وإنما قال من قال، لقِلَّة عِلْمه بكلام العرب، فالعرب تذكرُ أشياء جملة ثم تخُصُّ شيئاً منها بالتسمية تنبيهاً على فضل فيه، كقوله: «وجبريل وميكال» فمن قال: ليسا من الملائكة كفر، ومن قال: ثمر النّخل والرّمان ليس من الفاكهة جهل. قوله تعالى: فِيهِنَّ يعني في الجِنان الأربع خَيْراتٌ يعني الحُور. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: «خَيِّراتٌ» بتشديد الياء. قال اللغويون:
أصله «خَيِّراتٌ» بالتشديد، فخُفِّف، كما قيل: هيّن وهين، وليّن ولين.
(1387) وروت أمّ سلمة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال «خَيْراتُ الأخلاقِ حِسان الوُجوه» .
قوله تعالى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ قد بيَّنّا في سورة الدخان «1» معنى الحُور.
وفي المقصورات قولان: أحدهما: المحبوسات في الحِجَال، قاله ابن عباس، وهو مذهب الحسن، وأبي العالية، والقرظي، والضحاك، وأبي صالح. والثاني: المقصورات الطَّرف على أزواجهنّ، فلا يرفعن طَرْفاً إلى غيرهم، قاله الربيع. وعن مجاهد كالقولين. والأول أصح، فإن العرب تقول: امرأة مَقْصُورة وقَصِيرة وقَصُورَة: إذا كانت ملازمة خدرها، قال كُثيِّر:
لَعَمْرِي لقد حبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ ... إليَّ، وما تَدْرِي بذاكَ القَصَائِرُ
عَنَيْتُ قَصيرات الحِجَالِ، ولَمْ أُرِدْ ... قِصارَ الخُطى، شَرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ
وبعضهم ينشده: قَصُورَة، وقَصُورات والبحاتر: القِصار.
وفي «الخيام» قولان: أحدهما: أنها البيوت. والثاني: خيام تضاف إلى القصور.
(1388) وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن للمؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوَّفةٍ، طُولها في السماء سِتُّون مِيلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضاً» .
وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس: الخيام: دُرٌّ مُجَوَّف. وقال ابن عباس: الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ، وقرأ عثمان بن عفان، وعاصم الجحدري، وابن محيصن:
«على رَفَارفَ» جمع غير مصروف. وقرأ الضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني مثلهم، إلّا أنهم
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 33172 والواحدي في «الوسيط» 4/ 229 من طريقين عن عمرو بن هاشم عن سليمان بن أبي كريمة، عن هشام بن حسان عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، وإسناده ضعيف لضعف سليمان. أم الحسن اسمها خيرة. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 118- 119 وأعلّه بسليمان بن أبي كريمة، فقال: ضعفه ابن عدي، وأبو حاتم.
صحيح. أخرجه البخاري 4879 والبغوي في «شرح السنة» 4275 عن محمد بن المثنى به. وأخرجه مسلم 2838 ح 24 والترمذي 2528 وأحمد 4/ 411 وابن حبان 7395 من طرق عن عبد العزيز بن عبد الصمد به.
وأخرجه البخاري 3243 ومسلم 3828 وأحمد 4/ 400 و 419 والدارمي 2/ 336 وأبو الشيخ في «العظمة» 606 والواحدي في «الوسيط» 4/ 229 والبيهقي في «البعث» 303 من طرق عن أبي عمران الجوني به.
__________
(1) الدخان: 54.(4/216)
صرفوا «رفارف» قال ثعلب: إنما لم يقل: أخضر، لأن الرَّفرف جمع، واحدته: رفرفة، كقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارا «1» ولم يقل: الخُضْر، لأن الشجر جمع، تقول: هذا حصىً أبيض، وحصى أسود، قال الشاعر:
أَحَقّاً عِبادَ اللِه أنْ لستُ ماشياً ... بِهِرْجَابَ ما دامَ الأَراكُ به خُضْرا
واختلف المفسرون في المراد بالرَّفرف على ثلاثة أقوال: أحدها: فضول المجالس والبُسُط، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: هي: الفُرُش والبُسط. وحكى الفراء، وابن قتيبة: أنها المجالس. وقال النّقّاش: الرّفرف: المجالس الخُضْر فوق الفْرُش. والثاني: أنها رياض الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير رياض الجنّة: خضراء مخصبة. والثالث: أنها الوسائد، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ فيه قولان: أحدهما: أنها الزَّرابيّ، قاله ابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وكذلك قال ابن قتيبة: العبقريّ: الطّنافِس الثِّخان. قال أبو عبيدة: يقال لكل شيء من البُسُط: عبقريّ. والثاني: أنه الدِّيباج الغليظ، قاله مجاهد. قال الزجاج: أصل العبقريّ في اللغة أنه صفة لكل ما بُولِغَ في وصفه، وأصلُه أن عبقر: بلد كان يوشى فيه البُسط وغيرها، فنُسب كل شيء جيِّد إليه، قال زهير:
بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيرونَ يَوْماً أن يَنالوا فيَسْتَعْلُوا
وقرأ عثمان بن عفان وعاصم الجحدري وابن محيصن: «وعَباقِرِيَّ» بألف مكسورة القاف مفتوحة الياء من غير تنوين قال الزّجّاج: لا وجه لهذه القراءة في العربية، لأن الجمع الذي بعد ألفه حرفان، نحو: مساجد ومصباح، لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقِرِي، لأن ما جاوز الثلاثة لا يُجمع بياء النّسب، فلو جمعت «عبقريّ» فإنّ جمعُه «عباقرة» ، كما أنك لو جمعت «مُهلبيّ» كان جمعه «مَهالبة» ، ولم تقل:
«مَهالبيّ» ، قال: فإن قيل «عبقريّ» واحد، و «حِسَان» جمع، فكيف جاز هذا؟ فالأصل أنّ واحدة هذا «عبقرية» والجمع «عبقري» ، كما تقول: ثمرة وثمر، ولَوْزة ولَوْز، ويكون أيضاً «عبقري» اسماً للجنس.
وقرأ الضحاك وأبو العالية وأبو عمران: «وعَباقِرِيٍّ» بألف مع التنوين.
قوله عزّ وجلّ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ فيه قولان: أحدهما: أن ذِكْر «الاسم» صِلَة، والمعنى: تبارك ربُّك. والثاني: أنه أصل، قال ابن الأنباري: المعنى: تفاعل من البركة، أي: البركة تكتب وتنال وتكسب بذِكْر اسمه. وقد بيَّنّا معنى «تبارك» في «الأعراف» «2» ، وذكرنا في هذه السورة معنى ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ «3» ، وكان ابن عامر يقرأ: «ذو الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الشام والباقون: «ذي الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق، وهم متفقون على الموضع الأول أنه «ذو» .
__________
(1) يس: 80.
(2) الأعراف: 54.
(3) الرحمن: 27.(4/217)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
سورة الواقعة
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، قاله الأكثرون، منهم ابن عباس، والحسن، وعطاء وعكرمة، وقتادة، وجابر، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس أنّ فيها آية مدنيّة وهي قوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) . والثاني: أنها مدنيّة، رواه عطيّة عن ابن عباس.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
قوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ قال أبو سليمان الدمشقي: لمّا قال المشركون: متى هذا الوعد، متى هذا الفتح؟! نزل قوله: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، قال أبو سليمان الدّمشقي فالمعنى: يكون إذا وقعت.
قال المفسرون: والواقعة: القيامة، وكل آتٍ يتوقع يقال له إذا كان: قد وقع، والمراد بها هاهنا: النَّفخة في الصُّور لقيام الساعة. لَيْسَ لِوَقْعَتِها أي لمجيئها وظهورها كاذِبَةٌ أي: كذب، كقوله عزّ وجلّ:
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً «1» أي: لغواً. قال الزجاج: و «كاذبة» مصدر، كقولك عافاه الله عافية، وكذب كذبة، فهذه أسماء في موضع المصدر. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: لا رجعةَ لها ولا ارتداد، قاله قتادة. والثاني: ليس الإخبار عن وقوعها كذبا، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: خافِضَةٌ أي: هي خافضة رافِعَةٌ وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وأبو العالية، والحسن، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، واليزيدي في اختياره: «خافضةً رافعةً» بالنصب فيهما.
وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أنها خفضتْ فأسمعتِ القريبَ، ورفعتْ فأسمعتِ البعيدَ، رواه العوفي عن ابن عباس، وهذا يدل على أن الواقعة صيحة القيامة. والثاني: أنها خفضت ناساً، ورفعت آخرين، رواه عكرمة عن ابن عباس. قال المفسرون: تخفض أقواماً إلى أسفل السافلين في النار، وترفع أقواماً إِلى عِلِّيِّين في الجنة.
__________
(1) الغاشية: 11. [.....](4/218)
قوله عزّ وجلّ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي: حُرِّكتْ حركةً شديدة وزلزلت، وذلك أنها ترتجّ حتى يتهدّم ما عليها من بناءٍ، ويتفتَّت ما عليها من جبل. وفي ارتجاجها قولان: أحدهما: أنه لإماتة من عليها من الأحياء. الثاني: لإخراج من في بطنها من الموتى.
قوله عزّ وجلّ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فيه قولان: أحدهما: فُتِّتت فَتّاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال مجاهد. قال ابن قتيبة: فتّت حتى صارت كالدَّقيق والسَّويق المبسوس. والثاني: لُتَّتْ، قاله قتادة: وقال الزجاج: خُلِطتْ ولُتَّت. قال الشاعر:
لا تخبزن خبزا وبسّ بَسَّا
وفي «الهَباء» أقوال قد ذكرناها في الفرقان «1» . وذكر ابن قتيبة أن الهَباء المُنْبَثّ: ما سطع من سنابك الخيل، وهو من «الهبوة» ، والهبة: الغبار. والمعنى: كانت ترابا منتشرا.
قوله عزّ وجلّ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أي: أصنافاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وفيهم ثمانية أقوال «2» :
أحدها: أنهم الذين كانوا على يمين آدم حين أُخرجت ذُرِّيَّتهُ مِنْ صُلبه، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين يُعْطَون كتبهم بأيمانهم، قاله الضحاك والقرظي. والثالث: أنهم الذين كانوا ميامين على أنفُسهم، أي: مبارَكين، قاله الحسن والربيع. والرابع: أنهم الذين أُخذوا من شِقِّ آدم الأيمن، قاله زيد بن أسلم.
والخامس: أنهم الذين منزلتهم عن اليمين، قاله ميمون بن مهران. والسادس: أنهم أهل الجنة، قاله السدي. والسابع: أنهم أصحاب المنزلة الرفيعة، قاله الزجاج. والثامن: أنهم الذين يؤخذ بهم ذاتَ اليمين إلى الجنة، ذكره علي بن أحمد النّيسابوري. قوله عزّ وجلّ: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ قال الفراء:
عجَّب نبيَّه صلّى الله عليه وسلم منهم والمعنى: أيُّ شيء هُمْ؟! قال الزجاج: وهذا اللفظ في العربية مجراه مجرى التعجب، ومجراه من الله عزّ وجلّ في مخاطبة العباد ما يعظم به الشأن عندهم، ومثله: مَا الْحَاقَّةُ «3» ، مَا الْقارِعَةُ «4» قال ابن قتيبة: ومثله أن تقول: زيد ما زيد أيّ رجل هو! وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أي: أصحاب الشمال، والعرب تسمِّي اليدَ اليسرى: الشُّؤمَى، والجانبَ الأيسر الأشأم، ومنه قيل: اليُمْن والشُّؤم، فاليُمْن: كأنه ما جاء عن اليمين، والشؤم ما جاء عن الشمال، ومنه سمِّيت اليَمَن و «الشّأم» لأنها عن يمين الكعبة وشمالها. قال المفسرون: أصحاب الميمنة: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين، ويعطَون كتبهم بأيمانهم وتفسير أصحاب المشأمة على ضد تفسير أصحاب الميمنة سواء،
__________
(1) الفرقان: 23.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 335: وقوله: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً أي: ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات اليمين. وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر، ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال. وهم عامّة أهل النار- عياذا بالله من صنيعهم- وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء وهم أقل عددا من أصحاب اليمين وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه. اه.
(3) الحاقة: 2.
(4) القارعة: 2.(4/219)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
والمعنى: أيُّ قوم هم؟! ماذا أُعِدَّ لهم من العذاب؟! قوله عزّ وجلّ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ فيهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم السابقون إلى الإيمان من كل أُمَّة، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أنهم الذين صلّوا إلى القِبلتين، قاله ابن سيرين. والثالث: أهل القرآن، قاله كعب. والرابع: الأنبياء، قاله محمد بن كعب. والخامس: السابقون إلى المساجد وإلى الخروج في سبيل الله، قاله عثمان بن أبي سودة. وفي إِعادة ذِكْرهم قولان: أحدهما: أن ذلك للتوكيد.
والثاني: أن المعنى: السابقون إلى طاعة الله تعالى هم السابقون إلى رحمة الله، ذكرهما الزجاج. قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ قال أبو سليمان الدمشقي: يعني عند الله في ظلّ عرشه وجواره.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 26]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22)
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) الثُلَّة: الجماعة غير محصورة العدد. وفي الأوَّلين والآخِرين هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأوَّلين: الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبيّنا صلّى الله عليه وسلم، والآخرين: هذه الأمة. والثاني: أن الأولين: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والآخرين: التابعون. والثالث: أن الأولين والآخِرين: من أصحاب نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم. فعلى الأول يكون المعنى: إنّ السابقين جماعة من الأُمم المتقدِّمة الذين سبقوا بالتصديق لأنبيائهم مَنْ جاء بعدهم مؤمناً، وقليلٌ من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، لأن الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدَّقوا بهم أكثر ممّن عاين نبيِّنا وصدَّق به. وعلى الثاني: أن السابقين: جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهم الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، وقليل من التابعين وهم الذين اتَّبعوهم باحسان. وعلى الثالث: أن السابقين: الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، وقليل ممَّن جاء بعدهم لعجز المتأخِّرين أن يلحقوا الأوَّلين، فقليل منهم من يقاربهم في السَّبق. وأمّا «الموضونة» ، فقال ابن قتيبة هي المنسوجة، كأن بعضها أُدخِلَ في بعض، أو نُضِّد بعضُها على بعض، ومنه قيل للدِّرع:
مَوْضونة، ومنه قيل: وَضِينُ النّاقة، وهو بِطان ٌمن سُيور يُدْخَل بعضُه في بعض. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الآجُرُّ موضونٌ بعضُه على بعض، أي: مسروح، وللمفسرين في معنى «مَوْضُونةٍ» قولان: أحدهما: مرمولة بالذهب رواه مجاهد عن ابن عباس، وقال عكرمة: مشبَّكة بالدُّرِّ والياقوت، وهذا مَعنى ما ذكرناه عن ابن قتيبة، وبه قال الأكثرون. والثاني: مصفوفة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وما بعد هذا ما تقدّم بيانه «1» إلى قوله: وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ الوِلْدان: الغِلْمان. وقال الحسن البصري: هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيُجْزَون بها، ولا سيِّئات فيعاقبون عليها، فوضُعوا بهذا الموضع. وفي المخلَّدين قولان: أحدهما: أنه من الخلد، والمعنى: أنهم مخلّدون للبقاء لا يتغيَّرون، وهم على سنٍّ واحد. قال الفراء: والعرب تقول للإنسان إِذا كَبِر ولم يَشْمَط «2» ، أو لم تذهب أسنانه عن
__________
(1) الكهف: 30.
(2) في «القاموس» : الشّمط: الشيب.(4/220)
الكِبَر: إنه لمخلَّد، هذا قول الجمهور. والثاني: أنهم المُقَرَّطُون، ويقال: المُسَوَّرون، ذكره الفراء، وابن قتيبة، وانشدوا في ذلك:
ومُخْلَّداتٌ باللُّجَيْنِ كأنَّما ... أعجازهنّ أقاوز الكثبان «1»
قوله عزّ وجلّ: بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ الكوب: إناء لا عروة له ولا خُرطوم، وقد ذكرناه في الزخرف «2» ، والأباريق: آنية لها عُرىً وخراطيم وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الإبريق:
فارسيّ معرَّب، وترجمتُه من الفارسية أحدُ شيئين إمّا أن يكون: طريقَ الماء، أو: صبَّ الماءِ على هينة، وقد تكلمتْ به العربُ قديماً، قال عديُّ بن زيد:
ودَعَا بالصَّبُوحِ يوماً فجاءتْ ... قينة في يمينها إبريق
وباقي الآية في «الصّافّات» «3» .
قوله عزّ وجلّ لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ فيه قولان: أحدهما: لا يَلْحَقُهم الصُّداع الذي يلحق شاربي خمر الدنيا. و «عنها» كناية عن الكأس المذكورة، والمراد بها: الخمر، وهذا قول الجمهور.
والثاني: لا يتفرَّقون عنها، من قولك: صدَّعْتُه فانْصَدَع، حكاه ابن قتيبة. قوله «ولا ينزفون» مفسّر في «الصّافّات» «4» .
قوله عزّ وجلّ: مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي: يختارون، تقول: تخيَّرتُ الشيءَ: إذا أخذت خيره.
قوله عزّ وجلّ: وَلَحْمِ طَيْرٍ قال ابن عباس: يخطُر على قلبه الطير، فيصير ممثَّلاً بين يديه على ما اشتهي. وقال مغيث بن سميّ: يقع على أغصان شجرة طوبى كأمثال البُخْت. فإذا اشتهى الرجل طيراً دعاه، فيجيء حتى يقع على خوانه، فيأكل من أحد جانبيه قديداً والآخرِ شِواءً، ثم يعود طيرا فيطير فيذهب.
قوله عزّ وجلّ: وَحُورٌ عِينٌ قرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «وُحورٌ عِينٌ» بالرفع فيهما. وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم: بالخفض فيهما. وقرأ أُبيُّ بن كعب وعائشة وأبو العالية وعاصم الجحدري: «وحُوراً عِيناً» بالنصب فيهما. قال الزجاج: والذين رفعوا كرهوا الخفض، لأنه معطوف على قوله: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ، قالوا: والحُور ليس ممّا يطاف به، ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء لأن المعنى: يطوف عليهم ولدانٌ مخلَّدون بأكواب ينعّمون بها، فكذلك ينعّمون بلحم طير، وكذلك ينعّمون بحور عين، والرفع أحسن، والمعنى فلهم حُورٌ عِينٌ، ومن قرأ «وحُوراً عِيناً» حمله على المعنى، لأن المعنى: يُعطَون هذه الأشياء ويُعطَون حُوراً عِيناً، إلاّ أنها تُخالِف المصحف فيكره. ومعنى كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ أي: صفاؤهنّ وتلألؤهنّ شديد كصفاء اللُّؤلؤ وتلألئه. والمكنون: الذي لم يغيِّره الزمان واختلاف أحوال في الاستعمال، فهُنَّ كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه. جَزاءً منصوب مفعول له والمعنى: يُفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم، وجوّز أن يكون منصوباً على أنه مصدر لأن معنى «يطوف عليهم ولِدانٌ مخلَّدون» : يُجازَون جزاءً بأعمالهم وأكثر النّحويّين على هذا الوجه.
__________
(1) في «القاموس» القوز: المستدير من الرمل والكثيب المشرف.
(2) الزخرف: 72.
(3) الصافات: 46.
(4) الصافات: 47.(4/221)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
قوله عزّ وجلّ: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً قد فسرنا معنى اللَّغو والسلام في سورة مريم «1» ومعنى التأثيم في الطور «2» ومعنى «ما أصحابُ اليمين» في أول هذه السّورة «3» .
فإن قيل: التأثيم لا يُسمع فكيف ذكره مع المسموع؟. فالجواب: أن العرب يُتْبِعون آخرَ الكلام أوَّلَه، وإن لم يحسُن في أحدهما ما يحسُن في الآخر، فيقولون: أكلتُ خبزاً ولبَناً، واللَّبَن لا يؤكل، إنما حَسُن هذا لأنه كان مع ما يؤكل، قال الفراء: أنشدني بعض العرب:
إذا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً ... وَزَجَّجْنَ الْحَواجِبَ والعُيُونا
قال: والعَيْنُ لا تُزَجَّج إنما تُكَحَّل، فردَّها على الحاجب لأن المعنى يعرف، وأنشد آخر:
ولَقِيتُ زَوْجَكِ في الوغى ... متقلَّداً سَيْفاً ورمحا
وأنشدني:
عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً
والماء لا يُعْلَف وإِنما يُشْرَب، فجعله تابعاً للتِّبن، قال الفراء: وهذا هو وجه قراءة من قرأ، «وحُورٍ عِينٍ» بالخفض، لإتباع آخر الكلام أوَّله، وهو وجه العربيّة.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
وقد شرحنا معنى قوله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ في قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ «4» . وقد روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: أصحاب اليمين: أطفال المؤمنين.
قوله عزّ وجلّ: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ.
(1389) سبب نزولها أن المسلمين نظروا إلى وجّ، وهو واد بالطّائف مخضب، فأعجبهم سدره.
قالوا: يا ليت لنا مثل هذا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية، والضحاك.
وفي المخضود ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذي لا شَوْكَ فيه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقسامة بن زهير. وقال ابن قتيبة: كأنه خُضِدَ شوكُه. أي: قلع.
(1390) ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم في المدينة: «لا يخضد شوكها» .
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 780 وعزاه لأبي العالية والضحاك وهو منكر جدا، وأمارة الوضع عليه.
ضعيف. في إسناده موسى بن عبيدة واه، ويزيد منكر الحديث، وله شواهد لا تقوم بها حجة.
أخرجه الطبري 33394 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 390 والبيهقي في «البعث» 380 من طرق عن سفيان الثوري به. وأخرجه الترمذي 3296 والطبري 33396 و 33397 وأبو نعيم 390 من طرق عن موسى بن عبيدة به. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث موسى بن عبيدة، ويزيد بن أبان-
__________
(1) مريم: 62.
(2) الطور: 23.
(3) الواقعة: 8.
(4) الواقعة: 8. [.....](4/222)
والثاني: أنه المُوقَر حملاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك. والثالث:
أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه، ذكره قتادة.
وفي الطَّلْح قولان: أحدهما: أنه الموز، قاله عليّ، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، والحسن، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنه شجر عظام كبار الشوك، قال أبو عبيدة: هذا هو الطَّلْح عند العرب، قال الحادي:
بَشَّرَها دليلُها وقالا ... غَداً تَرَيْنَ الطَّلْحَ والجِبالا
فإن قيل: ما الفائدة في الطَّلْح؟ فالجواب أن له نَوْراً وريحاً طيِّبة، فقد وعدهم ما يعرفون ويميلون إليه، وإن لم يقع التساوي بينه وبين ما في الدنيا، وقال مجاهد: كانوا يُعْجَبون ب «وَجٍّ» وظِلاله من طلحه وسدره، فأمّا المنضود، فقال ابن قتيبة: هو الذي قد نُضِدَ بالحَمْل أو بالورق والحَمْل من أوَّله إلى آخره، فليس له ساق بارزة، وقال مسروق: شجر الجنّة نضد من أسفلها إلى أعلاها.
قوله عزّ وجلّ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي: دائم لا تنسخه الشمس. وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي: جارٍ غير منقطع.
قوله عزّ وجلّ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا مقطوعة في حين دون حين، ولا ممنوعة بالحيطان والنواطير إنما هي مُطْلَقة لمن أرادها، هذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، ولخصه بعضهم فقال: لا مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. والثاني: لا تنقطع إذا جُنِيَتْ، ولا تُمْنع من أحد إِذا أريدت، روي عن ابن عباس. والثالث: لا مقطوعة بالفَناء، ولا ممنوعة بالفساد، ذكره الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ فيها قولان: أحدهما: أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم.
وفي رفعها قولان: أحدهما: أنها مرفوعة فوق السُّرر. والثاني: أن رفعها: زيادة حشوها ليطيب الاستمتاع بها.. والثاني: أن المراد بالفرش: النساء والعرب تسمِّي المرأة: فِراشاً وإزاراً ولباساً وفي معنى رفعهن ثلاثة أقوال: أحدها: أنهن رُفِعْن بالجمال على نساء أهل الدنيا، والثاني: رفعن عن الأدناس، والثالث: رفعن في القلوب لشِدَّة الميل إليهن.
قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً يعني النساء. قال ابن قتيبة: اكتفى بذِكْر الفُرُش لأنها محل النساء عن ذكرهن. وفي المشار إِليهن قولان: أحدهما: أنهن نساء أهل الدنيا المؤمنات ثم في إنشائهن قولان: أحدهما: أنه إنشاؤهن من القبور، قاله ابن عباس. والثاني: إعادتهن بعد الشَّمَط والكبر صغاراً، قاله الضحاك. والثاني: أنهن الحُور العين، وإنشاؤهن: إيجادهن عن غير ولادة، قاله الزجاج:
والصواب أن يقال: إن الإنشاء عمَّهُنَّ كُلَّهن، فالحُور أُنشئن ابتداءً، والمؤمنات أُنشئن بالإعادة وتغيير الصفات وقد روى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
وموسى يضعّفان في الحديث. وورد من حديث أم سلمة، أخرجه الطبري 33402، وإسناده واه، فيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه غير واحد، والحسن لم يسمع من أم سلمة. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 3165 عن الحسن عن أمه عن أم سلمة، وفيه سليمان أيضا، وهو ضعيف كما تقدم.(4/223)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
(1391) «إِنَّ من المنشَآت اللاّتي كُنَّ في الدنيا عجائز عمشا رمصا» .
قوله عزّ وجلّ: فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً أي: عذارى. قال ابن عباس: لا يأتيها زوجها إِلاّ وجدها بكرا.
قوله عزّ وجلّ: عُرُباً قرأ الجمهور: بضم الراء. وقرأ حمزة، وخلف: بإسكان الراء قال ابن جرير هي لغة تميم وبكر. وللمفسرين في معنى «عُرُباً» خمسة أقوال: أحدها: أنهن المتحبِّبات إلى أزواجهن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنهن العواشق، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال الحسن، وقتادة، ومقاتل، والمبرّد، وعن مجاهد كالقولين.
والثالث: الحسنة التبعُّل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة. والرابع: المغنّجات، قاله عكرمة. والخامس: الحسنة الكلام، قاله ابن زيد. فأمّا الأتراب فقد ذكرناهنّ في ص «1» .
قوله عزّ وجلّ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ هذا من نعت أصحاب اليمين. وفي الأولين والآخرين خلاف، قد سبق شرحه «2» . وقد زعم أنه لمّا أنزلت الآية الأولى، وهي قوله: «وقليلٌ من الآخِرِين» وجد المؤمنون من ذلك وَجْداً شديداً حتى أُنزلت «وثُلَّةٌ من الآخِرِين» فنسختهْا. وروي عن عروة بن رُويم نحو هذا المعنى.
قلت: وادِّعاء النَّسخ هاهنا لا وجه له لثلاثة أوجه: أحدها: أن علماء الناسخ والمنسوخ لم يوافقوا على هذا. والثاني: أن الكلام في الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ. فهو هاهنا لا وجه له.
والثالث: أن الثُّلَّة بمعنى الفِرْقة والفئة قال الزجاج: اشتقاقهما من القِطعة، والثَّلُّ: الكسر والقطع.
فعلى هذا قد يجوز أن تكون الثُّلَّة في معنى القليل.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
قوله عزّ وجلّ: ما أَصْحابُ الشِّمالِ قد بيَّنّا أنه بمعنى التعجُّب من حالهم والمعنى: ما لهم، وما أعدّ لهم من الشّرّ؟! ثم بيّن سوء مُنْقَلَبهم فقال: فِي سَمُومٍ قال ابن قتيبة: هو حرّ النّار. قوله عزّ وجلّ:
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ قال ابن عباس: ظِلّ من دخان: قال الفراء: اليَحْموم: الدُّخان الأسود، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ فوجه الكلام الخفض تبعاً لما قبله، ومثله زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ «3» ، وكذلك قوله:
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ، ولو رفعت ما بعد «لا» لكان صوابا، والعرب تجعل الكريم
__________
ضعيف. أخرجه الترمذي 3296 والطبري 33394 و 33397 والبيهقي في «البعث» 380 من حديث أنس، وإسناده واه. فيه موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي، وهما ضعيفان.
__________
(1) ص: 52.
(2) الواقعة: 13.
(3) النور: 35.(4/224)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
تابعاً لكل شيء نفت عنه فعلاً يُنوي به الذم، فتقول: ما هذه الدار بواسعة ولا كريمة، وما هذا بسمين ولا كريم. قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم المنظر. قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي:
في الدنيا مُتْرَفِينَ أي: متنعِّمين في ترك أمر الله، فشغلهم تَرفُهم عن الاعتبار والتعبُّد. وَكانُوا يُصِرُّونَ أي: يُقيمون عَلَى الْحِنْثِ وفيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الشِّرك، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك وابن زيد. والثاني: الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه، قاله مجاهد. وعن قتادة كالقولين. والثالث: أنه اليمين الغموس، قاله الشعبي. والرابع: الشِّرك والكفر بالبعث، قاله الزجاج. قوله عزّ وجلّ: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قال أبو عبيدة: الواو متحركة لأنها ليست بواو إنما هي «وآباؤنا» ، فدخلت عليها ألف الاستفهام فتُركتْ مفتوحة. وقرأ أهل المدينة، وابن عامر،: «أَوْ آباؤنا» بإسكان الواو. وقد سبق بيان ما لم نذكره هاهنا «1» إلى قوله: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ قرأ أهل المدينة، وعاصم، وحمزة: «شرب الهيم» بضمّ الشين والباقون بفتحها.. وأكثر أهل نجد يقولون: شَرْباً بالفتح، أنشدني عامَّتهم:
تَكْفيهِ حَزَّةُ فِلْذٍ إِنْ أَلمَّ بها ... من الشِّواءِ ويَكْفِي شَرْبَهُ الغُمَرُ «2»
وزعم الكسائي أن قوماً من بني سعد بن تميم يقولون: «شِرْبَ الهِيم» بالكسر. وقال الزجاج:
«الشَّرْب» المصدر، و «الشُّرْب» بالضم: الاسم. قال: وقد قيل: إنه مصدر أيضاً. وفي «الهِيم» قولان:
أحدهما: الإبل العِطاش، رواه ابن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة. قال ابن قتيبة: هي الإبل يُصيبها داءٌ فلا تَرْوَى من الماء، يقال: بعيرٌ أَهْيَمُ، وناقةٌ هَيْماءُ. والثاني: أنها الأرض الرَّملة التي لا تَرْوَى من الماء، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. قال أبو عبيدة: الهِيم: ما لا يَرْوَى من رمل أو بعير.
قوله عزّ وجلّ: هذا نُزُلُهُمْ أي: رزقهم، وروى عباس عن أبي عمرو: «نُزْلُهم» بسكون الزاي، أي رزقهم وطعامهم. وفى «الدِّين» قولان قد ذكرناهما في الفاتحة «3» .
[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 62]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
قوله عزّ وجلّ: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ أي أوجدناكم ولم تكونوا شيئاً، وأنتم تُقِرُّونَ بهذا فَلَوْلا أي:
فهلاّ تُصَدِّقُونَ بالبعث؟! ثم احتجّ على بعضهم بالقدرة على ابتدائهم فقال: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ قال الزجاج: أي: ما يكون منكم من المَنِيِّ، يقال: أمنى الرجل يُمْني، ومَنى يَمني، فيجوز على هذا «تَمْنونَ» بفتح التاء إن ثبتت به رواية. قوله عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي تخلُقون ما تُمنون بَشَراً؟! وفيه تنبيه على شيئين: أحدهما: الامتهان: إذ خلق من الماء المَهين بَشَراً سوياً. والثاني:
__________
(1) هود: 103 والصافات: 62 والأنعام: 70.
