِي السَّمَاءِ، وَالْخَلِيلُ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعُلُوَّ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِتَخْصِيصِ الطَّيْرِ. وَكُلُّ هَذِهِ لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَلَيْسَتْ إِلَّا خَوَاطِرَ أَفْهَامٍ وَبَوَادِرَ أَذْهَانٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ وُجُوهًا لِكَلَامِ اللَّهِ، وَعِلَلًا لِمَا يَرِدُ فِي كَلَامِهِ، وَهَكَذَا قِيلَ: مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَدِ فَإِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ تَحْصُلُ بِإِحْيَاءٍ وَاحِدٍ؟ فَقِيلَ:
إِنَّ الْخَلِيلَ إِنَّمَا سَأَلَ وَاحِدًا عَلَى عَدَدِ الْعُبُودِيَّةِ، فَأُعْطِيَ أَرْبَعًا عَلَى قَدْرِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقِيلَ: إِنَّ الطُّيُورَ الْأَرْبَعَةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي مِنْهَا تَتَرَكَّبُ أَرْكَانُ الْحَيَوَانِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانِ. قَوْلُهُ: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ قُرِئَ بِضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا، أَيِ: اضْمُمْهُنَّ إِلَيْكَ، وَأَمِلْهُنَّ، وَاجْمَعْهُنَّ يُقَالُ رَجُلٌ أَصْوَرُ: إِذَا كَانَ مَائِلَ الْعُنُقِ وَيُقَالُ صَارَ الشَّيْءَ يَصْوَرُهُ: أَمَالَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا فِي تَلَفُّتِنَا ... يَوْمَ الْفِرَاقِ إِلَى جِيرَانِنَا صُوَرُ
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: قَطِّعْهُنَّ، يُقَالُ: صَارَ الشَّيْءَ يَصُورُهُ: أَيْ: قَطَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيِّرِ:
فَأَدْنَتْ لِي الْأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا ... بِنَهْضِي وقد كان ارتقائي يَصُورُهَا
أَيْ: يَقْطَعُهَا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: إِلَيْكَ متعلقا بقوله: فَخُذْ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فِيهِ الْأَمْرُ بِالتَّجْزِئَةِ، لِأَنَّ جَعْلَ كُلِّ جُزْءٍ عَلَى جَبَلٍ تَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ التَّجْزِئَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، وَالْجُزْءُ النَّصِيبُ. وَقَوْلُهُ: يَأْتِينَكَ فِي مَحَلِّ جَزْمٍ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ بُنِيَ لِأَجْلِ نُونِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ. وَقَوْلُهُ: سَعْياً الْمُرَادُ بِهِ: الْإِسْرَاعُ فِي الطَّيَرَانِ أَوِ الْمَشْيِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ مَرَّ بِرَجُلٍ مَيِّتٍ زَعَمُوا أَنَّهُ حَبَشِيٌّ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرَأَى دَوَابَّ الْبَحْرِ تَخْرُجُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ، وَسِبَاعَ الْأَرْضِ تَأْتِيهِ فَتَأْكُلُ مِنْهُ، وَالطَّيْرَ يَقَعُ عَلَيْهِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ ذَلِكَ: رَبِّ، هَذِهِ دَوَابُّ الْبَحْرِ تَأْكُلُ مِنْ هَذَا، وَسِبَاعُ الْأَرْضِ والطير،
__________
(1) . الإسراء: 65.
(2) . ص: 83.(1/324)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
ثُمَّ تُمِيتُ هَذِهِ فَتَبْلَى ثُمَّ تُحْيِيهَا، فَأَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَنِّي أُحْيِي الْمَوْتَى؟
قالَ: بَلى يَا رَبِّ، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي يَقُولُ: لِأَرَى مِنْ آيَاتِكَ وَأَعْلَمَ أَنَّكَ قَدْ أَجَبْتَنِي فَقَالَ اللَّهُ:
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ الآية. فصنع مَا صُنِعَ، وَالطَّيْرُ الَّذِي أُخِذَ: وَزٌّ، وَرَأْلٌ «1» ، وديك، وطاوس، وأخذ نِصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: ثُمَّ أَتَى أَرْبَعَةَ أَجْبُلٍ، فَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ نِصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثم تنحى ورؤوسها تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَدَعَا بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، فَرَجَعَ كُلُّ نِصْفٍ إِلَى نِصْفِهِ، وَكُلُّ رِيشٍ إِلَى طائره، ثم أقبلت تطير بغير رؤوس إلى قدميه، تريد رؤوسها بِأَعْنَاقِهَا، فَرَفَعَ قَدَمَيْهِ، فَوَضَعَ كُلُّ طَائِرٍ مِنْهَا عُنُقَهُ فِي رَأْسِهِ، فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عن قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهَا كَانَتْ جِيفَةَ حِمَارٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي يَقُولُ:
أَعْلَمُ أَنَّكَ تُجِيبُنِي إِذَا دَعَوْتُكَ، وَتُعْطِينِي إِذَا سَأَلْتُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قَالَ: الْغُرْنُوقُ «2» ، والطاوس، وَالدِّيكُ، وَالْحَمَامَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ الأربعة من الطير: الديك، والطاوس، وَالْغُرَابُ، وَالْحَمَامُ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَصُرْهُنَّ قَالَ: قَطِّعْهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هِيَ بِالنَّبَطِيَّةِ: شَقِّقْهُنَّ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
فَصُرْهُنَّ أَوْثِقْهُنَّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قال: وضعهن على سبعة أجبل، وأخذ الرؤوس بِيَدِهِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْقَطْرَةِ تَلْقَى الْقَطْرَةَ، وَالرِّيشَةِ تَلْقَى الرِّيشَةَ، حَتَّى صِرْنَ أَحْيَاءً لَيْسَ لهنّ رؤوس، فجئن إلى رؤوسهن فدخلن فيها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 265]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
__________
(1) . الرأل: فرخ النّعام.
(2) . الغرنوق: طائر مائي وهو الكركي أو طائر يشبهه.(1/325)
قَوْلُهُ: كَمَثَلِ حَبَّةٍ لَا يَصِحُّ جَعْلُ هَذَا خَبَرًا عَنْ قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ لِاخْتِلَافِهِمَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ إِمَّا فِي الْأَوَّلِ، أَيْ: مَثَلُ نَفَقَةِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ، أَوْ فِي الثَّانِي، أَيْ: كَمَثَلِ زَارِعِ حَبَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِالسَّبْعِ السَّنَابِلِ: هِيَ الَّتِي تُخْرَجُ فِي سَاقٍ وَاحِدٍ، يَتَشَعَّبُ مِنْهُ سَبْعُ شُعَبٍ، فِي كُلِّ شُعْبَةٍ سُنْبُلَةٌ، وَالْحَبَّةُ:
اسْمٌ لِكُلِّ مَا يَزْدَرِعُهُ ابْنُ آدَمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ ... وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ
قِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّنَابِلِ هُنَا: سَنَابِلُ الدُّخْنُ، فهو الذي يَكُونُ فِي السُّنْبُلَةِ مِنْهُ هَذَا الْعَدَدُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
إِنَّ سُنْبُلَ الدُّخْنِ يَجِيءُ فِي السُّنْبُلَةِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ بِضِعْفَيْنِ وَأَكْثَرَ عَلَى مَا شَاهَدْنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يُوجَدُ فِي سُنْبُلِ الْقَمْحِ مَا فِيهِ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْحُبُوبِ فَأَكْثَرَ، وَلَكِنَّ الْمِثَالَ وَقَعَ بِهَذَا الْقَدْرِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ مَعْنَاهُ إِنْ وُجِدَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَعَلَى أَنْ تَفْرِضَهُ. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: يُضَاعِفُ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةَ لِمَنْ يَشَاءُ، أَوْ يُضَاعِفُ هَذَا الْعَدَدَ، فَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ لِمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ: بِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: بِأَنَّ نَفَقَةَ الْجِهَادِ حَسَنَتُهَا بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، فَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ هُوَ الْجِهَادُ فَقَطْ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ: وُجُوهُ الْخَيْرِ، فَيَخُصُّ هَذَا التَّضْعِيفَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ بِثَوَابِ النَّفَقَاتِ وَتَكُونُ الْعَشْرَةُ الْأَمْثَالُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ الَّذِي تَقَدَّمَ، أَيْ: هُوَ إِنْفَاقُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً وَالْمَنُّ:
هُوَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ عَلَى مَعْنَى التَّعْدِيدِ لَهَا وَالتَّقْرِيعِ بِهَا وَقِيلَ: الْمَنُّ: التَّحَدُّثُ بِمَا أَعْطَى، حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ الْمُعْطَى فَيُؤْذِيَهُ، وَالْمَنُّ مِنَ الْكَبَائِرِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَالْأَذَى: السَّبُّ وَالتَّطَاوُلُ وَالتَّشَكِّي. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَمَعْنَى «ثُمَّ» إِظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَتَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَأَنَّ تَرْكَهُمَا خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ الْإِنْفَاقِ، كَمَا جَعَلَ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الْإِيمَانِ خَيْرًا مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَقامُوا انْتَهَى. وَقُدِّمَ الْمَنُّ عَلَى الْأَذَى لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ، وَوَسَّطَ كَلِمَةَ لَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِ النَّفْيِ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ فِيهِ تَأْكِيدٌ وَتَشْرِيفٌ. وَقَوْلُهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ظَاهِرُهُ نَفْيُ الْخَوْفِ عَنْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ، لِمَا تُفِيدُهُ النَّكِرَةُ الْوَاقِعَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنَ الشُّمُولِ، وَكَذَلِكَ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يُفِيدُ دَوَامَ انْتِفَاءِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ قِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ:
أَوْلَى وَأَمْثَلُ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ. وَقَوْلُهُ: وَمَغْفِرَةٌ مُبْتَدَأٌ أَيْضًا وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: خَيْرٌ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَعَنْ قَوْلِهِ: وَمَغْفِرَةٌ وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَتَيْنِ لِأَنَّ الْأُولَى تَخَصَّصَتْ بِالْوَصْفِ، وَالثَّانِيَةَ بِالْعِطْفِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ القول المعروف من المسؤول لِلسَّائِلِ وَهُوَ التَّأْنِيسُ وَالتَّرْجِيَةُ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَالرَّدُّ الْجَمِيلُ خَيْرٌ مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا أَذًى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ:(1/326)
لَا تَدْخُلَنَّكَ ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلِ ... فَلَخَيْرُ دَهْرِكَ أن ترى مسؤولا
لَا تَجْبَهَنْ بِالرَّدِ وَجْهَ مُؤَمِّلِ ... فَبَقَاءُ عِزِّكَ أَنْ تُرَى مَأْمُولَا
وَالْمُرَادُ بِالْمَغْفِرَةِ: السَّتْرُ لِلْخُلَّةِ، وَسُوءِ حَالَةِ الْمُحْتَاجِ، وَالْعَفْوُ عَنِ السَّائِلِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْإِلْحَاحِ مَا يُكَدِّرُ صَدْرَ المسؤول وَقِيلَ: الْمُرَادُ: أَنَّ الْعَفْوَ مِنْ جِهَةِ السَّائِلِ، لِأَنَّهُ إِذَا رَدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا عَذَرَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ:
فِعْلٌ يُؤَدِّي إِلَى الْمَغْفِرَةِ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ، أَيْ: غُفْرَانُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَتِكُمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِتَرْكِ اتِّبَاعِ الْمَنِّ والأذى للصدقة. قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى الْإِبْطَالُ لِلصَّدَقَاتِ: إِذْهَابُ أَثَرِهَا وَإِفْسَادُ مَنْفَعَتِهَا، أَيْ: لَا تُبْطِلُوهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى أَوْ بأحدهما. قوله: كَالَّذِي أي: إبطالا كالإبطال الَّذِي، عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ: لَا تُبْطِلُوا مُشَابِهِينَ لِلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَانْتِصَابُ رِئَاءَ: عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: يُنْفِقُ أَيْ: لِأَجْلِ الرِّيَاءِ، أَوْ حَالٌ، أَيْ: يُنْفِقُ مُرَائِيًا لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَثَوَابَ الْآخِرَةِ، بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ رِيَاءً لِلنَّاسِ، اسْتِجْلَابًا لِثَنَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَدْحِهِمْ لَهُ قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قَوْلُهُ: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ الصَّفْوَانُ: الْحَجَرُ الْكَبِيرُ الْأَمْلَسُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: صَفْوَانٌ جَمْعُ صَفْوَانَةٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:
صفوان: واحد، وجمعه: صفي، وصفي، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، وَهُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ وَالْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، مَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمُنْفِقَ بِصَفْوَانٍ عليه التراب يَظُنُّهُ الظَّانُّ أَرْضًا مُنْبِتَةً طَيِّبَةً، فَإِذَا أَصَابَهُ وَابِلٌ مِنَ الْمَطَرِ أَذْهَبَ عَنْهُ التُّرَابَ وَبَقِيَ صَلْدًا، أَيْ: أَجْرَدَ نَقِيًّا مِنَ التُّرَابِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُرَائِي، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ لَا تَنْفَعُهُ، كَمَا لَا يَنْفَعُ الْمَطَرُ الْوَاقِعُ عَلَى الصَّفْوَانِ الَّذِي عَلَيْهِ تُرَابٌ، قَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أَيْ: لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا فَعَلُوهُ رِيَاءً، وَلَا يَجِدُونَ لَهُ ثَوَابًا، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَكُونُ حَالُهُمْ حِينَئِذٍ؟ فَقِيلَ:
لَا يَقْدِرُونَ، إِلَخْ، وَالضَّمِيرَانِ لِلْمَوْصُولِ، أَيْ: كَالَّذِي، بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، كَمَا فِي قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «1» أَيِ: الْجِنْسُ، أَوِ الْجَمْعُ، أَوِ الْفَرِيقُ. قَوْلُهُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مفعول له، وتثبيتا: مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضًا مَفْعُولٌ لَهُ، أَيِ: الْإِنْفَاقُ لِأَجْلِ الِابْتِغَاءِ، وَالتَّثْبِيتُ، كَذَا قَالَ مَكِّيٌّ فِي الْمُشْكِلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ، لَا يَصِحُّ فِي تَثْبِيتًا أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ التَّثْبِيتِ. قال: وابتغاء، نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَانَ يُتَوَجَّهُ فِيهِ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، لَكِنَّ النَّصْبَ عَلَى الْمَصْدَرِ هُوَ الصَّوَابُ مِنْ جِهَةِ عَطْفِ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ تَثْبِيتًا عَلَيْهِ، وابتغاء معناه: طلب، ومرضاة: مَصْدَرُ رَضِيَ، يَرْضَى، وَتَثْبِيتًا: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ رِيَاضَةً لَهَا وَتَدْرِيبًا وَتَمْرِينًا، أَوْ يَكُونُ التَّثْبِيتُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، أَيْ: تَصْدِيقًا لِلْإِسْلَامِ نَاشِئًا مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَرْفِ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَثَبَّتُونَ أَنْ يَضَعُوا صَدَقَاتِهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تصديقا ويقينا، روي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: احْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ
__________
(1) . التوبة: 69.(1/327)
أَنْفُسَهُمْ لَهَا بَصَائِرُ، فَهِيَ تُثَبِّتُهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَثْبِيتًا. قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَهَذَا أَرْجَحُ مِمَّا قَبْلَهُ. يُقَالُ: ثَبَّتُّ فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْرِ أُثَبِّتُهُ تَثْبِيتًا، أَيْ: صَحَّحْتُ عَزْمُهُ، قَوْلُهُ:
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ الْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ، وَهِيَ: أَرْضٌ تَنْبُتُ فِيهَا الْأَشْجَارُ حَتَّى تُغَطِّيَهَا، مَأْخُوذَةٌ مِنْ لَفْظِ الْجِنِّ وَالْجَنِينِ لِاسْتِتَارِهَا. وَالرَّبْوَةُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ ارْتِفَاعًا يَسِيرًا، وَهِيَ: مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ، وَبِهَا قُرِئَ وَإِنَّمَا خَصَّ الرَّبْوَةَ: لِأَنَّ نَبَاتَهَا يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْ غَيْرِهِ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يَصْطَلِمُهُ الْبَرْدُ فِي الْغَالِبِ لِلَطَافَةِ هَوَائِهِ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ الْمُلَطِّفَةِ لَهُ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهِيَ: رِيَاضُ الْحَزْنِ الَّتِي تَسْتَكْثِرُ الْعَرَبُ مِنْ ذِكْرِهَا، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ: إِنَّ رِيَاضَ الْحَزْنِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى نَجْدٍ، لِأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ رِيَاضِ تِهَامَةَ، وَنَبَاتُ نَجْدٍ أَعْطَرُ، وَنَسِيمَهُ أَبْرَدُ وَأَرَقُّ، وَنَجْدٌ يُقَالُ لَهَا: حَزْنٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَذْكُورَةُ هُنَا مِنْ ذَاكَ، وَلَفْظُ الرَّبْوَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ: رَبَا، يَرْبُو، إِذَا زَادَ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: الرَّبْوَةُ: أَرْضٌ مُرْتَفِعَةٌ طَيِّبَةٌ. وَالْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ كَمَا تَقَدَّمَ، يُقَالُ: وبلت السماء، تبل، والأرض موبولة. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخْذاً وَبِيلًا «1» أَيْ: شَدِيدًا، وَضَرْبٌ وَبِيلٌ، وَعَذَابٌ وَبِيلٌ فَآتَتْ أُكُلَها بِضَمِّ الْهَمْزَةِ: الثَّمَرُ الَّذِي يُؤْكَلُ، كَقَوْلِهِ تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ «2» وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ، كَسَرْجِ الْفَرَسِ، وَبَابِ الدَّارِ، قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: أُكْلَهَا، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ تَخْفِيفًا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِتَحْرِيكِ الْكَافِ بِالضَّمِّ.
وَقَوْلُهُ: ضِعْفَيْنِ أَيْ: مِثْلَيْ مَا كَانَتْ تُثْمِرُ بِسَبَبِ الْوَابِلِ. فَالْمُرَادُ بِالضَّعْفِ: الْمِثْلُ وَقِيلَ أَرْبَعَةُ أَمْثَالٍ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ أُكُلَهَا، أَيْ: مُضَاعَفًا. قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أَيْ: فَإِنَّ الطَّلَّ يَكْفِيهَا:
وَهُوَ الْمَطَرُ الضَّعِيفُ الْمُسْتَدَقُّ الْقَطْرِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ: وَتَقْدِيرُهُ: فَطَلٌّ يَكْفِيهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ:
فَالَّذِي يُصِيبُهَا طَلٌّ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ الطَّلَّ يَنُوبُ مَنَابَ الْوَابِلِ فِي إِخْرَاجِ الثَّمَرَةِ ضِعْفَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الطَّلُّ: النَّدَى.
وَفِي الصِّحَاحِ الطَّلُّ: أَضْعَفُ الْمَطَرِ، وَالْجَمْعُ أَطْلَالٌ. قَالَ الْمَاوِرْدِيُّ: وَزَرْعُ الطَّلِّ أَضْعَفُ مِنْ زَرْعِ الْمَطَرِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ نَفَقَاتِ هَؤُلَاءِ زَاكِيَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لَا تَضِيعُ بِحَالٍ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ التَّمْثِيلُ مَا بَيْنَ حَالِهِمْ بِاعْتِبَارِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ الْكَثِيرَةِ وَالْقَلِيلَةِ، وَبَيْنَ الْجَنَّةِ الْمَعْهُودَةِ بِاعْتِبَارِ مَا أَصَابَهَا مِنَ الْمَطَرِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، فَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَطَرَيْنِ يُضْعِفُ أُكُلَهَا، فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهُمْ جَلَّتْ أَوْ قَلَّتْ بَعْدَ أَنْ يُطْلَبَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ زَاكِيَةً زَائِدَةً فِي أُجُورِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَرَأَ الزُّهْرِيُّ: بِالتَّاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
بِالْفَوْقِيَّةِ، وَفِي هذا ترغيب لَهُمْ فِي الْإِخْلَاصِ مَعَ تَرْهِيبٍ مِنَ الرِّيَاءِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ: وَعْدٌ، وَوَعِيدٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ:
«كَانَ مَنْ بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَرَابَطَ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَذْهَبْ وَجْهًا إِلَّا بِإِذْنِهِ كَانَتْ لَهُ الْحَسَنَةُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَمَنْ بَايَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْحَسَنَةُ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ خريم بْنِ فَاتِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من أنفق نفقة
__________
(1) . المزمل: 16.
(2) . إبراهيم: 25. [.....](1/328)
فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ» . وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ «وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ أَوْ عَادَ مَرِيضًا فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ النَّسَائِيُّ فِي الصَّوْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرٍ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ أَرْسَلَ بِنَفَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْفَقَ فِي وَجْهِهِ ذَلِكَ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ. وأخرج الطبراني من حديث معاذ ابن جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طُوبَى لِمَنْ أَكْثَرَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ لَهُ بِكُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، كُلُّ حَسَنَةٍ مِنْهَا عَشْرَةُ أَضْعَافٍ» وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ طَرَفٍ مِنْ أَحَادِيثِ التَّضْعِيفِ لِلْحَسَنَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً «1» . وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي أَجْرِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إِنَّ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَالذِّكْرَ تُضَاعَفُ عَلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ» .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً إِنَّ أَقْوَامًا يَبْعَثُونَ الرَّجُلَ مِنْهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يُنْفِقُ عَلَى الرَّجُلِ، أَوْ يُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، ثُمَّ يَمُنُّ عَلَيْهِ وَيُؤْذِيهِ، يَعْنِي: أَنَّ هَذَا سَبَبُ النُّزُولِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ: فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَفِي فَضْلِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى الْأَقَارِبِ، وَفِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهَا، فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي مَوَاطِنِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ قَالَ: رَدٌّ جَمِيلٌ، تَقُولُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، يَرْزُقُكَ اللَّهُ، وَلَا تَنْهَرْهُ، وَلَا تُغْلِظْ لَهُ الْقَوْلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ:
لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: صَفْوانٍ يَقُولُ: الْحَجَرُ فَتَرَكَهُ صَلْداً يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن عِكْرِمَةَ قَالَ: الْوَابِلُ: الْمَطَرُ. وَأَخْرَجَا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ قَالَ: وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا يَوْمَئِذٍ، كَمَا تَرَكَ هَذَا الْمَطَرُ هَذَا الْحَجْرَ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَنْقَى مِمَّا كَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَرَكَهُ صَلْداً قَالَ:
__________
(1) . البقرة: 245.(1/329)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
يابسا، جافا، لَا يُنْبِتُ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ قَالَ: تَصْدِيقًا وَيَقِينًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ. وَأَخْرَجَا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ أَمْضَاهُ، وَإِنْ خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيَاءِ أَمْسَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: تَثْبِيتاً قَالَ: النِّيَّةُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّبْوَةُ: النَّشَزُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الرَّبْوَةُ: الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْمُرْتَفِعَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الَّذِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَطَلٌّ قَالَ: الندى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ الضَّحَّاكِ. قَالَ: الطَّلُّ: الرَّذَاذُ مِنَ الْمَطَرِ. يَعْنِي اللِّينَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ يَقُولُ: لَيْسَ لِخَيْرِهِ خَلَفٌ، كَمَا لَيْسَ لِخَيْرِ هَذِهِ الْجَنَّةِ خَلَفٌ، عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، إِنْ أَصَابَهَا وابل وإن أصابها طل.
[سورة البقرة (2) : آية 266]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
الْوُدُّ: الْحُبُّ لِلشَّيْءِ مَعَ تَمَنِّيهِ، وَالْهَمْزَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْفِعْلِ لِإِنْكَارِ الْوُقُوعِ، وَالْجَنَّةُ: تُطْلَقُ عَلَى الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ، وَعَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى هُنَا لِقَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى الشَّجَرِ مِنْ دُونِ حَاجَةٍ إِلَى مُضَافٍ مَحْذُوفٍ وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ، أَيْ: مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا وَهَكَذَا قَوْلُهُ: فَاحْتَرَقَتْ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَيُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِهِ، أَيْ: فَاحْتَرَقَتْ أَشْجَارُهَا، وَخُصَّ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ بِالذِّكْرِ مَعَ قَوْلِهِ: لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
لِكَوْنِهِمَا أَكْرَمَ الشَّجَرِ، وَهَذِهِ الْجُمَلُ صِفَاتٌ لِلْجَنَّةِ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَأَصابَهُ الْكِبَرُ قِيلَ: عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَكُونَ مَاضٍ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ وَقِيلَ: عَلَى قَوْلِهِ: يَوَدُّ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى إِذْ تَكُونُ فِي مَعْنَى: كَانَتْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا وَاوُ الْحَالِ، أَيْ: وَقَدْ أَصَابَهُ الْكِبَرُ وَهَذَا أَرْجَحُ. وَكِبَرُ السِّنِّ: هُوَ مَظِنَّةُ شِدَّةِ الْحَاجَةِ، لِمَا يَلْحَقُ صَاحِبُهُ مِنَ الْعَجْزِ عَنْ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ. وَقَوْلُهُ: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَصَابَهُ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ لَهُ ذُرِّيَّةً ضُعَفَاءَ، فَإِنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ كِبَرِ السِّنِّ وَضَعْفِ الذُّرِّيَّةِ كَانَ تَحَسُّرُهُ عَلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ. وَالْإِعْصَارُ: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَهُبُّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَالْعَمُودِ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: الزَّوْبَعَةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الزَّوْبَعَةُ: رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْجِنِّ، وَمِنْهُ سُمِّي الْإِعْصَارُ زَوْبَعَةً، وَيُقَالُ: أُمُّ زَوْبَعَةَ: وَهِيَ رِيحٌ تُثِيرُ الْغُبَارَ وَيَرْتَفِعُ إِلَى السَّمَاءِ كَأَنَّهُ عَمُودٌ وَقِيلَ: هِيَ رِيحٌ تُثِيرُ سَحَابًا ذَاتَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ. وَقَوْلُهُ: فَاحْتَرَقَتْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَصابَها، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَمْثِيلُ مَنْ يَعْمَلُ(1/330)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
خَيْرًا وَيَضُمُّ إِلَيْهِ مَا يُحْبِطُهُ فَيَجِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ بِحَالِ مَنْ لَهُ هَذِهِ الْجَنَّةُ الْمَوْصُوفَةُ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ؟ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عمل؟ قال ابن عباس: لرجل عنى «1» يَعْمَلُ لِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ عَمَلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِإِنْسَانِ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ آخِرِ عُمُرِهِ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ عَمِلَ عَمَلَ السُّوءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ قَالَ: رِيحٌ فيها سموم شديدة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 271]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
قَوْلُهُ: مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ أَيْ: مِنْ جَيِّدِ مَا كَسَبْتُمْ، وَمُخْتَارِهِ، كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ:
إِنَّ مَعْنَى الطَّيِّبَاتِ هُنَا: الْحَلَالُ، وَلَا مَانِعَ مِنِ اعْتِبَارِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ جَيِّدَ الْكَسْبِ وَمُخْتَارَهُ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْحَلَالِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَإِنْ أَطْلَقَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى مَا هُوَ جَيِّدٌ فِي نَفْسِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، فَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ: وَمِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَهِيَ النَّبَاتَاتُ وَالْمَعَادِنُ وَالرِّكَازُ. قَوْلُهُ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أَيْ: لَا تَقْصِدُوا الْمَالَ الرَّدِيءَ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ:
بِتَشْدِيدِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَلَا تَأْمَمُوا» وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ خَبَّابٍ: بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَحَكَى أَبُو عمرو: أن ابن مسعود قرأ: «تؤمّموا» بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمَضْمُومَةِ، وَفِي الْآيَةِ الْأَمْرُ بِإِنْفَاقِ الطَّيِّبِ، وَالنَّهْيُ عَنْ إِنْفَاقِ الْخَبِيثِ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا تَعُمُّ صَدَقَةَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَسَيَأْتِي مِنَ الأدلة ما يؤيد هذا، وتقديم الظرف
__________
(1) . عنى: ت: عب ونصب، وفي البخاري «لرجل غنيّ» .(1/331)
فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ تُنْفِقُونَ يُفِيدُ التَّخْصِيصَ، أَيْ: لَا تَخُصُّوا الْخَبِيثَ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا تَقْصِدُوا الْمَالَ الْخَبِيثَ مُخَصِّصِينَ الْإِنْفَاقَ بِهِ، قَاصِرِينَ لَهُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ فِي مُعَامَلَاتِكُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، هَكَذَا بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ:
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي السُّوقِ يُبَاعُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ هُوَ مِنْ أَغْمَضَ الرَّجُلُ فِي أَمْرِ كَذَا: إِذَا تَسَاهَلَ وَرَضِيَ بِبَعْضِ حَقِّهِ وَتَجَاوَزَ وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِلَى كَمْ وَكَمْ أَشْيَاءُ مِنْكِ تُرِيبُنِي ... أُغْمِضُ عَنْهَا لَسْتُ عَنْهَا بِذِي عَمَى
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مُخَفَّفًا. وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ قَرَأَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مُشَدِّدَةً، وَكَذَلِكَ قَرَأَ قَتَادَةُ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ: إِلَّا أَنْ تَهْضِمُوا سَوْمَهَا مِنَ الْبَائِعِ مِنْكُمْ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ: إِلَّا أَنْ تَأْخُذُوا بِنُقْصَانٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ تَخْرُجُ عَلَى التَّجَاوُزِ أَوْ عَلَى تَغْمِيضِ الْعَيْنِ، لِأَنَّ أَغْمَضَ بِمَنْزِلَةِ غَمَّضَ، وَعَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى حَتَّى، أَيْ: حَتَّى تَأْتُوا غَامِضًا مِنَ التَّأْوِيلِ وَالنَّظَرِ فِي أَخْذِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّيْطَانِ وَاشْتِقَاقُهُ. وَيَعِدُكُمْ: مَعْنَاهُ يُخَوِّفُكُمُ الْفَقْرَ، أَيْ: بِالْفَقْرِ لِئَلَّا تُنْفِقُوا، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا. وَقُرِئَ «الْفُقْرَ» : بِضَمِّ الْفَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
وَالْفُقْرُ: لُغَةٌ فِي الْفَقْرِ، مِثْلُ الضَّعْفِ، وَالضُّعْفِ. وَالْفَحْشَاءُ: الْخَصْلَةُ الْفَحْشَاءُ، وَهِيَ الْمَعَاصِي، وَالْإِنْفَاقُ فِيهَا، وَالْبُخْلُ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَاتِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالْفَاحِشُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْبَخِيلُ. انْتَهَى. وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ
وَلَكِنَّ الْعَرَبَ وَإِنْ أَطْلَقَتْهُ عَلَى الْبَخِيلِ فَذَلِكَ لَا يُنَافِي إِطْلَاقَهُمْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا الْوَعْدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: إِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ فِي الْخَيْرِ، وَإِذَا قُيِّدَ: فَقَدْ يُقَيَّدُ تَارَةً بِالْخَيْرِ وَتَارَةً بِالشَّرِّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» وَمِنْهُ أَيْضًا مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَقْيِيدِ وَعْدِ الشَّيْطَانِ بِالْفَقْرِ، وَتَقْيِيدِ وَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالْفَضْلِ. وَالْمَغْفِرَةُ:
السَّتْرُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِذُنُوبِهِمْ وَكَفَّارَتِهَا، وَالْفَضْلُ: أَنْ يُخْلِفَ عَلَيْهِمْ أَفْضَلَ مِمَّا أَنْفَقُوا، فَيُوَسِّعَ لَهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَيُنْعِمَ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ وَأَجَلُّ وَأَجْمَلُ. قَوْلُهُ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ هِيَ الْعِلْمُ وَقِيلَ: الْفَهْمُ، وَقِيلَ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْجَمِيعِ شُمُولًا أَوْ بَدَلًا وَقِيلَ:
إِنَّهَا النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: الْعَقْلُ وَقِيلَ: الْخَشْيَةُ وَقِيلَ: الْوَرَعُ، وَأَصْلُ الْحِكْمَةِ: مَا يَمْنَعُ مِنَ السَّفَهِ، وَهُوَ كُلُّ قَبِيحٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أَعْطَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا، أَيْ: عَظِيمًا قَدْرُهُ، جليلا خطره. وقرأ الزهري ويعقوب: «ومن يؤت الْحِكْمَةَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ، وَاحِدُهَا لُبٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، قَوْلُهُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ مَا: شَرْطِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيِ: الَّذِي أَنْفَقْتُمُوهُ، وَهَذَا بَيَانٌ لحكم عام يشمل كل صدقة
__________
(1) . الحج: 72.(1/332)
مَقْبُولَةٍ وَغَيْرِ مَقْبُولَةٍ، وَكُلَّ نَذْرٍ مَقْبُولٍ أَوْ غَيْرِ مَقْبُولٍ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ فِيهِ مَعْنَى الْوَعْدِ لِمَنْ أَنْفَقَ وَنَذَرَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْبُولِ، وَالْوَعِيدُ لِمَنْ جَاءَ بِعَكْسِ ذَلِكَ. وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ مَعَ كَوْنِ مَرْجِعِهِ شَيْئَيْنِ، هُمَا: النَّفَقَةُ وَالنَّذْرُ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهَا، أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، ثُمَّ حُذِفَ أَحَدُهُمَا اسْتِغْنَاءً بِالْآخَرِ، قَالَهُ النَّحَّاسُ وَقِيلَ: إِنَّ مَا كَانَ الْعَطْفُ فِيهِ بِكَلِمَةِ «أَوْ» كَمَا فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَكْرَمْتُهُ وَلَا يقال أكرمتها، والأولى أن يقال إن العطف بأو يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ: تَوْحِيدُ الضَّمِيرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» . وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
«2» ، وَتَثْنِيَتُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «3» وَمِنَ الْأَوَّلِ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ... لِمَا نسجتها مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَمِنْهُ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «4» وقيل: إنه إذا وحد الضَّمِيرُ بَعْدَ ذِكْرِ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ فَهُوَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْمَذْكُورَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ. قَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أَيْ: مَا لِلظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ- بِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ لِمُخَالَفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي وجوه الخير- من أنصار ينصرونهم ويمنعونهم مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، بِمَا ظَلَمُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لما يفيده السياق: أي: ما للظالمين بِأَيِّ مَظْلَمَةٍ كَانَتْ مِنْ أَنْصَارٍ. قَوْلُهُ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ قُرِئَ: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَبِكَسْرِهِمَا وَبِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَبِكَسْرِ النُّونِ وَإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ. وَقَدْ حَكَى النَّحْوِيُّونَ فِي «نِعِمَّ» : أَرْبَعَ لُغَاتٍ، وَهِيَ هَذِهِ الَّتِي قُرِئَ بِهَا، وَفِي هَذَا نَوْعُ تَفْصِيلٍ لِمَا أُجْمِلَ فِي الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَيْ:
إِنْ تُظْهِرُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّ شَيْئًا إِظْهَارُهَا، وَإِنْ تُخْفُوهَا وتصيبوا بِهَا مَصَارِفَهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ فَالْإِخْفَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، لَا فِي صَدَقَةِ الْفَرْضِ، فَلَا فَضِيلَةَ لِلْإِخْفَاءِ فِيهَا، بَلْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِظْهَارَ فِيهَا أَفْضَلُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ الْإِخْفَاءَ أَفْضَلُ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ. قَوْلُهُ:
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وقتادة، وابن إسحاق: نكفر بالنون والرفع. وقرأ ابن عامر، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: بِالْيَاءِ وَالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَالْجَزْمِ. وقرأ الحسين ابن عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ بِالنُّونِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. فَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا بَعْدَ الْفَاءِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مبتدأ محذوف. ومن يقرأ بِالْجَزْمِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا. وَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَعَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالرَّفْعُ هَاهُنَا الْوَجْهُ الْجَيِّدُ، وَأَجَازَ الْجَزْمَ بتأويل: وإن تخفوها يكن الإخفاء خيرا
__________
(1) . الجمعة: 11.
(2) . النساء: 112.
(3) . النساء: 135.
(4) . التوبة: 34.(1/333)
لَكُمْ وَيُكَفِّرْ، وَبِمِثْلِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ قَالَ الْخَلِيلُ. وَمَنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: شَيْئًا مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مِنْهُمْ خَطَأٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ قَالَ: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي: مِنَ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَكُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِ زَكَاةٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ قَالَ: مِنَ التِّجَارَةِ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ: مِنَ الثِّمَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عن البراء ابن عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قَالَ: نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، كُنَّا أَصْحَابَ نَخْلٍ وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ عَلَى قَدْرِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالْقِنْوِ وَالْقِنْوَيْنِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا جَاعَ أَتَى الْقِنْوَ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَيَسْقُطُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ فَيَأْكُلُ، وَكَانَ نَاسٌ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ يَأْتِي الرَّجُلُ بِالْقِنْوِ فِيهِ الشِّيصُ وَالْحَشَفُ وَبِالْقِنْوِ قَدِ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ مِثْلُ مَا أَعْطَى لَمْ يَأْخُذْهُ إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ، قَالَ: فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يَأْتِي أَحَدُنَا بِصَالِحِ مَا عِنْدَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ لَهُ الْحَائِطَانِ فَيَنْظُرُ إِلَى أَرْدَئِهِمَا تَمْرًا فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَيَخْلِطُ بِهِ الْحَشَفَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَعَابَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حميد عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَجَاءَ رَجُلٌ بِتَمْرٍ رَدِيءٍ فأمر النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الَّذِي يَخْرُصُ النَّخْلَ أَنْ لَا يُجِيزَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ هَذِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بالصدقة، فجاء رجل بكبائس من هذه السخل: يعني: الشيص، فوضعه، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ جَاءَ بِهَذَا؟ وَكَانَ كُلُّ مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ نُسِبَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ الْآيَةَ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لونين من التمر أن يوجدا فِي الصَّدَقَةِ: الْجُعْرُورُ وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ الرَّخِيصَ وَيَتَصَدَّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا الْآيَةَ، فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَعْمِدُ إِلَى التَّمْرِ فَيَصْرِمُهُ فَيَعْزِلُ الْجَيِّدَ نَاحِيَةً، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ أَعْطَاهُ مِنَ الرَّدِيءِ. وَأَخْرَجَ ابن جرير،
__________
(1) . الجعرور: ضرب رديء من التمر يحمل رطبا صغارا لا خير فيه، والحبيق: نوع من التمر منسوب إلى ابن حبيق(1/334)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ بِالْقُرْآنِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَأَمْثَالِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ: أَنَّهَا الْقُرْآنُ، يَعْنِي: تَفْسِيرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّهَا النُّبُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: إِنَّهَا الْفِقْهُ فِي الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ قَالَ: قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَالْفِكْرَةَ فِيهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: هِيَ: الْكِتَابُ وَالْفَهْمُ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ النَّخَعِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ: الْكِتَابُ، يُؤْتِي إِصَابَتَهُ مَنْ يَشَاءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: هِيَ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ قَالَ: يُحْصِيهِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» وَقَوْلِهِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» وَقَوْلِهِ: «النَّذْرُ مَا ابْتُغِي بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» وَثَبَتَ عَنْهُ فِي كَفَّارَةِ النَّذْرِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ الْآيَةَ، قَالَ: فَجَعَلَ السِّرَّ فِي التَّطَوُّعِ يَفْضُلُ عَلَانِيَتَهَا سَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتَهَا أَفْضَلَ مِنْ سِرِّهَا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا. وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ هَذَا يُعْمَلُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ بِفَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْصِيلَهَا انْتَهَتِ الصَّدَقَاتُ إِلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا مَنْسُوخٌ. وَقَوْلُهُ: فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «1» قَالَ: مَنْسُوخٌ، نَسَخَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ صَدَقَةِ السِّرِّ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مرفوعة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 274]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ أَيْ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَهُمْ مَهْدِيِّينَ، قَابِلِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هِدَايَةً تُوصِلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، وَفِيهَا الِالْتِفَاتُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ كُلُّ مَا يصدق عليه اسم الخير كائنا
__________
(1) . الذاريات: 19.(1/335)
مَا كَانَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ تُنْفِقُونَ كَائِنًا مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّ بِهَا الْمَقْبُولَةَ إِنَّمَا هِيَ مَا كَانَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: أَيْ: لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ: أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّضْعِيفِ. قَوْلُهُ: لِلْفُقَراءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أَوْ بِمَحْذُوفٍ: أَيِ: اجْعَلُوا ذَلِكَ لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْفَاقُكُمْ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْغَزْوِ أَوِ الْجِهَادِ وَقِيلَ: مُنِعُوا عَنِ التَّكَسُّبِ لما هم فيه من الضعف: الذين لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ لِلتَّكَسُّبِ بِالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِسَبَبِ ضَعْفِهِمْ، قِيلَ: هُمْ فُقَرَاءُ الصُّفَّةِ وَقِيلَ:
كُلُّ مَنْ يَتَّصِفُ بِالْفَقْرِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ مَا يُوجِبُ الْحُنُوَّ عَلَيْهِمْ وَالشَّفَقَةَ بِهِمْ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ مُتَعَفِّفِينَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَإِظْهَارِ الْمَسْكَنَةِ بِحَيْثُ يَظُنُّهُمُ الْجَاهِلُ بِهِمْ أَغْنِيَاءَ. وَالتَّعَفُّفُ: تَفَعُّلٌ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ، مِنْ عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ: إِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ طَلَبِهِ، وَفِي «يَحْسَبُهُمْ» لُغَتَانِ: فَتْحُ السِّينِ، وَكَسْرُهَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَالْفَتْحُ أَقْيَسُ. لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنَ الْمَاضِي مَكْسُورَةٌ، فَبَابُهَا أَنْ تَأْتِيَ فِي الْمُضَارِعِ مَفْتُوحَةً. فَالْقِرَاءَةُ بِالْكَسْرِ عَلَى هَذَا حَسَنَةٌ وَإِنْ كَانَتْ شَاذَّةً. وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنَ التَّعَفُّفِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَقِيلَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. قَوْلُهُ: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أَيْ: بِرَثَاثَةِ ثِيَابِهِمْ، وَضَعْفِ أَبْدَانِهِمْ، وَكُلِّ مَا يُشْعِرُ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ. وَالْخِطَابُ إِمَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُخَاطَبَةِ، وَالسِّيمَا مَقْصُورَةً:
الْعَلَامَةُ، وَقَدْ تُمَدُّ. وَالْإِلْحَافُ: الْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اللِّحَافِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ: لِاشْتِمَالِهِ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَاشْتِمَالِ اللحاف على التغطية. ومعنى قوله: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَهُمْ أَلْبَتَّةَ، لَا سُؤَالَ إِلْحَاحٍ، وَلَا سُؤَالَ غَيْرِ إِلْحَاحٍ. وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ التَّعَفُّفَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لَهُمْ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَمُجَرَّدُ السُّؤَالِ يُنَافِيهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ إذا سَأَلُوا بِتَلَطُّفٍ وَلَا يُلْحِفُونَ فِي سُؤَالِهِمْ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَوَجُّهِ النَّفْيِ إِلَى الْقَيْدِ دُونَ الْمُقَيَّدِ، لَكِنَّ صِفَةَ التَّعَفُّفِ تُنَافِيهِ، وَأَيْضًا كَوْنُ الْجَاهِلِ بِهِمْ يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ عَدَمِ السُّؤَالِ أَلْبَتَّةَ. وَقَوْلُهُ: بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ يُفِيدُ زِيَادَةَ رَغْبَتِهِمْ فِي الْإِنْفَاقِ وَشِدَّةَ حِرْصِهِمْ عَلَيْهِ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَيَفْعَلُونَهُ سِرًّا وَجَهْرًا عِنْدَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ حَاجَةُ الْمُحْتَاجِينَ، وَيَظْهَرَ لَدَيْهِمْ فَاقَةُ الْمُفْتَاقِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ أَعْنِي قَوْلَهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَبَبِيَّةِ مَا قَبْلَهَا لِمَا بَعْدَهَا وَقِيلَ:
هِيَ لِلْعَطْفِ، وَالْخَبَرُ لِلْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَرْضَخُوا لِأَنْسَابِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ فَرَخَّصَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ عَنْهُ قال أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ لَا نَتَصَدَّقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ بَعْدَهَا عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَكَ مِنْ كُلِّ دِينٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ(1/336)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ نَسَبٌ وَقَرَابَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وكان يتقون أن لا يتصدّقوا عليهم ويريدوهم أَنْ يُسْلِمُوا، فَنَزَلَتْ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَمْرٍو الْهِلَالِيِّ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَتَصَدَّقُ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ فِي قَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ قَالَ: إِذَا أَعْطَيْتَ لِوَجْهِ اللَّهِ فَلَا عَلَيْكَ مَا كَانَ عَمَلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ مُهَاجِرُو قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: حَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلْغَزْوِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تِجَارَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمُ الْجِرَاحَاتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَصَارُوا زَمْنَى. فَجَعَلَ لَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ قَالَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ تِجَارَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ قَالَ: دَلَّ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ نَفَقَاتِهِمْ لَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضَعُوا نَفَقَاتِهِمْ فِيهِمْ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ قال: التخشع. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ أَنَّ مَعْنَاهُ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمُ الْجُهْدَ مِنَ الْحَاجَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ قَالَ: رَثَاثَةُ ثِيَابِهِمْ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا» وَقَدْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَرِيبٍ الْمُلَيْكِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ فِي أَصْحَابِ الْخَيْلِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ نَحْوَهُ قَالَ: فِيمَنْ لَا يَرْبُطُهَا خُيَلَاءَ وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُمُ الَّذِينَ يَعْلِفُونَ الْخَيْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، فَأَنْفَقَ بِاللَّيْلِ دِرْهَمًا، وَبِالنَّهَارِ دِرْهَمًا، وَدِرْهَمًا سِرًّا، وَدِرْهَمًا عَلَانِيَةً. وَعَبْدُ الْوَهَّابِ ضَعِيفٌ، وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ(1/337)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
الَّذِي افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا إِمْلَاقٍ، وَلَا تَبْذِيرٍ وَلَا فَسَادٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ عفان، في نفقتهم في جيش العسرة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 277]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ مُطْلَقًا، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو: إِذَا زَادَ، وَفِي الشَّرْعِ يُطْلَقُ عَلَى شَيْئَيْنِ، عَلَى رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ حَسْبَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَغَالِبُ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا حَلَّ أَجْلُ الدَّيْنِ قَالَ مَنْ هُوَ لَهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِذَا لَمْ يَقْضِ زَادَ مِقْدَارًا فِي الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَخَّرَ لَهُ الْأَجَلَ إِلَى حِينٍ. وَهَذَا حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقِيَاسُ كِتَابَةِ الرِّبَا بِالْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ فِي أَوَّلِهِ. وَقَدْ كَتَبُوهُ فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: عَلَى لُغَةِ مَنْ يُفَخِّمُ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَزِيدَتِ الْأَلِفُ بَعْدَهَا تَشْبِيهًا بِوَاوِ الْجَمْعِ.
انْتَهَى. قُلْتُ: وَهَذَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ لَا يَلْزَمُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذِهِ النُّقُوشَ الْكِتَابِيَّةَ أُمُورٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ لَا يُشَاحَحُ فِي مِثْلِهَا إِلَّا فِيمَا كَانَ يَدُلُّ بِهِ مِنْهَا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي أَصْلِ الْكَلِمَةِ وَنَحْوِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَبَاحِثِ الْخَطِّ مِنْ عِلْمِ الصَّرْفِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَرَسْمُ الْكَلِمَةِ وَجَعْلُ نَقْشِهَا الْكِتَابِيِّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ بِهَا هُوَ الْأَوْلَى، فَمَا كَانَ فِي النُّطْقِ أَلِفًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا كَانَ الْأَوْلَى فِي رَسْمِهِ أَنْ يكون كذلك، وكون أصل الْأَلِفِ وَاوًا أَوْ يَاءً لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُ عِلْمَ الصَّرْفِ، وَهَذِهِ النُّقُوشُ لَيْسَتْ إِلَّا لِفَهْمِ اللَّفْظِ الَّذِي يُدَلُّ بِهَا عَلَيْهِ كَيْفَ هُوَ فِي نُطْقِ مَنْ يَنْطِقُ بِهِ لَا لِتَفْهِيمِ أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ كَذَا مِمَّا لَا يَجْرِي بِهِ النُّطْقُ، فَاعْرِفْ هَذَا وَلَا تَشْتَغِلْ بِمَا يَعْتَبِرُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ النُّقُوشِ، وَيُلْزِمُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَعِيبُونَ من خالفه، فإن ذلك من المشاحّة فِي الْأُمُورِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ الَّتِي لَا تُلْزِمُ أَحَدًا أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهَا، فَعَلَيْكَ بِأَنْ تَرْسُمَ هَذِهِ النُّقُوشَ عَلَى مَا يَلْفِظُ بِهِ اللَّافِظُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الْمَطْلُوبُ مِنْ وَضْعِهَا وَالتَّوَاضُعِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى مَا هُوَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ الَّتِي يَتَلَفَّظُ بِهَا الْمُتَلَفِّظُ مِمَّا لَا يَجْرِي فِي لَفْظِهِ الْآنَ، فَلَا تَغْتَرَّ بِمَا يُرْوَى عَنْ سِيبَوَيْهِ وَنُحَاةِ الْبَصْرَةِ أَنْ يُكْتَبَ الرِّبَا بِالْوَاوِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي تَثْنِيَتِهِ رِبَوَانِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَتَثْنِيَتُهُ رِبَيَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
مَا رَأَيْتُ خَطَأً أَقْبَحَ مِنْ هَذَا وَلَا أَشْنَعَ، لَا يَكْفِيهِمُ الْخَطَأُ فِي الْخَطِّ حَتَّى يُخْطِئُوا فِي التَّثْنِيَةِ وَهُمْ يَقْرَءُونَ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا «1» وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُنَا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا اخْتِصَاصَ هَذَا الْوَعِيدِ بِمَنْ يَأْكُلُهُ، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يُعَامِلُ بِالرِّبَا فَيَأْخُذُهُ وَيُعْطِيهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْأَكْلُ لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلِكَوْنِهِ هُوَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ فَإِنَّ آخِذَ الرِّبَا إِنَّمَا أَخَذَهُ لِلْأَكْلِ، قَوْلُهُ: لَا يَقُومُونَ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يتخبّطه الشّيطان من المسّ يوم القيامة.
__________
(1) . الروم: 39.(1/338)
وأخرجه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّهُ يُبْعَثُ كَالْمَجْنُونِ عُقُوبَةً لَهُ وَتَمْقِيتًا عِنْدَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ مَنْ يَحْرِصُ فِي تِجَارَتِهِ فَيَجْمَعُ مَالَهُ مِنَ الرِّبَا بِقِيَامِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ الْحِرْصَ وَالطَّمَعَ وَالرَّغْبَةَ فِي الْجَمْعِ قَدِ اسْتَفَزَّتْهُ حَتَّى صَارَ شَبِيهًا فِي حَرَكَتِهِ بِالْمَجْنُونِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ وَيَضْطَرِبُ فِي حَرَكَاتِهِ: إِنَّهُ قَدْ جُنَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى في ناقته:
وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما ... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ
فَجَعَلَهَا بِسُرْعَةِ مَشْيِهَا وَنَشَاطِهَا كَالْمَجْنُونِ. قَوْلُهُ: إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ أَيْ: إِلَّا قِيَامًا كَقِيَامِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ، وَالْخَبْطُ: الضَّرْبُ بِغَيْرِ اسْتِوَاءٍ كَخَبْطِ الْعَشْوَاءِ وَهُوَ الْمَصْرُوعُ. وَالْمَسُّ:
الْجُنُونُ، وَالْأَمَسُّ: الْمَجْنُونُ، وَكَذَلِكَ الْأَوْلَقُ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَقُومُونَ أَيْ لَا يَقُومُونَ مِنَ الْمَسِّ الَّذِي بِهِمْ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أو متعلق بيقوم. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ:
إِنَّ الصَّرَعَ لَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْجِنِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الطَّبَائِعِ، وَقَالَ: إِنَّ الْآيَةَ خَارِجَةٌ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُهُ مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَصْرَعُ الْإِنْسَانَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْلُكُ فِي الْإِنْسَانِ وَلَا يَكُونُ مِنْهُ مَسٌّ. وَقَدِ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَهُ الشَّيْطَانُ، كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَالِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أَيْ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْبَيْعَ وَالرِّبَا شَيْئًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا شَبَّهُوا الْبَيْعَ بِالرِّبَا مُبَالَغَةً بِجَعْلِهِمُ الرِّبَا أَصْلًا وَالْبَيْعَ فَرْعًا، أَيْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ بِلَا زِيَادَةٍ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ كَالْبَيْعِ بِزِيَادَةٍ عِنْدَ حُلُولِهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ رِبًا إِلَّا ذَلِكَ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الرِّبَا. وَالْبَيْعُ مَصْدَرُ بَاعَ يَبِيعُ: أَيْ دَفَعَ عِوَضًا وَأَخَذَ مُعَوَّضًا، وَالْجُمْلَةُ بَيَانِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. قَوْلُهُ: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: مَنْ بَلَغَتْهُ مَوْعِظَةٌ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، وَمِنْهَا مَا وَقَعَ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا فَانْتَهى أَيْ: فَامْتَثَلَ النَّهْيَ الَّذِي جاءه وانزجر عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ:
أَيْ قَوْلُهُ: فَانْتَهى عَلَى قَوْلِهِ: جاءَهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: جاءَهُ أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً لموعظة، أي: كائنة مِنْ رَبِّهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ أَيْ: مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ مِنَ الرِّبَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، لِأَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ تَحْرِيمُ الرِّبَا، أَوْ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا. وَقَوْلُهُ: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ قيل:
الضمير عائد إلى الربا: أي: وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده واستمرار ذلك التحريم وقيل الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا سَلَفَ، أَيْ: أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ وَإِسْقَاطِ التَّبِعَةِ فِيهِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُرْبِي، أَيْ: أَمْرُ مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا إِلَى اللَّهِ فِي تَثْبِيتِهِ عَلَى الِانْتِهَاءِ أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَمَنْ عادَ إِلَى أَكْلِ الرِّبَا وَالْمُعَامَلَةِ بِهِ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ عَادَ، وَجَمْعُ أَصْحَابُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى: مَنْ عَادَ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقَوْلِ بِ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وَأَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، فَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْخُلُودُ مُسْتَعَارًا عَلَى مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: مُلْكٌ خَالِدٌ:
أَيْ: طَوِيلُ الْبَقَاءِ، وَالْمَصِيرُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَاجِبٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْقَاضِيَةِ بِخُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النار.(1/339)
قَوْلُهُ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أَيْ: يُذْهِبُ بَرَكَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلَا يَبْقَى بِيَدِ صَاحِبِهِ وَقِيلَ: يَمْحَقُ بَرَكَتَهُ فِي الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أَيْ: يَزِيدُ فِي الْمَالِ الَّذِي أُخْرِجَتْ صَدَقَتُهُ وَقِيلَ: يُبَارِكُ فِي ثَوَابِ الصَّدَقَةِ وَيُضَاعِفُهُ وَيَزِيدُ فِي أَجْرِ الْمُتَصَدِّقِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ أَيْ: لَا يَرْضَى، لِأَنَّ الْحُبَّ مُخْتَصٌّ بِالتَّوَّابِينَ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ وَتَغْلِيظٌ عَظِيمٌ عَلَى مَنْ أَرْبَى حَيْثُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ، وَوَصَفَهُ بِأَثِيمٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَقِيلَ: لِإِزَالَةِ الِاشْتِرَاكِ، إِذْ قَدْ يَقَعُ عَلَى الزُّرَّاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: كُلَّ كَفَّارٍ مَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ خَصْلَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَوَجْهُ الْتِصَاقِهِ بِالْمَقَامِ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا:
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا كُفَّارٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابن عباس فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ قَالَ: يُعْرَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْقِيَامَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمُتَخَبِّطُ الْمُنْخَنِقُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وَمَنْ عادَ فَأَكَلَ الرِّبَا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَا يَقُومُونَ قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ.
وَأَخْرَجَ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَرْغِيبِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخْتَبِلًا يَجُرُّ شَفَتَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَعْظِيمِ ذَنْبِ الرِّبَا، مِنْهَا: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ «1» » وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِ «سَبْعُونَ بَابًا» وَوَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ اخْتِلَافِ الْعَدَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِهِمْ خَبَلٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: «لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . يَعْنِي قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَسْجِدِ فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا آيَةَ الرِّبَا، وَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا فَدَعُوا مَا يُرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ آيَةُ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الرِّبَا الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَيَقُولُ:
لَكَ كَذَا وَكَذَا وَتُؤَخِّرُ عَنِّي فَيُؤَخِّرُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
__________
(1) . إن أربى الربا عرض الرجل المسلم: أي استحقاره والترفع عليه والوقيعة فيه [فيض القدير 4/ 50] .(1/340)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
جُبَيْرٍ نَحْوَهُ أَيْضًا وَزَادَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ قَالَ: يَعْنِي الْبَيَانُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فَانْتَهَى عَنْهُ: فَلَهُ مَا سَلَفَ يَعْنِي: فَلَهُ مَا كَانَ أَكَلَ مِنَ الرِّبَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يَعْنِي:
بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَبَعْدَ تَرْكِهِ، إِنْ شَاءَ عَصَمَهُ مِنْهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَمَنْ عادَ يَعْنِي: فِي الرِّبَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ فَاسْتَحَلَّهُ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَعْنِي: لَا يَمُوتُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا قَالَ:
يُنْقِصُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ قَالَ: يَزِيدُ فِيهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَصَدَّقُ بِالْكِسْرَةِ تَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ» وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تبين معنى الآية.