(2) البيت لأعشى باهلة، كما في «جمهرة أشعار العرب» 254، وفي «القاموس» : الحزة: ما قطع من اللحم طولا. والفلذ: كبد البعير. والغمور: قدح صغير والغمر: الماء الكثير.
(3) الفاتحة: 3.(4/225)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
أن من قَدَر على خَلْق ما شاهدتموه من أصل وجودكم كان أقدَرَ على خَلْق ما غاب عنكم من إعادتكم.
قوله عزّ وجلّ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وقرأ ابن كثير: «قَدَرْنا» بتخفيف الدال. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: قضينا عليكم بالموت. والثاني: سوّينا بينكم في الموت. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ قال الزجاج: المعنى: إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم لا يسبقنا سابق، ولا يفوتنا ذلك.
قال ابن قتيبة: لسنا مغلوبين على أن لم نستبدل بكم أمثالكم. قوله عزّ وجلّ: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
وفيه أربعة أقوال: أحدها: نبدِّل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم.
قاله الحسن. والثاني: ننشئكم في حواصل طير سود تكون ب «برهوت» كأنها الخطاطيف، قاله سعيد بن المسيب. والثالث: نخلقكم في أيّ خَلْق شئنا، قاله مجاهد. والرابع: نخلقكم في سوى خلقكم، قاله السدي. قال مقاتل: نخلقكم سوى خلقكم في ما لا تعلمون من الصّور. قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى وهي ابتداء خَلقكم من نُطفة وعَلَقة فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي: فهلاّ تعتبرون فتعلموا قدرة الله فتقرّوا بالبعث.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 74]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
قوله عزّ وجلّ: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أي: ما تعملون في الأرض من إثارتها، وإلقاء البذر فيها، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أي: تُنبِتونه؟! وقد نبَّه هذا الكلام على أشياء منها إحياء الموتى، ومنها الامتنان بإخراج القُوت، ومنها القدرة العظيمة الدالة على التوحيد.
قوله عزّ وجلّ: لَجَعَلْناهُ يعني الزرع حُطاماً قال عطاء: تبناً لا قمح فيه. وقال الزجاج:
أبطلْناه حتى يكون منحطما لا حنطة فيه، ولا شيء. قوله عزّ وجلّ: فَظَلْتُمْ وقرأ الشعبي وابو العالية وابن أبي عبلة: «فظِلْتُم» بكسر الظاء وقد بيناه في قوله: ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً «1» . قوله عزّ وجلّ:
تَفَكَّهُونَ قرأ أُبيُّ بن كعب وابن السميفع والقاسم بن محمد وعروة: «تَفَكَّنونَ» بالنون. وفي المعنى أربعة أقوال: أحدها: تعجّبون، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء ومقاتل. قال الفراء: تتعجَّبون ممّا نَزَل بكم في زرعكم. والثاني: تَنَدَّمون، قاله الحسن والزجاج. وعن قتادة كالقولين. قال ابن قتيبة: يقال «تفكَّهون» : تَنَدَّمون، ومثلها: تفكّنون، وهي لغة لعكل. والثالث: تلاومون، قاله عكرمة. والرابع:
تتفجَّعون، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قال الزجاج: أي: تقولون: قد غَرِمْنا وذهب زرعنا. وقال ابن قتيبة: «لَمُغْرَمونَ» أي: لمعذّبون. قوله عزّ وجلّ: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: حُرِمْنا ما كنّا نطلب من الرّيع في الزرع. وقد نبَّه بهذا على أمرين: أحدهما: إنعامه عليهم إذ لم يجعل زرعهم حطاما. والثاني: قدرته
__________
(1) طه: 97.(4/226)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزرع. فأمّا المُزْن، فهي السَّحاب، واحدتها: مُزْنة. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: الَّتِي تُورُونَ قال أبو عبيدة: أي تستخرجون، من أَوْرَيت، وأكثر ما يقال: وَرَيت.
وقال ابن قتيبة: «تورون» أي: تقدحون، تقول: أَوريتُ النّار: إذا قدحتها.
قوله عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها في المراد بشجَرَتها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحديد، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها الشجرة التي تتّخد منها الزُّنود، وهو خشب يُحَكُّ بعضُه ببعض فتخرج منه النار، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج. والثالث: أن شجرتها: أصلُها، ذكره الماوردي. قوله عزّ وجلّ: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً قال المفسرون: إذا رآها الرّائي ذكر نار جهنّم، وما يخافه من عذابها، فاستجار بالله منها وَمَتاعاً أي: منفعة لِلْمُقْوِينَ وفيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم المسافرون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. قال ابن قتيبة: سمّوا بذلك لنزولهم القَوَى، وهو القفر. وقال بعض العلماء: المسافرون أكثر حاجة إِليها من المقيمين، لأنهم إِذا أوقدوها هربت منهم السّباع واهتدى بها الضال. والثاني: أنهم المسافرون والحاضرون، قاله مجاهد. والثالث: أنهم الجائعون.، قال ابن زيد:
المقوي: الجائع في كلام العرب. والرابع: أنهم الذين لا زاد معهم ولا مال لهم، قاله أبو عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال الزجاج: لما ذكر ما يدل على توحيده، وقدرته، وإنعامه، قال: «فسبّح باسم ربك» أي: برّئ الله ونزّهه عما يقولون في وصفه. وقال الضحاك: معناه:
فصل باسم ربك، أي: استفتح الصلاة بالتكبير. وقال ابن جرير: سبح بذكر ربك وتسميته. وقيل: الباء زائدة. والاسم يكون بمعنى الذات، والمعنى: فسبّح ربّك.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 82]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ في «لا» قولان: أحدهما: أنها دخلت توكيداً. والمعنى:
فأقسم، ومثله لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» ، قاله الزجاج، وهو مذهب سعيد بن جبير. والثاني: أنها على أصلها. ثم في معناها قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى ما تقدّم، ومعناه: النهي، تقدير الكلام: فلا تكذبوا، ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج، قاله الماوردي. والثاني: أنّ «لا» ردّا لما تقوله الكفار في القرآن: إنه سحر، وشعر، وكهانة، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم، قاله علي بن أحمد النيسابوري. وقرأ الحسن: فلأقسم بغير ألف بين اللام والهمزة.
قوله عزّ وجلّ: بِمَواقِعِ وقرأ حمزة، والكسائي: «بموقع» على التوحيد. قال أبو علي:
مواقعها: مساقطها. ومَنْ أَفْرَدَ، فلأنه اسم جنس. ومَنْ جَمَعَ فلاختلاف ذلك. وفي «النجوم» قولان:
أحدهما: نجوم السماء، قاله الأكثرون. فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال: أحدها: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، قاله الحسن. والثاني: منازلها، قاله عطاء، وقتادة. والثالث: مغيبها في
__________
(1) الحشر: 29.(4/227)
المغرب، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنها نجوم القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. فعلى هذا سميت نجوماً لنزولها متفرقة، ومواقعها: نزولها. قوله: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ الهاء كناية عن القسم. وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عِظَمَهُ. ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى:
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ والكريم: اسم جامع لما يحمد، وذلك أن فيه البيان والهدى والحكمة، وهو معظّم عند الله عزّ وجلّ.
قوله عزّ وجلّ: فِي كِتابٍ فيه قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس. والثاني:
أنه المصحف الذي بأيدينا، قاله مجاهد، وقتادة. وفي «المكنون» قولان: أحدهما: مستور من الخلق، قاله مقاتل، وهذا على القول الأول. والثاني: مصون، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من قال: إنَّه اللوح المحفوظ، فالمطهرون عنده:
الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد وسعيد بن جبير. فعلى هذا يكون الكلام خبراً.
ومن قال: هو المصحف، ففي المطهرين أربعة أقوال «1» : أحدها: أنهم المطهرون من الأحداث، قاله الجمهور. فيكون ظاهر الكلام النفي، ومعناه النهي. والثاني: المطهرون من الشرك، قاله ابن السائب.
والثالث: المطهرون من الذنوب والخطايا، قاله الربيع بن أنس. والرابع: أن معنى الكلام: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، حكاه الفراء.
قوله عزّ وجلّ: تَنْزِيلٌ أي: هو تنزيل. والمعنى: هو منزل، فسمّي المنزّل تنزيلا على اتساع اللغة، كما تقول للمقدور: قدر، وللمخلوق: خلق.
قوله عزّ وجلّ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ فيه قولان: أحدهما: مكذّبون، قاله ابن عباس، والضحاك، والفراء. والثاني: ممالئون الكفار على الكفر به، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة:
المدهن: المداهن وكذلك قال ابن قتيبة «مدهنون» أي: مداهنون. يقال: أدهن في دينه، وداهن.
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
(1392) روى مسلم في «صحيحه» من حديث ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول
__________
صحيح. أخرجه مسلم 73 والطبراني في «الكبير» 12/ 198 والواحدي في «أسباب النزول» 782.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 17/ 195: واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسّه لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسّه المحدث وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسّه إلا طاهر. ابن العربي: وهذا إن سلّمه مما يقوي الحجة عليه، لأن حريم الممنوع من الممنوع. وفيما كتبه النبي صلّى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقة ولا على وسادة وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسّه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن عليّ أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى قيصر وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين:
أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن، لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا.(4/228)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر» . قالوا: هذه رحمة آتية وضعها الله حيث شاء. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، وكذا، فنزلت هذه الآية «فلا أقسم بمواقع النجوم» حتى بلغ «أنكم تكذبون» .
(1393) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث زيد بن خالد الجهني، قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الصّبح بالحديبية على إثْرِ سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما المؤمن فقال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذاك مؤمن بي، كافر بالكوكب. وأما من قال:
مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب» .
وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرزق هاهنا بمعنى الشكر.
(1394) روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ قال:
«شكركم» ، وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس. وكان علي يقرأ «وتجعلون شكركم» .
والثاني: أن المعنى: وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم، قاله الأكثرون. وذلك أنهم كانوا يمطرون، فيقولون: مطرنا بنوء كذا. والثالث: أن الرزق بمعنى الحظ. فالمعنى: وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، ذكره الثعلبي. وقرأ أبي بن كعب، والمفضل عن عاصم «وتكذبون» بفتح التاء، وإسكان الكاف، مخفّفة الذال.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 96]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
__________
صحيح. أخرجه البخاري 846 ومسلم 71 ومالك 1/ 192 وأحمد 4/ 117 من حديث زيد بن خالد.
لم أره بهذا اللفظ عن عائشة. وقال السيوطي في «الدر» 6/ 234: أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» عن عائشة رضي الله عنها قالت: مطر الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » فذكره بنحو حديث ابن عباس المتقدم، ولم يذكر فيه تفسير الآية وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ. وورد من حديث علي، أخرجه الترمذي 3295 والطبري 33555 و 33556 وأحمد 1/ 131 وإسناده ضعيف لضعف عبد الأعلى بن عامر الثعلبي ومع ذلك رواه عنه الثوري موقوفا على علي، والثوري أحفظ من إسرائيل، والمرفوع ضعفه أحمد شاكر في «المسند» 1087. وانظر «تفسير الشوكاني» 2438.(4/229)
قوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا أي: فهلاَّ إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ يعني: النَّفْس، فترك ذِكرها لدلالة الكلام، وأنشدوا من ذلك:
إِذا حَشْرَجَتْ يَوْمَاً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ «1» قوله عزّ وجلّ: وَأَنْتُمْ يعني أهل الميت تَنْظُرُونَ إلى سلطان الله وأمره والثاني تنظرون للإنسان في تلك الحالة، ولا تملكون له شيئاً وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ فيه قولان: أحدهما: ملك الموت أدنى إليه من أهله وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ الملائكة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: ونحن أقرب إليه منكم بالعلم والقدرة والرؤية وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ أي: لا تعلمون، والخطاب للكفار، ذكره الواحدي.
قوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ فيه خمسة أقوال: أحدها: محاسبين، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة. والثاني: موقنين، قاله مجاهد.
والثالث: مبعوثين، قاله قتادة. والرابع: مجزيين. ومنه يقال: دنِته، وكما تدين تدان، قاله أبو عبيدة.
والخامس: مملوكين أذَّلاء، من قولك: دِنت له بالطاعة، قاله ابن قتيبة. قوله عزّ وجلّ: تَرْجِعُونَها أي: تردُّون النَّفْس. والمعنى: إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم، فهلاَّ تردُّون هذه النَّفْس؟! فإذا لم يمكنكم ذلك، فاعلموا أن الأمر لغيركم. قال الفرّاء: وقوله عزّ وجلّ: تَرْجِعُونَها هو جواب لقوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ولقوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ فإنهما أجيبتا بجواب واحد. ومثله قوله عزّ وجلّ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «2» .
ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت فقال عزّ وجلّ: فَأَمَّا إِنْ كانَ يعني: الذي بلغت نَفْسه الحلقوم مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله. قال أبو العالية: هم السابقون فَرَوْحٌ أي: فَلَهُ رَوْحٌ. والجمهور يفتحون الراء. وفي معناها ستة أقوال «3» : أحدها: الفرح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني:
الراحة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: المغفرة والرحمة، رواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: الجنة، قاله مجاهد. والخامس: رَوْحٌ من الغَمّ الذي كانوا فيه، قاله محمد بن كعب.
والسادس: رَوْح في القبر، أي: طيب نسيم، قاله ابن قتيبة. وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رزين، والحسن، وعكرمة وابن يعمر، وقتادة، ورويس عن يعقوب، وابن أبي سُريج عن الكسائي: «فَرُوْحٌ» برفع الراء. وفي معنى هذه القراءة قولان: أحدهما: أن معناها: فرحمة، قاله قتادة. والثاني: فحياة وبقاءٌ، قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: معناه: فحياة دائمة لا موت معها. وفي «الريحان» أربعة أقوال:
أحدها: أنه الرزق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنه المستراح، رواه ابن أبي طلحة عن
__________
(1) هو عجز بيت لحاتم الطائي كما في ديوانه 50، وصدره: أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى.
(2) البقرة: 38.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 666: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: عني بالرّوح: الفرح والرحمة والمغفرة، وأصله في قولهم: وجدت روحا: إذا وجد نسيما يستروح إليه من كرب الحرّ. وأما الريحان، فإنه عندي الريحان الذي يتلقى به عند الموت، كما قال أبو العالية والحسن لأن ذلك الأغلب والأظهر من معانيه.(4/230)
ابن عباس. والثالث: أنه الجنة، قاله مجاهد، وقتادة. والرابع: أنه الريحان المشموم. وقال أبو العالية:
لا تخرج روح أحد من المقربين من الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة، فيشمه، ثم تقبض فيه روحه، وإلى نحو هذا ذهب الحسن. وقال أبو عمران الجوني: بلغنا أن المؤمن إذا قبض روحه تلقى بضبائر الريحان من الجنّة، فتجعل روحه فيه.
قوله عزّ وجلّ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فسلامة لك من العذاب، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: تسلِّم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين، قاله عطاء. والثالث: أن المعنى: أنك ترى فيهنّ ما تحب من السلامة، وقد علمت ما أُعدَّ لهم من الجزاء، قاله الزجاج. قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ أي: بالبعث الضَّالِّينَ عن الهدى فَنُزُلٌ وقد بيَّناه في هذه السّورة «1» .
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ هذا يعني ما ذكر في هذه السورة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي هو اليقين حقاً، فأضافه إلى نفسه، كقولك: صلاة الأولى، وصلاة العصر، ومثله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ «2» ، وقد سبق هذا المعنى، وقال قوم: معناه: وإنه للمتقين حقاً. وقيل للحق: اليقين.
قوله عزّ وجلّ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قد ذكرناه في هذه السّورة «3» .
__________
(1) الواقعة: 56.
(2) يوسف: 109. [.....]
(3) الواقعة: 74.(4/231)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
سورة الحديد
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنها مكّيّة، قاله ابن السّائب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قوله عزّ وجلّ: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أمّا تسبيح ما يعقل، فمعلوم، وتسبيح ما لا يعقل، قد ذكرنا معناه في قوله عزّ وجلّ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» . قوله عزّ وجلّ: هُوَ الْأَوَّلُ قال أبو سليمان الخطّابي: الأول هو السابق للأشياء وَالْآخِرُ الباقي بعد فناء الخلق وَالظَّاهِرُ بحجّته الباهرة، وبراهينه النَّيِّرة، وشواهده الدَّالة على صِحَّة وحدانيته. ويكون: الظاهر فوق كل شيء بقدرته.
وقد يكون الظهور بمعنى العلوِّ، ويكون بمعنى الغلبة. والباطن: هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهُّم الكيفية، وقد يكون معنى الظهور والبطون: احتجابه عن أبصار الناظرين، وتجلِّيه لبصائر المتفكِّرين. ويكون معناه: العالم بما ظهر من الأمور والمطَّلع على ما بطن من الغيوب. قوله:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مفسّر في الأعراف «2» إلى قوله عزّ وجلّ: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وهو مفسر في سبأ «3» إلى قوله عزّ وجلّ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي: بعلمه وقدرته. وما بعده ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قال المفسرون: هذا الخطاب لكفار قريش وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعني: المال الذي كان بأيدي غيرهم، فأهلكهم الله، وأعطى قريشاً ذلك المال، فكانوا فيه خلفاء من مضى.
__________
(1) الإسراء: 44.
(2) الأعراف: 54.
(3) سبأ: 2.(4/232)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
[سورة الحديد (57) : الآيات 8 الى 11]
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
قوله عزّ وجلّ: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ هذا استفهام إِنكار، والمعنى: أيُّ شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قرأ أبو عمرو «أُخذ» بالرفع. وقرأ الباقون «أخذ» بفتح الخاء مِيثاقَكُمْ بالفتح. والمراد به: حين أُخرجتم من ظهر آدم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالحجج والدلائل. قوله: عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ يعني: محمداً صلّى الله عليه وسلم آياتٍ بَيِّناتٍ يعني:
القرآن لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ يعني الشرك إلى نور الإيمان وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حين بعث الرسول ونصب الأدلة. ثم حثهم على الإنفاق فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: أي شيءٍ لكم في ترك الإنفاق ممّا يقرّب إلى الله عزّ وجلّ وأنتم ميتون تاركون أموالكم؟! ثم بين فضل من سبق بالإنفاق فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وفيه قولان: أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنه فتح الحديبية، قاله الشعبي. والمعنى: لا يستوي من أنفق قبل ذلك وَقاتَلَ ومن فعل ذلك بعد الفتح. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق. أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً قال ابن عباس: أعظم منزلةً عند الله. قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزجاج: لأن المتقدمين كانت بصائرهم، أنفذ.
ونالهم من المشقة أكثر وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي: وكلا الفريقين وعده الله الجنة. وقرأ ابن عامر «وكُلٌّ» بالرفع. قوله عزّ وجلّ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ قرأ ابن كثير، وابن عامر «فيضعّفه» مشددة العين بغير ألف، إِلا أن ابن كثير يضم الفاء، وابن عامر يفتحها. وقرأ نافع وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «فيضاعفُه» بالألف وضم الفاء، وافقهم عاصم إلا أنه فتح الفاء. قال أبو علي: يضاعِف ويضعِّف بمعنى واحد، إلا أن الرفع في «يضاعف» هو الوجه، لأنه محمول على «يُقرض» . أو على الانقطاع من الأول كأنه قال: فهو يضاعف. ويحمل قول الذي نصب على المعنى، لأنه إذا قال: من ذا الذي يُقرض اللهَ، معناه: أيقرض اللهَ أحدٌ قرضاً فيضاعفه. والآية مفسرة في البقرة «1» . والأجر الكريم: الجنّة.
[سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
__________
(1) البقرة: 245.(4/233)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
قوله عزّ وجلّ: يَسْعى نُورُهُمْ قال المفسرون: يضيء لهم نور عملهم على الصراط على قدر أعمالهم. قال ابن مسعود: منهم مَن نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفئ مرة، ويوقد أخرى. وفي قوله عزّ وجلّ: وَبِأَيْمانِهِمْ قولان: أحدهما: أنه كتبهم يعطَونها بأيمانهم، قاله الضحاك.
والثاني: أنه نورهم يسعى، أي: يمضي بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، والباء بمعنى:
«في» . و «في» بمعنى «عن» ، وهذا قول الفراء.
قوله تعالى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ هذا قول الملائكة لهم. قوله تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ وقرأ حمزة:
«أنظِرونا» بقطع الهمزة، وفتحها، وكسر الظاء، قال المفسرون: تغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، فيعطَى المؤمنون النور، فيمشي المنافقون بنور المؤمنين، قالوا: انظرونا نقتبس من نوركم، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ في القائل لهم قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون، قاله ابن عباس. والثاني: الملائكة، قاله مقاتل، وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: ارجعوا إلى المكان الذي قبستم فيه النور، فيرجعون، فلا يرون شيئاً. والثاني: ارجعوا فاعملوا عملاً يجعله الله لكم نوراً. والثالث: أن المعنى: لا نور لكم عندنا. قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ قال ابن عباس: هو الأعراف، وهو سُورٌ بين الجنة والنار باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وهي الجنة وَظاهِرُهُ يعني من وراء السور مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وهو جهنم. وقد ذهب قوم إلى أنّ السور يكون ببيت المقدس في مكان السور الشرقي بين الوادي الذي يسمى: وادي جهنم، وبين الباب الذي يسمى: باب الرحمة، وإلى نحو هذا ذهب عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمر، وكعب.
قوله عزّ وجلّ: يُنادُونَهُمْ أي: ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي: على دينكم نصلي بصلاتكم، ونغزو معكم؟! فيقول لهم المؤمنون: بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ فيه قولان: أحدهما: تربَّصتم بالتوبة. والثاني: تربَّصتم بمحمد الموتَ، وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح وَارْتَبْتُمْ شككتم في الحق وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ يعني ما كانوا يتمنَّون من نزول الدوائر بالمؤمنين حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وفيه قولان: أحدهما: أنه الموت. والثاني: إلقاؤهم في النار وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي غرّكم الشيطان بحكم الله وإمهاله فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب «لا تؤخذ» بالتاء، أي: بدل وعوض عن عذابكم. وهذا خطاب للمنافقين، ولهذا قال عزّ وجلّ: وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
قوله عزّ وجلّ: هِيَ مَوْلاكُمْ قال أبو عبيدة: أي: أولى بكم.
[سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 17]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا اختلفوا فيمن نزلت على قولين:(4/234)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
(1395) أحدهما: أنها نزلت في المؤمنين. قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً.
والثاني: أنها نزلت في المنافقين، قاله أبو صالح عن ابن عباس «1» . قال مقاتل: سأل المنافقون سلمان الفارسي فقالوا: حدِّثنا عن التوراة، فإن فيها العجائب، فنزلت هذه الآية «2» .
وقال الزجاج: نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حَثُّوا على الرِّقَّة والخشوع. فأما من كان وصفه الله عزّ وجلّ بالخشوع، والرِّقَّة، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء. فعلى الأول: يكون الإيمان حقيقة. وعلى الثاني: يكون المعنى: «ألم يأن للذين آمنوا» بألسنتهم. قال ابن قتيبة: المعنى: ألم يحن.
تقول: آن الشيء: إذا حان.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ أي تَرِقَّ وتلين لِذِكْرِ اللَّهِ. المعنى: أنه يجب أن يورثهم الذِّكْر خشوعاً وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «وما نزَّل» بفتح النون والزاي مع تشديد الزاي. وقرأ نافع وحفص، والمفضل عن عاصم «نزل» بفتح النون وتخفيف الزاي. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وابن يعمر، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم «نُزِّل» برفع النون وكسر الزاي مع تشديدها. وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «وما أَنزل» بهمزة مفتوحة وفتح الزاي. وقرأ أبو مجلز، وعمرو بن دينار مثله إلا أنه بضم الهمزة وكسر الزاي.
و «الحق» القرآن وَلا يَكُونُوا قرأ رويس عن يعقوب «ولا تكونوا» بالتاء كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وهو الزمان. وقال ابن قتيبة: الأمد: الغاية. والمعنى: أنه بَعُد عهدهم بالأنبياء والصالحين فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمد عليهما السّلام اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يخرج منها النبات بعد يبسها، فكذلك يقدر على إحياء الأموات قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على وحدانيته وقدرته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تتأمّلوا.
[سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ قرأ ابن كثير، وعاصم إلا حفصاً بتخفيف الصاد فيهما على معنى التصديق. وقرأ الباقون بالتشديد على معنى الصدقة. قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ اختلفوا في نظم الآية على قولين «3» : أحدهما: أن تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ:
__________
هذا الأثر صحيح، أخرجه مسلم 3027 والنسائي في «التفسير» 588 واستدركه الحاكم 2/ 479 كلهم عن ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» 2456.
__________
(1) موضوع. عزاه المصنف لأبي صالح، وهو متهم في ابن عباس، حيث روى وصاحبه الكلبي تفسير موضوعا عن ابن عباس، وهذا منه، فالآية المراد بها المؤمنون.
(2) الخبر منكر جدا، أمارة الوضع لائحة عليه، ومقاتل هو ابن سليمان وهو كذاب.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 684: والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال:
الكلام والخبر عن الذين آمنوا، متناه عند قوله أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وأن قوله وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ خبر مبتدأ عن الشهداء.(4/235)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ثم ابتدأ فقال عزّ وجلّ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ هذا قول ابن عباس، ومسروق، والفراء في آخرين. والثاني: أنها على نظمها، والواو في «والشهداء» واو النسق، ثم في معناها قولان:
أحدهما: أن كل مؤمن صِدِّيق شهيد، قاله ابن مسعود ومجاهد. والثاني: أنها نزلت في قوم مخصوصين، وهم ثمانية نفر سبقوا إِلى الإسلام: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة بن عبد المطلب، وطلحة، والزبير، وسعد، وزيد، قاله الضحاك. وفي الشهداء قولان: أحدهما: أنه جمع شاهد. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء خاصة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الشاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان بالله، قاله مجاهد. والقول الثاني: أنه جمع شهيد، قاله الضّحّاك، ومقاتل.
[سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
قوله عزّ وجلّ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا يعني: الحياة في هذه الدّار لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي: غرور تنقضي عن قليل. وذهب بعض المفسرين «1» إلى أن المشار بهذا إلى حال الكافر في دنياه، لأنّ حياته تنقضي على لهو ولعب وتزيين الدنيا، وتفاخر يفاخر قرناءه وجيرانه، ويكاثرهم بالأموال والأولاد، فيجمع من غير حلّه، ويتطاول على أولياء الله بماله، وخدمه، وولده، فيفنى عمره في هذه الأشياء، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة. ثم بين لهذه الحياة شبهاً، فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ يعني: مطراً أَعْجَبَ الْكُفَّارَ وهم الزُّرَّاع، وسموا كفاراً، لأن الزارع إذا ألقى البذر في الأرض كفره، أي: غطاه نَباتُهُ أي ما نبت من ذلك الغيث ثُمَّ يَهِيجُ أي ييبس فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد خضرته وَرِيَّه ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي ينحطم، وينكسر بعد يبسه. وشرح هذا المثل قد تقدم في يونس عند قوله عزّ وجلّ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا «2» ، وفي الكهف عند قوله عزّ وجلّ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا «3» . قوله عزّ وجلّ: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي: لأعداء الله وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لأوليائه وأهل طاعته. وما
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 370: هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزا شوهاء، والإنسان كذلك يكون في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريا لين الأعطاف، بهيّ المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وينفد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى قليل الحركة، يعجزه الشيء اليسير، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الروم: 54 ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخبر، فقال:
وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان.
(2) يونس: 24.
(3) الكهف: 45.(4/236)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
بعد هذا مذكور في آل عمران «1» ، إلى قوله: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ فبين أنه لا يدخل الجنّة أحد إلّا بفضل الله.
[سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
قوله عزّ وجلّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ يعني: قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يعني الأمراض، وفقد الأولاد إِلَّا فِي كِتابٍ وهو اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أن نخلقها، يعني: الأنفس إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: إنّ إثبات ذلك على كثرته هيِّن على الله عزّ وجلّ لِكَيْلا تَأْسَوْا أي: تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ قرأ أبو عمرو- الا اختيار اليزيدي- بالقصر على معنى: جاءكم من الدنيا. وقرأ الباقون بالمدّ على معنى: ما أعطاكم الله منها. وأعلم أنه من علم أن ما قضي لا بدَّ أن يصيبه قبل حُزنه وفرحه. وقد روى قتيبة بن سعيد قال: دخلت بعض أحياء العرب، فإذا بفضاء من الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلُّها قد مات، فسألت عجوزاً: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلٍّ يغزل الصوف، فقلت له: يا شيخ لك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي، قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها، قلت:
فهل قلت في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، قلت:
لا والَّذي أَنَا عَبْدٌ في عِبَادَتِهِ ... والمَرْءُ في الدَّهْر نصْبَ الرُّزْءِ والحَزَنَ
ما سَرَّني أَنَّ إبْلي في مَبَارِكِها ... وما جرى في قضاء الله لم يَكُنِ
وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة النساء «2» ، والذي قيل في البخل هناك هو الذي قيل هاهنا إلى قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن عباده الْحَمِيدُ إلى أوليائه. وقد سبق معنى الاسمين في البقرة «3» . وقرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغني الحميد» ليس فيها «هو» وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة، والشّام.
[سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي: بالآيات والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ ببيان الشرائع، والأحكام. وفي «الميزان» قولان: أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنه الذي يوزن به، قاله ابن زيد ومقاتل. فعلى القول الأول: يكون المعنى: أمرنا بالعدل.
وعلى الثاني: ووضعنا الميزان، أي: أمرنا به لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي: لكي يقوموا بالعدل. قوله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فيه قولان: أحدهما: أن الله تعالى أنزل مع آدم السندان، والكلبتين، والمطرقة، قاله ابن عباس. والثاني: أن معنى «أنزلنا» : أنشأنا وخلقنا، كقوله عزّ وجلّ:
__________
(1) آل عمران: 185.
(2) النساء: 37.
(3) البقرة: 267. [.....](4/237)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «1» . قوله عزّ وجلّ: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ قال الزجاج: وذلك أنه يمتنع به، ويحارب به وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يستعملونه في أدواتهم، وما ينتفعون به من آنية وغيرها. قوله عزّ وجلّ:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ هذا معطوف على قوله تعالى: لِيَقُومَ النَّاسُ، والمعنى: ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله مَنْ يَنْصُرُهُ بالقتال في سبيله، ونصرة دينه، وذلك أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك. وقد سبق معنى قوله عزّ وجلّ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ في مواضع. وقوله عزّ وجلّ: بِالْغَيْبِ أي: ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يجهد ويثاب من أطاع بالغيب.
[سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ يعني: الكتب فَمِنْهُمْ يعني: من الذرية مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ فيه قولان: أحدهما: كافرون، قاله ابن عباس. والثاني: عاصون، قاله مقاتل. قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي: أَتْبَعْنا على آثار نوح، وإبراهيم، وذريتهما بِعِيسَى وكان آخر أنبياء بني إِسرائيل، وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني: الحواريين وغيرهم من أتباعه على دينه رَأْفَةً وقد سبق بيانها «2» والمعنى أنهم كانوا متوادّين، كما وصف الله تعالى أصحاب نبينا عليه السّلام، فقال عزّ وجلّ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «3» .
قوله عزّ وجلّ: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ليس هذا معطوفاً على ما قبله، وإنما انتصب بفعل مضمر، يدل عليه ما بعده، تقديره: وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها، أي: جاءوا بها من قِبل أنفسهم، وهي غلوُّهم في العبادة، وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناعِ عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح، والتعبُّد في الجبال ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي: ما فرضناها عليهم.
وفي قوله عزّ وجلّ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ قولان:
أحدهما: أنّ الاستثناء يرجع إلى قوله عزّ وجلّ: ابْتَدَعُوها والمعنى ابتدعوها طلبا لرضوان الله، ولم يكتبها عليهم، وهذا قول الجمهور. وتقديره: ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ذكره علي بن عيسى والرماني عن قتادة وزيد بن أسلم.
والثاني: أنه راجع إلى قوله عزّ وجلّ: «ما كتبناها» ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوعاً إلا ابتغاء رضوان الله. قال الحسن: تطوّعا بابتداعها ثم كتبها الله عليهم. وقال الزجاج: لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع لزمهم إِتمامه، كما أن الإنسان إِذا جعل على نفسه صوماً لم يفترض عليه، لزمه أن يتمَّه. قال القاضي أبو يعلى: والابتداع قد يكون بالقول، وهو ما
__________
(1) الزمر: 6.
(2) النور: 2.
(3) الفتح: 29.(4/238)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه. وعموم الآية تتضمن الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة، قولاً أو فعلاً، فعليه رعايتها وإِتمامها. والثاني: أن المعنى: ما أمرناهم منها إِلا بما يرضي الله عزّ وجلّ، لا غير ذلك، قاله ابن قتيبة.
قوله عزّ وجلّ: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الذين ابتدعوا الرهبانية، قاله الجمهور. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ما رَعَوْها لتبديل دينهم وتغييرهم له، قاله عطية العوفي. والثاني: لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم. والثالث: لكفرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم لما بُعث، ذكر القولين الزجاج: والثاني: أنهم الذين اتبعوا مبتدعي الرهبانية في رهبانيتهم، ما رَعوها بسلوك طريق أوليهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قوله عزّ وجلّ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: الذين آمنوا بمحمّد صلّى الله عليه وسلم. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين لم يؤمنوا به. والثاني: أن الذين آمنوا: المؤمنون بعيسى عليه السّلام والفاسقون: المشركون. والثالث: أن الذين آمنوا: مبتدعو الرهبانية، والفاسقون: متبعوهم على غير القانون الصحيح.
[سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ عامة المفسرين على أن هذا الخطاب لليهود والنصارى، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله، وآمنوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أي نصيبين، وحظَّين مِنْ رَحْمَتِهِ. قال الزجاج: الكفل: كساء يمنع الراكب أن يسقط، فالمعنى: يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي. وقد بينا معنى «الكفل» في سورة النساء. وفي المراد بالكفلين هاهنا قولان: أحدهما: أنّ أحدهما لإيمانهم بمن تقدَّم من الأنبياء، والآخر لإيمانهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. والثاني: أن أحدهما: أجر الدنيا. والثاني: أجر الآخرة، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً. فيه أربعة أقوال: أحدها: القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: تمشون به على الصراط، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: الهدى، قاله مجاهد. والرابع: الإيمان، قاله ابن السّائب.
قوله عزّ وجلّ: لِئَلَّا يَعْلَمَ «لا» زائدة. قال الفراء: والعرب تجعل «لا» صلة في كل كلام دخل في آخره أو أوله جحد، فهذا مما جُعل في آخره جحد. والمعنى: ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم أَلَّا يَقْدِرُونَ أي: أنهم لا يقدرون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ والمعنى: أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلم ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فآتاه المؤمنين. هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين.(4/239)
(1396) وقد ذهب قوم إلى أنه لما نزل في مسلمي أهل الكتاب قوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ «1» افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هاتان الآيتان، وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. فعلى هذا يكون الخطاب للمسلمين، ويكون المعنى: يؤتكم أجرين ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصّكم به فإنه فضَّلكم على جميع الخلائق. وقال قتادة: لما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ الآية، حسد أهل الكتاب المسلمين، فأنزل الله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهذه رواية ساقطة، مدارها على الكلبي، وهو ممن يضع الحديث. وعزاه لمقاتل، وتقدم أنه يضع الحديث أيضا.
__________
(1) القصص: 54.(4/240)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
سورة المجادلة
وهي مدنيّة في قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة وقتادة والجمهور. وروي عن عطاء أنه قال: العشر الأول منها مدنيّ، والباقي مكّيّ. وعن ابن السّائب: أنها مدنيّة سوى آية، وهي قوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المجادلة (58) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.
(1397) أما سبب نزولها، فروي عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، ولقد جاءت المجادلة فكلّمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول: يا رسول الله، أبلى شبابي، ونثرتُ له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات.
فأما تفسيرها، فقوله عزّ وجلّ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قال الزجاج: إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين لأنهما من حروف طرف اللسان، وإدغام الدال في السين تقوية للحرف، وإظهار الدال جائز
__________
صحيح. أخرجه النسائي 6/ 46 وفي «الكبرى» 11570 و «التفسير» 590 وابن ماجة 188 و 2063 وأحمد 6/ 46 وعبد الرزاق في «التفسير» 1118 والحاكم 2/ 481 والطبري 33725 و 33726 والواحدي في «الأسباب» 788 والبيهقي 7/ 382 من طرق عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة. وإسناده صحيح، رجاله ثقات رجال البخاري ومسلم غير تميم، فإنه من رجال مسلم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن خولة بنت ثعلبة. أخرجه أحمد 6/ 410 وأبو داود 2214 والبيهقي 7/ 389 والطبري 33714 وابن حبان 4279 والواحدي في «الأسباب» 791 من طريق محمد بن إسحاق حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف به. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 2463 و «أحكام القرآن» لابن العربي 2045 و 2047 و «الجامع لأحكام القرآن» 5838 وهي جميعا بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) المجادلة: 7.(4/241)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
لأنه وإِن قرب من مخرج السين فله حيّز على حدة، ومن موضع الدال الطاء والتاء، فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد، والسين والزاي والصاد من موضع واحد، وهي تسمى حروف الصفير. وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال: أحدها: خولة بنت ثعلبة، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال عكرمة وقتادة والقرظي. والثاني: خولة بنت خويلد، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: خولة بنت الصامت، رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: خولة بنت الدليج، قاله أبو العالية، واسم زوجها:
أوس بن الصامت، وكانا من الأنصار.
(1398) قال ابن عباس: كان الرجل إِذا قال لامرأته في الجاهلية: أنتِ عليَّ كظهر أمي، حرُمَتْ عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، ثم ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات. فأما مجادلتها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه كان كلمَّا قال لها: قد حرمتِ عليه، تقول:
والله ما ذكر طلاقاً، فقال: ما أُوحي إليَّ في هذا شيء، فجعلت تشتكي إلى الله. وتشتكي بمعنى تشكو.
يقال: اشتكيت ما بي وشكوته، بمعنى شكوى شاك أي أشكيته. وقالت: إن لي صبية صغاراً، إِن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا. فأما التحاور، فهو مراجعة الكلام. قال عنترة في فرسه:
لو كان يدْري ما المُحاورَةُ اشْتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلّمي
[سورة المجادلة (58) : الآيات 2 الى 4]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «يظَّهَّرون» بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف. وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي: بفتح الياء وتشديد الظاء وبألف وتخفيف الهاء. وقرأ عاصم «يُظاهِرون» بضم الياء وتخفيف الظاء والهاء وكسر الهاء في الموضعين مع إِثبات الألف. وقرأ ابن مسعود «يتظاهرون» بياءٍ وتاءٍ وألف. وقرأ أبي بن كعب «يتظَهَّرون» بياءٍ وتاء وتخفيف الظاء وتشديد الهاء من غير ألف. وقرأ الحسن وقتادة والضحاك «يظهرون» بفتح الياء وفتح الظاء مخففة، مكسورة الهاء مشددة. والمعنى: تقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ قرأ الأكثرون بكسر التاء. وروى المفضل عن عاصم رفعها. والمعنى ما اللواتي تجعلن كالأمهات بأمهات لهم إِنْ أُمَّهاتُهُمْ أي ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ قال الفراء: وانتصاب «الأمهات» هاهنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله «ما هنّ بأمهاتهم» ، ومثله: ما هذا بَشَراً «1» ، المعنى:
__________
أخرجه البيهقي 7/ 382- 383 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف أبي حمزة الثمالي، لكن يشهد لأصله ما تقدم. وانظر «تفسير الشوكاني» 2462 بتخريجنا.
__________
(1) يوسف: 31.(4/242)
ما هذا ببشرٍ، فلما أُلقيت الباء أُبقي أثرها، وهو النصب، وعلى هذا كلام أهلِ الحجاز. فأما أهل نجد فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا، فقالوا: «ما هن أمهاتُهم» و «ما هذا بشرٌ» أنشدني بعض العرب:
رِكابُ حُسَيْلٍ آخِرَ الصَّيْفِ بُدَّنٌ ... وَنَاقَةُ عَمْروٍ مَا يُحَلُّ لَها رَحْلُ
وَيَزْعُمُ حَسْلٌ أَنَّهُ فَرْعُ قَوْمِهِ ... وَمَا أَنْتَ فرع يا حسيل ولا أصل
قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُمْ يعني: المظاهرون لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ لتشبيههم الزوجات بالأمهات، والأمهات محرمات على التأبيد، بخلاف الزوجات وَزُوراً أي: كذباً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِذ شرع الكفارة لذلك.
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا «1» اللام في «لما» بمعنى «إلى» ، والمعنى: ثم يعودون إلى تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء، قال الفراء: معنى الآية: يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا. وقال سعيد بن جبير: المعنى: يريدون أن يعودوا للجماع الذي قد حرَّموه على أنفسهم. وقال الحسن، وطاوس، والزهري: العَود: هو الوطء. وهذا يرجع إلى ما قلناه. وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظّهار مدّة يمكنه طلاقها فيها فلا يطلقها. فإذا وجد هذا، استقرت عليه الكفارة، لأنه قصد بالظهار تحريمها، فإن وصل إلى ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه، وان سكت عن الطلاق، فقد ندم على ما ابتدأ به، فهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة. وقال داود:
هو إِعادة اللفظ ثانياً، لأن ظاهر قوله عزّ وجلّ: يَعُودُونَ يدل على تكرير اللفظ. قال الزجاج: وهذا قول من لا يدري اللغة. وقال أبو علي الفارسي: ليس في هذا كما ادَّعَوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبلُ. وسميت الآخرةُ معاداً، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها. قال الهذلي:
وعَادَ الفَتَى كالكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ ... سِوى الحَقِّ شيئاً واسْتَرَاحَ العَواذِلُ
وقد شرحنا هذا في قوله عزّ وجلّ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «2» . وقال ابن قتيبة: من توَّهم أن الظهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية، فليس بشيء، لأن الناس قد أجمعوا أن الظهار يقع بلفظ واحد. وإنما تأويل الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يطلِّقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية، وأنزل قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يريد في الجاهلية «ثم يعودون لما قالوا» في الإسلام، أي: يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ قال
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 192: وهو حرف مشكل، واختلف الناس فيه قديما وحديثا، وأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا، لا يصح، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 380: اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فقال بعض الناس: العود: هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره وهذا القول باطل، وهو اختيار ابن حزم وقول داود. وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق. وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع والعزم على الجماع أو الإمساك، فلا تحل له حتى يكفّر بهذه الكفارة. وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه: أنه الجماع، وقال أبو حنيفة: هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة.
(2) البقرة: 210.(4/243)
المفسرون: المعنى: فعليهم، أو فكفارتهم تحرير رقبة «1» ، أي: عتقها. وهل يشترط أن تكون مؤمنة؟
فيه عن أحمد روايتان. قوله عزّ وجلّ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وهو: كناية عن الجماع، على أن العلماء قد اختلفوا هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان. وقال أبو الحسن الأخفش: تقدير الآية: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم.
فصل: إذا وطئ المظَاهِرُ قبل أن يكفِّر أَثِمَ، واستقرَّت الكفارة، وقال أبو حنيفة: يسقط الظهار والكفارة. واختلف العلماء فيما يجب عليه إِذا فعل ذلك، فقال الحسن، وسعيد بن المسيّب، وطاوس، ومجاهد وإبراهيم، وابن سيرين: عليه كفارة واحدة، وقال الزهري، وقتادة في آخرين: عليه كفارتان.
فإن قال: أنت عليَّ كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضيِّ اليوم، هذا قول أصحابنا وأبي حنيفة، والثوري، والشافعي، وقال ابن أبي ليلى، ومالك، والحسن بن صالح: هو مظاهر أبداً. واختلفوا في الظهار من الأمة، فقال ابن عباس: ليس من الأمة ظهار، وبه قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وقال سعيد بن جبير، وطاوس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك: هو ظهار. ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: لا يكون مظاهرا من أمته، ولكن يلزمه كفارة الظهار، كما قال في المرأة إِذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة، وتلزمها كفّارة الظّهار. واختلفوا فيمن قال: أنت عليّ كظهر أبي، فقال مالك: هو مظاهر، وهو قول أصحابنا، وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: لا يكون مظاهرا. واختلفوا فيمن ظاهر مراراً، فقال أبو حنيفة، والشافعي: إن كان في مجالس، فكفارات، وإن كان في مجلس واحد، فكفارة: قال القاضي أبو يعلى: وعلى قول أصحابنا يلزمه كفارة واحدة، سواء كان في مجلس واحد، أو في مجالس، ما لم يكفِّر، وهذا قول مالك.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ قال الزجاج: ذلكم التغليظ توعظون به. والمعنى: أن غِلَظَ الكفارة وَعْظٌ لكم حتى تتركوا الظّهار. قوله عزّ وجلّ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني: الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي: فعليه صيام شهرين «2» مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام فكفّارته إطعام سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ أي: الفرض ذلك الذي وصفنا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: تصدِّقوا بأنَّ الله أمر بذلك، وتصدِّقوا بما أتى به الرسولُ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني: ما وصفه الله من الكفَّارات في الظِّهار وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ قال ابن عباس: لمن جحد هذا وكذّب به.
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 105: وظاهر قوله تعالى، يرتبط الوجوب بالعود، وفيه يرتبط كيفما كانت حالة الارتباط، بيد أنه للمسألة حرف جرى في ألسنة علمائنا من غير قصد، وهو مقصود المسألة، وذلك أن المعتبر في الكفارة صفة العبادة أو صفة العقوبة. والشافعي اعتبر صفة العقوبة، ونحن اعتبرنا صفة القربة، والقرب إنما يعتبر في حال الإجراء خاصة بحال الأداء، كالطهارة والصلاة، والذي يعتبر فيه حالة الوجوب هي الحدود، والطهارة ليست مقصودة لنفسها، وإنما تراد للصلاة، فاعتبر حال فعل الصلاة فيها.
قلنا: وكذلك الكفارة ليست مقصودة لنفسها، وإنما تراد لحل المسيس، فإذا احتيج إلى المسيس اعتبرت الحالة المذكورة فيها.
(2) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 197: يقتضي أن الوطء للزوجة في ليل الظهار يبطل الكفارة، لأن الله سبحانه شرط في كفارة الظهار فعلها قبل التماس.(4/244)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قد ذكرنا معنى المحادَّة في التوبة «1» ، ومعنى «كُبتوا» في آل عمران عند قوله عزّ وجلّ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ «2» ، وقال ابن عباس: أُخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممن قاتل الرّسل. قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي: من قبورهم فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من معاصيه، وتضييع فرائضه أَحْصاهُ اللَّهُ أي: حفظه الله عليهم وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالهم في السِّر والعلانية شَهِيدٌ. أَلَمْ تَرَ أي: ألم تعلم. قوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ وقرأ أبو جعفر «ما تكون» بالتاء. قال ابن قتيبة: النجوى: السرار. وقال الزجاج: ما يكون من خلوة ثلاثة يسرِّون شيئاً، ويتناجَوْن به إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي: عالم به. و «نجوى» الزجاج: ما يكون من خلوة ثلاثة يسرِّون شيئاً، ويتناجَوْن به إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي: عالم به. و «نجوى» مشتق من النجوة، وهو ما ارتفع. وقرأ يعقوب «ولا أكثرُ» بالرفع. وقال الضحاك: «إلا هو معهم» أي:
علمه معهم.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى في سبب نزولها قولان:
(1399) أحدهما: نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجَوْن فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا قد بلغهم عن أقربائنا وإِخواننا الذين خرجوا في السرايا، قتل أو موت، أو مصيبة، فيقع ذلك في قلوبهم، ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى تقدَّم أصحابهم. فلما طال ذلك وكثر، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجَوْا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
__________
لم أره مسندا. وذكره الواحدي في «الأسباب» 792 عن ابن عباس ومجاهد بدون إسناد، فهو لا شيء.
__________
(1) التوبة: 63.
(2) آل عمران: 127.(4/245)
والثاني: أنها نزلت في اليهود، قاله مجاهد «1» .
(1400) قال مقاتل: وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة، فإذا رأوا رجلاً من المسلمين وحده تناجَوْا بينهم فيظن المسلم أنهم يتناجَوْن بقتله أو بما يكره فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إليها، فنزلت هذه الآية. وقال ابن السائب: نزلت في المنافقين «2» . والنجوى: بمعنى المناجاة ثُمَّ يَعُودُونَ إلى المناجاة التي نهوا عنها وَيَتَناجَوْنَ قرأ حمزة، ويعقوب إلا زيداً، ورَوحاً «ويتنجَّون» وقرأ الباقون «ويتناجون» بألف. وفي معنى تناجيهم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وجهان: أحدهما: يتناجون بما يسوء المسلمين، فذلك الإثم والعدوان، ويوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرّسول. والثاني: يتناجون بعد نهي الرسول لهم، ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
(1401) أحدهما: أنها نزلت في اليهود. قالت عائشة رضي الله عنها: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش، ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله، ترى ما يقولون؟
فقال: ألست ترين أردُّ عليهم ما يقولون، وأقول: وعليكم، قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك. قال الزجاج: والسام: الموت.
والثاني: أنها نزلت في المنافقين، رواه عطية عن ابن عباس.
قال المفسرون: ومعنى «حيَّوك» سَلَّموا عليك بغير سلام الله عليك، وكانوا يقولون: السّام عليك. فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أو يقول بعضهم لبعض: لو كان نبياً عذّبنا بقولنا له ما نقول.
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فيها قولان: أحدهما: نزلت في المنافقين، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بزعمهم، وهذا قول عطاء ومقاتل. والثاني: أنها في المؤمنين، والمعنى:
أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود، وهذا مذهب جماعة، منهم الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فَلا تَتَناجَوْا هكذا قرأ الجماعة بألف. وقرأ يعقوب وحده «فلا تتنجَّوا» . فأما «البِرُّ» فقال مقاتل: هو الطاعة، و «التقوى» ترك المعصية. وقال أبو سليمان الدّمشقي: «البرّ» الصدق،
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية كذبه غير واحد.
صحيح. أخرجه البخاري 6401 والبغوي في «شرح السنة» 3206 عن قتيبة بن سعيد به. وأخرجه البخاري 2935 و 6030 وفي «الأدب المفرد» 311 من طريق أيوب عن ابن مليكة به. وأخرجه مسلم 2165 ح 11 والواحدي في «الوسيط» 4/ 262 من طريق مسروق عن عائشة به. وأخرجه البخاري 6024 و 6256 و 6395 ومسلم 2165 والترمذي 2701 وأحمد 6/ 37 و 199 وعبد الرزاق 1946 وابن حبان 6441 والبيهقي في «السنن» 9/ 203 وفي «الآداب» 286 من طرق عن الزهري عن عروة عن عائشة به.
__________
(1) انظر الأثر المتقدم.
(2) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم.
- وورد مختصرا في ذكر المنافقين فحسب، من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 3770. [.....](4/246)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
و «التقوى» ترك الكذب. ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون، من الشيطان، فقال عزّ وجلّ: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ أي: من تزيينه، والمعنى: إنما يزيِّن لهم ذلك لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وقد بيّنّا آنفا ما كان يحزن المؤمنين من هذه النجوى وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً أي: وليس الشيطان بضارِّ المؤمنين شيئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بإرادته وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: فليكلوا أُمورهم إليه.
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
قوله عزّ وجلّ: إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ وقرأ عاصم «في المجالس» على الجمع، وذلك أنّ كل جالس له مجلس، فالمعنى: ليفسح كل رجل منكم في مجلسه «1» .
(1402) قال المفسرون: نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا أقبل المهاجرون وأهل السابقة، لم يجدوا موضعا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم جمعة جالس في صُفَّةٍ ضيِّقةٍ في المسجد، جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس، فسلَّموا وانتظروا أن يوسّعوا لهم، فأوسعوا لبعضهم، وبقي بعضهم، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: قم يا فلان، قم يا فلان، حتى أقام من المجلس على عدة من هو قائم من أهل السابقة، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في وجوه من أقامهم الكراهة، وتكلَّم المنافقون في ذلك وقالوا: والله ما عدل، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا أقبل مقبل ضَنّوا بمجلسهم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض. قال المفسرون: ومعنى «تفسّحوا» توسّعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متصافّين حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلا يجد غيرهم مجلساً عنده، فأمرهم أن يوسِّعوا لغيرهم ليتساوى الناس في الحظِّ منه، ويظهر فضيلة المقرَّبين إليه من أهل بدر وغيرهم.
وفي المراد «بالمجلس» هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مجلس الحرب ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصفِّ، فيقول لهم: توسَّعوا، فيأبَوْن عليه لحرصهم على القتال، وهذا قول ابن عباس والحسن وأبي العالية والقرظي. والثاني: أنه مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله مجاهد. وقال قتادة: كان هذا للنبي صلّى الله عليه وسلم ومن حوله خاصة. والثالث: مجالس الذكر كلِّها، روي عن قتادة أيضا. وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأبو رزين وأبو عبد الرحمن ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وابن أبي عبلة والأعمش: «تفسحوا في المجالس» بألف على الجمع.
قوله عزّ وجلّ: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي: يوسّع الله لكم الجنّة، والمجالس فيها.
__________
عزاه ابن كثير 4/ 383- 384 لابن أبي حاتم عن مقاتل، وهذا مرسل، ومقاتل ذو مناكير، وهذا منها.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 18: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يتفسحوا في المجلس، ولم يخصص بذلك مجلس النبي صلّى الله عليه وسلم دون مجلس القتال، وكلا الموضعين يقال له مجلس، فذلك على جميع المجالس من مجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومجالس القتال.(4/247)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا قرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «انشُزوا فانشُزوا» برفع الشين فيهما. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بكسر الشين فيهما. ومعنى «انشزوا» قوموا. قال الفراء: وهما لغتان.
وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه القيام إلى الصلاة، وكان رجال يتثاقلون عنها، فقيل لهم: إِذا نودي للصلاة فانهضوا، هذا قول عكرمة، والضحاك. والثاني: أنه القيام إلى قتال العدو، قاله الحسن. والثالث: أنه القيام إلى كل خير، من قتال، أو أمر بمعروف، ونحو ذلك، قاله مجاهد.
(1403) والرابع: أنه الخروج من بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم آخرهم عهداً به، فأُمروا أن ينشُزوا إذا قيل لهم: انشزوا، قاله ابن زيد. والخامس: أن المعنى: قوموا وتحرَّكوا وتوسَّعوا لإخوانكم، قاله الثعلبي.
قوله عزّ وجلّ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي: يرفعهم بإيمانهم على من ليس بمنزلتهم من أهل الإيمان وَيرفع الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على مَن ليس بعالم. وهل هذا الرفع في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة. والثاني: أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدِّين والعلم. وكان ابن مسعود يقول: أيها الناس:
افهموا هذه الآية ولْتُرغِّبْكم في العلم، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
قوله عزّ وجلّ: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ في سبب نزولها قولان.
(1404) أحدهما: أنّ الناس سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى شقُّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيّه،
__________
باطل، أخرجه الطبري 33785 عن عبد الرحمن بن زيد، وهذا معضل، وابن زيد واه، والمتن باطل.
ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» للسيوطي 1083 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لانقطاعه بينهما.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 384: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال:
فمنهم من رخّص في ذلك محتجا بحديث: «قوموا إلى سيدكم» اه. والأولى ترك القيام لما فيه من مخالفات وذرائع ينبغي سدّها ذلك، وكثير من أهل العلم يجعلونه حتما لازما على الطالب وإن كانوا لا يقولونه صريحا.
فإنهم يؤكدون ذلك على أنه من باب احترام وإجلال العلم، والصواب أن نفوسهم هي التي تطلب ذلك. وقد شاهدت حادثة أذكرها ليتبين ويظهر الأمر جليا في ذلك. كنا في صف وعلى مقاعد الدراسة، وكان حصة القرآن الكريم الطالب يتلو والشيخ يسمع. إذ دخل شيخ آخر كبير وبدل أن يبقى الجميع على ما هم عليه قام الجميع على حين غفلة احتراما للشيخ وكما تعلم هؤلاء الطلبة مما أدى إلى وقوع كتاب الله عز وجل على الأرض وأخذه الطالب وكأن شيئا لم يحصل فهذا القيام وفي مثل هذه الحال غير جائز بالإجماع والعالم الذي يرى الطالب، وقد قام له أثناء تلاوة القرآن عليه أن ينهاه عن ذلك وإلا فهو آثم عند جميع الفقهاء وأهل العلم.
وقد أجمع أهل الحديث وعلم المصطلح على كراهة القيام لأحد أثناء تلاوة الحديث فكيف أثناء تلاوة القرآن؟!!. نسأل الله أن يبصرنا بعيوبنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.(4/248)
فأنزل هذه الآية، قاله ابن عباس.
(1405) والثاني: أنها نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يكثرون مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت هذه الآية، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت الرخصة، قاله مقاتل بن حيَّان.
(1406) وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان، إلا أنه قال: فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يقدِّمْ أحدٌ من أهل الميسرة صدقة غير عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
(1407) وروى مجاهد عن عليّ رضي الله عنه قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى. كان لي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قدَّمت درهماً، فنسختها الآية الأخرى أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الآية.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي: تقديم الصدقة على المناجاة خير لكم، لما فيه من
__________
ضعيف، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 6/ 272 عن مقاتل بن حيان، وهذا مرسل، فهو ضعيف.
عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهو ممن يصنع الحديث، فخبره لا شيء.
ضعيف. أخرجه الطبري 33788 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وروي عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية، دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: أما ترى دينارا؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟
قلت: حبة أو شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ قال علي: فبي قد خفف الله عن هذه الأمة. أخرجه الترمذي 3300 وابن أبي شيبة 12/ 81- 82 وأبو يعلى 400 وابن حبان 6941 والعقيلي في «الضعفاء» 3/ 243 من طريق عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي بن أبي طالب به. وأخرجه الطبري 33796 وابن حبان 6942 والنسائي في «الخصائص» 152 عن سفيان الثوري بالإسناد المذكور. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» 5/ 204 من طريق شريك عن عثمان المغيرة به. وفي إسناده علي بن علقمة. قال العقيلي:
قال البخاري في حديثه نظر. وفي «الميزان» 5893: وقال ابن المديني: لا أعلم له راويا غير سالم اه. وفي هذه إشارة إلى أنه مجهول. وقال عنه ابن حبان في «المجروحين» 2/ 109 منكر الحديث يروي عن علي بما لا يشبه حديثه، فلا أدري سمع منه، أو أخذ ما يروي عنه عن غيره. والذي عندي ترك الاحتجاج به إلا حين وافق الثقات من أصحاب علي اه. وتابعه ابن أبي ليلى عند الحاكم 2/ 481- 482 وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! والصواب أن فيه يحيى بن المغيرة السعدي، وهو لم يرو له الشيخان، ولا أحدهما لكن وثقه أبو حاتم وابن حبان، وللحديث علة أخرى، وهي الإرسال، حيث رواه ابن أبي ليلى بصيغة الإرسال، وهو كثير الإرسال، ثم وقع تخليط في هذه الرواية فقد جعله من كلام النبي صلّى الله عليه وسلم بدل كونه من كلام علي، وهذا دليل على أنها رواية واهية ليست بشيء. وأخرج عبد الرزاق في «التفسير» 3178 والطبري 33789 و 33791 والواحدي في «الوسيط» 4، 266 من طريق مجاهد عن علي بن أبي طالب قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد غيري، آية النجوى: كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله قدمت درهما، فنسخت بالآية الأخرى أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية. وإسناده ضعيف لانقطاعه بين مجاهد وعلي.
الخلاصة: هو خبر ضعيف ولا يحتج بمثل هذه الأخبار في هذه المواضع، فلا يثبت بمثل ذلك سبب نزول آية ولا كونها خاصة. وانظر «أحكام القرآن» 2056 و 2057 بتخريجنا.(4/249)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
طاعة الله، وأطهر لذنوبكم فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا يعني: الفقراء فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إذ عفا عمّن لا يجد.
قوله عزّ وجلّ: أَأَشْفَقْتُمْ أي: خِفتم بالصدقة الفاقةَ وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي: فتجاوز عنكم، وخَفَّف بنسخ إيجاب الصدقة. قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال. قال قتادة: ما كان إلّا ساعة من نهار.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 20]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نزلت في المنافقين الذين تولَّوا اليهود، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين.
(1408) وقال السدي، ومقاتل: نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق، وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويرفع حديثه إلى اليهود، فدخل عليه يوماً، وكان أزرق، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله هذه الآيات.
(1409) وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث ابن عباس، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في ظل حُجرة من حجره، وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنه سيأتيكم إِنسان ينظر إِليكم بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تُكلِّموه، فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا بالله واعتذروا إليه، فأنزل الله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ الآية.
فأما التفسير، فالذين تولَّوا: هم المنافقون، والمغضوب عليهم: هم اليهود ما هُمْ مِنْكُمْ يعني:
المنافقين ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهو ما ذكرنا في سبب نزولها.
وقال بعضهم: حلفوا أنهم ما سبّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا تولَّوْا اليهود وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كَذَبة اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أي: سترة يَتَّقُون بها القتل. قال ابن قتيبة: المعنى: استتروا بالحلف، فكلما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: صَدُّوا النَّاس عن دين الإسلام، قاله السّدّيّ. والثاني: صدّوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم. قوله عزّ وجلّ:
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 798 عن السدي ومقاتل بدون إسناد، وهذا مرسل.
وله شاهد من حديث ابن عباس وهو الآتي.
حسن، أخرجه أحمد 1/ 2401 والحاكم 2/ 482 والطبري 33805 والواحدي 799. صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 122 رجال أحمد رجال الصحيح اه.(4/250)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
فَيَحْلِفُونَ لَهُ قال مقاتل، وقتادة: يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من أَيمانهم الكاذبة أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ في قولهم وأيمانهم.
قوله عزّ وجلّ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ قال أبو عبيدة: غلب عليهم، وحاذهم، وقد بينا هذا في سورة النّساء عند قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ «1» ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ:
أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي: في المغلوبين، فلهم في الدنيا ذلّ، وفي الآخرة خزي.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 21 الى 22]
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قوله عزّ وجلّ: كَتَبَ اللَّهُ أي: قضى الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وفتح الياء نافع، وابن عامر.
قال المفسرون: من بُعث من الرسل بالحرب، فعاقبة الأمر له، ومن لم يبعث بالحرب، فهو غالب بالحجة إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي: مانع حزبه من أن يذلّ.
قوله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْماً الآية. اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(1410) أحدها: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه يوم أُحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، فقال: يا رسول الله دعني أكون في الرَّعلة الأولى، فقال: متِّعنا بنفسك يا أبا بكر، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد، وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر، قاله ابن مسعود.