[سورة البقرة (2) : الآيات 278 الى 281]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
قَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ أَيْ: قُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ عِقَابِهِ، وَاتْرُكُوا الْبَقَايَا الَّتِي بَقِيَتْ لَكُمْ مِنَ الرِّبَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَبْطَلَ مِنَ الرِّبَا مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا. قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: هُوَ شَرْطٌ مَجَازِيٌّ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ وَقِيلَ: إِنَّ «إِنْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى إِذْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى:
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ امْتِثَالَ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا يَعْنِي:
مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الِاتِّقَاءِ وَتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ: فَاعْلَمُوا بِهَا، مِنْ أُذِنَ بِالشَّيْءِ: إِذَا عُلِمَ بِهِ قِيلَ: هُوَ مِنَ الْإِذْنِ بِالشَّيْءِ: وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ، لِأَنَّهُ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ: «فَآذِنُوا» عَلَى مَعْنَى: فَأَعْلِمُوا غَيْرَكُمْ أَنَّكُمْ عَلَى حَرْبِهِمْ، وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ: عَلَى أَنَّ أَكْلَ الرِّبَا وَالْعَمَلَ بِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَتَنْكِيرُ الْحَرْبِ: لِلتَّعْظِيمِ، وَزَادَهَا تَعْظِيمًا نِسْبَتُهَا إِلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، وَإِلَى رَسُولِهِ الذي هو أشرف خليقته. قوله: وَإِنْ تُبْتُمْ أي: من الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ تَأْخُذُونَهَا لَا تَظْلِمُونَ غُرَمَاءَكُمْ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَلا تُظْلَمُونَ أَنْتُمْ مِنْ قِبَلِهِمْ بِالْمَطْلِ وَالنَّقْصِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ حَلَالٌ لِمَنْ أَخَذَهَا مِنَ الْأَئِمَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَنُوبُ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ لَمَّا حَكَمَ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ الرِّبَا بِرُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ عِنْدَ(1/341)
الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنّظرة إِلَى يَسَارٍ، وَالْعُسْرَةُ: ضِيقُ الْحَالِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمَالِ، وَمِنْهُ جَيْشُ الْعُسْرَةِ. وَالنَّظِرَةُ: التَّأْخِيرُ، وَالْمَيْسَرَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْيُسْرِ، وَارْتَفَعَ ذُو بَكَانِ التَّامَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى وُجِدَ، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
فِدًى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْهَبُ
وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ عَلَى مَعْنَى: وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ ذَا عُسْرَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا» . قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَرَوَى الْمُعْتَمِرُ عَنْ حَجَّاجٍ الْوَرَّاقِ قَالَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ: وَإِنْ كان ذا عُسْرَةٍ قَالَ النَّحَّاسُ وَمَكِّيٌّ وَالنَّقَّاشُ: وَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ لَفْظُ الْآيَةِ بِأَهْلِ الرِّبَا، وَعَلَى مَنْ قَرَأَ: ذُو، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
وَقَرَأَ الْجَمَاعَةُ فَنَظِرَةٌ بِكَسْرِ الظَّاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ بِسُكُونِهَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ: مَيْسُرَةٍ بِضَمِّ السِّينِ، وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ الْيَسَارُ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ: أَيْ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا عَلَى مُعْسِرِي غُرَمَائِكُمْ بِالْإِبْرَاءِ خَيْرٌ لَكُمْ، وَفِيهِ التَّرْغِيبُ لَهُمْ بِأَنْ يَتَصَدَّقُوا بِرُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَنْ أَعْسَرَ وَجَعَلَ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ إِنْظَارِهِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ خَيْرٌ لَكُمْ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَدْخَلٌ لِلْغَنِيِّ. قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ عَمِلْتُمْ بِهِ. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّهْوِيلِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لَا ظَرْفٌ. وَقَوْلُهُ: تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَصْفٌ لَهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَالْبَاقُونَ: بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ الْمَذْكُورَ هُوَ يَوْمُ الْمَوْتِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ:
إِلَى أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: إِلَى اللَّهِ فِيهِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: إِلَى حُكْمِ اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مِنَ النُّفُوسِ الْمُكَلَّفَةِ مَا كَسَبَتْ أَيْ: جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ حَالِيَّةٌ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِحَالِ الْجَزَاءِ، كَمَا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَنْسَبُ بِحَالِ الْكَسْبِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٍ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسْلِفَانِ الرِّبَا إِلَى نَاسٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فِي الرِّبَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُمْ مِنْ رِبًا عَلَى النَّاسِ، وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ بَنُو الْمُغِيرَةِ يَرْبُونَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَتَاهُمْ بَنُو عَمْرٍو يَطْلُبُونَ رِبَاهُمْ، فَأَبَى بَنُو الْمُغِيرَةِ أَنْ يُعْطُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَرَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، فَكَتَبَ عَتَّابٌ إِلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا(1/342)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا
فَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَتَّابٍ وَقَالَ: إِنْ رَضُوا وَإِلَّا فَأْذَنْهُمْ بِحَرْبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ قَالَ: مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الرِّبَا لَا يَنْزِعُ مِنْهُ فَحَقٌّ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ نَزَعَ وَإِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ. وَأَخْرَجُوا أَيْضًا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ قَالَ: اسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ. وَأَخْرَجَ أَهْلُ السنن وغيرهم عن عمر بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، لكم رؤوس أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، وَأَوَّلُ رِبًا مَوْضُوعٌ رِبَا الْعَبَّاسِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو وَأَصْحَابِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الرِّبَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ شُرَيْحٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَكَذَلِكَ كَلُّ دَيْنٍ عَلَى مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي التَّرْغِيبِ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مُعْسِرٍ أَنْ يُنْظِرَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ القرآن على النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَبَيْنَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى وَثَمَانُونَ يَوْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ عَاشَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِهَا تِسْعَ لَيَالٍ ثُمَّ مَاتَ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 283]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)(1/343)
هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُدَايَنَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الرِّبَا، أَيْ: إِذَا دَايَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَعَامَلَهُ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ الدَّيْنَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ الْمُدَايَنَةِ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» وَقِيلَ: إِنَّهُ ذُكِرَ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وَلَوْ قَالَ: فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْحُسْنِ مَا فِي قَوْلِهِ: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ وَالدَّيْنُ: عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مُعَامَلَةٍ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهَا نَقْدًا، وَالْآخَرُ فِي الذِّمَّةِ نَسِيئَةً، فَإِنَّ الْعَيْنَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا كَانَ حَاضِرًا، وَالدَّيْنَ مَا كَانَ غَائِبًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَعَدَتْنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاءً ... وَشِوَاءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ
وَقَالَ الْآخَرُ:
إِذَا مَا أَوْقَدُوا حطبا ونارا ... فَذَاكَ الْمَوْتُ نَقْدًا غَيْرَ دَيْنِ
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ لَا يَجُوزُ وَخُصُوصًا أَجْلُ السَّلَمِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَاشْتَرَطُوا تَوْقِيتَهُ بِالْأَيَّامِ أَوِ الْأَشْهُرِ أَوِ السِّنِينَ، قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ إِلَى الْحَصَادِ، أَوِ الدِّيَاسِ، أَوْ رُجُوعِ الْقَافِلَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ. قَوْلُهُ: فَاكْتُبُوهُ أَيِ:
الدَّيْنَ بِأَجَلِهِ، لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلنِّزَاعِ، وَأَقْطَعُ لِلْخِلَافِ. قَوْلُهُ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ هُوَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْكِتَابَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَأَوْجَبُوا عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ كَاتِبٌ سِوَاهُ وَقِيلَ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ. وَقَوْلُهُ: بِالْعَدْلِ متعلق بمحذوف صفة لكاتب، أَيْ: كَاتِبٌ كَائِنٌ بِالْعَدْلِ، أَيْ: يَكْتُبُ بِالسَّوِيَّةِ، لَا يَزِيدُ وَلَا يُنْقِصُ، وَلَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ بِاخْتِيَارِ كَاتِبٍ مُتَّصِفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وَلَا قَلَمِهِ هَوَادَةٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، بَلْ يَتَحَرَّى الْحَقَّ بَيْنَهُمْ وَالْمَعْدَلَةَ فِيهِمْ. قَوْلُهُ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مُشْعِرَةٌ بِالْعُمُومِ، أَيْ: لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنَ الْكُتَّابِ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ التَّدَايُنِ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، أَيْ: عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابَةِ، أَوْ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: بِالْعَدْلِ. قَوْلُهُ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ الْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ لُغَتَانِ: الْأُولَى: لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبَنِي أَسَدٍ. وَالثَّانِيَةُ: لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ. فَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ عَلَى اللُّغَةِ الْأُولَى، وَجَاءَ عَلَى اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «2» والَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالتَّقْوَى فِيمَا يُمْلِيهِ عَلَى الْكَاتِبِ، بَالَغَ فِي ذَلِكَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَنَهَاهُ عَنِ الْبَخْسِ وَهُوَ: النَّقْصُ وَقِيلَ: إِنَّهُ نَهْيٌ لِلْكَاتِبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يُتَوَقَّعُ مِنْهُ النَّقْصُ، وَلَوْ كَانَ نَهْيًا لِلْكَاتِبِ لم يقتصره فِي نَهْيِهِ عَلَى النَّقْصِ، لِأَنَّهُ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ كَمَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ النَّقْصُ. وَالسَّفِيهُ:
هُوَ الَّذِي لَا رَأْيَ لَهُ فِي حُسْنِ التَّصَرُّفِ فَلَا يُحْسِنُ الْأَخْذَ وَلَا الْإِعْطَاءَ، شُبِّهَ بِالثَّوْبِ السَّفِيهِ، وَهُوَ: الْخَفِيفُ النَّسْجِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ السَّفَهَ عَلَى ضَعْفِ الْعَقْلِ تَارَةً، وَعَلَى ضَعْفِ الْبَدَنِ أخرى، فمن الأوّل قول الشاعر:
__________
(1) . الأنعام: 38.
(2) . الفرقان: 5.(1/344)
نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلَامُنَا ... وَنَجْهَلَ الدَّهْرَ مَعَ الْجَاهِلِ
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
أَيِ: اسْتَضْعَفَهَا وَاسْتَلَانَهَا بِحَرَكَتِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّفِيهُ: هُوَ الْمُبَذِّرُ إِمَّا لِجَهْلِهِ بِالصَّرْفِ، أَوْ لِتَلَاعُبِهِ بِالْمَالِ عَبَثًا، مَعَ كَوْنِهِ لَا يَجْهَلُ الصَّوَابَ. وَالضَّعِيفُ: هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، أَوِ الصَّبِيُّ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الضَّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ فِي الْبَدَنِ، وَبِفَتْحِهَا فِي الرَّأْيِ. وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ: الْأَخْرَسُ، أَوِ الْعَيِيُّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ كَمَا يَنْبَغِي وَقِيلَ: إِنَّ الضَّعِيفَ هُوَ الْمَذْهُولُ الْعَقْلِ، النَّاقِصُ الْفِطْنَةِ، الْعَاجِزُ عَنِ الْإِمْلَاءِ، وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ الصَّغِيرُ. قَوْلُهُ: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فَيُمِلُّ عَنِ السَّفِيهِ وَلِيُّهُ الْمَنْصُوبُ عَنْهُ بَعْدَ حَجْرِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَيُمِلُّ عَنِ الصَّبِيِّ وَصِّيُهُ أَوْ وَلِيُّهُ، وَكَذَلِكَ يُمِلُّ عَنِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْإِمْلَالَ لِضَعْفِ وَلِيِّهِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ أَوِ الْمَنْصُوبِ عَنْهُ مِنَ الْإِمَامِ أَوِ الْقَاضِي، وَيُمِلُّ عَنِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ وَكِيلُهُ، إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ، وَعَرَضَتْ لَهُ آفَةٌ فِي لِسَانِهِ أَوْ لَمْ تَعْرِضْ، وَلَكِنَّهُ جَاهِلٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ كَمَا يَنْبَغِي. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُّهُ يَعُودُ إِلَى الْحَقُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَتَصَرُّفُ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ دُونَ وَلِيِّهِ فَاسِدٌ إِجْمَاعًا، مَفْسُوخٌ أَبَدًا، لَا يُوجِبُ حُكْمًا، وَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا، فَإِنْ تَصَرَّفَ سَفِيهٌ وَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ فَفِيهِ خِلَافٌ. انْتَهَى. قَوْلُهُ:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ الِاسْتِشْهَادُ: طَلَبُ الشَّهَادَةِ، وَسَمَّاهُمَا شَهِيدَيْنِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ مِنْ مَجَازِ الأول، أي: باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة، ومِنْ رِجالِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ: صِفَةٌ لِشَهِيدَيْنِ، أَيْ: كَائِنَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ، أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَخْرُجُ الْكُفَّارُ، وَلَا وَجْهَ لِخُرُوجِ الْعَبِيدِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَهُمْ إِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ:
لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: يَصِحُّ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ: بِأَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ بِالْمُدَايَنَةِ، وَالْعَبِيدُ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا تَجْرِي فِيهِ الْمُعَامَلَةُ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَأَيْضًا:
الْعَبْدُ تَصِحُّ مِنْهُ الْمُدَايَنَةُ، وَسَائِرُ الْمُعَامَلَاتِ إِذَا أَذِنَ لَهُ مَالِكُهُ بِذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلِ الْإِشْهَادُ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى الأشعري، وابن عمر، والضحاك، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ وَابْنُهُ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ هُوَ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ. وَاسْتَدَلَّ الْمُوجِبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْأَمْرِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا فَيَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَقُولُوا بِوُجُوبِهِ فِي الْمُدَايَنَةِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُونا أَيِ: الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أَيْ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ(1/345)
يَكْفُونَ. وَقَوْلُهُ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ مُتَعَلِّقٌ بمحذوف وقع صفة لرجل وَامْرَأَتَانِ، أَيْ: كَائِنُونَ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، حَالَ كَوْنِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ. وَالْمُرَادُ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُمْ وَعَدَالَتَهُمْ، وَفِيهِ: أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ بِرَجُلٍ، وَأَنَّهَا لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إِلَّا مَعَ الرَّجُلِ لَا وَحْدَهُنَّ، إِلَّا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ لِلضَّرُورَةِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي كَمَا جَازَ الْحُكْمُ بِرَجُلٍ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ الْمَرْأَتَيْنِ كَالرَّجُلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْخِلَافِ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي، وَالْحَقُّ أَنَّهُ جَائِزٌ لِوُرُودِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ لَمْ تُخَالِفْ مَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَيَتَعَيَّنُ قَبُولُهَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى وَغَيْرِهِ مِنْ مُؤَلَّفَاتِنَا، وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَفْهَمُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُرَدُّ بِهِ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلَمْ يَدْفَعُوا هَذَا إِلَّا بِقَاعِدَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ هِيَ قولهم: إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، بَلِ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ شَرِيعَةٌ ثَابِتَةٌ جَاءَنَا بِهَا مَنْ جَاءَنَا بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهَا، وَأَيْضًا كَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَحْكُمُوا بِنُكُولِ الْمَطْلُوبِ وَلَا بِيَمِينِ الرَّدِّ عَلَى الطَّالِبِ. وَقَدْ حَكَمُوا بِهِمَا. وَالْجَوَابُ الْجَوَابُ. قَوْلُهُ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَى تَضِلَّ: تَنْسَى. وَالضَّلَالُ عَنِ الشَّهَادَةِ:
إِنَّمَا هُوَ نِسْيَانُ جُزْءٍ مِنْهَا وَذِكْرُ جُزْءٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: «إِنْ تَضِلَّ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَوْلُهُ: فَتُذَكِّرَ جَوَابُهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هُوَ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى تَضِلَّ، وَمَنْ رَفَعَهُ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو «فَتُذْكِرَ» بِتَخْفِيفِ الذَّالِ وَالْكَافِ، وَمَعْنَاهُ: تَزِيدُهَا ذِكْرًا. وقراءة الجماعة:
بالتشديد، أي: تنبهها إِذَا غَفَلَتْ وَنَسِيَتْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعْلِيلٌ لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي النِّسَاءِ، أَيْ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَتَشْهَدِ امْرَأَتَانِ عِوَضًا عَنِ الرَّجُلِ الْآخَرِ، لِأَجْلِ تَذْكِيرِ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى إِذَا ضَلَّتْ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَهُوَ سُؤَالُ سَائِلٍ عَنْ وَجْهِ اعْتِبَارِ امْرَأَتَيْنِ عِوَضًا عَنِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، فَقِيلَ: وَجْهُهُ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَالْعِلَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ التَّذْكِيرُ، وَلَكِنَّ الضَّلَالَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، وأبهم الفاعل في تضلّ وتذكر، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْوَصْفَانِ فَالْمَعْنَى: إِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ ذَكَّرَتْهَا هَذِهِ، وَإِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ ذَكَّرَتْهَا هَذِهِ، لَا عَلَى التَّعْيِينِ، أَيْ: إِنْ ضَلَّتْ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ ذَكَّرَتْهَا الْمَرْأَةُ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ فِيهِمَا هَذَا التَّذْكِيرُ لِمَا يَلْحَقُهُمَا مِنْ ضَعْفِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ الرِّجَالِ. وَقَدْ يَكُونُ الْوَجْهُ فِي الْإِبْهَامِ: أَنَّ ذَلِكَ، يَعْنِي: الضَّلَالَ والتذكر يَقَعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاوِبًا حَتَّى رُبَّمَا ضَلَّتْ هَذِهِ عَنْ وَجْهٍ وَضَلَّتْ تِلْكَ عَنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَذَكَّرَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَاحِبَتَهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى تُصَيِّرَهَا ذَكَرًا، يَعْنِي أَنَّ مَجْمُوعَ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مِثْلُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعٌ وَلَا لُغَةٌ وَلَا عَقْلٌ. قَوْلُهُ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا أَيْ: لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي قَدْ تَحَمَّلُوهَا مِنْ قَبْلُ وَقِيلَ: إِذَا مَا دُعُوا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَتَسْمِيَتُهُمْ شُهَدَاءَ مَجَازٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحَمَلَهَا الْحَسَنُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ. وَظَاهِرُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حَرَامٌ. قوله: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ مَعْنَى تَسْأَمُوا: تَمَلُّوا. قَالَ الْأَخْفَشُ: يقال سئمت أسأم سآمة وسآما، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:(1/346)
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أَبَا لَكَ يَسْأَمِ
أَيْ: لَا تَمَلُّوا أَنْ تَكْتُبُوهُ، أَيِ: الدَّيْنَ الَّذِي تَدَايَنْتُمْ بِهِ وَقِيلَ: الْحَقُّ وَقِيلَ: الشَّاهِدُ وَقِيلَ: الْكِتَابُ، نَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا مَلُّوا مِنْ كَثْرَةِ الْمُدَايَنَةِ أَنْ يَكْتُبُوا، ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: صَغِيراً أَوْ كَبِيراً أَيْ: حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، أَيْ: لَا تَمَلُّوا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا وَقِيلَ: إِنَّهُ كَنَّى بِالسَّآمَةِ عَنِ الْكَسَلِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدَّمَ الصَّغِيرَ هُنَا عَلَى الْكَبِيرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِدَفْعِ مَا عَسَاهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا مَالٌ صَغِيرٌ، أَيْ: قَلِيلٌ لَا احْتِيَاجَ إِلَى كَتْبِهِ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى الْمَكْتُوبِ الْمَذْكُورِ فِي ضَمِيرِ قَوْلِهِ: أَنْ تَكْتُبُوهُ وأَقْسَطُ مَعْنَاهُ: أَعْدَلُ، أَيْ: أَصَحُّ وَأَحْفَظُ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أَيْ: أَعْوَنُ عَلَى إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، وَأَثْبَتُ لَهَا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ مِنْ: أَقَامَ، وَكَذَلِكَ أَقْسَطُ مَبْنِيٌّ مِنْ فِعْلِهِ، أَيْ: أَقْسَطَ. وَقَدْ صَرَّحَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّهُ قِيَاسِيٌّ، أَيْ: بُنِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَمَعْنَى قوله: وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أَقْرَبُ لِنَفْيِ الرَّيْبِ فِي مُعَامَلَاتِكُمْ، أَيِ: الشَّكِّ، وَلِذَلِكَ أَنَّ الْكُتَّابَ الَّذِي يَكْتُبُونَهُ يَدْفَعُ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الرَّيْبِ كَائِنًا مَا كَانَ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ أَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ قاله الأخفش، وكان تَامَّةٌ: أَيْ إِلَّا أَنْ تَقَعَ أَوْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ:
لَكِنَّ وَقْتَ تَبَايُعِكُمْ وَتِجَارَتُكُمْ حَاضِرَةٌ بِحُضُورِ الْبَدَلَيْنِ، تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ تَتَعَاطَوْنَهَا يَدًا بِيَدٍ، فَالْإِدَارَةُ:
التَّعَاطِي وَالتَّقَابُضُ، فَالْمُرَادُ: التَّبَايُعُ النَّاجِزُ يَدًا بِيَدٍ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ إِنْ تركتم كتابته. وقرئ: بنصب تجارة، على أن كل نَاقِصَةً، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ تِجَارَةً حَاضِرَةً. قَوْلُهُ: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ قِيلَ مَعْنَاهُ: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور هنا، وَهُوَ التِّجَارَةُ الْحَاضِرَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهَا يَكْفِي وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِذَا تَبَايَعْتُمْ أَيَّ تَبَايُعٍ كَانَ حَاضِرًا أَوْ كَالِئًا «1» ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْفَعُ لِمَادَّةِ الْخِلَافِ وَأَقْطَعُ لِمَنْشَأِ الشِّجَارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ هَذَا الْإِشْهَادِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا. قَوْلُهُ: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَوْ لِلْمَفْعُولِ فَعَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ: لَا يُضَارِرْ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ مِنْ طَلَبِ ذَلِكَ مِنْهُمَا، إِمَّا بِعَدَمِ الْإِجَابَةِ، أَوْ بِالتَّحْرِيفِ، وَالتَّبْدِيلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي كِتَابَتِهِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ: «وَلَا يُضَارِرْ» بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُضَارَرْ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ، بِأَنْ يُدْعَيَا إِلَى ذَلِكَ وَهُمَا مَشْغُولَانِ بِمُهِمٍّ لَهُمَا، وَيُضَيَّقَ عَلَيْهِمَا فِي الْإِجَابَةِ، وَيُؤْذَيَا إِنْ حَصَلَ مِنْهُمَا التَّرَاخِي، أَوْ يُطْلَبَ مِنْهُمَا الْحُضُورُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ:
«وَلَا يُضَارَرْ» بِفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى، وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها «2» مَا إِذَا رَاجَعْتَهُ زَادَكَ بَصِيرَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تَفْعَلُوا أَيْ:
مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ مِنَ الْمُضَارَّةِ فَإِنَّهُ أَيْ: فِعْلُكُمْ هَذَا فُسُوقٌ بِكُمْ أَيْ: خُرُوجٌ عَنِ الطَّاعَةِ إِلَى المعصية،
__________
(1) . ورد في الحديث أنه صلّى الله عليه وسلم: نهى عن الكالئ بالكالئ. أي: النسيئة بالنسيئة، وذلك أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض.
[النهاية 4/ 194] . [.....]
(2) . البقرة: 233.(1/347)
مُلْتَبِسٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي فِعْلِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ، وَفِيهِ الْوَعْدُ لِمَنِ اتَّقَاهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «1» . قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَشْرُوعِيَّةَ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ لِحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَدَفْعِ الرَّيْبِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حَالَةِ الْعُذْرِ عَنْ وُجُودِ الْكَاتِبِ، وَنَصَّ عَلَى حَالَةِ السَّفَرِ، فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ الْعُذْرِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ كُلُّ عُذْرٍ يَقُومُ مَقَامَ السَّفَرِ، وَجَعَلَ الرِّهَانَ الْمَقْبُوضَةَ قَائِمَةً مَقَامَ الْكِتَابَةِ، أَيْ: فَإِنْ كُنْتُمْ مُسَافِرِينَ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فِي سَفَرِكُمْ فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الرَّهْنُ فِي السَّفَرِ ثَابِتٌ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، وَفِي الْحَضَرِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ رَهَنَ دِرْعًا لَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «كَاتِبًا» أَيْ رَجُلًا يَكْتُبُ لَكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ:
«كِتَابًا» قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ فَقَالَ: مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مِدَادًا: يَعْنِي فِي الْأَسْفَارِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ «فَرُهُنٌ» بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ. وَرُوِيَ عَنْهُمَا تَخْفِيفُ الْهَاءِ جَمْعُ رِهَانٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَقَرَأَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ «فَرَهْنٌ» بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: «رِهَانٌ» .
قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ فِي الرَّهْنِ: رَهَنْتُ وأرهنت، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْأَخْفَشُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ:
يُقَالُ: أَرْهَنْتُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَأَمَّا فِي الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ: فَرَهَنْتُ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الرُّوَاةُ كُلُّهُمْ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكًا
عَلَى أَرْهَنْتُهُمْ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ: رَهَنْتُهُ وَأَرْهَنْتُهُ، إِلَّا الْأَصْمَعِيَّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ وَأَرْهَنُهُمْ عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ لِفِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ عَلَى فِعْلٍ مَاضٍ، وَشَبَّهَهُ بِقَوْلِهِ: قُمْتُ وَأَصُكُّ وَجْهَهُ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَرْهَنْتُ فِيهِمَا: بِمَعْنَى أَسْلَفْتُ، وَالْمُرْتَهِنُ الَّذِي يَأْخُذُ الرَّهْنَ، وَالشَّيْءُ مَرْهُونٌ وَرَهِينٌ، وَرَاهَنْتُ فُلَانًا عَلَى كَذَا مُرَاهَنَةً: خَاطَرْتُهُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَبْضِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الِارْتِهَانُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ دُونِ قَبْضٍ. قَوْلُهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أَيْ: إِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَمِينًا عِنْدَ صَاحِبِ الْحَقِّ، لِحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ، وَأَمَانَتِهِ لَدَيْهِ، وَاسْتَغْنَى بِأَمَانَتِهِ عَنِ الِارْتِهَانِ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ وَهُوَ الْمَدْيُونُ أَمانَتَهُ أَيِ: الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ، وَالْأَمَانَةُ: مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، وَأَضَافَهَا إِلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَهَا إِلَيْهِ نِسْبَةً، وَقُرِئَ «ايتَمَنَ» بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَقُرِئَ بِإِدْغَامِ الْيَاءِ فِي التَّاءِ وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمُنْقَلِبَةَ مِنَ الْهَمْزَةِ لَا تُدْغَمُ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِهَا وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فِي أَنْ لَا يَكْتُمَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ نَهْيٌ لِلشُّهُودِ أَنْ يَكْتُمُوا مَا تَحَمَّلُوهُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ فِي حُكْمِ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ:
وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ أَيْ: لَا يُضَارِرْ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ خَصَّ الْقَلْبَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْكَتْمَ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَلِكَوْنِهِ رَئِيسَ الْأَعْضَاءِ، وَهُوَ الْمُضْغَةُ الَّتِي إِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ كُلُّهُ، وَارْتِفَاعُ الْقَلْبِ: عَلَى أنه فاعل أو مبتدأ، وآثم: خَبَرُهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ: بَدَلًا مِنْ آثِمٌ، بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) . الأنفال: 29.(1/348)
أَيْضًا: بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي آثِمٌ الرَّاجِعِ إِلَى مَنْ، وَقُرِئَ «قَلْبَهُ» بِالنَّصْبِ كَمَا في قوله: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ «1» .
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْهُ قَالَ: أَشْهَدُ: أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أن الله أحلّه، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ. قَالَ: أَمَرَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمُدَايَنَةِ لِكَيْلَا يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ جُحُودٌ وَلَا نِسْيَانٌ، فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ عَصَى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ يَعْنِي: مَنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةٍ، أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْبَى إِذَا مَا دُعِيَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَالضِّرَارُ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ وَهُوَ عَنْهُ غَنِيٌّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكَ أَنْ لَا تَأْبَى إِذَا دُعِيتَ، فَيُضَارُّهُ بِذَلِكَ وَهُوَ مُكْتَفٍ بِغَيْرِهِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ:
وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ يَعْنِي: مَعْصِيَةً. قَالَ: وَمِنَ الْكَبَائِرِ كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:
وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ:
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ قَالَ: وَاجِبٌ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَتِ الْكِتَابَةُ عَزِيمَةً فَنَسَخَهَا وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
قَالَ: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً قَالَ: هُوَ الْجَاهِلُ أَوْ ضَعِيفاً قَالَ: هُوَ الْأَحْمَقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: سَفِيهاً قَالَا: هُوَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ قَالَ: صَاحِبُ الدَّيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الْحَسَنِ قَالَ: وَلِيُّ الْيَتِيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: وَلِيُّ السَّفِيهِ أَوِ الضَّعِيفِ. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رِجالِكُمْ
قَالَ: مِنَ الْأَحْرَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ قَالَ:
عُدُولٌ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَدْلَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما يَقُولُ: أَنْ تَنْسَى إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ الشَّهَادَةَ فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى يَعْنِي: تُذَكِّرُهَا الَّتِي حَبِطَتْ شَهَادَتُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ قَالَ: إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ شَهَادَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَطُوفُ فِي الْقَوْمِ الْكَثِيرِ يَدْعُوهُمْ يَشْهَدُونَ فَلَا يَتْبَعُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَتْ:
أَعْدَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ قَالَ: يَأْتِي الرَّجُلُ الرَّجُلَيْنِ فَيَدْعُوهُمَا إِلَى الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ فَيَقُولَانِ إِنَّا عَلَى حَاجَةٍ، فَيَقُولُ إِنَّكُمَا قَدْ أُمِرْتُمَا أن تحبيبا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَارَّهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن طاوس لا يُضَارَّ كاتِبٌ، فيكتب ما
__________
(1) . البقرة: 130.(1/349)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
لَمْ يُمِلَّ عَلَيْهِ وَلا شَهِيدٌ فَيَشْهَدُ بِمَا لَمْ يَسْتَشْهِدْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ الْآيَةَ، قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى سَفَرٍ فَبَايَعَ بَيْعًا إِلَى أَجَلٍ فَلَمْ يَجِدْ كَاتِبًا فَرَخَّصَ لَهُ فِي الرِّهَانِ الْمَقْبُوضَةِ، وَلَيْسَ لَهُ إِنْ وَجَدَ كَاتِبًا أَنْ يَرْتَهِنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا يَكُونُ الرَّهْنُ إِلَّا فِي السَّفَرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يَكُونُ الرَّهْنُ إِلَّا مَقْبُوضًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ حَتَّى بَلَغَ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً قَالَ: هَذِهِ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا. وَأَقُولُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ، لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ، فَهَذَا مُقَيَّدٌ بِالِائْتِمَانِ، وَمَا قَبْلَهُ ثَابِتٌ مُحْكَمٌ لَمْ يُنْسَخْ وَهُوَ مَعَ عَدَمِ الِائْتِمَانِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: آثِمٌ قَلْبُهُ قَالَ: فَاجِرٌ قَلْبُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَحْدَثَ الْقُرْآنِ بِالْعَرْشِ آيَةُ الدَّيْنِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: آخِرُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بالعرش آية الربا وآية الدين.
[سورة البقرة (2) : آية 284]
لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
قَوْلُهُ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ظَاهِرُهُ: أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَضْمَرَتْهُ أَنْفُسُهُمْ أَوْ أَظْهَرَتْهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُحَاسَبُ عَلَيْهَا، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ مَا يَغْفِرُهُ مِنْهَا، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ بِمَا أَسَرَّ أَوْ أَظْهَرَ مِنْهَا، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً، فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْكَاتِمَ لِلشَّهَادَةِ يُحَاسَبُ عَلَى كَتْمِهِ سَوَاءً أَظَهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ كَاتِمٌ لِلشَّهَادَةِ أَوْ لَمْ يُظْهِرْ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا فِي الْآيَةِ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَلَا يَصْلُحُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ كَتْمِ الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَا فِي الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِمَا يَطْرَأُ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصَّصٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ عَامَّةٌ، وَلَكِنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ يَخْتَصُّ بِالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ، وَهُوَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصَّصٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضٍ مُعَيَّنٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِمَا سَيَأْتِي مِنَ التَّصْرِيحِ بِنَسْخِهَا، وَلِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا» . قَوْلُهُ: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ عَلَى الْفَاعِلِ لِإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِهِ، وَقَدَّمَ الْإِبْدَاءَ عَلَى الْإِخْفَاءِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُحَاسَبُ عَلَيْهَا هُوَ الْأَعْمَالُ البادية،(1/350)
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْإِخْفَاءِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ «1» فَلِكَوْنِ الْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ الْخَافِيَةِ وَالْبَادِيَةِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَقَدَّمَ الْمَغْفِرَةَ عَلَى التَّعْذِيبِ لِكَوْنِ رَحْمَتِهِ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ: أَيْ فَهُوَ يَغْفِرُ، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِتَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَنَافِعٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ: بِجَزْمِ الرَّاءِ وَالْبَاءِ، فَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ لِمَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَجْزُومِ قَبْلَهَا، وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ:
أَعْنِي قَوْلَهُ: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: بِنَصْبِ الرَّاءِ وَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَيَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ:
يَغْفِرُ بِغَيْرِ فَاءٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُعْفِيُّ، وَخَلَّادٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ، اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا نُطِيقُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ «2» فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَثَرِهَا: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ «3» الْآيَةَ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَزَادَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا «4» قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا «5» قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ «6» قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا «7» الْآيَةَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسبه ابن عمر إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قَالَ:
نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا.
وَبِمَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ يَظْهَرُ لَكَ ضَعْفُ مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الصَّحَابَةِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَبَعْدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالنَّسْخِ وَالنَّاسِخِ لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لِمُخَالَفَتِهَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُلُّ عَبْدٍ هَمَّ بِسُوءٍ وَمَعْصِيَةٍ وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِهِ حَاسَبَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، يَخَافُ وَيَحْزَنُ، وَيَشْتَدُّ هَمُّهُ، لَا يَنَالُهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَمَا
__________
(1) . آل عمران: 29.
(2) . البقرة: 285.
(3) . البقرة: 285.
(4) . البقرة: 286.
(5) . البقرة: 286.
(6) . البقرة: 286.
(7) . البقرة: 286.(1/351)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
هَمَّ بِالسُّوءِ وَلَمْ يَعْمَلْ مِنْهُ بِشَيْءٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهَا نَحْوَهُ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِالنَّسْخِ تَدْفَعُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّ كُتَّابِي لَمْ يَكْتُبُوا مِنْ أَعْمَالِكُمْ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا، فَأَمَّا مَا أَسْرَرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فَأَنَا أُحَاسِبُكُمْ بِهِ الْيَوْمَ، فَأَغْفِرُ لِمَنْ شِئْتَ، وَأُعَذِّبُ مَنْ شِئْتَ، وهو مدفوع بما تقدم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
قَوْلُهُ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَالْمُؤْمِنُونَ عَطْفٌ عَلَى الرَّسُولِ، وَقَوْلُهُ: كُلٌّ أَيْ مِنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ آمَنَ بِاللَّهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ مُبْتَدَأٌ.
وَقَوْلُهُ: كُلٌّ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ. وَقَوْلُهُ: آمَنَ بِاللَّهِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي، وَهُوَ وَخَبَرُهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ بِاللَّهِ مَعَ رُجُوعِهِ إِلَى كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، لِمَا أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ إِيمَانِ كُلِّ فَرْدِ مِنْهُمْ، مَنْ غير الِاجْتِمَاعِ كَمَا اعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «1» . قَالَ الزَّجَّاجُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَرْضَ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَبَيَّنَ أَحْكَامَ الْحَجِّ، وَحُكْمَ الْحَيْضِ، وَالطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ، وَأَقَاصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَيَّنَ حُكْمَ الرِّبَا، ذَكَرَ تَعْظِيمَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيقَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيقَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَيْ:
صَدَّقَ الرَّسُولُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ، كُلُّهُمْ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَقِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا: الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَمَلائِكَتِهِ أَيْ: مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِمْ عِبَادَهُ الْمُكْرَمِينَ، الْمُتَوَسِّطِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ فِي إِنْزَالِ كُتُبِهِ، وَقَوْلُهُ: وَكُتُبِهِ لِأَنَّهَا الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي تَعَبَّدَ بِهَا عِبَادُهُ. وَقَوْلُهُ: وَرُسُلِهِ لِأَنَّهُمُ الْمُبَلِّغُونَ لِعِبَادِهِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَامِرٍ: وَكُتُبِهِ، بِالْجَمْعِ. وَقَرَءُوا فِي التَّحْرِيمِ: وَكِتَابِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُنَا:
وَكِتَابِهِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ. وَبَيَّنَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِالْوَاحِدِ الْجِنْسُ وَالْجِنْسِيَّةُ قَائِمَةٌ فِي وَحْدَانِ الْجِنْسِ كُلِّهَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ إِلَّا مَا فِيهِ الْجِنْسِيَّةُ مِنَ الْجُمُوعِ. انْتَهَى. وَمَنْ أَرَادَ تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ التَّلْخِيصِ الْمُطَوَّلِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ «وَاسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَرُسُلِهِ، بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِتَخْفِيفِ السِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لَا نُفَرِّقُ» بِالنُّونِ. وَالْمَعْنَى: يَقُولُونَ: لَا نُفَرِّقُ. وقرأ سعيد ابن جُبَيْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَيَعْقُوبُ: «لَا يُفَرِّقُ» بِالْيَاءِ التحتية.
__________
(1) . النمل: 87.(1/352)
وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَحَدٍ وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَ آحَادٍ، لِأَنَّ الْأَحَدَ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ، وَالْجَمْعَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «1» فَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: حاجِزِينَ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَأَنْ تَكُونَ خَبَرًا آخَرَ لِقَوْلِهِ: كُلٌّ. وَقَوْلُهُ: مِنْ رُسُلِهِ أَظْهَرَ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ تَوَهُّمِ انْدِرَاجِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْحُكْمِ، أَوِ الْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ. وَقَوْلُهُ:
وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: آمَنَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لِلْمُفْرَدِ وَهَذَا لِلْجَمَاعَةِ فَهُوَ جَائِزٌ نَظَرًا إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى، أَيْ: أَدْرَكْنَاهُ بِأَسْمَاعِنَا، وَفَهْمِنَاهُ، وَأَطَعْنَا مَا فِيهِ وَقِيلَ: مَعْنَى سَمِعْنَا: أَجَبْنَا دَعْوَتَكَ.
قَوْلُهُ: غُفْرانَكَ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اغْفِرْ غُفْرَانَكَ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَقَدَّمَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ عَلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِكَوْنِ الْوَسِيلَةِ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُتَوَسِّلِ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها التَّكْلِيفُ: هُوَ الْأَمْرُ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَكُلْفَةٌ، وَالْوُسْعُ: الطَّاقَةُ، وَالْوُسْعُ: مَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ جَاءَتْ عَقِبَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ، لِكَشْفِ كُرْبَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا فِي الْأَنْفُسِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2» . قوله: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ فِيهِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، أَيْ: لَهَا ثَوَابُ مَا كَسَبَتْ مِنَ الْخَيْرِ، وَعَلَيْهَا وِزْرُ مَا اكْتَسَبَتْ من الشرّ، وتقدّم «لها وعليها» عَلَى الْفِعْلَيْنِ لِيُفِيدَ أَنَّ ذَلِكَ لَهَا لَا لِغَيْرِهَا، وَعَلَيْهَا لَا عَلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ: كَسَبَ، لِلْخَيْرِ فَقَطْ، وَاكْتَسَبَ: لِلشَّرِّ فَقَطْ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ يَصْدُقُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ الْفِعْلَ وَخَالَفَ بَيْنَ التَّصْرِيفَيْنِ تَحْسِينًا لِلنَّظْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «3» . قَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أَيْ: لَا تُؤَاخِذْنَا بِإِثْمِ مَا يَصْدُرُ مِنَّا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا الدُّعَاءُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ قَائِلِينَ: إِنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ مَغْفُورَانِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِمَا، فَمَا مَعْنَى الدُّعَاءِ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ. وأجيب عن ذلك: بأن المراد: طلب عدم الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ مِنَ التَّفْرِيطِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، لَا مِنْ نَفْسِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، فَإِنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِمَا كَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» وَسَيَأْتِي مَخْرَجُهُ وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ بِحُصُولِ مَا هُوَ حَاصِلٌ لَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ لِقَصْدِ اسْتَدَامَتِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ ثَبَتَ شَرْعًا أَنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِمَا، فَلَا امْتِنَاعَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِمَا عَقْلًا وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ التَّقْوَى بِحَيْثُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُمُ الذَّنْبُ تَعَمُّدًا، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا، فَكَأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِيذَانًا بِنَزَاهَةِ سَاحَتِهِمْ عَمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ، فَمَا مِنْهُمْ سَبَبُ مُؤَاخَذَةٍ إِلَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ هَلْ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ يَلْزَمُ أَحْكَامُ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ، فَقِسْمٌ لَا يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْغَرَامَاتِ والدّيات وَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَقِسْمٌ يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْقِصَاصِ وَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَقِسْمٌ ثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ: كَمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ أَوْ حَنَثَ سَاهِيًا، وما كان مثله مما يقع
__________
(1) . الحاقة: 47.
(2) . البقرة: 185.
(3) . الطارق: 17. [.....](1/353)
خَطَأً وَنِسْيَانًا، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَتَكْرِيرُ النِّدَاءِ لِلْإِيذَانِ بِمَزِيدِ التضرّع واللجأ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالْإِصْرُ:
الْعِبْءُ الثَّقِيلُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ، أَيْ: يَحْبِسُهُ مَكَانَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ لِثِقَلِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّكْلِيفُ الشَّاقُّ، وَالْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ وَقِيلَ الْإِصْرُ: شِدَّةُ الْعَمَلِ وَمَا غَلُظَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ تَغْشَى سَرَاتَهُمُ ... وَالْحَامِلَ الإصر عنهم بعد ما غَرِقُوا
وَقِيلَ: الْإِصْرُ: الْمَسْخُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَقِيلَ: الْعَهْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي وَهَذَا الْخِلَافُ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ مَا هُوَ الْإِصْرُ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، لَا إِلَى مَعْنَى الْإِصْرِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِلَا نِزَاعٍ، وَالْإِصَارُ: الْحَبَلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الْأَحْمَالُ وَنَحْوُهَا، يُقَالُ: أَصَرَ يَأْصِرُ إِصْرًا:
حَبَسَ، وَالْإِصْرُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْمَوْضِعُ: مَأْصِرٌ، وَالْجُمَعُ: مَآصِرُ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ مَعَاصِرُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ مِنْ ثِقَلِ التَّكَالِيفِ مَا حَمَلَ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ. وَقَوْلُهُ:
كَما حَمَلْتَهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ حَمْلًا مِثْلَ حَمْلِكَ إِيَّاهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، أَوْ صفة لإصرا، أَيْ: إِصْرًا مِثْلَ الْإِصْرِ الَّذِي حَمَلَتْهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا. قَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ هُوَ أَيْضًا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَتَكْرِيرُ النِّدَاءِ لِلنُّكْتَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا. وَالْمَعْنَى: لَا تُحَمِّلْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ ما لا نطيق وقيل: عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِ الْعُقُوبَاتِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُنْزِلْ عَلَيْنَا الْعُقُوبَاتِ بِتَفْرِيطِنَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى تِلْكَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَلَّفْتَ بِهَا مَنْ قَبْلَنَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الشَّاقُّ الَّذِي لَا يَكَادُ يُسْتَطَاعُ مِنَ التَّكَالِيفِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. قَوْلُهُ: وَاعْفُ عَنَّا أَيْ: عَنْ ذُنُوبِنَا، يُقَالُ: عَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِهِ: إِذَا تَرَكْتَهُ وَلَمْ تُعَاقِبْهُ عَلَيْهِ وَاغْفِرْ لَنا أَيِ: اسْتُرْ عَلَى ذُنُوبِنَا، وَالْغَفْرُ: السَّتْرُ وَارْحَمْنا أَيْ:
تَفَضَّلْ بِرَحْمَةٍ مِنْكَ عَلَيْنَا أَنْتَ مَوْلانا أَيْ: وَلِيُّنَا وَنَاصِرُنَا، وَخَرَجَ هَذَا مَخْرَجَ التَّعْلِيمِ كَيْفَ يَدْعُونَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَنَحْنُ عَبِيدُكَ فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَإِنَّ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى أَنْ يَنْصُرَ عَبِيدَهُ، وَالْمُرَادُ: عَامَّةُ الْكَفَرَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي شَرْحِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هذه أعني قوله: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَخْ، أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَقِبَ كُلِّ دَعْوَةٍ مِنْ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ قَدْ فَعَلْتُ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَلَا حَمَلَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الْإِصْرِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، وَلَا حَمَّلَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَعَفَا عَنْهُمْ، وَغَفَرَ لَهُمْ، وَرَحِمَهُمْ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ لَا نَكْفُرُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نُكَذِّبُ بِهِ وَقالُوا سَمِعْنا لِلْقُرْآنِ الَّذِي جَاءَ مِنَ اللَّهِ وَأَطَعْنا، أَقَرُّوا لِلَّهِ أَنْ يُطِيعُوهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: غُفْرانَكَ رَبَّنا قَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ قَالَ: إِلَيْكَ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ. وأخرج سعيد(1/354)
ابن مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آمَنَ الرَّسُولُ الْآيَةَ، قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهُ، فَقَالَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ فَقَالَ: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» . وَقَالَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2» . وقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «3» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ قَالَ: مِنَ الْعَمَلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا وُسْعَها قَالَ: إِلَّا طَاقَتَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ من حَدِيثِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا. وَفِي أَسَانِيدِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَقَالٌ وَلَكِنَّهَا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَلَا تَقْصُرُ عَنْ رُتْبَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ قَدْ فَعَلْتُ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِصْراً قَالَ: عَهْدًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً قَالَ: لَا تَمْسَخْنَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْإِصْرَ: الذَّنْبُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَوْبَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْفُضَيْلِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَذْنَبَ قِيلَ لَهُ تَوْبَتُكَ أَنْ تَقْتُلَ نَفْسَكَ فَيَقْتُلُ نَفْسَهُ، فَوُضِعَتِ الْآصَارُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إلخ، كما قالها جبريل للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ النَّبِيُّ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ مَيْسَرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَقَّنَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاتِمَةَ الْبَقَرَةِ آمِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: آمِينَ.
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: آمِينَ آمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: هِيَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: سَأَلَهَا نَبِيُّ اللَّهِ رَبَّهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَأَهْلِ السُّنَنِ، وَغَيْرِهِمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السّموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بهما سورة البقرة، ولا
__________
(1) . الحج: 78.
(2) . البقرة: 185.
(3) . التغابن: 16.(1/355)
يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «أُعْطِيتُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهَا نَبِيٌّ قَبْلِي» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اقْرَءُوا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ آمَنَ الرَّسُولُ إِلَى خَاتِمَتِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بِهَا مُحَمَّدًا» وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَأُعْطِيَ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغَفَرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شيئا المقحمات «1» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أَعْطَانِيهِمَا مِنْ كَنْزِهِ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَعَلَّمُوهُمَا وَعَلِّمُوهُمَا نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ فَإِنَّهُمَا صَلَاةٌ وَقُرْآنٌ وَدُعَاءٌ» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «اثْنَانِ هُمَا قُرْآنٌ وَهُمَا يَشْفِيَانِ، وَهُمَا مِمَّا يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ لَا يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«أَنْزَلَ اللَّهُ آيَتَيْنِ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، كَتَبَهُمَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، مَنْ قَرَأَهُمَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ أَجْزَأَتَاهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، ضَحِكَ وَقَالَ: إِنَّهُمَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ، قَالَ: فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ قَدْ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتَهُ» . فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا فِي فَضْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَرْفُوعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْلِهِمَا مِنْ غَيْرِ الْمَرْفُوعِ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَالْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ، وَفِي قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما يغني عن غيره.
__________
(1) . «المقحمات» : الذنوب العظام الكبائر التي تورد أصحابها النار.(1/356)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
هِيَ مَدَنِيَّةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ صَدْرَهَا إِلَى ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ آيَةً نَزَلَ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ، وَكَانَ قُدُومُهُمْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
نَزَلَتْ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِهِمَا، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْحُكَمَاءِ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ فَهُوَ غَنِيٌّ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: نِعْمَ كَنْزُ الصُّعْلُوكِ آلُ عِمْرَانَ، يَقُومُ بِهَا الرَّجُلُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي عطاف قَالَ: اسْمُ آلِ عِمْرَانَ فِي التَّوْرَاةِ طَيْبَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ قَرَأَ السُّورَتَيْنِ إِنَّ فِيهِمَا الِاسْمَ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
قَرَأَ الْحَسَنُ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الرُّوَاسِيُّ: الم اللَّهُ بِقَطْعِ أَلِفِ الْوَصْلِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ عَلَى الم كَمَا يُقَدِّرُونَ الْوَقْفَ عَلَى أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ نَحْوَ وَاحِدٌ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ أَرْبَعَةٌ مَعَ وَصْلِهِمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ الم اللَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ، وَلَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ لِثِقَلِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي الْكِتَابِ: أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مُوَازَنَةً لِمُفْرَدٍ طَرِيقُ التَّلَفُّظِ بِهَا الْحِكَايَةُ فَقَطْ سَاكِنَةُ الْأَعْجَازِ عَلَى الْوَقْفِ، سَوَاءً جُعِلَتَ أَسْمَاءً أَوْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ وَإِنْ لَزِمَهَا الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ لِمَا أَنَّهُ مُغْتَفَرٌ فِي بَابِ الْوَقْفِ، فَحَقُّ هَذِهِ الْفَاتِحَةِ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُبْدَأُ بِمَا بَعْدَهَا، كَمَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ وَمَنْ مَعَهُ فِي قِرَاءَتِهِمُ الْمَحْكِيَّةِ سَابِقًا. وَأَمَّا فَتْحُ الْمِيمِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَوَجْهُهُ: مَا رُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْمِيمَ فُتِحَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: حُرُوفُ التَّهَجِّي إِذَا لَقِيَتْهَا أَلِفُ وَصْلٍ، فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ وَحُرِّكَتِ(1/357)
الْمِيمُ بِحَرَكَةِ الْأَلِفِ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَهَذِهِ الْفَوَاتِحُ إِنْ جُعِلَتْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَإِنْ جُعِلَتْ أَسْمَاءً لِلسُّورَةِ فَمَحَلُّهَا إِمَّا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا أَخْبَارٌ لِمُبْتَدَآتٍ مُقَدَّرَةٍ قَبْلَهَا، أَوِ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ أَفْعَالٍ يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ كَاذْكُرْ، أَوِ اقْرَأْ، أَوْ نَحْوِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ.
وَقَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعُبُودِيَّةِ. وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ:
خَبَرَانِ آخَرَانِ لِلِاسْمِ الشَّرِيفِ، أَوْ خَبَرَانِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا صِفَتَانِ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، أَوْ بَدَلَانِ مِنْهُ، أَوْ مِنَ الْخَبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَيِّ وَالْقَيُّومِ. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: الْقَيَّامُ عُمَرُ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. قَوْلُهُ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أَيِ: الْقُرْآنَ، وَقَدَّمَ الظَّرْفَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِلِاعْتِنَاءِ بِالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ: إِمَّا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ خَبَرٌ آخَرُ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ أَيْ:
بِالصِّدْقِ، وقيل: بالحجة الغالبة البالغة، وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقاً حَالٌ آخَرُ مِنَ الْكِتَابِ مُؤَكَّدَةً، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُصَدِّقًا، فَلَا تَكُونُ الْحَالُ مُنْتَقِلَةً أَصْلًا، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الِانْتِقَالَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مُصَدِّقًا، وَاللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ. قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا أَنْزَلَ وَفِيمَا تَقَدَّمَ نَزَّلَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا، وَالْكِتَابَانِ نَزَلَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابَيْنِ مَنْ أُنْزِلَا عَلَيْهِ، وَذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْكِتَابَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا لَيْسَ إِلَّا إِلَى ذِكْرِ الْكِتَابَيْنِ لَا ذِكْرِ مَنْ نَزَلَا عَلَيْهِ. وقوله: مِنْ قَبْلُ أَيْ: أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلنَّاسِ إِمَّا: حَالٌ مِنَ الْكِتَابَيْنِ، أَوْ عِلَّةٌ لِلْإِنْزَالِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ:
أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ، لأن هذه الأمة متعبدة بما لَمْ يُنْسَخْ مِنَ الشَّرَائِعِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هُدًى لِلنَّاسِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ فِي الْبَقَرَةِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أَيِ: الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ مَعَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذَا الذِّكْرُ الْآخَرُ مِنَ الْوَصْفِ لَهُ بِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَكَرَ التَّنْزِيلَ أَوَّلًا وَالْإِنْزَالَ ثَانِيًا لِكَوْنِهِ جَامِعًا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ أُنْزِلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، ثُمَّ نَزَلَ مِنْهَا إلى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ كَمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْفُرْقَانِ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رُسُلِهِ وَقِيلَ: أَرَادَ الزَّبُورَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَوَاعِظِ الْحَسَنَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أَيْ:
بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ آيَةٌ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَغَيْرِهَا، أَوْ بِمَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْمَذْكُورَةِ، عَلَى وَضْعِ آيَاتِ اللَّهِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَيْهَا، وَفِيهِ بَيَانُ الْأَمْرِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْكُفْرَ لَهُمْ بِسَبَبِ هَذَا الْكُفْرِ عَذابٌ شَدِيدٌ أَيْ: عَظِيمٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ ذُو انْتِقامٍ عَظِيمٍ، وَالنِّقْمَةُ: السَّطْوَةُ، يُقَالُ انْتَقَمَ مِنْهُ:
إِذَا عَاقَبَهُ بِسَبَبِ ذَنْبٍ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ. قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِبَيَانِ سَعَةِ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَعَبَّرَ عَنْ مَعْلُومَاتِهِ بِمَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مَعَ كَوْنِهَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ: لِقُصُورِ عِبَادِهِ عَنِ الْعِلْمِ بِمَا سِوَاهُمَا مِنْ أَمْكِنَةِ مَخْلُوقَاتِهِ وَسَائِرِ مَعْلُومَاتِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ: إِيمَانُ مَنْ آمَنَ مِنْ خَلْقِهِ وَكُفْرُ مَنْ كَفَرَ. قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ(1/358)
أَصْلُ اشْتِقَاقِ الصُّورَةِ مِنْ: صَارَهُ إِلَى كَذَا، أي: أماله إليه، فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة، وأصل الرحم من: الرحمة لأنه مما يتراحم به، وهذه الجملة مستأنفة، مشتملة عَلَى بَيَانِ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَعْلُومَاتِهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوُجُودِ، وَهُوَ: تَصْوِيرُ عِبَادِهِ فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ مِنْ نُطَفِ آبَائِهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ، مِنْ حَسَنٍ، وَقَبِيحٍ، وَأَسْوَدَ، وَأَبْيَضَ، وَطَوِيلٍ، وَقَصِيرٍ. وَكَيْفَ: مَعْمُولُ يَشَاءُ، وَالْجُمْلَةُ: حَالِيَّةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا، فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ أبو حارثة ابن عَلْقَمَةَ، وَالْعَاقِبُ، وَعَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالسَّيِّدُ، وَهُوَ: الْأَيْهَمُ، ثُمَّ ذَكَرُوا الْقِصَّةَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي دَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ، فَذَكَرَ وَفْدَ نَجْرَانَ وَمُخَاصَمَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ: الم اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ هُوَ الْقُرْآنُ، فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَأَحَلَّ فِيهِ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ فِيهِ حَرَامَهُ، وَشَرَعَ فِيهِ شَرَائِعَهُ، وَحَدَّ فِيهِ حُدُودَهُ، وَفَرَضَ فِيهِ فَرَائِضَهُ، وَبَيَّنَ فِيهِ بَيَانَهُ، وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ:
وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أَيِ: الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَحْزَابُ مِنْ أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أَيْ: إِنَّ اللَّهَ يَنْتَقِمُ مِمَّنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَا وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا جَاءَ مِنْهُ فِيهَا. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أَيْ: قَدْ عَلِمَ مَا يُرِيدُونَ وَمَا يَكِيدُونَ وَمَا يُضَاهُونَ بِقَوْلِهِمْ فِي عِيسَى إِذْ جَعَلُوهُ رَبًّا وَإِلَهًا، وَعِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ غَيْرُ ذَلِكَ غِرَّةً بِاللَّهِ وَكُفْرًا بِهِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَدْ كَانَ عِيسَى مِمَّنْ صُوِّرَ فِي الْأَرْحَامِ، لَا يَدْفَعُونَ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ كَمَا صُوِّرَ غَيْرُهُ مَنْ بَنِي آدَمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا وَقَدْ كَانَ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَالَ: ذُكُورًا وَإِنَاثًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَنَاسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الْأَرْحَامِ طَارَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا بَلَغَ أَنْ يُخْلَقَ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يُصَوِّرُهَا، فَيَأْتِي الْمَلَكُ بِتُرَابٍ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ فَيَخْلِطُ مِنْهُ الْمُضْغَةَ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ بِهَا ثُمَّ يُصَوِّرُ كَمَا يُؤْمَرُ فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، وَمَا رِزْقُهُ، وَمَا عُمُرُهُ، وَمَا أَثَرُهُ، وَمَا مَصَائِبُهُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، فَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ الْجَسَدُ دُفِنَ حَيْثُ أُخِذَ ذَلِكَ التُّرَابُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَالَ: مِنْ ذَكَرٍ وأنثى، وَأَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، وَتَامِّ الْخَلْقِ وَغَيْرِ تَامِّ الْخَلْقِ.(1/359)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 7 الى 9]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
الْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَقَدَّمَ الظَّرْفَ وَهُوَ «عَلَيْكَ» لِمَا يُفِيدُهُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ. وَقَوْلُهُ:
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ الْمُوَافِقُ لِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَالْأَوْلَى بِالْمَعْنَى: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ مِنَ الْكِتَابِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ وَإِنَّمَا كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْقِسَامُ الْكِتَابِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، لَا مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الْكِتَابِ، وَالْجُمْلَةُ:
حَالِيَّةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: إِنَّ الْمُحْكَمَ: مَا عُرِفَ تَأْوِيلُهُ، وَفُهِمَ مَعْنَاهُ، وَتَفْسِيرُهُ. وَالْمُتَشَابِهُ: مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ.
وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالُوا: وَذَلِكَ نَحْوُ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ: مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، فَإِذَا رُدَّتْ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَأُبْطِلَ الْبَاقِي صَارَ الْمُتَشَابِهُ مُحْكَمًا وَقِيلَ: إِنَّ الْمُحْكَمَ: نَاسِخُهُ، وَحَرَامُهُ، وَحَلَالُهُ، وَفَرَائِضُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَنَعْمَلُ عَلَيْهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَنْسُوخُهُ، وَأَمْثَالُهُ، وَأَقْسَامُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ. رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ: الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له، والمتشابه: ما فيه تصريف، وتحريف، وَتَأْوِيلٌ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ: مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يرجع فيه إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا قَالَهُ النَّحَّاسُ يُبَيِّنُ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ الجاري على وضع اللسان، ذلك أَنَّ الْمُحْكَمَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْكَمَ، وَالْإِحْكَامُ، الْإِتْقَانُ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَا كَانَ وَاضِحَ الْمَعْنَى لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ، إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِوُضُوحِ مُفْرَدَاتِ كَلِمَاتِهِ وَإِتْقَانِ تَرْكِيبِهَا، وَمَتَى اخْتَلَّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جَاءَ التَّشَابُهُ وَالْإِشْكَالُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: لِلْمُتَشَابِهِ وُجُوهٌ، مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَيُّ الْآيَتَيْنِ نَسَخَتِ الْأُخْرَى؟ كَمَا فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ آيَةَ وَضْعِ الْحَمْلِ نَسَخَتْ آيَةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشَرِ، ومنهم من قال بالعكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث، وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه، وكتعارض الأخبار، وتعارض الْأَقْيِسَةِ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُحْكَمَ: هُوَ الْوَاضِحُ الْمَعْنَى الظَّاهِرُ الدَّلَالَةِ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ وَالْمُتَشَابِهُ: مَا لَا يَتَّضِحُ مَعْنَاهُ، أَوْ لَا تَظْهَرُ دَلَالَتُهُ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ أهل كل قوم عَرَّفُوا الْمُحْكَمَ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ، وَعَرَّفُوا(1/360)
الْمُتَشَابِهَ بِمَا يُقَابِلُهَا. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَعَلُوا الْمُحْكَمَ مَا وُجِدَ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ أَوْسَعُ دَائِرَةً مِمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْخَفَاءِ، أَوْ عَدَمَ الظُّهُورِ، أَوِ الِاحْتِمَالَ، أَوِ التَّرَدُّدَ يوجب التشابه وأهل القول الثاني: خضوا الْمُحْكَمَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَالْمُتَشَابِهُ بِمَا فِيهِ احْتِمَالٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا بَعْضُ أَوْصَافِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، لَا كُلُّهَا وَهَكَذَا أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ:
فَإِنَّهُمْ خَصُّوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَأَهْلُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ: خَصُّوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَالْأَمْرُ أَوْسَعُ مِمَّا قَالُوهُ جَمِيعًا وَأَهْلُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ:
خَصُّوا الْمُحْكَمَ بِوَصْفِ عَدَمِ التَّصْرِيفِ وَالتَّحْرِيفِ، وَجَعَلُوا الْمُتَشَابِهَ مُقَابِلَهُ، وَأَهْمَلُوا مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذلك مما لا سبيل إلى علمه مِنْ دُونِ تَصْرِيفٍ وَتَحْرِيفٍ كَفَوَاتِحِ السُّوَرِ الْمُقَطَّعَةِ، وَأَهْلُ الْقَوْلِ السَّادِسِ: خَصُّوا الْمُحْكَمَ:
بِمَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: بِمَا لَا يَقُومُ بِهَا، وَأَنَّ هَذَا هُوَ بَعْضُ أَوْصَافِهِمَا، وَصَاحِبُ الْقَوْلِ السَّابِعِ وَهُوَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ، عَمَدَ إِلَى صُورَةِ الْوِفَاقِ فَجَعَلَهَا مُحْكَمًا، وَإِلَى صُورَةِ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ فَجَعَلَهَا مُتَشَابِهًا، فَأَهْمَلَ مَا هُوَ أَخَصُّ أَوْصَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ كَوْنِهِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ مَفْهُومَ الْمَعْنَى أَوْ غَيْرَ مَفْهُومٍ. قَوْلُهُ: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أَيْ: أَصْلُهُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَيَرُدُّ مَا خَالَفَهُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَآيَاتٌ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وَهِيَ جَمْعُ أُخْرَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّهُ عُدِلَ بِهَا عَنِ الْآخَرِ، لِأَنَّ أَصْلَهَا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ وَاحِدَهَا لَا يَنْصَرِفُ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَمْ تَنْصَرِفْ لِأَنَّهَا صِفَةٌ، وَأَنْكَرَهُ أَيْضًا الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُخَرُ: مَعْدُولَةً عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْدُولَةً عَنْهَا لَكَانَ مَعْرِفَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ سَحَرَ مَعْرِفَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَقَاوِيلِ لَمَّا كَانَتْ مَعْدُولَةً. قَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ الزَّيْغُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ: زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَزَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَيُقَالُ: زَاغَ يَزِيغُ زَيْغًا، إِذَا تَرَكَ الْقَصْدَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْحَقِّ. وَسَبَبُ النُّزُولِ:
نَصَارَى نَجْرَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي. قَوْلُهُ: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ أَيْ: يَتَعَلَّقُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْكِتَابِ، فَيُشَكِّكُونَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجْعَلُونَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبِدْعَةِ الْمَائِلَةِ عَنِ الْحَقِّ، كَمَا تَجِدُهُ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّهُمْ يَتَلَاعَبُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَلَاعُبًا شَدِيدًا، وَيُورِدُونَ مِنْهُ لِتَنْفِيقِ جَهْلِهِمْ مَا لَيْسَ مِنَ الدَّلَالَةِ فِي شَيْءٍ. قَوْلُهُ: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أَيْ: طلبا منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبيس عليهم وإفساد ذات بينهم وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أَيْ: طَلَبًا لِتَأْوِيلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ وَيُوَافِقُ مَذَاهِبَهُمُ الْفَاسِدَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
مَعْنَى ابْتِغَائِهِمْ تَأْوِيلَهُ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَأْوِيلَ بَعْثِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ وَوَقْتَهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ «2» أَيْ: يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ مِنَ الْبَعْثِ والنشور والعذاب يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أَيْ: تَرَكُوهُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ «3» أَيْ:
قَدْ رَأَيْنَا تَأْوِيلَ مَا أَنْبَأَتْنَا بِهِ الرُّسُلُ. قَوْلُهُ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ التَّأْوِيلُ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِمْ:
تَأْوِيلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى كَذَا، أَيْ: تَفْسِيرُهَا، وَيَكُونُ بِمَعْنَى ما يؤول الأمر إليه، واشتقاقه من: آل الأمر
__________
(1) . الصف: 5.