(1411) والثاني: أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه وذلك أن أبا قحافة سَبَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فصكّه أبو بكر صَكَّةً شديدةً سقط منها، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أو فَعلته» ؟ قال: نعم. قال: فلا تعُد إِليه، فقال أبو بكر: والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته، فنزلت هذه الآية، قاله ابن جريج.
(1412) والثالث: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ، وذلك أنه كان جالساً إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فشرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماءً، فقال عبد الله: يا رسول الله أبق فضلة من شرابك، قال: وما تصنع
__________
ضعيف، عزاه البغوي في «التفسير» 4/ 312/ 2154 لمقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن ابن مسعود قوله:
ومقاتل ذو مناكر، وهو غير حجة.
باطل، أخرجه ابن المنذر كما في «أسباب النزول» 1089 عن ابن جريج، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 800 عن ابن جريج تعليقا، وهذا واه ابن جريح مدلس، لم يذكر من حدثه، ومع ذلك هو معضل، فالخبر شبه موضوع، قال الإمام أحمد: هذه المراسيل التي يرسلها ابن جريج كأنها موضوعة.
- راجع «الميزان» في ترجمة ابن جريج واسمه عبد الملك بن عبد العزيز.
عزاه المصنف للسدي، ولم أقف عليه، وهو مرسل بكل حال فهو واه.
__________
(1) النساء: 141.(4/251)
بها؟ فقال: أسقيها أبي، لعل الله سبحانه يطهر قلبه، ففعل، فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال: فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها، لعل الله يطهر قلبك، فقال: هلا جئتني ببول أُمِّكَ! فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في قتل أبي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ارفق به، وأحسن إليه، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
(1413) والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ حين كتب إلى أهل مكّة يخبرهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد عزم على قصدهم، قاله مقاتل، واختاره الفراء، والزجاج.
وهذه الآية قد بَيَّنتْ أن مودَّة الكفار تقدح في صحة الإيمان، وأن من كان مؤمناً لم يوالِ كافراً وإِن كان أباه أو ابنه أو أحداً من عشيرته.
قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ، يعني: الذين لا يوادُّون من حادَّ الله ورسوله كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وقرأ المفضل عن عاصم «كُتِبَ» برفع الكاف والنون من «الإيمان» . وفي معنى «كتب» خمسة أقوال: أحدها: أثبت في قلوبهم الإيمان، قاله الربيع بن أنس. والثاني: جعل، قاله مقاتل. والثالث:
كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان، حكاه الماوردي. والرابع: حكم لهم بالإيمان. وإنما ذكر القلوب، لأنها موضع الإيمان، ذكره الثعلبي. والخامس: جمع في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه، قاله الواحدي. قوله عزّ وجلّ: وَأَيَّدَهُمْ أي قوّاهم بِرُوحٍ مِنْهُ في المراد «بالروح» هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه النصر، قاله ابن عباس والحسن. فعلى هذا سمي النصر روحاً لأن أمرهم يحيا به. والثاني: الإيمان، قاله السدي. والثالث: القرآن، قاله الربيع. والرابع: الرحمة، قاله مقاتل. والخامس: جبريل عليه السلام أيَّدهم به يوم بدر، ذكره الماوردي. فأما حِزْبُ اللَّهِ فقال الزجاج: هم الدّاخلون في الجمع الذين اصطفاهم الله وارتضاهم، و «ألا» كلمة تنبيه وتوكيد للقصة.
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية متهم بالكذب، وخبر حاطب في «الصحيحين» وليس فيه ذكر نزول هذه الآية.(4/252)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
سورة الحشر
وهي مدنية كلها بإجماعهم، وذكر المفسّرون أنّ جميعها نزل في بني النّضير. وكان ابن عباس يسمّي هذه السّورة «سورة بني النّضير» وهذه الإِشارة إِلى قصتهم.
(1414) ذكر أهل العِلْم بالتفسير والسّير: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه، فصلّى فيه، ثم أتى بني النّضير، فكلّمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما، فقتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ وهو لا يعلم، فقالوا: نفعل، وهمّوا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلّام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم به، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر، فنهض سريعا، فتوجّه إلى المدينة، فلحقه أصحابه، فقالوا: قمت ولم نشعر؟! فقال: همّت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم محمّد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدتي، فلا تساكنوني، وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجّلتكم عشرا. فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا أياما يتجهّزون، فأرسل إليهم ابن أبيّ: لا تخرجوا، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدّكم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان، وطمع حييّ فيما قال ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكبّر المسلمون لتكبيره، وقال:
حاربت يهود، ثم سار إليهم في أصحابه، فلمّا رأوه، قاموا على حصونهم معهم النّبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى مكّة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبر الله نبيّه بذلك، فبعث محمّد بن مسلمة فاغترّه فقتله، وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقطع نخلهم، فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة، فمضى بعضهم إلى الشّام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض أموالهم وسلاحهم، فوجد خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا.
فأمّا التفسير فقد ذكرنا فاتحة هذه السّورة في أوّل الحديد.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
__________
عزاه المصنف لأهل التفسير والسير، ولم أره بهذا اللفظ، والظاهر أنه ساقه بمعناه. وانظر «السيرة النبوية» 3/ 151 و «تفسير ابن كثير» 4/ 391 و «الدر المنثور» 6/ 277 و «أسباب النزول» 802.(4/253)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: يهود بني النضير مِنْ دِيارِهِمْ أي: من منازلهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم أول من حُشر وأُخرج من داره، قاله ابن عباس. وقال ابن السائب: هم أول من نفي من أهل الكتاب. والثاني: أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني: إلى أرض المحشر يوم القيامة، قاله الحسن.
(1415) قال عكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ: اخرجوا، فقالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر.
والثالث: أن هذا كان أول حشرهم وأن الحشر الثاني: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، قاله قتادة. والرابع: هذا كان أول حشرهم من المدينة، والحشر الثاني: من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، قاله مرّة الهمداني.
قوله عزّ وجلّ: ما ظَنَنْتُمْ يخاطب المؤمنين أَنْ يَخْرُجُوا من ديارهم لعزِّهم، ومَنَعَتِهم، وحُصُونهم وَظَنُّوا: يعني: بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وذلك أنّه أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلم بقتالهم وإِجلائهم، ولم يكونوا يظنون أن ذلك يكون، ولا يحسبونه وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ لخوفهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقيل: لقتل سيدهم كعب بن الأشرف يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قرأ أبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد. وقرأ الباقون «يخربون» بالتخفيف وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أن المشددة معناها: النقض والهدم. والمخففة معناها:
يخرجون منها ويتركونها خراباً معطَّلة، حكاه ابن جرير. وروي عن أبي عمرو أنه قال: إنما اخترت التشديد، لأن بني النضير نقضوا منازلهم، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة. والثاني: أن القراءتين بمعنى واحد. والتخريب والإخراب لغتان بمعنى، حكاه ابن جرير عن أهل اللغة. وللمفسرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال: أحدها: أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دارٍ من دُورهم هدموها ليتسع لهم مكان القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إِلى ما يليها، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا هم ما يبنون به الذي خربه المسلمون، قاله الضحاك.
والثالث: أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود، أو الباب، يستحسنونه، فيهدمون
__________
هو مرسل وورد موصولا. أخرجه البزار 3426 «كشف» من طريق أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف أبي سعد البقال. وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 8355: فيه أبو سعيد البقال، والغالب على حديثه الضعف. قلت: وكون المحشر في الشام، ورد في أحاديث أخرى. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 5873 بتخريجنا.(4/254)
البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم، ويخرب المؤمنون باقيها، قاله الزهري. والرابع: أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسداً منهم، وبغياً، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ الاعتبار: النظر في الأمور، ليعرف بها شيء آخر من جنسها، و «الأبصار» العقول. والمعنى: تدبَّروا ما نزل بهم وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ أي: قضى عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ وهو خروجهم من أوطانهم. وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين: أحدهما: أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد. والثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة. والإخراج: قد يكون لواحد ولجماعة. والمعنى: لولا أن الله قضى عليهم بالخروج لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مع ما حلَّ بهم في الدنيا عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ الذي أصابهم بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وقد سبق بيان الآية «1» . قال القاضي أبو يعلى:
فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، ولا جزية، ولا دخول في ذمة، وهذا حكم منسوخ إِذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يُؤدُّوا الجزية. وإِنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم. وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال.
(1416) لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم، وعلى الحلقة «2» ، وترك لهم ما أقلّت الإبل، وذلك مجهول.
وقوله عزّ وجلّ: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ.
(1417) سبب نزولها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.
(1418) وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصَّنوا في حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم،
__________
صحيح. أخرجه أبو داود 3004 مطولا عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، وإسناده على شرط البخاري ومسلم، وجهالة الصحابي لا تضر.
وأخرجه الطبري 33825 عن الزهري مرسلا. وله شواهد كثيرة.
صحيح. أخرجه البخاري 4031 والبغوي 3676 عن آدم به من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري 4884 ومسلم 1746 وأبو داود 1615 والترمذي 3298 وابن ماجة 2844 والواحدي في «أسباب النزول» 805 وأحمد 2/ 123 من طرق عن الليث به. وأخرجه مسلم 1746 ح 31 وابن ماجة 2845 والدارمي 2/ 222 من طريق عبيد الله عن نافع به. وأخرجه البخاري 3021 ومسلم 1746 وأحمد 2/ 7- 8 و 52 و 80 والطبري 33853 والواحدي 806 والبيهقي 9/ 83 والبغوي في «شرح السنة» 3675 من طرق عن جويرية عن نافع به.
وأخرجه البيهقي 9/ 83 من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن نافع.
ذكره الواحدي في «الأسباب» 804 من غير عزو لقائل. وورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 33851.
وورد من مرسل يزيد بن رومان، أخرجه الطبري 33850.
__________
(1) الأنفال: 13، ومحمد: 32.
(2) أي السلاح.(4/255)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
وإحراقها، فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمتَ أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟ وهل وجدت فيما أُنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم. واختلف المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى.
وفي المراد «باللينة» ستة أقوال «1» : أحدها: أنه النخل كلُّه ما خلا العجوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال عكرمة، وقتادة، والفراء. والثاني: أنها النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: أنها ألوان النخل كلّها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال الزجاج:
أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني، والعجوة. وأصل «لينة» لِوْنة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. والرابع: أنها النخل كلُّه، قاله مجاهد وعطية، وابن زيد. قال ابن جرير: معنى الآية: ما قطعتم من ألوان النخيل. والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان. والسادس: أنها ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديدة الصُّفْرة، ترى نواه من خارج، وكان أعجب تمرهم إليهم، قاله مقاتل. وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ستة نخلات، قاله الضحاك. والثاني:
أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة، قاله ابن إسحاق. والثالث: قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل.
قوله عزّ وجلّ فَبِإِذْنِ اللَّهِ قال يزيد بن رومان ومقاتل: بأمر الله. قوله عزّ وجلّ: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعني اليهود. وخزيهم: أن يُريَهم أموالهم يتحكَّم فيها المؤمنون كيف أحبُّوا. والمعنى:
وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: فَبِإِذْنِ اللَّهِ.
[سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 33: والصواب من القول في ذلك قول من قال: اللينة: النخلة، وهي من ألوان النخل ما لم تكن عجوة. ووافقه القرطبي، وقال ابن العربي: والصحيح ما قاله الزهري ومالك لوجهين- وهو اختيار الطبري-: أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. والثاني: أن الاشتقاق يعضده، وأهل اللغة يصححونه، فإن اللينة وزنها لونه، واعتلت على أصولهم فآلت إلى لينة فهي لون.(4/256)
قوله عزّ وجلّ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي: ما ردَّ عليهم مِنْهُمْ يعني: من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ قال أبو عبيدة: الإيجاف: الإيضاع، والركاب: الإبل. قال ابن قتيبة:
يقال: وجف الفرس والبعير، وأوجفته، ومثله: الإيضاع، وهو الإسراع في السير. وقال الزجاج: معنى الآية: أنه لا شيء لكم في هذا، إنما هو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة.
قال المفسرون: طلب المسلمون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يخمِّسَ أموال بني النضير لما أُجْلُوا، فنزلت هذه الآية تبيّن أنها فيء لم تحصل لهم بمحاربتهم، وإنما هو بتسليط رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهو له خاصة، يفعل فيه ما يشاء.
(1419) فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منه شيئاً، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دُجَانة، وسهل بن حُنيف، والحارث بن الصّمّة.
ثم ذكر حكم الفيء فقال عزّ وجلّ: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي: من أموال كفار أهل القرى فَلِلَّهِ أي: يأمركم فيه بما أحبّ، وَلِلرَّسُولِ بتحليل الله إياه. وقد ذكرنا «ذوي القربى واليتامى» في الأنفال «1» وذكرنا هناك الفرق بين الفيء والغنيمة.
فصل «2» :
واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فذهب قوم إلى أنّ المراد بالفيء هاهنا:
الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة، وكانت في بدوِّ الإسلام للذين سمّاهم الله هاهنا دون الغانمين الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال:
__________
ذكره البغوي في «تفسيره» 4/ 292 بدون إسناد، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 505 ذكره الثعلبي بغير سند، وروى الواقدي عن معمر عن الزهري عن خارجة بن زيد أم العلاء قالت: «لما غنم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني النضير قال لثابت بن قيس بن شماس: ادع لي الأنصار كلهم فقال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم، فقال السعدان: بل تقسمه للمهاجرين ويكونوا في دورنا، فرضيت الأنصار، فأعطى المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا رجلين محتاجين سهل بن حنيف، وأبا دجانة، ونفل ابن الحقيق. سعد بن معاذ «وكان له ذكر عندهم ... اه وانظر «سنن أبي داود» 3004 حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) الأنفال: 41.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 396: يقول تعالى: مبينا لمال الفيء، وما صفته؟ وما حكمه؟ فالفيء:
كل مال أخذ من الكفار بغير قتال ولا إيجاف خيل، ولا ركاب كأموال بني النضير هذه، فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي: لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فأفاءه الله على رسوله، ولهذا تصرف فيه كما شاء، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات، فقال: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي: من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ يعني الإبل، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: هو قدير لا يغالب ولا يمانع، بل هو القاهر لكل شيء. ثم قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي جميع البلدان التي تفتح هكذا، فحكمها حكم أموال بني النضير.
ولهذا قال: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه.(4/257)
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية «1» ، هذا قول قتادة ويزيد بن رومان. وذهب قوم إلى أنّ هذا الفيء: ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف عليه من خيل ولا ركاب، كالصلح، والجزية، والعشور، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمسة أخماس، فأربعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية.
واختلف العلماء فيما يصنع بسهم الرسول بعد موته على ما بيّنّاه في الأنفال، فعلى هذا تكون هذه الآية مبيّنة لحكم الفيء، والتي في الأنفال «2» مبيّنة لحكم الغنيمة، فلا يتوجه النسخ.
قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ يعني الفيء دُولَةً وهو اسم للشيء يتداوله القوم. والمعنى: لئلّا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبون الفقراء عليه. قال الزجاج: الدُّولة: اسم الشيء يتداول. والدَّولة، بالفتح:
الفعل والانتقال من حال إلى حال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ من الفيء فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عن أخذه فَانْتَهُوا وهذا نزل في أمر الفيء، وهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه. قال الزجاج: ثم بين مَن المساكين الذين لهم الحقّ، فقال عزّ وجلّ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قال المفسرون:
يعني بهم المهاجرين يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي: رزقاً يأتيهم وَرِضْواناً رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إِيمانهم. ثم مدح الأنصار حين طابت نفوسهم عن الفيء، فقال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ يعني: دار الهجرة، وهي المدينة وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين تبوءوا الدار من قبلهم، أي: من قبل المهاجرين، والإيمان عطف على «الدار» في الظاهر، لا في المعنى، لأن «الإيمان» ليس بمكان يُتَبَوَّأُ، وإنما تقديره: وآثروا الإيمان، وإِسلام المهاجرين قبل الأنصار، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين. وقيل: الكلام على ظاهره، والمعنى: تبوّءوا الدار والإيمان قبل الهجرة يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أي: حسداً وغيظاً مما أوتي المهاجرون. وفيما أوتوه قولان: أحدهما: مال الفيء، قاله الحسن. وقد ذكرنا آنفا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر. والثاني: الفضل والتقدّم، ذكره الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ يعني الأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فقر وحاجة، فبيّن الله عزّ وجلّ أن إيثارهم لم يكن عن غنى. وفي سبب نزول هذا الكلام قولان:
(1420) أحدهما: أن رجلا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد أصابه الجهد، فقال: يا رسول الله، إني جائع فأطعمني، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أزواجه: هل عندكنَّ شيء؟ فكلُّهن قلن: والذي بعثك بالحقّ
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3798 والبغوي في «التفسير» 2165 من حديث أبي هريرة. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 809 من طريق نصر بن علي الجهضمي عن عبد الله بن داود به. وأخرجه البخاري 4889 ومسلم 2054 والترمذي 3304 والنسائي في «التفسير» 602 وابن حبان 5286 والبيهقي 4/ 185 وفي «الأسماء والصفات» 979 والواحدي في الوسيط» 4/ 273 من طرق عن فضل بن غزوان به.
__________
(1) الأنفال: 41.
(2) الأنفال: 41.(4/258)
ما عهدنا إِلا الماء، فقال: ما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يطعمكَ هذه الليلة. ثم قال: «من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله؟» فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأكرميه ولا تدَّخري عنه شيئاً، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: قومي فعلِّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئاً، ثم أصبحي سراجِك فإذا أخذ الضيف ليأكل، فقومي كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالَيْ نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، فظنّ الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويَين، فلما أصبحا غَدَوَا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما نظر اليهما تبسَّم، ثم قال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فَعالكما، فأنزل الله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية. خرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة، وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة. أن الضيف كان من أهل الصُّفَّة، والمضيف كان من الأنصار، وأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لقد عجب من فعالكما أهلُ السماء» .
(1421) والثاني: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أُهْدِيَ له رأسُ شاةٍ، فقال: إِن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إِليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر.
(1422) وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أُهدي لبعض الصحابة رأسُ شاةٍ مشويّ، وكان مجهوداً، فوجَّه به إلى جارٍ له فتناوله تسعةُ أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية.
قوله عزّ وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ قرأ ابن السميفع، وأبو رجاء «ومن يُوَقَّ» بتشديد القاف.
قال المفسرون: هو أن لا يأخذ مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئاً أمره الله بأدائه. والمعنى: أن الأنصار ممن وُقِيَ شُحَّ نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين.
فصل:
وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما فرق، أم لا؟ فقال ابن جرير: الشُّحُّ في كلام العرب: هو منع الفضل من المال. وقال أبو سليمان الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشُّحُّ بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قِبَل الطَّبع والجِبِلَّة. وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يَضِنَّ بماله، والشح: أن يبخل بماله ومعروفه. وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال:
أسمع الله يقول: «ومن يوق شح نفسه» وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء، فقال: ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، الشُّحُّ: أن تأكل مال أخيك ظلما، إنما البخل، وبئس الشيء البخيل.
__________
ضعيف. أخرجه الحاكم 2/ 484 وصححه! وتعقبه الذهبي بقوله: عبيد الله ضعفوه. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 810 من طريق عبيد الله بن الوليد به. وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 289 للحاكم وابن مردويه.
عزاه القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 25- بتخريجنا للثعلبي عن أنس، والثعلبي يروي الواهيات والموضوعات فهذا خبر لا شيء لخلوه عن كتب الحديث والأثر.(4/259)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
(1423) وروى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «برىء من الشُّحِّ من أدَّى الزكاة، وقرى الضّيف، وأعطى في النّائبة» .
قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني التابعين إلى يوم القيامة. قال الزّجّاج: إنّ المعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: الذين جاءوا في حال قولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا فمن ترحّم على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم، فله حظّ من فيء المسلمين، ومن شتمهم ولم يترحّم عليهم، أو كان في قلبه غِلٌّ لهم، فما جعل الله له حقّا في شيء من فيء المسلمين بنص الكتاب. وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: من تنقص أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غِلٌّ، فليس له حقّ في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآيات «1» .
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يعني: عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ في الدِّين، لأنهم كفَّار مثلهم، وهم اليهود لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أي: في خذلانكم أَحَداً أَبَداً فكذَّبهم الله تعالى في ذلك بقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ثم ذكر أنهم يُخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه، فكان الأمر على ما ذكر الله تعالى، لأنهم أُخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقُوتلوا فلم ينصروهم، ومعنى وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ: لئن قُدِّر وجودُ نصرهم، لأن الله نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده. وقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ يعني: بني النضير.
قوله عز وجل: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ يعني: المؤمنين أشد رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ وفيهم قولان:
__________
أخرجه الطبري 33883 والبيهقي في «الشعب» 10842 من حديث أنس، وإسناده ضعيف فيه سليمان بن عبد الرحمن روى مناكير، وإسماعيل بن عياش روايته ضعيفة عن غير الشاميين، وشيخه هنا مدني.
__________
(1) انظر «تفسير القرطبي» 18/ 31.(4/260)
أحدهما: أنهم المنافقون، قاله مقاتل. والثاني: بنو النّضير، قاله الفرّاء.
قوله عزّ وجلّ: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون.
والثاني: اليهود والمنافقون، قاله ابو سليمان الدمشقي. والمعنى: أنهم لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون مُتَحَصِّنين فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان «من وراء جدار» بألف.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي «جُدُر» بضم الجيم والدَّال. وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن أبي عبلة «جَدَر» بفتح الجيم والدال جميعاً، وقرأ عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعاصم الجحدري «جَدْر» بفتح الجيم وسكون الدال. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وابن يعمر «جُدْر» بضم الجيم وإِسكان الدال بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ وفيه قولان: أحدهما: عداوة بعضهم لبعض شديدة. والثاني: أنّ بأسهم بينهم فيما وراء الحصون شديد، وإذا خرجوا إِليكم فهم أجبن خلق الله.
قوله عزّ وجلّ: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل.
والثاني: بنو النضير، قاله الفرّاء. قوله عزّ وجلّ: وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قال الزجاج: أي هم مختلفون لا تستوي قلوبهم، ولا يتعاونون بنيِّات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر حزبه، وخاذل أعدائه. قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ يعني ذلك الاختلاف بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه الحظُّ لهم.
ثم ضرب لليهود مثلا، فقال عزّ وجلّ: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم بنو قينقاع. وقال ابن عباس: كانوا بنو قينقاع يهودا، وكانوا وادعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم غدروا، فحصرهم، ثم نزلوا على حكمه أن له أموالهم، ولهم النساء والذُّرِّية. فالمعنى: مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع. والثاني: أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد. والمعنى: مَثَلُ هؤلاء اليهود كمثلِ المشركين الذين كانوا من قبلهم قريباً، وذلك لقرب غزوة بني النضير من غزاة بدر. والثالث: أنهم بنو قريظة، فالمعنى: مَثَلُ بني النضير كبني قريظة ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ بأن قُتلت مقاتلتهم، وسُبِيَتْ ذراريهم، وهؤلاء أُجلوا عن ديارهم فذاقوا وبال أمرهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال عزّ وجلّ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ. والمعنى: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير، وقولهم: لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ وفيه قولان «1» : أحدهما: أنه مَثَلٌ ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس، قاله مجاهد. والثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين، وهذا شرح قصته:
ذكر أهل التفسير أن عابداً من بني إسرائيل كان يقال له: برصيصا تعبَّد في صومعةٍ له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يوماً مردة الشياطين، فقال: ألا أحدٌ منكم يكفيني برصيصا، فقال
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 402: وقد ذكر بعضهم هاهنا- قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثال، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها.
- وقال الشوكاني رحمه الله في «تفسيره» 5/ 245: وهذا لا يدل على أن هذا الإنسان- المذكور في القصة الآتية- هو المقصود بالآية بل يدل على أنه من جملة من تصدق عليه.(4/261)
الأبيض، وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرّهبان، فأتى صومعته، فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطَّلع فرآه منتصباً يصلي على هيئة حسنة، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: إِني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدَّب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يُقْبِلْ إليه برصيصا أربعين يوماً، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعِد إليه، فأقام معه حولاً لا يفطر إِلا كل أربعين يوماً، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوماً، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إِليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا، وكره مفارقته، فلما ودَّعه قال له الأبيض: إِن عندي دَعَوَاتٍ أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلي، فقال برصيصا: إِني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلاً، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة. فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إِبليس فقال: قد والله أهلكتُ الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرَّض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبِّب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنوناً فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إِني لا أقوى على جنِّيِّه، ولكن سأرشدكم إِلى من يدعو له فيعافى فقالوا له: دلّنا. فقال:
انطلقوا إِلى برصيصا العابد فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنه الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا، فيُعافَوْن، فلما طال ذلك عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبِّب، فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم. قال: إِن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تَدَعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا: ومن هو؟ قال: برصيصا، قالوا: وكيف لنا أن يقبلها منَّا، وهو أعظم شأناً من ذلك؟! قال: إن قبلها، وإلا فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا اليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده. وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال له: انزل إِليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسناً وجمالاً، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف اليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتُضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها قلت: جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل به حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إِذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدَّقوه، وانصرفوا. وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعتْ اليكم، فتفرَّقوا ينظرون لها أثراً، فلما أمسَوْا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إِن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، وبرصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، وهو لا يكترث، فانطلق إِلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر، بمثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا(4/262)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
وكذا، فقال الأوسط: وأنا والله، فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا، فسألوه عنها، فقال: قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتّهمتموني، فقالوا: لا والله واستحيَوْا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال:
ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إِزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا: يا عدوَّ الله لم قتلتها؟ اهبط، فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلاً، ثم قادوه إلى الملك فأقرّ على نفسه، وذلك أنّ الشيطان عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بِقَتْلِهِ وصَلْبِهِ، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علَّمتك الدعوات، ويحك ما اتَّقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحيَيْتَ من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مِتَّ على هذه الحالة لم تفلح، ولا أحدٌ من نظرائك، قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة حتى أُنجيك، وآخذ بأعينهم، وأُخرجك من مكانك، قال: ما هي؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت منك، صارت عاقبة أمرك أن كفرت إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ثم قتل. فضرب الله هذا المثل لليهود حتى غرّهم المنافقون، ثم أسلموهم «1» .
قوله عزّ وجلّ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء «إِنيَ» وأسكنها الباقون. وقد بيَّنا المعنى في الأنفال «2» فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني: الشيطان وذلك الكافر.
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
قوله عزّ وجلّ: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي: لينظر أحدكم أيّ شيء قدّم؟ عملا صالحا ينجيه؟ أم شيئا يُوبِقُه؟ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي: تركوا أمره فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي: أنساهم حظوظ أنفسهم- فلم يعملوا بالطاعة، ولم يقدِّموا خيراً. قال ابن عباس: يريد قريظة، والنضير، وبني قينقاع.
[سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
__________
(1) ورد عن ابن عباس موقوفا: أخرجه الطبري 33904 وإسناده واه، فيه مجاهيل: وعطية العوفي واه. وورد عن علي، أخرجه الطبري 33902 وإسناده حسن. وورد عن ابن مسعود، أخرجه الطبري 33903 وإسناده ضعيف. وورد من وجوه متعددة، ومصدر ذلك كله كتب الأقدمين، والله تعالى أعلم.
(2) الأنفال: 48. [.....](4/263)
قوله عز وجل: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ أخبر الله تعالى بهذا عن تعظيم شأن هذا القرآن، وأنه لو جعل في جبل- على قساوته وصلابته- تمييزاً، كما جعل في بني آدم، ثم أنزل عليه القرآن لتشقّق خشية من الله، وخوفاً أن لا يؤدِّيَ حق الله في تعظيم القرآن. و «الخاشع» : المتطأطئ الخاضع، و «المتصدِّع» : المتشقِّق. وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثِّر في قلبه مع الفهم والعقل، وَيَدُلُّك على هذا المثل قوله عزّ وجلّ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ثم أخبر بعظمته وربوبيّته، فقال عزّ وجلّ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال الزّجّاج: قوله عزّ وجلّ: هُوَ اللَّهُ ردّ على قوله عزّ وجلّ في أول السورة سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فأما هذه الأسماء، فقد سبق ذكر «الله» و «الرحمن» و «الرحيم» في الفاتحة، وذكرنا معنى «عالم الغيب والشهادة» في الأنعام «1» . و «الملك» في سورة المؤمنين «2» .
فأما «القدوس» فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح القاف. قال أبو سليمان الخطابي: «القدوس» : الطاهر من العيوب، المنزَّه عن الأنداد والأولاد. و «القدس» : الطاهر. ومنه سمي: بيت المقدس، ومعناه: المكان الذي يُتَطَهَّرُ فيه من الذنوب. وقيل للجنة: حظيرة القدس، لطهارتها من آفات الدنيا. والقدس: السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على فُعُّول بضم الفاء الا «قُدُّوس» و «سُبُّوح» وقد يقال أيضاً: قَدُّوس، وسَبُّوح بالفتح فيهما، وهو القياس في الأسماء، كقولهم: سَفَّود، وكَلُّوب.
فأما «السلام» فقال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاماً، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء. وقال الخطابي: معناه ذو السّلام. والسّلام في صفة الله سبحانه وتعالى: هو الذي سلم من كلّ عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين. قال: وقد قيل: هو الذي سَلِمَ الخلقُ من ظلمه.
فأما «المؤمن» ، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه الذي أَمِنَ الناسُ ظلمَهُ، وأَمِنَ مَنْ آمَنَ به عذابَهُ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أنه المجير، قاله القرظي. والثالث: الذي يصدِّق المؤمنين إذا وحَّدوه، قاله ابن زيد. والرابع: أنه الذي وحّد نفسه، لقوله عزّ وجلّ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، ذكره الزجاج. والخامس: أنه الذي يُصدِّق عباده وعده، قاله ابن قتيبة. والسادس: أنه يصدِّق ظنون عباده المؤمنين، ولا يُخيِّب آمالَهم.
(1424) كقول النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربّه عزّ وجلّ: «أنا عند ظن عبدي بي» ، حكاه الخطابي.
فأما «المهيمن» ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والكسائي.
قال الخطّابي: ومنه قوله عزّ وجلّ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ «3» ، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل. والثاني: الأمين، قاله الضّحّاك، قال الخطّابي: أصله: مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء، لأنّ الهاء
__________
صحيح. أخرجه البخاري 7505 ومسلم 2675 وابن حبان 639 من حديث أبي هريرة، وله شواهد كثيرة.
وتقدم بعضها.
__________
(1) الأنعام: 73.
(2) المؤمنون: 116.
(3) المائدة: 48.(4/264)
أخَفُّ عليهم من الهمزة. ولم يأت مُفَيْعِلٌ في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف «مسيطر» و «مُبيطر» و «مهيمن» وقد ذكرنا في سورة الطور «1» عن أبي عبيدة، أنها خمسة أحرف. والثالث: المصدِّق فيما أخبر، قاله ابن زيد. والرابع: أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل. قال الخطابي: وقال بعض أهل اللغة. الهيمنة: القيام على الشيء، والرعاية له، وأنشد:
أَلاَ إنَّ خَيْرَ الْنَّاس بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنهُ الْتاليه في الْعُرْفِ والْنُّكْرِ
يريد القائم على الناس بعد بالرِّعاية لهم. وقد زدنا هذا شرحاً في المائدة «2» ، وبيَّنَّا معنى «العزيز» في البقرة «3» .