(2) . الأعراف: 53.
(3) . الأعراف: 53.(1/361)
إلى كذا، يؤول إِلَيْهِ، أَيْ: صَارَ، وَأَوَّلْتُهُ تَأْوِيلًا، أَيْ: صَيَّرْتُهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ: يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ لِابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ، وَالْحَالُ أَنَّ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هَلْ هُوَ كَلَامٌ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ؟ فتكون الواو للجمع، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَأَبِي نُهَيْكٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَالْأَخْفَشِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ نَسَّقَ الرَّاسِخِينَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ، قَالَ:
وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ: آمَنَّا بِهِ وَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ يَقُولُونَ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُضْمِرُ الْفِعْلَ وَالْمَفْعُولَ مَعًا، وَلَا تَذْكُرُ حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُورِ الْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِعْلٌ لَمْ يَكُنْ حَالًا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، يَعْنِي أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: عَبْدُ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُصْلِحُ حَالًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَنْشَدَنِيهِ أَبُو عَمْرٍو. قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ:
أَرْسَلْتُ فِيهَا رَجُلًا «1» لُكَالِكَا ... يَقْصُرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكَا
فَكَانَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مَعَ مُسَاعَدَةِ مَذَاهِبِ النَّحْوِيِّينَ لَهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَحْدَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَيْئًا عَنِ الخلق ويثبته لِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ شَرِيكٌ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «2» ، وقوله: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ «3» ، وقوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «4» فَكَانَ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ به لا يشركه فيه غيره، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَلَوْ كَانَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ لِلنَّسَقِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فَائِدَةٌ. انْتَهَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مُجَاهِدٍ غَيْرُهُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي عِلْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ به يقولون آمنا به. وقاله الرَّبِيعُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بن محمد، وغيرهم.
ويَقُولُونَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الراسخون كما قال:
الرّيح تبكي شجوها ... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الْغَمَامَهْ
وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: وَالْبَرْقُ: مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ: يَلْمَعُ، عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الرِّيحِ، وَيَلْمَعُ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي، أَيْ:
لَامِعًا. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي وَجْهِ امْتِنَاعِ كَوْنِ قَوْلِهِ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالا: من
__________
(1) . في اللسان وشرح القاموس «قطما» وهو الغضبان، والفحل الصئول. و «اللّكالك» الجمل الضخم المرمي باللحم.
(2) . النمل: 65.
(3) . الأعراف: 187.
(4) . القصص: 88.(1/362)
أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَذْكُرُ حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُورِ الْفِعْلِ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَا فِعْلَ هُنَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْفِعْلُ مَذْكُورٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ وَلَكِنَّهُ جَاءَ الْحَالُ مِنَ الْمَعْطُوفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهُ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «1» إلى قوله:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا «2» الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «3» أَيْ: وَجَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ صَفًّا صَفًّا، وَلَكِنْ هَاهُنَا مَانِعٌ آخَرُ مِنْ جَعْلِ ذَلِكَ حَالًا، وَهُوَ: أَنَّ تَقْيِيدَ عِلْمِهِمْ بِتَأْوِيلِهِ بِحَالِ كَوْنِهِمْ قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْعَطْفِ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ يَعْلَمُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْخَاصَّةِ، فَاقْتَضَى هَذَا أن جعل قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالا، غير صحيح، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قَوْلَهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُبْتَدَأً، خَبَرُهُ:
يَقُولُونَ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْعَطْفِ: أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، فَكَيْفَ يَمْدَحُهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ تَرْكَهُمْ لِطَلَبِ عِلْمِ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، وَلَا جَعَلَ لِخَلْقِهِ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلًا هُوَ مِنْ رُسُوخِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ هُمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا مِنْ رُسُوخٍ. وَأَصْلُ الرُّسُوخِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الثُّبُوتُ فِي الشَّيْءِ، وَكُلُّ ثَابِتٍ رَاسِخٌ، وَأَصْلُهُ فِي الْأَجْرَامِ: أَنْ تَرْسَخَ الْخَيْلُ، أَوِ الشَّجَرُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ... لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أَنْ تُغَيَّرَا
فَهَؤُلَاءِ ثَبَتُوا فِي امْتِثَالِ مَا جَاءَهُمْ عَنِ اللَّهِ مِنْ تَرْكِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ، وَإِرْجَاعِ عِلْمِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فَقَالَ: التَّأْوِيلُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: التأويل بمعنى:
حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ «4» ، وَقَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ»
أَيْ: حَقِيقَةُ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى الْجَلَالَةِ، لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَكُنْهَهَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأ، ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ خَبَرُهُ. وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ الْمَعْنَى الْآخَرُ وَهُوَ التَّفْسِيرُ وَالْبَيَانُ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الشيء كقوله: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أَيْ: بِتَفْسِيرِهِ، فَالْوَقْفُ عَلَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَيَفْهَمُونَ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْهِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حَالًا مِنْهُمْ، وَرَجَّحَ ابْنُ فُورَكٍ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُفَسِّرِينَ رَجَّحُوا ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ:
وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُمْ: رَاسِخِينَ، تَقْضِي بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ هُوَ رُسُوخُهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ، لَكِنَّ الْمُتَشَابِهَ يَتَنَوَّعُ فَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ أَلْبَتَّةَ، كَأَمْرِ الرَّوْحِ وَالسَّاعَةِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَهَذَا لَا يَتَعَاطَى عِلْمَهُ أَحَدٌ فَمَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْحُذَّاقِ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ عِلْمَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ. وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى وُجُوهٍ في
__________
(1) . الحشر: 8.
(2) . الحشر: 10.
(3) . الفجر: 22. [.....]
(4) . يوسف: 100.
(5) . الأعراف: 53.(1/363)
اللُّغَةِ، فَيُتَأَوَّلُ وَيُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ الْمُسْتَقِيمُ، وَيُزَالُ مَا فِيهِ مِنْ تَأْوِيلٍ غَيْرِ مُسْتَقِيمٍ. انْتَهَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاضْطِرَابَ الْوَاقِعَ فِي مَقَالَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَعْظَمُ أَسْبَابِهِ اخْتِلَافُ أَقْوَالِهِمْ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا لَكَ مَا هُوَ الصَّوَابُ فِي تَحْقِيقِهِمَا، وَنَزِيدُكَ هَاهُنَا إِيضَاحًا وَبَيَانًا، فَنَقُولُ: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فَوَاتِحَ السُّوَرِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُتَّضِحَةِ الْمَعْنَى، وَلَا ظَاهِرَةِ الدَّلَالَةِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنْفُسِهَا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ يَعْلَمُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَيَعْرِفُ عُرْفَ الشَّرْعَ مَا مَعْنَى الم، المر، حم، طس، طسم وَنَحْوِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بَيَانَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ كَلَامِ الشَّرْعِ، فَهِيَ غَيْرُ مُتَّضِحَةِ الْمَعْنَى، لَا بِاعْتِبَارِهَا نَفْسِهَا، وَلَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ يُفَسِّرُهَا وَيُوَضِّحُهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ لُغَةِ الْعَجَمِ، وَالْأَلْفَاظُ الْغَرِيبَةُ الَّتِي لَا يُوجَدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا يُوَضِّحُهَا، وَهَكَذَا مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَالرُّوحِ وَمَا فِي قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «1» إلى الآخر الْآيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَكَذَا مَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ، كَوُرُودِ الشَّيْءِ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ احْتِمَالًا لَا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ كَالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادُ مِنْ مَعْنَى ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ، وَكَذَلِكَ وُرُودُ دَلِيلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ تَعَارُضًا كُلِّيًّا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ يُرَجِّحُهُ. وَأَمَّا مَا كَانَ وَاضِحَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ، بِأَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، أَوْ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَالْأُمُورِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي وَرَدَ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، أَوْ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، أَوِ الْأُمُورِ الَّتِي تَعَارَضَتْ دَلَالَتُهَا، ثُمَّ وَرَدَ مَا يُبَيِّنُ رَاجِحَهَا مِنْ مَرْجُوحِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ سَائِرِ الْمُرَجِّحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ الْمَقْبُولَةِ، عِنْدَ أَهْلِ الْإِنْصَافِ، فَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ مِنَ الْمُحْكَمِ لَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ فَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الصَّوَابُ، فَاشْدُدْ يَدَيْكَ عَلَى هَذَا فَإِنَّكَ تَنْجُو بِهِ مِنْ مَضَايِقَ وَمَزَالِقَ وَقَعَتْ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، حَتَّى صَارَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ تُسَمِّي مَا دَلَّ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ: مُحْكَمًا وَمَا دَلَّ عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مَنْ يُخَالِفُهَا: مُتَشَابِهًا: سِيَّمَا أَهْلُ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَعَلَيْهِ بِمُؤَلَّفَاتِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَمِيعُهُ مُحْكَمٌ، وَلَكِنْ لَا بِهَذَا الْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ بِمَعْنًى آخَرَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «2» وقوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ «3» وَالْمُرَادُ بِالْمُحْكَمِ بِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ صَحِيحُ الْأَلْفَاظِ، قَوِيمُ الْمَعَانِي، فَائِقٌ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالْفَصَاحَةِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ. وَوَرَدَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَمِيعُهُ مُتَشَابِهٌ لَكِنْ لَا بِهَذَا الْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، بَلْ بِمَعْنًى آخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً «4» والمراد بالتشابه بِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الصِّحَّةِ، وَالْفَصَاحَةِ، وَالْحُسْنِ، وَالْبَلَاغَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ لِوُرُودِ الْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ فَوَائِدَ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ مَعَ وُجُودِهَا فِيهِ مَزِيدُ صُعُوبَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ لِلْمُسْتَخْرِجِينَ لِلْحَقِّ وَهُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمَا وُجُوهًا هَذَا أَحْسَنُهَا، وَبَقِيَّتُهَا لَا تَسْتَحِقُّ الذِّكْرَ هَاهُنَا.
قَوْلُهُ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فِيهِ ضَمِيرٌ مُقَدَّرٌ عَائِدٌ عَلَى قِسْمَيِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، أَيْ: كُلُّهُ، أو المحذوف
__________
(1) . لقمان: 34.
(2) . هود: 1.
(3) . يونس: 1.
(4) . الزمر: 23.(1/364)
غَيْرُ ضَمِيرٍ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْمَقُولِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أَيِ: الْعُقُولُ الْخَالِصَةُ، وَهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، الْوَاقِفُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ، الْعَالِمُونَ بِمُحْكَمِهِ، الْعَامِلُونَ بِمَا أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تُزِغْ إِلَخْ، مِنْ تَمَامِ مَا يَقُولُهُ الرَّاسِخُونَ، أَيْ: يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَيَقُولُونَ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: سَأَلُوا أَلَّا يَزِيغُوا فَتَزِيغَ قُلُوبُهُمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قَالُوا: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إِلَى الْحَقِّ، بِمَا أَذِنْتَ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بِالْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ، وَالظَّرْفُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: بَعْدَ مُنْتَصِبٌ بِقَوْلِهِ: لَا تُزِغْ. قَوْلُهُ: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أَيْ: كَائِنَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَمِنْ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَلَدُنْ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفِيهِ لُغَاتٌ أُخَرُ، هَذِهِ أَفْصَحُهَا، وَهُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الزَّمَانِ، وَتَنْكِيرُ: رَحْمَةً، لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: رَحْمَةً عَظِيمَةً وَاسِعَةً. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تعليل للسؤال، أو لإعطاء المسؤول. وَقَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ أَيْ: بَاعِثُهُمْ وَمُحْيِيهِمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ لِيَوْمٍ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ: لِحِسَابِ يَوْمٍ، أَوْ لِجَزَاءِ يَوْمٍ، عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. قَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ: فِي وُقُوعِهِ، وَوُقُوعِ مَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الرَّيْبِ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لِلتَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ شَأْنُ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَخُلْفُهُ يُخَالِفُ الْأُلُوهِيَّةَ، كَمَا أَنَّهَا تُنَافِيهِ، وَتُبَايِنُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُحْكَمَاتُ: نَاسِخُهُ، وَحَلَالُهُ، وَحَرَامُهُ، وَحُدُودُهُ، وَفَرَائِضُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَنَعْمَلُ بِهِ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ: مَنْسُوخُهُ، وَمُقَدِّمُهُ، وَمُؤَخِّرُهُ، وَأَمْثَالُهُ، وَأَقْسَامُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قَالَ: الثَّلَاثُ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ محكمات قُلْ تَعالَوْا «2» وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَخْرَجَهَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: آياتٌ مُحْكَماتٌ قَالَ: مِنْ هُنَا قُلْ تَعالَوْا إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، ومن هنا وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «3» إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ بَعْدَهَا. وَأَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ ابْنَ عَبَّاسٍ مَا أَقَلَّ جَدْوَى هَذَا الْكَلَامِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ. فَإِنَّ تَعْيِينَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ عَشْرٍ أَوْ مِائَةٍ مِنْ جَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَوَصْفِهَا بِأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَيْسَ تَحْتَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ شَيْءٌ، فَالْمُحْكَمَاتُ: هِيَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ، حَتَّى عَلَى قَوْلِهِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ قَرِيبًا مِنْ أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ نَاسِخُهُ وَحَلَالُهُ إِلَخْ، فَمَا مَعْنَى تَعْيِينِ تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ؟ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: الْمُحْكَمَاتُ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلِلسَّلَفِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ هِيَ رَاجِعَةٌ إلى ما قدّمناه فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَعْنِي: أَهْلَ الشَّكِّ، فَيَحْمِلُونَ الْمُحْكَمَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ، وَالْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَيَلْبِسُونَ فَلَبَسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ قَالَ: تَأْوِيلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن ابن مسعود
__________
(1) . الصف: 5.
(2) . الأنعام: 151.
(3) . الإسراء: 23.(1/365)
زَيْغٌ قَالَ: شَكٌّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إِلَى قوله: أُولُوا الْأَلْبابِ قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الذين عنى الله فَاحْذَرُوهُمْ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، وَالَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَلَا تُجَالِسُوهُمْ» وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قَالَ:
هُمُ الْخَوَارِجُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٍ، وَآمِرٍ، وَحَلَالٍ، وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَافْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَاعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ، وَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَقُولُوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سلمة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعبد الله ابن مَسْعُودٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ، مَا عَرَفْتُمْ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ» وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ: «وَاتَّبِعُوا الْمُحْكَمَ وَآمِنُوا بِالْمُتَشَابِهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَإِنْ حَقِيقَةُ تَأْوِيلِهِ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي الشَّعْثَاءِ وَأَبِي نَهِيكٍ قَالَ: إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فَانْتَهَى عِلْمُهُمْ إِلَى قَوْلِهِمُ الَّذِي قَالُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُرْوَةَ. قَالَ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبَدِ الْعَزِيزِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ مَا اسْتَبَانَ فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ فَآمِنْ بِهِ وَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، فَمَا عَرَفْتُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ فَذَرُوهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: تَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ العلماء، وتفسير لا يُعْذَرُ النَّاسُ بِجَهَالَتِهِ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بَلُغَتِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، مَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كذاب.(1/366)
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ على أربعة أَحْرُفٍ: حَلَالٍ وَحَرَامٍ، لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهَالَةِ بِهِ، وَتَفْسِيرٍ تُفَسِّرُهُ الْعَرَبُ، وَتَفْسِيرٍ تُفَسِّرُهُ الْعُلَمَاءُ، وَمُتَشَابِهٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ نُؤْمِنُ بِالْمُحْكَمِ، وَنَدِينُ بِهِ، وَنُؤْمِنُ بِالْمُتَشَابِهِ، وَلَا نَدِينُ بِهِ وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كُلِّهِ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَنَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْحُجَّةِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ:
أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: ضُبَيْعٌ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرَ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ ضُبَيْعٌ، فَقَالَ: وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ، فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! حَسْبُكَ، قَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ: أَنَّهُ ضَرَبَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَتْرُكُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى يَبْرَأَ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ.
وَأَخْرَجَ أَصْلَ الْقِصَّةِ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنْ لَا يُجَالِسُوا ضُبَيْعًا، وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ جَمَاعَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؟ فَقَالَ: مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَمَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَزْدِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْجِدَالُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» . وَأَخْرَجَ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْحُجَّةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ وَرَاءِ حُجْرَتِهِ قَوْمٌ يَتَجَادَلُونَ بِالْقُرْآنِ، فَخَرَجَ مُحْمَرَّةً وَجْنَتَاهُ كَأَنَّمَا يَقْطُرَانِ دَمًا فَقَالَ: يَا قوم! لا تجادلوا بالقرآن فَإِنَّمَا ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِجِدَالِهِمْ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِيُكَذِّبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَكِنْ نَزَلَ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا كَانَ مِنْ مُحْكَمِهِ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ مُتَشَابِهِهِ فَآمِنُوا بِهِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، ثُمَّ قَرَأَ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، والطبراني وابن مردويه عنه مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَ نَحْوُهُ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ فِي قَوْلِهِ:
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ الْآيَةَ. عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَلَدِيِّ قَالَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى شَيْءٍ ضَاعَ مِنْهُ رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ بَعْدَ قِرَاءَتِهَا: يَا جَامِعَ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ اجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ مَالِي، إِنَّكَ على كل شيء قدير» .(1/367)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)
الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: جِنْسُ الْكَفَرَةِ، وَقِيلَ: وَفْدُ نَجْرَانَ، وَقِيلَ: قُرَيْظَةُ وَقِيلَ: النَّضِيرُ وَقِيلَ:
مُشْرِكُو الْعَرَبِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: لَنْ يُغْنِيَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِسُكُونِ الْيَاءِ الْآخِرَةِ تَخْفِيفًا. قَوْلُهُ:
مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ: مِنْ، بِمَعْنَى عِنْدَ، أَيْ: لَا تُغْنِي عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى بَدَلٍ. وَالْمَعْنَى: بَدَلُ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ الْوَقُودُ: اسْمٌ لِلْحَطَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أَيْ: هُمْ حَطَبُ جَهَنَّمَ الَّذِي تُسَعَّرُ بِهِ، وَهُمْ: مُبْتَدَأٌ، وَوَقُودُ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ: خَبَرُ أُولَئِكَ، أَوْ هُمْ: ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ:
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، مُقَرِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَطِلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وُقُودُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَكَذَلِكَ الْوَقُودُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْحَطَبِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى وَزْنِ الْفَعُولِ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ: أَيْ هُمْ أَهْلُ وَقُودِ النَّارِ. قَوْلُهُ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدَّأْبُ: الِاجْتِهَادُ، يُقَالُ: دَأَبَ الرَّجُلُ في عمله، يدأب، دأبا، ودؤوبا: إِذَا جَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَالدَّائِبَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالدَّأْبُ:
الْعَادَةُ وَالشَّأْنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا ... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بمأسل
والمراد هنا: كعادة آل فرعون وشأنهم وَحَالِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَافِ، فَقِيلَ: هِيَ فِي موضع رفع، تقديره: دأبهم كدأب آلُ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْمَعْنَى: كَفَرَتِ الْعَرَبُ كَكُفْرِ آلِ فِرْعَوْنَ.
قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ مُتَعَلِّقَةً بِكَفَرُوا، لِأَنَّ كَفَرُوا دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَخَذَهَمُ اللَّهُ، أَيْ: أَخَذَهُمْ أَخْذَةً كَمَا أَخَذَ آلَ فِرْعَوْنَ وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِلَنْ تُغْنِيَ، أَيْ: لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ غِنَاءً، كَمَا لَمْ تُغْنِ عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَامِلَ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ مِنْ لَفْظِ الْوَقُودِ، وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي نَفْسِ الْإِحْرَاقِ.
قَالُوا: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «1» . أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ، وَمِنْهُمُ الْأَزْهَرِيُّ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: مِنْ قَبْلِ آلِ فِرْعَوْنَ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، أَيْ: وَكَدَأْبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. قَوْلُهُ: كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ: أَنْ يُرِيدَ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ، وَيَحْتَمِلُ: أَنْ يُرِيدَ الْآيَاتِ الْمَنْصُوبَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْجَمِيعِ. وَالْجُمْلَةُ: بَيَانٌ تفسير لِدَأْبِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، أَيْ: دَأْبُ هَؤُلَاءِ كَدَأْبِ أُولَئِكَ قَدْ كَذَّبُوا إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: بِذُنُوبِهِمْ أَيْ: بِسَائِرِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْذِيبُهُمْ. قَوْلُهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وقيل: هم مشركو مكة،
__________
(1) . غافر: 46، وتمامها النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.(1/368)
وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: سَتُغْلَبُونَ قُرِئَ: بِالْفَوْقِيَّةِ، وَالتَّحْتِيَّةِ، وَكَذَلِكَ:
تُحْشَرُونَ. وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ بِقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وَفَتْحِ خَيْبَرَ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى سَائِرِ الْيَهُودِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَوْلُهُ: وَبِئْسَ الْمِهادُ يَحْتَمِلُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقوله لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً تَهْوِيلًا وَتَفْظِيعًا. قَوْلُهُ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ أَيْ: عَلَامَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَهِيَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: كَانَتْ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ ذَكَرَ الْفِعْلَ لِأَجْلِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْمِ بِقَوْلِهِ: لَكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْفِئَتَيْنِ: الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا الْتَقَوْا يَوْمَ بَدْرٍ. قَوْلُهُ: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِرَفْعِ فِئَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ: «فئة» و «كافرة» بِالْخَفْضِ، فَالرَّفْعُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِحْدَاهُمَا فِئَةٌ. وَقَوْلُهُ: تُقاتِلُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: فِئَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَأُخْرى أَيْ: وَفِئَةٌ أُخْرَى كَافِرَةٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. قَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ عَلَى الْحَالِ، أَيِ: الْتَقَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ، مُؤْمِنَةً وَكَافِرَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي وَسُمِّيَتِ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ: فِئَةٌ، لِأَنَّهُ يُفَاءُ إِلَيْهَا أَيْ: يُرْجَعُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ.
وَقَالَ الزجاج: الفئة: الفرقة، مأخوذة مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، إِذَا قَطَعْتَهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِئَتَيْنِ هُمَا الْمُقْتَتِلَتَانِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذَا الْخِطَابِ فَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ وَقِيلَ:
الْيَهُودُ. وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَثْبِيتُ نُفُوسِهِمْ وَتَشْجِيعُهَا، وَفَائِدَتُهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْيَهُودِ عَكْسُ الْفَائِدَةِ الْمَقْصُودَةِ بِخِطَابِ الْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرُّؤْيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: رَأْيَ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَرَى الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَوْلُهُ:
مِثْلَيْهِمْ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أن فاعل ترون هم: المؤمنون، والمفعول هم:
الكفار. والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين، أي: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَفِيهِ بُعْدٌ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا: أَنَّهُ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْكُمْ فِي الْعَدَدِ وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ، فَقَلَّلَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ مِثْلَيْ عُدَّتِهِمْ لِتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ. وَقَدْ كَانُوا أُعْلِمُوا أَنَّ الْمِائَةَ مِنْهُمْ تَغْلِبُ الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي مِثْلَيْهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، أَيْ: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَكُمْ مِثْلَيْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ لِتَقْوَى بِذَلِكَ أَنْفُسُكُمْ، وَقَدْ قَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ: أَعْنِي: أَنَّ فَاعِلَ الرُّؤْيَةِ الْمُشْرِكُونَ، وَأَنَّهُمْ رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ أَنَّهُ لَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «1» بَلْ قُلِّلُوا أَوَّلًا فِي أَعْيُنِهِمْ لِيُلَاقُوهُمْ وَيَجْتَرِئُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَاقَوْهُمْ كَثُرُوا فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى غَلَبُوا. قَوْلُهُ: رَأْيَ الْعَيْنِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: تَرَوْنَهُمْ أَيْ: رُؤْيَةً ظَاهِرَةً مَكْشُوفَةً، لَا لَبْسَ فِيهَا وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُقَوِّي مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُقَوِّيَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَأْيِيدُ أَهْلِ بَدْرٍ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ، إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في
__________
(1) . الأنفال: 4.(1/369)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
رُؤْيَةِ الْقَلِيلِ كَثِيرًا لَعِبْرَةً فِعْلَةً مِنَ الْعُبُورِ، كَالْجِلْسَةِ مِنَ الْجُلُوسِ. وَالْمُرَادُ الِاتِّعَاظُ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَوْعِظَةٌ جَسِيمَةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ قَالَ: كَصَنِيعِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: كَفِعْلِ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: كَسُنَّتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَصَابَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ مَا أَصَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَمَعَ الْيَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ يَهُودَ! أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِمَا أَصَابَ قُرَيْشًا، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنْ قَتَلْتَ نَفَرًا كَانُوا غِمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَبْصارِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أبي حاتم، عن عاصم بن عمر عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ فِنْحَاصُّ الْيَهُودِيُّ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ: عِبْرَةٌ وَتَفَكُّرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ وَأُخْرى كافِرَةٌ فِئَةُ قُرَيْشٍ الْكُفَّارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ يَقُولُ: قَدْ كَانَ لَكُمْ في هؤلاء عبرة وتفكر، أَيَّدَهُمُ اللَّهُ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَكَانَ أَصْحَابُ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يَضْعُفُونَ عَلَيْنَا، ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي التَّخْفِيفِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مِثْلَيْهِمْ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَعِشْرِينَ فأيّد الله المؤمنين.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)
قَوْلُهُ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ إِلَخْ: كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ حَقَارَةِ مَا تَسْتَلِذُّهُ الأنفس في هَذِهِ الدَّارِ، وَالْمُزَيِّنُ:
قِيلَ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وغيره، ويؤيده قوله تعالى:
__________
(1) . آل عمران: 12- 13.(1/370)
إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ «1» . وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ: هُوَ الشَّيْطَانُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، حَكَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ زُيِّنَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْجِنْسُ. وَالشَّهَوَاتُ: جَمْعُ شَهْوَةٍ وَهِيَ: نُزُوعُ النَّفْسِ إِلَى مَا تُرِيدُهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُشْتَهَيَاتُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالشَّهَوَاتِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا، أَوْ تَحْقِيرًا لَهَا لِكَوْنِهَا مُسْتَرْذَلَةً عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنْ صِفَاتِ الطَّبَائِعِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَوَجْهُ تَزْيِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهَا ابْتِلَاءُ عِبَادِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَقَوْلُهُ:
مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ حَالَ كَوْنِهَا مِنَ النِّسَاءِ والبنين إلخ.
وبدأ بالنساء لكثرة تشوق النُّفُوسِ إِلَيْهِنَّ لِأَنَّهُنَّ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَخَصَّ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ لِعَدَمِ الِاطِّرَادِ فِي مَحَبَّتِهِنَّ. وَالْقَنَاطِيرُ: جَمْعُ قِنْطَارٍ، وَهُوَ: اسْمٌ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْمَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِنْطَارُ مَأْخُوذٌ مِنْ عَقْدِ الشَّيْءِ وَإِحْكَامِهِ: تَقُولُ الْعَرَبُ: قَنْطَرْتُ الشَّيْءَ: إِذَا أَحْكَمْتَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ: الْقَنْطَرَةُ، لِإِحْكَامِهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ لِلسَّلَفِ، سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى: الْمُقَنْطَرَةِ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ:
مَعْنَاهَا الْمُضَعَّفَةُ، وَقَالَ الْقَنَاطِيرُ: ثَلَاثَةٌ، والمقنطرة تسعة. وقال الفراء: القناطير: جمع القنطار، وَالْمُقَنْطَرَةُ:
جَمْعُ الْجَمْعِ، فَتَكُونُ تِسْعَ قَنَاطِيرَ وَقِيلَ: الْمُقَنْطَرَةُ: الْمَضْرُوبَةُ وَقِيلَ: الْمُكَمَّلَةُ، كَمَا يُقَالُ: بَدْرَةٌ مُبَدَّرَةٌ، وَأُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَبِهِ قَالَ مَكِّيٌّ وَحَكَاهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَا تَكُونُ الْمُقَنْطَرَةُ أَقَلَّ مِنْ سَبْعِ قَنَاطِيرَ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بَيَانٌ لِلْقَنَاطِيرِ، أَوْ حَالٌ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قِيلَ هِيَ الْمَرْعِيَّةُ فِي الْمُرُوجِ وَالْمَسَارِحِ، يُقَالُ سَامَتِ الدَّابَّةُ وَالشَّاةُ: إِذَا سَرَحَتْ وَقِيلَ هِيَ الْمُعَدَّةُ لِلْجِهَادِ وَقِيلَ: هِيَ الْحِسَانُ وَقِيلَ:
الْمُعَلَّمَةُ، مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ: الْعَلَامَةُ، أَيِ: الَّتِي يُجْعَلُ عَلَيْهَا عَلَامَةٌ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: الْمُسَوَّمَةُ: الْمُرْسَلَةُ وَعَلَيْهَا رُكْبَانُهَا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْبُلْقُ. وَالْأَنْعَامُ: هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَإِذَا قُلْتَ نَعَمٌ فَهِيَ الْإِبِلُ خَاصَّةً قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كَيْسَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسُ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
وَالْحَرْثُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُحْرَثُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الْمَحْرُوثُ، يَقُولُ: حَرَثَ الرَّجُلُ حَرْثًا: إِذَا أَثَارَ الْأَرْضَ، فَيَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْحَرْثُ: التَّفْتِيشُ. قَوْلُهُ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ وَلَا يَبْقَى، وَفِيهِ تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ في الآخرة. والمآب: المرجع آب يؤوب إِيَابًا: إِذَا رَجَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
قوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أَيْ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَإِبْهَامُ الْخَيْرِ لِلتَّفْخِيمِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ وَعِنْدَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ جَنَّاتٍ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِخَيْرٍ. وَجَنَّاتٌ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: هُوَ جَنَّاتٌ، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَا بعده. قوله:
__________
(1) . الكهف: 7.(1/371)
الَّذِينَ يَقُولُونَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَالصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ: نَعْتٌ لِلْمَوْصُولِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَدَلًا، أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ خَبَرًا يَكُونُ الصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ: مَنْصُوبَةً عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الصَّبْرِ وَالصِّدْقِ وَالْقُنُوتِ. قَوْلُهُ: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ هُمُ السَّائِلُونَ لِلْمَغْفِرَةِ بِالْأَسْحَارِ، وَقِيلَ: الْمُصَلُّونَ. وَالْأَسْحَارُ: جَمْعُ سَحَرٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ حِينِ يُدْبِرُ اللَّيْلُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَخَصَّ الْأَسْحَارَ لِأَنَّهَا مِنْ أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، لَمَّا نَزَلَتْ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قَالَ: الْآنَ يَا رَبِّ حِينَ زَيَّنْتَهَا لَنَا، فَنَزَلَتْ: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ بِلَفْظِ خَيْرٍ. انْتَهَى إلى قوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ فَبَكَى وَقَالَ: بَعْدَ مَاذَا، بَعْدَ مَاذَا، بَعْدَ مَا زَيَّنْتَهَا؟. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْقِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الوراث عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي بكر ابن أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا أَصَحُّ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ فَقَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفُ أُوقِيَّةٍ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «الْقِنْطَارُ أَلْفُ أُوقِيَّةٍ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ» . وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وأخرجه ابن جرير مِنْ قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: الْقِنْطَارُ مِلْءُ مَسْكِ (جِلْدِ) الثَّوْرِ ذَهَبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْقِنْطَارُ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْقِنْطَارُ ثَمَانُونَ أَلْفًا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الْقِنْطَارُ مِائَةُ رَطْلٍ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: الْقِنْطَارُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ مثقال، والمثال أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ. وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُقَنْطَرَةَ: الْمَضْرُوبَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قَالَ: الرَّاعِيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الرَّاعِيَةُ وَالْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَأَخْرَجَا عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: تَسْوِيمُهَا: حُسْنُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ الْغِرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ قَالَ: قَوْمٌ صَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَصَبَرُوا عَنْ محارمه، وَالصَّادِقِينَ: قَوْمٌ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ، وَصَدَقُوا في السرّ والعلانية، وَالْقانِتِينَ هم المطيعون وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أَهْلُ الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ(1/372)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ صَلَاةَ الصُّبْحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَغْفِرَ بِالْأَسْحَارِ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ! أَيُّ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: يَا دَاوُدُ! مَا أَدْرِي إِلَّا أَنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ فِي السَّحَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخَرِ، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مستغفر فأغفر له؟» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
قَوْلُهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَيْ: بَيَّنَ وَأَعْلَمَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّاهِدُ: هو الذين يعلم الشيء ويبينه، فقد دلنا الله عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِمَا خَلَقَ وَبَيَّنَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَهِدَ اللَّهُ بِمَعْنَى: قَضَى، أَيْ: أَعْلَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا مَرْدُودٌ مِنْ جِهَاتٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا شَبَّهَتْ دَلَالَتَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِأَفْعَالِهِ، ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ: بِأَنَّهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْبَاءُ، كَمَا فِي: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، أَيْ:
بِالْخَيْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّهُ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، بِتَضْمِينِ شَهِدَ مَعْنَى قَالَ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُهَلَّبِ: شُهَداءَ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ وَالْمَلائِكَةُ عَطْفٌ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، وَشَهَادَتُهُمْ: إِقْرَارُهُمْ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: وَأُولُوا الْعِلْمِ مَعْطُوفٌ أَيْضًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَشَهَادَتُهُمْ:
بِمَعْنَى الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، وَمَا يَقَعُ مِنَ الْبَيَانِ لِلنَّاسِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَعْنًى يَشْمَلُ شَهَادَةَ اللَّهِ، وَشَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُولِي الْعِلْمِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي: أُولِي الْعِلْمِ هَؤُلَاءِ، مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ وَقِيلَ: مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَقِيلَ:
الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ، وَهُوَ الْحَقُّ، إِذْ لَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ. وَفِي ذَلِكَ فضيلة لأهل العلم جليلة، ومنقبة نبيلة لقرنهم بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْعِلْمِ هُنَا: عُلَمَاءُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِمَا، إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِعِلْمٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ.
وَقَوْلُهُ: قائِماً بِالْقِسْطِ: أَيِ الْعَدْلِ، أَيْ: قَائِمًا بِالْعَدْلِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ أَوْ مُقِيمًا لَهُ، وَانْتِصَابُ قَائِمًا:
عَلَى الْحَالِ مِنَ الِاسْمِ الشَّرِيفِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهَا حال مؤكدة كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «1» وَجَازَ إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ دُونَ مَا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ لِعَدَمِ اللبس وقيل: إنه منصوب على
__________
(1) . البقرة: 91. [.....](1/373)
الْمَدْحِ وَقِيلَ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: إِلهَ أَيْ: لَا إِلَهَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا هُوَ، أَوْ هُوَ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا هُوَ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَلَمَّا قطعت نصب كقوله: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «1» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ. وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ تَكْرِيرٌ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كَالدَّعْوَى، وَالْأَخِيرَةُ كَالْحُكْمِ.
وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: الْأُولَى: وَصْفٌ وَتَوْحِيدٌ، وَالثَّانِيَةُ: رَسْمٌ وَتَعْلِيمٌ. وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مُرْتَفِعَانِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَوِ الْوَصْفِيَّةِ لِفَاعِلِ شَهِدَ، لِتَقْرِيرِ مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ. قَوْلُهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِ إِنَّ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَقُرِئَ: بِفَتْحِ أَنَّ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَنْصِبُهُمَا جَمِيعًا يَعْنِي قَوْلَهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ وَقَوْلَهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ بِمَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ كَذَا وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّ الثَّانِيَةَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَا فِي الْأَصْلِ مُتَغَايِرَيْنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَمَعْنَى الْإِيمَانِ، وَصَدَّقَهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمِ الْآخَرِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَوْلُهُ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَانَ لِمُجَرَّدِ الْبَغْيِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الدُّخُولُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمُ الْمُنَزَّلَةُ إِلَيْهِمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ: هُوَ خِلَافُهُمْ فِي كون نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي نُبُوَّةِ عِيسَى وَقِيلَ:
اخْتِلَافُهُمْ فِي ذَاتِ بَيْنِهِمْ، حتى قالت اليهود: ليس النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليس الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ أَيْ: بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فَيُجَازِيهِ، وَيُعَاقِبُهُ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِهِ، وَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ، مَعَ كَوْنِهِ مَقَامَ الْإِضْمَارِ:
لِلتَّهْوِيلِ عَلَيْهِمْ وَالتَّهْدِيدِ لَهُمْ. قَوْلُهُ: فَإِنْ حَاجُّوكَ أَيْ: جَادَلُوكَ بِالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَقْوَالِ الْمُحَرَّفَةِ، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أَيْ: أَخْلَصْتُ ذَاتِي لِلَّهِ، وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنْ سَائِرِ الذَّاتِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، وَأَجْمَعَهَا لِلْحَوَاسِّ، وَقِيلَ: الْوَجْهُ هُنَا: بِمَعْنَى الْقَصْدِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنِ اتَّبَعَنِ عَطْفٌ عَلَى فَاعِلِ أَسْلَمْتُ، وَجَازَ لِلْفَصْلِ، وَأَثْبَتَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ الْيَاءَ فِي: اتَّبَعَنِ، عَلَى الْأَصْلِ وَحَذَفَهَا الْآخَرُونَ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى: مَعَ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّينَ هُنَا: مشركو العرب. وقوله:
أَأَسْلَمْتُمْ استفهام تقرير يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ، أَيْ: أَسْلِمُوا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
أَأَسْلَمْتُمْ تَهْدِيدٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ أَتَاكُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ مَا يُوجِبُ الإسلام، فهل عملتم بِمُوجِبِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ تَبْكِيتًا لَهُمْ وَتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ فِي الْإِنْصَافِ وَقَبُولِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: فَقَدِ اهْتَدَوْا أَيْ: ظَفِرُوا بِالْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْحَظُّ الْأَكْبَرُ، وَفَازُوا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الْحُجَّةِ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمُوجِبِهَا: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أَيْ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُبْلِغَهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَلَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر، فلا
__________
(1) . النحل: 52.(1/374)
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَالْبَلَاغُ: مَصْدَرٌ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، لِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: قائِماً بِالْقِسْطِ قَالَ: بِالْعَدْلِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قَالَ:
الْإِسْلَامُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَ لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءَهُ، لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ، لِكُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ صَنَمٌ أَوْ صَنَمَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْآيَةَ، فَأَصْبَحَتِ الْأَصْنَامُ كُلُّهَا قَدْ خَرَّتْ سُجَّدًا لِلْكَعْبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الشَّحَامِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ «1» إِلَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ «2» هُنَّ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ، يَقُلْنَ يَا رَبِّ تَهَبَّطْنَا إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى مَنْ يَعْصِيكَ؟ قَالَ اللَّهُ: إِنِّي حَلَفْتُ لَا يَقْرَؤُكُنَّ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَإِلَّا أَسْكَنْتُهُ حَظِيرَةَ الْقُدُسِ، وَإِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنِي الْمَكْنُونَةِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ نَظْرَةً، وَإِلَّا قَضَيْتُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ، وَإِلَّا أَعَذْتُهُ مِنْ كُلِّ عَدُّوٍ وَنَصَرْتُهُ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وفيه: «لا يتلو كنّ عَبْدٌ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ إِلَّا غَفَرْتُ لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ، وَأَسْكَنْتُهُ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَقَضَيْتُ لَهُ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَقَالَ:
وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» وَلَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ: «وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَضَعَّفَهُ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تجارة فنزلت قريبا من الأعمش، فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ «3» شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فَقَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ بِهِ اللَّهُ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي وَدِيعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَهَا مِرَارًا، فَقُلْتُ: لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا شَيْئًا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
__________
(1) . آل عمران: 26.
(2) . آل عمران: 27.
(3) . الصواب: الآيتين.(1/375)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
«يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ: عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ أَدْخِلُوا عَبْدِيَ الْجَنَّةَ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: بَغْياً بَيْنَهُمْ يَقُولُ: بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبِ مُلْكِهَا وَسُلْطَانِهَا، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الدُّنْيَا مِنْ بَعْدِ مَا كَانُوا عُلَمَاءَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ قَالَ: إِنْ حَاجَّكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْأُمِّيِّينَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يكتبون.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 25]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
قَوْلُهُ: بِآياتِ اللَّهِ ظَاهِرُهُ: عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَعْنِي: الْيَهُودَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ أَيْ: بِالْعَدْلِ. وَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُمُ النَّبِيُّونَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَتَلُوهُمْ، فَقَامَ أُنَاسٌ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرُوهُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَقَتَلُوهُمْ. فَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ إِلَخْ، وَدَخَلَتْهُ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ: إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَقَالُوا إِنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ فِي خَبَرِ إِنَّ وَإِنْ تَضَمَّنَ اسْمُهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ قَدْ نُسِخَ بِدُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ سِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشُ وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا: إِلَى أَنَّ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْمُبْتَدَأُ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَا يُنْسَخُ بِدُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ الْمَكْسُورَةِ الْمَفْتُوحَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «1» . وَقَوْلُهُ: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِحْبَاطِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا حَبِطَتْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِحَسَنَاتِهِمْ أَثَرٌ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُعَامَلُوا فِيهَا مُعَامَلَةُ أَهْلِ الْحَسَنَاتِ، بَلْ عُومِلُوا مُعَامَلَةَ أَهْلِ السَّيِّئَاتِ، فَلُعِنُوا، وَحَلَّ بِهِمُ الْخِزْيُ وَالصَّغَارُ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ.
قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فِيهِ تَعْجِيبٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِكُلِّ مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ: أَحْبَارُ الْيَهُودِ. وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، وَتَنْكِيرُ النَّصِيبِ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: نَصِيبًا عَظِيمًا، كَمَا يُفِيدُهُ مَقَامَ الْمُبَالَغَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّحْقِيرِ فَلَمْ يُصِبْ. فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ، وَذَلِكَ بأنهم
__________
(1) . الأنفال: 41.(1/376)
يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ الذي أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ والحال مُعْرِضُونَ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا دُعُوا إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ، وذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَرَّ مِنَ التَّوَلِّي والإعراض بسبب بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَهِيَ مِقْدَارُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا الْقَوْلُ.
قَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ هُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالٌ لِمَا غَرَّهُمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ، أَيْ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي لَا يَرْتَابُ مُرْتَابٌ فِي وُقُوعِهِ؟، فَإِنَّهُمْ يَقَعُونَ لَا مَحَالَةَ، وَيَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهِ بِالْحِيَلِ وَالْأَكَاذِيبِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَيْ: جَزَاءَ مَا كَسَبَتْ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ. وَالْمُرَادُ: كُلُّ النَّاسِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ نَفْسٍ قَالَ الْكِسَائِيُّ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ بِمَعْنَى: فِي، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْمَعْنَى: لِحِسَابِ يَوْمٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى: لِمَا يَحْدُثُ فِي يَوْمٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ رَجُلًا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا أَوَّلَ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: بَعَثَ عِيسَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، فَكَانَ يَنْهَى عَنْ نِكَاحِ بِنْتِ الْأَخِ، وَكَانَ مَلِكٌ لَهُ بِنْتُ أَخٍ تُعْجِبُهُ فَأَرَادَهَا وَجَعَلَ يَقْضِي لَهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَةً، فَقَالَتْ لَهَا أُمُّهَا: إِذَا سَأَلَكِ عَنْ حَاجَةٍ فَقُولِي حَاجَتِي أَنْ تَقْتُلَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَقَالَ: سَلِي غَيْرَ هَذَا، فَقَالَتْ:
لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَ هَذَا، فَلَمَّا أَبَتْ أَمَرَ بِهِ فَذُبِحَ فِي طَسْتٍ، فَبَدَرَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخَتُنَصَّرَ، فَدَلَّتْ عَجُوزٌ عَلَيْهِ، فَأَلْقَى فِي نَفْسِهِ أَنْ لَا يَزَالَ يَقْتُلُ حَتَّى يَسْكُنَ هَذَا الدَّمُ، فَقَتَلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ وَسِنٍّ وَاحِدٍ سَبْعِينَ أَلْفًا فَسَكَنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن معقل ابن أَبِي مِسْكِينٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ، فَيَقُومُ رِجَالٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ، فَيُقْتَلُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ: وُلَاةُ الْعَدْلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَتَيْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ» قَالَ: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا. قَالَ لهما النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «فَهَلُمَّا إِلَى التَّوْرَاةِ فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» فَأَبَيَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً(1/377)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ
الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: نَصِيباً قَالَ:
حَظًّا مِنَ الْكِتابِ قَالَ: التَّوْرَاةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قَالَ: يَعْنُونَ الْأَيَّامَ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا آدَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ حِينَ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ يَعْنِي تُوَفَّى كُلُّ نَفْسِ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ مَا كَسَبَتْ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ يعني: من أعمالهم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُمَّ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيعُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنْ أَصْلَ اللَّهُمَّ يَا اللَّهُ، فَلَمَّا اسْتُعْمِلَتِ الْكَلِمَةُ دُونَ حرف النداء الَّذِي هُوَ «يَا» جَعَلُوا بَدَلَهُ هَذِهِ الْمِيمَ المشددة، فجاؤوا بِحَرْفَيْنِ وَهُمَا الْمِيمَانِ عِوَضًا مِنْ حَرْفَيْنِ وَهُمَا الْيَاءُ وَالْأَلِفُ وَالضَّمَّةُ فِي الْهَاءِ: هِيَ ضَمَّةُ الِاسْمِ الْمُنَادَى الْمُفْرَدِ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَالْكُوفِيُّونَ:
إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّهُمَّ يَا اللَّهُ أُمَّنَا بخير، فحذف وخلط الكلمتين وَالضَّمَّةُ الَّتِي فِي الْهَاءِ: هِيَ الضَّمَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي أُمَّنَا، لَمَّا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ انْتَقَلَتِ الحركة. قال النحاس: هذا عند الكوفيين مِنَ الْخَطَأِ الْعَظِيمِ، وَالْقَوْلُ فِي هَذَا: مَا قاله الخليل وسيبويه. وقال الْكُوفِيُّونَ: وَقَدْ يُدْخَلُ حَرْفُ النِّدَاءِ عَلَى اللَّهُمَّ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ:
غَفَرْتَ أَوْ عَذَّبْتَ يَا اللَّهُمَّا وَقَوْلَ الْآخَرِ:
وَمَا عَلَيْكَ أن تقولي كلّما ... سبّحت أو هلّلت يا اللهمّ ما
وَقَوْلَ الْآخَرِ:
إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا ... أقول يا اللهمّ يا اللهمّا
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْمِيمُ عِوَضًا مِنْ حَرْفِ النداء لما اجتمعا. قال الزجاج: هذا شَاذٌّ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ، فَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ. قَوْلُهُ: مالِكَ الْمُلْكِ أَيْ: مَالِكَ جِنْسِ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَالِكَ: مَنْصُوبٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ نِدَاءٌ ثَانٍ، أَيْ: يَا مَالِكَ الْمُلْكِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ لِأَنَّ الْمِيمَ عِنْدَهُ تَمْنَعُ الْوَصْفِيَّةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» .
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ، وَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَصْوَبُ وَأَبْيَنُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسم مفرد ضم إليه
__________
(1) . الزمر: 46.(1/378)
صَوْتٌ، وَالْأَصْوَاتُ لَا تُوصَفُ، نَحْوَ: غَاقْ وَمَا أَشْبَهَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى مَالِكُ الْعِبَادِ وَمَا مَلَكُوا وَقِيلَ:
الْمَعْنَى مَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقِيلَ: الْمُلْكُ هُنَا: النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: الْغَلَبَةُ وَقِيلَ: الْمَالُ وَالْعَبِيدُ. وَالظَّاهِرُ شُمُولُهُ لِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُلْكِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أَيْ: مَنْ تَشَاءُ إِيتَاءَهُ إِيَّاهُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ نَزْعَهُ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِمَا يُؤْتِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَيَنْزِعُهُ: هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْمُلْكِ الْعَامِّ. قَوْلُهُ:
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، يُقَالُ: عَزَّ، إِذَا غَلَبَ، وَمِنْهُ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «1» وَقَوْلُهُ: وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، يُقَالُ: ذَلَّ ذُلًّا، إِذَا غَلَبَ وَقَهَرَ. قَوْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ لَا بِيَدِ غَيْرِكَ، وَذَكَرَ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ: لِأَنَّ الْخَيْرَ بِفَضْلٍ مَحْضٍ، بِخِلَافِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَزَاءً لِعَمَلٍ وُصِلَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ شَرٍّ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مِنْ قَضَائِهِ سُبْحَانَهُ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْخَيْرِ، فَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا خَيْرٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ حُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» وَأَصْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَقِيلَ: خَصَّ الْخَيْرَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ دُعَاءٍ.
قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: تَعْلِيلٌ لِمَا سَبَقَ وَتَحْقِيقٌ لَهُ. قَوْلُهُ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أَيْ: تُدْخِلُ مَا نَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: تُعَاقِبُ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ زَوَالُ أَحَدِهِمَا وُلُوجًا فِي الْآخَرِ. قَوْلُهُ: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الْحَيَوَانِ وَهُوَ حَيٌّ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَإِخْرَاجُ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ مِنَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ حَيٌّ وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الطَّائِرِ وَهُوَ حَيٌّ مِنَ الْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَإِخْرَاجُ الْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ مِنَ الدَّجَاجَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ. قَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ: بِغَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، كَمَا تَقُولُ:
فُلَانٌ يُعْطِي بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْبَاءُ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ: «أَنَّهُ شَكَا إِلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ أَنْ يَتْلُوَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ يَقُولَ: رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا، تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُمَا وَتَمْنَعُ مَنْ تَشَاءُ، ارْحَمْنِي رَحْمَةً تُغْنِينِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ، اللَّهُمَّ أَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ وَاقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ» . وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: «أَلَا أُعَلِّمَكَ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ دَيْنًا لَأَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ» فَذَكَرَهُ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «3» بَعْضُ فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ قَالَ: النُّبُوَّةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الْآيَةَ، قَالَ:
تَأْخُذُ الصَّيْفَ مِنَ الشِّتَاءِ، وَتَأْخُذُ الشِّتَاءَ مِنَ الصَّيْفِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ تُخْرِجُ الرَّجُلَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ تُخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الرَّجُلِ الحيّ. وأخرج عبد بن حميد، وابن
__________
(1) . ص: 23.
(2) . النحل: 81.
(3) . آل عمران: 18.(1/379)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ قَالَ: مَا نَقَصَ مِنَ النَّهَارِ تَجْعَلُهُ فِي اللَّيْلِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ اللَّيْلِ تَجْعَلُهُ فِي النَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَالَ: تُخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الْحَيِّ، ثُمَّ تُخْرِجُ مِنَ النُّطْفَةِ بَشَرًا حَيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَالَ: هِيَ الْبَيْضَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحَيِّ وَهِيَ مَيْتَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا الْحَيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: النَّخْلَةُ مِنَ النَّوَاةِ، وَالنَّوَاةُ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْحَبَّةُ مِنَ السُّنْبُلَةِ، وَالسُّنْبُلَةُ مِنَ الْحَبَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ. وَالْمُؤْمِنُ عَبْدٌ حَيُّ الْفُؤَادِ، وَالْكَافِرُ عَبْدٌ مَيِّتُ الْفُؤَادِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْهُ، أَوْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ خَالِدَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قِيلَ: خَالِدَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ، قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً، وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا. وأخرج ابن سعد عن عائشة مثله.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 30]
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
قَوْلُهُ: لَا يَتَّخِذِ فِيهِ النَّهْيُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ «1» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ «2» وقوله: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «3» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «4» ، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ «5» . وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ: مُتَجَاوِزِينَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكَافِرِينَ اسْتِقْلَالًا أَوِ اشْتِرَاكًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِلَى الاتخاذ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أَيْ: مِنْ وِلَايَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ هُوَ مُنْسَلِخٌ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً عَلَى صِيغَةِ الْخِطَابِ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، أَيْ:
إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ أَمْرًا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ. وَتُقَاةٌ: مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ، وَأَصْلُهَا: وِقْيَةٌ، عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً وَالْيَاءُ أَلِفًا، وَقَرَأَ رَجَاءٌ، وَقَتَادَةُ تَقِيَّةً. وَفِي ذلك دليل على
__________
(1) . آل عمران: 118.
(2) . المائدة: 51.
(3) . المجادلة: 22.
(4) . المائدة: 51.
(5) . الممتحنة: 1. [.....](1/380)
جَوَازِ الْمُوَالَاةِ لَهُمْ مَعَ الْخَوْفِ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ، فَقَالُوا:
لَا تَقِيَّةَ بَعْدَ أَنْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ. قَوْلُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أَيْ: ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ، وَإِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ جَائِزٌ فِي الْمُشَاكَلَةِ كَقَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ «1» وَفِي غَيْرِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ إِلَّا مُشَاكَلَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ اسْتَغْنَوْا عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا وَصَارَ الْمُسْتَعْمَلَ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فَمَعْنَاهُ: تَعْلَمُ مَا عِنْدِي وَمَا فِي حَقِيقَتِي وَلَا أَعْلَمُ مَا عِنْدَكَ وَلَا مَا فِي حَقِيقَتِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ الله عقابه مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
«2» فَجُعِلَتِ النَّفْسُ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَتَخْوِيفٌ عَظِيمٌ لِعِبَادِهِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِعِقَابِهِ بِمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ. قَوْلُهُ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ الْآيَةَ، فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُضْمِرُهُ الْعَبْدُ وَيُخْفِيهِ، أَوْ يُظْهِرُهُ وَيُبْدِيهِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُخْفُونَهَا أَوْ يُبْدُونَهَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: يَوْمَ تَجِدُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَقِيلَ:
بِمَحْذُوفٍ، أي: اذكر، ومُحْضَراً حَالٌ، وَقَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا الْأُولَى، أَيْ: وَتَجِدُ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مُحْضَرًا تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. فَحَذَفَ مُحْضَرًا لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ تَجِدُ مِنْ وِجْدَانِ الضَّالَّةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ: وَجَدَ، بِمَعْنَى: عَلِمَ، كَانَ مُحْضَرًا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَيَكُونُ مَا فِي: مَا عَمِلَتْ، مُبْتَدَأٌ، وَيَوَدُّ خَبَرُهُ. وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ، وَجَمْعُهُ آمَادٌ، أَيْ: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَمِلَتْ مِنَ السُّوءِ أَمَدًا بَعِيدًا وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ تَجِدُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: تَوَدُّ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَبَيْنَهُ لِلْيَوْمِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ لِلتَّأْكِيدِ وَلِلِاسْتِحْضَارِ لِيَكُونَ هَذَا التَّهْدِيدُ الْعَظِيمُ عَلَى ذِكْرٍ مِنْهُمْ، وَفِي قوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْذِيرَ الشَّدِيدَ مُقْتَرِنٌ بِالرَّأْفَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ لُطْفًا بِهِمْ. وَمَا أَحْسَنَ مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَمُوتُ وَتُبْعَثُ وَتَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: أَتُهَدِّدُونَنِي بِمَنْ لَمْ أَرَ الْخَيْرَ قَطُّ إِلَّا مِنْهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَقَيْسِ بْنِ زَيْدٍ قَدْ بَطَّنُوا بِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ خثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النَّفَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ قَالَ:
نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ وَيَتَّخِذُوهُمْ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرِينَ فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ اللُّطْفَ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فقد برىء الله منه. وأخرج
__________
(1) . المائدة: 116.
(2) . يوسف: 82.(1/381)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قَالَ: التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ: مَنْ حُمِلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَهُوَ معصية لله فَيَتَكَلَّمُ بِهِ مَخَافَةَ النَّاسِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: التُّقَاةُ: التَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ، وَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَا يَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقْتُلُ وَلَا إِلَى إِثْمٍ فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ، وَلَيْسَ بِالْعَمَلِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قَالَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَتَصِلُهُ لِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا نَبَشُّ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّقِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ التَّقِيَّةِ بِاللِّسَانِ: أَبُو الشَّعْثَاءِ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا الْآيَةَ قَالَ:
أَخْبَرَهُمْ: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسَرُّوا وَمَا أَعْلَنُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مُحْضَرًا:
يَقُولُ: مُوَفَّرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسُرُّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ ذَلِكَ أَبَدًا، يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ كَانَتْ خَطِيئَتُهُ يَسْتَلِذِّهَا. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَداً بَعِيداً قَالَ: مَكَانًا بَعِيدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَمَدًا قَالَ: أَجَلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قَالَ: مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ حَذَّرَهُمْ نَفْسَهُ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 34]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
الْحُبُّ وَالْمَحَبَّةُ: مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَحَبَّهُ فَهُوَ مُحِبٌّ، وَحَبَّهُ يَحِبُّهُ بِالْكَسْرِ، فَهُوَ مَحْبُوبٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهَذَا شَاذٌّ، لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي الْمُضَاعَفِ يَفْعِلُ بِالْكَسْرِ. قَالَ ابْنُ الدِّهَانِ: فِي حَبَّ لُغَتَانِ: حَبَّ، وَأَحَبَّ، وأصل حبّ في هذه الْبَابِ: حَبَبَ، كَطَرَقَ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِرَادَةِ طَاعَتِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: طَاعَتُهُ لَهُمَا وَاتِّبَاعُهُ أَمْرَهُمَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعِبَادِ: إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالْغُفْرَانِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: فَاتَّبِعُونِي بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ أبي عمرة بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ أَدْغَمَ الرَّاءَ مِنْ يَغْفِرْ فِي اللَّامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يُجِيزُ الْخَلِيلُ وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرة أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَغْلَطَ فِي هَذَا، وَلَعَلَّهُ كان يخفي الحركة كما يفعل في أَشْيَاءَ كَثِيرَةً. قَوْلُهُ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، أَيْ: في جميع الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا يَحْتَمِلُ أَنْ يكون من تمام مقول القول،
__________
(1) . النحل: 106.(1/382)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
فيكون مضارعا حذفت فيه إحدى التاءين: أي تتولوا، ويحتمل أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ مَاضِيًا.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ نَفْيُ الْمَحَبَّةِ كِنَايَةٌ عَنِ الْبُغْضِ وَالسُّخْطِ. وَوَجْهُ الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ:
فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ كَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ إِضْمَارٍ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ أَوِ التَّعْمِيمِ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ إِلَخْ.
لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ الْمَرْضِيَّ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِ، وَأَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الْبَغْيِ عَلَيْهِ وَالْحَسَدِ لَهُ، شَرَعَ فِي تَقْرِيرِ رِسَالَةِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ. وَالِاصْطِفَاءُ: الِاخْتِيَارُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اخْتَارَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيِ: اصْطَفَى دِينَ آدَمَ، إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ الْعَالَمِينَ، وَتَخْصِيصُ آدَمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ، وَكَذَلِكَ نُوحٌ، فَإِنَّهُ آدَمُ الثَّانِي، وَأَمَّا آلُ إِبْرَاهِيمَ، فلكون النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مَعَ كَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا آلُ عِمْرَانَ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ كَانَ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ وَجْهٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ: إِبْرَاهِيمُ نَفْسُهُ، وَبِآلِ عِمْرَانَ: عِمْرَانُ نَفْسُهُ. قَوْلُهُ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ نَصْبُ ذَرِّيَّةً عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِمَّا قَبْلَهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ، وَبَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى صِفَةِ الذُّرِّيَّةِ، وَمَعْنَاهُ: مُتَنَاسِلَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ، أَوْ مُتَنَاصِرَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ فِي الدِّينِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أبي حاتم عن الْحَسَنِ مِنْ طُرُقٍ قَالَ: قَالَ أَقْوَامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ! إِنَّا لِنُحِبُّ رَبَّنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ أَيْ: إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِكُمْ فِي عِيسَى حُبًّا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أَيْ: مَا مَضَى مِنْ كُفْرِكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَآلِ يَاسِينَ، وَآلِ مُحَمَّدٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ قَالَ فِي النية والعمل، والإخلاص والتوحيد.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 35 الى 37]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
قَوْلُهُ: إِذْ قالَتِ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِذْ زَائِدَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ إِذْ قَالَتْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: اصْطَفى وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: سَمِيعٌ عَلِيمٌ(1/383)
وَامْرَأَةُ عِمْرَانَ اسْمُهَا: حَنَّةُ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، بِنْتُ فَاقُودَ بْنِ قُبَيْلٍ أُمُّ مَرْيَمَ، فَهِيَ جَدَّةُ عِيسَى.
وَعِمْرَانُ: هُوَ ابْنُ مَاثَانَ جَدُّ عِيسَى. قَوْلُهُ: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي تَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ، وَهَذَا النَّذْرُ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ. وَمَعْنَى: لَكَ أَيْ: لِعِبَادَتِكَ. وَمُحَرَّرًا: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَتِيقًا خَالِصًا لِلَّهِ خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْحُرِّيَّةُ الَّتِي هِيَ ضِدُّ الْعُبُودِيَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُحَرَّرِ هُنَا: الْخَالِصُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، الَّذِي لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَرَجَّحَ هَذَا بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ عِمْرَانَ وَامْرَأَتَهُ حُرَّانِ. قَوْلُهُ: فَتَقَبَّلْ مِنِّي التَّقَبُّلُ: أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا، أَيْ: تَقَبَّلْ مِنِّي نَذْرِي بِمَا فِي بَطْنِي. قَوْلُهُ: فَلَمَّا وَضَعَتْها التَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ مَا عُلِمَ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّ الَّذِي فِي بَطْنِهَا أُنْثَى، أَوْ لِكَوْنِهِ أُنْثَى فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ بِتَأْوِيلِ مَا فِي بَطْنِهَا بِالنَّفْسِ أَوِ النَّسَمَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى إِنَّمَا قَالَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُقْبَلُ فِي النَّذْرِ إِلَّا الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى، فَكَأَنَّهَا تَحَسَّرَتْ وَتَحَزَّنَتْ لِمَا فَاتَهَا مِنْ ذَلِكَ الَّذِي كَانَتْ تَرْجُوهُ وَتُقَدِّرُهُ، وَأُنْثَى: حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ مِنَ الضَّمِيرِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، بِضَمِّ التَّاءِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهَا وَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، وَفِيهِ مَعْنَى:
التَّسْلِيمِ لِلَّهِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّنْزِيهِ لَهُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَضَعَتْ، فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِمَا وَضَعَتْهُ، وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهِ، وَالتَّجْلِيلِ لَهَا، حَيْثُ وَقَعَ مِنْهَا التَّحَسُّرُ وَالتَّحَزُّنُ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْهَا سَيَجْعَلُهَا اللَّهُ وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَعِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَيَخْتَصُّهَا بِمَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِما وَضَعَتْ بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهَا، أَيْ: إِنَّكِ لَا تَعْلَمِينَ قَدْرَ هَذَا الْمَوْهُوبِ، وَمَا عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَقَاصَرُ عَنْهَا الْأَفْهَامُ، وَتَتَضَافَرُ عِنْدَهَا الْعُقُولُ. قَوْلُهُ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى أَيْ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبَتْ كَالْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا أَرَادَتْ مِنْ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ، وَأَمْرُ هَذِهِ الْأُنْثَى عَظِيمٌ وَشَأْنُهَا فَخِيمٌ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ تَعْظِيمِ الْمَوْضُوعِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ، وَاللَّامُ فِي: الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِلْعَهْدِ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهَا وَمِنْ تَمَامِ تَحَسُّرِهَا وَتَحَزُّنِهَا، أَيْ: لَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا، وَيَصْلُحُ لِلنُّذُرِ، كَالْأُنْثَى الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَكَأَنَّهَا أَعْذَرَتْ إِلَى رَبِّهَا مِنْ وُجُودِهَا لَهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَصَدَتْ. قَوْلُهُ: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عَطْفٌ عَلَى إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَمَقْصُودُهَا مِنْ هَذَا الْإِخْبَارِ بِالتَّسْمِيَةِ: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا مُطَابِقًا لِمَعْنَى اسْمِهَا، فَإِنَّ مَعْنَى مَرْيَمَ خَادِمُ الرَّبِّ بِلُغَتِهِمْ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِخِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْعَابِدَاتِ. قَوْلُهُ: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، وَالرَّجِيمُ الْمَطْرُودُ، وَأَصْلُهُ الْمَرْمِيُّ بِالْحِجَارَةِ، طَلَبَتِ الْإِعَاذَةَ لَهَا وَلِوَلَدِهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَأَعْوَانِهِ. قَوْلُهُ: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ أَيْ: رَضِيَ بِهَا فِي النُّذُرِ، وَسَلَكَ بِهَا مَسْلَكَ السُّعَدَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى التَّقَبُّلِ التَّكَفُّلُ وَالتَّرْبِيَةُ وَالْقِيَامُ بِشَأْنِهَا، وَالْقَبُولُ: مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ السَّابِقِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْأَصْلُ: تَقَبُّلًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَأَصْلُهُ: إِنْبَاتًا،(1/384)
فَحُذِفَ الْحَرْفُ الزَّائِدُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَنَبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَوَّى خَلْقَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ قِيلَ، إِنَّهَا كَانَتْ تَنْبُتُ فِي الْيَوْمِ مَا يَنْبُتُ الْمَوْلُودُ فِي عَامٍ وَقِيلَ هُوَ مَجَازٌ عَنِ التَّرْبِيَةِ الْحَسَنَةِ الْعَائِدَةِ عَلَيْهَا بِمَا يُصْلِحُهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، قَوْلُهُ: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أَيْ: ضَمَّهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهَا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَكَفَّلَها بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: جَعَلَهُ اللَّهُ كَافِلًا لَهَا وَمُلْتَزِمًا بِمَصَالِحِهَا، وَفِي مَعْنَاهُ: مَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَأَكْفَلَهَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّخْفِيفِ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى زَكَرِيَّا، وَمَعْنَاهُ:
مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ ضَمَّهَا إِلَيْهِ وَضَمِنَ الْقِيَامَ بِهَا. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ مُوسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزمني: وَكَفِلَهَا بِكَسْرِ الْفَاءِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: لَمْ أَسْمَعْ كفل. وقرأ مجاهد فتقبلها بإسكان اللام، على المسألة والطلب، ونصب ربها على أنه مُنَادَى مُضَافٌ. وَقَرَأَ أَيْضًا وَأَنْبِتْهَا بِإِسْكَانِ التَّاءِ وَكَفِّلْهَا بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَنَصَبَ زكرياء مَعَ الْمَدِّ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
زَكَرِيَّا بِغَيْرِ مَدٍّ، وَمَدَّهُ الْبَاقُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَمُدُّونَ زَكَرِيَّا وَيَقْصُرُونَهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ:
فِيهِ لغات: المد والقصر، وزكريّا: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ مَعَ أَلِفِ التَّأْنِيثِ. قَوْلُهُ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ قُدِّمَ الظَّرْفُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَكَلِمَةُ: كُلَّ: ظَرْفٌ، وَالزَّمَانُ مَحْذُوفٌ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَالْعَامِلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَجَدَ أَيْ: كُلَّ زَمَانِ دُخُولِهِ عَلَيْهَا وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، أَيْ: نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ. وَالْمِحْرَابُ فِي اللُّغَةِ: أَكْرَمُ مَوْضِعٍ فِي الْمَجْلِسِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّوَسُّعِ قِيلَ: إِنَّ زَكَرِيَّا جَعَلَ لَهَا مِحْرَابًا: لَا يرتقى إليه إلا بسلم، وكان يغلق عَلَيْهَا حَتَّى كَبِرَتْ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ وَفَاكِهَةَ الصيف في الشتاء، فقال: يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا أَيْ: مِنْ أَيْنَ يَجِيءُ لَكَ هَذَا الرِّزْقُ الَّذِي لَا يُشْبِهُ أَرْزَاقَ الدُّنْيَا؟ قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَجِيبٍ وَلَا مُسْتَنْكَرٍ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تَعْلِيلِيَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهَا، وَمَنْ قال إنه كَلَامِ زَكَرِيَّا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً قَالَ: كَانَتْ نَذَرَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي الْكَنِيسَةِ يَتَعَبَّدُ بِهَا، وَكَانَتْ تَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: نَذَرَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ مُحَرَّرًا لِلْعِبَادَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أبي حاتم عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مُحَرَّراً قَالَ: خَادِمًا لِلْبَيْعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مُحَرَّرًا خَالِصًا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُوَلَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» . وَلِلْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا أَحُدُهَا، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا الْمِحْرَابَ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا عِنَبًا فِي مِكْتَلٍ فِي غَيْرِ حِينِهِ، فَقَالَ: أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَرْزُقُكِ الْعِنَبَ فِي غَيْرِ حِينِهِ لَقَادِرٌ أَنْ يَرْزُقَنِي مِنَ الْعَاقِرِ الْكَبِيرِ الْعَقِيمِ وَلَدًا هُنالِكَ(1/385)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ
. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ مَرْيَمُ ابْنَةَ سَيِّدِهِمْ وَإِمَامِهِمْ، فَتَشَاحَّ عَلَيْهَا أَحْبَارُهُمْ فَاقْتَرَعُوا فِيهَا بِسِهَامِهِمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا، وَكَانَ زَكَرِيَّا زَوْجَ أُخْتِهَا، فَكَفَلَهَا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ وَحَضَنَهَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا قَالَ: جَعَلَهَا مَعَهُ فِي مِحْرَابِهِ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 44]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
قَوْلُهُ: هُنالِكَ ظَرْفٌ يُسْتَعْمَلُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَصْلُهُ لِلْمَكَانِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلزَّمَانِ خَاصَّةً، وَهُنَاكَ لِلْمَكَانِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، وَاللَّامُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْبُعْدِ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ دَعَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ فِيهِ عِنْدَ مَرْيَمَ، أَوْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ: أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَالَّذِي بَعَثَهُ عَلَى ذَلِكَ: مَا رَآهُ مِنْ وِلَادَةِ حَنَّةَ لِمَرْيَمَ وَقَدْ كَانَتْ عَاقِرًا، فَحَصَلَ لَهُ رَجَاءُ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، وَامْرَأَتُهُ عَاقِرًا، أَوْ بَعَثَهُ عَلَى ذَلِكَ: مَا رَآهُ مِنْ فَاكِهَةِ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ وَالصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ عِنْدَ مَرْيَمَ، لِأَنَّ مَنْ أَوْجَدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ يَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ الْوَلَدِ مِنَ الْعَاقِرِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ قِصَّةً مُسْتَأْنَفَةً سِيقَتْ فِي غُضُونِ قِصَّةِ مَرْيَمَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِارْتِبَاطِ. وَالذُّرِّيَّةِ: النسل، يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَيَكُونُ لِلْجَمْعِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هُنَا لِلْوَاحِدِ، قَوْلُهُ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَلَمْ يَقُلْ أَوْلِيَاءَ، وَتَأْنِيثُ طَيِّبَةٍ: لِكَوْنِ لَفْظِ الذُّرِّيَّةِ مُؤَنَّثًا. قَوْلُهُ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قَرَأَ حمزة والكسائي: فناده، وَبِذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قِيلَ الْمُرَادُ هُنَا جِبْرِيلُ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَنِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ فِي العربية، ومنه: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ وَقِيلَ: نَادَاهُ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْجَمْعِ وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مُقَدَّمٌ، فَلَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا لِقَرِينَةٍ. قَوْلُهُ: وَهُوَ قائِمٌ جملة حالية، ويُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: قائِمٌ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ. قَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ قُرِئَ: بِفَتْحٍ أَنَّ، وَالتَّقْدِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ، وَقُرِئَ: بِكَسْرِهَا، عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ:
يُبَشِّرُكَ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بن قيس المكي بكسر الشين وَضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ.
قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ ثَلَاثُ لُغَاتٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي وردت كثيرا في القرآن، ومنه: فَبَشِّرْ عِبادِ «1» فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ «2» فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ»
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ «4» وهي قراءة الجمهور.
__________
(1) . الزمر: 17.
(2) . يس: 11.
(3) . هود: 71.
(4) . الفجر: 55.(1/386)
وَالثَّانِيَةُ: لُغَةُ أَهْلِ تِهَامَةَ، وَبِهَا قَرَأَ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَالثَّالِثَةُ: مِنْ أَبْشَرَ يُبْشِرُ إِبْشَارًا. وَيَحْيَى: مُمْتَنِعٌ، إِمَّا لِكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا، أَوْ لِكَوْنِ فِيهِ وَزْنُ الْفِعْلِ، كَيَعْمَرَ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ حَاكِيًا عَنِ النَّقَّاشِ: كَانَ اسْمُهُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ حَنَّا. انْتَهَى. وَالَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْإِنْجِيلِ أَنَّهُ: يُوحَنَّا قِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ النَّاسَ بِالْهُدَى. وَالْمُرَادُ هُنَا: التَّبْشِيرُ بِوِلَادَتِهِ، أَيْ: يُبَشِّرُكَ بِوِلَادَةِ يَحْيَى. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسُمِّيَ: كَلِمَةَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ كَانَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: كُنْ وَقِيلَ: سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ: لِأَنَّ النَّاسَ يَهْتَدُونَ بِهِ كَمَا يَهْتَدُونَ بِكَلَامِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
مَعْنَى بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ: بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَنْشَدَنِي كَلِمَتَهُ، أَيْ: قَصِيدَتَهُ، كَمَا رُوِيَ: أَنَّ الْحُوَيْدِرَةَ ذُكِرَ لِحَسَّانَ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ، يَعْنِي: قَصِيدَتَهُ. انْتَهَى. وَيَحْيَى أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى وَصَدَّقَ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ عِيسَى بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالسَّيِّدُ: الَّذِي يَسُودُ قَوْمَهُ قَالَ الزَّجَّاجُ:
السَّيِّدُ: الَّذِي يَفُوقُ أَقْرَانَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ. وَالْحَصُورُ: أَصْلُهُ مِنَ الْحَصْرِ، وَهُوَ الْحَبْسُ، يُقَالُ: حَصَرَنِي الشَّيْءُ وَأَحْصَرَنِي، إِذَا حَبَسَنِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وَالْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، كَأَنَّهُ يُحْجِمُ عَنْهُنَّ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ حَصُورٌ، وَحَصِيرٌ: إِذَا حَبَسَ رِفْدَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ، فَيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَصُورًا عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ: أَيْ: مَحْصُورًا لَا يَأْتِيهِنَّ كَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ إِمَّا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِكَوْنِهِ يَكُفُّ عَنْهُنَّ مَنْعًا لِنَفْسِهِ عَنِ الشَّهْوَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَقَدْ رُجِّحَ الثَّانِي بِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مَدْحٍ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى أَمْرٍ مُكْتَسَبٍ يَقْدِرُ فَاعِلُهُ عَلَى خِلَافِهِ، لَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَفِي نَفْسِ الْجِبِلَّةِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: نَاشِئًا مِنَ الصَّالِحِينَ، لِكَوْنِهِ مِنْ نَسْلِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ كَائِنًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّالِحُ: الَّذِي يُؤَدِّي لِلَّهِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَإِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمْ. قَوْلُهُ: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْخِطَابَ مِنْهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ الْوَاصِلُ إِلَيْهِ هُوَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ لِمَزِيدِ التَّضَرُّعِ وَالْجِدُّ فِي طَلَبِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالرَّبِّ جِبْرِيلَ، أَيْ: يَا سَيِّدِي قِيلَ: وَفِي مَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَأَلَ هَلْ يُرْزَقُ هَذَا الْوَلَدَ مِنِ امْرَأَتِهِ الْعَاقِرِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا؟ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِأَيِّ سَبَبٍ أَسْتَوْجِبُ هَذَا، وَأَنَا وَامْرَأَتِي عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ اسْتَبْعَدَ حُدُوثَ الْوَلَدِ مِنْهُمَا مَعَ كَوْنِ الْعَادَةِ قَاضِيَةً بِأَنَّهُ لَا يَحْدُثُ مَنْ مِثْلِهِمَا لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمُ التَّبْشِيرِ كَبِيرًا قِيلَ: فِي تِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ فِي ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أَيْ: وَالْحَالُ ذَلِكَ، جَعَلَ الْكِبَرَ كَالطَّالِبِ لَهُ لِكَوْنِهِ طَلِيعَةً مِنْ طَلَائِعِ الْمَوْتِ فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ. وَالْعَاقِرُ: الَّتِي لَا تَلِدُ أَيْ ذَاتُ عُقْرٍ عَلَى النَّسَبِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ لَقَالَ عَقِيرَةٌ أَيْ: بِهَا عُقْرٌ يَمْنَعُهَا مِنَ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَ دُعَائِهِ بِأَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَمُشَاهَدَتُهُ لِتِلْكَ الْآيَةِ الْكُبْرَى فِي مَرْيَمَ اسْتِعْظَامًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا لِمَحْضِ الِاسْتِبْعَادِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَرَّ بَعْدَ دُعَائِهِ إِلَى وَقْتٍ يَشَاءُ رَبُّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَقِيلَ: عِشْرُونَ سَنَةً فَكَانَ(1/387)
الِاسْتِبْعَادُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. قَوْلُهُ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أَيْ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْعَجِيبَةِ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُوَ إِيجَادُ الْوَلَدِ مِنَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ، وَالْكَافُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَصْدَرِ يَفْعَلُ أَوِ الْكَافُ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ، أَيْ: عَلَى هَذَا الشَّأْنِ الْعَجِيبِ شَأْنِ اللَّهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَفْعَلُ مَا يَشاءُ
بَيَانًا لَهُ، أَوِ الْكَافُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَفْعَلُ اللَّهُ الْفِعْلَ كَائِنًا مِثْلَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ: عَلَامَةً أَعْرِفُ بِهَا صِحَّةَ الْحَبَلِ، فَأَتَلَقَّى هَذِهِ النِّعْمَةَ بالشكر قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً أَيْ: عَلَامَتُكَ أَنْ تَحْبِسَ لِسَانَكَ عَنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ، وَوَجْهُ جَعْلِ الْآيَةِ هَذَا: لِتَخْلُصَ تِلْكَ الْأَيَّامُ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: بِأَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ بِسَبَبِ سُؤَالِهِ الْآيَةَ بَعْدَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالرَّمْزُ فِي اللُّغَةِ: الْإِيمَاءُ بِالشَّفَتَيْنِ، أَوِ الْعَيْنَيْنِ، أَوِ الْحَاجِبَيْنِ، أَوِ الْيَدَيْنِ، وَأَصْلُهُ: الْحَرَكَةُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِكَوْنِ الرَّمْزِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكَلَامَ مَا حَصَلَ بِهِ الْإِفْهَامُ مِنْ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ. قَوْلُهُ: وَسَبِّحْ أَيْ: سَبِّحْهُ بِالْعَشِيِّ وَهُوَ جَمْعُ عَشِيَّةٍ وَقِيلَ: هُوَ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغِيبَ وَقِيلَ: مِنَ الْعَصْرِ إِلَى ذَهَابِ صَدْرِ اللَّيْلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَالْإِبْكارِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الضُّحَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ: الصَّلَاةُ. قوله: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، كَالظَّرْفِ الْأَوَّلِ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ اخْتَارَكِ وَطَهَّرَكِ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ مِنَ الأدناس عَلَى عُمُومِهَا وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ قِيلَ: هَذَا الِاصْطِفَاءُ الْآخَرُ غَيْرُ الِاصْطِفَاءِ الْأَوَّلِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ حَيْثُ تَقَبَلَّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَالْآخَرُ لِوِلَادَةِ عِيسَى. وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ هُنَا: قِيلَ:
نِسَاءُ عَالَمِ زَمَانِهَا وَهُوَ الْحَقُّ وَقِيلَ: نِسَاءُ جَمِيعِ الْعَالَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ الِاصْطِفَاءُ الْآخَرُ تَأْكِيدٌ لِلِاصْطِفَاءِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا جَمِيعًا: واحد. قوله: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أَيْ: أَطِيلِي الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ، أو أديميها، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِي الْقُنُوتِ، وَقَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ، أَوْ لِكَوْنِ صَلَاتِهِمْ لَا تَرْتِيبَ فِيهَا، مَعَ كَوْنِ الْوَاوِ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ بِلَا تَرْتِيبٍ، وَقَوْلُهُ: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ظَاهِرُهُ: أَنَّ رُكُوعَهَا يَكُونُ مَعَ رُكُوعِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهَا تَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِمْ وَإِنْ لَمْ تُصَلِّ مَعَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا سَبَقَ من الأمور التي أخبره اللَّهُ بِهَا. وَالْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ: الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ، يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنَى: قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْوَحْيُ: الْإِشَارَةُ، وَالْكِتَابَةُ، وَالرِّسَالَةُ، وَكُلُّ مَا ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه. قوله: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي: تحضرنهم، يَعْنِي:
الْمُتَنَازِعِينَ فِي تَرْبِيَةِ مَرْيَمَ، وَإِنَّمَا نَفَى حُضُورَهُ عِنْدَهُمْ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الوحي، كَانَ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ صَحِيحًا لَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ للعلم له إِلَّا الْمُشَاهَدَةُ وَالْحُضُورُ، وَهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ فثبت كونه وحيا تَسْلِيمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَلَا مِمَّنْ يُلَابِسُ أَهْلَهَا. وَالْأَقْلَامُ: جَمْعُ قَلَمٍ، مِنْ قلمه: إذا قطعه، أي: أقلامهم يَكْتُبُونَ بِهَا وَقِيلَ: قُدَّاحُهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أَيْ: يَحْضُنُهَا، أَيْ: يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَيُّهُمْ يكفلها، وذلك(1/388)
عِنْدَ اخْتِصَامِهِمْ فِي كَفَالَتِهَا، فَقَالَ زَكَرِيَّا: هُوَ أَحَقُّ بِهَا، لَكَوْنِ خَالَتِهَا عِنْدَهُ، وَهِيَ: أَشْيَعُ أُخْتُ حَنَّةَ أُمِّ مَرْيَمَ، وَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا، لِكَوْنِهَا بِنْتَ عَالِمِنَا، فَاقْتَرَعُوا، وَجَعَلُوا أَقْلَامَهُمْ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ قَلَمُهُ وَلَمْ يَجْرِ مَعَ الْمَاءِ فَهُوَ صَاحِبُهَا، فَجَرَتْ أَقْلَامُهُمْ وَوَقَفَ قَلَمُ زَكَرِيَّا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ أَثْبَتَ الْقُرْعَةَ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي اعْتِبَارِهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى زَكَرِيَّا ذَلِكَ، يَعْنِي: فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ عِنْدَ مَرْيَمَ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَتَى بِهَذَا مَرْيَمَ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ قَادِرٌ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَدًا، فَذَلِكَ حِينَ دَعَا رَبَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً يَقُولُ: مُبَارَكَةً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أَيْ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْمِحْرَابُ: الْمُصَلَّى. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا هَذِهِ الْمَذَابِحَ» يَعْنِي الْمَحَارِيبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَّخِذُوا فِي مَسَاجِدِهِمْ مَذَابِحَ كَمَذَابِحِ النَّصَارَى» وَقَدْ رُوِيَتْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ: يَحْيَى، لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ. وَأَخْرَجُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ قال: عيسى ابن مَرْيَمَ، هُوَ الْكَلِمَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ يَحْيَى وَعِيسَى ابْنَيِ الْخَالَةِ، وَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَجِدُ الَّذِي فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِلَّذِي فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ تَصْدِيقُهُ بِعِيسَى سُجُودُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِعِيسَى. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَسَيِّداً قَالَ: حَلِيمًا تَقِيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السَّيِّدُ: الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: السَّيِّدُ: الْفَقِيهُ الْعَالِمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَيِّداً وَحَصُوراً قَالَ: السَّيِّدُ: الْحَلِيمُ، وَالْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْحَصُورِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يُنْزِلُ الْمَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«كَانَ ذَكَرُهُ مِثْلَ هُدْبَةِ الثَّوْبِ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَقْوَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ قَالَ: اسْمُ أُمِّ يَحْيَى: أَشْيَعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ: بِالْحَمْلِ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ:
إِنَّمَا عُوقِبَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ شَافَهَتْهُ بِذَلِكَ مُشَافَهَةً فَبَشَّرَتْهُ بِيَحْيَى، فَسَأَلَ الْآيَةَ بَعْدَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَمْزاً
قَالَ: الرَّمْزُ: بِالشَّفَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ(1/389)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الرَّمْزُ: الْإِشَارَةُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ قَالَ: الْعَشِيُّ: مَيْلُ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ، وَالْإِبْكَارُ: أَوَّلُ الْفَجْرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نسائها خديجة بنت خويلد «1» » . وأخرج ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ خَدِيجَةُ وَفَاطِمَةُ وَمَرْيَمُ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى الطَّعَامِ» وَفِي الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّهَا تُفِيدُ أَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، لَا نِسَاءِ جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعُ نِسْوَةٍ سَادَاتِ نِسَاءِ عَالَمِهِنَّ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَأَفْضَلُهُنَّ عَالَمًا فَاطِمَةُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مجاهد في قوله: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ قال: أطيلي الركوع يَعْنِي الْقِيَامَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اقْنُتِي لِرَبِّكِ قَالَ: أَخْلِصِي. وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَطِيعِي رَبَّكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ قَالَ: إِنَّ مَرْيَمَ لَمَّا وُضِعَتْ فِي الْمَسْجِدِ اقْتَرَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمُصَلَّى، وَهُمْ يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ، فَاقْتَرَعُوا بِأَقْلَامِهِمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا. قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ فِي الْمَاءِ فَذَهَبَتْ مَعَ الْجَرْيَةِ، وَصَعِدَ قَلَمُ زَكَرِيَّا، فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْأَقْلَامَ هِيَ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن عطاء أنها القداح.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 51]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
__________
(1) . المعنى: أن كلا منهما خير نساء الأرض في عصرها.(1/390)
قَوْلُهُ: إِذْ قالَتِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَتِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: يَخْتَصِمُونَ وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ:
وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ.
والمسيح اختلف فيه ممّا ذا أُخِذَ؟ فَقِيلَ: مِنَ الْمَسْحِ، لِأَنَّهُ: مَسَحَ الْأَرْضَ، أَيْ: ذَهَبَ فِيهَا فَلَمْ يَسْتَكِنَّ بِكُنٍّ وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا برىء، فَسُمِّيَ مَسِيحًا، فَهُوَ عَلَى هَذَيْنِ: فَعَيْلٌ، بِمَعْنَى: فَاعِلٍ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ بِالدُّهْنِ الَّذِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَمْسَحُ بِهِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوحَ الْأَخْمَصَيْنِ وَقِيلَ:
لِأَنَّ الْجَمَالَ مَسَحَهُ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالتَّطْهِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَقْوَالِ: فَعِيلٌ، بِمَعْنَى:
مَفْعُولٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الْمَسِيحُ ضِدُّ الْمَسِيخِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَسِيحُ: الصِّدِّيقُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ: مَشِيخًا، بِالْمُعْجَمَتَيْنِ، فَعُرِّبَ كَمَا عُرِّبَ مُوشَى بِمُوسَى. وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَسُمِّيَ مَسِيحًا: لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ، أَيْ: يَطُوفُ بُلْدَانَهَا إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَقَوْلُهُ: عِيسَى عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ بَدَلٌ، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مَنْ عَاسَهُ يَعُوسُهُ إِذَا سَاسَهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُوَ مُعَرَّبٌ مِنْ أَيْشُوعَ. انْتَهَى. وَالَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي الْإِنْجِيلِ فِي مَوَاضِعَ أَنَّ اسْمَهُ يَشُوعُ بِدُونِ هَمْزَةٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ: ابْنُ مَرْيَمَ، مَعَ كَوْنِ الْخِطَابِ مَعَهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُوَلَدُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَنُسِبَ إِلَى أُمِّهِ. وَالْوَجِيهُ: ذُو الْوَجَاهَةِ، وَهِيَ: الْقُوَّةُ وَالْمَنَعَةُ، وَوَجَاهَتُهُ فِي الدُّنْيَا النُّبُوَّةُ، وَفِي الْآخِرَةِ الشَّفَاعَةُ وَعُلُوُّ الدَّرَجَةِ، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ: كَلِمَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَجِيهًا. وَالْمَهْدُ: مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ، وَمَهَّدْتُ الْأَمْرَ: هَيَّأْتُهُ وَوَطَّأْتُهُ. وَالْكَهْلُ: هُوَ مَنْ كَانَ بَيْنَ سِنِّ الشَّبَابِ وَالشَّيْخُوخَةِ، أَيْ:
يُكَلِّمُ النَّاسَ حَالَ كَوْنِهِ رَضِيعًا فِي الْمَهْدِ وَحَالَ كَوْنِهِ كَهْلًا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ كَهْلًا مَعْطُوفٌ عَلَى وَجِيهًا. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَمِنَ الصَّالِحِينَ عَطْفٌ عَلَى وَجِيهًا، أَيْ:
هُوَ مِنَ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ. قَوْلُهُ: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ؟ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِبْعَادِ الْعَادِيِّ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ عَلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ كَوْنِ لَهُ أَبٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَصْلُ الْقَضَاءِ: الْأَحْكَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ هُنَا الْإِرَادَةُ: أَيْ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا مُزَاوَلَةٍ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ. قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يُبَشِّرُكَ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ وَإِنَّ اللَّهَ يُعَلِّمُهُ وَقِيلَ: عَلَى يَخْلُقُ: أَيْ: وَكَذَلِكَ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ، أَوْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ سِيقَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا.
وَالْكِتَابُ: الْكِتَابَةُ. وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ وَقِيلَ: تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ، وَانْتِصَابُ: رَسُولًا، عَلَى تَقْدِيرِ: وَيَجْعَلُهُ(1/391)
رَسُولًا، أَوْ وَيُكَلِّمُهُمْ رَسُولًا، أَوْ وَأَرْسَلْتُ رَسُولًا وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَجِيهاً فَيَكُونُ حَالًا، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى النُّطْقِ، أَيْ: وَنَاطِقًا، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْوَاوَ فِي قوله: ورسولا، مقحمة، والرسول: حالا. وقوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مَعْمُولٌ لِرَسُولٍ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى النُّطْقِ كَمَا مَرَّ وَقِيلَ: أَصْلُهُ: بِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ، فَحُذِفَ الْجَارُ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: تَقُولُ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَحْوَالِ السَّابِقَةِ. وَقَوْلُهُ: بِآيَةٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِعَلَامَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. وَقَوْلُهُ: أَنِّي أَخْلُقُ أَيْ: أُصَوِّرُ، وَأُقَدِّرُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أَوْ بَدَلٌ مِنْ آيَةٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ أَنِّي، وَقُرِئَ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَخْلُقُ لَكُمْ خَلْقًا أَوْ شَيْئًا مِثْلَ هَيْئَةِ الطَّيْرِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَنْفُخُ فِيهِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ، أَوْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكَافِ فِي قَوْلِهِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الطَّيْرِ، أَيِ: الْوَاحِدُ مِنْهُ وَقِيلَ: إِلَى الطِّينِ، وَقُرِئَ: فَيَكُونُ طَائِرًا وَطَيْرًا، مِثْلَ تَاجِرٍ وَتَجْرٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ غَيْرَ الْخُفَّاشِ لِمَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الصَّنْعَةِ، فَإِنَّ لَهُ ثَدْيًا وَأَسْنَانًا وَأُذُنًا وَيَحِيضُ وَيَطْهُرُ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ طَلَبُوا خَلْقَ الْخُفَّاشِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِكَوْنِهِ يَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ، وَيَلِدُ كَمَا يَلِدُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الطَّيْرِ، وَلَا يَبِيضُ كَمَا يَبِيضُ سَائِرُ الطُّيُورِ، وَلَا يُبْصِرُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ، وَلَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا يَرَى فِي سَاعَتَيْنِ: بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَاعَةً، وَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَاعَةً، وَهُوَ يَضْحَكُ كَمَا يَضْحَكُ الْإِنْسَانُ وَقِيلَ: إِنَّ سُؤَالَهُمْ لَهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ، قِيلَ: كَانَ يَطِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَهُ، فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ سَقَطَ مَيِّتًا، لِيَتَمَيَّزَ فِعْلُ اللَّهِ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ فِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا الْإِذْنُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ خَلْقَ ذَلِكَ كَانَ بِفِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَجْرَاهُ عَلَى يَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قِيلَ: كَانَتْ تَسْوِيَةُ الطِّينِ وَالنَّفْخِ مِنْ عِيسَى، وَالْخَلْقُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ الْأَكْمَهُ: الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْكَمَهُ: الْعَمَى يُوَلَدُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَقَدْ يَعْرِضُ، يُقَالُ: كَمِهَ، يَكْمَهُ، كَمَهًا: إِذَا عَمِيَ، وَكَمِهْتُ عَيْنَهُ: إِذَا أَعْمَيْتَهَا وَقِيلَ: الْأَكْمَهُ: الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَقِيلَ: هُوَ الْمَمْسُوحُ الْعَيْنِ. وَالْبَرَصُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ: بَيَاضٌ يَظْهَرُ فِي الْجِلْدِ.
وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُبْرِئُ مِنْ أَمْرَاضٍ عِدَّةٍ كَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هذين المرضين بالذكر لأنهما لا يبرءان فِي الْغَالِبِ بِالْمُدَاوَاةِ، وَكَذَلِكَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، قَدِ اشْتَمَلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى قَصَصٍ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ أَيْ: أَخْبِرُكُمْ بِالَّذِي تَأْكُلُونَهُ، وَبِالَّذِي تَدَّخِرُونَهُ. قَوْلُهُ: وَمُصَدِّقاً عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَرَسُولًا وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَجِئْتُكُمْ مُصَدِّقًا. قَوْلُهُ: وَلِأُحِلَّ أَيْ:
وَلِأَجْلِ أَنْ أُحِلَّ، أَيْ: جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَجِئْتُكُمْ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَطْعِمَةِ فِي التَّوْرَاةِ، كَالشُّحُومِ، وَكُلِّ ذِي ظُفُرٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ مَا حَرَّمَتْهُ عَلَيْهِمُ الْأَحْبَارُ وَلَمْ تُحَرِّمْهُ التَّوْرَاةُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ، بِمَعْنَى: كُلَّ، وَأَنْشَدَ:(1/392)
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْبَعْضَ وَالْجُزْءَ لَا يَكُونَانِ بِمَعْنَى الْكُلِّ، وَلِأَنَّ عِيسَى لَمْ يُحَلِّلْ لَهُمْ جَمِيعَ مَا حَرَّمَتْهُ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَلِّلِ الْقَتْلَ ولا السرقة وَلَا الْفَاحِشَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الْإِنْجِيلِ، مَعَ كَوْنِهَا ثَابِتَةً فِي التَّوْرَاةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَيْنِ، ولكنه قد يقع البعض موضع الْكُلِّ مَعَ الْقَرِينَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
أَيْ: بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ كُلِّهِ. قَوْلُهُ: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ آيَةً، لِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ، فَمَجِيئُهُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ يَكُونُ عَلَامَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هذه الآية هي الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فَتَكُونُ تَكْرِيرًا لِقَوْلِهِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ الْآيَةَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِكَلِمَةٍ قَالَ: عِيسَى هُوَ الْكَلِمَةُ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَهْدُ: مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَةٍ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ، ثُمَّ مَرَّ بِأَمَةٍ تجرر وَيُلْعَبُ بِهَا فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ لَهَا: زَنَيْتِ، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَيَقُولُونَ: سَرَقْتِ، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا عِيسَى، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ» . وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا قَالَ: يُكَلِّمُهُمْ صَغِيرًا وَكَبِيرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَهْلُ: هُوَ مَنْ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْكَهْلُ: الْحَلِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قَالَ: الْخَطُّ بِالْقَلَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا خَلَقَ عِيسَى طائرا واحدا وهو الخفاش. وأخرج ابن جريج، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ(1/393)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَكْمَهُ: الَّذِي يولد أعمى. وأخرج ابن جريج، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَكْمَهُ: الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْأَكْمَهُ: الْأَعْمَى الْمَمْسُوحُ الْعَيْنَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَكْمَهُ:
الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجُوا عَنْ عِكْرِمَةَ قَالُوا: الْأَكْمَهُ: الْأَعْمَشُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ: كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِذَا سَرَّحَ رُسُلَهُ يُحْيُونَ الْمَوْتَى يَقُولُ لَهُمْ قُولُوا: كَذَا، فَإِذَا وَجَدْتُمْ قَشْعَرِيرَةً وَدَمْعَةً فَادْعُوا عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ قَالَ: بِمَا أَكَلْتُمُ الْبَارِحَةَ مِنْ طَعَامٍ وَمَا خَبَّأْتُمْ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ مِنَ الْمَائِدَةِ وَما تَدَّخِرُونَ مِنْهَا، وَكَانَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَائِدَةِ حِينَ نَزَلَتْ أَنْ يَأْكُلُوا وَلَا يَدَّخِرُوا، فَأَكَلُوا، وَادَّخَرُوا، وَخَانُوا، فَجُعِلُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ وَهْبٍ: أَنَّ عِيسَى كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى، وَكَانَ يُسْبِتُ وَيَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنِّي لَمْ أَدْعُكُمْ إِلَى خِلَافِ حَرْفٍ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ إِلَّا لِأَحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَأَضَعَ عَنْكُمْ مِنَ الْآصَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي الْآيَةِ: قَالَ كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى أَلَيْنُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَكَانَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لُحُومُ الْإِبِلِ وَالثُّرُوبِ «1» ، فَأَحَلَّهَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ عِيسَى، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَأُحِلَّتْ لَهُمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ عِيسَى، وَفِي أَشْيَاءَ مِنَ السَّمَكِ، وَفِي أَشْيَاءَ مِنَ الطَّيْرِ، وَفِي أَشْيَاءَ أُخَرَ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِيهَا، فَجَاءَهُمْ عِيسَى بِالتَّخْفِيفِ مِنْهُ فِي الْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ قال: ما بين لهم من الأشياء كلها وما أعطاه ربه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 58]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
قَوْلُهُ: فَلَمَّا أَحَسَّ أَيْ: عَلِمَ وَوَجَدَ: قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى: أَحَسَّ: عَرَفَ، وَأَصْلُ ذلك: وجود الشيء بالحاسة، والإحساس: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ «2» . وَالْمُرَادُ بِالْإِحْسَاسِ هُنَا: الْإِدْرَاكُ الْقَوِيُّ الْجَارِي مَجْرَى الْمُشَاهَدَةِ. وَبِالْكُفْرِ: إِصْرَارُهُمْ عَلَيْهِ وَقِيلَ: سَمِعَ مِنْهُمْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادُوا قَتْلَهُ. وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَلَمَّا أَدْرَكَ مِنْهُمْ عِيسَى إرادة قتله التي هي كفر
__________
(1) . الثروب: جمع ثرب، وهو شحم رقيق على الكرش والأمعاء.
(2) . مريم: 98.(1/394)
قَالَ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ. الْأَنْصَارُ: جَمْعُ نَصِيرٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَى اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حالا، أي:
متوجها إلى الله، أو ملتجئا إِلَيْهِ، أَوْ ذَاهِبًا إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِلَى: بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «1» وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَنْ أَنْصَارِي فِي السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَنْ يَضُمُّ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ.
وَالْحَوَارِيُّونَ: جَمْعُ حَوَارِيٍّ، وَحَوَارِيُّ الرَّجُلِ: صَفْوَتُهُ وَخُلَاصَتُهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَوَرِ وَهُوَ الْبَيَاضُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، حَوَّرْتُ الثِّيَابَ بَيَّضْتُهَا. وَالْحَوَارِيُّ مِنَ الطَّعَامِ: مَا حُوِّرَ: أَيْ بُيِّضَ، وَالْحَوَارِيُّ أَيْضًا: النَّاصِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ» وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ وَقِيلَ: لِخُلُوصِ نِيَّاتِهِمْ وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ خَاصَّةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَمَعْنَى أَنْصَارِ اللَّهِ: أَنْصَارُ دِينِهِ وَرُسُلِهِ. وَقَوْلُهُ: آمَنَّا بِاللَّهِ اسْتِئْنَافٌ جَارٍ مَجْرَى الْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَبْعَثُ عَلَى النُّصْرَةِ، قَوْلُهُ: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أَيِ: اشْهَدْ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّا مُخْلِصُونَ لِإِيمَانِنَا مُنْقَادُونَ لِمَا تُرِيدُ مِنَّا. وَمَعْنَى بِما أَنْزَلْتَ: مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كُتُبِهِ. وَالرَّسُولُ: عِيسَى، وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، أَيِ: اتَّبَعْنَاهُ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي بِهِ، فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلِرَسُولِكَ بِالرِّسَالَةِ. أَوِ: اكْتُبْنَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِأُمَمِهِمْ، وَقِيلَ مَعَ أُمَّةِ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ: وَمَكَرُوا أَيِ: الَّذِينَ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ، وَهُمْ كُفَّارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمَكْرُ اللَّهِ: اسْتِدْرَاجُهُ لِلْعِبَادِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَكْرُ اللَّهِ: مُجَازَاتُهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ، فَسُمِّيَ الْجَزَاءُ بِاسْمِ الِابْتِدَاءِ، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «2» وَهُوَ خادِعُهُمْ
«3» وَأَصْلُ الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ: الِاغْتِيَالُ وَالْخَدْعُ: حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ وَقِيلَ: مَكْرُ اللَّهِ هُنَا: إِلْقَاءُ شِبْهِ عِيسَى عَلَى غَيْرِهِ، وَرَفْعُ عِيسَى إِلَيْهِ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أَيْ: أَقْوَاهُمْ مَكْرًا، وَأَنْفَذُهُمْ كَيْدًا، وَأَقْوَاهُمْ عَلَى إِيصَالِ الضَّرَرِ بِمَنْ يُرِيدُ إِيصَالَهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، قَوْلُهُ: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى الْعَامِلُ فِي إِذْ:
مَكَرُوا، أَوْ: قَوْلُهُ: خَيْرُ الْماكِرِينَ أَوْ: فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَقَعَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ: إِنِّي رَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ إِنْزَالِكَ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: مُتَوَفِّيكَ: قَابِضُكَ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: مُسْتَوْفِي أَجَلَكَ، وَمَعْنَاهُ: إِنِّي عَاصِمُكَ مِنْ أَنْ يَقْتُلَكَ الْكُفَّارُ، وَمُؤَخِّرٌ أَجَلَكَ إِلَى أَجَلٍ كَتَبْتُهُ لَكَ، وَمُمِيتُكَ حَتْفَ أَنْفِكَ لَا قَتْلًا بِأَيْدِيهِمْ. وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى تَأْوِيلِ الْوَفَاةِ بِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ وَفَاةٍ، كَمَا رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نُزُولُهُ وَقَتْلُهُ الدَّجَّالَ، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَوَفَّاهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَفَاةِ هُنَا: النَّوْمُ، وَمِثْلُهُ:
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «4» أَيْ: يُنِيمُكُمْ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرُونَ. قَوْلُهُ: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: من خبث جوارهم بِرَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبُعْدِهِ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: الذي اتَّبَعُوا مَا جِئْتَ بِهِ وَهُمْ خُلَّصُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا فِي الْغُلُوِّ فِيهِ إِلَى مَا بَلَغَ مِنْ جَعْلِهِ إِلَهًا، وَمِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السلام، ووصفوه بما يستحقه من دون
__________
(1) . النساء: 2.
(2) . البقرة: 15.
(3) . النساء: 142.
(4) . الأنعام: 60. [.....](1/395)
غُلُوٍّ، فَلَمْ يُفَرِّطُوا فِي وَصْفِهِ، كَمَا فَرَّطَتِ الْيَهُودُ، وَلَا أَفْرَطُوا كَمَا أَفْرَطَتِ النَّصَارَى. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ: أَنَّ النَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْيَهُودِ، غَالِبِينَ لَهُمْ، قَاهِرِينَ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمُ الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هُمُ الرُّومُ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقِيلَ: هُمُ الْحَوَارِيُّونَ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِالْمَسِيحِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَغَلَبَةُ النَّصَارَى لِطَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ لِكُلِّ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ بِطَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تُفِيدُهُ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ، بِأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ ظَاهِرَةٌ عَلَى كُلِّ الْمِلَلِ، قَاهِرَةٌ لَهَا مُسْتَعْلِيَةٌ عَلَيْهَا.
وَقَدْ أفردت هذه الآية بمؤلف سميته: [وبل الْغَمَامَةِ فِي تَفْسِيرِ- وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] فَمَنْ رَامَ اسْتِيفَاءَ مَا فِي الْمَقَامِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى ذَلِكَ. وَالْفَوْقِيَّةُ هُنَا: هِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْحُجَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَحْكُمُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَيَكُونُ الْمُسْلِمُونَ أَنْصَارَهُ وَأَتْبَاعَهُ إِذْ ذَاكَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى هذه الحال. قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أَيْ: رُجُوعُكُمْ، وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلْقَصْرِ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَئِذٍ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ: تَفْسِيرٌ لِلْحُكْمِ. قَوْلُهُ: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَأُعَذِّبُهُمْ، أَمَّا تَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا: فَبِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ: فبعذاب النار. قوله: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أَيْ: نُعْطِيهِمْ إِيَّاهَا كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، قُرِئَ: بِالتَّحْتِيَّةِ وَبِالنُّونِ. وَقَوْلُهُ:
لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ كِنَايَةٌ عَنْ بُغْضِهِمْ، وَهِيَ جُمْلَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَلَفَ مِنْ نَبَأِ عِيسَى وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ ما بعده، ومِنَ الْآياتِ حَالٌ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.
وَالْحَكِيمُ: الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحُكْمِ، أَوِ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا خَلَلَ فِيهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ: كَفَرُوا وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَذَلِكَ حِينَ اسْتَنْصَرَ قَوْمِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ قَالَ: مَعَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَشَهِدُوا لِلرُّسُلِ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ قَالَ: مَعَ الشَّاهِدِينَ مَعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَصَرُوا عِيسَى وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَأْخُذُ صُورَتِي فَيُقْتَلُ وَلَهُ الْجَنَّةُ، فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إِلَى السَّمَاءِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يَقُولُ: مُمِيتُكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مُتَوَفِّيكَ مِنَ الْأَرْضِ.
وَأَخْرَجَ الْآخَرَانِ عَنْهُ قَالَ: وَفَاةُ الْمَنَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ: أَيْ:
رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُتَوَفِّيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ قَالَ: مُتَوَفِّيكَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ(1/396)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
بِوَفَاةِ مَوْتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبٍ قَالَ: تَوَفَّى اللَّهُ عِيسَى ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ حَتَّى رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: أَمَاتَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وَرَفَعَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهُ قَالَ: تَوَفَّى اللَّهُ عِيسَى سَبْعَ سَاعَاتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: رُفِعَ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ وَهْبٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: طَهَّرَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَمِنْ كُفَّارِ قَوْمِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى فِطْرَتِهِ وَمِلَّتِهِ وَسُنَّتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يُبَالُونَ بِمَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» قَالَ النُّعْمَانُ: مَنْ قَالَ إِنِّي أَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْ فَإِنَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: النَّصَارَى فَوْقَ الْيَهُودِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ بَلَدٌ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى إِلَّا وَهُمْ فَوْقَ الْيَهُودِ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ، هُمْ فِي الْبُلْدَانِ كُلِّهَا مستذلّون.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 59 الى 63]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
تَشْبِيهُ عِيسَى بِآدَمَ فِي كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَآدَمَ، وَلَا يَقْدَحُ فِي التَّشْبِيهِ اشْتِمَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ عَلَى زِيَادَةٍ وَهُوَ كَوْنُهُ لَا أُمَّ لَهُ: كَمَا أَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ، فَذَلِكَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُرَادِ بِالتَّشْبِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَشَدَّ غَرَابَةً مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَأَعْظَمَ عَجَبًا، وَأَغْرَبَ أُسْلُوبًا. وَقَوْلُهُ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي الْمَثَلِ، أَيْ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَلَا أُمٌّ، بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ تُرَابٍ. وَفِي ذَلِكَ دَفْعٌ لِإِنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ خَلْقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ. قَوْلُهُ: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ: كُنْ بَشَرًا فَكَانَ بَشَرًا. وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا. وَقَوْلُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَرْفُوعٌ بِإِضْمَارِ هُوَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: مِنْ رَبِّكَ وَقِيلَ: هُوَ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ: جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. قَوْلُهُ: فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الْخِطَابُ إِمَّا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ النَّاسِ، أَيْ: لَا يَكُنْ أَحَدٌ مِنْكُمْ مُمْتَرِيًا، أَوْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ لَهُ لِزِيَادَةِ التَّثْبِيتِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهُ شَكٌّ فِي ذَلِكَ، قَوْلُهُ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ هَذَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَالْمُرَادُ بِهِ: الْخَاصُّ، وَهُمُ النَّصَارَى الَّذِينَ وَفَدُوا إليه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ نَجْرَانَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عَلَى عُمُومِهِ(1/397)
وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ المباهلة منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِكُلِّ مَنْ حَاجَّهُ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأُمَّتُهُ أُسْوَتُهُ، وَضَمِيرُ فِيهِ: لِعِيسَى، وَالْمُرَادُ بِمَجِيءِ الْعِلْمِ هُنَا: مَجِيءُ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَالْمُحَاجَّةُ: الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُجَادَلَةُ. وَقَوْلُهُ: تَعالَوْا أَيْ: هَلُمُّوا، وَأَقْبِلُوا، وَأَصْلُهُ: الطَّلَبُ لِإِقْبَالِ الذَّوَاتِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الرَّأْيِ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ حَاضِرًا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ هُوَ حَاضِرٌ عِنْدَكَ: تَعَالَ نَنْظُرْ فِي هَذَا الْأَمْرِ. قَوْلُهُ: نَدْعُ أَبْناءَنا إِلَخْ، اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الْبَنِينَ عَنِ الْبَنَاتِ، إِمَّا لِدُخُولِهِنَّ فِي النِّسَاءِ، أَوْ لِكَوْنِهِمُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ مَوَاقِفَ الْخِصَامِ دُونَهُنَّ وَمَعْنَى الْآيَةِ: لِيَدْعُ كُلٌّ مِنَّا وَمِنْكُمْ أَبْنَاءَهُ وَنِسَاءَهُ وَنَفْسَهُ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ أَبْنَاءَ الْبَنَاتِ يُسَمَّوْنَ: أَبْنَاءً، لكونه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَرَادَ بِالْأَبْنَاءِ الْحَسَنَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي. قَوْلُهُ: نَبْتَهِلْ أَصْلُ الِابْتِهَالِ: الِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ بِاللَّعْنِ وَغَيْرِهِ، يُقَالُ: بَهَلَهُ اللَّهُ: أَيْ لَعَنَهُ، وَالْبَهْلُ: اللَّعْنُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْكِسَائِيُّ: نَبْتَهِلْ:
نَلْتَعِنْ، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
فِي كُهُولٍ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ... نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ
أَيْ: فَاجْتَهَدَ فِي هَلَاكِهِمْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ دُعَاءٍ يُجْتَهَدُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْتِعَانَا.
قوله: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ عَطْفٌ عَلَى نَبْتَهِلْ مُبَيِّنٌ لِمَعْنَاهُ. قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا أَيِ: الَّذِي قَصَّهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ نَبَأِ عِيسَى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ الْقَصَصُ: التَّتَابُعُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَقُصُّ أَثَرَ فُلَانٍ:
أَيْ يَتْبَعُهُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِلْحَصْرِ، وَدُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَزِيَادَةُ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنْ إِلهٍ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ بِالتَّثْلِيثِ مِنَ النَّصَارَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لا نلاعنه، فو الله لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَنَا لَا نُفْلِحُ أَبَدًا نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، فَقَالُوا لَهُ: نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ، فَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ:
هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِيهِمُ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ، فَقَالُوا: مَا شَأْنُكَ تَذْكُرُ صَاحِبَنَا؟ قَالَ: مَنْ هُوَ؟
قَالُوا: عِيسَى، تَزْعُمُ: أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، قَالُوا: فَهَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ عِيسَى وَأُنْبِئْتَ بِهِ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ إِذَا أَتَوْكَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى وُجُوهٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمَ على النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ، فَدَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَا: أَسْلَمْنَا يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ:
كَذَبْتُمَا إِنْ شِئْتُمَا أخبرتكم مَا يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ، قَالَا: فَهَاتِ. قَالَ: حُبُّ الصَّلِيبِ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ. قَالَ جَابِرٌ: فَدَعَاهُمَا إِلَى الْمُلَاعَنَةِ فَوَاعَدَاهُ عَلَى الْغَدِ، فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَأَبَيَا أَنْ يُجِيبَاهُ وَأَقَرَّا لَهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ فَعَلَا لَأَمْطَرَ الْوَادِي عَلَيْهِمَا نَارًا. قَالَ جَابِرٌ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا الْآيَةَ. قَالَ جَابِرٌ: أَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ(1/398)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَلِيٌّ، وَأَبْنَاءَنَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَنِسَاءَنَا فَاطِمَةُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ: أَنَّهُمْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: هَلْ لَكَ أَنْ نُلَاعِنَكَ؟. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: فَقُلْ تَعالَوْا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا الْآيَةَ، قَالَ: فَجَاءَ بِأَبِي بَكْرٍ وَوَلَدِهِ، وَبِعُمَرَ وَوَلَدِهِ، وَبِعُثْمَانَ وَوَلَدِهِ، وَبِعَلِيٍّ وَوَلَدِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ نَبْتَهِلْ نَجْتَهِدْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا الْإِخْلَاصُ، يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَهَذَا الدُّعَاءُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ منكبيه، وهذا الابتهال فرفع يديه مدّا.
[سورة آل عمران (3) : آية 64]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
قِيلَ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ نَجْرَانَ، بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقِيلَ: لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ: لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِالْبَعْضِ، لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ لَا تَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ حَاجُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَالسَّوَاءُ: الْعَدْلُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ فِي معنى العدل سوى وسوى، فَإِذَا فَتَحْتَ السِّينَ مَدَدْتَ، وَإِذَا ضَمَمْتَ أَوْ كسرت قصرت. قال زهير:
أروني خُطَّةً لَا ضَيْمَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِلَى كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» فَالْمَعْنَى: أَقْبِلُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، وَهِيَ: الْكَلِمَةُ الْعَادِلَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ: كَلِمَةٍ، أَوْ رفع إلى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هِيَ أَنْ لَا نَعْبُدَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: أَنْ، مُفَسِّرَةً لَا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً تَبْكِيتٌ لِمَنِ اعْتَقَدَ رُبُوبِيَّةَ الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ وَبَعْضٌ مِنْهُمْ، وَإِزْرَاءٌ عَلَى مَنْ قَلَّدَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ فَحَلَّلَ مَا حَلَّلُوهُ لَهُ، وَحَرَّمَ مَا حَرَّمُوهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ مَنْ قَلَّدَهُ رَبًّا، وَمِنْهُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» وَقَدْ جَوَّزَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ الْجَزْمَ فِي: وَلا نُشْرِكَ وَلا يَتَّخِذَ عَلَى التَّوَهُّمِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَمَّا دُعُوا إِلَيْهِ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أَيْ: مُنْقَادُونَ لِأَحْكَامِهِ، مُرْتَضُونَ بِهِ، مُعْتَرِفُونَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ:
سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ، وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، إلى قوله:
__________
(1) . التوبة: 34.(1/399)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكُفَّارِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا يَهُودَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَجَاهَدَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ دَعَا يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْكَلِمَةِ السَّوَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ قَالَ: عَدْلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً قَالَ: لَا يُطِيعُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ أَنْ يطيع الناس سادتهم وَقَادَتَهُمْ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً قال: سجود بعضهم لبعض.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 68]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
لَمَّا ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ طَائِفَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَبَانَ بِأَنَّ الْمِلَّةَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْمِلَّةَ النَّصْرَانِيَّةَ إِنَّمَا كَانَتَا مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَبْيَنُ حُجَّةٍ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ نَزَلَا مِنْ بَعْدِهِ، وَلَيْسَ فِيهِمَا اسْمٌ لِوَاحِدٍ مِنَ الْأَدْيَانِ وَاسْمُ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ كِتَابٍ. انْتَهَى، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْإِنْجِيلَ مَشْحُونٌ بِالْآيَاتِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَذِكْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَالِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى الْيَهُودِ، وَكَذَلِكَ الزَّبُورُ فِيهِ فِي مَوَاضِعِ ذِكْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَفِي أَوَائِلِهِ التَّبْشِيرُ بِعِيسَى، ثُمَّ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرُ كَثِيرٍ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، يَعْرِفُ هَذَا كُلُّ مَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَالْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُقَالُ: كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى أَلْفُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى أَلْفَا سَنَةٍ. وَكَذَا فِي الْكَشَّافِ. قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ: تَتَفَكَّرُونَ فِي دُحُوضِ حُجَّتِكُمْ وَبُطْلَانِ قَوْلِكُمْ. قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ الأصل في ها أنتم: أَأَنْتُمْ، أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى هَاءً، لِأَنَّهَا أُخْتُهَا، كَذَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَالْأَخْفَشُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ: هَانْتُمْ وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلتَّنْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَيْ: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ الْحَمْقَى حَاجَجْتُمْ، وَفِي هَؤُلَاءِ لُغَتَانِ: الْمَدُّ وَالْقَصْرُ. وَالْمُرَادُ بِمَا لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ: هُوَ مَا كَانَ فِي التَّوْرَاةِ وَإِنْ خَالَفُوا مُقْتَضَاهُ وَجَادَلُوا فِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَالَّذِي لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ هُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِالزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ، بَلْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي تَرْكِ الْجِدَالِ مِنَ الْمُحِقِّ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَلَوْ مُحِقًّا فَأَنَا ضَمِينُهُ عَلَى اللَّهِ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ» . وَقَدْ وَرَدَ تَسْوِيغُ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ(1/400)
أَحْسَنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصُرَ جَوَازُهُ عَلَى الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِي فِعْلِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، أَوْ عَلَى الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْمُجَادَلَةُ فِيهَا بِالْمُحَاسَنَةِ لَا بِالْمُخَاشَنَةِ. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَيْ: كُلَّ شَيْءٍ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا حَاجَجُوا بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَنِيفِ. قَوْلُهُ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ أَيْ: أَحَقَّهُمْ بِهِ وَأَخَصَّهُمْ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوا مِلَّتَهُ وَاقْتَدَوْا بِدِينِهِ وَهذَا النَّبِيُّ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم، أفرده بالذكر تعظيما وتشريفا، وأولويته صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِإِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَمِنْ جِهَةِ مُوَافَقَتِهِ لِدِينِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعُوا عِنْدَهُ، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إبراهيم إلا نصرانيا، فنزل فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يَقُولُ: فِيمَا شَهِدْتُمْ وَرَأَيْتُمْ وَعَايَنْتُمْ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يَقُولُ: فِيمَا لَمْ تَشْهَدُوا وَلَمْ تَرَوْا وَلَمْ تُعَايِنُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَّا الَّذِي لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ وَمَا أُمِرُوا بِهِ، وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَشَأْنُ إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يُعْذَرُ مَنْ حَاجَّ بِعِلْمٍ وَلَا يُعْذَرُ مَنْ حَاجَّ بِالْجَهْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ قَالَ: أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَأَدْحَضَ حُجَّتَهُمْ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ غَنْمٍ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَذَكَرَ قِصَّتَهُمْ مَعَهُ، وَمَا قَالُوهُ لَهُ لَمَّا قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّهُمْ يَشْتُمُونَ عِيسَى، وَهِيَ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ ثُمَّ قَالَ: فَأُنْزِلَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ خُصُومَتُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الآية. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ أَبِي خَلِيلُ رَبِّي ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّبِيِّ الْمُتَّقُونَ، فَكُونُوا أَنْتُمْ سَبِيلَ ذَلِكَ، فَانْظُرُوا أَنْ لَا يَلْقَانِي النَّاسُ يَحْمِلُونَ الْأَعْمَالَ، وَتَلْقَوْنِي بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا، فَأَصُدُّ عَنْكُمْ بِوَجْهِي، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ وَلِيُّ إِبْرَاهِيمَ مِمَّنْ مَضَى، وممن بقي.(1/401)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 74]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
الطَّائِفَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ: يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِ، وَقُرَيْظَةَ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ، حِينَ دَعَوْا جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى دِينِهِمْ وَسَيَأْتِي، وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَكُونُ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُ: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ قَدَمِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ، فَلَا يَعُودُ وَبَالُ مَنْ أَرَادَ فِتْنَتَهُمْ إِلَّا عَلَيْهِ.
وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ: مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ دلائل نبوّة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ مَا فِي كُتُبِكُمْ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ تَشْهَدُونَ بِمِثْلِهَا مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ، كَتْمُ كُلِّ الْآيَاتِ عِنَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا حَقٌّ. وَلَبْسُ الحق بالباطل: خلطه بما يعتمدونه مِنَ التَّحْرِيفِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَوْلُهُ: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ، قَالُوا لِلسَّفَلَةِ مِنْ قَوْمِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَوَجْهُ النَّهَارِ: أَوَّلُهُ، وَسُمِّيَ: وَجْهًا، لِأَنَّهُ أَحْسَنُهُ، قَالَ:
وَتُضِيءُ فِي وَجْهِ النَّهَارِ مُنِيرَةً ... كَجُمَانَةِ الْبَحْرِيِّ سُلَّ نِظَامُهَا
وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، أَمَرُوهُمْ بِذَلِكَ لِإِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِكَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَدَيْهِمْ عِلْمٌ، فَإِذَا كَفَرُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ وَقَعَ الرَّيْبُ لِغَيْرِهِمْ، وَاعْتَرَاهُ الشَّكُّ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ ثَبَّتَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَكَّنَ أَقْدَامَهُمْ، فَلَا تُزَلْزِلُهُمْ أَرَاجِيفُ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَلَا تُحَرِّكُهُمْ رِيحُ الْمُعَانِدِينَ. قوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ الرُّؤَسَاءُ لِلسَّفَلَةِ: لَا تُصَدِّقُوا تَصْدِيقًا صَحِيحًا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ قَدْ أَسْلَمَ فَأَظْهَرُوا لَهُمْ ذَلِكَ خِدَاعًا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لِيَفْتَتِنُوا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ عَلَى هَذَا: مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، يَعْنِي: أَنَّ مَا بِكُمْ مِنَ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ دَعَاكُمْ إِلَى أَنْ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ. وَقَوْلُهُ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى: أَنْ يُؤْتَى، أَيْ: لا تؤمنوا إِيمَانًا صَحِيحًا، وَتُقِرُّوا بِمَا فِي صُدُورِكُمْ إِقْرَارًا صادقا لغير من تبع دينكم، إن فعلتم ذلك ودبرتموه فإن الْمُسْلِمِينَ يُحَاجُّوكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لَا تُؤْمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَتَكْفُرُوا آخِرَهُ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، أَيْ: لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، لِأَنَّ إِسْلَامَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُمْ غَيْظًا وَأَمَاتَهُمْ حَسْرَةً وَأَسَفًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتى عَلَى هَذَا: مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ كَالْأَوَّلِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهَ:
أَنْ يُؤْتى مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تُؤْمِنُوا أي: لا تظهروا إيمانكم ب أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَيْ: أَسِرُّوا تَصْدِيقَكُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أُوتُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَلَا تُفْشُوهُ إِلَّا لِأَتْبَاعِ دِينِكُمْ(1/402)
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دينكم، آن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، بالمدّ على الاستفهام، تأكيدا للإنكار الذي قالوه أنه لا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوهُ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا: أَنْ وَمَا بَعْدَهَا: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ تُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: تُقِرُّونَ أَنْ يُؤْتَى، وَقَدْ قَرَأَ «آنْ يُؤْتَى» بِالْمَدِّ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَحُمَيْدٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: أَنْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَالْخَافِضُ مَحْذُوفٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْتَى وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تُخْبِرُوا بِمَا فِي كِتَابِكُمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيمَانِ غَيْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِ انْقَطَعَ كَلَامُ الْيَهُودِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ثم قال الله لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ:
قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَيْ: إِنَّ الْبَيَانَ الْحَقَّ بَيَانُ اللَّهِ، بَيَّنَ أَنْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، عَلَى تَقْدِيرِ:
لَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «1» أي: لئلا تضلوا، و «أو» فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ بِمَعْنَى: حَتَّى، وَكَذَلِكَ قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَهِيَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ: عَاطِفَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ بَدَلٌ مِنَ الْهُدَى، وَأَنْ يُؤْتَى خَبَرُ إِنَّ، عَلَى مَعْنَى: قُلْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَعْظَمُ آيِ هَذِهِ السُّورَةِ إِشْكَالًا وَذَلِكَ صَحِيحٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يُؤْتِي، بِكَسْرِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنْ يُؤْتَى، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا النَّافِيَةُ. وَقَوْلُهُ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قِيلَ: هِيَ النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: أَعَمُّ مِنْهَا، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَدَفْعٌ لِمَا قَالُوهُ وَدَبَّرُوهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي آلِ عِمْرَانَ مِنْ ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ فِي النَّصَارَى، وَيَدْفَعُ هَذَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ خِطَابَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى النَّصَارَى أَلْبَتَّةَ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي وَدَّتْ إِضْلَالَ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ الطَّائِفَةُ الْقَائِلَةُ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وهي مِنَ الْيَهُودِ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ قَالَ: تَشْهَدُونَ أَنَّ نَعْتَ نَبِيِّ اللَّهِ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِكُمْ، ثُمَّ تَكْفُرُونَ بِهِ، وَتُنْكِرُونَهُ، وَلَا تُؤْمِنُونَ بِهِ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ لَيْسَ لِلَّهِ دِينٌ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَا عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ يَقُولُ: لَمْ تَخْلِطُونَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ: الْإِسْلَامُ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ يَقُولُ: تَكْتُمُونَ شَأْنَ مُحَمَّدٍ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عبد الله بن الصيف، وعديّ ابن زَيْدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غَدْوَةً، وَنَكْفُرُ بِهِ عَشِيَّةً، حَتَّى نَلْبِسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ، فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ، فأنزل الله فيهم:
__________
(1) . النساء: 176.(1/403)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالَتْ طائِفَةٌ الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا يَكُونُونَ مَعَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَيُجَالِسُونَهُمْ، وَيُكَلِّمُونَهُمْ، فَإِذَا أَمْسَوْا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ كَفَرُوا بِهِ وَتَرَكُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قَالَ: هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ حَسَدًا مِنْ يَهُودَ أَنْ تَكُونَ النُّبُوَّةُ فِي غَيْرِهِمْ، وَإِرَادَةُ أَنْ يُتَابَعُوا عَلَى دِينِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ قال:
أمة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ يَقُولُ الْيَهُودُ: فَعَلَ اللَّهُ بِنَا كَذَا وَكَذَا مِنَ الْكَرَامَةِ، حَتَّى أَنْزَلَ عَلَيْنَا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، فَإِنَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكُمْ أَفْضَلَ فَقُولُوا: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَقُولُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ كِتَابًا مِثْلَ كِتَابِكُمْ، وَبَعَثَ نَبِيًّا كَنَبِيِّكُمْ حَسَدْتُمُوهُ عَلَى ذَلِكَ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَقُولُ: هَذَا الأمر الذي أنتم عليه مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قَالَ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تُخْبِرُوهُمْ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ لِيُحَاجُّوكُمْ قَالَ: لِيُخَاصِمُوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَتَكُونُ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ قَالَ: الْإِسْلَامُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قَالَ: الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قَالَ: النُّبُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَحْمَتُهُ الإسلام يختص بها من يشاء.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 77]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ خِيَانَةِ الْيَهُودِ فِي الْمَالِ بَعْدَ بَيَانِ خِيَانَتِهِمْ فِي الدِّينِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، عَلَى مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ «1» وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقِنْطَارِ. وَقَوْلُهُ: تَأْمَنْهُ هَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: تيمنه بكسر
__________
(1) . البقرة: 8.(1/404)
التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى لُغَةِ بَكْرٍ وَتَمِيمٍ، وَمِثْلُهُ: قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: نِسْتَعِينُ بِكَسْرِ النُّونِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ:
يُؤَدِّهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِي الدُّرْجِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَاتَّفَقَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: عَلَى إِسْكَانِ الْهَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِسْكَانُ الْهَاءِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ عِنْدَ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُجِيزُهُ أَلْبَتَّةَ، وَيَرَى أَنَّهُ غَلَطَ مَنْ قَرَأَ بِهِ، وَيُوهِمُ أَنَّ الْجَزْمَ يَقَعُ عَلَى الْهَاءِ وَأَبُو عَمْرٍو أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَكْسِرُ الْهَاءَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَذْهَبُ بَعْضِ الْعَرَبِ يُسَكِّنُونَ الْهَاءَ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قبلها، فيقولون: ضربته ضَرْبًا شَدِيدًا، كَمَا يُسَكِّنُونَ مِيمَ أَنْتُمْ وَقُمْتُمْ، وَأَنْشَدَ:
لَمَّا رَأَى أَنْ لَا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ ... مَالَ إِلَى أَرْطَاهْ «1» حِقْفٍ فَاضْطَجَعْ
وَقَرَأَ أَبُو الْمُنْذِرِ سَلَّامٌ، وَالزُّهْرِيُّ: يُؤَدِّهُ بِضَمِّ الْهَاءِ بغير واو. وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد: يؤدّ هو بِوَاوٍ فِي الْإِدْرَاجِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِمُ الْأَمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي أَمَانَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، وَفِيهِمُ الْخَائِنُ الَّذِي لَا يُؤَدِّي أَمَانَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيرَةً، وَمَنْ كَانَ أَمِينًا فِي الْكَثِيرِ فَهُوَ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ بِالْأَوْلَى، وَمَنْ كَانَ خَائِنًا فِي الْقَلِيلِ فَهُوَ فِي الْكَثِيرِ خَائِنٌ بِالْأَوْلَى. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ: لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا مُطَالِبًا لَهُ، مُضَيِّقًا عَلَيْهِ، مُتَقَاضِيًا لِرَدِّهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، إِلَى تَرْكِ الْأَدَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا يُؤَدِّهِ. وَالْأُمِّيُّونَ: هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ظُلْمِهِمْ حَرَجٌ لِمُخَالَفَتِهِمْ لَنَا فِي دِينِنَا، وَادَّعَوْا- لَعَنَهُمُ اللَّهُ- أَنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ- بَلى أَيْ: بَلَى عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ لِكَذِبِهِمْ، وَاسْتِحْلَالِهِمْ أَمْوَالَ الْعَرَبِ، فَقَوْلُهُ: بَلى إِثْبَاتٌ لِمَا نَفَوْهُ مِنَ السَّبِيلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَمَّ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: بَلى ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ: أَيْ: مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَلَيْسَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. أَوْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِعَهْدِهِ رَاجِعٌ إِلَى: مَنْ، أَوْ إِلَى: اللَّهِ تَعَالَى، وَعُمُومُ الْمُتَّقِينَ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَائِدِ إِلَى: مَنْ، أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَيْ:
يَسْتَبْدِلُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَعَهْدُ اللَّهِ: هُوَ مَا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَيْمَانُ:
هِيَ الَّتِي كَانُوا يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: أُولئِكَ أَيِ:
الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْ: لَا نَصِيبَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَصْلًا، كَمَا يُفِيدُهُ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مِنَ التَّعْمِيمِ، أَوْ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ نَظَرَ رَحْمَةٍ، بَلْ يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ، وَيُعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ قَالَ: هَذَا مِنَ النَّصَارَى وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ قَالَ: هَذَا مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قَالَ: إِلَّا مَا طَلَبْتَهُ وَاتَّبَعْتَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قتادة في قوله:
__________
(1) . الأرطاة: واحدة الأرط، وهو شجر من شجر الرمل، والحقف: بالكسر، ما اعوجّ من الرمل.(1/405)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا أَصَبْنَا مِنْ مَالِ الْعَرَبِ سَبِيلٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ قال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ صَعْصَعَةَ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَقُولُونَ مَاذَا؟ قَالَ: نَقُولُ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ بَأْسٍ، قَالَ: هَذَا كَمَا قال أهل الكتاب: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ إِنَّهُمْ إِذَا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم إِلَّا بِطِيبِ نُفُوسِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى يَقُولُ: اتَّقَى الشِّرْكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يَقُولُ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . فَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَنْ يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ مَالِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» . وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَحْلِفُ بِالسُّوقِ: لَقَدْ أَعْطَى بسلعته ما لم يعط بها. وأخرجه الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا: مُخَاصَمَةٌ كَانَتْ بَيْنَ الْأَشْعَثِ وَامْرِئِ الْقَيْسِ وَرَجُلٍ مِنَ حضرموت. وأخرجه النسائي وغيره.
[سورة آل عمران (3) : آية 78]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
أَيْ: طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ يَلْوُونَ، أَيْ: يُحَرِّفُونَ وَيَعْدِلُونَ بِهِ عَنِ الْقَصْدِ، وَأَصْلُ اللَّيِّ: الْمَيْلُ، يَقُولُ لَوَى بِرَأْسِهِ: إِذَا أَمَالَهُ. وَقُرِئَ: يلوّون بالتشديد، ويلون بِقَلْبِ الْوَاوِ هَمْزَةً، ثُمَّ تَخْفِيفُهَا بِالْحَذْفِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِتَحْسَبُوهُ يَعُودُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ يَلْوُونَ وَهُوَ الْمُحَرَّفُ الَّذِي جَاءُوا بِهِ. قَوْلُهُ:
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ: أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ مُفْتَرُونَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ، كَانُوا يَزِيدُونَ فِي الْكِتَابِ مَا لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يحرّفونه.(1/406)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80]
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
أَيْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي وَلَا يَسْتَقِيمُ لِبَشَرٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَفِيهِ بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ: أَنَّ النَّصَارَى افْتَرَوْا عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ. وَالْحُكْمُ:
الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ. قَوْلُهُ: وَلكِنْ كُونُوا أَيْ: وَلَكِنْ يَقُولُ النَّبِيُّ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ، وَالرَّبَّانِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ، بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ: لِحْيَانِيٌّ، وَلِعَظِيمِ الْجَمَّةِ: جَمَّانِيٌّ، وَلِغَلِيظِ الرَّقَبَةِ:
رَقَبَانِيٌّ. قِيلَ: الرَّبَّانِيُّ: الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الرَّبَّانِيُّونَ: أَرْبَابُ الْعِلْمِ، وَاحِدُهُمْ رَبَّانِيٌّ، مِنْ قَوْلِهِ: رَبَّهُ، يُرَبِّهُ، فَهُوَ رَبَّانٍ: إِذَا دَبَّرَهُ وَأَصْلَحَهُ، وَالْيَاءُ لِلنَّسَبِ، فَمَعْنَى الرَّبَّانِيِّ: الْعَالِمُ بِدِينِ الرَّبِّ، القويّ التمسك بِطَاعَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْعَالِمُ الْحَكِيمُ. قَوْلُهُ: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ أَيْ: بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ عَالِمِينَ، أَيْ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ لِلْإِنْسَانِ وَالدِّرَاسَةِ لَهُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُمَا الرَّبَّانِيَّةُ الَّتِي هِيَ التَّعْلِيمُ لِلْعِلْمِ، وَقُوَّةُ التَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ اللَّهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: «بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ» بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بالتخفيف، واختار القراءة بِالتَّخْفِيفِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ: لِأَنَّهَا لِجَمْعِ الْمَعْنَيَيْنِ. قَالَ مَكِّيٌّ: التَّشْدِيدُ أَبْلَغُ لِأَنَّ الْعَالِمَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا غَيْرَ مُعَلِّمٍ، فَالتَّشْدِيدُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالتَّخْفِيفُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ فَقَطْ. وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ أَبُو حَاتِمٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَتَصْدِيقُهَا: تَدْرُسُونَ بِالتَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ:
أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ لَزِمَهُ أَنْ يَحْمِلَ الرَّبَّانِيَّ عَلَى أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُخْلِصًا أَوْ حَكِيمًا أَوْ حَلِيمًا حَتَّى تَظْهَرَ السَّبَبِيَّةُ وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ الرَّبَّانِيَّ عَلَى الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: كُونُوا مُعَلِّمِينَ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ عُلَمَاءَ، وَبِسَبَبِ كَوْنِكُمْ تَدْرُسُونَ الْعِلْمَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ بَاعِثٍ لِمَنْ عَلَّمَ أَنْ يَعْمَلَ، وَإِنَّ مَنْ أَعْظَمِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ تَعْلِيمَهُ، وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى ثُمَّ يَقُولَ وَلا مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِعِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَلَا يَأْمُرَ بِاتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا، بَلْ يَنْتَهِي عَنْهُ، وَيَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى أَنْ يُؤْتِيَهُ، أَيْ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَأْمُرَكُمْ بِأَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْقَطْعِ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، أَيْ: وَلَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ. وَالْهَمْزُ فِي قَوْلِهِ: أَيَأْمُرُكُمْ لِإِنْكَارِ مَا نُفِيَ عَنِ الْبَشَرِ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ اسْتِئْذَانُ مَنِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ حِينَ اجْتَمَعَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ! أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ، أَوْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي وَلَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ:(1/407)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
مَا كانَ لِبَشَرٍ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَمَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيَّكُمْ، وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا كانَ لِبَشَرٍ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: رَبَّانِيِّينَ قَالَ: فُقَهَاءُ، عُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: حُكَمَاءُ، عُلَمَاءُ، حُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: عُلَمَاءُ، فُقَهَاءُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حُكَمَاءُ، عُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ فِي قَوْلِهِ: وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ قَالَ: مُذَاكَرَةُ الْفِقْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا قَالَ: ولا يأمرهم النبيّ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 82]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)
قَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهُ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْإِيمَانِ، وَيَأْمُرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، فَهَذَا مَعْنَى النُّصْرَةِ لَهُ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَحَاصِلُهُ: أَنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْآخِرُ وَيَنْصُرَهُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ بِمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. وَالْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَتُعَلِّمُنَّ النَّاسَ لَمَا جَاءَكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُؤْمِنُوا، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْحَذْفِ قَوْلُهُ: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي وَمَا فِي قَوْلِهِ: لَما آتَيْتُكُمْ بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ سِيبَوَيْهِ: سَأَلْتُ الْخَلِيلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ فَقَالَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِ الْخَلِيلِ: الَّذِي آتَيْتُكُمُوهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَاءُ لِطُولِ الِاسْمِ، وَاللَّامُ لام الابتداء، بهذا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَتَكُونُ: مَا، فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا: مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جاءَكُمْ وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مُصَدِّقٌ بِهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ وَالْكِسَائِيُّ: مَا شَرْطِيَّةٌ دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَامُ التَّحْقِيقِ، كَمَا تَدْخُلُ عَلَى إِنْ، ولَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جَوَابُ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ، إِذْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْلَافِ كَمَا تَقُولُ: أَخَذْتُ مِيثَاقَكَ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، وَهُوَ سَادٌّ مَسَدَّ الْجَزَاءِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ الْجَزَاءَ قَوْلُهُ:
فَمَنْ تَوَلَّى. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لَما آتَيْتُكُمْ لَامُ التَّوْطِئَةِ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:
لَتُؤْمِنُنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَمَا: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ المتضمنة لمعنى الشرط، ولتؤمنن سادّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ جَمِيعًا، وَأَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى: لِلَّذِي آتَيْتُكُمُوهُ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. انْتَهَى وَقَرَأَ حَمْزَةُ: لَما آتَيْتُكُمْ(1/408)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
بكسر اللام، وما بمعنى الذي، وهي معلقة بِأَخَذَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: آتَيْنَاكُمْ عَلَى التَّعْظِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: آتَيْتُكُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَقِيلَ: إِنَّ مَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ اللَّامِ: مَصْدَرِيَّةٌ. وَمَعْنَاهُ:
لِأَجْلِ إِيتَائِي إِيَّاكُمْ بَعْضَ الْكِتَابِ والحكمة، ثم لمجيء رسول الله مُصَدِّقٍ لِمَا مَعَكُمْ، وَاللَّامُ لَامُ التَّعْلِيلِ: أَيْ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. قَوْلُهُ: أَقْرَرْتُمْ
هُوَ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَالْإِصْرُ فِي اللُّغَةِ:
الثِّقْلُ، سُمِّيَ الْعَهْدُ إِصْرًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْدِيدِ. وَالْمَعْنَى: وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكَ عَهْدِي. قَوْلُهُ: قالُوا أَقْرَرْنا جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: قَالُوا: أَقْرَرْنَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدُهُمُ الْإِصْرَ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ. قَوْلُهُ: قالَ فَاشْهَدُوا أَيْ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَاشْهَدُوا، أَيْ: لِيَشْهَدْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَيْ: وَأَنَا عَلَى إِقْرَارِكُمْ وَشَهَادَةِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الشَّاهِدِينَ. قَوْلُهُ: فَمَنْ تَوَلَّى أَيْ: أَعْرَضَ عَمَّا ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنِ الطَّاعَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ يَقْرَءُونَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ وَنَحْنُ نَقْرَأُ:
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى قَوْمِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ طَاوُسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ قَالَ:
هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكُتَّابِ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ: لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وَيَأْمُرُهُ فَيَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى قَوْمِهِ، ثُمَّ تَلَا: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِصْرِي قَالَ: عَهْدِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: قالَ فَاشْهَدُوا يَقُولُ: فَاشْهَدُوا عَلَى أُمَمِكُمْ بِذَلِكَ وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ فَمَنْ تَوَلَّى عَنْكَ يَا مُحَمَّدُ بَعْدَ هَذَا الْعَهْدِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ هم العاصون في الكفر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 85]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)
قَوْلُهُ: أَفَغَيْرَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَتَتَوَلَّوْنَ فَتَبْغُونَ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ: لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْكَارِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ يَبْغُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَتَرْجِعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ وَالثَّانِي عَامٌّ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِالتَّحْتِيَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بالفوقية(1/409)
فِيهِمَا، وَانْتَصَبَ: طَوْعًا وَكَرْهًا، عَلَى الْحَالِ، أَيْ: طَائِعِينَ وَمُكْرَهِينَ. وَالطَّوْعُ: الِانْقِيَادُ وَالِاتِّبَاعُ بِسُهُولَةٍ، وَالْكُرْهُ: مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَهُوَ مِنْ أَسْلَمَ مَخَافَةَ الْقَتْلِ، وَإِسْلَامُهُ اسْتِسْلَامٌ مِنْهُ. قَوْلُهُ: آمَنَّا إِخْبَارٌ منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أُمَّتِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كَمَا فُرِّقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فآمنوا بِبَعْضٍ، وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَيْ: مُنْقَادُونَ مُخْلِصُونَ. قَوْلُهُ: دِيناً مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ، أَيْ: يَبْتَغِ دِينًا حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ: غَيْرَ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الْفِعْلِ، وَدِينًا: إِمَّا تَمْيِيزٌ، أَوْ حَالٌ، إِذَا أُوِّلَ بِالْمُشْتَقِّ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ: غَيْرَ. قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ إِمَّا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ: مِنَ الْوَاقِعِينَ فِي الْخُسْرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال: أما من في السموات: فَالْمَلَائِكَةُ، وَأَمَّا مَنْ فِي الْأَرْضِ: فَمَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا كُرْهًا: فَمَنْ أُتِيَ بِهِ مِنْ سَبَايَا الْأُمَمِ فِي السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَهُمْ كَارِهُونَ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ: «الْمَلَائِكَةُ أَطَاعُوهُ فِي السَّمَاءِ، وَالْأَنْصَارُ، وَعَبْدُ الْقَيْسِ أَطَاعُوهُ فِي الْأَرْضِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُ أَسْلَمَ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَّا الْمُؤْمِنُ: فَأَسْلَمَ طَائِعًا، فَنَفَعَهُ ذَلِكَ وَقُبِلَ مِنْهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ: فَأَسْلَمَ حِينَ رَأَى بِأْسَ اللَّهِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ مِنَ الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ وَالصِّبْيَانِ فاقرؤوا فِي أُذُنِهِ: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ:
لَيْسَ رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى دَابَّةٍ صَعْبَةٍ فَيَقْرَأُ فِي أُذُنِهَا: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ الْآيَةَ، إِلَّا ذَلَّتْ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَا الصَّلَاةُ، فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، وَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ:
يَا رَبِّ! أَنَا الصَّدَقَةُ، فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، وَيَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ: أَنَا الصِّيَامُ، فَيَقُولُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ، فَيَقُولُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» .(1/410)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 91]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
قَوْلُهُ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ: الْجَحْدُ، أَيْ: لَا يَهْدِي اللَّهُ، وَنَظِيرُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاشِ وَلَمَّا ... تَشْمَلِ الشَّامَ «1» غَارَةٌ شَعْوَاءُ
أَيْ: لَا نَوْمَ لِي. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا إِلَى الْحَقِّ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَبَعْدَ مَا شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، وَبَعْدَ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمُعْجِزَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: كَيْفَ يَهْدِي الْمُرْتَدِّينَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَهْدِي مَنْ حَصَلَ مِنْهُمْ مُجَرَّدُ الظُّلْمِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَمِنْهُمُ الْبَاقُونَ عَلَى الْكُفْرِ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَنْبَ الْمُرْتَدِّ أَشَدُّ مِنْ ذَنْبِ مَنْ هُوَ بَاقٍ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ قَدْ عَرَفَ الْحَقَّ ثُمَّ أَعْرَضَ عِنَادًا وَتَمَرُّدًا. قَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْمِ الْمُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ: الْجُمْلَةُ الَّتِي بعده. وقد تقدّم تفسير اللعن. وقوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ مَعْنَاهُ: يُؤَخِّرُونَ وَيُمْهِلُونَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ، فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الِارْتِدَادِ وَأَصْلَحُوا بِالْإِسْلَامِ مَا كَانَ قَدْ أَفْسَدُوهُ مِنْ دِينِهِمْ بِالرِّدَّةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ إِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، مُخْلِصًا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِيمَا أَحْفَظُ. قَوْلُهُ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً.
قَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنَعْتِهِ وَصَفَتِهِ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَقِيلَ: ازْدَادُوا كُفْرًا بِالذُّنُوبِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَجَعَلَهَا فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ «2» مع كون التوبة مقبولة فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «3» غير ذَلِكَ فَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «4» وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَكْفُرُوا، لِأَنَّ الْكُفْرَ أحبطها، وَقِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِذَا تَابُوا مِنْ كُفْرِهِمْ إِلَى كُفْرٍ آخَرَ، وَالْأَوْلَى: أَنْ يُحْمَلَ عدم قبول توبتهم فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرًا غَيْرَ تَائِبٍ، فَكَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ بِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فِي حُكْمِ الْبَيَانِ لَهَا. قَوْلُهُ: مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً الْمِلْءُ بِالْكَسْرِ: مِقْدَارُ مَا يَمْلَأُ الشَّيْءَ، وَالْمَلْءُ بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ مَلَأْتُ الشَّيْءَ، وَذَهَبًا: تَمْيِيزٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وقال الكسائي: نصب
__________
(1) . في القرطبي (4/ 129) : يشمل القوم.
(2) . آل عمران: 90.
(3) . الشورى: 25.
(4) . النساء: 18.(1/411)
عَلَى إِضْمَارِ: مِنْ ذَهَبٍ. كَقَوْلِهِ: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً «1» أَيْ: مِنْ صِيَامٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: ذَهَبٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: مَلْءٍ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ قِيلَ: هِيَ مُقْحَمَةٌ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى:
لَوِ افْتَدَى بِهِ وَقِيلَ: فِيهِ حَمْلٌ عَلَى الْغَنِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مَلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَوِ افْتَدَى بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: بِمِثْلِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ: أَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ:
غَفُورٌ رَحِيمٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ فَأَسْلَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، عَرَفُوا مُحَمَّدًا، ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عباس: أن قوما أَسْلَمُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا، فَأَرْسَلُوا إِلَى قَوْمِهِمْ يَسْأَلُونَ لَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْبَزَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ كَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِذُنُوبٍ أَذْنَبُوهَا، ثُمَّ ذَهَبُوا يَتُوبُونَ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ فِي كُفْرِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالَ: نَمَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالَ: مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قَالَ: إِذَا تَابَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال: تابوا مِنَ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَتُوبُوا مِنَ الْأَصْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ قَالَ: هُوَ كُلُّ كَافِرٍ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لو كان مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: لَقَدْ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية.
__________
(1) . المائدة: 95.(1/412)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
[سورة آل عمران (3) : آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَقِبَ ذِكْرِ مَا لَا يَنْفَعُ الْكُفَّارَ. قَوْلُهُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ يُقَالُ:
نَالَنِي مِنْ فُلَانٍ مَعْرُوفٌ يَنَالُنِي، أَيْ: وَصَلَ إِلَيَّ، وَالنَّوَالُ: الْعَطَاءُ، مِنْ قَوْلِكَ: نَوَّلْتُهُ تَنْوِيلًا، أَعْطَيْتُهُ.
وَالْبِرُّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وعمر بْنُ مَيْمُونٍ، وَالسُّدِّيُّ:
هُوَ الْجَنَّةُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَنْ تَنَالُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ أَوِ الْجَنَّةَ، أَيْ: تَصِلُوا إِلَى ذَلِكَ، وَتَبْلُغُوا إِلَيْهِ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، أَيْ: حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُكُمْ مِنْ أموالكم التي تحبونها، ومن تَبْعِيضِيَّةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَتَّى تُنْفِقُوا بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ وَقِيلَ: بَيَانِيَّةٌ وَمَا مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَالْمُرَادُ: النَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ وَقِيلَ الْمُرَادُ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: مَا تُنْفِقُوا أَيْ: مَا تُنْفِقُوا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ سَوَاءً كَانَ طَيِّبًا أَوْ خَبِيثًا فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وَمَا:
شَرْطِيَّةٌ جَازِمَةٌ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَعْلِيلٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَضَرَتْنِي هَذِهِ الْآيَةُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ مَرْجَانَةَ، جَارِيَةٍ لِي رُومِيَّةٍ، فَقُلْتُ: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَلَوْ أَنِّي أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ لِلَّهِ لَنَكَحْتُهَا، فَأَنْكَحْتُهَا نَافِعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ جَلُولَاءَ، فَدَعَا بِهَا عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بن منصور، وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ، جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بفرس له يقال لها: سُبُلٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَقَالَ: هِيَ صَدَقَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ قَالَ: الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَالسُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَسْرُوقٍ مثله.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
قَوْلُهُ: كُلُّ الطَّعامِ أَيِ: الْمَطْعُومِ، وَالْحِلُّ: مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَهُوَ الْحَلَالُ، وَإِسْرَائِيلُ: هُوَ يَعْقُوبُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ الْمَطْعُومَاتِ كَانَتْ حَلَالًا لِبَنِي يَعْقُوبَ، لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ،(1/413)
وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ مِنِ اسْمِ كَانَ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: كانَ حِلًّا أَيْ: أَنَّ كُلَّ الْمَطْعُومَاتِ كَانَتْ حَلَالًا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ أَيْ: كَانَ مَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى حَلَالًا لَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ لِظُلْمِهِمْ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ لَمَّا أَنْكَرُوا مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ على رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، مِنْ أَنَّ سَبَبَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُوَ ظُلْمُهُمْ وَبَغْيُهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1» . الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما «2» إلى قوله: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ «3» وقالوا:
إنها محرّمة عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ تَكْذِيبَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى الله عليه وسلّم في كتابه العزيز، ثم أمره سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُحَاجَّهُمْ بِكِتَابِهِمْ، وَيَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حكما ما أنزله عليهم، لا ما أنزل عَلَيْهِ فَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ حَتَّى تَعْلَمُوا صِدْقَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ شَيْءٌ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ. وَفِي هَذَا مِنَ الْإِنْصَافِ لِلْخُصُومِ مَا لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ، وَلَا يَبْلُغُ مَدَاهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِحْضَارِ التَّوْرَاةِ وَتِلَاوَتِهَا فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
أَيْ: الْمُفَرِّطُونَ فِي الظُّلْمِ الْمُتَبَالِغُونَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِمَّنْ حُوكِمَ إِلَى كِتَابِهِ وَمَا يَعْتَقِدُهُ شَرْعًا صَحِيحًا، ثُمَّ جَادَلَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَا يَفْتَرُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِهِمْ بَاطِلًا مَدْفُوعًا، وَكَانَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ وَصَدَّقَتْهُ التَّوْرَاةُ صَحِيحًا صَادِقًا، وَكَانَ ثُبُوتُ هَذَا الصِّدْقِ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخَصْمُ دَفْعَهُ، أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَادِيَ بِصِدْقِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْكَذِبَ، فَقَالَ: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أَيْ: مِلَّةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْحَنِيفِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِذَا تَبَيَّنَ لَكُمْ صِدْقِي، وَصِدْقُ مَا جِئْتُ بِهِ، فَادْخُلُوا فِي دِينِي، فإن من جملة ما أنزله اللَّهُ عَلَيَّ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «4» .
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قال: كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النّسا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا تَحْرِيمَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا، فَلِذَلِكَ حَرَمَّهَا، قَالُوا: صَدَقْتَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعِرْقُ أَجِدُهُ عِرْقَ النَّسَاءِ، فَكَانَ يَبِيتُ لَهُ زِقٌّ، يَعْنِي: صِيَاحٌ، فَجَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إِنْ شَفَاهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ لَحْمًا فِيهِ عِرْقٌ، فَحَرَّمَتْهُ الْيَهُودُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ سَابِقًا عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ زَائِدَتَا الْكَبِدِ، وَالْكُلْيَتَانِ، وَالشَّحْمَ، إِلَّا مَا كَانَ عَلَى الظَّهْرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ بِتَحْرِيمِ الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ، فقال الله لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وكذبوا ليس في التوراة.
__________
(1) . النساء: 160.
(2) . الأنعام: 146.
(3) . الأنعام: 146.
(4) . آل عمران: 85.(1/414)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ شَيْءٍ آخَرَ مِمَّا جَادَلَتْ فِيهِ الْيَهُودُ بِالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ، لِكَوْنِهِ: مُهَاجَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ: وُضِعَ صِفَةٌ لِبَيْتٍ، وَخَبَرُ إِنَّ: قَوْلُهُ: لَلَّذِي بِبَكَّةَ فَنَبَّهَ تَعَالَى بِكَوْنِهِ: أَوَّلَ مُتَعَبِّدٍ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غيره، وقد اختلف في الباني فِي الِابْتِدَاءِ: فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: آدَمُ، وَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ: بِأَوَّلِ مَنْ بَنَاهُ الملائكة، جَدَّدَهُ آدَمُ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ. وَبَكَّةُ: عَلَمٌ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَكَذَا مَكَّةُ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَكَّةَ: اسْمٌ لِمَوْضِعِ الْبَيْتِ، وَمَكَّةُ: اسْمٌ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ وَقِيلَ: بَكَّةُ:
لِلْمَسْجِدِ، وَمَكَّةُ: لِلْحَرَمِ كُلِّهِ قِيلَ: سُمِّيَتْ بَكَّةُ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِي الطَّوَافِ، يُقَالُ: بَكَّ الْقَوْمُ: ازْدَحَمُوا وَقِيلَ: الْبَكُّ: دَقُّ الْعُنُقِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَدُقُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا: بِمَكَّةَ، فَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لقلة ما بها وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَمُكُّ الْمُخَّ مِنَ الْعَظْمِ، بِمَا يَنَالُ سَاكِنَهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَمِنْهُ مَكَكْتُ الْعَظْمَ:
إذا أخرجت ما فيه، وأمكته: إِذَا امْتَصَّهُ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لِأَنَّهَا تَمُكُّ مِنْ ظَلَمَ فِيهَا، أَيْ: تُهْلِكُهُ. قَوْلُهُ:
مُبارَكاً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وُضِعَ، أَوْ مِنْ مُتَعَلِّقِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَلَّذِي اسْتَقَرَّ بِبَكَّةَ مُبَارَكًا، وَالْبَرَكَةُ: كَثْرَةُ الْخَيْرِ الْحَاصِلِ لِمَنْ يَسْتَقِرُّ فِيهِ أَوْ يَقْصِدُهُ، أَيِ: الثَّوَابُ الْمُتَضَاعِفُ. وَالْآيَاتُ البينات:
الواضحات، مِنْهَا: الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَمِنْهَا: أَثَرُ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَيْثَ إِذَا كَانَ بِنَاحِيَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ كَانَ الْخِصْبُ فِي الْيَمَنِ، وَإِنْ كَانَ بِنَاحِيَةِ الشَّامِيِّ كَانَ الْخِصْبُ بِالشَّامِ، وَإِذَا عَمَّ الْبَيْتَ كَانَ الْخِصْبُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، وَمِنْهَا: انْحِرَافُ الطُّيُورِ عَنْ أَنْ تَمُرَّ عَلَى هَوَائِهِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَمِنْهَا: هَلَاكُ مَنْ يَقْصِدُهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: مَقامُ إِبْراهِيمَ بَدَلٌ مِنْ آيَاتٌ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بَيَانَ الْآيَاتِ- وَهِيَ جَمْعٌ-: بِالْمَقَامِ- وَهُوَ فَرْدٌ- وَأَجَابَ: بِأَنَّ الْمَقَامَ جُعِلَ وَحْدَهُ بِمَنْزِلَةِ آيَاتٍ، لِقُوَّةِ شَأْنِهِ، أَوْ: بِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى آيَاتٍ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمْنُ مَنْ دَخْلَهُ، لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ نَوْعٌ مِنَ الْجَمْعِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِبَيَانِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَرَمِ، وَهُوَ: أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا. وَبِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنَ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ فِي الْحَرَمِ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ: وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ كَقَوْلِهِ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ «1» أَيْ: لَا تَرْفُثُوا، وَلَا تَفْسُقُوا، وَلَا تُجَادِلُوا. قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: لَامُ الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ، ثُمَّ زَادَ هَذَا الْمَعْنَى تَأْكِيدًا حَرْفُ عَلَى، فَإِنَّهُ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَاتِ على الوجوب
__________
(1) . البقرة: 197. [.....](1/415)
عِنْدَ الْعَرَبِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا، فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَّ بِأَبْلَغِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، وَهَذَا الْخِطَابُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَّا مَنْ خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ، كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ.
وَقَوْلُهُ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنَ النَّاسِ. وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ.
وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِحِجٍّ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَقِيلَ:
إِنَّ: مَنْ، حَرْفُ شَرْطٍ، وَالْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ مَاذَا هِيَ؟ فَقِيلَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْحَقُّ. قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَثِقَ بِقُوَّتِهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ، إِذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنْ كَانَ شَابًّا قَوِيًّا صَحِيحًا وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا: أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ إِلَى الْحَجِّ آمِنَةً، بِحَيْثُ يَأْمَنُ الْحَاجُّ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ الَّذِي لَا يَجِدُ زَادًا غَيْرَهُ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ آمِنَةٍ فَلَا اسْتِطَاعَةَ، لَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَهَذَا الْخَائِفُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَيْهِ سَبِيلًا بِلَا شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الظَّلَمَةِ من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُعْطِي حَبَّةً، وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ، وَخَالَفَهُ آخَرُونَ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَكَانَتِ الطَّرِيقُ آمِنَةً، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُرُورِهَا، وَلَوْ بِمُصَانَعَةِ بَعْضِ الظَّلَمَةِ لِدَفْعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، يتمكن منه الْحَاجُّ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ زَادِهِ وَلَا يُجْحِفُ بِهِ، فَالْحَجُّ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَطَاعَ السَّبِيلَ بِدَفْعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ هَذَا الْمَالُ الْمَدْفُوعُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِاسْتِطَاعَةُ، فَلَوْ وَجَدَ الرَّجُلُ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَجِدْ مَا يَدْفَعُهُ لِمَنْ يَأْخُذُ الْمَكْسَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يُنَافِي تَفْسِيرَ الِاسْتِطَاعَةِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْمُرُورُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ لِمَنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ إِلَّا بِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُونَ، وَلَعَلَّ وَجْهَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ سَقَطَ الْحَجُّ: أَنَّ أَخْذَ هَذَا الْمَكْسِ مُنْكَرٌ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يَدْخُلَ فِي مُنْكَرٍ، وَأَنَّهُ بِذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ: أَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ صَحِيحَ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ الرُّكُوبُ، فَلَوْ كَانَ زَمِنًا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَلَا عَلَى الرُّكُوبِ، فَهَذَا وَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ والراحلة فهو لم يستطيع السَّبِيلَ. قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ قِيلَ: إِنَّهُ عَبَّرَ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنْ تَرْكِ الْحَجِّ، تَأْكِيدًا لِوُجُوبِهِ، وَتَشْدِيدًا عَلَى تَارِكِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَنْ كَفَرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ وَلَمْ يَرَهُ وَاجِبًا، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَقْتِ تَارِكِ الْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَخِذْلَانِهِ، وَبُعْدِهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، مَا يَتَعَاظَمُهُ سَامِعُهُ، وَيَرْجُفُ لَهُ قَلْبُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا شَرَعَ لِعِبَادِهِ هَذِهِ الشَّرَائِعَ لِنَفْعِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، وَهُوَ تَعَالَى شَأْنُهُ، وَتَقَدَّسَ سُلْطَانُهُ، غَنِيٌّ لَا تَعُودُ إِلَيْهِ طَاعَاتُ عِبَادِهِ بِأَسْرِهَا بِنَفْعٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ الْآيَةَ، قَالَ:(1/416)
كَانَتِ الْبُيُوتُ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:
الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَكَانَ إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ زُبْدَةً بَيْضَاءَ، وَكَانَتِ الأرض تحته كأنّها حشفة دحيت الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْأَزْرَقِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغْنَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهُ مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَعْظَمُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
إِنَّمَا سُمِّيَتْ: بَكَّةُ، لِأَنَّ النَّاسَ يَجِيئُونَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حُجَّاجًا. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ: بَكَّةُ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكَوْنَ فِيهَا، أَيْ: يَزْدَحِمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ: مُبارَكاً قَالَ: جُعِلَ فِيهِ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ: وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يَعْنِي: بِالْهُدَى قِبْلَتَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ فَمِنْهُنَّ:
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَشْعَرُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ قَالَ:
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قَالَ: كَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَنَاوَلْ وَلَمْ يُطْلَبْ، فَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، مَنْ سَرَقَ فِيهِ قُطِعَ، وَمَنْ زَنَى فِيهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَمَنْ قَتَلَ فِيهِ قُتِلَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْأَزْرَقِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ الْخَطَّابِ مَا مَسِسْتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قَالَ: مَنْ عَاذَ بِالْبَيْتِ أَعَاذَهُ الْبَيْتُ، وَلَكِنْ لَا يُؤْوَى، وَلَا يُطْعَمُ، وَلَا يُسْقَى، فَإِذَا خَرَجَ أُخِذَ بِذَنْبِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ لَمْ أَعْرِضْ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: قَامَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَقَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يُعْضَدَ بِهَا شَجَرَةٌ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً من نهار ثم عادت حرمتها كَحُرْمَتِهَا أَمْسِ» . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَقِيلَ: مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» .(1/417)
وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: أَنَّهُ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ؟ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا السَّبِيلُ إِلَى الْحَجِّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَضُرُّهُ مَا وَقَعَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا فِي الْآيَةِ:
«أَنَّهُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَجِدُ ظَهْرَ بَعِيرٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. وَأَخْرَجَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: السَّبِيلُ: أَنْ يَصِحَّ بَدَنُ الْعَبْدِ، وَيَكُونَ لَهُ ثَمَنُ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْحِفَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ:
سَبِيلًا مَنْ وَجَدَ إِلَيْهِ سَعَةً، وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: الِاسْتِطَاعَةُ: الْقُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: إِنَّ الْمُحْرِمَ لِلْمَرْأَةِ مِنَ السَّبِيلِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّهْيُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ.
وَاخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ فَفِي لَفْظٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي لَفْظٍ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَفِي لَفْظٍ بَرِيدٌ.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي تَشْدِيدِ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَحُجَّ. فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللَّهِ فَلَا عَلَيْهِ بِأَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
وَفِي إِسْنَادِهِ هِلَالُ الْخُرَاسَانِيُّ، أو هَاشِمٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ مَجْهُولٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ:
هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَمْنَعْهُ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ:
بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ، فَلْيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمِ الْجِزْيَةَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عنه يقول:
«من أطاق الحجّ، فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ يَهُودِيًّا مَاتَ أَوْ نَصْرَانِيًّا» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ إِسْنَادَهُ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُوسِرٌ، وَلَمْ يَحُجَّ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ عَيْنَيْهِ مكتوب كافر» .(1/418)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ «مَنْ وَجَدَ إِلَى الْحَجِّ سَبِيلًا سَنَةً ثُمَّ سَنَةً ثُمَّ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَا يُدْرَى مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ تَرَكَ النَّاسُ الْحَجَّ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس في قوله: مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَرَ حَجَّهُ بِرًّا وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ:
لَمَّا نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ، فَقَالُوا: لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا، وَأَبَوْا أَنْ يَحُجُّوا، قَالَ اللَّهُ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ، جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْمِلَلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ فَقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ إِلَّا الْمُسْلِمُونَ، وَكَفَرَتْ بِهِ خَمْسُ مِلَلٍ، قَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا نُصَلِّي إِلَيْهِ، وَلَا نَسْتَقْبِلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عن أَبِي دَاوُدَ نُفَيْعٍ قَالَ:
«قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ تَرَكَهُ كَفَرَ؟ فَقَالَ: مَنْ تَرَكَهُ لَا يَخَافُ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ حَجَّ لَا يَرْجُو ثَوَابَهُ فَهُوَ ذَاكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قول الله: مَنْ كَفَرَ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَرَأَ:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ: سَبِيلًا ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَمْ يُؤْمِنْ به: فهو الكافر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 103]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)(1/419)
قوله: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَكْفُرُونَ:
لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، مُؤَكِّدَةٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، وَهَكَذَا الْمَجِيءُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي: شَهِيدٍ، يُفِيدُ مَزِيدَ التَّشْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَصُدُّونَ يُفِيدُ مَا أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَصُدُّونَ مِنْ أَصُدُّ، وَهُمَا لُغَتَانِ: مِثْلُ: صَدَّ اللَّحْمُ، وَأَصَدَّ:
إِذَا تَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَسَبِيلُ اللَّهِ: دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَالْعِوَجُ: الْمَيْلُ وَالزَّيْغُ، يُقَالُ:
عِوَجٌ بِالْكَسْرِ: إِذَا كَانَ فِي الدِّينِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَبِالْفَتْحِ: فِي الْأَجْسَامِ كَالْجِدَارِ وَنَحْوِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَغَيْرِهِ، وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: تَبْغُونَها عِوَجاً النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: تَطْلُبُونَ لَهَا اعْوِجَاجًا، وَمَيْلًا عَنِ الْقَصْدِ وَالِاسْتِقَامَةِ، بِإِبْهَامِكُمْ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهَا كَذَلِكَ، تَثْقِيفًا لِتَحْرِيفِكُمْ، وَتَقْوِيمًا لِدَعَاوِيكُمُ الْبَاطِلَةِ: وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: كَيْفَ تَطْلُبُونَ ذَلِكَ بِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَشْهَدُونَ أَنَّهَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غيره كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم؟ قيل: إن في التوراة: أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، وَأَنَّ فِيهِ نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أَيْ: عُقَلَاءُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ، مَقْبُولُونَ عِنْدَهُمْ، فَكَيْفَ تَأْتُونَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي يُخَالِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ؟ ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ثُمَّ خَاطَبَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ مُحَذِّرًا لَهُمْ عَنْ طَاعَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّ تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كَافِرِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: مِنْ أَيْنَ يَأْتِيكُمْ ذَلِكَ وَلَدَيْكُمْ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ وَيَقْطَعُ أَثَرَهُ، وَهُوَ تِلَاوَةُ آيَاتِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَكَوْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ، لِيَحْصُلَ لَهُمْ بِذَلِكَ الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَفِي وَصْفِ الصِّرَاطِ بِالْاسْتِقَامَةِ رَدٌّ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْعِوَجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الخطاب لأصحاب محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاصَّةً، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ آثَارَهُ وَعَلَامَتَهُ وَالْقُرْآنَ الَّذِي أُوتِيَهُ فِينَا، فَكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا وإن لم نشاهد. انْتَهَى. وَمَعْنَى الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ: التَّمَسُّكُ بِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ، وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ، يُقَالُ: اعْتَصَمَ بِهِ وَاسْتَعْصَمَ وَتَمَسَّكَ وَاسْتَمْسَكَ: إِذَا امْتَنَعَ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَصَمَهُ الطَّعَامُ: مُنِعَ الْجُوعُ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أَيِ: التَّقْوَى الَّتِي تَحِقُّ لَهُ، وَهِيَ: أَنْ لَا يَتْرُكَ الْعَبْدُ شَيْئًا مِمَّا يلزمه فعله، ولا يفعل شَيْئًا مِمَّا يَلْزَمُهُ تَرْكُهُ، وَيَبْذُلُ فِي ذَلِكَ جُهْدَهُ وَمُسْتَطَاعَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا؟ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ، وَابْنِ زَيْدٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَيْسَ فِي آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْمَنْسُوخِ شَيْءٌ إِلَّا هَذَا. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ مُبَيَّنٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1» وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ. قَالَ: وَهَذَا أَصْوَبُ، لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ، فَهُوَ أَوْلَى. قَوْلُهُ: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ: لَا تكونن على حال
__________
(1) . التغابن: 16.(1/420)
سِوَى حَالِ الْإِسْلَامِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ: وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وقد تقدم تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً الْحَبْلُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: السَّبَبُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْبُغْيَةِ، وَهُوَ إِمَّا تَمْثِيلٌ، أَوِ اسْتِعَارَةٌ. أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْقُرْآنِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ النَّاشِئِ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَاءَ مختلفين يقتل بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَيَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأَصْبَحُوا بِسَبَبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ إِخْوَانًا، وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَأَنْقَذَهُمُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْحُفْرَةِ بِالْإِسْلَامِ. وَمَعْنَى قوله: فَأَصْبَحْتُمْ صِرْتُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ:
مَعْنَاهُ الْأَصْلِيَّ، وَهُوَ: الدُّخُولُ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ، وَشَفَا كُلِّ شَيْءٍ: حَرْفُهُ، وَكَذَلِكَ شَفِيرُهُ، وَأَشْفَى عَلَى الشَّيْءِ: أَشْرَفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ الْبَلِيغِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إِرْشَادٌ لَهُمْ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْهُدَى وَالِازْدِيَادِ مِنْهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ:
مَرَّ شَاسُ بن قيس- وكان شيخا قد عسا «1» فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَظِيمَ الْكُفْرِ، شَدِيدَ الطَّعْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ- عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي مَجْلِسٍ، قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ. فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ، وَجَمَاعَتِهِمْ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ «2» بِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَاللَّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ، فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مَعَهُ مِنْ يَهُودَ، فَقَالَ: اعْمَدْ إِلَيْهِمْ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ، وَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنْشَدَهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا يَتَقَاوَلُونَ فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ، وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظَّفَرُ فِيهِ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، فَفَعَلَ، فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَتَنَازَعُوا، وَتَفَاخَرُوا، حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرَّكْبِ: أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَجُبَارُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، السِّلَاحَ السِّلَاحَ، مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةَ، وَالظَّاهِرَةُ: الْحَرَّةُ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا وَانْضَمَّتِ الْأَوْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى جَاءَهُمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اللَّهَ اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، واستقذكم بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا، فَعَرَفَ الْقَوْمُ أنها نزغة من
__________
(1) . عسا الشيخ عسيّا: كبر وولّى.
(2) . قيلة: بطن من الأزد، من كهلان، من القحطانية، وهم أبناء الأوس والخزرج.(1/421)
الشَّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ لَهُمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَبَكَوْا، وَعَانَقَ الرِّجَالُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوِّ اللَّهِ شَاسٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَأَنْزَلَ فِي أَوْسِ بْنِ قَيْظِيٍّ، وَجُبَارِ بْنِ صَخْرٍ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا الَّذِينَ صَنَعُوا مَا صنعوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ:
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُخْتَصَرَةً وَمُطَوَّلَةً مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: كَانُوا إِذَا سَأَلَهُمْ أَحَدٌ تَجِدُونَ مُحَمَّدًا؟
قَالُوا: لَا، قَالَ: فَصَدُّوا النَّاسَ عَنْهُ، وَبَغَوْا مُحَمَّدًا، عِوَجًا: هَلَاكًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ نَبِيِّ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ فيما تقرؤون مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَجْزِي إِلَّا بِهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ قَالَ: يُؤْمِنْ بِهِ. وَأَخْرَجُوا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الِاعْتِصَامُ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِدُونِ قَوْلِهِ: وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ: أن يطاع فلا يعصى، فلم يستطيعوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1» وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَقَّ تُقاتِهِ قَالَ: لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنْ حَقَّ تُقَاتِهِ: أَنْ يُجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا يَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ قَالَ: حَبْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ: بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بِطَاعَتِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بِعَهْدِهِ وَأَمْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ:
بِالْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ فَأَطْفَأَ اللَّهُ ذَلِكَ وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ يَقُولُ: كُنْتُمْ عَلَى طَرَفِ النَّارِ، مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ وَقَعَ فِي النَّارِ، فَبَعَثَ اللَّهُ محمدا صلّى الله عليه وسلم واستنقذكم به من تلك الحفرة.
__________
(1) . التغابن: 16.(1/422)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 109]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قَوْلُهُ: وَلْتَكُنْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِ اللَّامِ، وَقُرِئَ: بِكَسْرِ اللَّامِ، عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ:
مِنْكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ: بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ كَوْنَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ: مَعْرُوفًا، وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ: مُنْكَرًا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَدْ عَيَّنَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ «1» الْآيَةَ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَلَامٌ مِنْ كَلَامِهِ، غَلَطَ فِيهِ بَعْضُ النَّاقِلِينَ، فَأَلْحَقَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عُثْمَانَ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكْتُبْهَا فِي مُصْحَفِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَوُجُوبُهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَأَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِهَا، وَرُكْنٌ مُشَيَّدٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَبِهِ يَكْمُلُ نِظَامُهَا وَيَرْتَفِعُ سَنَامُهَا.
وَقَوْلُهُ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، إِظْهَارًا لِشَرَفِهِمَا، وَأَنَّهُمَا الْفَرْدَانِ الْكَامِلَانِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، كَمَا قِيلَ فِي عَطْفِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَحَذْفِ مُتَعَلِّقِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ: أَيْ: يَدْعُونَ، وَيَأْمُرُونَ، وَيَنْهَوْنَ: لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ: كُلُّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ تَرْجِعُ إِلَى الْأُمَّةِ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهَا بِمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْمُخْتَصُّونَ بِالْفَلَاحِ، وَتَعْرِيفُ الْمُفْلِحِينَ: لِلْعَهْدِ، أَوْ: لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ. قَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَقِيلَ: هُمُ الْمُبْتَدِعَةُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقِيلَ: الْحَرُّورِيَّةُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَالْبَيِّنَاتُ: الْآيَاتُ الْوَاضِحَةُ، الْمُبَيِّنَةُ لِلْحَقِّ، الْمُوجِبَةُ لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ. قِيلَ: وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ يَخْتَصُّ بِالْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْفُرُوعِيَّةُ الِاجْتِهَادِيَّةُ فَالِاخْتِلَافُ فِيهَا جَائِزٌ، وَمَا زَالَ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ مَا زَالَ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ الْمُنْكِرُ لِلِاخْتِلَافِ مَوْجُودًا، وَتَخْصِيصُ بَعْضِ مَسَائِلِ الدِّينِ بِجَوَازِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ ليس بصواب، فالمسائل الشرعية متساوية الْأَقْدَامِ فِي انْتِسَابِهَا إِلَى الشَّرْعِ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيِ: اذْكُرْ وقيل: بما يدل عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ: اسْتَقَرَّ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ، أي: يوم القيامة، حين يبعثون
__________
(1) . الحج: 41.(1/423)
مِنْ قُبُورِهِمْ، تَكُونُ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ مُبْيَضَّةً وَوُجُوهُ الْكَافِرِينَ مُسْوَدَّةً. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، إِذَا قَرَأَ الْمُؤْمِنُ كِتَابَهُ رَأَى حَسَنَاتِهِ فَاسْتَبْشَرَ وَابْيَضَّ وَجْهُهُ، وَإِذَا قَرَأَ الْكَافِرُ كِتَابَهُ رَأَى سَيِّئَاتِهِ فَحَزِنَ وَاسْوَدَّ وَجْهُهُ، وَالتَّنْكِيرُ فِي وُجُوهٍ: لِلتَّكْثِيرِ، أَيْ: وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: تَبْيَضُّ وَتَسْوَدُّ: بِكَسْرِ التَّاءَيْنِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: تَبْيَاضُّ وَتَسْوَادُّ. قَوْلُهُ: أَكَفَرْتُمْ أَيْ: فَيُقَالُ لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجب مِنْ حَالِهِمْ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، وَقَدَّمَ بَيَانَ حَالِ الْكَافِرِينَ لِكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَحْذِيرٍ وَتَرْهِيبٍ قِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وقيل: المرتدون وقيل: المنافقون وقيل: المبتدعون. قوله: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أَيْ: فِي جَنَّتِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالرَّحْمَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِدُخُولِ صَاحِبِهِ الْجَنَّةَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَوْلُهُ:
هُمْ فِيها خالِدُونَ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ. وَتِلْكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْذِيبِ الْكَافِرِينَ، وَتَنْعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مُتَلَبِّسَةٌ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْعَدْلُ. وَقَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ جُمْلَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَفِي تَوَجُّهِ النَّفْيِ إِلَى الْإِرَادَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى النَّكِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الظُّلْمِ الْوَاقِعَةِ عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِ.
وَالْمُرَادُ بِمَا في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ: مَخْلُوقَاتُهُ سُبْحَانَهُ، أَيْ: لَهُ ذَلِكَ، يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَعَلَى مَا يريد، وعبر بما تغليبا لغير الْعُقَلَاءِ لِكَثْرَتِهِمْ، أَوْ لِتَنْزِيلِ الْعُقَلَاءِ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِمْ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ، وَصَلَهُ بِذِكْرِ اتِّسَاعِ قُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ عَنِ الظُّلْمِ، لِكَوْنِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي قَبْضَتِهِ وَقِيلَ: هُوَ ابتداء كلام يتضمن البيان بأن جميع ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ حَتَّى يَسْأَلُوهُ وَيَعْبُدُوهُ، وَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أَيْ: لَا إِلَى غَيْرِهِ، لَا شَرِكَةً وَلَا اسْتِقْلَالًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ قَالَ: الْخَيْرُ: اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَسُنَّتِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كُلُّ آيَةٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ: فَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: فَهُوَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَالشَّيْطَانِ. انْتَهَى.
وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، فَلَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ أَيِ: الْإِسْلَامِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ: بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ: عَنْ مَعْصِيَةِ رَبِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ:
هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَهُمُ الرُّوَاةُ. انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ، فَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَالْخِطَابِ بِسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَكَلَّفَهُمْ بِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَزَادَ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ(1/424)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
عن عبد الله بن عمر مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا، وَزَادَ «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَقِيلَ لَهُ: مَا الْوَاحِدَةُ؟
قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا نحوه، فيه: «فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ» وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيهِ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ» . وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْكَوْنِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ قَالَ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن أبي كَعْبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: صَارُوا فِرْقَتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لِمَنِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؟ فَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ حَيْثُ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ: فَهُمُ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَأَخْلَصُوا لَهُ الدِّينَ، فَبَيَّضَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رِضْوَانِهِ وَجَنَّتَهُ. وَقَدْ رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)
قَوْلُهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَتَضَمَّنُ بَيَانَ حَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَكَانَ، قِيلَ: هِيَ التَّامَّةُ، أَيْ: وُجِدْتُمْ وَخُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، وَمِثْلُهُ مَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ:
وَجِيرَانٌ لَنَا كَانُوا كِرَامُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «1» وقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ «2» .