فأما «الجبار» ، ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه العظيم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد، قاله القرظي والسدي. وقال قتادة: جبر خلقه على ما شاء. وحكى الخطابي: أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه، يقال: جبره السلطان وأجبره. والثالث:
أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق. والرابع: أنه العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات: إِذا طال وعلا، ذكر القولين الخطابي.
فأما «المتكبر» ففيه خمسة أقوال: أحدها: أنه الذي تكبَّر عن كل سوءٍ، قاله قتادة. والثاني: أنه الذي تكبَّر عن ظلم عباده، قاله الزجاج. والثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن الأنباري.
والرابع: أنه المتعالي عن صفات الخلق. والخامس: أنه الذي يتكبَّر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة، فيقصمهم، ذكرهما الخطابي، قال: والتاء في «المتكبر» تاء التفرّد، والتخصّص، لا تاء التعاطي والتكلّف، والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل. وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق.
وأما «الخالق» فقال الخطابي: هو المبتدئ للخلق المخترع له على غير مثال سبق، فأما في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق التقدير: كقول زهير:
ولأنت تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبعض ... الْقَوْم يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْرِي
يقول: إذا قدرت شيئاً قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي: يتمنّى ما لا يبلغه.
والبارئ: الخالق. يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم. و «المصوّر» : هو الذي أنشأ خلقه على صُوَرٍ مختلفةٍ ليتعارفوا بها. ومعنى: التصوير: التخطيط والتشكيل. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السّميفع «البارئ المصوّر» بفتح الواو والراء جميعا، يعنون: آدم عليه السلام. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «4» إلى آخر السّورة.
__________
(1) الطور: 37.
(2) المائدة: 48.
(3) البقرة: 129.
(4) الأعراف: 180 والإسراء: 110.(4/265)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
سورة الممتحنة
وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ.
(1425) ذكر أهل التفسير أنها نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَة، وذلك أن سارة مولاة عمرو بن صَيْفيّ بن هاشم أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكّة إلى المدينة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يتجهَّزُ لفتح مكة، فقال لها:
«أمسلمةً جئتِ؟» قالتْ: لا، قال: «فما جاء بكِ؟» قالت: أنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد احتجت حاجةً شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني. قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فأين أنتِ من شباب أهل مكة؟» وكانت مغنية، فقالت: ما طُلِبَ مني شيءٌ بعد وقعة بدر، فحثّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني عبد المطّلب وبني المطلب، فَكَسَوْها، وحملوها، وأعطَوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، فكتب معها كتاباً إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إِلى أهل مكة: وكتب في الكتاب مِن حاطب إلى أهل مكة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم، فخرجت به سارة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم علياً، وعماراً، والزبير، وطلحة، والمقداد، وأبا مَرْثَدٍ، وقال:
«انطلقوا حتى تأتوا «روضة خاخ» ، فإن فيها ظعينةً معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، وخَلُّوا سبيلها، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها، فقالوا لها: أين الكتاب؟
فحلفت بالله ما معها من كتاب، ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئاً، فهمُّوا بالرجوع، فقال عليٌّ: والله ما
__________
ذكره المصنف نقلا عن المفسرين، وكذا الواحدي في «أسباب النزول» 811 وما أخرجاه في الصحيحين يغني عنه. انظر الحديث الآتي.(4/266)
كذبنا ولا كذّبنا. وسلّ سيفه، وقال: أخرجي الكِتابَ، وإلا ضربت عنقكِ، فلما رأت الجِدِّ أخرجته من ذؤابتها، فخلَّوا سبيلها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب، فأتاه، فقال له: «هل تعرف هذا الكتاب؟» قال: نعم. قال: «فما حملك على ما صنعت؟» فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلاَّ وَلَه بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريباً فيهم، وكان أهلي بين ظهرانَيْهم، فخشيتُ على أهلي، فأردت أن أَتَّخِذَ عندهم يداً، وقد علمتُ أن الله ينزل بهم بأسه، وكتابي لا يغني عنهم شيئا، فصدّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَعذَرَهُ، ونزلت هذه السورة تنهى حاطباً عما فعل، وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا عمر لعل الله اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» .
(1426) وقد أخرج هذا الحديث في «الصحيحين» مختصراً، وفيه ذكر عليّ، والزّبير، وأبي مرثد فقط.
قوله عزّ وجلّ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وفيه قولان: أحدهما: أن الباء زائدة، والمعنى: تلقون إليهم المودَّة، ومثله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ «1» ، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، وابن قتيبة، والجمهور. والثاني: تلقون إليهم أخبار النبيّ صلّى الله عليه وسلم وسيره بالمودة التي بينكم وبينه، قاله الزجاج.
قوله عزّ وجلّ: وَقَدْ كَفَرُوا الواو للحال والمعنى، وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وهو القرآن، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا أي تفعلوا ذلك لإيمانكم بالله
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4274 والبغوي في «التفسير» 2174 عن قتيبة بن سعيد به.
وأخرجه البخاري 3007 و 4890 ومسلم 2494 وأبو داود 2650 والترمذي 3305 والحميدي 49 وأحمد 1/ 79 وأبو يعلى 394 و 398 وابن حبان 6499 والبيهقي 9/ 146 وفي «دلائل النبوة» 5/ 17 والبغوي في «شرح السنة» 2704 والواحدي في «الأسباب» 812 وفي «الوسيط» 4/ 281- 282 من طرق عن سفيان به كلهم من حديث علي.
ولفظ البخاري: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها» قال: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة قلنا لها أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا حاطب ما هذا؟» قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا في قريش- يقول: كنا حليفا ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنه قد صدقكم» . فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطّلع على من شهد بدرا، قال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله السورة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
__________
(1) الحج: 25.(4/267)
كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ هذا شرط، جوابه متقدّم، وفي الكلام تقديم وتأخير. قال الزجاج: معنى الآية: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
قوله عزّ وجلّ: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ الباء في «المودّة» حكمها حكم الأولى. قال المفسرون:
والمعنى: تُسِرُّون إليهم النصيحة وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ من المودَّة للكفار وَما أَعْلَنْتُمْ أي: أظهرتم بألسنتكم. وقال ابن قتيبة: المعنى: كيف تستترون بمودتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟! قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يعني: الإسرار والإلقاء إليهم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي:
أخطأ طريق الهدى. ثم أخبر بعداوة الكفّار فقال عزّ وجلّ: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي: يظفروا بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً لا موالين وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالضرب والقتل وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وهو: الشتم وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ فترجعون إلى دينهم. والمعنى: أنه لا ينفعكم التقرُّب إليهم بنقل أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قوله عزّ وجلّ: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي: قراباتكم. والمعنى: ذوو أرحامكم، أراد: لن ينفعَكم الذين عصيتم الله لأجلهم، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يُفصَل» برفع الياء، وتسكين الفاء، ونصب الصاد. وقرأ ابن عامر: «يُفصَّل بينكم» برفع الياء، والتشديد، وفتح الصاد، وافقه حمزة، والكسائي، وخلف، إلا أنهم كسروا الصاد. وقرأ عاصم، غير المفضل، ويعقوب، بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد، وتخفيفها. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو العالية: «نُفصِّل» بنون مرفوعة، وفتح الفاء، مكسورة الصاد مشددة، وقرأ أبو رزين، وعكرمة، والضحاك: «نَفصِل» بنون مفتوحة، ساكنة الفاء، مكسورة الصاد خفيفة، أي: نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده. قال القاضي أبو يعلى «1» : في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إِظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلُّف لأجل أموالهم وأولادهم. وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقيَّة، وإِنما قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 409: فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتّخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء، كما قال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، ولهذا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.(4/268)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 9]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قوله عزّ وجلّ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وقرأ عاصم: «أُسوة» بضم الألف، وهما لغتان، أي: اقتداءٌ حَسَن به وبمن معه. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء. والثاني: المؤمنون إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ قال الفرّاء: تقول أفلا تَأَسَّيْتَ يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرَّأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم؟!.
قوله عز وجل: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ قال المفسرون: والمعنى: تأسّوا بإبراهيم إلّا في استغفاره لأبيه فلا تأسَّوا به في ذلك، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أدفع عنك عذاب الله إِن أشركت به، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا إلى قوله عزّ وجلّ:
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال الفراء: قولوا أنتم: ربنا عليك توكّلنا. وقد بيّنّا معنى قوله عزّ وجلّ: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا في يونس «1» . ثم أعاد الكلام في ذكر الأُسوة فقال عزّ وجلّ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أي: في إبراهيم ومن معه، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله.
قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل من قوله عزّ وجلّ: لَكُمْ وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخشى عقاب الآخرة.
قوله عز وجل: وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: يعرض عن الإيمان ويوال الكفار فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه الْحَمِيدُ إلى أوليائه. فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادَوْا أقرباءهم. فأنزل الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي: من كفار مكة مَوَدَّةً ففعل ذلك، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح، وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فانكسر أبو سفيان عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام وَاللَّهُ قَدِيرٌ على جعل المودّة وَاللَّهُ غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم بعد ما أسلموا.
قوله عزّ وجلّ: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «2» :
__________
(1) يونس: 85.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 63: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، لأن الله عز وجل عمّ بقوله جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو نسب، أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرّم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.(4/269)
(1427) أحدها: أنها في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العُزىَّ، قَدِمَت عليها المدينة بهدايا، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها، وتقبل هديتها، وتكرمها، وتحسن إليها، قاله عبد الله بن الزبير.
(1428) والثاني: أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحداً، قاله ابن عباس. وروي عن الحسن البصري أنها نزلت في خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناف، وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد، فداموا على الوفاء به.
(1429) والثالث: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، قاله عطيّة العوفيّ ومرّة الهمدانيّ.
والرابع: أنها عامة في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله عزّ وجلّ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» ، قاله قتادة. والخامس: نزلت في النساء والصبيان، حكاه الزجاج. قال المفسرون:
وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة.
قوله عزّ وجلّ: وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي: من مكة أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي: تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم.
قوله عزّ وجلّ: وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي: أعانوا على ذلك أَنْ تَوَلَّوْهُمْ والمعنى: إنما ينهاكم عن أن تَولّوا هؤلاء، لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسرّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم موالاة. وذكر بعض المفسّرين أنّ معنى
__________
صحيح دون ذكر نزول الآية، أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 8/ 198 وأحمد 4/ 4 والطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» 6750 والحاكم 2/ 485 والطبري 33952 و 33953 والواحدي في «الأسباب» 813 من حديث عبد الله بن الزبير. صححه الحاكم، ووافقه الذهبي! مع أن في إسناده مصعب بن ثابت ضعفه أحمد وغيره، ووثقه ابن حبان. قلت: هو غير حجة بما ينفرد به، وقد تفرد بذكر نزول الآية. وذكره الهيثمي في «المجمع» 11411 وزاد نسبته للبزار وقال: وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأصل الحديث في الصحيحين دون نزول الآية. أخرجه البخاري 2620 و 3183 ومسلم 1003 وأبو داود 1668 وأحمد 6/ 347 من حديث أسماء بنت أبي بكر، وليس فيه ذكر نزول الآية.
والأشبه في نزول الآية أنه مدرج من كلام أحد الرواة والله أعلم، ويؤيد ذلك هو أن البخاري أخرج حديث أسماء من طريق ابن عيينة، برقم 5978 وقال في آخره: قال ابن عيينة: فأنزل الله هذه الآية.
وانظر «أحكام القرآن» 2083 بتخريجنا.
لم أره مسندا، عزاه المصنف لابن عباس وكذا البغوي في «التفسير» 4/ 331 ساقه بدون إسناد، فالخبر ساقط، لا حجة فيه.
عزاه المصنف لعطية العوفي، وهو واه إن وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟! وعزاه أيضا لمرّة الهمداني، ولم أقف عليه، وهو تابعي فهو مرسل.
__________
(1) التوبة: 5.(4/270)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
هذه الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف. قال ابن جرير: لا وجه لادِّعاء النسخ، لأن بِرَّ المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة، غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام. ويدل على ذلك حديث أسماء وأمّها الذي سبق «1» .
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ.
(1430) قال ابن عباس: إنّ مشركي مكّة صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الحُديبية على أنَّ من أتاه من أهل مكة ردَّه إليهم. ومن أتى أهل مكة من أصحابه، فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب، وختموه، فجاءت سُبَيْعَة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحُديبية، فأقبل زوجها وكان كافراً، فقال: يا محمد اردد عليَّ امرأتي فإِنك قد شرطت لنا أن تردَّ علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تَجِفَّ بعدُ، فنزلت هذه الآية.
(1431) وذكر جماعة من العلماء منهم محمّد بن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فَقَدِمَتْ المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها الوليد وُعمارة ابنا عقبة، فقالا: يا محمّد أوف لنا بشروطنا، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله أنا امرأة، وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردّني إلى الكفار يفتنوني عن ديني، ولا صبر لي؟! فنقض الله العهد في النِّساء، وأنزل فيهن المحنة، وحكم فيهنَّ بحكم رضوه كلّهم، ونزل في أم كلثوم: فَامْتَحِنُوهُنَّ فامتحنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وامتحن النساء بعدها يقول: والله ما أخرجكنَّ الا حبُّ الله ورسولهِ، وما خرجتنَّ لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن، فلم يرددن إلى أهليهن.
وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سبباً لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها
__________
ذكره المصنف هاهنا عن ابن عباس معلقا، وكذا ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 814 والبغوي في «تفسيره» 4/ 303 عن ابن عباس بدون إسناد، فهذا لا شيء لخلوه عن الإسناد. وورد في «الإصابة» 4/ 524- 525: أن سبيعة بنت الحارث أول امرأة أسلمت بعد صلح الحديبية إثر العقد وطي الكتاب، ولم تخف فنزلت آية الامتحان. وانظر «أحكام القرآن» 2084 وما بعده بتخريجنا.
ذكره ابن سعد في «الطبقات» 8/ 183- 184 هكذا بدون عزو لأحد.
وذكر أم كلثوم صح عند البخاري 2711 و 2712 في أثناء حديث مطول.
__________
(1) تقدم أن الحديث متفق عليه، دون ذكر نزول الآية.(4/271)
سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس: والثاني: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم، وهو المشهور. والثالث: أُميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني، قال الماوردي: وقد اختلف أهل العلم هل دخل ردُّ النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً؟
فقالت طائفة: قد كان شرط ردّهنّ في عقد الهدنة لفظاً صريحاً، فنسخ الله تعالى ردَّهن من العقد، ومنع منه، وأبقاه في الرجال على ما كان. وقالت طائفة من العلماء: لم يشترط ردُّهن في العقد صريحاً، وإنما أطلق العقد، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال، فبين الله عزّ وجلّ خروجهنَّ عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهنّ ذوات فروج فحرّمن عليهم. والثاني: أنهن أرقُّ قلوباً، وأسرع تقلُّباً منهم فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم. وقال القاضي أبو يعلى: وإنما لم يردَّ النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل وإِن لم يقع الفعل.
قال المفسّرون: والمراد بقوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه هو الذي تولَّى امتحانهن، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلّى الله عليه وسلم. قال ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن، لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة، قالت: لألحقنّ بمحمّد صلّى الله عليه وسلم وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال:
(1432) أحدها: أنه كان يمتحنهن ب «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله» رواه العوفي عن ابن عباس.
(1433) والثاني: أنه كان يستحلف المرأة بالله: ما خرجتِ من بغض زوج، ولا رغبةً عن أرض إِلى أرض، ولا التماس دنيا، ما خرجتِ إلا حباً لله ولرسوله، روي عن ابن عباس أيضاً.
(1434) والثالث: أنه كان يمتحنهن بقوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ فمن أقرت بهذا الشرط قالت: قد بايعتك، هذا قول عائشة عليها السّلام.
قوله عزّ وجلّ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي: إن هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهن، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ وذلك يعلم من إقرارهنّ، فحينئذ لا يحل ردُّهن إِلَى الْكُفَّارِ لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك وَآتُوهُمْ يعني أزواجهن الكفار ما أَنْفَقُوا يعني: المهر. قال مقاتل: هذا إذا تزوجها مسلم. فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وهي المهور.
فصل:
عندنا إذا هاجرت الحربيّة بعد دخول زوجها بها، وقعت الفرقة على انقضاء عدتها. فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدّتها فهي امرأته، وهذا قول الأوزاعي، ومالك والشّافعي. وقال أبو حنيفة:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 3391 عن ابن عباس، وفيه عطية العوفي واه. والصحيح ما يأتي عن عائشة.
أخرجه الحارث بن أبي أسامة كما في «المطالب العالية» 3777 عن أبي نصر الأسدي عن ابن عباس به، وهو معلول. سكت عليه الحافظ، وكذا البوصيري في «الإتحاف» وقال البخاري في ترجمة أبي نصر: لم يعرف له سماع من ابن عباس «الميزان» 4/ 579. وأخرجه الطبري 33957 و 33958 من طريق أبي نصر عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، فيه قيس بن الربيع ضعفه الجمهور. وانظر «أحكام ابن العربي» 2085 بتخريجنا.
والصحيح ما بعده.
صحيح. أخرجه البخاري 4891 ومسلم 1866 والترمذي 3306 والنسائي في «التفسير» 606 وابن ماجة 2875 من حديث عائشة. وانظر «أحكام القرآن» 2086 بتخريجنا(4/272)
تقع الفرقة باختلاف الدّارين.
قوله عزّ وجلّ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تُمسِكوا» بضم التاء، والتخفيف، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب: «تُمسِّكوا» بضم التاء، وبالتشديد، وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة: «تَمسَّكوا» بفتح التاء، والميم، والسين مشددة. و «الكوافر» جمع كافرة، والمعنى: إن الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهنّ. وقال الزّجّاج: المعنى: أنها كفرت، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن، أي: قد انبت عَقْدُ النكاح. وأصل العصمة: الحبل، وكلُّ ما أمسك شيئاً فقد عصمه.
قوله عزّ وجلّ: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدَّة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، فليسأل أزواجهن الكفّار من تزوّجهنّ منكم «ما أنفقوا» وهو المهر. والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم.
قال أهل السِّيَر: وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقا «1» لم يكن لها زوج فبعثت إليه قدر مهرها، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة «2» .
قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يعني ما ذكر في هذه الآية.
فصل:
وذكر بعضهم في قوله عزّ وجلّ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله عزّ وجلّ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «3» ، وهذا تخصيص لا نسخ.
قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ قال الزجاج: أي: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم. وقرأ ابن مسعود، والأزهري، والنخعي: «فعَقَبتم» بغير ألف، وبفتح العين والقاف، وبتخفيفها. وقرأ ابن عباس، وعائشة والحسن وحميد، والأعمش «فعقّبتم» مثل ذلك، إلا أن القاف مشددة. قال الزجاج: المعنى في التشديد والتخفيف واحد، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم. وقرأ أُبي بن كعب، وعكرمة، ومجاهد: «فأعقبتم» بهمزة ساكنة العين، مفتوحة القاف خفيفة. وقرأ معاذ القارئ، وأبو عمران الجوني: «فعَقِبتم» بفتح العين، وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي: أعطُوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر.
(1435) وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم، كانت زوجته مسلمة، وهي أم الحكم بنت أبي سفيان، فارتدَّتْ، فلحقت بمكة، فأمر الله المسلمين أن يعطُوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إِليها من المهر، ثم نسخ ذلك بقوله عزّ وجلّ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «4» إلى رأس الخمس ...
__________
ضعيف جدا. أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن كما في «الدر» 6/ 310 وهذا مرسل، ومراسيل الحسن واهية.
__________
(1) العاتق: الشابة أول ما تدرك. انظر «النهاية» 3/ 178. [.....]
(2) انظر الحديث المتقدم 1431.
(3) المائدة: 5.
(4) التوبة: 1.(4/273)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
فصل:
قال القاضي أبو يعلى: وهذه الأحكام في أداء المهر، وأخذه من الكفار، وتعويض الزّوج من الغنيمة، أو من صداق قد وجب ردُّه على أهل الحرب، منسوخة عند جماعة من أهل العلم. وقد نصّ الإمام أحمد رضي الله عنه على هذا. قلت: وكذا قال مقاتل: كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف.
[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ.
(1436) قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة جاءته النساء يبايعنه، فنزلت هذه الآية، وشرط في مبايعتهنّ هذه الشرائط المذكورة في الآية، فبايَعهن وهو على الصفا، فلما قال: ولا يزنين، قالت هند: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن أولادهن، فقالت: ربَّيناهم صغاراً فقتلتموهم كباراً، فأنتم وهم أعلم.
(1437) وقد صحّ في الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن بالكلام.
وقد سمَّينا من أحصينا من المبايِعات في كتاب «التلقيح» على حروف المعجم، وهن أربعمائة وسبع وخمسين امرأة، والله الموفّق.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قال المفسرون: هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم، قاله ابن عباس، والجمهور، وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، وذلك البهتان المفترى. وإِنما قال: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ لأنّ الولد إذا وضعته الأمّ يسقط بين يديها ورجليها. وقيل: معنى يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ: ما أخذته لقيطا وَأَرْجُلِهِنَّ ما ولدنه من زنا. والثاني: أنه السحر. والثالث: المشي بالنميمة، والسعي في الفساد، ذكرهما الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فيه ثلاثة أقوال:
(1438) أحدها: أنه النَّوح، قاله ابن عباس: وروي مرفوعا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
__________
ذكره الواحدي في «الوسيط» 4/ 286- 287 هكذا بدون إسناد. وأخرجه الطبري 34013 من حديث ابن عباس بنحوه وأتم. وأخرج ابن سعد في «الطبقات» 8/ 6 طرفا منه عن الشعبي مرسلا. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 520: وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان، وفيه قول هند: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، فضحك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى استلقى اه.
الخلاصة: أصل الخبر صحيح بطرقه وشواهده. وانظر «الكشاف» 1164 و «الجامع لأحكام القرآن» 5909 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 4891 ومسلم 1866 من حديث عائشة. وانظر «تفسير ابن العربي» 2090 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 4892 والبغوي 2184 في «معالم التنزيل» بترقيمنا عن أبي معمر به.(4/274)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
(1439) والثاني: أنه لا يَدْعين ويلاً، ولا يَخْدِشْنَ وجهاً ولا يَنْشُرنَ شعراً، ولا يَشْقُقْنَ ثوباً، قاله زيد بن أسلم.
والثالث: أنه جميع ما يأمرهنّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام، وآدابه، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي هذه الآية دليل على أن طاعة الولاة إِنما تلزم في المباح دون المحظور.
قوله عزّ وجلّ: فَبايِعْهُنَّ المعنى: إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهنّ.
[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود.
(1440) وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين، يتقرَّبون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم، فنزلت هذه الآية.
قوله عزّ وجلّ: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ وذلك أن اليهود بتكذيبهم محمداً، وهم يعرفون صدقه قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير، والمعنى: قد يئسوا من ثواب الآخرة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح.
وقال قتادة: قد يئسوا أن يبعثوا، كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ فيه قولان: أحدهما: كما يئس الكفار، مِن بعث مَن في القبور، قاله ابن عباس. والثاني: كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة، لأنهم أيقنوا بالعذاب، قاله مجاهد.
__________
وأخرجه البخاري 7215 والطبراني 25/ (133) والبيهقي 4/ 62 من طريق عبد الوارث بهذا الإسناد.
وأخرجه مسلم 936 ح 33 وأحمد 6/ 407 وابن أبي شيبة 3/ 389 والحاكم 1/ 383 وابن حبان 3145 والطبراني 25/ (136) والبيهقي 4/ 62 من طرق عن أبي معاوية عن عاصم عن حفصة به. وأخرجه النسائي 7/ 148- 149 وأحمد 6/ 408 والطبري 34020 من طريق عن محمد بن سيرين عن أم عطية بنحوه.
مرسل. أخرجه ابن أبي شيبة كما في «الدر» 6/ 315 عن زيد بن أسلم مرسلا.
وورد من مرسل الضحاك بنحوه، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» 6/ 314.
ذكره الواحدي في «الأسباب» 816 بدون إسناد ولا عزو لأحد، فهو لا شيء، وليس له أصل.(4/275)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
سورة الصّف
ويقال لها: سورة الحواريين وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله ابن عباس: والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. والثاني: مكيّة، قاله ابن يسار.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قوله عزّ وجلّ: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ في سبب نزولها خمسة أقوال «1» :
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 80: وأولى الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عني بها الذين قالوا: لو عرفنا أحب الأعمال إلى الله لعملنا به، ثم قصروا بالعمل بعد ما عرفوا.
فائدة: قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 422: وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ إنكار على من يعد عدّة، أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» ولهذا أكّد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.
وقال ابن العربي في «الأحكام» 4/ 241- 242: إن من التزم شيئا لزمه شرعا، والملتزم على قسمين:
أحدهما: النذر، وهو على قسمين: نذر تقرب مبتدأ، كقوله: لله علي صوم وصلاة وصدقة، ونحوه من التقرب، فهذا يلزمه الوفاء به إجماعا. ونذر مباح، وهو ما علّق بشرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعلي صدقة. أو علّق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة. فاختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقواله: إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا، لأنها بمطلقها تتضمن ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان، من مطلق أو مقيد بشرط. وقد قال أصحابه: إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة. هذا وإن كان من جنس القربة، لكنه لم يقصد به القربة، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الإقدام على فعل.
قلنا: القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف في التزام هذه القربة مشقة لجلب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب، كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا فقيل: يلزم بمطلقه، وتعلّقوا بسبب الآية. - وهو الحديث الآتي عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام.(4/276)
(1441) أحدها: ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام، قال: قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزّ وجلّ عملناه، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلى آخر السورة.
(1442) والثاني: أن الرجل كان يجيء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فيقول: فعلتُ كذا وكذا، وما فعل، فنزلت لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ رواه عكرمة عن ابن عباس، وكذلك قال الضحاك: كان الرجل يقول: قاتلتُ، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وصبرت ولم يصبر، فنزلت هذه الآية.
(1443) والثالث: أن ناساً من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد: وددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إِليه، فلما نزل الجهاد، كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
(1444) والرابع: أن صهيباً قتل رجلاً يوم بدر، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب: أنا قتلته يا رسول الله، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب، ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب.
(1445) والخامس: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه: لو قد خرجتم خرجنا معكم، ونصرناكم. فلما خرج النبي صلّى الله عليه وسلم نكصوا عنه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ قال الزجاج: «مقتاً» منصوب على التمييز، والمعنى: كبر
__________
صحيح. أخرجه أحمد 5/ 452 والترمذي 3309 والحاكم 2/ 487 و 229 والدارمي 2/ 200 من حديث عبد الله بن سلام، صححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا، فقد رووه من طرق عدة، راجع كلام الترمذي، وقال الحافظ: هو أصح حديث مسلسل. راجع «الفتح» 8/ 641. وانظر «تفسير الشوكاني» 2502 و «الجامع لأحكام القرآن» 5922 بتخريجنا.
عزاه المصنف لعكرمة عن ابن عباس، ولم أقف عليه بهذا اللفظ. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 6/ 417 عن ابن عباس بنحوه. وورد عن أبي صالح مرسلا، أخرجه الطبري 34044 وعبد بن حميد كما في «الدر» 6/ 417، وورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 34046 وعن الضحاك 34048.
ضعيف. أخرجه الطبري 34042 عن علي عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لانقطاعه بين علي بن أبي طلحة وابن عباس.
قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 522: أخرجه الثعلبي من حديث صهيب قال: «كان رجل يوم بدر آذى المسلمين، ونكا فيهم فقتله صهيب فقال رجل: يا رسول الله قتلت فلان، ففرح بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال عمر وعبد الرحمن لصهيب: أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك الحديث ... اه. قلت: وما ينفرد به الثعلبي فهو ضعيف أو منكر، حتى الواحدي لم يذكره لا في «أسباب النزول» ولا في «الوسيط» ، ولا ذكره السيوطي في «الدر» 6/ 317- 318.
باطل. أخرجه الطبري 34049 عن ابن زيد، وهذا معضل، وابن زيد واه، والمتن باطل لأن الخطاب في الآية للمؤمنين، فهذه علل ثلاث.(4/277)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
قولُكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله. ثم أعلم عزّ وجلّ ما الذي يحبّه، فقال عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي: بنيان لاصق بعضه ببعض، فأعلم أنه يحب من يثبت في الجهاد، ويلزم مكانه كثبوت البنيان المرصوص. ويجوز أن يكون عنى أن يستوي ثباتهم في حرب عدوِّهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. وللمفسرين في المراد ب «المرصوص» قولان: أحدهما: أنه الملتصق بعضه ببعض، فلا يرى فيه خلل لإحكامه، قاله الأكثرون. والثاني: أنه المبنيُّ بالرصاص وإلى نحو هذا ذهب الفراء، وكان أبو بحرية يقول: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبُّون القتال على الأرض لهذه الآية. اسم أبي بحرية: عبد الله بن قيس التَّراغِمي، يروي عن معاذ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الفرسان لا يصطفّون في الغالب إنما يصطفّ الرّجّالة.
[سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 9]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ قالَ مُوسى المعنى: اذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعته بالذين آذَوْا موسى. وقد ذكرنا ما آذَوْا به موسى في الأحزاب «1» .
قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا زاغُوا أي: مالوا عن الحق أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي: أمالها عن الحق جزاءً لما ارتكبوه، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: يَأْتِي مِنْ بَعْدِي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم «من بعديَ اسْمُه» بفتح الياء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «من بعديْ اسمه» بإسكان الياء وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله مقاتل. والثاني: النصارى حين قالوا: عيسى ابن الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرّف وهو «يَدَّعِي إِلى الإسلام» بفتح الياء، والدال، وتشديدها، وبكسر العين، وما بعد هذا في براءة «2» إلى قوله عزّ وجلّ: مُتِمُّ نُورِهِ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم وخلف «مُتِمُّ نُورِه» مضاف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «متمّ» رفع منوّن.
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
__________
(1) الأحزاب: 69.
(2) التوبة: 32.(4/278)
قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ قال المفسرون: نزلت هذه الآية حين قالوا: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبداً، فدلَّهم الله على ذلك، وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه «1» .
قوله عزّ وجلّ: تُنْجِيكُمْ قرأ ابن عامر «تنجيِّكم» بالتشديد. وقرأ الباقون بالتخفيف. ثم بيّن التّجارة، فقال عزّ وجلّ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله عزّ وجلّ: يَغْفِرْ لَكُمْ فإن قيل: كيف قال:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وقد قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وقد سبق ذلك الجواب عنه بنحو الجواب عن قوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «2» وقد سبق ذلك. قال الزجاج: وقوله: «يغفر لكم» جواب قولِه: «تؤمنون» «وتجاهدون» ، لأن معناه معنى الأمر. والمعنى: آمنوا بالله وجاهدوا، يغفر لكم، أي: إن فعلتم ذلك، يغفر لكم. وقد غلط بعض النحويين، فقال: هذا جواب «هل» وهذا غلط بَيِّنٌ، لأنه ليس إذا دلَّهم على ما ينفعهم غفر لهم، إِنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك. ومن قرأ «يغفر لكم» بإدغام الراء في اللام، فغير جائز عند سيبويه، والخليل، لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم. وقد رُوِيَتْ عن أبي عمرو بن العلاء، وهو إمام عظيم، ولا أحسبه قرأها إِلا وقد سمعها من العرب. وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين، ما خلا أبا عمرو، أن اللام تدغم في الراء، وأن الراء لا تدغم في اللام، وحُجَّتهم أن الراء حرف مكرر قوي، فإذا أدغمت في اللام ذهب التكرير منها. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزّ وجلّ:
وَأُخْرى تُحِبُّونَها قال الفراء: والمعنى: ولكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبُّونها، ثم فسّرها فقال عزّ وجلّ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وفيه قولان:
أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس. والثاني: فتح فارس والروم، قاله عطاء.
قوله عزّ وجلّ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي: بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. ثم حضَّهم على نصر دينه ب قوله عزّ وجلّ: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ
منوَّنة.
وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أنصار الله» مضاف، ومعنى الآية: دُوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله مثل نُصْرَة الحواريين لمَّا قال لهم عيسى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وحرَّك نافع ياء «مَن أنصاريَ إِلى الله» وقد سبق تفسير هذا الكلام.
قوله عز وجلّ: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعيسى وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بعيسى عَلى عَدُوِّهِمْ وهم مخالفو عيسى، كذلك قال ابن عباس، ومجاهد، والجمهور، وقال مقاتل: تم الكلام عند قوله عزّ وجلّ: وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ بمحمد على الأديان، وقال إبراهيم النخعي: أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمّد صلّى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجة. قال ابن قتيبة: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي: غالبين عليهم بمحمد. من قولك: ظهرت على فلان: إِذا علوتَه، وظهرت على السطح: إذا صرتَ فوقه.
__________
(1) انظر الحديث المتقدم 1441 وفيه فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلى آخر السورة وهذه الآية منها.
(2) النساء: 136.(4/279)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
سورة الجمعة
وهي مدنية كلّها بإجماعهم وقد سبق شرح فاتحتها «1» . وقرأ أبو الدّرداء، وأبو عبد الرّحمن السّلميّ، وعكرمة، والنّخعيّ، والوليد عن يعقوب الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ بالرفع فيهن.
فإن قيل: فما الفائدة في إعادة ذكر التسبيح في هذه السورة؟
فالجواب: أنّ ذلك لاستفتاح السّور بتعظيم الله عزّ وجلّ، كما تستفتح ب «بسم الله الرحمن الرحيم» وإذا جلّ المعنى في تعظيم الله، حسن الاستفتاح به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
قوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعني: العرب، وكانوا لا يكتبون وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة «2» رَسُولًا يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أي: من جنسهم ونسبهم.
فإن قيل: فما وجه الامتنان في أنه بعث نبياً أمياً «3» ؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: لموافقة ما تقدّمت
__________
(1) آل عمران: 52.
(2) البقرة: 78.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 428: الأميون هم العرب، وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، لكن المنة عليهم أبلغ وآكد، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به، وكذا قوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، وقوله لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. فبعثه الله سبحانه وتعالى على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، أي نذرا يسيرا- ممن تمسّك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام.(4/280)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
البشارة به في كتب الأنبياء. والثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب إلى موافقتهم. والثالث:
لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبله. وما بعد هذا في سورة البقرة «1» إلى قوله عزّ وجلّ: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ، أي: وما كانوا قبل بعثه إلا في ضَلالٍ مُبِينٍ بَيِّن، وهو الشرك.
قوله عزّ وجلّ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: وبعث محمداً في آخرين منهم، أي: من الأميين. والثاني: ويعلم آخرين منهم، ويزكِّيهم.
وفي المراد بالآخرين أربعة أقوال: أحدها: أنهم العجم، قاله ابن عمر، وسعيد بن جبير، وهي رواية ليث عن مجاهد. فعلى هذا إِنما قال: «منهم» ، لأنهم إِذا أسلموا صاروا منهم، إذ المسلمون يد واحدة، وملَّةٌ واحدة. والثاني: أنهم التابعون، قاله عكرمة، ومقاتل. والثالث: جميع من دخل في الإسلام إِلى يوم القيامة، قاله ابن زيد، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد. والرابع: أنهم الأطفال، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ: أي: لم يلحقوا بهم.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يعني: الإسلام والهدى وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ بإرسال محمّد صلّى الله عليه وسلم.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا، فقال عزّ وجلّ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي: كُلِّفوا العمل بما فيها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي: لم يعملوا بموجبها، ولم يؤدُّوا حقها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وهي جمع سفر. والسِّفْر: الكتاب، فشبَّههم بالحمار لا يعقل ما يحمل، إذ لم ينتفعوا بما في التّوراة، وهي دالّة على الإيمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلم وهذا المثل يلحق من لم يعمل بالقرآن ولم يفهم معانيه بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ ذم مثلهم، والمراد ذمُّهم، واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنفسهم بتكذيب الأنبياء.
قوله عزّ وجلّ: إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ وذلك أن اليهود، قالوا: نحن ولد إسرائيل الله، ابن ذبيح الله، ابن خليل الله، ونحن أولى بالله عزّ وجلّ من سائر الناس، وإِنما تكون النبوة فينا. فقال الله عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسلام: قُلْ لهم إن كنتم أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لأن الآخرة خير لأولياء الله من الدنيا. وقد بيَّنا هذا وما بعده في البقرة «2» إلى قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ وذلك أنّ اليهود علموا أنهم قد أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمداً،
__________
(1) البقرة: 129.
(2) البقرة: 94.(4/281)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
وكانوا يكرهون الموت، فقيل لهم: لا بد من نزوله بكم بقوله عزّ وجلّ: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ، قال الفراء: العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل، مثل: «من» و «الذي» فمن أدخل الفاء هاهنا ذهب «بالذي» إِلى تأويل الجزاء. وفي قراءة عبد الله «إِن الموت الذي تفرُّون منه ملاقيكم» وهذا على القياس، لأنك تقول: إن أخاك قائم، ولا تقول: فقائم، ولو قلت: إن ضاربك فظالم، لجاز، لأن تأويله: إنّ رجلا يضربك فظالم. وقال الزجاج: إنما جاز دخول الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط والجزاء. ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ: «تفرُّون منه» كأنه قيل: إن فررتم من أي موت كان من قتل أو غيره «فإنه ملاقيكم» وتكون «فإنه» استئنافاً بعد الخبر الأول.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
قوله عزّ وجلّ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ وهذا هو النداء الذي ينادى به إذا جلس الإمام على المنبر، ولم يكن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم نداء سواه.
(1446) كان إِذا جلس على المنبر أذَّن بلال على باب المسجد، وكذلك كان على عهد أبي بكر، وعمر، فلما كثر الناس على عهد عثمان أمر بالتأذين الأول على دارٍ له بالسُّوق، يقال لها: «الزوراء» وكان إذا جلس أذّن أيضا.
قوله عزّ وجلّ: لِلصَّلاةِ أي: لوقت الصلاة. وفي «الجمعة» ثلاث لغات. ضم الجيم والميم، وهي قراءة الجمهور. وضم الجيم مع إسكان الميم، وبها قرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، وعكرمة، والزهري، وابن أبي ليلى، وابن أبي عبلة، والأعمش. وبضم الجيم مع فتح الميم، وبها قرأ أبو مجلز، وأبو العالية، والنخعي، وعدي بن الفضل عن أبي عمرو. وقال الزجاج: من قرأ بتسكين الميم، فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين. وأما فتح الميم، فمعناها: الذي يجمع الناس، كما تقول:
رجل لُعَنَة: يكثر لعنة الناس، وضُحَكَة: يكثر الضحك. وفي تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه فيه جُمع آدم.
(1447) روى سلمان قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أتدري ما الجمعة؟» قلت: لا. قال: «فيه جُمع أبوك» ، يعني: تمام خلقه في يوم الجمعة.
والثاني: لاجتماع الناس فيه للصلاة. والثالث: لاجتماع المخلوقات فيه، لأنه اليوم الذي فرغ فيه من خلق الأشياء.
__________
ساقه المصنف بمعناه، وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري 1912 و 1913 وأبي داود 1087 و 1088 والترمذي 516 وابن ماجة 1135 وابن حبان 1673 والبيهقي 3/ 192 وأحمد 3/ 450 من حديث السائب بن يزيد. وانظر «أحكام القرآن» 4/ 247 و «الجامع لأحكام القرآن» 5939 بتخريجنا.
أخرجه أحمد 5/ 439 والحاكم 1/ 277 من حديث سلمان، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر، واسمه نجيح. ولصدره شاهد في الصحيح، ولباقيه شواهد كثيرة.
الخلاصة: أصل الحديث صحيح بشواهده. وانظر «الدر المنثور» 6/ 323- 324.(4/282)
وفي أول من سماها بالجمعة قولان: أحدهما: أنه كعب بن لؤي سماها بذلك، وكان يقال ليوم الجمعة: العَروبة. قاله أبو سلمة. وقيل: إِنما سماها بذلك لاجتماع قريش فيه. والثاني: أنّ أول من سماها بذلك الأنصار، قاله ابن سيرين.
قوله عزّ وجلّ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وفي هذا السعي ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المشي، قاله ابن عباس. وكان ابن مسعود يقرؤها «فامضوا» ويقول: لو قرأتها «فاسعَوْا» لسعَيت حتى يسقط ردائي. قال عطاء: هو الذهاب والمشي إلى الصلاة.
والثاني: أن المراد بالسعي: العمل، قاله عكرمة، والقرظي، والضحاك، فيكون المعنى: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله بالتفرغ له، والاشتغال بالطهارة ونحوها.
والثالث: أنه النية بالقلب، قاله الحسن. وقال ابن قتيبة: هو المبادرة بالنية والجدّ.
وفي المراد «بذكر الله» قولان: أحدهما: أنه الصلاة، قاله الأكثرون. والثاني: موعظة الإمام، قاله سعيد بن المسيب.
قوله عزّ وجلّ: وَذَرُوا الْبَيْعَ أي: دعوا التجارة في ذلك الوقت. وعندنا: لا يجوز البيع في وقت النداء، ويقع البيع باطلاً في حق من يلزمه فرض الجمعة، وبه قال مالك خلافاً للأكثرين.
فصل:
تجب الجمعة على من سمع النداء من المصر، إذا كان المؤذن صَيِّتاً، والريح ساكنة.
وقد حدَّه مالك بفرسخ، ولم يحدّه الشافعي. وعن أحمد في التحديد نحوهما. وتجب الجمعة على أهل القرى. وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على أهل الأمصار. ويجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة في الصحراء القريبة من المصر خلافاً للشافعي. ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين. وعن أحمد: أقله خمسون. وعنه: أقله ثلاثة. وقال أبو حنيفة: تنعقد بثلاثة والإمام، والعدد شرط في الخطبة. وقال أبو حنيفة في إِحدى الروايتين: يصح أن يخطب منفرداً. وهل تجب الجمعة على العبيد؟ فيه عن أحمد روايتان. وعندنا: تجب على الأعمى إذا وجد قائداً، خلافاً لأبي حنيفة. ولا تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين، خلافاً لأبي حنيفة. وهل تجب الجمعة والعيدان من غير إِذن سلطان؟ فيه عن أحمد روايتان. وتجوز الجمعة في موضعين في البلد مع الحاجة. وقال مالك، والشافعي، وأبو يوسف: لا تجوز إلا في موضع واحد. وتجوز إقامة الجمعة قبل الزوال خلافاً لأكثرهم، وإذا وقع العيد يوم الجمعة أجزأ حضوره عن يوم الجمعة، وبه قال الشعبي والنخعي، خلافاً للأكثرين، والمستحب لأهل الأعذار أن يصلوا الظهر في جماعة. وقال أبو حنيفة: يكره. ولا يجوز السفر يوم الجمعة بعد الزوال. وقال أبو حنيفة: يجوز. وهل يجوز السفر بعد طلوع الفجر؟ فيه عن الإمام أحمد روايتان. ونقل عن أحمد رضي الله عنه أنه لا يجوز الخروج في الجمعة إلا للجهاد. وقال أبو حنيفة: يجوز لكل سفر. وقال الشافعي:
لا يجوز أصلاً.
والخطبة شرط في الجمعة. وقال داود: هي مستحبة. والطهارة لا تشترط في الخطبة، خلافا للشّافعي تصحّ في أحد قوليه. والقيام ليس بشرط في الخطبة، خلافاً للشافعي. ولا تجب القعدة بين الخطبتين، خلافاً له أيضاً.
ومن شرط الخطبة: التحميد، والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقراءة آية، والموعظة. وقال أبو حنيفة:(4/283)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
يجوز أن يخطب بتسبيحة.
والخطبتان واجبتان. وأما القراءة في الخطبة الثانية، فهي شرط، خلافاً للشافعي.
والسُّنَّة للإمام إذا صعِد المنبر، واستقبل الناس: أن يسلِّم، خلافاً لأبي حنيفة، ومالك. وهل يحرم الكلام في حال سماع الخطبة؟ فيه عن أحمد روايتان. ويحرم على المستمع دون الخاطب، خلافاً للأكثرين. ولا يكره الكلام قبل الابتداء بالخطبة، وبعد الفراغ منها، خلافاً لأبي حنيفة.
ويستحب له أن يصليَ تحية المسجد والإمام يخطب، خلافاً لأبي حنيفة، ومالك.
وهل يجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر، فيه عن أحمد روايتان.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: إِن كان لكم علم بالأصلح فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي: فرغتم منها فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ هذا أمر إباحة وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع منها بقوله تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ وقال الحسن، وسعيد بن جبير: هو طلب العلم.
[سورة الجمعة (62) : آية 11]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
قوله عزّ وجلّ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً.
(1448) سبب نزولها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، إذ أقبلت عير قد قَدِمَتْ، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا إثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية.
(1449) أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جابر بن عبد الله، قال الحسن:
وذلك أنهم أصابهم جوع، وغلاء سعر، فلما سمعوا بها خرجوا إليها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو اتبع آخرُهم أوَّلَهم التهب عليهم الوادي ناراً» .
(1450) قال المفسرون: كان الذي قدم بالتجارة دحية بن خليفة الكلبي، قال مقاتل: وذلك قبل
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4899 عن حفص بن عمر به من حديث جابر. وأخرجه مسلم 863 ح 37 من طريق خالد به. وأخرجه البخاري 936 و 3064 و 3308 ومسلم 863 وأبو يعلى 1888 والطبري 3436 و 34144 والدارقطني 2/ 5 والبيهقي 3/ 197 والواحدي في «أسباب النزول» 820 وابن بشكوال في «غوامض الأسماء» 851 من طرق عن حصين به. وأخرجه البخاري 4899 ومسلم 863. وأخرجه البخاري 4899 ومسلم 863 والترمذي 3308 والطبري 34143 والواحدي 819 من طرق عن حصين عن أبي سفيان عن جابر به.
عجزه ضعيف. أخرجه الطبري 3437 وعبد الرزاق في «التفسير» 3222 من طريق معمر عن الحسن مرسلا.
وأخرجه الطبري 34134 من طريق سفيان عن إسماعيل السدي عن أبي مالك مرسلا وليس فيه اللفظ المرفوع.
ذكره الواحدي في «الأسباب» 820 عن المفسرين. وأخرجه البيهقي في «الشعب» 6495 من طريق بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان مرسلا. وأخرجه أبو داود في «المراسيل» 59 عن مقاتل بن حيان مرسلا بنحوه.
وعجزه ضعيف وفيه اللفظ المرفوع فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأحزم الله(4/284)
أن يسلم. قالوا: قَدِمَ بها من الشام، وضرب لها طبل يُؤذن الناس بقدومها. وهذه كانت عادتهم إذا قدمت عير. قال جابر بن عبد الله: كانت التجارة طعاماً «1» . وقال أبو مالك: كانت زيتاً «2» . والمراد باللهو: ضرب الطّبل. وانْفَضُّوا بمعنى: تفرَّقوا عنك، فذهبوا إليها. والضمير للتجارة. وإنما خصت برد الضمير إِليها، لأنها كانت أهم إليهم، هذا قول الفراء، والمبرد. وقال الزجاج: المعنى:
وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه، فحذف خبر أحدهما، لأن الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة «انفضوا إليهما» على التثنية. وعن ابن مسعود، وابن أبي عبلة «انفضوا إليه» على ضمير مذكر وَتَرَكُوكَ قائِماً وهذا القيام كان في الخطبة قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الصلاة والثبات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ومن يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل، ويبتدئ من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته، ويقبل على خدمته.
__________
عليهم الوادي نارا» . لكن لعجزه شاهد من: حديث جابر عند أبي يعلى 1979 وابن حبان 6877 وفي إسناده زكريا بن يحيى بن زحمويه ذكره ابن حبان في «الثقات» 8/ 253، وأورده ابن أبي حاتم في «العلل» 3/ 61 ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، فالرجل مجهول. وحديث جابر في هذا الشأن رواه الشيخان كما تقدم بغير هذا السياق، وليس فيه اللفظ المرفوع فهذه زيادة منكرة، وتقدم حديث جابر. ويشهد لكون دحية الكلبي قدم بالتجارة، ما أخرجه بشكوال في «غوامض الأسماء» ص 852 والطبري 34135 من طريق سفيان عن السدي عن مرة مرسلا. وحديث ابن عباس عند البزار 2273، وفي إسناده عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف كما في «المجمع» 7/ 134.
الخلاصة: أصل الحديث يعتضد بشواهده دون اللفظ المرفوع، فإنه ضعيف لا يصح.
وانظر «أحكام القرآن» 2122.
__________
(1) انظر الحديث 1448 عن جابر بن عبد الله. [.....]
(2) انظر الحديث المتقدم 1449.
تنبيه: قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 537 رواية الاثني عشر هي المشهورة في «الصحيحين» ولم أقف على رواية أنهم كانوا ثمانية ولا أحد عشر. ورواية الأربعين أخرجها الدارقطني من طريق علي بن عاصم عن حصين، وقال: لم يقل أحد من أصحاب حصين: أربعون إلا علي بن عاصم، والكل قالوا: اثني عشر رجلا.
وكذلك قال أبو سفيان عن جابر كما تقدم اه. قلت: رواية الدارقطني هي في «السنن» 2/ 4.
وانظر «الكشاف» 4/ 538 بتخريجنا.(4/285)
سورة المنافقون
وهي مدنيّة بإجماعهم (1451) وذكر أهل التفسير أنها نزلت في عبد الله بن أبي ونظرائه. وكان السبب أنّ عبد الله خرج مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم في خلق كثير من المنافقين إلى المريسيع، وهو ماء لبني المصطلق طلبا للغنيمة، لا للرغبة في الجهاد، لأن السفر كان قريبا. فلمّا قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم غزاته، أقبل رجل من جهينة، يقال له: سنان، وهو حليف لعبد الله بن أبيّ، ورجل من بني غفار يقال له: جهجاه بن سعيد، وهو أجير لعمر بن الخطّاب لاستقاء الماء، فدار بينهما كلام، فرفع الغفاريّ يده فلطم الجهنيّ، فأدماه، فنادى الجهنيّ: يا آل الخزرج، فأقبلوا، ونادى الغفاريّ: يا آل قريش، فأقبلوا، فأصلح الأمر قوم من المهاجرين. فبلغ الخبر عبد الله بن أبيّ، فقال وعنده جماعة من المنافقين: والله ما مثلكم ومثل هؤلاء الرّهط من قريش إلّا مثل ما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، ولكن هذا فعلكم بأنفسكم، آويتموهم في منازلكم، وأنفقتم عليهم أموالكم، فقووا وضعفتم. وايم الله: لو أمسكتم أيديكم لتفرّقت عن هذا جموعه، ولئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل، وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو غلام يومئذ لا يؤبه له، فقال لعبد الله: أنت والله الذّليل القليل، فقال: إنما كنت ألعب، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال عمر: دعني أضرب عنقه. فقال: إذن ترعد له آنف كبيرة، قال: فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر سعد بن عبادة، أو محمّد بن مسلمة، أو عبّاد بن بشر فيقتله، فقال:
إذن يتحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيّ، فأتاه، فقال:
أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال: والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا، وإنّ زيدا لكذّاب، فقال من حضر: لا يصدق عليه كلام غلام، عسى الله أن يكون قد وهم، فعذره رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفشت الملامة في الأنصار لزيد، وكذّبوه، وقال له عمّه: ما أردت إلّا أن كذّبك رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون، ومقتوك!
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بإثر 821 نقلا عن أهل التفسير، وأصحاب السير. وأخرجه الطبري 34178 من طريق محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن قتادة عن عبد الله بن أبي بكر، وعن محمد بن يحيى بن حيان قال: كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق قالوا: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ... فذكره مع اختلاف يسير. وأصل الخبر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم. أخرجه البخاري 4900 و 494 ومسلم 2772 والترمذي 2312 و 2313 والنسائي في «التفسير» 617 والواحدي في «أسباب النزول» 821 و «الوسيط» 4/ 303- 304. أما عجزه فقد أخرجه الطبري 34159 عن بشير بن مسلم ... فذكره بأحضر منه.
الخلاصة: عامة هذا السياق محفوظ بطرقه وشواهده.(4/286)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
فاستحيا زيد، وجلس في بيته. فبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ، لما بلغك عنه. فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فإني أخشى أن يقتله غيري، فلا تدعني نفسي حتى أقتل قاتله، فأدخل النار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بل تحسن صحبته ما بقي معنا» ، وأنزل الله سورة المنافقين في تصديق زيد، وتكذيب عبد الله، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى زيد فقرأها عليه، وقال: إنّ الله قد صدّقك. ولمّا أراد عبد الله بن أبيّ أن يدخل المدينة جاء ابنه، فقال: ما وراءك، قال: ما لك ويلك؟ قال: لا والله لا تدخلها أبدا إلّا بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتعلم اليوم من الأعزّ، ومن الأذلّ. فشكا عبد الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما صنع ابنه، فأرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن خلّ عنه حتى يدخل، فلمّا نزلت السّورة وبان كذبه قيل له: يا أبا حباب:
إنه قد نزلت فيك آيات شداد، فاذهب إلى رسول الله ليستغفر لك، فلوى به رأسه، فلذلك قوله عزّ وجلّ: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وقيل: إنّ الذي قال له هذا عبادة بن الصّامت.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ يعني: عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وهاهنا تم الخبر عنهم. ثم ابتدأ فقال عزّ وجلّ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ وإنما جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا «1» . قال الفراء: إنما كذب ضميرهم.
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قد ذكرناه في المجادلة «2» . قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أن قول القائل: «أشهد» يمين. لأنهم قالوا: «نشهد» فجعله يمينا بقوله عزّ وجلّ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً وقد قال أحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة: أَشْهَدُ، وأُقْسِمُ، وأَعْزِمُ، وأَحْلِفُ، كُلُّها أَيْمان. وقال الشافعي: «أُقسم» ليس بيمين. وإنما قوله: «أقسم بالله» يمين إذا أراد اليمين.
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 256: الشهادة تكون بالقلب، وتكون باللسان، وتكون بالجوارح، فأما شهادة القلب فهو الاعتقاد أو العلم على رأي قوم، والعلم على رأي آخرين، والصحيح عندي أنه الاعتقاد والعلم. وأما شهادة اللسان فبالكلام، وهو الركن الظاهر من أركانها، وعليه تنبني الأحكام، وتترتب الأعذار والاعتصام. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» متفق عليه.
وقال ابن العربي في «الأحكام» 4/ 257: قال بعض الشافعية: إن قول الشافعي: إن الرجل إذا قال في يمينه- أشهد بالله يكون يمينا بنية اليمين، ورأى أبو حنيفة ومالك أنه دون النية يمين، ولا أرى المسألة إلا هكذا في أصلها. وقد قال مالك، إذا قال الرجل: أشهد: إنه يمين إذا أراد بالله.
(2) المجادلة: 16.(4/287)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
قوله تعالى: ذلِكَ أي: ذلك الكذب بِأَنَّهُمْ آمَنُوا باللسان ثُمَّ كَفَرُوا في السِّرِّ فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ الإِيمان والقرآن وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ يعني: أن لهم أجساماً ومناظر.
(1452) قال ابن عباس: كان عبد الله بن أُبَيّ جسيماً فصيحاً، ذَلْقَ «1» اللسان، فإذا قال، سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلم قوله. وقال غيره: المعنى: يصغي إلى قولهم، فيحسب أنه حق كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: وحمزة: «خُشُبٌ» بضم الخاء، والشين جميعاً، وهو جمع خشبة. مثل ثمرة، وثمر. وقرأ الكسائيّ: خشب بضم الخاء، وتسكين الشين، مثل: بَدَنَةٍ، وبُدْنٍ، وأَكَمَةٍ، وأُكْمِ. وعن ابن كثير، وأبي عمرو، مثله. وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة، وابن سيرين:
«خَشَبٌ» بفتح الخاء، والشين جميعاً. وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكّل، وأبو عمران خشب بفتح الخاء، وإسكان الشين، فوصفهم الله بحسن الصّور، وإبانة النّطق، ثم أعلم أنهم في ترك التفهُّم والاستبصار بمنزلة الخُشُب. والمُسَنَّدة: الممالة إلى الجدار. والمراد: أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي، بل هي خُشُبٌ مُسَنَّدةٌ إلى حائط. ثم عابهم بالجبن فقال عزّ وجلّ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي: لا يسمعون صوتاً إلا ظنوا أنهم قد أُتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، وهذه مبالغة في وصفهم بالجبن. وأنشدوا في هذا المعنى:
وَلَوْ أَنَّها عُصْفُورَةٌ لحَسِبْتَها ... مُسَوَّمةً تدعو عُبيْداً وَأَزْنَما «2»
أي: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلاً تدعو هاتين القبيلتين.
قوله عزّ وجلّ: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ أن تأمنهم: ولا تأمنهم على سِرِّك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ مفسر في براءة «3» .
[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 8]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ قد بيَّنَّا سببه في نزول السورة «4» لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وقرأ نافع، والمفضل عن عاصم، ويعقوب: «لَوَوْا» بالتخفيف. واختار أبو عبيد التشديد.
__________
هو بعض حديث، أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» 6/ 336 عن ابن عباس بنحوه. ولم أقف على إسناده، لكن لا ريب أن ابن سلول هو أحد المرادين بهذه الآية.
__________
(1) ذلق اللسان: طلق اللسان.
(2) البيت للعوام بن شوذب الشيباني وهو في «معجم الشعراء» 300 و «اللسان» - زنم- وأزنم: بطن من بني يربوع.
(3) التوبة: 30.
(4) انظر الحديث المتقدم 1451.(4/288)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
وقال: لأنهم فعلوا ذلك مرَّة بعد مرَّة. قال مجاهد: لما قيل لعبد الله بن أُبَيٍّ: تعال يستغفر لك رسول الله لوّى رأسه، وقال: ماذا قلتَ؟ وقال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار. وقال الفراء:
حَرَّكوها استهزاءً بالنبي وبدعائه.
قوله عزّ وجلّ: وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أي: يعرضون عن الاستغفار. وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي:
متكبِّرون عن ذلك. ثم ذكر أنّ استغفاره لهم لا ينفعهم، ب قوله عزّ وجلّ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ وقرأ أبو جعفر: «آستغفرت» بالمدّ.
قوله عزّ وجلّ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ قد بيَّنَّا أنه قول ابن أُبَيٍّ.
ويَنْفَضُّوا بمعنى: يتفرَّقوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال المفسرون: خزائن السموات: المطر، وخزائن الأرض: النبات. والمعنى: أنه هو الرَّزَّاق لهؤلاء المهاجرين، لا أولئك، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يعلمون أن الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا أي من هذه الغزوة. وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أُبَيّ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يعني: نفسه، وعنى ب الْأَذَلَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن: «لنُخرِجنَّ» بالنون مضمومة وكسر الراء «الأعزَّ» بنصب الزاي والأذل منصوب على الحال بناءً على جواز تعريف الحال. أو زيادة «أل» فيه أو بتقدير «مثل» المعنى: لنخرجنَّه ذليلاً على أيِّ حال ذلّ. والكل نصبوا «الأذلّ» فردّ الله عزّ وجلّ عليه فقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وهي:
المَنَعة والقوّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بإعزاز الله ونصره إياهم وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
قوله عزّ وجلّ: لا تُلْهِكُمْ أي: لا تشغلكم.
في المراد بذكر الله هاهنا أربعة أقوال: أحدها: طاعة الله في الجهاد، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الصلاة المكتوبة، قاله عطاء، ومقاتل. والثالث: الفرائض من الصلاة، وغيرها، قاله الضحاك. والرابع: أنه على إطلاقه. قال الزجاج: حضَّهم بهذا على إدامة الذكر.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ في هذه النفقة ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه زكاة الأموال، قاله ابن عباس. والثاني: أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال، كالزكاة والحجّ، ونحو ذلك، وهذا
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 259: أخذ ابن عباس بعموم الآية في الإنفاق الواجب خاصة دون النفل. وهو الصحيح. لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون النفل. وأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما، وأما القول في الحج على الفور ففيه إشكال، لأنا إن قلنا: إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل أدائه خلاف بين العلماء، لا تخرّج الآية عليه.
- وإن قلنا: إن الحج على الفور فالآية على العموم صحيح، لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات.(4/289)
المعنى مروي عن الضحاك. والثالث: أنه صدقة التطوّع، ذكره الماوردي. فعلى هذا يكون الأمر ندباً، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب.
قوله عزّ وجلّ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال الزجاج: أي: من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميّت.
قوله عزّ وجلّ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي أي: هلاَّ أخرتني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدَّق ويزكّي، وهو قوله عزّ وجلّ: فَأَصَّدَّقَ قال أبو عبيدة: «فأصدق» نصب، لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب. تقول: مَنْ عندك فآتيَك. هلاَّ فعلت كذا فأفعَل كذا، ثم تبعتْها وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بغير واو. وقال أبو عمرو: إنما هي، وأكون، فذهبت الواو من الخط. كما يكتب أبو جاد، أبجد، هجاءً، وهكذا يقرؤها أبو عمرو «وأكونَ» بالواو، ونصب النون. والباقون يقرءون «وأكن» بغير واو. قال الزجاج: من قرأ «وأكونَ» فهو على لفظ فأصَّدَّقَ. ومن جزم «أكنْ» فهو على موضع «فأصدق» لأن المعنى: إن أخرتني أصدق وأكن. وروى أبو صالح عن ابن عباس «فأصَّدَّق» أي: أُزكي مالي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: أَحُجّ مع المؤمنين، وقال في قوله عزّ وجلّ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ والمعنى: بما تعملون، وقرأ أبو بكر عن عاصم يعملون بالياء والباقون بالتاء، من التكذيب بالصدقة.
قال مقاتل: يعني: المنافقين. وروى الضحاك عن ابن عباس، ما من أحد يموت، قد كان له مال لم يزكّه، وأطاق الحج فلم يحج، إلا سأل الله الرجعة عند الموت، فقالوا له: إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: أنا أتلو عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية.(4/290)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
سورة التغابن
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الجمهور، منهم ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة. والثاني: أنها مكيّة، قاله الضّحّاك، وقال عطاء بن يسار: هي مكيّة إلّا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ واللّتان بعدها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
وقد سبق تفسير فاتحتها إلى قوله عزّ وجلّ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وفيه قولان «1» :
أحدهما: أن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، رواه الوالبي عن ابن عباس. والأحاديث تعضد هذا القول.
(1453) كقوله صلّى الله عليه وسلم: «خلق فرعون في بطن أمه كافراً، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً» .
(1454) وقوله: «فيؤمر الملك بأربع كلمات: بكتبِ رزقِهِ، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد» .
__________
أخرجه اللالكائي في «السنة» 130/ 1- 2 وأبو نعيم في «أخبار أصفهان» 2/ 190 من حديث ابن مسعود، وفيه نصر بن طريف، وهو متروك. وأخرجه ابن عدي 1/ 304 والطبراني 10543 من وجه آخر، وفيه أبو هلال الراسبي، وهو غير قوي والحديث بهذا اللفظ غير قوي.