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُرِيدُ: أَهْلَ أُمَّةٍ، أَيْ: خَيْرَ أَهْلِ دِينٍ، وَأَنْشَدَ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: كُنْتُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ: كُنْتُمْ مُنْذُ آمَنْتُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وأن هذه الخيرية مُشْتَرَكَةٌ مَا بَيْنَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاضِلَةً فِي ذَاتِ بَيْنِهَا. كَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ: أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أَيْ:
أُظْهِرَتْ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ إِلَخْ، كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَتَضَمَّنُ بَيَانَ كَوْنِهِمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مَعَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ مَا أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّصَفُوا بِهِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ،
__________
(1) . مريم: 29.
(2) . الأعراف: 86.(1/425)
زَالَ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ عَلَى الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي، أَنْ يَكُونَ:
تَأْمُرُونَ وَمَا بَعْدَهُ، فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ حَالَ كَوْنِكُمْ آمِرِينَ، نَاهِينَ، مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَبِمَا يَجِبُ عَلَيْكُمُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَمَا شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ. قَوْلُهُ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أَيِ: الْيَهُودُ، إِيمَانًا كَإِيمَانِ الْمُسْلِمِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، بَلْ قَالُوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، الْمُتَمَرِّدُونَ فِي بَاطِلِهِمُ، المكذبون لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلِمَا جَاءَ بِهِ، فَيَكُونُ هَذَا التَّفْصِيلُ على هذا كلاما مستأنفا، جوابا عن سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ فَاسْتَحَقَّ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ؟ قَوْلُهُ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أَيْ:
لَنْ يَضُرُّوكُمْ بِنَوْعٍ من أنواع الضرر إلا بنوع الأذى، وهو الكذب، والتحريف، والبهت، لا يَقْدِرُونَ عَلَى الضَّرَرِ الَّذِي هُوَ الضَّرَرُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْحَرْبِ وَالنَّهْبِ وَنَحْوِهِمَا، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَغْلِبُونَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. وَالْمَعْنَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ أَلْبَتَّةَ، لَكِنْ يُؤْذُونَكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا نَفَاهُ مِنَ الضَّرَرِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ أَيْ:
يَنْهَزِمُونَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُقَاوَمَتِكُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَضُرُّوكُمْ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، أَيْ: ثُمَّ لَا يُوجَدُ لَهُمْ نَصْرٌ وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ غَلَبٌ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، بَلْ شَأْنُهُمُ الْخِذْلَانُ مَا دَامُوا.
وَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا سُبْحَانَهُ حَقًّا، فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ تَخْفِقْ لَهُمْ رَايَةُ نَصْرٍ، وَلَا اجْتَمَعَ لَهُمْ جَيْشٌ غَلَبَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَهِيَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ «1» . قَوْلُهُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبِ.
وَالْمَعْنَى: صَارَتِ الذِّلَّةُ مُحِيطَةٌ بِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَيْنَما ثُقِفُوا فِي أَيِّ مَكَانٍ وُجِدُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ: أَيْ: بِذِمَّةِ اللَّهِ أَوْ بِكِتَابِهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أَيْ: بِذِمَّةٍ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ: النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم وَباؤُ أَيْ: رَجَعُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَقِيلَ: احْتَمَلُوا، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: اللُّزُومُ وَالِاسْتِحْقَاقُ، أَيْ: لَزِمَهُمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهُ. وَمَعْنَى ضَرْبِ الْمَسْكَنَةِ: إِحَاطَتُهَا بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَهَكَذَا حَالُ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ تَحْتَ الْفَقْرِ الْمُدْقِعِ، وَالْمَسْكَنَةِ الشَّدِيدَةِ إِلَّا النَّادِرَ الشَّاذَّ مِنْهُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْغَضَبِ، أَيْ: وَقَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، إِلَى الْكُفْرِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ لِلَّهِ وَاعْتِدَائِهِمْ لِحُدُودِهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ وَالْبَوَاءَ بِالْغَضَبِ مِنْهُ لِكَوْنِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِهِ، وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُ، بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ.
__________
(1) . إن ما حصل من قيام دولة لليهود على أرض فلسطين العربية المسلمة هو بسبب ما آل إليه حال المسلمين من الفرقة والبعد عن دين الله وعدم تحقيق شروط الخيرية فيهم المشار إليها بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ....(1/426)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَقَالَ: أَنْتُمْ، فَكُنَّا كُلَّنَا، وَلَكِنْ قَالَ: كُنْتُمْ، فِي خَاصَّةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ومن صنع مِثْلَ صُنْعِهِمْ، كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَكُونُ لِأَوَّلِنَا، وَلَا يَكُونُ لِآخِرِنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللَّهِ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ يَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عن مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْآيَةِ: إِنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يَدْخُلُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ كَوْنِهَا خَيْرَ الْأُمَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً قَالَ: تَسْمَعُونَ مِنْهُمْ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ، يَدْعُونَكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: إِشْرَاكُهُمْ فِي عُزَيْرٍ وَعِيسَى وَالصَّلِيبِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قَالَا: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ قَالَ: بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهْدٍ مِنَ الناس.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 117]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
قَوْلُهُ: لَيْسُوا سَواءً أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرُ مُسْتَوِينَ، بَلْ مُخْتَلِفِينَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، سِيقَتْ لِبَيَانِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ: أُمَّةٌ قائِمَةٌ هُوَ اسْتِئْنَافٌ أَيْضًا، يَتَضَمَّنُ بَيَانَ الْجِهَةِ الَّتِي تَفَاوَتُوا فِيهَا، مِنْ كَوْنِ بَعْضِهِمْ أُمَّةً قَائِمَةً إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ذُو أُمَّةٍ،(1/427)
أَيْ: ذُو طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ، وَأَنْشَدَ:
وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ وَأُخْرَى غَيْرُ قَائِمَةٍ، فَتَرَكَ الْأُخْرَى اكْتِفَاءً بِالْأُولَى، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
عَصَيْتُ «1» إِلَيْهَا الْقَلْبَ إِنِّي لِأَمْرِهَا ... مُطِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا؟
أَرَادَ أَرُشْدٌ أَمْ غَيٌّ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: أُمَّةٌ: رُفِعَ بِسَوَاءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ يَسْتَوِي أُمَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ وَأُمَّةٌ كَافِرَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَرْفَعُ أُمَّةً بِسَوَاءٍ فَلَا يَعُودُ عَلَى اسْمِ لَيْسَ شَيْءٌ، وَيَرْفَعُ بِمَا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى الْفِعْلِ، وَيُضْمِرُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَافِرَةِ، فَلَيْسَ لِإِضْمَارِ هَذَا وَجْهٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَذَهَبُوا أَصْحَابُكَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَأَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ. انْتَهَى.
وَعِنْدِي: أَنَّ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ قَوِيٌّ قَوِيمٌ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَسْتَوِي أُمَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ شَأْنُهَا كَذَا وَأُمَّةٌ أُخْرَى شَأْنُهَا كَذَا، وَلَيْسَ تَقْدِيرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ مِنْ بَابِ تَقْدِيرِ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّحَّاسُ، فَإِنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِ الْكَافِرَةِ لَا يُفِيدُ مَفَادَ تَقْدِيرِ ذِكْرِهَا هُنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَى اسْمِ لَيْسَ شَيْءٌ، فَيَرُدُّهُ:
أَنَّ تَقْدِيرَ الْعَائِدِ شَائِعٌ مُشْتَهِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْفَنِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَرْفَعُ بِمَا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى الْفِعْلِ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وَالْقَائِمَةُ: الْمُسْتَقِيمَةُ الْعَادِلَةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَقَمْتُ الْعُودَ فَقَامَ، أَيِ: استقام. وقوله: يَتْلُونَ: في محل رفع أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِأُمَّةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ آناءَ اللَّيْلِ سَاعَاتِهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ ظَاهِرُهُ: أَنَّ التِّلَاوَةَ كَائِنَةٌ مِنْهُمْ فِي حَالِ السُّجُودِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الْآيَةِ: هُمْ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي السُّجُودِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا الظَّاهِرِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ:
وَهُمْ يُصَلُّونَ، كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالسُّجُودِ عَنْ مَجْمُوعِ الصَّلَاةِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ.
وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّهُمْ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ فِي صَلَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ بِصَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا:
الصَّلَاةُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وقيل: صلاة الليل مطلقا. وقوله: وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ صِفَةٌ أُخْرَى لِأُمَّةٍ، أَيْ:
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَرَأْسُ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ صِفَتَانِ أَيْضًا لِأُمَّةٍ، أَيْ: أَنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِهِمْ وَصَفَتِهِمْ. وَظَاهِرُهُ يُفِيدُ: أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْعُمُومِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ هُنَا: أَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَبِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: نَهْيُهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ: مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ أيضا، أي: يبادرون
__________
(1) . في ديوان أبي ذؤيب، والقرطبي (4/ 176) :
عصاني إليها القلب إنّي لأمره(1/428)
بِهَا غَيْرَ مُتَثَاقِلِينَ عَنْ تَأْدِيَتِهَا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِقَدْرِ ثَوَابِهَا. وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَقِيلَ:
مِنْ: بِمَعْنَى: مَعَ، أَيْ: مَعَ الصَّالِحِينَ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ صَالِحٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْأُمَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ. قَوْلُهُ: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أَيَّ خَيْرٍ كَانَ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أَيْ: لَنْ تَعْدِمُوا ثَوَابَهُ، وَعَدَّاهُ إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ وَهُوَ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ لِأَنَّهُ ضَمَّنَهُ مَعْنَى الْحِرْمَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ تُحْرَمُوهُ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَحَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ:
بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فوق، فيهما، وكان أبو عمرة يَرَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا. وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ: كُلُّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ صِفَةُ التَّقْوَى وَقِيلَ: الْمُرَادُ: مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُمُ الْأُمَّةُ الْمَوْصُوفَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ مَدْحًا لَهُمْ، وَرَفْعًا مِنْ شَأْنِهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قِيلَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ ذَكَرَ كُفَّارَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ.
وَمَعْنَى: لَنْ تُغْنِيَ: لَنْ تَدْفَعَ، وَخَصَّ الْأَوْلَادَ أنهم أَحَبُّ الْقَرَابَةِ وَأَرْجَاهُمْ لِدَفْعِ مَا يَنُوبُهُ. وَقَوْلُهُ: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ
بَيَانٌ لِعَدَمِ إِغْنَاءِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يُعَوِّلُونَ عَلَيْهَا. وَالصِّرُّ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ، أَصْلُهُ: مِنَ الصَّرِيرِ الَّذِي هُوَ: الصَّوْتُ، فَهُوَ صَوْتُ الرِّيحِ الشَّدِيدِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: صَوْتُ لَهَبِ النَّارِ الَّتِي فِي تِلْكَ الرِّيحِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَثَلُ نَفَقَةِ الْكَافِرِينَ فِي بُطْلَانِهَا، وَذَهَابِهَا، وَعَدَمِ مَنْفَعَتِهَا، كَمَثَلِ زَرْعٍ أَصَابَهُ رِيحٌ بَارِدَةٌ، أَوْ نَارٌ، فَأَحْرَقَتْهُ، أَوْ أَهْلَكَتْهُ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ أَصْحَابُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَلَى طَمَعٍ مِنْ نَفْعِهِ وَفَائِدَتِهِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَيُقَالُ: كَمَثَلِ زَرْعٍ أَصَابَتْهُ رِيحٌ فِيهَا صِرٌّ، أَوْ: مَثَلُ إِهْلَاكِ مَا يُنْفِقُونَ كَمَثَلِ إِهْلَاكِ رِيحٍ فِيهَا صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
أي: المنفقين من الكافرين لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
بِالْكُفْرِ الْمَانِعِ مِنْ قَبُولِ النَّفَقَةِ الَّتِي أَنْفَقُوهَا، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ: لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ لَا لِلتَّخْصِيصِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْفَاعِلِ، لَا بِالْمَفْعُولِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سلام، وثعلبة، وأسيد ابن سَعِيدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ مَعَهُمْ، فَآمَنُوا، وَصَدَّقُوا، وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ. قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَتَبِعَهُ إِلَّا شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا خِيَارَنَا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسُوا سَواءً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَقُولُ: مُهْتَدِيَةٌ، قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَمْ تَنْزِعْ عَنْهُ، ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيعوه. وخرج عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: أُمَّةٌ قائِمَةٌ عَادِلَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: آناءَ اللَّيْلِ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: سَاعَاتِ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: لَيْسُوا سَواءً قَالَ: لَا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلّى الله عليه وسلم يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ(1/429)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
قَالَ: صَلَاةُ الْعَتَمَةِ هُمْ يُصَلُّونَهَا، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُصَلُّونَهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ لَيْلَةً، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ أَحَدٌ يَذْكُرُ اللَّهَ هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ» وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسُوا سَواءً وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر، وابن أبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَنْصُورٍ. قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قَالَ: لَنْ يَضِلَّ عَنْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قَالَ: لَنْ تَظْلِمُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ يقول: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ
أَيِ: الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ، كَمَثَلِ هَذَا الزَّرْعِ إِذَا زَرَعَهُ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ فَأَصَابَهُ رِيحٌ فِيهَا صِرٌّ فَأَهْلَكَتْهُ، فَكَذَلِكَ أَنْفَقُوا فَأَهْلَكَهُمْ شِرْكُهُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عباس: يها صِرٌّ
قال: برد شديد.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
الْبِطَانَةُ: مَصْدَرٌ، يُسَمَّى بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ: خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ، وَأَصْلُهُ:
الْبَطْنُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الظَّهْرِ، وَبَطْنُ فُلَانٍ بِفُلَانٍ، يُبْطِنُ بُطُونًا وبطانة: إذا كان خاصا بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَهُمْ خُلَصَائِي «1» كُلُّهُمْ وَبِطَانَتِي ... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ
قَوْلُهُ: مِنْ دُونِكُمْ أَيْ: مِنْ سِوَاكُمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَيْ: مِنْ دُونِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْكُفَّارُ، أَيْ:
بِطَانَةٌ كَائِنَةٌ مِنْ دُونِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا وَقَوْلُهُ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا: في محل نصب صفة لبطانة، يُقَالُ: لَا أَلُوكَ جَهْدًا: أَيْ لَا أُقَصِّرُ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَمَا الْمَرْءُ مَا دَامَتْ حَشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ
__________
(1) . في القرطبي (4/ 178) : أولئك خلصائي نعم وبطانتي ...(1/430)
وَالْمُرَادُ: لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا فِيهِ الْفَسَادُ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: لِكَوْنِهِ مُضَمِّنًا مَعْنَى المنع، أي:
لا يمنعونكم خَبَالًا، وَالْخَبَالُ وَالْخَبَلُ: الْفَسَادُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَبْدَانِ وَالْعُقُولِ. قَالَ أَوْسُ:
أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمْ بِيَدٍ ... إِلَّا يَدًا مَخْبُولَةَ الْعَضُدِ
أَيْ: فَاسِدَةَ الْعَضُدِ. قَوْلُهُ: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ مَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: وَدُّوا عَنَتَكُمْ، وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَشِدَّةُ الضَّرَرِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّهْيِ. قَوْلُهُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ هِيَ شِدَّةُ الْبُغْضِ، كَالضَّرَّاءِ: لِشِدَّةِ الضُّرِّ. وَالْأَفْوَاهُ: جَمْعُ فَمٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا قَدْ ظَهَرَتِ الْبَغْضَاءُ فِي كَلَامِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا خَامَرَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْبُغْضِ وَالْحَسَدِ أَظْهَرَتْ أَلْسِنَتُهُمْ مَا فِي صُدُورِهِمْ، فَتَرَكُوا التَّقِيَّةَ، وَصَرَّحُوا بِالتَّكْذِيبِ. أَمَّا الْيَهُودُ:
فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاضِحٌ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ: فَكَانَ يَظْهَرُ مِنْ فَلَتَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ مَا يَكْشِفُ عَنْ خُبْثِ طويتهم. وهذه الجملة لِبَيَانِ حَالِهِمْ: وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لِأَنَّ فلتات اللسان أقل مما تكنه الصُّدُورُ، بَلْ تِلْكَ الْفَلَتَاتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي الصُّدُورِ قَلِيلَةٌ جِدًّا. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ، إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ الْمُدْرِكَةِ لِذَلِكَ الْبَيَانِ. قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ جُمْلَةٌ مُصَدَّرَةٌ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ، أَيْ:
أَنْتُمْ أُولَاءِ الْخَاطِئُونَ فِي مُوَالَاتِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ خَطَأَهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَالَاةِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ التَّذْيِيلِيَّةِ. فَقَالَ: تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: تُحِبُّونَهُمْ خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ وَقِيلَ: إِنَّ أُولَاءِ: مَوْصُولٌ، وَتُحِبُّونَهُمْ: صِلَتُهُ، أَيْ: تُحِبُّونَهُمْ لِمَا أَظْهَرُوا لَكُمُ الْإِيمَانَ، أَوْ لِمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَلا يُحِبُّونَكُمْ لِمَا قَدِ اسْتَحْكَمَ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحَسَدِ. قَوْلُهُ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أَيْ: بِجِنْسِ الْكِتَابِ جَمِيعًا، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا يُحِبُّونَكُمْ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ بِكُتُبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا كِتَابُهُمْ، فَمَا بَالُكُمْ تُحِبُّونَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ. وَفِيهِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ شَدِيدٌ، لِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ الْحَقُّ أَحَقُّ بِالصَّلَابَةِ وَالشِّدَّةِ مِمَّنْ هُوَ عَلَى الْبَاطِلِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا نِفَاقًا وَتَقِيَّةً. وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ
تَأَسُّفًا وَتَحَسُّرًا، حَيْثُ عَجَزُوا عَنِ الِانْتِقَامِ مِنْكُمْ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الْمُغْتَاظَ وَالنَّادِمَ بِعَضِّ الْأَنَامِلِ وَالْبَنَانِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ اسْتِمْرَارَ غَيْظِهِمْ ماداموا فِي الْحَيَاةِ حَتَّى يَأْتِيَهُمُ الْمَوْتُ وَهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَصُدُورِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِذَاتِ الصُّدُورِ: الْخَوَاطِرُ الْقَائِمَةُ بِهَا، وَهُوَ كَلَامٌ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ:
قُلْ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ. قَوْلُهُ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَنَاهِي عَدَاوَتِهِمْ، وَحَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ: يَعُمَّانِ كُلَّ مَا يُحْسِنُ وَمَا يَسُوءُ. وَعَبَّرَ بِالْمَسِّ فِي الْحَسَنَةِ، وَبِالْإِصَابَةِ فِي السَّيِّئَةِ، لِلدَّلَالَةِ: عَلَى أَنَّ مُجَرَّدِ مَسِّ الْحَسَنَةِ يَحْصُلُ بِهِ الْمَسَاءَةُ، وَلَا يَفْرَحُونَ إِلَّا بِإِصَابَةِ السَّيِّئَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَسَّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِصَابَةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَتُهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِأَنْ يُتَّخَذَ بِطَانَةً وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ أَوْ عَلَى التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ وَتَتَّقُوا مُوَالَاتِهِمْ، أو ما حرّمه الله عليكم ولا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، يُقَالُ: ضَارَّهُ يَضُورُهُ وَيَضِيرُهُ ضَيْرًا وَضُيُورًا، بِمَعْنَى: ضَرَّهُ يَضُرُّهُ، وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ: لَا يَضُرُّكُمْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا مِنْ ضَرَّ يَضُرُّ، فَهُوَ عَلَى الْقِرَاءَةِ(1/431)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
الْأَوْلَى: مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: مَرْفُوعٌ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ الْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ، أَيْ: لَا يَضُرُّكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ: لَا يَضُرُّكُمْ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَشَيْئًا: صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنَ يَهُودَ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ لِخَوْفِ الفتنة عليهم منهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أَيْ: بِكِتَابِكُمْ وَبِكِتَابِهِمْ وَبِمَا مَضَى مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِالْبَغْضَاءِ لَهُمْ مِنْهُمْ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ يَعْنِي: النَّصْرَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالرِّزْقَ، وَالْخَيْرَ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَعْنِي: الْقَتْلَ، وَالْهَزِيمَةَ، والجهد.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
الْعَامِلُ فِي «إِذْ» فِعْلٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَاذْكُرْ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ مَنْزِلِ أَهْلِكَ، أَيْ: مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُكَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي يَوْمِ بَدْرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ: فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. قَوْلُهُ: تُبَوِّئُ أَيْ: تَتَّخِذُ لَهُمْ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، وَأَصْلُ التَّبَوُّءِ:
اتِّخَاذُ الْمَنْزِلِ، يُقَالُ: بَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا: إِذَا أَسْكَنْتَهُ إِيَّاهُ، وَالْفِعْلُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاذْكُرْ إِذْ خَرَجْتَ مِنْ مَنْزِلِ أَهْلِكَ تَتَّخِذُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، أَيْ: أَمَاكِنَ يَقْعُدُونَ فِيهَا، وَعَبَّرَ عَنِ الْخُرُوجِ بِالْغُدُوِّ الَّذِي هُوَ الْخُرُوجُ غَدْوَةً، مع كونه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَرَجَ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ كَمَا سَيَأْتِي، لِأَنَّهُ قَدْ يُعَبِّرُ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ عَنِ الْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَصْلِ مَعْنَاهُمَا، كَمَا يُقَالُ: أَضْحَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ الضحى. قوله:(1/432)
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا هُوَ بَدَلٌ مِنْ إِذْ غَدَوْتَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تُبَوِّئُ، أَوْ بِقَوْلِهِ: سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَالطَّائِفَتَانِ: بَنُو سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَكَانَا جَنَاحَيِ الْعَسْكَرِ يَوْمَ أُحُدٍ وَالْفَشَلُ: الْجُبْنُ وَالْهَمُّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ بَعْدَ الْخُرُوجِ، لَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَحَفِظَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، سِيقَتْ لِتَصْبِيرِهِمْ، بِتَذْكِيرِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الصَّبْرِ مِنَ النَّصْرِ. وَبَدْرٌ: اسْمٌ لِمَاءٍ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ الْمَوْضِعِ نَفْسِهِ، وَسَيَأْتِي سِيَاقُ قِصَّةِ بَدْرٍ فِي الْأَنْفَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَذِلَّةٌ: جَمْعُ قِلَّةٍ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا بِسَبَبِ قِلَّتِهِمْ أَذِلَّةً، وَهُوَ: جَمْعُ ذَلِيلٍ، اسْتُعِيرَ لِلْقِلَّةِ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَذِلَّةً، بَلْ كَانُوا أَعِزَّةً، وَالنَّصْرُ: الْعَوْنُ. وَقَدْ شَرَحَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ غَزْوَةَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ بِأَتَمِّ شَرْحٍ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي سِيَاقِ ذَلِكَ هَاهُنَا. قَوْلُهُ: إِذْ تَقُولُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: نَصَرَكُمُ وَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ لِلْإِنْكَارِ مِنْهُ صَلَّى الله عليه وسلّم عليهم عَدَمَ اكْتِفَائِهِمْ بِذَلِكَ الْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ: سَدُّ الْخَلَّةِ وَالْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَالْإِمْدَادُ فِي الْأَصْلِ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَالْمَجِيءُ بِلَنْ: لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَأَصْلُ الْفَوْرِ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْأَخْذُ فِيهِ بِجِدٍّ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَارَتِ الْقِدْرُ، تَفُورُ فَوْرًا وَفَوَرَانًا، إِذَا غَلَتْ، وَالْفَوْرُ: الْغَلَيَانُ، وَفَارَ غَضَبُهُ: إِذَا جَاشَ، وَفَعَلَهُ مِنْ فَوْرِهِ: أَيْ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ، وَالْفَوَّارَةُ مَا يَفُورُ مِنَ الْقِدْرِ، اسْتُعِيرَ لِلسُّرْعَةِ، أَيْ: إِنْ يَأْتُوكُمْ مِنْ سَاعَتِهِمْ هَذِهِ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ فِي حَالِ إِتْيَانِهِمْ، لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: مُسَوِّمِينَ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ، أي: معلمين بعلامات، وقرأ أبو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ: مُسَوِّمِينَ بِكَسْرِ الْوَاوِ اسْمُ فَاعِلٍ، أَيْ: مُعَلِّمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِعَلَامَةٍ. وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَالتَّسْوِيمُ: إِظْهَارُ سِيمَا الشَّيْءِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ:
مُسَوِّمِينَ أَيْ: مُرْسِلِينَ خَيْلَهُمْ فِي الْغَارَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ اعْتَمَّتْ بِعَمَائِمَ بِيضٍ وَقِيلَ: حُمْرٍ، وَقِيلَ: خُضْرٌ وقيل: صفر، فهذه الْعَلَامَةُ الَّتِي عَلَّمُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الزَّجَّاجِ وَقِيلَ: كَانُوا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَقُولِ الْقَوْلِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ لِلْإِمْدَادِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، أَوْ لِلتَّسْوِيمِ، أَوْ لِلْإِنْزَالِ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ الزَّجَّاجُ، وَصَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا بُشْرى اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، وَالْبُشْرَى: اسْمٌ مِنَ الْبِشَارَةِ، أَيْ: إِلَّا لِتُبَشَّرُوا بِأَنَّكُمْ تُنْصَرُونَ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ، أَيْ: بِالْإِمْدَادِ، وَاللَّامُ لَامُ كَيْ، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِمْدَادَ بُشْرَى بِالنَّصْرِ وَطُمَأْنِينَةً لِلْقُلُوبِ، وَفِي قَصْرِ الْإِمْدَادِ عَلَيْهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ مُبَاشَرَةِ الْمَلَائِكَةِ لِلْقِتَالِ يَوْمَئِذٍ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، فَلَا تَنْفَعُ كَثْرَةُ الْمُقَاتَلَةِ وَوُجُودُ الْعُدَّةِ. قَوْلُهُ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يُمْدِدْكُمْ وَالطَّرَفُ: الطَّائِفَةُ، وَالْمَعْنَى: نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ لِيَقْطَعَ طَائِفَةً مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَقْطَعَ تِلْكَ الطَّائِفَةَ، أَوْ يُمْدِدْكُمْ لِيَقْطَعَ. وَمَعْنَى يَكْبِتَهُمْ: يُحْزِنَهُمْ، وَالْمَكْبُوتُ: الْمَحْزُونُ. وَقَالَ بَعْضُ أهل اللغة: معناه: يكبدهم،(1/433)
أَيْ: يُصِيبُهُمْ بِالْحُزْنِ وَالْغَيْظِ فِي أَكْبَادِهِمْ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ مَعْنَى كَبَتَ: أَحْزَنَ وَأَغَاظَ وَأَذَلَّ، وَمَعْنَى كَبَدَ أَصَابَ الْكَبِدَ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ أَيْ: غَيْرُ ظَافِرِينَ بِمَطْلَبِهِمْ. قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ يَصْنَعُ بِهِمْ مَا يَشَاءُ مِنَ الْإِهْلَاكِ، أَوِ الْهَزِيمَةِ، أَوِ التَّوْبَةِ إِنْ أَسْلَمُوا، أَوِ الْعَذَابِ، فَقَوْلُهُ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ يَكْبِتَهُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ: أَوْ: بِمَعْنَى: إِلَّا أَنْ، بِمَعْنَى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، فَتَفْرَحُ بِذَلِكَ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فَتُشْفَى بِهِمْ. قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ سَعَةِ مُلْكِهِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أَنْ يُعَذِّبَهُ، يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يَشَاءُ، ويحكم ما يريد لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَتَبْشِيرٌ لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُ الْمُتَّصِفُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ، وَمَا أوقع هذا التذييل الْجَلِيلَ وَأَحَبَّهُ إِلَى قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِأَسْرَارِ التَّنْزِيلِ!.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ مُعَاذٍ قَالُوا: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ، اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَقَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْكُفْرِ، وَيَوْمَ أَكْرَمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ بِالشَّهَادَةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ. وَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ سِتُّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ، فِيهَا صِفَةُ مَا كَانَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَمُعَاتَبَةُ مَنْ عَاتَبَ مِنْهُمْ يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ الْآيَةَ قَالَ:
يَوْمَ أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: تُوَطِّنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْآيَةَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ كَيْفِيَّةُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَشُورَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، فَمِنْ قَائِلٍ نَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، وَمِنْ قَائِلٍ نَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُشِيرِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ رَأْيُهُ الْبَقَاءَ فِي الْمَدِينَةِ وَالْمُقَاتَلَةَ فِيهَا، ثُمَّ لَمَّا خُولِفَ فِي رَأْيِهِ انْخَزَلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ المنافقين، وهم الثُّلُثِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ فِي بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي سَلَمَةَ: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ قَالَ: ذَلِكَ يَوْمُ أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، وَبَنُو سَلَمَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مجاهد وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ إلى بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ يَقُولُ: وَأَنْتُمْ قَلِيلٌ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثُمِائَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيَّ يَمُدُّ الْمُشْرِكِينَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ إِلَى قَوْلِهِ: مُسَوِّمِينَ قَالَ: فَبَلَغَتْ كُرْزًا
__________
(1) . الأنبياء: 23.(1/434)
فَلَمْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُمِدَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَمْسَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يَعْنِي: كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ فَبَلَغَ كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ الْهَزِيمَةَ، فَلَمْ يُمِدَّهُمْ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْخَمْسَةُ، وَأُمِدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ فَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أُمِدُّوا بِأَلْفٍ، ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا يَوْمُ أُحُدٍ، فَلَمْ يَصْبِرُوا، وَلَمْ يَتَّقُوا، فَلَمْ يُمَدُّوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَوْ أُمِدُّوا لَمْ يَنْهَزِمُوا يَوْمَئِذٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يَقُولُ:
مِنْ سَفَرِهِمْ هَذَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ فَوْرِهِمْ قَالَ: مِنْ وَجْهِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ فَوْرِهِمْ قَالَ: مِنْ غَضَبِهِمْ. وَأَخْرَجَا عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: مُسَوِّمِينَ قَالَ: مُعَلِّمِينَ، وَكَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ سَوْدَاءَ، وَيَوْمَ أُحُدٍ عَمَائِمَ حَمْرَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ مُعْتَجِرًا بِهَا، فَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ: عَمَائِمَ بَيْضَاءَ، قَدْ أَرْسَلُوهَا فِي ظُهُورِهِمْ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ: عَمَائِمَ حَمْرَاءَ، وَلَمْ تَضْرِبِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَكَانُوا يُكَوِّنُونَ عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ. وَفِي بَيَانِ التَّسْوِيمِ عَنِ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: قَطَعَ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ طَرَفًا مِنَ الْكُفَّارِ، وقتل صناديدهم ورؤوسهم وَقَادَتَهُمْ فِي الشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ، قَطَعَ اللَّهُ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ذَكَرَ اللَّهُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ، وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَقَالَ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ الشُّهَدَاءَ فَقَالَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ قَالَ: يُحْزِنَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى فِي رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللَّهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ الْعَنْ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
__________
(1) . آل عمران: 169.(1/435)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ، أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ، قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. يَجْهَرُ بِذَلِكَ. وَكَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا» لِأَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَفِي لَفْظٍ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ لَحْيَانَ وَرَعْلًا وَذَكْوَانَ وَعَصِيَّةَ، عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِلتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا ذُكِرَ وَقِيلَ: هُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَثْنَاءِ قِصَّةِ أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَيْسَ لِتَقْيِيدِ النَّهْيِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَادَةِ الَّتِي يَعْتَادُونَهَا فِي الرِّبَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُرْبُونَ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ زَادُوا فِي الْمَالِ مِقْدَارًا يَتَرَاضَوْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَزِيدُونَ فِي أَجَلِ الدَّيْنِ، فَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَأْخُذَ الْمُرْبِي أَضْعَافَ دَيْنِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَأَضْعَافًا: حَالٌ، وَمُضَاعَفَةً: نَعْتٌ لَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْرَارِ التَّضْعِيفِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تُفِيدُ تَأْكِيدَ التَّوْبِيخِ. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فِيهِ الْإِرْشَادُ إِلَى تَجَنُّبِ مَا يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَفِيهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ مَنِ اسْتَحَلَّ الرِّبَا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: اتَّقَوُا الرِّبَا الَّذِي يَنْزِعُ مِنْكُمُ الْإِيمَانَ، فَتَسْتَوْجِبُونَ النَّارَ. وَإِنَّمَا خَصَّ الرِّبَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِأَنَّهُ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْحَرْبِ مِنْهُ لِفَاعِلِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، أَيْ: فِي كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَيْ: رَاجِينَ الرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلُهُ: وَسارِعُوا عَطْفٌ عَلَى أَطِيعُوا، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: سارِعُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْوَاوِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كِلَا الْأَمْرَيْنِ سَائِغٌ مُسْتَقِيمٌ، وَالْمُسَارَعَةُ:
الْمُبَادَرَةُ، وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ، أَيْ: سَارِعُوا إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَقَوْلُهُ: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي: عرضها كعرض السموات وَالْأَرْضِ، وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى: عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ(1/436)
وَالْأَرْضِ
«1» وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إلى أنها تقرن السموات وَالْأَرْضَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ كَمَا تُبْسَطُ الثِّيَابُ وَيُوَصَلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَذَلِكَ عَرْضُ الْجَنَّةِ، وَنَبَّهَ بِالْعَرْضِ عَلَى الطُّولِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الطُّولَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الْعَرْضِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَاءَ عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الاستعارة دون الحقيقة، وذلك أنها لمّا كَانَتِ الْجَنَّةُ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَالِانْفِسَاحِ فِي غَايَةٍ قصوى، حسن التعبير عنها بعرض السموات وَالْأَرْضِ مُبَالَغَةً، لِأَنَّهُمَا أَوْسَعُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَعْلَمُهُ عِبَادُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ التَّحْدِيدَ. وَالسَّرَّاءُ: الْيُسْرُ، وَالضَّرَّاءُ: الْعُسْرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرَهُمَا. وَقِيلَ: السَّرَّاءُ: الرَّخَاءُ، وَالضَّرَّاءُ: الشِّدَّةُ، وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَقِيلَ: السَّرَّاءُ فِي الْحَيَاةِ، وَالضَّرَّاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَوْلُهُ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يُقَالُ: كَظَمَ غَيْظَهُ: أَيْ:
سَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْهُ، وَمِنْهُ كَظَمْتُ السِّقَاءَ: أَيْ: مَلَأْتُهُ. وَالْكِظَامَةُ: مَا يَسُدُّ بِهِ مَجْرَى الْمَاءِ، وَكَظَمَ الْبَعِيرُ جَرَّتَهُ «2» : إِذَا رَدَّهَا فِي جَوْفِهِ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أَيِ: التَّارِكِينَ عُقُوبَةَ مَنْ أَذْنَبَ إِلَيْهِمْ وَاسْتَحَقَّ الْمُؤَاخَذَةَ، وَذَلِكَ مِنْ أَجَلِّ ضُرُوبِ الْخَيْرِ. وَظَاهِرُهُ الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْمَمَالِيكِ أَمْ لَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِهِمُ: الْمَمَالِيكُ. وَاللَّامُ فِي الْمُحْسِنِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مُحْسِنٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، فَيَخْتَصُّ بِهَؤُلَاءِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السِّيَاقِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ مُسَمَّى الْإِحْسَانِ، أَيَّ إِحْسَانٍ كَانَ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً هَذَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: أُولئِكَ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُتَّقِينَ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهَؤُلَاءِ هُمْ صِنْفٌ دُونَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ مُلْحَقِينَ بِهِمْ، وَهُمُ التَّوَّابُونَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَالْفَاحِشَةُ: وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فِعْلَةٌ فَاحِشَةٌ، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَقَدْ كَثُرَ اخْتِصَاصُهَا بِالزِّنَا. وَقَوْلُهُ: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْ: بِاقْتِرَافِ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَقِيلَ: أَوْ: بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَالْمُرَادُ مَا ذُكِرَ، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ: الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ذَكَرُوا اللَّهَ أَيْ:
بِأَلْسِنَتِهِمْ، أَوْ أَخْطَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ، أَوْ ذَكَرُوا وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أَيْ: طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ لَهَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَفْسِيرُهُ: بِالتَّوْبَةِ، خِلَافُ مَعْنَاهُ لُغَةً، وَفِي الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْإِنْكَارِ- مَعَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الدَّلَالَةِ- عَلَى أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ سُبْحَانَهُ دُونَ غَيْرِهِ، أَيْ: لَا يَغْفِرُ جِنْسَ الذُّنُوبِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَتَنْشِيطٌ لِلْمُذْنِبِينَ أَنْ يَقِفُوا فِي مَوَاقِفِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا عَطْفٌ عَلَى: فَاسْتَغْفَرُوا، أَيْ: لَمْ يُقِيمُوا عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِصْرَارِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْعَزْمُ عَلَى مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ، وَعَدَمُ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: لَمْ يُصِرُّوا عَلَى فِعْلِهِمْ عَالِمِينَ بِقُبْحِهِ. قَوْلُهُ: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً. وَقَوْلُهُ: جَزاؤُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنِ اسم الإشارة. وقوله: مَغْفِرَةٌ خبر ومِنْ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً لِمَغْفِرَةٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخصوص
__________
(1) . الجرّة: ما يخرجه البعير ونحوه من بطنه ليمضغه ثم يبلعه.
(2) . الحديد: 21. [.....](1/437)
بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَجْرُهُمْ، أَوْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجَنَّاتِ وَكَيْفِيَّةُ جَرْيِ الْأَنْهَارِ من تحتها.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَ: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ إِلَى الْأَجَلِ، فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ زَادُوا عليهم وزادوا في الأجل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفٌ تَدِينُ بَنِي المغيرة لأجل فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ اتَّقُوا لَا أُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فِي النَّارِ الَّتِي أَعْدَدْتُهَا لِلْكَافِرِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَبَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا؟ كَانُوا إِذَا أَذْنَبَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا أَصْبَحَ كَفَّارَةُ ذَنْبِهِ مَكْتُوبَةً فِي عَتَبَةِ بَابِهِ اجْدَعْ أَنْفَكَ اجْدَعْ أُذُنَكَ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: وَسارِعُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ وَسارِعُوا قَالَ: التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ سَابِقًا عَنِ الْجُمْهُورِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ يَقُولُ: فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يَقُولُ: كَاظِمِينَ عَلَى الْغَيْظِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: فِي ثَوَابِ مَنْ كَظَمَ الْغَيْظَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ النَّخَعِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الظُّلْمُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَالْفَاحِشَةُ مِنَ الظُّلْمِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَآيَتَيْنِ مَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَرَأَهُمَا فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ إِلَّا غَفَرَ لَهُ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
«1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ إِبْلِيسَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَكَى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا صَاحَ إِبْلِيسُ بِجُنُودِهِ، وَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، وَدَعَا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، حَتَّى جَاءَتْهُ جُنُودُهُ مِنْ كل برّ وبحر، فقالوا: مالك يَا سَيِّدَنَا؟ قَالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا يَضُرُّ بَعْدَهَا أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ ذَنْبٌ، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ فَأَخْبَرَهُمْ، قَالُوا: نَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ الْأَهْوَاءِ فَلَا يَتُوبُونَ، وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ، وَلَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، فَرَضِيَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ، وَحَسَّنَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَقُومُ عِنْدَ ذِكْرِ ذَنْبِهِ فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذَنْبِهِ ذَلِكَ، إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الْآيَةَ» .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بَرَازٍ من الأرض فصلى. وأخرج
__________
(1) . النساء: 110.(1/438)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يُصِرُّوا فَيَسْكُتُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ قَالَ: أَجْرُ الْعَامِلِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ الجنة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 148]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
قَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى وَصْفِ بَاقِي الْقِصَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالسُّنَنِ: مَا سَنَّهُ اللَّهُ فِي الْأُمَمِ مِنْ وَقَائِعِهِ، أَيْ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِ زَمَانِكُمْ وَقَائِعُ سَنَّهَا اللَّهُ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، وَأَصْلُ السُّنَنِ: جَمْعُ سُنَّةٍ، وَهِيَ: الطَّرِيقَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:
فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وَالسُّنَّةُ: الْإِمَامُ الْمُتَّبَعُ الْمُؤْتَمُّ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قوم سنّة وإمامها
وَالسُّنَّةُ: الْأُمَّةُ، وَالسُّنَنُ: الْأُمَمُ، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَهْلُ سُنَنٍ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسِيرُوا سَبَبِيَّةٌ وَقِيلَ: شَرْطِيَّةٌ، أَيْ: إِنْ شَكَكْتُمْ فَسِيرُوا.
وَالْعَاقِبَةُ: آخِرُ الْأَمْرِ. وَالْمَعْنَى: سِيرُوا فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، فَإِنَّهُمْ خَالَفُوا رُسُلَهُمْ بِالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ انْقَرَضُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْ دُنْيَاهُمُ الَّتِي آثَرُوهَا أَثَرٌ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْمَطْلُوبُ مِنْ هَذَا السَّيْرِ(1/439)
الْمَأْمُورِ بِهِ: هُوَ حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، فَإِنْ حَصَلَتْ بِدُونِهِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ لِمُشَاهَدَةِ الْآثَارِ زِيَادَةٌ غَيْرُ حَاصِلَةٍ لِمَنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ وَقَالَ الْحَسَنُ:
إِلَى الْقُرْآنِ بَيانٌ لِلنَّاسِ أَيْ: تَبْيِينٌ لَهُمْ، وَتَعْرِيفُ النَّاسِ لِلْعَهْدِ، وَهُمُ: الْمُكَذِّبُونَ، أَوْ لِلْجِنْسِ، أَيْ:
لِلْمُكَذِّبِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى النَّظَرِ فِي سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ وَمَا انْتَهَى إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ. قَوْلُهُ: وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ أَيْ: هَذَا النَّظَرُ مَعَ كَوْنِهِ بَيَانًا فِيهِ هُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَطْفُ الْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى الْبَيَانِ يَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَلِّقِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ اللَّامَ فِي النَّاسِ إِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ: فَالْبَيَانُ لِلْمُكَذِّبِينَ وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ: فَالْبَيَانُ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَحْدَهُمْ. قَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا عَزَّاهُمْ وَسَلَّاهُمْ بِمَا نَالَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْعَجْزِ وَالْفَشَلِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمُ الْأَعْلَوْنَ عَلَى عَدُوِّهِمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمُ الْأَعْلَوْنَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ. وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ ظَفَرَ بِعَدُوِّهِ فِي جَمِيعِ وَقَعَاتِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَصَبْتُمْ مِنْهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَصَابُوا مِنْكُمُ الْيَوْمَ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تَهِنُوا وَمَا بَعْدَهُ، أَوْ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا، أَوْ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. وَالْقَرْحُ: بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ: الْجُرْحُ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
هُوَ بِالْفَتْحِ: الْجُرْحُ، وَبِالضَّمِّ: ألمه. وقرأ محمد بن السميقع «قَرَحٌ» بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ: عَلَى الْمَصْدَرِ.
وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: إِنْ نَالُوا مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ نِلْتُمْ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَا تَهِنُوا لِمَا أَصَابَكُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَهِنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالصَّبْرِ مِنْهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، ثُمَّ انْتَصَرَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ مَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكُفَّارِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ مَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ أَيِ: الْكَائِنَةُ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي حُرُوبِهَا، وَالْآتِيَةُ فِيمَا بَعْدُ، كَالْأَيَّامِ الْكَائِنَةِ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ تَارَةً تَغْلِبُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ، وَتَارَةً تَغْلِبُ الْأُخْرَى، كَمَا وَقَعَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فَقَوْلُهُ: تِلْكَ مُبْتَدَأٌ، وَالْأَيَّامُ: صِفَتُهُ، وَالْخَبَرُ: نُدَاوِلُهَا، وَأَصْلُ الْمُدَاوَلَةِ: الْمُعَاوَرَةُ، دَاوَلْتُهُ بَيْنَهُمْ: عَاوَرْتُهُ. وَالدَّوْلَةُ: الْكُرَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: الْأَيَّامُ: خَبَرًا وَنُدَاوِلُهَا: حَالًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَظْهَرَ أَمْرُكُمْ وَلِيُعْلَمَ، أَوْ يَكُونُ الْمُعَلَّلُ مَحْذُوفًا، أَيْ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فِعْلَنَا ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ: أَيْ: فِعْلُنَا فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا، أَوْ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ الذين آمنوا بصبره علما يقع عليه الجزاء، كما علمه أَزَلِيًّا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أَيْ: يُكْرِمَهُمْ بِالشَّهَادَةِ. وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ: لِكَوْنِهِ مَشْهُودًا لَهُ بِالْجَنَّةِ، أَوْ جَمْعُ شَاهِدٍ: لِكَوْنِهِ كَالْمُشَاهِدِ لِلْجَنَّةِ، وَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ، وَهُمْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا(1/440)
مِنْ جُمْلَةِ الْعِلَلِ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَالتَّمْحِيصُ: الِاخْتِبَارُ وَقِيلَ: التَّطْهِيرُ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: لِيُمَحِّصَ ذُنُوبَ الَّذِينَ آمَنُوا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَقِيلَ: يُمَحِّصُ: يُخْلِصُ، قَالَهُ الْخَلِيلُ وَالزَّجَّاجُ، أَيْ: لِيُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أَيْ: يَسْتَأْصِلَهُمْ بِالْهَلَاكِ، وَأَصْلُ التَّمْحِيقِ: مَحْوُ الْآثَارِ، وَالْمُحِقُّ: نَقْصُهَا. قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَأَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: بَلْ أَحَسِبْتُمْ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ واو الحال. والجملة حالية، وَفِيهِ تَمْثِيلٌ كَالْأَوَّلِ، أَوْ عِلْمٌ يَقَعُ عَلَيْهِ الجزاء. وقوله: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَاوُ بِمَعْنَى: حَتَّى، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: «وَيَعْلَمِ الصَّابِرِينَ» بِالْجَزْمِ، عَطْفًا عَلَى: وَلَمَّا يَعْلَمِ وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ، عَلَى الْقَطْعِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَلَمَّا يَعْلَمِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْمَعْلُومِ، وَهُوَ الْجِهَادُ. وَالْمَعْنَى: أَمْ حَسَبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْكُمُ الْجِهَادُ وَالصَّبْرُ، أَيِ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَمَعْنَى: لَمَّا مَعْنَى: «لَمْ» عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ لَمْ: لِنَفْيِ الْمَاضِي، وَلَمَّا: لِنَفِيَ الْمَاضِي وَالْمُتَوَقَّعِ. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ هُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ يَتَمَنَّى الْقِتَالَ وَالشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ يَوْمًا يَكُونُ فِيهِ قِتَالٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمُوا مَعَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ أَلَحُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ، وَلَمْ يَصْبِرْ مِنْهُمْ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، مِثْلُ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ عَمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أَيِ: الْقِتَالُ أَوِ الشَّهَادَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْمَوْتِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «مِنْ قَبْلِ أَنْ تُلَاقُوهُ» وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ هُنَا عَلَى الشَّهَادَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَتَمَنَّيِ الْمَوْتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَرْجِعُ إِلَى تَمَنِّي الشَّهَادَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ لَا إِلَى قَتْلِ الْكُفَّارِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ، وَلَا يَجُوزُ إِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ سُؤَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرْزُقَهُمُ الشَّهَادَةَ، فَيَسْأَلُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْجِهَادِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقَتْلِ. قَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أَيِ:
الْقِتَالُ أَوْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ، وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَقَيْدُ الرُّؤْيَةِ بِالنَّظَرِ مَعَ اتِّحَادِ مَعْنَاهُمَا: لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: قَدْ رَأَيْتُمُوهُ مُعَايِنِينَ لَهُ حِينَ قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ التَّكْرِيرَ بِمَعْنَى التَّأْكِيدِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: بُصَرَاءُ لَيْسَ فِي أَعْيُنِكُمْ عِلَلٌ وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ مَا سَيَأْتِي: مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُصِيبَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ صَاحَ الشَّيْطَانُ قَائِلًا: قَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَفَشِلَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أُصِيبَ مُحَمَّدٌ فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ فَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَقَالَ آخَرُ: لَوْ كَانَ رَسُولًا مَا قُتِلَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُمْ: بِأَنَّهُ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَسَيَخْلُو كَمَا خَلَوْا، فَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ لِرَسُولٍ. وَالْقَصْرُ قَصْرُ إِفْرَادٍ، كَأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا هَلَاكَهُ فَأَثْبَتُوا لَهُ صِفَتَيْنِ: الرِّسَالَةُ، وَكَوْنُهُ لَا يَهْلَكُ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ لَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى صِفَةِ عَدَمِ الْهَلَاكِ وَقِيلَ: هُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ رُسُلٌ» ثُمَّ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أَيْ: كَيْفَ تَرْتَدُّونَ وَتَتْرُكُونَ دِينَهُ إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ مَعَ عِلْمِكُمْ أَنَّ الرسل تخلو،
__________
(1) . الأنعام: 38.(1/441)
وَيَتَمَسَّكُ أَتْبَاعُهُمْ بِدِينِهِمْ، وَإِنْ فُقِدُوا بِمَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ. وَقِيلَ: الْإِنْكَارُ لِجَعْلِهِمْ خُلُوَّ الرُّسُلِ قَبْلَهُ سَبَبًا لِانْقِلَابِهِمْ بِمَوْتِهِ أَوْ قَتْلِهِ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْقَتْلُ مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ: لِكَوْنِهِ مُجَوَّزًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أَيْ: بِإِدْبَارِهِ عَنِ الْقِتَالِ، أَوْ بِارْتِدَادِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً مِنَ الضَّرَرِ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أَيِ: الَّذِينَ صَبَرُوا وَقَاتَلُوا وَاسْتَشْهَدُوا، لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ. وَمَنِ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَقَدْ شَكَرَ النِّعْمَةَ التي أنعم الله بها عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَتَضَمَّنُ الْحَثَّ عَلَى الْجِهَادِ، وَالْإِعْلَامَ بِأَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ.
وَمَعْنَى: بِإِذْنِ اللَّهِ: بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ فَشَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ: أَنَّ الْمَوْتَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ مَنُوطٌ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى النَّفْسِ مَعَ كَوْنِهَا غَيْرَ مُخْتَارَةٍ لَهُ: لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: كِتاباً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: كَتَبَ اللَّهُ الْمَوْتَ كِتَابًا، وَالْمُؤَجَّلُ: الْمُؤَقَّتُ الَّذِي لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى أَجَلِهِ ولا يتأخر. قوله:
وَمَنْ يُرِدْ أي: بعمله ثَوابَ الدُّنْيا كَالْغَنِيمَةِ وَنَحْوِهَا، وَاللَّفْظُ يَعُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى ثَوَابُ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا نُؤْتِهِ مِنْها أَيْ: مِنْ ثَوَابِهَا، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَمَنْ يُرِدْ بِعَمَلِهِ ثَوابَ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، نُؤْتِهِ مِنْ ثَوَابِهَا، وَنُضَاعِفْ لَهُ الْحَسَنَاتِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ بِامْتِثَالِ مَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ كَالْقِتَالِ، وَنَهَيْنَاهُمْ عَنْهُ كَالْفِرَارِ وَقَبُولِ الْإِرْجَافِ. وَقَوْلُهُ: وَكَأَيِّنْ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: هِيَ: أَيُّ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ، وَثَبَتَتْ مَعَهَا، فَصَارَتْ بَعْدَ التَّرْكِيبِ بِمَعْنَى: كَمْ، وَصُوِّرَتْ فِي الْمُصْحَفِ نُونًا، لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ نُقِلَتْ عَنْ أَصْلِهَا فَغُيِّرَ لَفْظُهَا لِتَغْيِيرِ مَعْنَاهَا، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فَتَصَرَّفَتْ فِيهَا الْعَرَبُ بِالْقَلْبِ وَالْحَذْفِ، فَصَارَ فِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ قُرِئَ بِهَا: أَحَدُهَا: كَائِنٌ، مِثْلُ: كَاعِنٍ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشاعر:
وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لَوْ أُصِبْتَ هُوَ الْمُصَابَا
وَقَالَ آخَرُ:
وَكَائِنْ رددنا عنكم من مدجّج ... يجيء أَمَامَ الرَّكْبِ يُرْدِي مُقَنَّعَا «1»
وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَكَائِنْ تَرَى مِنْ مُعْجِبٍ لَكَ شَخْصُهُ ... زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
وَكَأَيِّنْ: بِالتَّشْدِيدِ، مَثَلَ: كَعَيِّنْ، وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَالثَّالِثَةُ: كَأَيْنٍ، مِثْلَ: كَعَيْنٍ مُخَفَّفًا.
وَالرَّابِعَةُ: كَيَئِنْ، بِيَاءٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، وَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو بِغَيْرِ نُونٍ، فقال: كأي، لأنه تنوين، ووقف
__________
(1) . يردى: يمشي الرّديان، وهو ضرب من المشي فيه تبختر.
والمقنّع: الذي تقنّع بالسّلاح كالبيضة والمغفر.(1/442)
الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. وَالْمَعْنَى: كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، قُتِلَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي قُتِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى النَّبِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ: مَعَهُ رِبِّيُّونَ: جُمْلَةً حَالِيَّةً، كَمَا يُقَالُ: قُتِلَ الْأَمِيرُ مَعَهُ جَيْشٌ، أَيْ: وَمَعَهُ جَيْشٌ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ وَاقِعًا عَلَى رِبِّيُّونَ، فَلَا يَكُونُ فِي قُتِلَ ضَمِيرٌ، وَالْمَعْنَى: قُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُمُ الرِّبِّيُّونَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: «قَاتَلَ» ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَمِدَ مَنْ قَاتَلَ كَانَ مَنْ قُتِلَ دَاخِلًا فِيهِ، وَإِذَا حمد من قتل لم يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ قَاتَلَ وَلَمْ يُقْتَلْ، فَقَاتَلَ أَعَمُّ وَأَمْدَحُ، وَيُرَجِّحْ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى. وَالْوَجْهُ الثاني من القراءة الأولى: مَا قُتِلَ نَبِيٌّ فِي حَرْبٍ قَطُّ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَالرِّبِّيُّونَ: بِكَسْرِ الرَّاءِ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ:
بِضَمِّهَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِفَتْحِهَا، وَوَاحِدُهُ: رَبِّيٌّ بِالْفَتْحِ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ، وَالرِّبِّيُّ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، مَنْسُوبٌ إِلَى الرِّبَّةِ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَلِهَذَا فَسَرَّهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِالْجَمَاعَاتِ الْكَثِيرَةِ وَقِيلَ هُمُ الْأَتْبَاعُ وَقِيلَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الرِّبِّيُّ الْوَاحِدُ مِنَ الْعِبَادِ الَّذِينَ صَبَرُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ نُسِبُوا إِلَى التَّأَلُّهِ وَالْعِبَادَةِ وَمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرُّبِّيُّونَ بِالضَّمِّ الْجَمَاعَاتُ. قَوْلُهُ: فَما وَهَنُوا عَطْفٌ عَلَى قَاتَلَ، أَوْ قُتِلَ. وَالْوَهْنُ انْكِسَارُ الْجِدِّ بِالْخَوْفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: «وَهِنُوا» بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: لُغَتَانِ، وَهَنَ الشَّيْءُ يَهِنُ وَهْنًا: ضَعُفَ، أَيْ: مَا وَهَنُوا لِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ أَوْ لِقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَما ضَعُفُوا أَيْ: عَنْ عَدُوِّهِمْ وَمَا اسْتَكانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ. وَالِاسْتِكَانَةُ: الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ وَقُرِئَ: «وَمَا وَهَنُوا وَمَا ضَعُفُوا» بِإِسْكَانِ الْهَاءِ وَالْعَيْنِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: ضَعَفُوا، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لِمَنِ انْهَزَمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَذَلَّ وَاسْتَكَانَ وَضَعُفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِرْجَافِ الْوَاقِعِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَصْنَعْ كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ مَنْ خَلَا مَنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ أَيْ: قَوْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ، وَقَوْلَهُمْ: مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا: بِرَفْعِ قَوْلِهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ قالُوا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ: مَا كَانَ قَوْلَهُمْ عِنْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ رَبَّانِيُّونَ، أَوْ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا قِيلَ: هِيَ الصَّغَائِرُ. وَقَوْلُهُ: وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا قِيلَ: هِيَ الْكَبَائِرُ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الذُّنُوبَ تَعُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى ذَنْبًا مِنْ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ. وَالْإِسْرَافُ: مَا فِيهِ مُجَاوَزَةٌ لِلْحَدِّ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، قَالُوا ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِمْ رَبَّانِيِّينَ: هَضْمًا لِأَنْفُسِهِمْ وَثَبِّتْ أَقْدامَنا فِي مَوَاطِنِ الْقِتَالِ فَآتاهُمُ اللَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ثَوابَ الدُّنْيا مِنَ النَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْعِزَّةِ وَنَحْوِهَا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ: ثَوَابَ الْآخِرَةِ الْحَسَنِ، وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْ أَهْلِهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ قَالَ: تَدَاوَلَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ آلِ عِمْرَانَ: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ ثُمَّ أُنْزِلَ بَقِيَّتُهَا يَوْمَ أحد. وأخرج(1/443)
ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا بَيانٌ يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يُرِيدُ أَنْ يَعْلُوَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا يَعْلُونَ عَلَيْنَا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: انْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَأَلُوا: مَا فعل النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَنَعَى بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وتحدّثوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، فَكَانُوا فِي هَمٍّ وَحُزْنٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، عَلَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ فَوْقَهُمْ عَلَى الْجَبَلِ. وَكَانُوا عَلَى أَحَدِ مُجَنَّبَتَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَسْفَلَ مِنَ الشِّعْبِ، فَلَمَّا رَأَوُا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَرِحُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِكَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ بِهَذَا الْبَلَدِ غَيْرَ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ فَلَا تُهْلِكْهُمْ» وَثَابَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُمَاةٌ فَصَعِدُوا فَرَمَوْا خَيْلَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ، وَعَلَا الْمُسْلِمُونَ الْجَبَلَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ قَالَ: وَأَنْتُمُ الْغَالِبُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ قَالَ: جِرَاحٌ وَقَتْلٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ قَالَ: إِنْ يُقْتَلْ مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ الْآيَةَ، قَالَ: أَدَالَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَبَلَغَنِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَتَلُوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلا عَدَدَ الْأُسَارَى الَّذِينَ أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ عَدَدُ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً وسبعين رجلا. وأخرج ابن جريج، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَرِنَا يَوْمًا كَيَوْمِ بَدْرٍ نُقَاتِلُ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ وَنُبْلِيكَ فِيهِ خَيْرًا، وَنَلْتَمِسُ فِيهِ الشَّهَادَةَ، فَلَقُوا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَاتَّخَذَ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: يَبْتَلِيَهُمْ وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ قَالَ: يَنْقُصَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقُولُونَ: لَيْتَنَا نُقْتَلُ كَمَا قُتِلَ أَصْحَابُ بَدْرٍ وَنَسْتَشْهِدُ، أَوْ لَيْتَ لَنَا يَوْمًا كَيَوْمِ بَدْرٍ نُقَاتِلُ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ، وَنُبْلَى فِيهِ خَيْرًا، وَنَلْتَمِسُ الشَّهَادَةَ وَالْجَنَّةَ وَالْحَيَاةَ وَالرِّزْقَ، فَأَشْهَدَهُمُ اللَّهُ أُحُدًا، فَلَمْ يَثْبُتُوا إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ.
فَقَالَ اللَّهُ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ كُلَيْبٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: آلَ عِمْرَانَ، وَيَقُولُ: إِنَّهَا أُحُدِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّقْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَصَعِدْتُ الْجَبَلَ فَسَمِعَتْ يَهُودِيًّا يَقُولُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَقُلْتُ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَقُولُ قُتِلَ مُحَمَّدٌ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَنَظَرْتُ فإذا رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَرَاجَعُونَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: نَادَى مُنَادٍ يَوْمَ أُحُدٍ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَارْجِعُوَا إِلَى دِينِكُمُ الْأَوَّلِ، فأنزل الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ. أخرج أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ(1/444)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قَالَ: الثَّابِتِينَ عَلَى دِينِهِمْ أَبَا بَكْرٍ وَأَصْحَابَهُ، فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ:
كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَمِيرَ الشَّاكِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَاللَّهِ لَا نَنْقَلِبُ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ، وَاللَّهِ لَئِنْ مَاتَ، أَوْ قُتِلَ، لَأُقَاتِلَنَّ عَلَى مَا قُتِلَ عَلَيْهِ حَتَّى أَمُوتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: رِبِّيُّونَ قَالَ: أُلُوفٌ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الرِّبَّةُ الْوَاحِدَةُ أَلْفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رِبِّيُّونَ قَالَ: جُمُوعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: عُلَمَاءُ كَثِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اسْتَكانُوا قَالَ: تَخَشَّعُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا قَالَ: خَطَايَانَا.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 153]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)
لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَنْصَارِ الأنبياء حذر عن طاعة الكفار، وهم مشركوا الْعَرَبِ وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ ارْجِعُوا إِلَى دِينِ آبائكم. وقوله:
يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي: يخرجونكم مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أَيْ: تَرْجِعُوا مَغْبُونِينَ. وَقَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ إِضْرَابٌ عَنْ مَفْهُومِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَيْ: إِنْ تُطِيعُوا الْكَافِرِينَ يَخْذُلُوكُمْ، وَلَا يَنْصُرُوكُمْ، بَلِ اللَّهُ نَاصِرُكُمْ، لَا غَيْرُهُ وَقُرِئَ: «بَلِ اللَّهَ» بِالنَّصْبِ، عَلَى تَقْدِيرِ: بَلْ أَطِيعُوا اللَّهَ. قَوْلُهُ: سَنُلْقِي قَرَأَ السَّخْتِيَانِيُّ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالنُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ:
الرُّعْبَ بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالسُّكُونِ وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: رَعَبْتُهُ رُعْبًا وَرُعُبًا فَهُوَ مَرْعُوبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالرُّعُبُ بِالضَّمِّ: الِاسْمُ، وَأَصْلُهُ: الْمَلْءُ، يُقَالُ: سَيْلٌ رَاعِبٌ، أَيْ: يَمْلَأُ الْوَادِيَ، وَرَعَبْتُ الْحَوْضَ: مَلَأْتُهُ، فَالْمَعْنَى: سَنَمْلَأُ قُلُوبَ الْكَافِرِينَ رُعْبًا، أَيْ: خَوْفًا وَفَزَعًا، وَالْإِلْقَاءُ يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي الْأَجْسَامِ، وَمَجَازًا فِي غَيْرِهَا كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ نَدِمُوا أَنْ لَا يَكُونُوا اسْتَأْصَلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: بِئْسَمَا صَنَعْنَا قَتَلْنَاهُمْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ تَرَكْنَاهُمْ، ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ،(1/445)
فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، حَتَّى رَجَعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:
سَنُلْقِي وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أَيْ: مَا لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ بِجَعْلِهِ شَرِيكًا لَهُ حُجَّةً وَبَيَانًا وَبُرْهَانًا، وَالنَّفْيُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ، أَيْ: لَا حُجَّةَ وَلَا إِنْزَالَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمِلَلِ. وَالْمَثْوَى: الْمَكَانُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ، يُقَالُ: ثَوَى، يَثْوِي، ثَوَاءً. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ نَزَلَتْ لَمَّا قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّهُ النَّصْرَ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الظَّفَرُ لَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ، حَتَّى قَتَلُوا صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَتِسْعَةَ نَفَرٍ بَعْدَهُ فَلَمَّا اشْتَغَلُوا بِالْغَنِيمَةِ وَتَرَكَ الرُّمَاةُ مَرْكَزَهُمْ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهَزِيمَةِ. وَالْحِسُّ: الِاسْتِئْصَالُ بِالْقَتْلِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. يُقَالُ:
جَرَادٌ مَحْسُوسٌ: إِذَا قَتَلَهُ البرد، وَسَنَةٌ حَسُوسٌ، أَيْ: جَدْبَةٌ تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ. قِيلَ: وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِسِّ الَّذِي هُوَ الْإِدْرَاكُ بِالْحَاسَّةِ، فَمَعْنَى حِسِّهِ: أَذْهَبَ حِسَّهُ بِالْقَتْلِ، وَتَحُسُّونَهُمْ: تَقْتُلُونَهُمْ وَتَسْتَأْصِلُونَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
حَسَسْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ حِسًّا فَأَصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وَقَالَ جَرِيرٌ:
تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجم الحصيد
بِإِذْنِهِ أي: بعلمه، أو بقضائه حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أَيْ: جَبُنْتُمْ وَضَعُفْتُمْ، قِيلَ: جَوَابُ حَتَّى مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: امْتُحِنْتُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَوَابُ حَتَّى: قَوْلُهُ: وَتَنازَعْتُمْ وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ زَائِدَةٌ، كقوله: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ «1» وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ فَشِلْتُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ: عَصَيْتُمْ، وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ. وَقَدْ جَوَّزَ الْأَخْفَشُ مِثْلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ «2» وَقِيلَ:
حَتَّى: بِمَعْنَى إِلَى، وَحِينَئِذٍ لَا جَوَابَ لَهَا، وَالتَّنَازُعُ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الرُّمَاةِ حِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَلْحَقُ الْغَنَائِمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَثْبُتُ فِي مَكَانِنَا كَمَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ النَّصْرِ فِي الِابْتِدَاءِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يَعْنِي: الْغَنِيمَةَ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أَيِ: الْأَجْرُ بِالْبَقَاءِ فِي مَرَاكِزِهِمُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ أَيْ: رَدَّكُمُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالِانْهِزَامِ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهِمْ لِيَمْتَحِنَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لَمَّا عَلِمَ مِنْ نَدَمِكُمْ، فَلَمْ يَسْتَأْصِلْكُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُنْهَزِمِينَ، وَقِيلَ: لِلرُّمَاةِ فَقَطْ. قَوْلُهُ: إِذْ تُصْعِدُونَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: صَرَفَكُمْ أَوْ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ أَوْ بِقَوْلِهِ: لِيَبْتَلِيَكُمْ وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَقُنْبُلٌ: «يصعدون» بِالتَّحْتِيَّةِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَصْعَدْتُ: إِذَا مَضَيْتَ حِيَالَ وَجْهِكَ، وَصَعِدْتُ: إِذَا ارْتَقَيْتَ فِي جَبَلٍ، فَالْإِصْعَادُ: السَّيْرُ فِي مُسْتَوى الْأَرْضِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَالصُّعُودُ: الِارْتِفَاعُ عَلَى الْجِبَالِ وَالسُّطُوحِ وَالسَّلَالِمِ وَالدَّرَجِ، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل
__________
(1) . الصافات: 103.
(2) . التوبة: 118.(1/446)
بَعْدَ إِصْعَادِهِمْ فِي الْوَادِي، فَيَصِحُّ الْمَعْنَى عَلَى القراءتين. وقال القتبي: أَصْعَدَ: إِذَا أَبْعَدَ فِي الذَّهَابِ وَأَمْعَنَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ أَصْعَدَتْ ... فَإِنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِصْعَادُ: الِابْتِدَاءُ فِي السَّفَرِ، وَالِانْحِدَارُ: الرُّجُوعُ مِنْهُ، يُقَالُ: أَصْعَدْنَا مِنْ بَغْدَادَ إِلَى مَكَّةَ، وَإِلَى خُرَاسَانَ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ: إِذَا خَرَجْنَا إِلَيْهَا وَأَخَذْنَا فِي السَّفَرِ، وَانْحَدَرْنَا: إِذَا رَجَعْنَا. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: صَعِدَ وَأَصْعَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَعْنَى: تَلْوُونَ: تَعْرُجُونَ وَتُقِيمُونَ، أَيْ: لَا يَلْتَفِتُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ هَرَبًا، فَإِنَّ الْمُعَرِّجَ إِلَى الشَّيْءِ يَلْوِي إِلَيْهِ عُنُقَهُ أَوْ عُنُقَ دَابَّتِهِ عَلى أَحَدٍ أَيْ: عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ مَعَكُمْ وَقِيلَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: «تَلُونَ» بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ.
قَوْلُهُ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أَيْ: فِي الطَّائِفَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْكُمْ، يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ فِي آخِرِ النَّاسِ، وَآخِرَةِ النَّاسِ، وَأُخْرَى النَّاسِ، وَأُخْرَيَاتِ النَّاسِ. وَكَانَ دُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا» . قَوْلُهُ:
فَأَثابَكُمْ عَطْفٌ عَلَى صَرَفَكُمْ، أَيْ: فَجَازَاكُمُ اللَّهُ غَمًّا حِينَ صَرَفَكُمْ عَنْهُ بِسَبَبِ غَمٍّ أَذَقْتُمُوهُ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِعِصْيَانِكُمْ، أَوْ غَمًّا مَوْصُولًا بِغَمٍّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِرْجَافِ وَالْجُرْحِ وَالْقَتْلِ وَظَفَرِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْغَمُّ فِي الْأَصْلِ: التَّغْطِيَةُ، غَمَّيْتُ الشَّيْءَ: غَطَّيْتُهُ، وَيَوْمٌ غَمٌّ، وَلَيْلَةٌ غَمَّةٌ: إِذَا كَانَا مُظْلِمَيْنِ، وَمِنْهُ: غَمُّ الْهِلَالِ وَقِيلَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ: الْهَزِيمَةُ، وَالثَّانِي: إشراف أبي سفيان وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَلَيْهِمْ فِي الْجَبَلِ. قَوْلُهُ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ أَيْ: هَذَا الْغَمُّ بَعْدَ الْغَمِّ، لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا مَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ، تَمْرِينًا لَكُمْ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَتَدْرِيبًا لِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَعْنَى لِكَيْلا تَحْزَنُوا لِكَيْ تَحْزَنُوا، وَلَا زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أَيْ: أَنْ تَسْجُدَ، وَقَوْلُهُ:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَيْ: لِيَعْلَمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا قال: لا تنتصحوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى دِينِكُمْ، وَلَا تَصْدُقُوهُمْ بِشَيْءٍ فِي دِينِكُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ يَقُولُ: إِنْ تُطِيعُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ يَرُدُّكُمْ كُفَّارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عُرْوَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَعَدَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى:
أَنْ يَمُدَّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَكَانَ قَدْ فَعَلَ، فَلَمَّا عَصَوْا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَكُوا مَصَافَّهُمْ، وَتَرَكَتِ الرُّمَاةُ عَهْدَ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مَنَازِلَهُمْ، وَأَرَادُوا الدُّنْيَا رُفِعَ عَنْهُمْ مَدَدُ الْمَلَائِكَةِ.
وَقِصَّةُ أُحُدٍ مُسْتَوْفَاةٌ فِي السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِطَالَةِ الشَّرْحِ هُنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ قَالَ: الْحَسُّ: الْقَتْلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ. قَالَ: الْفَشَلُ: الْجُبْنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ قَالَ: الْغَنَائِمُ وَهَزِيمَةُ الْقَوْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:(1/447)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ أَنْ لَا أَكُونَ اسْتَأْصَلْتُكُمْ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ تُصْعِدُونَ قَالَ: أَصْعَدُوا فِي أُحُدٍ فِرَارًا وَالرَّسُولُ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن عبد الرحمن ابن عَوْفٍ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ قَالَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ: بِسَبَبِ الْهَزِيمَةِ، وَالثَّانِي: حِينَ قِيلَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ مِنَ الْهَزِيمَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ قَالَ: فِرَةٌ بَعْدَ الْفِرَةِ، الْأُولَى: حِينَ سَمِعُوا الصَّوْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. [والثانية حين رجع الكفار فضربوهم مدبرين حتى قتلوا منهم سبعين رجلا] «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ: الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ، وَالْغَمُّ الْآخَرُ: حِينَ سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الربيع مثله.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 154 الى 155]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
الْأَمَنَةُ وَالْأَمْنُ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: الْأَمَنَةُ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ أَسْبَابِ الْخَوْفِ، وَالْأَمْنُ مَعَ عَدَمِهِ، وَهِيَ: مَنْصُوبَةٌ بِأَنْزَلَ. وَنُعَاسًا: بَدَلٌ مِنْهَا، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَمَنَةً: حَالٌ مِنْ نُعَاسًا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ، فَبَعِيدٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: «أَمْنَةً» بِسُكُونِ الْمِيمِ. قَوْلُهُ:
يَغْشى قُرِئَ: بِالتَّحْتِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنُّعَاسِ، وبالفوقية، على أن الضمير لأمنة، والطائفة: تطلق على الواحد والجماعة، والطائفة الأولى: هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلبا للأجر، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى:
هُمْ مُعَتَّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانُوا خَرَجُوا طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، وَجَعَلُوا يُنَاشِدُونَ عَلَى الْحُضُورِ، وَيَقُولُونَ الْأَقَاوِيلَ. وَمَعْنَى: أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْهَمِّ، أَهَمَّنِي الْأَمْرُ: أَقْلَقَنِي، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ:
وَطائِفَةٌ لِلْحَالِ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِاعْتِمَادِهَا عَلَى وَاوِ الْحَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ صَارَتْ هَمَّهُمْ، لَا هَمَّ لَهُمْ غَيْرُهَا يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ:
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ، وَظَنُّ الْجَاهِلِيَّةِ: بَدَلٌ مِنْهُ. وَهُوَ الظَّنُّ الْمُخْتَصُّ بِمِلَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ: أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَاطِلٌ، وَأَنَّهُ لَا يُنْصَرُ وَلَا يَتِمُّ ما دعا إليه من دين الحق.
__________
(1) . ما بين حاصرتين من تفسير ابن جرير الطبري [4/ 88] .(1/448)
وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ بَدَلٌ مِنْ «يَظُنُّونَ» ، أَيْ: يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ: هَلْ لَنَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ نَصِيبٌ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ: الْجَحْدُ، أَيْ: مَا لَنَا شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرِ. وَهُوَ النَّصْرُ وَالِاسْتِظْهَارُ عَلَى الْعَدُوِّ وَقِيلَ: هُوَ الْخُرُوجُ، أَيْ: إِنَّمَا خَرَجْنَا مُكْرَهِينَ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَلَيْسَ لَكُمْ وَلَا لِعَدُوِّكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالنَّصْرُ بِيَدِهِ وَالظُّفْرُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: يُضْمِرُونَ فِي أَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ وَلَا يُبْدُونَ لَكَ ذَلِكَ، بَلْ يَسْأَلُونَكَ سُؤَالَ الْمُسْتَرْشِدِينَ.
وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ؟ فَقِيلَ: يَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا أَيْ:
مَا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنَّا فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أَيْ: لَوْ كُنْتُمْ قَاعِدِينَ فِي بُيُوتِكُمْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ خُرُوجِ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ إِلَى هذه المصارع الي صَرَعُوا فِيهَا، فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لَا يُرَدُّ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ عِلَّةٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ قَبْلَهَا، مَعْطُوفَةٌ عَلَى عِلَلٍ لَهُ أخرى مطوية للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: فعل مَا فُعِلَ لِمَصَالِحَ جَمَّةٍ وَلِيَبْتَلِيَ إِلَخْ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مَطْوِيَّةٍ لِبَرَزَ، وَالْمَعْنَى: لِيَمْتَحِنَ مَا فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أَيِ: انْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ اسْتَدْعَى زَلَلَهُمْ بِسَبَبِ بَعْضِ مَا كَسَبُوا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي مِنْهَا مُخَالَفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لِتَوْبَتِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمِنَهُمُ اللَّهُ يَوْمَئِذٍ بِنُعَاسٍ غَشَّاهُمْ، وَإِنَّمَا يَنْعَسُ مَنْ يَأْمَنُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: غَشِينَا وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي، وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ، وَآخُذُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ، وَمَا مِنْهُمْ من أحد إلا وهو يميل تحت حجفته مِنَ النُّعَاسِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَكَانَ سَيِّدَ الْمُنَافِقِينَ: قُتِلَ الْيَوْمَ بَنُو الْخَزْرَجِ، فَقَالَ: وَهَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ قَالَ: ظَنَّ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مُعَتَّبٌ هُوَ الَّذِي قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ قَالَ: هُمْ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاثْنَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ وَرَافِعِ بْنِ الْمُعَلَّى وخارجة ابن زَيْدٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَعْيِينِ «مِنْ» فِي الآية روايات كثيرة.(1/449)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 164]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
قَوْلُهُ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا.
قَوْلُهُ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ فِي النِّفَاقِ أَوْ فِي النَّسَبِ، أَيْ: قَالُوا لِأَجْلِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ إِذَا سَارُوا فِيهَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ نَحْوِهَا قِيلَ: إِنَّ إِذَا هُنَا الْمُفِيدَةَ لِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ: بِمَعْنَى إِذِ الْمُفِيدَةِ لِمَعْنَى الْمُضِيِّ وَقِيلَ:
هِيَ عَلَى مَعْنَاهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا حِكَايَةُ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا هُنَا تنوب عن ما مَضَى مِنَ الزَّمَانِ وَمَا يُسْتَقْبَلُ أَوْ كانُوا غُزًّى جَمْعُ غَازٍ، كَرَاكِعٍ وَرُكَّعٍ، وَغَائِبٍ وَغُيَّبٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
قُلْ لِلْقَوَافِلِ وَالْغُزَّى إِذَا غَزَوْا «1»
.......
لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: قالُوا أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوهُ لِيَكُونَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ صَارَ ظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْرُجُوا مَا قُتِلُوا حَسْرَةً، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَكُونُوا أَيْ: لَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي اعْتِقَادِ ذَلِكَ، لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ فَقَطْ دُونَ قُلُوبِكُمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ عَدَمَ الْتِفَاتِكُمْ إِلَيْهِمْ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّدَامَةِ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ فِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ، أَيْ: ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَصْنَعُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَيُحْيِي مَنْ يُرِيدُ، وَيُمِيتُ مَنْ يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلسَّفَرِ أَوِ الْغَزْوِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ مُوَطِّئَةٌ. وَقَوْلُهُ: لَمَغْفِرَةٌ جَوَابُ الْقَسَمِ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّ السَّفَرَ وَالْغَزْوَ لَيْسَا مِمَّا يَجْلِبُ الْمَوْتَ، وَلَئِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فبأمر اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أَيِ: الْكَفَرَةُ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا مُدَّةَ أَعْمَارِهِمْ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بالياء التحتية، أو خير
__________
(1) . هو صدر بيت لزياد الأعجم، وعجزه: والباكرين وللمجدّ الرّامح.(1/450)
مِمَّا تَجْمَعُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بِالْفَوْقِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ: بَيَانُ مَزِيَّةِ الْقَتْلِ أَوِ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَزِيَادَةِ تَأْثِيرِهِمَا فِي اسْتِجْلَابِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. قَوْلُهُ: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ، حَسَبَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ، سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى: أَيْ: إِلَى الرَّبِّ الْوَاسِعِ الْمَغْفِرَةِ تُحْشَرُونَ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا يُفِيدُهُ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى الْفِعْلِ، مَعَ مَا فِي تَخْصِيصِ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالذِّكْرِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ اللُّطْفِ وَالْقَهْرِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، قال سِيبَوَيْهَ وَغَيْرُهُ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهَا نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْبَاءِ، وَرَحْمَةٍ: بَدَلٌ مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِثْلُهُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِنْتَ لَهُمْ وَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَتَنْوِينُ رَحْمَةٍ لِلتَّعْظِيمِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِينَهُ لَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا بِسَبَبِ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْهُ وَقِيلَ: إِنَّ: مَا، اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ؟ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحُذِفَ الْأَلْفُ مِنْ مَا وَقِيلَ: فَبِمَ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَالْفَظُّ: الْغَلِيظُ الْجَافِي. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفَظُّ هُوَ الْكَرِيهُ الْخُلُقِ، وَأَصْلُهُ: فَظِظَ، كَحَذِرَ. وَغِلَظُ الْقَلْبِ: قَسَاوَتُهُ، وَقِلَّةُ إِشْفَاقِهِ، وَعَدَمُ انْفِعَالِهِ لِلْخَيْرِ. وَالِانْفِضَاضُ:
التَّفَرُّقُ، يُقَالُ: فَضَضْتُهُمْ فَانْفَضُّوا، أَيْ: فَرَقْتُهُمْ فَتَفَرَّقُوا، وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَا تَرْفُقُ بِهِمْ لَتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِكَ، هَيْبَةً لَكَ، وَاحْتِشَامًا مِنْكَ، بِسَبَبِ مَا كَانَ مِنْ تَوَلِّيهِمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ فَاعْفُ عَنْهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكَ مِنَ الْحُقُوقِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِيمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أَيِ: الَّذِي يَرِدُ عَلَيْكَ، أَيَّ أَمْرٍ كَانَ مِمَّا يُشَاوَرُ فِي مِثْلِهِ، أَوْ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ خَاصَّةً، كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَطْيِيبِ خَوَاطِرِهِمْ وَاسْتِجْلَابِ مَوَدَّتِهِمْ، وَلِتَعْرِيفِ الْأُمَّةِ بِمَشْرُوعِيَّةٍ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَأْنَفَ مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدَكَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْمُشَاوَرَةُ فِي غَيْرِ الْأُمُورِ الَّتِي يَرِدُ الشَّرْعُ بِهَا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الِاسْتِشَارَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: شُرْتُ الدَّابَّةَ وَشَوَّرْتُهَا: إِذَا عَلِمْتَ خَبَرَهَا وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ: شُرْتُ الْعَسَلَ: إِذَا أَخَذْتَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَمُشَاوَرَةِ وُجُوهِ الْجَيْشِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ، وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُزَرَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ عَزْلِ مَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. قَوْلُهُ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أَيْ: إِذَا عَزَمْتَ عَقِبَ الْمُشَاوَرَةِ عَلَى شَيْءٍ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسُكَ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ، أَيِ: اعْتَمِدْ عَلَيْهِ وَفَوِّضْ إِلَيْهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: فَإِذَا عَزَمْتَ عَلَى أَمْرٍ أَنْ تَمْضِيَ فِيهِ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى الْمُشَاوَرَةِ. وَالْعَزْمُ فِي الْأَصْلِ:
قَصْدُ الْإِمْضَاءِ أَيْ: فَإِذَا قَصَدْتَ إِمْضَاءَ أَمْرٍ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: «فَإِذَا عَزَمْتُ» : بِضَمِّ التَّاءِ، بِنِسْبَةِ الْعَزْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: فَإِذَا عَزَمْتُ لَكَ عَلَى شَيْءٍ، وَأَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِتَأْكِيدِ التَّوَكُّلِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ.
وَالْخِذْلَانُ: تَرْكُ الْعَوْنِ، أَيْ: وَإِنْ يَتْرُكِ اللَّهُ عَوْنَكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ:(1/451)
إِنْكَارِيٌّ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْخِذْلَانِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أَوْ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ مَنْ نَصَرَهُ اللَّهُ لَا غَالِبَ لَهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ لَا نَاصِرَ لَهُ، فَوَّضَ أُمُورَهُ إِلَيْهِ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: لِإِفَادَةِ قَصْرِهِ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أَيْ مَا صَحَّ لَهُ ذَلِكَ لِتَنَافِي الْغُلُولِ وَالنُّبُوَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغُلُولُ: مِنَ الْمَغْنَمِ خَاصَّةً، وَلَا نَرَاهُ مِنَ الْخِيَانَةِ وَلَا مِنَ الْحِقْدِ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ مِنَ الْخِيَانَةِ: أَغَلَّ يَغُلُّ، وَمِنَ الْحِقْدِ: غَلَّ يَغِلُّ بِالْكَسْرِ، وَمِنَ الْغُلُولِ: غَلَّ يَغُلُّ بِالضَّمِّ يُقَالُ: غَلَّ الْمَغْنَمُ غُلُولًا، أَيْ: خان بأن يأخذ لنفسه شيئا يستره عَلَى أَصْحَابِهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ: مَا صَحَّ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَغْنَمِ، فَيَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِ أَصْحَابِهِ. وَفِيهِ تَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الْغُلُولِ. وَمَعْنَاهَا عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ: مَا صَحَّ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَيْ:
يَخُونُهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: نَهْيٌ لِلنَّاسِ عَنِ الْغُلُولِ فِي الْمَغَانِمِ وَإِنَّمَا خَصَّ خِيَانَةَ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ كَوْنِ خِيَانَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ حَرَامًا، لِأَنَّ خِيَانَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَشَدُّ ذَنْبًا وَأَعْظَمُ وِزْرًا وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ: يَأْتِ بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، كَمَا صَحَّ ذلك عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَيَفْضَحُهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْهُ، بِأَنَّهُ ذَنْبٌ يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الْأَشْهَادِ، يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ مَجِيئُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا غَلَّهُ حَامِلًا لَهُ، قَبْلَ أن يحاسب عليه يعاقب عليه. قوله: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي: تعطي جزاء ما كسبت وَافِيًا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَسَبَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الْغَالُّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، لِكَوْنِ السِّيَاقِ فِيهِ. قَوْلُهُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: لَيْسَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَعَمِلَ بِأَمْرِهِ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهُ كَمَنْ بَاءَ، أَيْ: رَجَعَ بِسَخَطٍ عَظِيمٍ كَائِنٍ مِنَ اللَّهِ، بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ، مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ بِتَرْكِ الْغُلُولِ وَاجْتِنَابِهِ، وَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْغُلُولِ. ثُمَّ أَوْضَحَ مَا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ فَقَالَ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ وَالْمَعْنَى: هُمْ ذَوُو دَرَجَاتٍ، أَوْ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ، فَدَرَجَاتُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ لَيْسَتْ كَدَرَجَاتِ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ فِي أَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ. وَالْآخَرِينَ فِي أَسْفَلِهَا. قَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِكَوْنِهِمُ الْمُنْتَفِعِينَ بِبَعْثَتِهِ. وَمَعْنَى: مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِثْلُهُمْ وَقِيلَ: بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَوَجْهُ الْمِنَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ: أَنَّهُمْ يَفْقَهُونَ عَنْهُ، وَيَفْهَمُونَ كَلَامَهُ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تُرْجُمَانٍ. وَمَعْنَاهَا عَلَى الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَأْنَسُونَ بِهِ بِجَامِعِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ مَلِكًا لَمْ يَحْصُلْ كَمَالُ الْأُنْسِ بِهِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِيَّةِ، وَقُرِئَ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ: مِنْ أَشْرَفِهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنُو هَاشِمٍ أَفْضَلُ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ أَفْضَلُ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الِامْتِنَانِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَشْرَفِهِمْ كَانُوا أَطْوَعَ لَهُ وَأَقْرَبَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْعَرَبِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التخصيص،(1/452)
وَكَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بِفَتْحِ الْفَاءِ، لَا حَاجَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ بَنِي هَاشِمٍ هُمْ أَنْفَسُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فِي شَرَفِ الْأَصْلِ وكرم النجاد وَرِفَاعَةِ الْمَحْتِدِ. وَيَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ وقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. قوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ هَذِهِ مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ: يَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنَ الشَّرَائِعِ وَيُزَكِّيهِمْ أَيْ: يُطَهِّرُهُمْ مِنْ نَجَاسَةِ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهُمَا: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ صِفَةٍ لِرَسُولٍ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا: الْقُرْآنُ. وَالْحِكْمَةُ: السُّنَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ تَفْسِيرُ ذَلِكَ: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ، أَوْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثَتِهِ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ:
وَاضِحٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَاللَّامُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، فَهِيَ تَدْخُلُ فِي خَبَرِ الْمُخَفَّفَةِ لَا النَّافِيَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ وَقِيلَ: إِنَّهَا النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى: إِلَّا، أَيْ: وَمَا كَانُوا مِنْ قَبْلُ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ: يُحْزِنُهُمْ قَوْلُهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ شَيْئًا. وَأَخْرَجُوا عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يَقُولُ: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ قَالَ: لَانْصَرَفُوا عَنْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا رَحْمَةً لِأُمَّتِي، فَمَنِ اسْتَشَارَ مِنْهُمْ لَمْ يَعْدَمْ رُشْدًا، وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يَعْدَمْ غَيًّا» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَزْمِ، فَقَالَ: «مُشَاوَرَةُ أَهْلِ الرَّأْيِ ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ افْتُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قَالَ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَتَّهِمَهُ أَصْحَابُهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْغُلُولِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ يَقُولُ: بِأَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ، قَالَتْ: هذه للعرب خاصة.(1/453)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
قَوْلُهُ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الْأَلِفُ لِلِاسْتِفْهَامِ بِقَصْدِ التَّقْرِيعِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ. وَالْمُصِيبَةُ: الْغَلَبَةُ وَالْقَتْلُ الَّذِي أُصِيبُوا بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ. وَقَدْ كَانُوا قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسِرُوا سَبْعِينَ، فَكَانَ مَجْمُوعُ الْقَتْلَى وَالْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَيِ الْقَتْلَى من المسلمين يوم أحد والمعنى: أحين أَصَابَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نِصْفُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ جَزِعْتُمْ وَقُلْتُمْ مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا؟ وَقَدْ وُعِدْنَا بِالنَّصْرِ. وَقَوْلُهُ: أَنَّى هَذَا أَيْ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا الِانْهِزَامُ وَالْقَتْلُ وَنَحْنُ نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّهُ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أَمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِهَذَا الْجَوَابِ، أي: هذا الذي سألتم عنه، وهو مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ الرُّمَاةِ لِمَا أمرهم به النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، مِنْ لُزُومِ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُمْ، وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِمْ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ خُرُوجُهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَيَرُدُّهُ أَنَّ الْوَعْدَ بِالنَّصْرِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقِيلَ: هُوَ اخْتِيَارُهُمُ الفداء يوم بدر على القتل، ويَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يَوْمَ أُحُدٍ أَيْ: مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ وَالْهَزِيمَةِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ فَبِعِلْمِهِ، وَقِيلَ: بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَقِيلَ بِتَخْلِيَتِهِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَالْفَاءُ: دَخَلَتْ فِي جَوَابِ الْمَوْصُولِ لِكَوْنِهِ يُشْبِهُ الشَّرْطَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ عَطْفُ سَبَبٍ عَلَى سَبَبٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، قِيلَ: أَعَادَ الْفِعْلَ لِقَصْدِ تَشْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْمُنَافِقِينَ وَاحِدًا، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا: التَّمْيِيزُ وَالْإِظْهَارُ، لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى ثَابِتٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ. قَوْلُهُ: وَقِيلَ لَهُمْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: نافَقُوا أَيْ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ نَافَقُوا وَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، أَيْ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَوِ ادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَأَبَوْا جَمِيعَ ذَلِكَ وَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ وَقَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَلَكِنَّهُ لَا قِتَالَ هُنَالِكَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ كُنَّا نَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ وَنُحْسِنُهُ لَاتَّبَعْنَاكُمْ، وَلَكِّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ولا نحسنه. وعبر عن نفي القدر عَلَى الْقِتَالِ: بِنَفْيِ الْعِلْمِ بِهِ، لِكَوْنِهَا مُسْتَلْزِمَةً لَهُ، وَفِيهِ بُعْدٌ لَا مُلْجِئَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَوْ نَعْلَمُ مَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ، وَلَكِنْ مَا أَنْتُمْ بِصَدَدِهِ لَيْسَ بِقِتَالٍ، وَلَكِنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ مِنَّا وَمِنْكُمْ عَلَى دَفْعِ مَا وَرَدَ مِنَ الْجَيْشِ بِالْبُرُوزِ إِلَيْهِمْ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وهذا أيضا فيه بعد دون مَا قَبْلَهُ وَقِيلَ: مَعْنَى الدَّفْعِ هُنَا:(1/454)
تَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: رَابِطُوا، وَالْقَائِلُ لِلْمُنَافِقِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أَيْ: هُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي انْخَذَلُوا فِيهِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ عِنْدَ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ بَيَّنُوا حَالَهُمْ، وَهَتَكُوا أَسْتَارَهُمْ، وَكَشَفُوا عَنْ نِفَاقِهِمْ إِذْ ذَاكَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِأَهْلِ الْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ نُصْرَةً مِنْهُمْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَهَا، أَيْ: أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ، وَذِكْرُ الأفواه للتأكيد، مثل قوله:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» . قَوْلُهُ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِلَخْ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ: وَاوِ يكتمون، أو منصوبا على الذمّ، أو وصف لِلَّذِينَ نَافَقُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أَيْ: قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ قَدْ قَعَدُوا عَنِ الْقِتَالِ لَوْ أَطاعُونا بِتَرْكِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ مَا قُتِلُوا، فَرَدَّ الله ذلك عليهم بقوله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَالدَّرْءُ: الدَّفْعُ، أَيْ: لَا يَنْفَعُ الْحَذَرُ مِنَ الْقَدَرِ، فَإِنَّ الْمَقْتُولَ يُقْتَلُ بِأَجَلِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الْآيَةَ. يَقُولُ:
إِنَّكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَيْ مَا أَصَابُوا مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا عِكْرِمَةُ. فَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ، وَقَتَلَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمَّا رَأَوْا مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَالُوا مِنْ أَيْنَ هَذَا؟
مَا كَانَ لِلْكُفَّارِ أَنْ يَقْتُلُوا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ: هُمْ بِالْأَسْرَى الَّذِينَ أَخَذْتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
فَرَدَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَعَجَّلَ لَهُمْ عُقُوبَةَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لِيَسْلَمُوا مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَرِهَ مَا صَنَعَ قَوْمُكَ فِي أَخْذِهِمُ الْأُسَارَى، وَقَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُخَيِّرَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقَدَّمُوا فَتُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يقتل مِنْهُمْ عِدَّتَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا، لَا، بَلْ نَأْخُذُ فِدَاءَهُمْ فَنَقْوَى بِهِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّنَا وَيَسْتَشْهِدُ مِنَّا عِدَّتُهُمْ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا نَكْرَهُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رِجْلًا عِدَّةُ أُسَارَى أَهْلِ بَدْرٍ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ هُوَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الْحَفْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ. وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عبيدة، عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَإِسْنَادُ ابْنِ جَرِيرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ هَكَذَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ سُنَيْدٌ: وَهُوَ حُسَيْنٌ، وَحَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، حدثنا قراد ابن نُوحٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عمر بن الخطاب
__________
(1) . الأنعام: 38.(1/455)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ عُوقِبُوا بِمَا صَنَعُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَفَرَّ أَصْحَابُ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزّ وجلّ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الآية. وأخرج الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَزْوَانَ وَهُوَ قُرَادُ بْنُ نُوحٍ، بِهِ، وَلَكِنْ بِأَطْوَلَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى حَدِيثِ التَّخْيِيرِ السَّابِقِ: مَا نَزَلَ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ أَخَذَ الْفِدَاءَ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ «1» وَمَا رُوِيَ مِنْ بُكَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ نَدَمًا عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَلَوْ كَانَ أَخْذُ ذَلِكَ بَعْدَ التَّخْيِيرِ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعَاتِبْهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا حَصَلَ مَا حَصَلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّدَمِ وَالْحُزْنِ، وَلَا صوب النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ رَأْيَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَيْثُ أَشَارَ بِقَتْلِ الْأَسْرَى وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: لَوْ نَزَلَتْ عُقُوبَةٌ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا إِلَّا عُمَرُ، وَالْجَمِيعُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ نُقَاتِلُ غَضَبًا لِلَّهِ وَهَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ. فَقَالَ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ عُقُوبَةٌ لكم بمعصيتكم النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ: لَا تَتْبَعُوهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَوِ ادْفَعُوا قَالَ: كَثِّرُوا بِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عَوْنِ الْأَنْصَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَوِ ادْفَعُوا قَالَ: رَابِطُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْمَدِينَةِ انْخَزَلَ عَنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلُثِ النَّاسِ، وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي، وَاللَّهِ مَا ندري على ما نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا؟
فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَأَهْلِ الرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ! أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ أَنْ تَخْذُلُوا نبيكم وقومكم عند ما حَضَرَهُمْ عَدُّوهُمْ، قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ مَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَا نَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، والحسن بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَذَكَرَهُ، وَزَادَ: أنهم لما استعصوا عليه وأبو إِلَّا الِانْصِرَافَ قَالَ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ قَالَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّا وَاجِدُونَ مَعَكُمْ مَكَانَ قِتَالٍ لَاتَّبَعْنَاكُمْ.
__________
(1) . الأنفال: 67.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)(1/456)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّ مَا جَرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ امْتِحَانًا لِيَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَالْكَاذِبُ مِنَ الصَّادِقِ، بَيَّنَ هَاهُنَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَزِمْ وَقُتِلَ فَلَهُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ وَالنِّعْمَةُ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، لَا مِمَّا يُخَافُ وَيُحْذَرُ، كَمَا قَالُوا مَنْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا وقالوا: لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقُرِئَ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الشُّهَدَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَقِيلَ:
فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ، وَقِيلَ: فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ خَاصٍّ فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ حَيَاةً مُحَقَّقَةً. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ فَيَتَنَعَّمُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، أَيْ: يَجِدُونَ رِيحَهَا وَلَيْسُوا فِيهَا، وَذَهَبَ مَنْ عَدَا الْجُمْهُورِ: إِلَى أَنَّهَا حَيَاةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ مستحقون للتنعم فِي الْجَنَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا مُوجِبَ لِلْمَصِيرِ إِلَى الْمَجَازِ. وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ بِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ، وَأَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَمَتَّعُونَ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ قُتِلُوا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ.
وَالْحَاسِبُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَوْ كُلُّ أَحَدٍ كَمَا سَبَقَ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ هُوَ فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَمْوَاتًا، وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَالْجَلَاءِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ أَحْياءٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ: بَلْ أَحْسَبُهُمْ أَحْيَاءً. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ إِمَّا خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ صِفَةٌ لِأَحْيَاءٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: عِنْدَ كَرَامَةِ رَبِّهِمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذِهِ عِنْدِيَّةُ الْكَرَامَةِ، لَا عِنْدِيَّةُ الْقُرْبِ. وَقَوْلُهُ: يُرْزَقُونَ يَحْتَمِلُ فِي إِعْرَابِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ هُنَا: هُوَ الرِّزْقُ الْمَعْرُوفُ فِي العادات على ما ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَا سَلَفَ، وَعِنْدَ مَنْ عَدَا الجمهور المراد: الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، وَلَا وَجْهَ يَقْتَضِي تَحْرِيفَ الْكَلِمَاتِ الْعَرَبِيَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَمْلَهَا عَلَى مَجَازَاتٍ بَعِيدَةٍ، لَا لِسَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَرِحِينَ حال من الضمير في يرزقون، وبما آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ: مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَقَرَأَ ابن السميقع: «فَارِحِينَ» وَهُمَا لُغَتَانِ، كَالْفَرِهِ وَالْفَارِهِ، وَالْحَذِرِ وَالْحَاذِرِ.
وَالْمُرَادُ: بِما آتاهُمُ اللَّهُ مَا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكَرَامَةِ بِالشَّهَادَةِ، وَمَا صَارُوا فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ لَمْ يُقْتَلُوا إِذْ ذَاكَ. فَالْمُرَادُ بِاللُّحُوقِ هُنَا: أَنَّهُمْ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْقَتْلِ وَالشَّهَادَةِ، بَلْ سَيَلْحَقُونَ بِهِمْ من بعد، وقيل:
المراد: يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ فَضْلٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْوَاوُ: فِي وَيَسْتَبْشِرُونَ، عَاطِفَةٌ عَلَى يُرْزَقُونَ أَيْ: يُرْزَقُونَ وَيَسْتَبْشِرُونَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِإِخْوَانِهِمْ هُنَا: جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ الشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ثَوَابَ اللَّهِ وَحَصَلَ لَهُمُ الْيَقِينُ بِحَقِّيَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ اسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الذين(1/457)
هُمْ أَحْيَاءٌ لَمْ يَمُوتُوا، وَهَذَا أَقْوَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَوْسَعُ، وَفَائِدَتُهُ أَكْثَرُ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ فُورَكٍ. وَقَوْلُهُ: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بَدَلٌ مِنَ: الَّذِينَ، أَيْ يَسْتَبْشِرُونَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ أَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا حُزْنٌ، وَأَنْ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا: ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمَحْذُوفُ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: يَسْتَبْشِرُونَ لِتَأْكِيدِ الْأَوَّلِ وَلِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِبْشَارَ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، بَلْ بِهِ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ. وَالنِّعْمَةُ: مَا يُنْعِمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ. وَالْفَضْلُ: مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: النِّعْمَةُ: الثَّوَابُ. وَالْفَضْلُ: الزَّائِدُ وَقِيلَ: النِّعْمَةُ: الْجَنَّةُ، وَالْفَضْلُ دَاخِلٌ فِي النِّعْمَةِ، ذُكِرَ بَعْدَهَا لِتَأْكِيدِهَا وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِبْشَارَ الْأَوَّلَ: مُتَعَلِّقٌ بِحَالِ إِخْوَانِهِمْ، وَالِاسْتِبْشَارَ الثَّانِيَ: بِحَالِ أَنْفُسِهِمْ. قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ: أَنَّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِهَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: هُوَ مُسْتَأْنَفُ اعْتِرَاضٍ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى فَضْلٍ، دَاخِلَةٌ فِي جُمْلَةِ مَا يَسْتَبْشِرُونَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ، أَوْ: مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ، أَوْ: هُوَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ بِجُمْلَتِهِ، أَوْ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقَرْحِ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا: نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَجَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ عَلَيْهِ: لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِهِمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ: رَكْبُ عَبْدِ الْقَيْسِ الَّذِينَ مَرُّوا بِأَبِي سُفْيَانَ وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَزادَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، بَقَالَ، أَوْ إِلَى الْمَقُولِ، وَهُوَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ أَوْ إِلَى الْقَائِلِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَفْشَلُوا لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ وَلَا الْتَفَتُوا إِلَيْهِ، بَلْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ، وَازْدَادُوا طُمَأْنِينَةً وَيَقِينًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَوْلُهُ: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ حَسْبُ: مَصْدَرُ حَسَبَهُ، أَيْ: كَفَاهُ، وَهُوَ بمعنى الفاعل، أي: محسب: بمعنى كافي.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُحْسِبِ: أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ حَسْبُكَ، فَتَصِفُ بِهِ النَّكِرَةَ، لِأَنَّ إِضَافَتَهُ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ غَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ. انْتَهَى. وَالْوَكِيلُ: هُوَ مَنْ تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، أَيْ: نِعْمَ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ أَمْرُنَا، أَوِ الْكَافِي، أَوِ الْكَافِلُ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: نِعْمَ الْوَكِيلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: فَانْقَلَبُوا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ، هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا.
وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: رَجَعُوا مُتَلَبِّسِينَ بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَهِيَ السَّلَامَةُ مِنْ عَدُوِّهُمْ وَعَافِيَةٍ وَفَضْلٍ أَيْ: أَجْرٍ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: رِبْحٌ فِي التِّجَارَةِ وَقِيلَ: النِّعْمَةُ خَاصَّةً بِمَنَافِعِ الدنيا، والفضل بمنافع الآخرة، وقد تقدّم تفسيرهما قَرِيبًا بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَقَامَ، لِكَوْنِ الْكَلَامِ فِيهِ مَعَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قَدْ صَارُوا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْكَلَامُ هُنَا مَعَ الْأَحْيَاءِ. قَوْلُهُ: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ:
سَالِمِينَ عَنْ سُوءٍ، لَمْ يُصِبْهُمْ قَتْلٌ، وَلَا جَرْحٌ، وَلَا مَا يَخَافُونَهُ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ فِي مَا يَأْتُونَ وَيَذْرُوَنَ، وَمِنْ ذَلِكَ: خُرُوجُهُمْ لِهَذِهِ الْغَزْوَةِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ وَلَا يَبْلُغُ مَدَاهُ، وَمِنْ تَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ:(1/458)
تَثْبِيتُهُمْ، وَخُرُوجُهُمْ لِلِقَاءِ عَدُوِّهِمْ، وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ الَّتِي هِيَ جَالِبَةٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَدَافِعَةٌ لِكُلِّ شَرٍّ. قَوْلُهُ: إِنَّما ذلِكُمُ أَيِ: الْمُثَبِّطُ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الشَّيْطانُ هُوَ خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ صِفَةً لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ:
يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، أَوْ حَالِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا: الشَّيْطَانُ نَفْسُهُ، بِاعْتِبَارِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الوسوسة المقتضية للتثبيط وقيل: المراد به: نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا قَالَ لَهُمْ تِلْكَ الْمَقَالَةَ وَقِيلَ: أَبُو سُفْيَانَ لَمَّا صَدَرَ مِنْهُ الْوَعِيدُ لَهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ:
أَوْلِياءَهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ أَوْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَرَدَّهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بِأَنَّ التَّخْوِيفَ قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ وَمَنْ مَعَهُ: يَكُونُ مَفْعُولُ يُخَوِّفُ مَحْذُوفًا، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا، وَالثَّانِي مَذْكُورًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُمُ الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَلَا حَذْفَ. قَوْلُهُ: فَلا تَخافُوهُمْ أَيْ: أَوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ يُخَوِّفُكُمْ بِهِمُ الشَّيْطَانُ، أَوْ: فَلَا تَخَافُوا النَّاسَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ يَخَافُوهُمْ، فَيَجْبُنُوا عَنِ اللِّقَاءِ، وَيَفْشَلُوا عَنِ الْخُرُوجِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَخَافُوهُ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: وَخافُونِ فَافْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ، وَاتْرُكُوا مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، لِأَنِّي الْحَقِيقُ بِالْخَوْفِ مِنِّي، وَالْمُرَاقَبَةِ لِأَمْرِي وَنَهْيِي، لِكَوْنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِيَدِي، وَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي حَمْزَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَتْلَى أُحُدٍ وَحَمْزَةُ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا» ، وَفِي لَفْظٍ: «قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنَكِلُوا عَنِ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَبَاهُ سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ وَرَاءَهُ مَا هُوَ فِيهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهُوَ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قَتْلَى أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَتْلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْآيَةُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ لَفْظِهَا يَدْخُلُ تَحْتَهَا كُلُّ شَهِيدٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ، وَثَبَتَ فِي فَضْلِ الشُّهَدَاءِ مَا يَطُولُ تَعْدَادُهُ، وَيَكْثُرُ إِيرَادُهُ، مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ(1/459)
مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ قَالُوا: لَا مُحَمَّدًا قَتَلْتُمْ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، بِئْسَ مَا صَنَعْتُمُ، ارْجِعُوا، فَسَمِعَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَنَدَبَ الْمُسْلِمِينَ، فَانْتَدَبُوا حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، أَوْ بِئْرَ أَبِي عُتْبَةَ، شَكَّ سُفْيَانُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَرْجِعُ مِنْ قَابِلٍ، فَرَجَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ تُعَدُّ غَزْوَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: يَا ابْنَ أُخْتِي! كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ، الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ نَبِيَّ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ انْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، فَقَالَ: مَنْ يَرْجِعُ فِي أَثَرِهِمْ؟ فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لحمراء الْأَسَدِ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِالرَّجْعَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَقَالُوا: رَجَعْنَا قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ، لَنَكُرَّنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُهُمْ، فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، وَمَرَّ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ: بَلِّغُوا مُحَمَّدًا أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الرَّجْعَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ فَلَمَّا مَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ أَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ:
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مُغَازِيهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ بَدْرًا. فَاحْتَمَلَ الشَّيْطَانُ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ النَّاسِ، فَمَشَوْا فِي النَّاسِ يُخَوِّفُونَهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أُخْبِرَنَا: أَنْ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ اللَّيْلِ، يَرْجُونَ أَنْ يُوَاقِعُوكُمْ. وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا كُتُبُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْقَرْحُ: الْجِرَاحَاتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ لَقُوا أَعْرَابِيًّا، فَجَعَلُوا لَهُ جُعْلًا عَلَى أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا لَهُمْ، فَأَخْبَرَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ هُوَ وَالصَّحَابَةُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، ثُمَّ رَجَعُوا مِنْ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَفِي الْأَعْرَابِيِّ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ: أَنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ مِنْ خُزَاعَةَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَعْنِي: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، أَحَادِيثُ مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَقَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، أَمَانُ كُلِّ خَائِفٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الذِّكْرِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَدَّ غَمُّهُ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، ثُمَّ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَقَالَ:
حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لما أدبر:(1/460)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلُ، فَقَالَ: مَا قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ:
حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسَّمَّعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ؟ ثُمَّ أَمَرَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَقُولُوا:
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قَالَ: النِّعْمَةُ: أَنَّهُمْ سَلِمُوا، وَالْفَضْلُ: أَنَّ عِيرًا مَرَّتْ، وَكَانَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ، فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَرَبِحَ مَالًا، فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْفَضْلُ: مَا أَصَابُوا مِنَ التِّجَارَةِ وَالْأَجْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَمَّا النِّعْمَةُ: فَهِيَ الْعَافِيَةُ، وَأَمَّا الْفَضْلُ: فَالتِّجَارَةُ، وَالسُّوءُ: الْقَتْلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ قَالَ: لَمْ يُؤْذِهِمْ أَحَدٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ قَالَ: أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ قَالَ: يَقُولُ: الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ بِأَوْلِيَائِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: يُعَظِّمُ أَوْلِيَاءَهُ فِي أَعْيُنِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفَ الشَّيْطَانِ، وَلَا يَخَافُ الشَّيْطَانَ إِلَّا وليّ الشيطان.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 180]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
قَوْلُهُ: وَلا يَحْزُنْكَ: قَرَأَ نَافِعٌ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالزَّايِ «1» ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، يقال: حزنني الأمر وأحزنني، والأول أفصح. وقرأ طلحة: يُسارِعُونَ قِيلَ: هُمْ قَوْمٌ ارْتَدُّوا، فَاغْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِذَلِكَ، فَسَلَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَنَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ: بِأَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شيئا، وإنما ضروا أنفسهم، بأن لاحظ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَقِيلَ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَقِيلَ: هو عام في جميع الكفار. قال
__________
(1) . قال محقق تفسير القرطبي [4/ 284] : الصواب بضم الياء وكسر الزاي. قلنا: وهذا يوافق قراءة نافع.(1/461)
الْقُشَيْرِيُّ: وَالْحُزْنُ عَلَى كُفْرِ الْكَافِرِ طَاعَةٌ، وَلَكِنَّ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ يُفْرِطُ فِي الْحُزْنِ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «1» فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «2» وعدى يسارعون بِفِي دُونَ إِلَى، لِلدَّلَالَةِ: عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَقِرُّونَ فِيهِ مُدِيمُونَ لِمُلَابَسَتِهِ، وَمِثْلُهُ: يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُفْرَهُمْ لَا يُنْقِصُ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ شَيْئًا وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَنْ يَضُرُّوا أَوْلِيَاءَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: لَنْ يَضُرُّوا دِينَهُ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَشَيْئًا: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: بِشَيْءٍ. وَالْحَظُّ: النَّصِيبُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: رَجُلٌ حَظِيظٌ، إِذَا كَانَ ذَا حَظٍّ مِنَ الرِّزْقِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْجَنَّةِ، أَوْ نَصِيبًا مِنَ الثَّوَابِ، وَصِيغَةُ الِاسْتِقْبَالِ: للدالة عَلَى دَوَامِ الْإِرَادَةِ وَاسْتِمْرَارِهَا وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بِسَبَبِ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ، فَكَانَ ضَرَرُ كُفْرِهِمْ عَائِدًا عَلَيْهِمْ، جَالِبًا لَهُمْ عَدَمَ الْحَظِّ فِي الْآخِرَةِ، وَمَصِيرَهُمْ فِي الْعَذَابِ الْعَظِيمِ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ أَيِ: اسْتَبْدَلُوا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً مَعْنَاهُ:
كَالْأَوَّلِ، وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَهُ وَقِيلَ: إِنَّ الْأَوَّلَ: خَاصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالثَّانِي يَعُمُّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَغَيْرُهُمَا:
يَحْسَبَنَّ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِالْفَوْقِيَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأُولَى: لَا يَحْسَبَنَّ الْكَافِرُونَ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ بِطُولِ الْعُمْرِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ، أَوْ بِمَا أَصَابُوا مِنَ الظَّفَرِ يَوْمَ أُحُدٍ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ:
إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ! أَنَّ الْإِمْلَاءَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا بِمَا ذُكِرَ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ، وَنَازِلٌ بِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمْلَاءَ الَّذِي نُمْلِيهِ لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. فَالْمَوْصُولُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَأَنَّمَا نُمْلِي وَمَا بَعْدَهُ: سَادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ الْحُسْبَانِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، أَوْ سَادٌّ مَسَدَّ أَحَدِهِمَا، وَالْآخَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْأَخْفَشِ. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: فَقَالَ الزَّجَّاجُ:
إِنَّ الْمَوْصُولَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّمَا وَمَا بَعْدَهَا: بَدَلٌ مِنَ الْمَوْصُولِ، سَادٌّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَنَّمَا وَمَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِي، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ: خَيْرًا، بِالنَّصْبِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَحْسَبَنَّ إِمْلَاءَ الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّهُ يُقَدَّرُ تَكْرِيرُ الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ، فَسَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ صَحَّ مَجِيءُ الْبَدَلِ وَلَمْ يُذْكَرْ إِلَّا أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِفِعْلِ الْحُسْبَانِ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ؟ قُلْتُ: صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّعْوِيلَ عَلَى الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمُنَحَّى، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ جَعَلْتَ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ مَعَ امْتِنَاعِ سُكُوتِكَ عَلَى مَتَاعِكَ. انْتَهَى. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: أَنَّما نُمْلِي بِكَسْرِ إِنَّ فِيهِمَا، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ بِاعْتِبَارِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُبَيِّنَةٌ لِوَجْهِ الْإِمْلَاءِ لِلْكَافِرِينَ. وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ: لِأَنَّهُ سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار
__________
(1) . فاطر: 8.
(2) . الكهف: 6.(1/462)
الْكُفَّارِ، وَيَجْعَلُ عَيْشَهُمْ رَغْدًا لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَسَمِعْتُ الْأَخْفَشَ يَذْكُرُ كَسْرَ أَنَّما نُمْلِي الْأُولَى وَفَتْحَ الثَّانِيَةِ، وَيَحْتَجُّ بِذَلِكَ لِأَهْلِ الْقَدَرِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ ازْدِيَادَ الْإِثْمِ عِلَّةٌ، وما كل علة بعرض، ألا ترك تَقُولُ: قَعَدْتُ عَنِ الْغَزْوِ لِلْعَجْزِ وَالْفَاقَةِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَعْرِضُ لَكَ، وَإِنَّمَا هِيَ عِلَلٌ وَأَسْبَابٌ. قَوْلُهُ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ.
وَالْخِطَابُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَتْرُكَكُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ حَتَّى يَمِيزَ بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ: مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أَوْلَادَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ! عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَمِيزَ بَيْنَكُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ. وَقُرِئَ يَمِيزَ بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُخَفَّفِ، مِنْ: مَازَ الشَّيْءَ، يَمِيزُهُ، مَيْزًا «1» : إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ أَشْيَاءَ قِيلَ: مَيَّزَهُ تَمْيِيزًا وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حَتَّى تُمَيِّزُوا بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ، فَإِنَّهُ الْمُسْتَأْثِرُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ، يَجْتَبِيهِ فَيُطْلِعَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْبِهِ، فَيُمَيِّزَ بَيْنَكُمْ، كَمَا وَقَعَ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنْ تَعْيِينِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ لَهُ، لَا بِكَوْنِهِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ فِي مَنْ يَسْتَحِقُّ النُّبُوَّةَ، حَتَّى يَكُونَ الْوَحْيُ بِاخْتِيَارِكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أَيْ: يَخْتَارُ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ. قَوْلُهُ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيِ: افْعَلُوا الْإِيمَانَ الْمَطْلُوبَ مِنْكُمْ، وَدَعُوا الِاشْتِغَالَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِكُمْ مِنَ التَّطَلُّعِ لِعِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا بِمَا ذُكِرَ وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ، وَلَا يُبْلَغُ كُنْهُهُ. قَوْلُهُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ الْمَوْصُولُ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ الْفِعْلِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ. قَالَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءُ. قَالُوا:
وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ
أَيْ: جَرَى إِلَى السَّفَهِ، فَالسَّفِيهُ دَلَّ عَلَى السَّفَهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْفَوْقِيَّةِ: فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ! بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا لَهُمْ. قال الزجاج: هو مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، وَالضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ: هُوَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَالسِّينُ فِي قَوْلِهِ:
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ سِينُ الْوَعِيدِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ قِيلَ: وَمَعْنَى
__________
(1) . هذا التصريف هو للفعل المخفف يميز.(1/463)
التَّطْوِيقِ هُنَا: أَنَّهُ يَكُونُ مَا بَخِلُوا بِهِ مِنَ الْمَالِ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ سَيَحْمِلُونَ عِقَابَ مَا بَخِلُوا بِهِ فَهُوَ مِنَ الطَّاقَةِ وَلَيْسَ مِنَ التَّطْوِيقِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ أَعْمَالَهُمْ كَمَا يَلْزَمُ الطَّوْقُ الْعُنُقَ، يُقَالُ: طَوَّقَ فُلَانٌ عَمَلَهُ طَوْقَ الْحَمَامَةِ، أَيْ: أُلْزِمَ جَزَاءَ عَمَلِهِ وَقِيلَ: إِنَّ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ مِنَ الْمَالِ يُمَثَّلُ لَهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ، حَتَّى يُطَوَّقَ بِهِ فِي عُنُقِهِ. كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْبُخْلُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَمْنَعَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ الْوَاجِبَ، فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ. قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: لَهُ وَحْدَهُ لَا لِغَيْرِهِ، كَمَا يُفِيدُهُ التَّقْدِيمُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَهُ مَا فِيهِمَا مِمَّا يَتَوَارَثُهُ أَهْلُهَا فَمَا بَالُهُمْ يَبْخَلُونَ بِذَلِكَ وَلَا يُنْفِقُونَهُ وَهُوَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَا لَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ عَارِيَةً مُسْتَرَدَّةً وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها «1» وقوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «2» ، وَالْمِيرَاثُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ مَالِكٍ إِلَى آخَرَ، وَلَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِذَلِكَ الْآخَرِ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ، وَمَعْلُومٌ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ بِالْحَقِيقَةِ لِجَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا مِنَ الْحَيَاةِ إِنْ كَانَ بَرًّا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ «3» وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا، فَقَدْ قَالَ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالُوا: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَلْيُخْبِرْنَا بِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَّا وَمَنْ يَكْفُرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَمِيزُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَمِيزُ بَيْنَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ قَالَ:
وَلَا يُطْلَعُ عَلَى الْغَيْبِ إِلَّا رَسُولٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر، وابن أبي حاتم عن مُجَاهِدٍ:
وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي قَالَ: يَخْتَصُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَسْتَخْلِصُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ بَخِلُوا أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ يَهُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَخِلُوا أَنْ يُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: لَمْ يُؤَدُّوا زَكَاتَهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مثل له يوم القيامة شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني:
شدقيه- فَيَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ» وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَرْفَعُونَهَا.
__________
(1) . مريم: 40. [.....]
(2) . الحديد: 7.
(3) . آل عمران: 198.(1/464)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 184]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» قال قوم من اليهود: [إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا، وإنما قالوا] «2» هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَمْوِيهًا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ لَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، بَلْ أَرَادُوا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ صَحَّ مَا طَلَبَهُ مِنَّا مِنَ الْقَرْضِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ فَقِيرٌ، ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام. وقوله: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا سَنَكْتُبُهُ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ سَنَحْفَظُهُ، أَوْ سَنُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ: الْوَعِيدُ لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَفُوتُ عَلَى اللَّهِ، بَلْ هُوَ مُعَدٌّ لَهُمْ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ. وَجُمْلَةُ سَنَكْتُبُ عَلَى هَذَا: مُسْتَأْنَفَةٌ، جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا صَنَعَ اللَّهُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمِعَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ الشَّنِيعَ؟ فَقَالَ: قَالَ لَهُمْ: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: «سَيُكْتَبُ» بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ: بِرَفْعِ اللَّامِ مِنْ «قَتْلُهُمْ» ، «وَيَقُولُ» :
بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ. قَوْلُهُ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ عَطْفٌ عَلَى مَا قَالُوا، أَيْ: وَنَكْتُبُ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ: أَيْ: قَتْلَ أَسْلَافِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ رَضُوا بِهِ، جَعَلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ قَرِينًا لِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، تَنْبِيهًا: عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعِظَمِ وَالشَّنَاعَةِ بِمَكَانٍ يَعْدِلُ قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ. قَوْلُهُ: وَنَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى سَنَكْتُبُ أَيْ: نَنْتَقِمُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْكِتَابَةِ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي نَقُولُهُ لَهُمْ فِي النَّارِ، أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ، أَوْ عِنْدَ الْحِسَابِ. وَالْحَرِيقُ: اسْمٌ لِلنَّارِ الْمُلْتَهِبَةِ، وَإِطْلَاقُ الذَّوْقِ عَلَى إِحْسَاسِ الْعَذَابِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ بَلِيغَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَيُقَالُ ذُوقُوا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَأَشَارَ إِلَى الْقَرِيبِ بِالصِّيغَةِ الَّتِي يُشَارُ بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته فِي الْفَظَاعَةِ، وَذِكْرِ الْأَيْدِي لِكَوْنِهَا الْمُبَاشِرَةَ لِغَالِبِ الْمَعَاصِي. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ معطوف على بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَوُجِّهَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَذَّبَهُمْ بِمَا أَصَابُوا مِنَ الذَّنْبِ، وَجَازَاهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا، أَوْ بِمَعْنَى: أَنَّهُ مَالِكُ الْمُلْكِ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَيْسَ بِظَالِمٍ لِمَنْ عَذَّبَهُ بِذَنْبِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ وَجْهَهُ: أَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَدْلِ الْمُقْتَضِي لِإِثَابَةِ الْمُحْسِنِ وَمُعَاقَبَةِ الْمُسِيءِ، وَرَدَّ:
بِأَنَّ تَرْكَ التَّعْذِيبِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، لَيْسَ بِظُلْمٍ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَقِيلَ: إِنَّ جُمْلَةَ قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَالْأَمْرُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَالتَّعْبِيرُ بِذَلِكَ عَنْ نَفْيِ الظُّلْمِ مَعَ أَنَّ تَعْذِيبَهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ لَيْسَ بِظُلْمٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ ظُلْمًا بَالِغًا: لِبَيَانِ تَنَزُّهِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَنَفْيُ ظَلَّامٍ الْمُشْعِرِ بِالْكَثْرَةِ: يُفِيدُ ثُبُوتَ أَصْلِ الظُّلْمِ. وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الَّذِي تَوَعَّدَ بأن
__________
(1) . البقرة: 245.
(2) . ما بين الحاصرتين مستدرك من القرطبي [4/ 294] .(1/465)
يَفْعَلَهُ بِهِمْ لَوْ كَانَ ظُلْمًا لَكَانَ عَظِيمًا، فَنَفَاهُ عَلَى حَدِّ عِظَمِهِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا. قَوْلُهُ: الَّذِينَ قالُوا هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: وَقِيلَ: نَعْتٌ لِلْعَبِيدِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ جَرِّ بَدَلٍ مِنْ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ هُنَا، وَالْقَائِلُونَ هَؤُلَاءِ: هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا الْمَقُولُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِالْقُرْبَانِ، هُوَ مِنْ جُمْلَةِ دَعَاوِيهِمُ الْبَاطِلَةِ. وَقَدْ كَانَ دَأْبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَرِّبُونَ الْقُرْبَانَ، فَيَقُومُ النَّبِيُّ فَيَدْعُو، فَتَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَحْرِقُهُ، وَلَمْ يَتَعَبَّدِ اللَّهُ بِذَلِكَ كُلَّ أَنْبِيَائِهِ، وَلَا جَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ مِنَ الْقُرْبَانِ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ كَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَشِعْيَاءَ، وَسَائِرِ مَنْ قُتِلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْقُرْبَانُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ نَسِيكَةٍ وَصَدَقَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَهُوَ فُعْلَانٌ مِنَ الْقُرْبَةِ.
ثُمَّ سلى الله رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ. وَالزُّبُرِ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ: الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْمُضِيءِ، يُقَالُ: نَارَ الشَّيْءَ، وَأَنَارَ، وَنَوَّرَهُ، وَاسْتَنَارَهُ، بِمَعْنًى.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ أبو بكر بيت المدارس فَوَجَدَ يَهُودَ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: فِنْحَاصُ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيْحَكَ يَا فِنْحَاصُ! اتَّقِ الله وأسلم، فو الله إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالَ فِنْحَاصُ: وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا بِنَا إِلَى اللَّهِ مِنْ فَقْرٍ وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ، وَمَا نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْنَا وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنَّا مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا وَيُعْطِينَا، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنَّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصٍ ضَرْبَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ:
لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! انْظُرْ مَا صَنَعَ صَاحِبُكَ بِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، يَزْعُمُ: أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَأَنَّهُمْ عَنْهُ أَغْنِيَاءُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، غَضِبْتُ لِلَّهِ مِمَّا قَالَ، فَضَرَبْتُ وَجْهَهُ، فَجَحَدَ فِنْحَاصُ فَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ تَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا الْآيَةَ، وَنَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَبِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «1» الآية. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَخْرَجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ بِأَخْصَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «2» فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَفَقِيرٌ رَبُّكَ يَسْأَلُ عِبَادَهُ الْقَرْضَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْقَائِلَ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ بَدْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وهم لم يدركوا
__________
(1) . آل عمران: 186.
(2) . البقرة: 245.(1/466)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
ذَلِكَ، قَالَ: بِمُوَالَاتِهِمْ مَنْ قَتَلَ الْأَنْبِيَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ قَالَ: مَا أَنَا بِمُعَذِّبٍ مَنْ لَمْ يَجْتَرِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قَالَ: يَتَصَدَّقُ الرَّجُلُ مِنَّا، فَإِذَا تُقُبِّلَ مِنْهُ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا قَالَ: كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ قَالَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالزُّبُرِ قَالَ: كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ قال: هو القرآن.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 185 الى 189]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
قَوْلُهُ: ذائِقَةُ مِنَ الذَّوْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً «1» يَمُتْ هَرِمًا ... الْمَوْتُ كَأْسٌ وَالْمَرْءُ ذَائِقُهَا
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ لِلْمُصَدِّقِ وَالْمُكَذِّبِ بَعْدَ إِخْبَارِهِ عَنِ الْبَاخِلِينَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: ذائِقَةُ الْمَوْتِ بِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ الْمَوْتِ. وقرأ الجهور بالإضافة. قوله: إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَجْرُ الْمُؤْمِنِ: الثَّوَابُ، وَأَجْرُ الْكَافِرِ: الْعِقَابُ، أَيْ: أَنَّ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ وَتَكْمِيلَهَا إِنَّمَا تَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا يَقَعُ مِنَ الْأُجُورِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْبَرْزَخِ فَإِنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْأُجُورِ. وَالزَّحْزَحَةُ: التَّنْحِيَةُ، وَالْإِبْعَادُ: تَكْرِيرُ الزَّحِّ وَهُوَ الْجَذْبُ بِعَجَلَةٍ، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، أَيْ: فَمَنْ بَعُدَ عَنِ النَّارِ يَوْمَئِذٍ وَنُحِّيَ فَقَدْ فَازَ، أَيْ ظَفَرَ بِمَا يُرِيدُ وَنَجَا مِمَّا يَخَافُ، وَهَذَا هُوَ الْفَوْزُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَا فَوْزَ يُقَارِبُهُ، فَإِنَّ كُلَّ فَوْزٍ وَإِنْ كَانَ بِجَمِيعِ الْمَطَالِبِ دُونَ الْجَنَّةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. اللَّهُمَّ لَا فَوْزَ إِلَّا فَوْزُ الْآخِرَةِ، وَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُهَا، وَلَا نَعِيمَ إِلَّا نَعِيمُهَا، فَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا، وَارْضَ عَنَّا رِضًا لَا سُخْطَ بَعْدَهُ، وَاجْمَعْ لَنَا بَيْنَ الرِّضَا مِنْكَ عَلَيْنَا وَالْجَنَّةِ. وَالْمَتَاعُ: مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ ثُمَّ يَزُولُ وَلَا يَبْقَى، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. الْغُرُورُ: الشَّيْطَانُ يغرّ الناس بالأماني الباطلة
__________
(1) . «مات عبطة» : أي شابا صحيحا.(1/467)
وَالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ، شَبَّهَ سُبْحَانَهُ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى مَنْ يُرِيدُهُ، وَلَهُ ظَاهِرٌ مَحْبُوبٌ وَبَاطِنٌ مَكْرُوهٌ.
قَوْلُهُ: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ هَذَا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ تَسْلِيَةً لَهُمْ عَمَّا سَيَلْقَوْنَهُ مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ، لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ. وَالِابْتِلَاءُ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، وَالْمَعْنَى:
لَتُمْتَحَنُنَّ، وَلَتُخْتَبَرُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ بِالْمَصَائِبِ، وَالْإِنْفَاقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْوَالِ.
وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ: بِالْمَوْتِ وَالْأَمْرَاضِ، وَفَقْدِ الْأَحْبَابِ، وَالْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ الْمُوطِئَةُ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَهُمْ سَائِرُ الطَّوَائِفِ الْكُفْرِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَذىً كَثِيراً مِنَ الطَّعْنِ فِي دِينِكُمْ وَأَعْرَاضِكُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ ذلِكَ إلى الصبر والتقوى المدلول عليها بِالْفِعْلَيْنِ. وَعَزْمُ الْأُمُورِ: مَعْزُومَاتُهَا، أَيْ: مِمَّا يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَعْزِمُوا عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِيَامَ بِهَا، يُقَالُ: عَزَمَ الْأَمْرَ: أَيْ شَدَّهُ وَأَصْلَحَهُ. قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هَذِهِ الْآيَةُ تَوْبِيخٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَوِ الْيَهُودُ فَقَطْ، عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ- وَالظَّاهِرُ:
أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: كُلُّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمَ شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ، أَيِّ كِتَابٍ كَانَ، كَمَا يُفِيدُهُ التَّعْرِيفُ الْجِنْسِيُّ فِي الْكِتَابِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ عَالِمٍ، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَوْلَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَتُبَيِّنُنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنْ يُبَيِّنُوا نُبُوَّتَهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُوهَا فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: «لَيُبَيِّنُنَّهُ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَإِذْ أخذ الله ميثاق النبيّين ليبيّننّه وَيُشْكِلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ: فَنَبَذُوهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَهُ النَّاسُ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَتُبَيِّنُونَهُ» . وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَراءَ ظُهُورِهِمْ مُبَالَغَةٌ فِي النَّبْذِ وَالطَّرْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي أُمِرُوا بِبَيَانِهِ وَنُهُوا عَنْ كِتْمَانِهِ. وَقَوْلُهُ: ثَمَناً قَلِيلًا أَيْ: حَقِيرًا يَسِيرًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَأَعْرَاضِهَا، قَوْلُهُ: فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ مَا: نَكِرَةٌ مَنْصُوبَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفَاعِلِ بِئْسَ، وَيَشْتَرُونَ: صِفَةٌ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِئْسَ شَيْئًا يَشْتَرُونَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ. قَوْلُهُ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ. وَقَوْلُهُ: بِما أَتَوْا أَيْ: بِمَا فَعَلُوا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِكُلِّ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَا تَضَمَّنَتْهُ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ، فَمَنْ فَرِحَ بِمَا فَعَلَ، وَأَحَبَّ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، فَلَا تَحْسَبَنَّهُ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: «لَا يَحْسَبَنَّ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الْفَارِحُونَ فَرَحَهُمْ مُنْجِيًا لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ فَرَحُهُمْ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَوْلُهُ: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تَأْكِيدٌ لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ،(1/468)
وَالْمَفَازَةُ: الْمَنْجَاةُ، مَفْعَلَةٌ، مِنْ: فَازَ، يَفُوزُ، إِذَا نَجَا، أَيْ: لَيْسُوا بِفَائِزِينَ، سُمِّيَ مَوْضِعُ الْخَوْفِ مَفَازَةً عَلَى جِهَةِ التَّفَاؤُلِ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مَوْضِعُ تَفْوِيزٍ وَمَظِنَّةُ هَلَاكٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فَوْزُ الرَّجُلِ: إِذَا مَاتَ. قَالَ ثَعْلَبٌ: حَكَيْتُ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَوْلَ الْأَصْمَعِيِّ فَقَالَ: أَخْطَأَ. قَالَ لِي أَبُو الْمَكَارِمِ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَفَازَةً لِأَنَّ مَنْ قَطَعَهَا فَازَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بَلْ لِأَنَّهُ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا أَصَابَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْفَوْزَ التَّبَاعُدُ عَنِ الْمَكْرُوهِ. وَقَرَأَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَالْأَعْمَشُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: «آتَوْا» بِالْمَدِّ، أَيْ: يَفْرَحُونَ بِمَا أَعْطَوْا. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةُ وَغَيْرُهُمْ: «أَتَوْا» بِالْقَصْرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادٌ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَوْضِعَ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَالَ: هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانَ يُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي شِعْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْمَعُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «1» ، ومن النصارى قولهم: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «2» وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ قَالَ: مِنَ الْقُوَّةِ مِمَّا عَزَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَكُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قَالَ: فِنْحَاصُ، وَأَشْيَعُ، وَأَشْبَاهُهُمَا مِنَ الْأَحْبَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قَالَ: كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي افْتَرَضَهُ عَلَى عِبَادِهِ. وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَنَبَذُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قَالَ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَنْ عَلِمَ علما فليعلمه الناس، وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ كِتْمَانَ الْعِلْمِ هَلَكَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَوْلَا الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِكَثِيرٍ مِمَّا تَسْأَلُونَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكَمَ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ، إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
سألهم النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سألهم عنه
__________
(1) . التوبة: 30.
(2) . التوبة: 30.(1/469)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الغزو، وتخلفوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَزْوِ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ وَأَشْيَعَ وَأَشْبَاهِهِمَا. وَرُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ.
وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ:
«يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: قَدْ نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ بِمَا لَمْ نَفْعَلْ، وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْحَمْدَ، وَنَهَانَا عَنِ الْخُيَلَاءِ، وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْجَمَالَ، وَنَهَانَا أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فَوْقَ صَوْتِكَ، وَأَنَا رَجُلٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ، فَقَالَ: يَا ثَابِتُ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟» فَعَاشَ حَمِيدًا، وَقُتِلَ شَهِيدَا يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: بِمَفازَةٍ قَالَ:
بِمَنْجَاةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 194]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
قَوْلُهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ اخْتِصَاصِهِ سُبْحَانَهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِيهَا. والمراد:
ذات السموات والأرض وصفاتهما وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَيْ: تَعَاقُبِهِمَا، وَكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ، وَكَوْنِ زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا فِي نُقْصَانِ الْآخَرِ، وَتَفَاوُتِهِمَا طُولًا وَقِصَرًا، وَحَرًّا وَبَرْدًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ لَآياتٍ أَيْ: دَلَالَاتٍ وَاضِحَةٍ، وَبَرَاهِينَ بَيِّنَةٍ، تَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ بَعْضِ مَا هُنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَلْبَابِ: أَهْلُ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الخالصة عن شوائب النقص، فإن مجرد التفكر فِيمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَكْفِي الْعَاقِلَ، وَيُوصِلُهُ إِلَى الْإِيمَانِ الَّذِي لَا تُزَلْزِلُهُ الشُّبَهُ، وَلَا تَدْفَعُهُ التَّشْكِيكَاتُ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الْمَوْصُولُ: نَعْتٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ- وَقِيلَ: هُوَ مَفْصُولٌ عَنْهُ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا: ذِكْرُهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِلَى أَنَّ الذِّكْرَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، أَيْ: لَا يُضَيِّعُونَهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيُصَلُّونَهَا قِيَامًا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ، وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ مَعَ الْعُذْرِ. قَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَذْكُرُونَ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَالِ، أَعْنِي: قِياماً وَقُعُوداً وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِي بَدِيعِ صنعهما، واتقانهما، مع عظم أجرامهما، فَإِنَّ هَذَا الْفِكْرَ إِذَا كَانَ صَادِقًا أَوْصَلَهُمْ إلى الإيمان(1/470)
بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولُونَ مَا خَلَقْتَ هَذَا عَبَثًا وَلَهْوًا، بَلْ خَلَقْتَهُ دَلِيلًا عَلَى حِكْمَتِكَ وَقُدْرَتِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ الذَّاهِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ «1»
.......
وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: خَلْقًا بَاطِلًا وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَقِيلَ:
هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَخَلَقَ: بِمَعْنَى جَعَلَ، أَوْ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، والإشارة بقوله: هذا إلى السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ إِلَى الْخَلْقِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يَكُونَ خَلْقُكَ لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بَاطِلًا. وَقَوْلُهُ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَذَا الدعاء على ما قبله. وقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنِ اسْتِدْعَاءِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَبَيَانٌ لِلسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ دَعَاهُ عِبَادُهُ بِأَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَدْخَلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَاهُ، أَيْ: أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَعْنَى أَخْزَيْتَهُ: أَهْلَكْتَهُ، وَأَنْشَدَ:
أَخْزَى الْإِلَهُ بَنِي الصَّلِيبِ عُنَيْزَةً «2» ... وَاللَّابِسِينَ مَلَابِسَ الرُّهْبَانِ
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: فَضَحْتَهُ وَأَبْعَدْتَهُ، يُقَالُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ: أَبْعَدَهُ وَمَقَتَهُ، وَالِاسْمُ: الْخِزْيُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
خَزَى، يَخْزِي، خِزْيًا: إِذَا وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ. قَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ الْمُنَادِي عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَوْقَعَ السَّمَاعَ عَلَى الْمُنَادِي مَعَ كَوْنِ الْمَسْمُوعِ هُوَ النِّدَاءُ:
لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ الْمُنَادِيَ بِمَا يُسْمَعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ «يُنَادِي» هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَذَكَرَ يُنَادِي مَعَ أَنَّهُ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مُنادِياً لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِ هَذَا الْمُنَادَى بِهِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْإِيمانِ: بِمَعْنَى إِلَى وَقِيلَ: إِنَّ يُنَادِي يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَبِإِلَى، يُقَالُ يُنَادِي لِكَذَا وَيُنَادِي إِلَى كَذَا، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ: لِأَجْلِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ: أَنْ آمِنُوا هِيَ:
إِمَّا تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَصْلُهَا: بِأَنْ آمِنُوا، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ. قَوْلُهُ: فَآمَنَّا أَيِ: امْتَثَلْنَا مَا يَأْمُرُ بِهِ هَذَا الْمُنَادِي مِنَ الْإِيمَانِ فَآمَنَّا، وَتَكْرِيرُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا لِإِظْهَارِ التَّضَرُّعِ وَالْخُضُوعِ قِيلَ:
الْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ هُنَا: الْكَبَائِرُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ: الصَّغَائِرُ. وَالظَّاهِرُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْآخَرِ بِالْآخَرِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَاحِدًا، وَالتَّكْرِيرُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْغَفْرِ وَالْكُفْرِ: السَّتْرُ. وَالْأَبْرَارُ: جَمْعُ بَارٍّ أَوْ بَرٍّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ، فَكَأَنَّ الْبَارَّ مُتَّسِعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَّسِعَةٌ لَهُ رَحْمَتُهُ، قِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ هَذَا دُعَاءٌ آخَرُ وَالنُّكْتَةُ فِي تَكْرِيرِ النِّدَاءِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَوْعُودُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ هُوَ الثَّوَابُ الَّذِي وعد الله به
__________
(1) . وعجزه: وكلّ نعيم لا محالة زائل.
(2) . في القرطبي (4/ 316) : أخرى الإله من الصّليب عبيده ...(1/471)
أَهْلَ طَاعَتِهِ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَهُوَ لَفْظُ الألسن، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ التَّصْدِيقُ، أَيْ: مَا وَعَدْتَنَا عَلَى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ وَقِيلَ: مَا وَعَدْتَنَا مُنَزَّلًا عَلَى رُسُلِكَ، أَوْ مَحْمُولًا عَلَى رُسُلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَصُدُورُ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْهُمْ- مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ-، إِمَّا لِقَصْدِ التَّعْجِيلِ، أَوْ: لِلْخُضُوعِ بِالدُّعَاءِ، لِكَوْنِهِ مُخَّ الْعِبَادَةِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا خُلْفَ الْوَعْدِ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ فَقَالُوا: مَا جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ؟ قَالُوا عَصَاهُ وَيَدُهُ بَيْضَاءَ لِلنَّاظِرِينَ، وَأَتَوُا النَّصَارَى فَقَالُوا: كَيْفَ كَانَ عِيسَى فِيكُمْ؟ قَالُوا: كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ، وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى، فَأَتَوُا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَدَعَا رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ النوم عن وجهه بيده، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ حَتَّى خَتَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ فِي الصَّلَاةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ قَائِمًا فَقَاعِدًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَاعِدًا فَعَلَى جَنْبِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَتْ بِي بواسير، فسألت النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . وَثَبَتَ فِيهِ عَنْهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عن صلاة الرجل وهو قاعد قال: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذِهِ حَالَاتُكَ كُلُّهَا يَا ابْنَ آدَمَ، اذْكُرِ اللَّهَ وَأَنْتَ قَائِمٌ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاذْكُرْهُ جالسا، فإن لم تستطع فَاذْكُرْهُ وَأَنْتَ عَلَى جَنْبِكَ، يُسْرٌ مِنَ اللَّهِ وَتَخْفِيفٌ.
وَأَقُولُ: هَذَا التَّقْيِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ تَعْمِيمِ الذِّكْرِ لَا وَجْهَ لَهُ، لَا مِنَ الْآيَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الذِّكْرُ مِنْ قُعُودٍ إِلَّا مَعَ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الذِّكْرِ مِنْ قِيَامٍ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى جَنْبٍ إِلَّا مَعَ عَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ مِنْ قُعُودٍ. وَإِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا التَّقْيِيدُ لِمَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا الصَّلَاةَ، كَمَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي التَّفَكُّرِ عَنْ سُفْيَانَ رَفَعَهُ: «مَنْ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا وَيْلَهُ، فَعَدَّ أَصَابِعَهُ عَشْرًا» . قِيلَ لِلْأَوْزَاعِيِّ: مَا غَايَةُ التَّفَكُّرِ فِيهِنَّ؟ قَالَ: يَقْرَؤُهُنَّ وَهُوَ يَعْقِلُهُنَّ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ عَنِ السَّلَفِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّفَكُّرِ مُطْلَقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال: من
__________
(1) . يوسف: 82.(1/472)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
تُخَلِّدْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الْآيَةِ قَالَ:
هَذِهِ خَاصَّةٌ بِمَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي عُمْرَةٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ أَنَا وَعَطَاءٌ فَقُلْتُ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُمُ الْكُفَّارُ، قُلْتُ لِجَابِرٍ: فَقَوْلُهُ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قَالَ: وَمَا أَخْزَاهُ حِينَ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ خِزْيًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: هُوَ الْقُرْآنُ، لَيْسَ كُلَّ أَحَدٍ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ قَالَ: يستجزون مَوْعِدَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ قال: لا تفضحنا.
[سورة آل عمران (3) : آية 195]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
قَوْلُهُ: فَاسْتَجابَ الِاسْتِجَابَةُ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ وَقِيلَ: الإجابة عامة، والاستجابة خاصة بإعطاء المسؤول، وَهَذَا الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِاللَّامِ، يُقَالُ: اسْتَجَابَهُ، وَاسْتَجَابَ لَهُ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ وَقِيلَ: عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: دَعَوْا بِهَذِهِ الْأَدْعِيَةِ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ وَقِيلَ: عَلَى قَوْلِهِ: وَيَتَفَكَّرُونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الِاسْتِجَابَةَ وَمَا بَعْدَهَا فِي جُمْلَةِ مَا لَهُمْ مِنَ الْأَوْصَافِ الْحَسَنَةِ: لِأَنَّهَا مِنْهُ، إِذْ مَنْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ فَقَدْ رُفِعَتْ دَرَجَتُهُ.
قَوْلُهُ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أَيْ: بِأَنِّي، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عَمْرٍو: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: بِثُبُوتِ الْبَاءِ، وَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْإِضَاعَةِ: تَرْكُ الْإِثَابَةِ. قَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى مِنْ: بَيَانِيَّةٌ، وَمُؤَكِّدَةٌ لِمَا تَقْتَضِيهِ النَّكِرَةُ الْوَاقِعَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنَ الْعُمُومِ. قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ: رِجَالُكُمْ مِثْلُ نِسَائِكُمْ فِي الطَّاعَةِ، وَنِسَاؤُكُمْ مِثْلُ رِجَالِكُمْ فِيهَا، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، لِبَيَانِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ تَشَعُّبِهِمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: فَالَّذِينَ هاجَرُوا الْآيَةَ، هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ أَيْ: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ أَوْطَانِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقاتَلُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَقُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: وَقُتِلُوا عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَقَتَلُوا وَقَاتَلُوا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَصَابَى وَأَمْسَى عَلَاهُ الْكِبَرْ أَيْ: قَدْ عَلَاهُ الْكِبَرُ، وَأَصْلُ الْوَاوِ: لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بِلَا تَرْتِيبٍ، كَمَا قَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُمْ(1/473)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قَاتَلُوا وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أَيْ: بِسَبَبِهِ، وَالسَّبِيلُ: الدِّينُ الْحَقُّ. وَالْمُرَادُ هُنَا: مَا نَالَهُمْ مِنَ الْأَذِيَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ، وَعَمَلِهِمْ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ. وَقَوْلُهُ: لَأُكَفِّرَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَقَوْلُهُ: ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ عِنْدَ البصريين، لأن معنى قوله: لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ لَأُثِيبَنَّهُمْ ثَوَابًا، أَيْ: إِثَابَةً أَوْ تَثْوِيبًا كَائِنًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ عَلَى التَّفْسِيرِ: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أَيْ:
حُسْنُ الْجَزَاءِ، وَهُوَ مَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ جَزَاءِ عَمَلِهِ، مِنْ: ثَابَ، يَثُوبُ: إِذَا رَجَعَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إِلَّا نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ» فَذُكِرَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إِلَى آخِرِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْهِجْرَةِ أَحَادِيثُ كثيرة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200]
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قَوْلُهُ: لَا يَغُرَّنَّكَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ: تَثْبِيتُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، [والمراد الأمة] «1» كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أو: خطاب لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِقُبْحِ حَالِ الْكُفَّارِ بَعْدَ ذِكْرِ حُسْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى: لَا يَغُرَّنَّكَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ تَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ بِالْأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ الَّتِي يَتَوَسَّعُونَ بِهَا فِي مَعَاشِهِمْ، فَهُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ثُمَّ مَصِيرُهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فَقَوْلُهُ: مَتاعٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ لَا اعْتِدَادَ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثواب الله سبحانه: ثُمَّ مَأْواهُمْ أَيْ: مَا يَأْوُونَ إِلَيْهِ. وَالتَّقَلُّبُ فِي الْبِلَادِ:
الِاضْطِرَابُ فِي الْأَسْفَارِ إِلَى الْأَمْكِنَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ «2» والمتاع: ما يعجل
__________
(1) . ما بين الحاصرتين مستدرك من تفسير القرطبي [4/ 319] .
(2) . غافر: 4. [.....](1/474)
الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَسَمَّاهُ: قَلِيلًا، لِأَنَّهُ فَانٍ، وَكُلُّ فَانٍ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيلٌ. وَقَوْلُهُ: وَبِئْسَ الْمِهادُ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي جَهَنَّمَ بِكُفْرِهِمْ، أَوْ: مَا مَهَّدَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّارِ، فَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ: وَهُوَ هَذَا الْمُقَدَّرُ. قَوْلُهُ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ هُوَ اسْتِدْرَاكٌ مِمَّا تَقَدَّمَهُ، لأن معناه النَّفْيِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ كَثِيرُ انْتِفَاعٍ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا لَهُمُ الِانْتِفَاعُ الْكَثِيرُ، وَالْخُلْدُ الدَّائِمُ. وَقَرَأَ يَزِيدُ ابن الْقَعْقَاعِ: لَكِنَّ، بِتَشْدِيدِ النُّونِ. قَوْلُهُ: نُزُلًا مَصْدَرٌ مؤكد عن الْبَصْرِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ثَواباً وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ مِثْلَ مَا قَالَا فِي: ثَوَابًا، وَالنُّزُلُ: مَا يُهَيَّأُ لِلنَّزِيلِ، وَالْجَمْعُ أَنَزَالٌ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا أَعَدَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ مِنَ الرِّبْحِ فِي الْأَسْفَارِ، فَإِنَّهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، عَنْ قَرِيبٍ يَزُولُ. قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُمْ حَظٌّ مِنَ الدِّينِ، وَلَيْسُوا كَسَائِرِهِمْ فِي فَضَائِحِهِمُ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا سَبَقَ، وَفِيمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ هَذَا الْبَعْضَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ: خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ أَيْ: يَسْتَبْدِلُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، كَمَا يَفْعَلُهُ سَائِرُهُمْ، بَلْ يَحْكُونَ كُتُبَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا هِيَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ حَيْثُ اتِّصَافِهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ لَهُمْ أَجْرُهُمْ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ يُفِيدُ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْأَجْرِ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال. قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا إِلَخْ. هَذِهِ الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ خَتَمَ بِهَا هَذِهِ السُّورَةَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَصَايَا الَّتِي جَمَعَتْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَحَضَّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالصَّبْرُ: الْحَبْسُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ. وَالْمُصَابَرَةُ مُصَابَرَةُ الْأَعْدَاءِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَيْ: غَالِبُوهُمْ فِي الصَّبْرِ على شدائد الحرب، وَخَصَّ الْمُصَابَرَةَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الصَّبْرَ: لِكَوْنِهَا أَشَدَّ مِنْهُ وَأَشَقَّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى صَابِرُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَقِيلَ: صَابِرُوا الْأَنْفُسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا وقيل: صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
فَلَمْ أَرَ حَيًّا صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا ... وَلَا كَافَحُوا مِثْلَ الَّذِينَ نُكَافِحُ
أَيْ: صَابَرُوا الْعَدُوَّ فِي الْحَرْبِ. قَوْلُهُ: وَرابِطُوا أَيْ: أَقِيمُوا فِي الثُّغُورِ رَابِطِينَ خَيْلَكُمْ فِيهَا، كَمَا يَرْبُطُهَا أعداؤكم، هذا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ هَذَا، وَالرِّبَاطُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ، ولا ينافيه تسميته صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِغَيْرِهِ رِبَاطًا كَمَا سَيَأْتِي. وَيُمْكِنُ إِطْلَاقُ الرِّبَاطِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَعَلَى انْتِظَارِ الصَّلَاةِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الرِّبَاطُ مُلَازَمَةُ الثُّغُورِ وَمُوَاظَبَةُ الصَّلَاةِ، هَكَذَا قَالَ: وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.
وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ: مَاءٌ مُتَرَابِطٌ: دَائِمٌ لَا يَبْرَحُ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَعْدِيَةَ الرِّبَاطِ إِلَى غَيْرِ ارْتِبَاطِ الْخَيْلِ فِي الثُّغُورِ. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ فَلَا تُخَالِفُوا مَا شَرَعَهُ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ:(1/475)
تَكُونُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَائِزِينَ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ، وَهُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا تَقَلُّبُ لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَبِئْسَ الْمِهَادُ: أَيْ: بِئْسَ الْمَنْزِلُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي في قوله: تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ قَالَ: ضَرْبُهُمْ فِي الْبِلَادِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ أَبْرَارًا: لِأَنَّهُمْ بَرُّوا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ، كَمَا أَنَّ لِوَالِدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، كَذَلِكَ لولدك عليك حقا. وأخرج ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ لِمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ قال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَيْهِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! نصلي على عبد حبشي؟
فأنزل الله وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: انْظُرُوا إِلَى هَذَا، يَعْنِي: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى عِلْجٍ نَصْرَانِيٍّ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَالَّذِينَ اتبعوا محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابِطُونَ فِيهِ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يَعْمُرُونَ الْمَسَاجِدَ، يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَصَابِرُوا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدْتُكُمْ، وَرَابِطُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ تَفَاسِيرِ السَّلَفِ غَيْرُ هَذَا فِي سِرِّ الصَّبْرِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، وَالْمُصَابَرَةِ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ، وَلَا تَقُومُ بِذَلِكَ حُجَّةٌ، فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ الرِّبَاطِ، وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ الرِّبَاطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ يَرُدُّ مَا قَالَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَدَبَ إِلَى الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ الْجِهَادُ فَيُحْمَلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمَّى حِرَاسَةَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ رِبَاطًا، وأخرج الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَجْرِ الْمُرَابِطِ فَقَالَ: «مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً حَارِسًا مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ خَلْفَهُ مِمَّنْ صَامَ وَصَلَّى» .
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ الَّتِي في آخر السُّورَةِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سورة آل(1/476)
عِمْرَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ» . وَفِي إِسْنَادِهِ مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْعَشْرَ الْآيَاتِ لَمَّا اسْتَيْقَظَ. وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ فِي ليلة كتب له قيام ليلة» .(1/477)
سورة النّساء
هِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ: فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الْحَجْبِيِّ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ النَّقَّاشُ: وَقِيلَ:
نَزَلَتْ عِنْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ حَيْثُمَا وَقَعَ، فَإِنَّهُ مَكِّيٌّ يُلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صدر هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيًّا، وَبِهِ قَالَ عَلْقَمَةُ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي: قَدْ بَنَى بِهَا. وَلَا خِلَافَ بين العلماء أن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَنَى بِعَائِشَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَمَنْ تَبَيَّنَ أَحْكَامَهَا عَلِمَ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ لَا شَكَّ فِيهَا. قَالَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَكِّيٌّ حَيْثُ وَقَعَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْبَقَرَةَ مَدَنِيَّةٌ وَفِيهَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي مَوْضِعَيْنِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِهِ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَكَذَا أخرجه ابن مردويه عن عبد الله ابن الزُّبَيْرِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ: مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لَخَمْسَ آيَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية، وإِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْآيَةِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْآيَةَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِنْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَمْسُ آيَاتٍ مِنَ النِّسَاءِ هُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْآيَةَ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها الْآيَةِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
الآية، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ الآية. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثَمَانُ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هُنَّ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ، وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وزاد: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ الآية، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ الآية، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ الآية. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، والبيهقي عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَخْذَ السَّبْعَ فَهُوَ حَبْرٌ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أعطيت مكان التوراة السبع، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل» «1» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، والحاكم،
__________
(1) . في المطبوع: «أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ الطِّوَالَ، وَالْمِئِينُ: كُلُّ سُورَةٍ بَلَغَتْ مِائَةً فَصَاعِدًا، وَالْمَثَانِي: كُلُّ سُورَةٍ دون المئين، وفوق المفصل» .(1/478)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «وجد رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ شَيْئًا فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَثَرَ الْوَجَعِ عَلَيْكَ لَبَّيِّنٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّي عَلَى مَا تَرَوْنَ بِحَمْدِ اللَّهِ قَدْ قَرَأْتُ السَّبْعَ الطِّوَالَ» .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ السَّبْعَ الطِّوَالَ فِي سَبْعِ رَكَعَاتٍ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِالسَّبْعِ الطِّوَالِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «سَلُونِي عَنْ سُورَةِ النِّسَاءِ فَإِنِّي قَرَأْتُ الْقُرْآنَ وَأَنَا صَغِيرٌ» قَالَ الْحَاكِمُ:
صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النِّسَاءِ فَعَلِمَ مَا يُحْجَبُ مِمَّا لَا يُحْجَبُ علم الفرائض» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
الْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْمَوْجُودُونَ عِنْدَ الْخِطَابِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَدْخُلُ مَنْ سَيُوجَدُ، بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا كُلِّفَ بِهِ الْمَوْجُودُونَ، أَوْ تَغْلِيبُ الْمَوْجُودِينَ عَلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ، كَمَا غَلَّبَ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ فِي قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ هُنَا: آدَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَاحِدٍ، بِغَيْرِ هَاءٍ، عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، فَالتَّأْنِيثُ: بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَالتَّذْكِيرُ: بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى. قَوْلُهُ:
وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ خَلَقَهَا أَوَّلًا، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَقِيلَ: عَلَى: خَلْقِكُمْ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ الثَّانِي دَاخِلًا مَعَ الْأَوَّلِ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ.
وَالْمَعْنَى: وَخَلَقَ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ آدَمَ زَوْجَهَا، وَهِيَ حَوَّاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى:
التَّقْوَى، وَالرَّبِّ، وَالزَّوْجِ، وَالْبَثِّ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْها رَاجِعٌ إلى آدم وحواء المعبر عنهما بالنفس والزوج. وقوله: كَثِيراً وصف مؤكد، تُفِيدُهُ صِيغَةُ الْجَمْعِ، لِكَوْنِهَا مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: بَثًّا كَثِيرًا. وَقَوْلُهُ: وَنِساءً أَيْ: كَثِيرَةً، وَتَرَكَ التَّصْرِيحَ بِهِ اسْتِغْنَاءً بِالْوَصْفِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ: قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِحَذْفِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، وَأَصْلُهُ تَتَسَاءَلُونَ، تَخْفِيفًا لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي(1/479)
السِّينِ وَالْمَعْنَى: يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْرِنُونَ بَيْنَهُمَا فِي السُّؤَالِ وَالْمُنَاشَدَةِ، فَيَقُولُونَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَأَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ:
وَالْأَرْحامَ بِالْجَرِّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ النَّحْوِ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ الْجَرِّ، فَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَقَالُوا: هِيَ لَحْنٌ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَقَالُوا: هِيَ قِرَاءَةٌ قَبِيحَةٌ. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَوْجِيهِ هَذَا الْقُبْحِ: إِنَّ الْمُضْمَرَ الْمَجْرُورَ بِمَنْزِلَةِ التَّنْوِينِ، وَالتَّنْوِينُ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ: بِقُبْحِ عَطْفِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي الْخَفْضِ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ كَقَوْلِهِ تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ وَجَوَّزَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَأَنْشَدَ:
فَالْيَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَمْدَحُنَا «1» ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيّام من عجب
ومثله قول الآخر:
نعلّق فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَعْبِ مهوى «2» نَفَانِفُ
بِعَطْفِ الْكَعْبِ عَلَى الضَّمِيرِ فِي بَيْنِهَا. وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنَّ الْمُبَرِّدَ قَالَ: لَوْ صَلَّيْتُ خَلْفَ إِمَامٍ يَقْرَأُ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ بِالْجَرِّ، لَأَخَذْتُ نَعْلَيَّ وَمَضَيْتُ. وَقَدْ رَدَّ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ مَا قَالَهُ الْقَادِحُونَ فِي قِرَاءَةِ الْجَرِّ فَقَالَ: وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ مَرْدُودٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الدِّينِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ تَوَاتُرًا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنْ دَعْوَى التَّوَاتُرِ بَاطِلَةٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ الْأَسَانِيدَ الَّتِي رَوَوْهَا بِهَا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَجَّ لِلْجَوَازِ بِوُرُودِ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ كَمَا تقدم، وكما في قول بعضهم:
فحسبك وَالضَّحَّاكِ سَيْفُ مُهَنَّدُ وَقَوْلِ الْآخَرِ:
وَقَدْ رَامَ آفَاقُ السَّمَاءِ فَلَمْ يَجِدْ ... لَهُ مِصْعَدًا فِيهَا وَلَا الْأَرْضِ مَقْعَدَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
مَا إِنْ بِهَا وَالْأُمُورِ مِنْ تَلَفٍ «3»
...............
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
أَكُرُّ عَلَى الْكَتِيبَةِ لَسْتُ أَدْرِي ... أَحَتْفِي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا
فَسِوَاهَا: فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ
__________
(1) . في القرطبي (5/ 3) : وتشتمنا.
(2) . المهوى والمهواة: ما بين الجبلين ونحو ذلك. والنفانف: الهواء، وقيل: الهواء بين الشيئين، وكل شيء بينه وبين الأرض مهوى فهو نفنف.
(3) . وعجزه: ما حمّ من أمر غيبه وقعا.(1/480)
لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ «1» . وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَمَعْنَاهَا وَاضِحٌ جَلِيٌّ، لِأَنَّهُ عَطَفَ الرَّحِمَ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، أَيِ:
اتَّقُوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فإنهما مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَقِيلَ: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: بِهِ كَقَوْلِكَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعُمْرًا، أَيِ: اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَتَتَسَاءَلُونَ بِالْأَرْحَامِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: وَالْأَرْحَامُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَالْأَرْحَامُ صِلُوهَا، أَوْ:
وَالْأَرْحَامُ أَهْلٌ أَنْ تُوصَلَ، وَقِيلَ: إِنَّ الرَّفْعَ عَلَى الْإِغْرَاءِ عِنْدَ مَنْ يَرْفَعُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ عَمِيرٌ وَأَشْبَا ... هُـ عَمِيرٍ وَمِنْهُمُ السَّفَّاحُ
لجديرون باللّقاء إذا قا ... ل أخو النَّجْدَةِ: السِّلَاحُ السِّلَاحُ
وَالْأَرْحَامُ: اسْمٌ لِجَمِيعِ الْأَقَارِبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِهِ، لَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَلَا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَدْ خَصَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الزَّيْدِيَّةِ الرَّحِمَ بِالْمُحَرَّمِ فِي مَنْعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ مَعَ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا أَعَمُّ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اتَّفَقَتِ الْمِلَّةُ عَلَى أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ، وَأَنْ قَطِيعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ. انْتَهَى. وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الصَّحِيحَةُ. وَالرَّقِيبُ: الْمُرَاقِبُ، وَهِيَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، يُقَالُ: رَقَبْتُ، أَرْقُبُ، رُقْبَةً وَرُقْبَانًا: إِذَا انْتَظَرْتَ. قَوْلُهُ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ
خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَالْيَتِيمُ: مَنْ لَا أَبَ لَهُ. وَقَدْ خَصَّصَهُ الشَّرْعُ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعْنَاهُ فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى، وَأَطْلَقَ اسْمَ الْيَتِيمِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ إِعْطَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ- مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَهَا إِلَّا بَعْدَ ارتفاع اسم اليتيم بِالْبُلُوغِ- مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: بِالْيَتَامَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ، وَبِالْإِيتَاءِ: مَا يَدْفَعُهُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَوْصِيَاءُ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، لا دفعها جميعا، وهذا الْآيَةُ مُقَيَّدَةٌ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «2» فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ ارْتِفَاعِ الْيُتْمِ بِالْبُلُوغِ مُسَوِّغًا لِدَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُمُ الرُّشْدُ. قَوْلُهُ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَصْنَعُوا صُنْعَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الطَّيِّبَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَيُعَوِّضُونَهُ بِالرَّدِيءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى- وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ خَبِيثَةٌ- وَتَدَعُوا الطَّيِّبَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لَا تَتَعَجَّلُوا أَكْلَ الْخَبِيثِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَتَدَعُوا انْتِظَارَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ تَبَدُّلَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُهُ مَكَانَهُ، وَكَذَلِكَ اسْتِبْدَالُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «3» وَقَوْلُهُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ «4» . وَأَمَّا التَّبْدِيلُ: فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كَذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ «5» ، وَأُخْرَى بِالْعَكْسِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: بَدَّلْتُ الْحَلْقَةَ بِالْخَاتَمِ: إِذَا أَذَبْتَهَا وَجَعَلْتَهَا خَاتَمًا، نَصَّ عَلَيْهِ الْأَزْهَرِيُّ. قَوْلُهُ:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الْخَلْطُ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ مُضَمَّنًا مَعْنَى الضَّمِّ، أَيْ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ مَضْمُومَةً إِلَى أَمْوَالِكُمْ، ثُمَّ نَسَخَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «6» وَقِيلَ: إِنَّ: إِلَى، بِمَعْنَى: مَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «7» .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْحُوبُ: الْإِثْمُ، يُقَالُ: حَابَ الرَّجُلُ، يَحُوبُ، حُوبًا: إِذَا أَثِمَ، وَأَصْلُهُ: الزَّجْرُ لِلْإِبِلِ،
__________
(1) . الحجر: 20.
(2) . النساء: 6.
(3) . البقرة: 108.
(4) . البقرة: 61.
(5) . سبأ: 16.
(6) . البقرة: 220.
(7) . آل عمران: 52.(1/481)
فَسُمِّيَ الْإِثْمُ: حُوبًا، لِأَنَّهُ يُزْجَرُ عَنْهُ. وَالْحَوْبَةُ: الْحَاجَةُ. وَالْحُوبُ أَيْضًا: الْوَحْشَةُ، وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ:
ضَمُّ الْحَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَفَتْحُ الْحَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَالثَّالِثَةُ:
الْحَابُ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: حَابًا، عَلَى الْمَصْدَرِ، كَقَالَ قَالًا. وَالتَّحَوُّبُ: التَّحَزُّنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ طُفَيْلٍ:
فَذُوقُوا كَمَا ذُقْنَا غَدَاةَ محجّر ... من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب «1»
وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا وَجْهُ ارْتِبَاطِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكْفُلُ الْيَتِيمَةَ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا لَهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا يُقْسِطُ لَهَا فِي مَهْرِهَا، أَيْ: يَعْدِلُ فِيهِ، وَيُعْطِيهَا مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى مَا هُوَ لَهُنَّ مِنَ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طاب لهنّ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، فَهَذَا سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، فَهُوَ نَهْيٌ يَخُصُّ هَذِهِ الصُّورَةَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، مِنْ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ الْحَرَائِرِ مَا شَاءَ، فَقَصَرَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَرْبَعٍ، فَيَكُونُ وَجْهُ ارْتِبَاطِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ أَنَّهُمْ إِذَا خَافُوا أَلَّا يُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَكَذَلِكَ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْسِطُوا فِي النِّسَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ فِي الْيَتَامَى وَلَا يَتَحَرَّجُونَ فِي النِّسَاءِ، وَالْخَوْفُ مِنَ الْأَضْدَادِ، فَإِنَّ الْمَخُوفَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا، وَقَدْ يَكُونُ مَظْنُونًا، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي مَعْنَاهُ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ خِفْتُمْ: بِمَعْنَى: أَيْقَنْتُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: خِفْتُمْ: بِمَعْنَى: ظَنَنْتُمْ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْحُذَّاقُ، وَأَنَّهُ عَلَى بَابِهِ مِنَ الظَّنِّ، لَا مِنَ الْيَقِينِ وَالْمَعْنَى: مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ التَّقْصِيرُ فِي الْعَدْلِ لِلْيَتِيمَةِ فَلْيَتْرُكْهَا وَيَنْكِحْ غَيْرَهَا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ: تَقْسِطُوا بِفَتْحِ التَّاءِ، مِنْ: قَسَطَ: إِذَا جَارَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى تَقْدِيرِ زِيَادَةِ لَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ خفتم أن لا تَقْسِطُوا. وَحَكَى الزَّجَّاجُ: أَنَّ أَقْسَطَ، يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ قَسَطَ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّ أَقْسَطَ بمعنى: عدل، وقسط:
بمعنى جار، و «ما» في قوله: ما طابَ موصولة، وجاء بها مَكَانَ مِنْ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَعَاقَبَانِ فَيَقَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها «2» فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ «3» . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ «مَا» تَقَعُ لِلنُّعُوتِ كَمَا تَقَعُ لِمَا لَا يَعْقِلُ، يُقَالُ مَا عِنْدَكَ، فَيُقَالُ:
ظَرِيفٌ وَكَرِيمٌ، فَالْمَعْنَى: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ، أَيِ: الْحَلَالَ، وَمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَلَيْسَ بِطَيِّبٍ، وَقِيلَ:
إِنَّ «مَا» هُنَا: مُدِّيَّةٌ، أَيْ: مَا دُمْتُمْ مُسْتَحْسِنِينَ لِلنِّكَاحِ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقال الفراء: إن «ما» ها هنا: مَصْدَرِيَّةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ فَانْكِحُوا مَنْ طَابَ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَخَفْ أَنْ يُقْسِطَ فِي اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة، و «من» فِي قَوْلِهِ: مِنَ النِّساءِ
إِمَّا: بَيَانِيَّةٌ، أَوْ: تَبْعِيضِيَّةٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ الْيَتَائِمِ. قَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ «مَا» كَمَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وقيل:
على الحال، وهذه الألفاظ لا تنصرف لِلْعَدْلِ وَالْوَصْفِيَّةِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ النحو والأصل: انكحوا ما طاب
__________
(1) . محجّر: اسم موضع. وفي الديوان: «أجوافنا» بدل: أكبادنا.
(2) . الشمس: 2.
(3) . النور: 45. [.....](1/482)
لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ: عَلَى تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَبَيَّنُوا ذَلِكَ: بِأَنَّهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ كُلَّ نَاكِحٍ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَا أَرَادَ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ، كَمَا يُقَالُ لِلْجَمَاعَةِ: اقْتَسِمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ: هَذَا الْمَالَ الَّذِي فِي الْبُدْرَةِ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً. وَهَذَا مُسَلَّمٌ إِذَا كَانَ الْمَقْسُومُ قَدْ ذُكِرَتْ جُمْلَتُهُ أَوْ عُيِّنَ مَكَانُهُ، أَمَّا: لَوْ كَانَ مُطْلَقًا، كَمَا يُقَالُ: اقْتَسِمُوا الدَّرَاهِمَ، وَيُرَادُ بِهِ: مَا كَسَبُوهُ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى هَكَذَا.
وَالْآيَةُ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ لَا مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ. عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِقَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مَالًا مُعَيَّنًا كَثِيرًا: اقْتَسِمُوهُ مَثْنَى، وَثُلَاثَ، وَرُبَاعَ، فَقَسَمُوا بَعْضَهُ بَيْنَهُمْ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَبَعْضَهُ: ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَبَعْضَهُ: أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً كَانَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: جَاءَنِي الْقَوْمُ مَثْنَى وَهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ، كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جاءوه اثنين اثنين، وهكذا جاءني الْقَوْمُ ثُلَاثَ وَرُبَاعَ، وَالْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ لكل فرد فرد، كما في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «1» أَقِيمُوا الصَّلاةَ آتُوا الزَّكاةَ وَنَحْوِهَا فَقَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَعْنَاهُ لِيَنْكِحْ كُلُّ فَرْدٍ مِنْكُمْ مَا طَابَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَثَلَاثًا وثلاثا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، هَذَا مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ. فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْجَمِيعِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ. فَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ التِّسْعِ بِاعْتِبَارِ الْوَاوِ الْجَامِعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: انْكِحُوا مَجْمُوعَ هَذَا الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، فَهَذَا جَهْلٌ بالمعنى العربي، ولو قال: انكحوا ثنتين وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ وَأَمَّا مَعَ الْمَجِيءِ بِصِيغَةِ الْعَدْلِ فَلَا، وَإِنَّمَا جَاءَ سُبْحَانَهُ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ دُونَ أَوْ: لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَحَدُ الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ:
ثُلُثَ وَرُبُعَ بِغَيْرِ أَلِفٍ. قَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً: فَانْكِحُوا وَاحِدَةً، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فَالْزَمُوا أَوْ فَاخْتَارُوا وَاحِدَةً. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَالْمَعْنَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ وَنَحْوِهِ فَانْكِحُوا وَاحِدَةً، وَفِيهِ الْمَنْعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِمَنْ خَافَ ذلك. وقريء: بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ: فَوَاحِدَةٌ تُقْنِعُ وَقِيلَ:
التَّقْدِيرُ: فَوَاحِدَةٌ فِيهَا كِفَايَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْمُقْنِعُ وَاحِدَةٌ.
قَوْلُهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى وَاحِدَةٍ، أَيْ: فَانْكِحُوا وَاحِدَةً أَوِ انْكِحُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ السَّرَارِيِّ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُنَّ كَمَا يُفِيدُهُ الْمَوْصُولُ. وَالْمُرَادُ: نِكَاحُهُنَّ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ، لَا بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ، عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَمْلُوكَاتِ فِي الْقَسْمِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَعْلُهُ قَسِيمًا لِلْوَاحِدَةِ فِي الْأَمْنِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ. وَإِسْنَادُ الْمِلْكِ إِلَى الْيَمِينِ: لِكَوْنِهَا الْمُبَاشِرَةَ لِقَبْضِ الْأَمْوَالِ وَإِقْبَاضِهَا، وَلِسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى الشَّخْصِ فِي الْغَالِبِ، وَمِنْهُ:
إِذَا مَا رَايَةٌ نُصِبَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ باليمين
__________
(1) . التوبة: 5.(1/483)
قَوْلُهُ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ: ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى أَلَّا تَعُولُوا، أَيْ: تَجُورُوا، مِنْ: عَالَ الرَّجُلُ، يَعُولُ: إِذَا مَالَ وَجَارَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَالَ السَّهْمُ عَنِ الْهَدَفِ: مَالَ عَنْهُ، وَعَالَ الْمِيزَانُ: إِذَا مَالَ، وَمِنْهُ:
قَالُوا اتَّبَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ وَاطَّرَحُوا ... قَوْلَ الرَّسُولِ وَعَالُوا فِي الْمَوَازِينِ
وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ:
بِمِيزَانِ صِدْقٍ لَا يَغُلُّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
وَمِنْهُ أَيْضًا:
فَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ «1» ... لَقَدْ عَالَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِ
وَالْمَعْنَى: إِنْ خِفْتُمْ عَدَمَ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فَهَذِهِ الَّتِي أُمِرْتُمْ بِهَا أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْجَوْرِ، وَيُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ، يَعِيلُ: إِذَا افْتَقَرَ وَصَارَ عَالَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً «2» ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَلَّا تَعُولُوا أَلَّا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَمَا قَالَ هَذَا غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَعَالَ يُعِيلُ: إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ: عَالَ تَأْتِي لِسَبْعَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: عَالَ: مَالَ. الثَّانِي: زَادَ.
الثَّالِثُ: جَارَ. الرَّابِعُ: افْتَقَرَ. الْخَامِسُ: أَثْقَلَ. السَّادِسُ: قَامَ بِمَئُونَةِ الْعِيَالِ، ومنه: قوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . السَّابِعُ: عَالَ: غَلَبَ، وَمِنْهُ: عِيلَ صَبْرِي، قَالَ: وَيُقَالُ: أَعَالَ الرَّجُلُ: كَثُرَ عِيَالُهُ. وَأَمَا:
عَالَ، بِمَعْنَى كَثُرَ عِيَالُهُ، فَلَا يَصِحُّ، وَيُجَابُ عَنْ إِنْكَارِ الثَّعْلَبِيِّ لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَلِكَ إِنْكَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ لِذَلِكَ: بِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ الشَّافِعِيَّ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ زيد بن أسلم، وجابر بن زيد، وهم إِمَامَانِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يُفَسِّرَانِ الْقُرْآنَ هُمَا وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِمَا لَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ.
وَقَدْ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَأَبِي عُمَرَ الدُّورِيِّ، وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ الشَّافِعِيُّ أَعْلَمَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنَّا، وَلَعَلَّهُ لُغَةٌ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَالَ أُسْتَاذُنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ: سَأَلْتُ أَبَا عُمَرَ الدُّورِيَّ عَنْ هَذَا وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ غَيْرَ مُدَافَعٍ، فَقَالَ: هِيَ لُغَةُ حِمْيَرٍ، وَأَنْشَدَ:
وَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... بِلَا شَكٍّ وَإِنْ أَمَشَى وَعَالَا
أَيْ: وَإِنْ كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ وَعِيَالُهُ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: أَنْ لَا تُعِيلُوا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدَحَ الزَّجَّاجُ فِي تَأْوِيلِ عَالَ مِنَ الْعِيَالِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَبَاحَ كَثْرَةَ السَّرَارِيِّ، وَفِي ذَلِكَ تَكْثِيرُ الْعِيَالِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى أَنْ لَا يُكْثِرُوا. وَهَذَا الْقَدْحُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ السَّرَارِيَّ إِنَّمَا هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما
__________
(1) . في القرطبي (5/ 21) :
ثلاثة أنفس وثلاث ذود....
(2) . التوبة: 28.(1/484)
الْعِيَالُ الْحَرَائِرُ ذَوَاتُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَالَ الرَّجُلُ: إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ، وَكَفَى بِهَذَا.
وَقَدْ وَرَدَ عَالَ لَمَعَانٍ غَيْرِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ، مِنْهَا: عَالَ: اشْتَدَّ وَتَفَاقَمَ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَعَالَ الرَّجُلُ فِي الْأَرْضِ: إِذَا ضَرَبَ فِيهَا، حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ، وَعَالَ: إِذَا أَعْجَزَ، حَكَاهُ الْأَحْمَرُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ غَيْرُ السَّبْعَةِ وَالرَّابِعُ: عَالَ: كَثُرَ عِيَالُهُ، فَجُمْلَةُ مَعَانِي عَالَ: أَحَدَ عَشَرَ مَعْنًى. قَوْلُهُ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً الْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ، وَقِيلَ: لِلْأَوْلِيَاءِ. وَالصَّدُقَاتُ: بِضَمِّ الدَّالِ، جَمْعُ صَدَقَةٍ، كَثَمَرَةٍ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: صَدَقَةٌ، وَالْجَمَعُ صَدَقَاتٌ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتَ، وَإِنْ شِئْتَ أَسْكَنْتَ. وَالنِّحْلَةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ، وَأَصْلُهَا: الْعَطَاءُ، نَحَلْتُ فُلَانًا: أَعْطَيْتُهُ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ وَقِيلَ: النِّحْلَةُ: التَّدَيُّنُ، فَمَعْنَى: نِحْلَةً: تَدَيُّنًا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النِّحْلَةُ: الْفَرِيضَةُ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ:
النِّحْلَةُ: طِيبَةُ النَّفْسِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَا تَكُونُ النِّحْلَةُ إِلَّا عَنْ طِيبَةِ نَفْسٍ. وَمَعْنَى الْآيَةِ- عَلَى كَوْنِ الْخِطَابِ لِلْأَزْوَاجِ-: أَعْطُوا النِّسَاءَ اللَّاتِي نَكَحْتُمُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي لَهُنَّ عَلَيْكُمْ عَطِيَّةً، أَوْ دِيَانَةً مِنْكُمْ، أَوْ فَرِيضَةً عَلَيْكُمْ، أَوْ طِيبَةً مِنْ أَنْفُسِكُمْ. وَمَعْنَاهَا- عَلَى كَوْنِ الْخِطَابِ لِلْأَوْلِيَاءِ-: أَعْطُوا النِّسَاءَ- مِنْ قَرَابَاتِكُمُ الَّتِي قَبَضْتُمْ مُهُورَهُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ- تِلْكَ الْمُهُورَ. وَقَدْ كَانَ الْوَلِيُّ يَأْخُذُ مَهْرَ قَرِيبَتِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُعْطِيهَا شَيْئًا، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَالْكَلْبِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الضَّمَائِرَ مِنْ أَوَّلِ السِّيَاقِ لِلْأَزْوَاجِ.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ لِلنِّسَاءِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِكَثِيرِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَلِيلِهِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: «صُدْقَاتِهِنَّ» بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: بِضَمِّهِمَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّ الدَّالِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً الضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، رَاجِعٌ إِلَى الصَّدَاقِ الَّذِي هُوَ وَاحِدُ الصَّدُقَاتِ، أَوْ إِلَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الصَّدُقَاتُ، أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ مِنْ ذَلِكَ. وَنَفْسًا: تَمْيِيزٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ سِيبَوَيْهِ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، لَا تَمْيِيزٌ، أَيْ: أَعْنِي نَفْسًا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَالْمَعْنَى:
فَإِنْ طِبْنَ، أَيِ: النِّسَاءُ لَكُمْ أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ أَوِ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَهْرِ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً وَفِي قَوْلِهِ:
طِبْنَ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَحْلِيلِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ لَهُمْ إِنَّمَا هُوَ طِيبَةُ النَّفْسِ، لَا مُجَرَّدَ مَا يَصْدُرُ مِنْهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَتَحَقَّقُ مَعَهَا طِيبَةُ النَّفْسِ، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ طِيبَةِ نَفْسِهَا لَمْ يَحِلَّ لِلزَّوْجِ وَلَا لِلْوَلِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَلَفَّظَتْ بِالْهِبَةِ أَوِ النَّذْرِ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَمَا أَقْوَى دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَا يَصْدُرُ مِنَ النِّسَاءِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّمْلِيكِ بِمُجَرَّدِهَا، لِنُقْصَانِ عُقُولِهِنَّ، وَضَعْفِ إِدْرَاكِهِنَّ، وَسُرْعَةِ انخذاعهن، وَانْجِذَابِهِنَّ إِلَى مَا يُرَادُ مِنْهُنَّ بِأَيْسَرِ تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ، وَقَوْلُهُ: هَنِيئاً مَرِيئاً مَنْصُوبَانِ عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ قَائِمَانِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، أَوْ عَلَى الحال، يقال: هناه الطعام والشراب، يهنئه، وَمَرَأَهُ، وَأَمْرَأَهُ، مِنَ الْهَنِيءِ وَالْمَرِيءِ، وَالْفِعْلُ: هَنَأَ وَمَرَأَ، أَيْ: أَتَى مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا غيظ وقيل:(1/485)