صحيح. وهو قطعة من حديث طويل عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه البخاري 6594 و 7454 ومسلم 2643، وأبو داود 4708 والترمذي 2137 وابن ماجة 76 وابن حبان 6174 وأحمد 1/ 414 و 430.
وانظر «تفسير القرطبي» 5995 بتخريجنا.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 120: وقال الزجاج: - وهو أحسن الأقوال، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة-: إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أنّ الله خالق الكفر، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان.(4/291)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
والثاني: أنّ تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ: خَلَقَكُمْ ثم وصفهم، فقال عزّ وجلّ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، واختلف أرباب هذا القول فيه على أربعة أقوال: أحدها: فمنكم كافر يؤمن، ومنكم مؤمن يكفر، قاله أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني: فمنكم كافر في حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن في حياته كافر في العاقبة، قاله أبو سعيد الخدري. والثالث: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب، قاله عطاء بن أبي رباح، وعنى بذلك شأن الأنواء.
والرابع: فمنكم كافر بالله خلقه، ومؤمن بالله خلقه، حكاه الزجاج، والكفر بالخلق مذهب الدهرية، وأهل الطبائع. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزّ وجلّ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ قال الزجاج:
أي: خلقكم أحسن الحيوان كلِّه. وقرأ الأعمش «صوركم» بكسر الصاد. ويقال في جمع الصورة:
صور، وصور، وصِور، كما يقال في جمع لحية: لِحىّ، ولُحىّ. وذكر ابن السائب أن معنى فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أحكمها. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ روى المفضل عن عاصم «يسرُّون» و «يعلنون» بالياء فيهما أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ هذا خطاب لأهل مكة خوفهم ما نزل بالكفّار قبلهم، فذلك قوله عزّ وجلّ: فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي: جزاء أعمالهم، وهو ما أصابهم من العذاب في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة ذلِكَ الذي أصابهم بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فينكرون ذلك، ويقولون: أَبَشَرٌ أي: ناس مثلنا يَهْدُونَنا والبشر اسم جنس معناه الجمع، وإن كان لفظه واحداً فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا أي: أعرضوا عن الإيمان وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عن إيمانهم وعبادتهم.
[سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 18]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قوله عزّ وجلّ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا كان ابن عمر يقول: «زعموا» كناية الكذب. وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل: زعم فلان.
قوله عزّ وجلّ: وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني: البعث وَالنُّورِ هو القرآن، وفيه بيان أمر البعث والحساب والجزاء.(4/292)
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ هو منصوب بقوله تعالى: لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ وهو يوم القيامة. وسمي بذلك لأن الله تعالى يجمع فيه الجن والإنس، وأهل السماء، وأهل الأرض. قوله: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ تفاعل من الغبن، وهو فوت الحظ. والمراد في تسميته يوم القيامة بيوم التغابن فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه ليس من كافر إلا وله منزل وأهل في الجنة، فيرث ذلك المؤمن، فيغبن حينئذ الكافر، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: غبن أهل الجنة أهل النار، قاله مجاهد، والقرظي. والثالث: أنه يوم غبن المظلوم الظالم، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبوناً، فصار في الآخرة غابناً، ذكره الماوردي. والرابع: أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه للإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، ذكره الثعلبي. قال الزجاج: وإنما ذكر ذلك مثلا للبيع والشراء، كقوله عزّ وجلّ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «1» ، وقوله عزّ وجلّ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ «2» وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ قرأ نافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم «نكفر» «وندخله» بالنون فيهما. والباقون: بالياء ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قال ابن عباس: بعلمه وقضائه.
قوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ فيه ستة أقوال: أحدها: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قبل الله تعالى، فيسلم، ويرضى. والثاني: يهد قلبه للاسترجاع، وهو أن يقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون، قاله مقاتل. والثالث: أنه إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر، قاله ابن السائب، وابن قتيبة. والرابع: يهد قلبه، أي: يجعله مهتدياً، قاله الزجاج.
والخامس: يهد وليَّه بالصبر والرضى، قاله أبو بكر الورَّاق. والسادس: يهد قلبه لاتباع السنة إِذا صح إيمانه، قاله أبو عثمان الحيري. وقرأ أبو بكر الصديق، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: «يَهْدَ» بياءٍ مفتوحة. ونصب الدال «قَلْبُهُ» بالرفع. قال الزجاج: هذا من هدأ يهدأ: إذا سكن. فالمعنى: إذا سلَّم لأمر الله سَكَنَ قلبُه. وقرأ عثمان بن عفان، والضحاك، وطلحة بن مصرف، والأزرق عن حمزة: «نَهْد» بالنون. وقرأ علي بن أبي طالب، عليه السلام وأبو عبد الرّحمن: «يهد قلبه» بضم الياء، وفتح الدال «قَلْبُهُ» بالرفع. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ.
(1455) سبب نزولها أن الرجل كان يسلم. فإِذا أراد الهجرة منعه أهله، وولده، وقالوا: نَنْشُدُك الله أن تذهب وتَدَعَ أهلك وعشيرتك وتصير إِلى المدينة بلا أهل ولا مال. فمنهم من يَرِقُّ لهم، ويقيم فلا يهاجر، فنزلت هذه الآية. فلما هاجر أولئك، ورأوا الناس فقد فقهوا في الدّين همّوا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا إلى آخر الآية، هذا قول ابن عباس.
وقال الزجاج: لما أرادوا الهجرة قال لهم أزواجهم، وأولادهم: قد صبرنا لكم على مفارقة الدّين ولا
__________
حسن. أخرجه الترمذي 3317 والحاكم 2/ 490 والطبري 34198 من حديث ابن عباس، صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح. مع أنه من رواية سماك عن عكرمة وفيه ضعف، وورد من وجه آخر، أخرجه الطبري 34200، وفيه عطية العوفي واه. وانظر تفسير القرطبي 6001 بتخريجنا. وانظر أيضا «أحكام القرآن» 2131 فقد استوفيت فيه الكلام عليه.
__________
(1) البقرة: 16.
(2) الصف: 10.(4/293)
نصبر لكم على مفارقتكم، ومفارقة الأموال، والمساكن، فأعلم الله عزّ وجلّ أن من كان بهذه الصورة، فهو عدوٌّ، وإِن كان ولداً، أو كانت زوجة. وقال مجاهد: كان حب الرجل ولده وزوجته يحمله على قطيعة رحمه ومعصية ربه. وقال قتادة: كان من أزواجهم، وأولادهم من ينهاهم عن الإسلام، ويثبّطهم عنه، فخرج في قوله عزّ وجلّ: عَدُوًّا لَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: بمنعهم من الهجرة، وهذا على قول ابن عباس. والثاني: بكونهم سببا للمعاصي، وهذا على قول مجاهد. والثالث: بنهيهم عن الإسلام، وهذا على قول قتادة.
قوله عزّ وجلّ: فَاحْذَرُوهُمْ قال الفراء: لا تطيعوهم في التخلُّف.
قوله عزّ وجلّ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي: بلاء وشغل عن الآخرة. فالمال والأولاد يوقعان في العظائم إلا من عصمه الله. وقال ابن قتيبة: أي: إغرام. يقال: فتن فلان بالمرأة، وشغف بها، أي: أغرم بها. وقال أهل المعاني: إنما دخل «من» في قوله عزّ وجلّ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ لأنه ليس كل الأزواج، والأولاد أعداءً. ولم يذكر «من» في قوله عزّ وجلّ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لأنها لا تخلو من الفتنة، واشتغال القلب بها.
(1456) وقد روى بريدة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه كان يخطب، فجاء الحسن، والحسين، عليهما السلام، عليهما قميصان أحمران يمشيان، ويعثران، فنزل من المنبر، فحملهما، فوضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله عزّ وجلّ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
نظرت إِلى هذين الصبيين يمشيان، ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي، ورفعتهما» .
قوله عزّ وجلّ: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
أي: ثواب جزيل، وهو الجنة. والمعنى: لا تعصوه بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي: ما أطقتم وَاسْمَعُوا ما تُؤمَرُون به وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وفي هذه النفقة ثلاثة أقوال: أحدها:
الصَّدقة، قاله ابن عباس. والثاني: نفقة المؤمن على نفسه، قاله الحسن. والثالث: النفقة في الجهاد، قاله الضحاك. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ حتى يعطيَ حق الله في ماله. وقد تقدّم بيان هذا في سورة الحشر وما بعده سبق بيانه إلى آخر السّورة «1» .
__________
حسن. أخرجه الترمذي 3774 والحاكم 1/ 287 وابن حبان 6039 والبيهقي 3/ 218 من طرق عن علي بن الحسين بن واقد به. عن بريدة مرفوعا. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، مع أن علي بن الحسين روى له مسلم في المقدمة فقط لكنه توبع. وأخرجه أبو داود 1109 والنسائي 3/ 108 و 192 وابن ماجة 3600 وابن أبي شيبة 8/ 368 و 12/ 299- 300 وأحمد 5/ 354 وابن خزيمة 1082 وابن حبان 6038 والبيهقي 6/ 165 من حديث بريدة.
وانظر «أحكام القرآن» و «الجامع لأحكام القرآن» 6005.
__________
(1) البقرة: 245، والحديد: 11- 18، والحشر: 23- 24.(4/294)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
سورة الطّلاق
وتسمّى سورة النّساء القصرى، وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطلاق (65) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ قال الزّجّاج: هذا خطاب للنبيّ عليه السلام.
والمؤمنون داخلون معه فيه. ومعناه: إذا أردتم طلاق النّساء، كقوله عزّ وجلّ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1» . وفي سبب نزول هذه الآية قولان:
(1457) أحدهما: أنها نزلت حين طلّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم حفصة، وقيل له: راجعها، فإنّها صوّامة
__________
ذكر نزول هذه الآية ضعيف، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة صحيح، وباقيه حسن صحيح. أخرجه الطبري 34244 عن قتادة مرسلا بهذا السياق. ووصله ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 445 بذكر أنس، وفي إسناده أسباط بن محمد، غير قوي، والمرسل أصح. فقد أخرجه ابن سعد 8/ 67 عن قتادة مرسلا، وليس فيه ذكر نزول الآية.
وللحديث شواهد دون ذكر نزول الآية منها:
1- مرسل قيس بن زيد، أخرجه ابن سعد 8/ 67 ورجاله ثقات.
2- مرسل مخرمة بن بكير عن أبيه، أخرجه ابن سعد 8/ 67 وفيه الواقدي واه.
3- مرسل ابن سيرين، أخرجه ابن سعد 8/ 68 وفيه الواقدي.
4- حديث أنس ولفظه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما طلق حفصة أمر أن يراجعها» ، أخرجه ابن سعد 8/ 67 وإسناده على شرط الشيخين.
5- حديث ابن عباس عن عمر ولفظه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها» .
أخرجه ابن سعد 8/ 67 وأبو داود 2283 والنسائي 6/ 313 وإسناده حسن.
الخلاصة: كونه صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة صحيح، وأما نزول الآية في ذلك، فضعيف، وأما عجزه، فهو حسن صحيح. والله تعالى أعلم. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 2138 و «فتح القدير» للشوكاني 2532.
__________
(1) المائدة: 6.(4/295)
قَوَّامةٌ، وهي من إحدى زوجاتك في الجنة، قاله أنس بن مالك.
(1458) والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن عمر، وذلك أنه طلّق امرأته حائضا، فأمره النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، قاله السّدّيّ.
قوله عزّ وجلّ: لِعِدَّتِهِنَّ أي: لزمان عِدَّتهن، وهو الطهر. وهذا للمدخول بها، لأن غير المدخول بها لا عدَّة عليها. والطلاق على ضربين «1» : سُنِّيٌّ، وبِدْعيٌّ.
فالسُّنِّيُّ: أن يطلِّقها في طهر لم يجامعها فيه، فذلك هو الطلاق لِلْعِدَّة، لأنها تعتدُّ بذلك الطهر من عدّتها، وتقع في العدة عقيب الطلاق، فلا يطول عليها زمان العدة.
والطلاق البدعي: أن يقع في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، فهو واقع، وصاحبه آثم.
__________
لا أصل له، وحديث ابن عمر متفق عليه كما سيأتي، وليس فيه أن الآية نزلت فيه.
وحديث ابن عمر دون ذكر نزول الآية صحيح. أخرجه البخاري 4908 و 5251 و 5252 و 5333 و 7160 ومسلم 1471 وأبو داود 2179 و 2181 والترمذي 1176 والنسائي 6/ 212- 213 ومالك 2/ 576 والشافعي 2/ 32- 33 والطيالسي 1853 وابن أبي شيبة 5/ 2- 3 وأحمد 2/ 63 وابن حبان 4263 وابن الجارود 734 والدارقطني 4/ 7 والبغوي 2220 والبيهقي 7/ 424 من طرق من حديث ابن عمر.
وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 2139 بتخريجنا ولله الحمد والمنة.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 135: من طلق في طهر لم يجامع فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة، وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة، وقال سعيد بن المسيب في أخرى: لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة. وإليه ذهبت الشيعة وفي «الصحيحين» حديث ابن عمر المتقدم: وكان ابن عمر طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رواية عن ابن عمر أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال: «هي واحدة» . وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قال علماؤنا: طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهرا لم يمسها في ذلك الظهر، ولا تقدمه طلاق في حيض، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي:
طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثا لم يكن بدعة. وقال أبو حنيفة: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة، قال الشعبي: يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه. فعلماؤنا قالوا: يطلقها واحدة في طهر لم يمس فيه، ولا تبعه طلاق في عدة، ولا يكون الطهر تاليا لحيض وقع فيه الطلاق. للحديث المتقدم. وتمسك الإمام الشافعي بظاهر قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر لأن النبي صلّى الله عليه وسلم علّمه الوقت لا العدد. قال ابن العربي: «وهذه غفلة عن الحديث الصحيح» ، فإنه قال: «مره فليراجعها» وهذا يدفع الثلاث. وفي الحديث أنه قال: أرأيت لو طلقها ثلاثا؟ قال: حرمت عليك وبانت منك بمعصية. وقال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء. وهو مذهب الشافعي لولا قوله بعد ذلك: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية. وكذلك قال أكثر العلماء، وهو بديع لهم. وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا، ولكن الحديث فسرها كما قلنا. وأما قول الشعبي: إنه يجوز طلاق في طهر جامعها فيه، فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه. فلأنه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به مخافة شغل الرحم وبالحيض التالي له.
قلت: وقد احتج الشافعي في طلاق الثلاث بكلمة واحدة بما رواه الدارقطني أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، فلم يبلغنا أن أحدا من أصحابه عاب عليه ذلك. [.....](4/296)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
فإن جمع الطلاق الثلاث في طهر واحد، فالمنصوص من مذهبنا أنه بدعة.
قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي: زمان العدّة. وفي إحصائه فوائد. منها: مراعاة زمان الرجعة، وأوان النفقة، والسّكنى، وتوزيع الطّلاق على الإقراء إذا أراد أن يطلِّق ثلاثاً، ولِيَعْلَمَ أنها قد بانت، فيتزوّج بأختها، وأربع سواها.
قوله عزّ وجلّ: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أي: فلا تعصوه فيما أمركم به. لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فيه دليل على وجوب السكنى. ونسب البيوت إليهن، لسكناهن قبل الطلاق فيهن، ولا يجوز لها أن تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة. فإن خرجت أثِمتْ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ وفيها أربعة أقوال «1» :
أحدها: أنّ المعنى: إلا أن يخرجن قبل انقضاء المدة، فخروجهن هو الفاحشة المبّينة، وهذا قول عبد الله بن عمر، والسدي، وابن السائب. والثاني: أن الفاحشة: الزنا، رواه مجاهد، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، والضحاك. فعلى هذا يكون المعنى: إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ. والثالث: أنّ الفاحشة: أن تبدو على أهله، فيحلُّ لهم إخراجها، رواه محمد بن إبراهيم عن ابن عباس. والرابع: أنها إصابة حدٍّ، فتخرج لإقامة الحدّ عليها، قاله سعيد بن المسيّب.
قوله عزّ وجلّ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني: ما ذكر من الأحكام وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ التي بيَّنها، وأمر بها فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي: أثم فيما بينه وبين الله تعالى لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي: يُوقع في قلب الزوج المحبَّة لرجعتها بعد الطَّلْقة والطلقتين. وهذا يدل على أن المستحب في الطلاق تفريقه، وأن لا يجمع الثلاث.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 2 الى 3]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: قاربن انقضاء العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وهذا مبيَّن في البقرة «2» وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قال المفسرون: أشهدوا على الطلاق، أو المراجعة. واختلف العلماء: هل الإشهاد على المراجعة واجب، أم مستحب؟ وفيه عن أحمد روايتان، وعن الشافعي قولان، ثم قال للشهداء: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي: اشهدوا بالحق، وأدّوها على الصحة، طلبا لمرضاة الله تعالى، وقياماً بوصيَّته. وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 446: وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة فتخرج من المنزل، قال: الفاحشة المبينة، تشمل الزنا كما قاله ابن مسعود وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن، وابن سيرين ومجاهد وعكرمة، وغيرهم. قال:
وتشمل ما إذا نشزت المرأة، أو بذؤت على أهل الرجل، وآذتهم في الكلام والفعال، كما قاله أبيّ بن كعب وابن عباس وغيرهم.
(2) البقرة: 232.(4/297)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
(1459) فذكر أكثر المفسرين أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدوُّ ابناً له، فذكر ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلم، وشكا إليه الفاقة، فقال: اتق الله واصبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففعل الرجل ذلك، فغفل العدوُّ عن ابنه، فساق غنمهم، وجاء بها إلى المدينة، وهي أربعة آلاف شاة، فنزلت هذه الآية.
وفي معناها للمفسرين خمسة أقوال: أحدها: ومن يتق الله يُنجِه من كل كرب في الدنيا والآخرة، قاله ابن عباس. والثاني: أنّ مَخْرَجَه: علمُه بأن ما أصابه من عطَاءٍ أو مَنْع، من قِبَل الله، وهو معنى قول ابن مسعود. والثالث: ومن يتق الله، فيطلق للسُّنَّةِ، ويراجع للسُّنَّةِ، يَجْعَلْ له مخرجاً، قاله السدي.
والرابع: ومن يتَّق الله بالصبر عند المصيبة، يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، قاله ابن السائب.
والخامس: يجعل له مخرجاً من الحرام إلى الحلال، قاله الزجاج. والصحيح أن هذا عام، فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجاً من كل ما يضيق عليه. ومن لا يتقي، يقع في كل شدة. قال الربيع بن خُثَيْم:
يجعل له مخرجاً من كل ما يضيق على الناس وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أي: من حيث لا يأمل، ولا يرجو. قال الزجاج: ويجوز أن يكون: إذا اتقى الله في طلاقه، وجرى في ذلك على السُّنَّة، رزقه الله أهلا بدل أهله. قوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي: مَنْ وَثِقَ به فيما نابه، كفاه الله ما أهمّه إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ وروى حفص، والمفضل عن عاصم «بالغُ أمرِه» مضاف. والمعنى: يقضي ما يريد، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي: أجلاً ومنتهىً ينتهي إليه، قدَّر الله ذلك كلَّه، فلا يقدَّم ولا يؤخر.
قال مقاتل: قد جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء قدراً، فقدَّر متى يكون هذا الغني فقيراً، وهذا الفقير غنيا.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنها لمّا نزلت عدّة
__________
أخرجه الثعلبي كما في «تخريج الكشاف» 4/ 556 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي فذكره نحوه، ولم يسم الابن. قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 556: والكلبي متروك متهم، وهذا الإسناد واه بمرة، وأبو صالح ضعفه غير واحد. وله شاهد من حديث أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود عن أبيه نحوه، أخرجه البيهقي في «الدلائل» 6/ 106 وإسناده منقطع فإن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود. وكرره البيهقي 6/ 107 عن أبي عبيدة مرسلا، وسنده قوي. وله شاهد آخر من حديث جابر أخرجه الحاكم 2/ 492 وصححه! وتعقبه الذهبي بقوله: بل منكر، وعباد رافضي جبل، وعبيد متروك قاله الأزدي اه. وورد عن سالم بن أبي الجعد مرسلا أخرجه الطبري 34288. وكرره عن السدي مرسلا 34287.
الخلاصة: هو حديث حسن أو يقرب من الحسن وأحسن ما روي فيه حديث ابن مسعود، ليس له علة إلا الانقطاع، فهو ضعيف فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، وإذا انضم إليه مرسل سالم ومرسل السدي، صار حسنا كما هو مقرر في هذا النص لكن في المتن بعض الاضطراب، لذا قلت: حسن أو يشبه الحسن. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 2536 بتخريجنا.(4/298)
المطلَّقة، والمتوفَّى عنها زوجُها في البقرة «1» .
(1460) قال أُبَيُّ بن كعب: يا رسول الله: إن نساء من أهل المدينة يقلن: قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء. قال: «وما هو؟» قال: الصغار والكبار، وذوات الحمل، فنزلت هذه الآية، قاله عمرو بن سالم.
(1461) والثاني: لمّا نزل قوله عزّ وجلّ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الآية «2» قال خلاَّد بن النعمان الأنصاري: يا رسول الله، فما عِدَّة التي لا تحيض، وعدَّة التي لم تحض، وعدة الحُبلى؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية: إِنِ ارْتَبْتُمْ، أي: شككتم فلم تَدْرُوا ما عِدتَّهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ كذلك.
فصل «3» :
قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالارتياب هاهنا: ارتياب المخاطبين في مقدار عدّة
__________
أخرجه الحاكم 2/ 492 و 493 والواحدي في «أسبابه» 830 والبيهقي 7/ 414 من حديث أبيّ بن كعب، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، مع أن إسناده منقطع عمرو بن سالم لم يسمع أبيّ بن كعب كما في «تهذيب التهذيب» لابن حجر، وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6024 بتخريجنا، وانظر «الدر» 6/ 357.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم، فالخبر لا شيء.
__________
(1) البقرة: 227- 232.
(2) البقرة: 228.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 134: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال عني بذلك: إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهن. فإن حكم عددهن إذا طلقن، وهن ممن دخل بهن أزواجهن، فعدتهن ثلاثة أشهر، وكذلك عدد اللائي لم يحضن من الجواري الصغار إذا طلقهن أزواجهن بعد الدخول.
وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 146: المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة، فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج. هذا قول الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد تسعة أشهر، أربعة أشهر وعشرا. فإن كانت المرأة شابة، استؤني بها هل هي حامل أم لا، فإن استبان حملها فإن أجلها وصفه. وإن لم يستبن فقال مالك: عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر قال الثعلبي: وهذا الأصح في مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه وأما من تأخر حيضها لمرض، فقال مالك وابن القاسم وعبد الله بن أصبغ: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة. ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة، على ما ذكرناه، فتحل ما لم ترتب بحمل، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، وقال أشهب: لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة، قال ابن العربي: وهو الصحيح. وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتد سنة وهو قول الليث، وهو مشهور قول علمائنا. سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وميزت ذلك أو لم تميزه. عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة. وقال الشافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. قال ابن العربي: وهو الصحيح عندي. وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها اعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر، وأثبت في القياس والأثر.(4/299)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
الآيسة والصغيرة كم هو؟ وليس المراد به ارتياب المعتدات في اليأس من المحيض، أو اليأس من الحمل للسبب الذي ذكر في نزول الآية. ولأنه لو أريد بذلك النساء لتوجَّه الخطاب إليهن، فقيل: إن ارتبتنُّ، أو ارتبْنَ، لأن الحيض إنما يعلم من جهتهنَّ.
وقد اختلف في المرأة إذا تأخر حيضها لا لعارض كم تجلس؟ فمذهب أصحابنا أنها تجلس غالب مدة الحمل، وهو تسعة أشهر، ثم ثلاثة. والعدة: هي الثلاثة التي بعد التسعة. فإن حاضت قبل السنة بيوم، استأنفت ثلاث حيض، وإن تَمَّتْ السَّنَةُ من غير حيض، حَلَّت، وبه قال مالك. أبو حنيفة، والشافعي في الجديد: تمكث أبداً حتى يعلم براءة رحمها قطعا، وهو أن تصير في حدّ لا يحيض مثلها، فتعتدّ بعد ذلك ثلاثة أشهر.
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني: عدتهن ثلاثة أشهر أيضاً، لأنه كلام لا يستقلُّ بنفسه، فلا بدَّ له من ضمير، وضميره تقدَّم ذكره مظهراً، وهو العدَّة بالشهور. وهذا على قول أصحابنا محمول على من لم يأت عليها زمان الحيض: أنها تعتد ثلاثة أشهر. فأما من أتى عليها زمان الحيض، ولم تحض، فإنها تعتدّ سنة.
قوله عزّ وجلّ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ عامٌّ في المطلقات، والمتوفَّى عنهن أزواجهن، وهذا قول عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وفقهاء الأمصار. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: تعتدُّ آخر الأجلين. ويدل على قولنا عموم الآية. وقول ابن مسعود: من شاء لاعنته، ما نزلت وَأُولاتُ الْأَحْمالِ إِلا بعد آية المتوفَّى عنها زوجها، وقولِ أم سلمة:
(1462) إن سُبَيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تتزوّج.
قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ: فيما أُمِرَ به يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً يُسَهِّلْ عليه أمر الدنيا والآخرة، وهذا قول الأكثرين. وقال الضحاك: ومن يتق الله في طلاق السّنّة، يجعل له من أمره يسراً في الرَّجعة ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بطاعته يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي: يمح عنه خطاياه وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً في الآخرة.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
__________
صحيح. أخرجه البخاري 5319 و 5320 ومسلم 1484 وأبو داود 2306 والنسائي 6/ 194 و 196 وابن ماجة 2028 ومالك 2/ 590 وأحمد 6/ 432 وابن حبان 4294 وعبد الرزاق 11722 والطبراني 24/ 745- 750 والبيهقي 7/ 428- 429 من طرق عن الزهري به بألفاظ متقاربة.(4/300)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ و «من» صلة، قوله: مِنْ وُجْدِكُمْ قرأ الجمهور بضم الواو. وقرأ أبو هريرة، وأبو عبد الرحمن، وأبو رزين، وقتادة، ورَوْح عن يعقوب بكسر الواو. وقال ابن قتيبة: أي:
بقدر وسعكم. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة: بفتح الواو. والوُجد: المقدرة، والغنى يقال: افتقر فلان بعد وُجْدٍ. قال الفراء: يقول: على ما يجد، فإن كان مُوَسَّعاً عليه، وسَّعَ عليها في المسكن والنَّفَقة، وإن كان مقتَّراً عليه، فعلى قدر ذلك.
قوله عزّ وجلّ: وَلا تُضآرُّوهُنَّ بالتضييق عليهنّ في المسكن، والنفقة، وأنتم تجدون سَعَة. قال القاضي أبو يعلى: والمراد بهذا: المطلقة الرجعية دون المبتوتة، بدليل قوله عزّ وجلّ: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً «1» وقولِه: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ «2» فدل ذلك على أنه أراد الرجعية.
وقد اختلف الفقهاء في المبتوتة «3» : هل لها سكنى، ونفقة في مدة العدة، أم لا؟ فالمشهور عند أصحابنا: أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة: لها السكنى، والنفقة.
وقال مالك والشافعي: لها السكنى، دون النفقة. وقد رواه الكوسج عن الإمام أحمد رضي الله عنه ويدل على الأول.
(1463) حديث فاطمة بنت قيس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال لها: إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1480 ح 36 وأبو داود 2284 والنسائي 6/ 75- 76 وأحمد 6/ 412 والشافعي 2/ 18- 19 و 54 وابن حبان 4290 وابن الجارود 760 والطبراني 24/ (913) والبيهقي 7/ 135 و 177 و 181 و 471 من طرق عن مالك به. وأخرجه مسلم 1480 ح 38 وأبو داود 2285 و 2286 و 2287 والنسائي 6/ 145 والطبراني 24/ (920) وابن حبان 4253 والبيهقي 7/ 178 من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به. وأخرجه مسلم 1480 ح 48 والنسائي 6/ 150 والترمذي 1135 وابن ماجة 2035 وأحمد
__________
(1) الطلاق: 1.
(2) الطلاق: 2.
(3) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 148- 149: قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل، لقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ فلو كان معها ما قال أسكنوهن. وقال ابن نافع: قال مالك في قول الله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ يعني المطلقات اللاتي بك من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا. فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها. وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عهدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، حوامل كن أو غير حوامل إنما أمر الله بالسكنى للائي بن من أزواجهن مع نفقتهن، قال تعالى:
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فجعل الله عز وجل للحوامل اللائي قد بنّ من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة. فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة وهذا مأخذها من القرآن.(4/301)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
عليها الرجعة، فإذا لم يكن له عليها الرّجعة، فلا نفقة ولا سكنى. ومن حيث المعنى: إِن النفقة إنما تجب لأجل التمكين من الاستمتاع، بدليل أن الناشز لا نفقة لها.
واختلفوا في الحامل، والمتوفَّى عنها زوجها، فقال ابن مسعود، وابن عمر، وأبو العالية، والشعبي، وشريح، وإبراهيم: نفقتها من جميع المال، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، والثوري. وقال ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء: نفقتها في مال نفسها، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه. وعن أحمد كالقولين.
قوله عزّ وجلّ: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني: أجرة الرضاع. وفي هذا دلالة على أن الأم إذا رضيت أن ترضعه بأجرة مثله، لم يكن للأب أن يسترضع غيرها وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ، أي: لا تشتطُّ المرأة على الزوج فيما تطلبه من أجرة الرضاع، ولا يقصِّر الزَّوج عن المقدار المستحق وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ في الأجرة، ولم يتراضَ الوالدان على شيء فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى لفظه لفظ الخبر، ومعناه:
الأمر: أي: فليسترضع الوالد غير والدة الصبي. لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أمر أهل التَّوسِعَة أن يوسِّعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سَعَتِهم. وقرأ ابن السميفع «لينفق» بفتح القاف. وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي: ضُيِّق عليه من المطلّقين. وقرأ أبي بن كعب، وحميد «قدر عليه» بضم القاف، وتشديد الدال. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة «قَدّر» بفتح القاف وتشديد الدال «رزقَه» بنصب القاف. فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ على قدر ما أعطاه من المال لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي: على قدر ما أعطاها من المال سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي: بعد ضيق وشدة، غنىً وسَعَةً، وكان الغالب عليهم حينئذ الفقر، فأعلمهم أنه سيفتح عليهم بعد ذلك.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 11]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
قوله عزّ وجلّ: وَكَأَيِّنْ أي: وكم مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ، أي: عن أمر رسله.
والمعنى: عتا أهلها. قال ابن زيد: عتت، أي: كفرت، وتركت أمر ربها، فلم تقبله.
وفي باقي الآية قولان: أحدهما: أن فيها تقديماً، وتأخيراً. والمعنى: عذَّبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع، والسيف، والبلايا، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة، قاله ابن عباس، والفراء في آخرين. والثاني: أنها على نظمها، والمعنى: حاسبناها بعملها في الدنيا، فجازيناها بالعذاب على مقدار عملها، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَعَذَّبْناها فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة. والحساب الشديد: هو
__________
6/ 411 وابن حبان 4254 والطبراني 24/ (929) والبيهقي 7/ 136 و 473 من طرق عن سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم عن فاطمة بنت قيس به مطوّلا ومختصرا. وأخرجه مالك في «الموطأ» 2/ 580 والبغوي في «شرح السنة» 2378 عن عبد الله بن يزيد به.(4/302)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
الذي لا عفو فيه، والنكر: المنكر فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أي: جزاء ذنبها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً في الدنيا، والآخرة، وقال ابن قتيبة: الخسر: الهلكة.
قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً أي: قرآنا رَسُولًا أي: وبعث رسولاً، قاله مقاتل.
وإِلى نحوه ذهب السدي. وقال ابن السائب: الرسول هاهنا: جبرائيل، فعلى هذا: يكون الذِّكر والرسول جميعاً منزَّلين. وقال ثعلب: الرسول: هو الذِّكر. وقال غيره: معنى الذكر هاهنا: الشرف.
وما بعده قد تقدَّم «1» إلى قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها.
[سورة الطلاق (65) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
قوله: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي: وخلق الأرض بعددهنّ. وجاء في الحديث: أنّ كثافة كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عام، وما بينها وبين الأخرى كذلك، وكثافة كل أرض خمسمائة عام، وما بينها وبين الأرض الأخرى كذلك.
(1464) وقد روى أبو الضحى عن ابن عباس قال: في كل أرض آدم مثل آدمكم، ونوح مثل نوحكم، وإبراهيم مثل إبراهيمكم، وعيسى كعيسى، فهذا الحديث تارة يرفع إلى ابن عباس، وتارة يوقف على أبي الضحى، وليس له معنى إلا ما حكى أبو سليمان الدمشقي، قال: سمعت أن معناه: إن في كل أرض خلقاً من خلق الله لهم سادة، يقوم كبيرهم ومتقدِّمهم في الخلق مقام آدم فينا، وتقوم ذُرِّيَّتُه في السِّنِّ والقِدَم كمقام نوح. وعلى هذا المثال سائرهم. وقال كعب: ساكن الأرض الثانية: الريح العقيم، وفي الثالثة: حجارة جهنم، والرابعة: كبريت جهنم، والخامسة: حيات جهنم، والسادسة:
عقارب جهنم، والسابعة: فيها إبليس «2» .
قوله عزّ وجلّ: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ، في الأمر قولان: أحدهما: أنه قضاء الله وقدره، قاله الأكثرون. قال قتادة: في كل أرضٍ من أرضهِ وسماءٍ من سمائه خَلْقٌ من خَلْقِهِ، وأمْرٌ من أمْرِهِ، وقَضَاءٌ من قَضَائِهِ. والثاني: أنه الوحي، قاله مقاتل.
قوله عزّ وجلّ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً المعنى أعلمكم هذا لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء.
__________
هذا الأثر من الإسرائيليات، وهو باطل لا أصل له. فلا يوجد في باطن الأرض كنبينا ولا غيره، بل وليس في باطن الأرض بشرا، وليست صالحة للحياة أصلا. والإسناد إلى أبي الضحى صحيح كما في «تفسير الطبري» 34371 وأبو الضحى ثقة، وعلى هذا يكون ابن عباس تلقاه عن أهل الكتاب، فقد ثبت أنه روى عن كعب الأحبار وغيره. لا فائدة من هذه الأقوال لأنها إسرائيلية.
__________
(1) البقرة: 257، والأحزاب: 43، والتغابن: 9.
(2) هذا كسابقه من الإسرائيليات التي نقلها كعب وغيره عن كتب الأقدمين. والله أعلم.(4/303)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
سورة التّحريم
وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
قوله عزّ وجلّ: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ في سبب نزولها قولان:
(1465) أحدهما: أن حفصة ذهبتْ إلى أبيها تتحدّث عنده، فأرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى جاريته، فظلّت
__________
ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة منها:
حديث ابن عباس: أخرجه الطبري 34392 وإسناده واه لأجل عطية العوفي. وورد من وجه آخر بنحوه، أخرجه الطبري 34397، ورجاله ثقات، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق. وورد من وجه آخر، أخرجه الهيثم بن كليب في «مسنده» كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 456 وقال ابن كثير: إسناده صحيح.
2- مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 34389.
3- مرسل عبد الرحمن بن زيد، أخرجه الطبري 34388.
4- مرسل الشعبي، أخرجه الطبري 34390.
5- مرسل أبي عثمان، أخرجه الطبري 34394.
6- مرسل قتادة والحسن، أخرجه الطبري 34395.
7- مرسل زيد بن أسلم، أخرجه الطبري 34382.
8- مرسل مسروق، أخرجه الطبري 34383.
9- حديث أنس، وهو مختصر، أخرجه النسائي في «التفسير» 627 والحاكم 2/ 493 وإسناده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وله شواهد أخرى، انظر «الكشاف» 1207 بتخريجي.
الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وانظر «أحكام القرآن» 2156 بتخريجنا.(4/304)
معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة، فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غَيْرةً شديدةً. فلما دخلت حفصة قالت: قد رأيت من كان عندك. والله لقد سُؤْتَني، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «والله لأُرْضِيَنَّك، وَإني مُسِرٌّ إليك سراً فاحفظيه» ، قالت: وما هو؟ قال: «إِني أشهدكِ أن سِرِّيَّتي هذه عليَّ حرام رضىً لَكِ» ، وكانت عائشة وحفصة متظاهرتين على نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فانطلقت حفصة إلى عائشة، فقالت لها: أبشري، إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قد حرَّم عليه فتاته. فنزلت هذه الآية رواه العوفي عن ابن عباس.
(1466) وقد روي عن عمر نحو هذا المعنى، وقال فيه: فقالت حفصة: كيف تحرّمها، عليك،؟! فحلف لها أن لا يقربها، فقال لها: «لا تذكريه لأحد» فذكرته لعائشة، فآلى أن لا يدخل على نسائه شهراً، فنزلت هذه الآية.
(1467) وقال الضحاك: قال لها: «لا تذكري لعائشة ما رأيت» فذكرته، فغضبت عائشة، ولم تزل بنبي الله حتى حلف أن لا يقربها، فنزلت هذه الآية، وإلى هذا المعنى: ذهب سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والشعبي، ومسروق، ومقاتل، والأكثرون.
(1468) والثاني: ما روى عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب الحَلْواء والعسل، وكان إِذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه، فدخل على حَفصَة بنت عمر، واحتبس عندها، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عُكَّةً من عسل «1» ، فسقت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: أما والله لنحتالَنَّ له، فقلت لسودة: إنه سيدنو منكِ إذا دخل عليك، فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ «2» وسأقول ذلك وقولي أنت يا صفيّة ذلك، فلمّا دنا من سودة قالت له ذلك ولمّا دخل عليّ قلت له مثل ذلك فلما دار إلى صفيّة قالت له مثل ذلك فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي فيه. قالت: تقول سودة: سبحان الله، والله لقد حَرَمْنَاه. قلت لها: اسكتي. أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» .
(1469) وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس: أن التي شرب عندها العسل سودة، فقالت له
__________
أخرجه الطبري 34397 بهذا اللفظ عن ابن عباس عن عمر. وفيه محمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن، وهو في الصحيح بغير هذا السياق، انظر «صحيح البخاري» 4913، 4914، 4915 ومسلم 1479 عن ابن عباس عن عمر مطولا. وانظر «فتح القدير» 2548 بتخريجنا.
انظر الحديث المتقدم 1465.
صحيح. أخرجه البخاري 6972 عن عبيد بن إسماعيل بن عن عائشة. وأخرجه مسلم 1474 ح 21 وأبو داود 3715 وأبو يعلى 4896 من طرق عن أبي أسامة به. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 832 من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة به.
أخرجه الطبراني 1226 من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في «المجمع» 11426: رجاله رجال
__________
(1) العكة: آنية السمن، أو القربة الصغيرة.
(2) جرست: أكلت، والعرفط: شجر ينضح الصمغ المعروف بالمنافير.(4/305)
عائشة: إِني لأجد منك ريحاً، ثم دخل على حفصة، فقالت: إني أجد منك ريحاً، فقال: إني أراه من شراب شربته عند سودة، والله لا أشربه، فنزلت هذه الآية.
(1470) وفي حديث عبيد بن عمير عن عائشة أن التي شرب عندها العسل زينب بنت جحش، فتواطأت حفصة وعائشة أن تقولا له ذلك القول. قال أبو عبيدة: المغافير: شيء شبيه بالصمغ فيه حلاوة. وخرج الناس يتمغفرون: إذا خرجوا يجتنونه. ويقال: المغاثير بالثاء، مثل جدث، وجدف.
وقال الزجاج: المغافير: صمغ متغير الرائحة. فخرج في المراد بالذي أحلَّ الله له قولان «1» : أحدهما:
أنه جاريته. والثاني: العسل.
قوله عزّ وجلّ: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ أي: تطلب رضاهن بتحريم ذلك. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
__________
الصحيح، وصححه السيوطي في «الدر» 6/ 266. وفي ذلك نظر فهو معارض بحديث عائشة المتقدم، وأنه عليه الصلاة والسلام شرب ذلك عند زينب. وانظر «تفسير الشوكاني» 2545 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 5267 والبغوي في «شرح السنة» عن الحسن بن محمد به. وأخرجه البخاري 6691 ومسلم 1474 وأبو داود 3714 والنسائي 6/ 151 و 7/ 13 و 71 وأحمد 6/ 221 من طرق عن الحجاج به وأخرجه البخاري 4912 من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج به.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 150: والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرّمه النبي صلّى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحلّه له، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله، وبين له تحلة يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه. وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 159: أصح الأقوال- ما ثبت في الصحيحين فيما ورد عن العسل- وأما من روى أنه حرّم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدوّن في الصحيح، وروي مرسلا. وقوله تعالى: لِمَ تُحَرِّمُ إن كان النبي صلّى الله عليه وسلم حرّم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرّم قول الرجل: «هذا عليّ حرام» شيئا حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس، وكانت يمينا توجب الكفارة. وقال زفر: هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعوّل المخالف على أن النبي صلّى الله عليه وسلم حرّم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ فسماه يمينا ودليلنا قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [المائدة: 87] وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ
[يونس: 59] فذم الله المحرّم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج: ليس لأحد أن يحرّم ما أحل الله ولم يجعل لنبيه صلّى الله عليه وسلم أن يحرّم إلا ما حرّم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته: أنت عليّ حرام، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرّم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة. وجاء في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 163: قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم استباحة المحلوف عليه، ويتحصل من هذا أن من حرّم شيئا من المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا، لأن الكفارة لليمين لا للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه. فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله، أو أمه فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فبائن. وإن قال نويت الكذب، دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده. فإن حلف ألا يأكله حنث ويبر بالكفارة.(4/306)
غفر الله لك التحريم قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ قال مقاتل: قد بيّن لكم تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي: كفارة أيمانكم، وذلك البيان في المائدة «1» قال المفسرون: وأصل «تَحِلَّة» تَحْلِلَه على وزن تَفْعِلَة، فأدغمت، والمعنى:
قد بين الله لكم تحليل أيمانكم بالكفَّارة، فأمره الله أن يكفِّر يمينه، فأعتق رقبة. واختلفوا هل حرّم مارية على نفسه بيمين، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه حرَّمها من غير ذكر يمين، فكان التحريم موجباً لكفارة اليمين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه حلف يميناً حرَّمها بها، قاله الحسن. والشعبي، وقتادة، وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أي: وليُّكم وناصركم.
قوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني: حفصة من غير خلاف علمناه.
وفي هذا السِّرِّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قال لها: إني مُسِرٌّ إِليك سِرَّاً فاحفظيه، سرّيتي هذه عليَّ حرام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابنه، والسدي «2» .
(1471) والثاني: أنه قال لها: أبوك، وأبو عائشة، والِيا الناس من بعدي، فإياك أن تخبري أحدا، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: أنه أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي، قاله ميمون بن مهران «3» .
قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي: أخبرت به عائشة وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي: أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم غضباً شديداً، لأنه استكتم حفصة ذلك، ثم دعاها، فأخبرها ببعض ما قالت، فذلك قوله عزّ وجلّ: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ وفي الذي عرَّفها إياه قولان:
(1472) أحدهما: أنه حدَّثها ما حدثتها عائشة من شأن أبي بكر وعمر، وسكت عمّا أخبرت
__________
باطل لا أصل له، أخرجه ابن عدي 3/ 436 عن سيف بن عمر عن عطية بن الحارث عن أبي أيوب عن علي. وعن الضحاك عن ابن عباس. وعن عمرو بن محمد عن الشعبي وسعيد بن جبير عن ابن عباس به.
وإسناده ضعيف جدا. مداره على سيف بن عمر وهو متروك متهم، وبه أعله ابن عدي. ثم إن المتن موضوع.
فلو كان هذا الحديث عند علي لما تأخر ستة أشهر عن بيعة الصديق. وكذا تأخر بنو هاشم، ومنهم ابن عباس عن البيعة، فهذا خبر باطل والنبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يصرح باسم الخليفة من بعده، باتفاق العلماء، وإنما هناك إشارات إلى إمارة أبي بكر، منها أمره صلّى الله عليه وسلم بأن يؤم الناس، وذلك في مرضه الأخير.
وورد من وجه آخر أخرجه الدارقطني في «سننه» 4/ 153 و 154 وفيه الكلبي، وهو محمد بن السائب، متهم بالكذب، وشيخه أبو صالح أقرّ بأنه حدث عن ابن عباس بأشياء كذب. راجع الميزان للذهبي. ثم إن المتن منكر كما تقدم. وورد من وجه آخر أخرجه الطبراني في «الكبير» 12640 من حديث ابن عباس وله ثلاث علل: 1- إسماعيل بن عمرو البجلي، وهو ضعيف. 2- وفيه أيضا أبو سنان سعيد بن سنان فيه ضعف. 3-
الضحاك لم يلق ابن عباس. انظر «تفسير ابن كثير» 4/ 460 بتخريجي عند هذه الآية. وانظر أيضا «تفسير الشوكاني» 2551 بتخريجي ولله الحمد والمنة.
لا أصل له، وهو بعض المتقدم.
__________
(1) المائدة: 89. [.....]
(2) انظر الحديث المتقدم 1465.
(3) انظر الحديث المتقدم 1471.(4/307)
عائشة من تحريم مارية، لأنه لم يبال ما أظهرت من ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(1473) والثاني: أن الذي عرَّف: تحريم مارّية، والذي أعرض عنه: ذِكر الخلافة لئلا ينتشر، قاله الضحاك، وهذا اختيار الزجاج: قال: ومعنى عَرَّفَ بَعْضَهُ عرَّف حفصة بعضه وقرأ الكسائي «عَرَفَ» بالتخفيف. قال الزجاج: على هذه القراءة قد عرف كل ما أسرَّه، غير أن المعنى جارٍ على بعضه، كقوله عزّ وجلّ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ «1» ، أي: يعلمه ويجازي عليه، وكذلك:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «2» أي: ير جزاءه. فقيل: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فكان ذلك جزاءها عنده، فأمره الله أن يراجعها.
(1474) وقال مقاتل بن حيَّان: لم يطلقها، وإنما همَّ بطلاقها، فقال له جبريل: لا تطلّقها، فإنها
__________
عزاه المصنف للضحاك، وقد ساقه بمعناه. وصدره ورد عن الضحاك، أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» 6/ 370، وهو مرسل، لكن له شواهد.
وعجزه، أخرجه أبو نعيم في «فضائل الصحابة» كما في «الدر» 6/ 370 عن الضحاك، وهو مرسل، فهو ضعيف، والمتن باطل.
أصل الحديث صحيح، لكن قول مقاتل «لم يطلقها» باطل، لم يتابع عليه. ذكره المنصف هاهنا عن مقاتل بن حيان معلقا، وسنده إليه في أول الكتاب، وهذا واه بمرة، ليس بشيء، وقد خولف مقاتل.
وأخرج الحاكم 4/ 15 وابن سعد في «الطبقات» 8/ 84 والدارمي 2265 والطحاوي في «المشكل» 4615 من حديث أنس. وأن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فأتاه جبريل فقال: «يا محمد طلقت حفصة تطليقة، وهي صوامة قوامة وهي زوجتك في الدنيا وفي الجنة» . وأخرج الطحاوي 1614 من طريق موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، فأتاه جبريل فقال: راجعها فإنها صوّامة قوّامة» . وأخرج الطبراني 17/ (804) نحوه من حديث عقبة بلفظ «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فوضع التراب على رأسه، وقال: ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعدها، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر» .
قال الهيثمي في «المجمع» 4/ 334: وفيه عمرو بن صالح الحضرمي، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
أخرج الحاكم 4/ 15 (6753 وابن سعد 8/ 67 والطبراني 18/ (934) عن قيس بن زيد «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون فبكت وقالت: والله ما طلقني عن شبع، وجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: قال لي جبريل عليه السلام: راجع حفصة، فإنها صوّامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة» .
وسكت عليه الحاكم، وكذا الذهبي، وكذا الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 563 ورجاله ثقات غير قيس بن زيد فهو تابعي صغير مجهول. وأن عثمان بن مطعون توفي قبل أحد، وقبل أن يتزوج النبي صلّى الله عليه وسلم حفصة.
وأخرج أبو داود 2283 والنسائي 6/ 213 وابن ماجة 2016 والدارمي 2264 وأبو يعلى 174 والحاكم 2/ 197 وابن حبان 4275 والطحاوي في «المشكل» 4611 والبيهقي 7/ 321- 322 من طرق عن يحيى بن زكريا عن ابن أبي داود عن صالح بن صالح عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها» .
الخلاصة: قول مقاتل «لم يطلقها» باطل، ليس بشيء، والصحيح أنه طلقها كما في الروايات المذكورة، وهو خبر حسن صحيح بطرقه وشواهده لكن بالألفاظ التي أوردتها، وانظر «أحكام القرآن» 2138 بتخريجي.
أخرجه ابن سعد 8/ 149- 150 عن ابن عباس بنحوه، وفيه الواقدي، وهو متروك. وأخرج الدارقطني 4/
__________
(1) البقرة: 179.
(2) الزلزلة: 7.(4/308)
صوَّامة قوَّامة. وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، ثم قرأ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن السميفع «عُرَّاف» برفع العين، وتشديد الراء وبألف، «بعضه» بالخفض.
قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي: أخبر حفصة بإفشائها السرَّ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي: من أخبرك بأني أفشيت سرك؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ثم خاطب عائشة وحفصة، فقال: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ أي: من التعاون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالإيذاء فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما قال ابن عباس: زاغت، وأثمت. قال الزجاج: عدلت، وزاغت عن الحقّ. قال مجاهد: كنّا نرى قوله عزّ وجلّ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما شيئاً هيِّناً حتى وجدناه في قراءة ابن مسعود: فقد زاغت قلوبكما. وإنما جعل القلبين جماعة لأن كل اثنين فما فوقهما جماعة. وقد أشرنا إِلى هذا في قوله عزّ وجلّ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «1» وقوله تعالى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ «2» . قال المفسرون: وذلك أنهما أحبَّا ما كَرِهَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته، وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن ومجاهد، والأعمش «تظاهرا» بتخفيف الظاء، أي: تعاونا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالإيذاء فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي: وَليُّه في العون، والنصرة وَجِبْرِيلُ وليُّه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وفي المراد بصالح المؤمنين ستة أقوال: أحدها: أنهم أبو بكر وعمر، قاله ابن مسعود، وعكرمة، والضحاك. والثاني: أبو بكر، رواه مكحول عن أبي أمامة. والثالث: عمر بن الخطّاب قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. والرابع: خيار المؤمنين، قاله الربيع بن أنس. والخامس: أنهم الأنبياء، قاله قتادة، والعلاء بن زياد العدوي، وسفيان. والسادس: أنه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حكاه الماوردي، قاله الفراء: «وصالح المؤمنين» موحّد في مذهب جميع، كما تقول: لا يأتيني إلا سائس الحرب، فمن كان ذا سياسة للحرب، فقد أمر بالمجيء، ومثله قوله عزّ وجلّ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ «3» ، قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ «4» ، وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً «5» في كثير من القرآن يؤدي معنى الواحد عن الجميع.
قوله عزّ وجلّ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ أي: ظهراً، وهذا مما لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجمع، ومثله ثم يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «6» ، وقد شرحناه هناك. ثم خوَّف نساءه، فقال عزّ وجلّ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ.
__________
153 والطبراني في «الكبير» . 1264 من حديث ابن عباس في قوله عز وجل: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال: اطلعت حفصة على النبي صلّى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم عليه السلام فقال: «لا تخبري عائشة» ، وقال لها: «إن أباك وأباها سيملكان، أو سيليان بعدي، فلا تخبري عائشة» فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة ... »
الحديث. وفي إسناده الكلبي، وهو كذاب. وورد من حديث علي، أخرجه ابن عدي 3/ 436، وكرره عن ابن عباس ومدارهما على سيف بن عمر، وهو متروك متهم، وبه أعله ابن عدي. والصواب أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يخبر على من سيخلفه، وإنما هناك أمارات على أنه أبو بكر، والله أعلم.
الخلاصة: هذا خبر باطل لا أصل له، والصحيح في ذلك ما رواه الشيخان من وجوه في شربه عليه السلام العسل عند زينب، وكذا يليه في الصحة خبر مارية المتقدم برقم 2238.
وانظر «فتح القدير» 2551 و «الجامع لأحكام القرآن» 6036 بتخريجي والله الموفق.
__________
(1) النساء: 11.
(2) ص: 11.
(3) المائدة: 38.
(4) النساء: 16.
(5) المعارج: 19.
(6) غافر: 67.(4/309)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
(1475) وسبب نزولها ما روى أنس عن عمر بن الخطاب قال: بلغني بعض ما آذى به رسولَ الله نساؤه، فدخلتُ عليهنَّ، فجعلت أَستقرئهن، واحدةً واحدةً، فقلت: والله لتنتهِنَّ، أو ليبدلنَّه الله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية. والمعنى: واجبٌ من الله إِنْ طَلَّقَكُنَّ رسوله أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ أي: خاضعات لله بالطاعة مُؤْمِناتٍ مصدِّقات بتوحيد الله قانِتاتٍ أي: طائعات سائِحاتٍ فيه قولان: أحدهما: صائمات، قاله ابن عباس، والجمهور. وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله عزّ وجلّ: السَّائِحُونَ «1» . والثاني: مهاجرات، قاله زيد بن أسل وابنه. «والثيّبات» جمع ثَيِّب، وهي المرأة التي قد تزوَّجت، ثم ثابت إلى بيت أبويها، فعادت كما كانت غير ذات زوج. «والأبكار» :
العذارى.
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
قوله عزّ وجلّ: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وقاية النفس: بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، ووقاية الأهل: بأن يُؤْمَروا بالطاعة، وينهوا عن المعصية. وقال عليّ رضي الله عنه: علّموهم وأدّبوهم، قوله: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ قد ذكرناه في البقرة «2» قوله عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ وهم خزنتها غِلاظٌ على أهل النار شِدادٌ عليهم. وقيل: غلاظ القلوب شِدَاد الأبدان.
(1476) وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: خَزَنَةُ النَّار تسعةَ عشر، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، وقُوَّته أن يضرب بالمقمعة، فيدفع بتلك الضربة سبعين ألفاً، فيهوُون في قعر جهنَّم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ أي: لا يخالفونه فيما يأمر وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فيه قولان: أحدهما: لا يتجاوزون ما يؤمرون. والثاني: يفعلونه في وقته لا يؤخِّرونه، ولا يقدِّمونه. ويقال لأهل النار: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ.
قوله عزّ وجلّ: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قرأ أبو بكر عن عاصم، وخارجة عن نافع «نَصُوحاً» بضم النون. والباقون بفتحها. قال الزجاج: فمن فتح فعلى صفة التوبة، ومعناه: توبةً بالغةً في النّصح،
__________
صحيح. أخرجه الطبري 34426 من حديث أنس عن عمر، وإسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
وكرره الطبري 34427 وإسناده صحيح.
باطل، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح واه، وراويته هو الكلبي، وقد أقر أنه روى عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا ليس له أصل عن ابن عباس.
__________
(1) التوبة: 112.
(2) البقرة: 23.(4/310)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
و «فَعُول» من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف. تقول: رجل صبور، وشكور. ومن قرأ بالضم، فمعناه: ينصحون فيها نصوحاً، يقال: نصحت له نصحاً، ونصاحة، ونصوحاً. وقال غيره:
من ضم أراد: توبة نُصْحٍ لأنفسكم. وقال عمر بن الخطاب: التوبة النصوح: أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدِّث نفسه أنَّه لا يعود. وسئل الحسن البصري عن التوبة النصوح، فقال: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود. وقال ابن مسعود: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، ثم قرأ هذه الآية.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ قد بيَّنا معنى «الخزي» في آل عمران «1» وبيَّنا معنى قوله عزّ وجلّ: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ في الحديد «2» يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يُطفأ سألوا الله تعالى أن يتمم لهم نورهم، ويبلِّغهم به الجنة. قال ابن عباس: ليس أحد من المسلمين إِلا يعطى نوراً يوم القيامة. فأما المنافق فيُطفَأ نورُه، والمؤمن مُشْفِق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهم يقولون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا.
[سورة التحريم (66) : الآيات 9 الى 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
قوله عزّ وجلّ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ قد شرحناه في براءة «3» .
قوله عزّ وجلّ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ قال المفسرون منهم مقاتل: هذا المثل يتضمّن تخويف عائشة وحفصة أنهما إن أغضبتا ربّهما لم يغن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهما شيئاً. قال مقاتل:
اسم امرأة نوح «والهة» وامرأة لوط «واهلة» .
قوله عزّ وجلّ: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ: نوحاً ولوطاً عليهما السلام فَخانَتاهُما.
(14777) قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدِّين، كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف، فإذا نزل بلوط ضيفٌ بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت لتعلم قومه أنه قد نزل به ضيف. وقال السّدّيّ: كانت خيانتهما: كفرهما.
__________
أخرجه الحاكم 2/ 496 والطبري 34461 و 34462 و 34464 من طرق عن ابن عباس، وهو صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
__________
(1) آل عمران: 192.
(2) الحديد: 12. [.....]
(3) التوبة: 73.(4/311)
وقال الضحاك: نميمتهما، وقال ابن السائب: نفاقهما.
قوله عزّ وجلّ: فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أي: يدفعا عنهما من عذاب الله شيئاً. وهذه الآية تقطع طمع مَن ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره. ثم أخبر أن معصية الغير لا تضرّ المطيع بقوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ وهي آسية بنت مزاحم. وقال يحيى بن سلام:
ضرب الله المثل الأول يحذّر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما. ثم ضرب لهما هذا المثل يرغبهما في التمسك بالطاعة. وكانت آسية قد آمنت بموسى. قال أبو هريرة: ضرب فرعون لامرأته أوتاداً في يديها ورجليها، وكانوا إذا تفرَّقوا عنها أظلتها الملائكة، فقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها، قوله: وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ فيه قولان: أحدهما:
أن عمله: جِمَاعُهُ. والثاني: أنه دينه رويا عن ابن عباس، قوله: وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني أهل دينه المشركين.
قوله عزّ وجلّ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها قد ذكرنا فيه قولين في سورة الأنبياء «1» فمن قال: هو فرج ثوبها، قال «الهاء» في قوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيهِ ترجع إليه، وذلك أن جبريل مَدَّ جيب درعها، فنفخ فيه، ومن قال: هو مخرج الولد، قال: «الهاء» كناية عن غير مذكور، لأنه إنما نفخ في درعها لا في فرجها.
قوله عزّ وجلّ: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وفيه قولان: أحدهما: أنه قول جبريل إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
«2» . والثاني: الكلمات هي التي تضمنَّتها كتب الله المنزلة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو مجلز، وعاصم الجحدري «بكلمةِ ربها» على التوحيد وَكُتُبِهِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «وكتابِهِ» على التوحيد، وقرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وخارجة عن نافع «وكُتُبه» جماعة، وهي التي أنزلت على الأنبياء، ومن قرأ «وكتابه» فهو اسم جنس على ما بيَّنَّا في خاتمة البقرة «3» وقد بيّنّا فيها القنوت مشروحا «4» . ومعنى الآية وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ، ولذلك لم يقل: من القانتات.
__________
(1) الأنبياء: 92.
(2) مريم: 19.
(3) البقرة: 285.
(4) البقرة: 116.(4/312)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
سورة الملك
وهي مكيّة كلّها بإجماعهم (1478) قال ابن مسعود: هي المانعة من عذاب القبر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
قوله عزّ وجلّ: تَبارَكَ قد شرحناه في الأعراف «1» .
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ قال ابن عباس: يعني: السّلطان يعزّ ويذلّ.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قال الحسن: خلق الموت المزيل للحياة، والحياة التي
__________
أخرجه الطبراني 10254 عن ابن مسعود قال: «كنا نسميها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المانعة» وقال الهيثمي 7/ 127- 128: رجاله ثقات اه وصححه الحاكم 2/ 468 ووافقه الذهبي. وأخرجه النسائي في «اليوم والليلة» 716. وورد من حديث ابن عباس مرفوعا: أخرجه الترمذي 2890 والبيهقي في «الدلائل» 7/ 41 من حديث ابن عباس، وضعفه الترمذي بقوله: غريب من هذا الوجه، وكذا ضعفه البيهقي فقال: تفرد به يحيى بن عمرو النكري، وهو ضعيف. وأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا وتفرد ابن مردويه به يدل على وهنه.
وانظر «تفسير الشوكاني» 2559 و 2560 بتخريجنا.
__________
(1) الأعراف: 54.(4/313)
هي ضدّ الموت «1» قوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قد شرحناه في هود «2» ، قال الزجاج: والمعلَّق ب أَيُّكُمْ مضمر تقديره: ليبلوكم، فيعلم أيُّكم أحسن عملاً وهذا علم وقوع. وارتفعت «أي» بالابتداء، ولا يعمل فيها ما قبلها، لأنها على أصل الاستفهام، ومثله أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى «3» . والمعنى:
خلق الحياة ليختبركم فيها. وخلق الموت ليبعثَكم ويجازيَكم. وقال غيره: اللام في «ليبلوَكم» متعلق بخلق الحياة دون خلق الموت، لأن الابتلاء بالحياة. قوله: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي: خلقهنَّ مطابقات، أي: بعضها فوق بعض ما تَرى يا ابن آدم فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ قرأ حمزة والكسائي: «من تفوُّت» بتشديد الواو من غير ألف. وقرأ الباقون بألف. قال الفراء: وهما بمنزلة واحدة، كما تقول: تعاهدت الشيء وتعهَّدته والتفاوت: الاختلاف. وقال ابن قتيبة: التفاوت:
الاضطراب والاختلاف وأصله من الفوت وهو أن يفوت شيء شيئاً، فيقع الخلل، ولكنه متصل بعضه ببعض.
قوله عزّ وجلّ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ كرِّر البصر هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ وقرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي «هل ترى» بإدغام اللام في التاء، أي: هل ترى فيها فروجا وصدوعا.
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي: مرَّةً بعد مرَّة يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً قال ابن قتيبة:
أي: مبعداً، من قولك: خسأتُ الكلب: إذا باعدتَه وَهُوَ حَسِيرٌ أي: كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه. وقال الزجاج: قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا.
قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ قد شرحناه في حم السّجدة «4» . قوله: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ أي: يرجم بها مسترقو السّمع. وقد سبق بيان هذا المعنى «5» وَأَعْتَدْنا لَهُمْ: في الآخرة عَذابَ السَّعِيرِ وهذا وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً أي: صوتاً مثل صوت الحمار. وقد بينا معنى الشهيق في هود «6» وَهِيَ تَفُورُ أي: تغلي بهم كغلي المِرْجَل تَكادُ تَمَيَّزُ أي: تتقطَّع من تَغَيُّظها عليهم كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ أي: جماعة منهم سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ وهذا سؤال توبيخ.
قوله عزّ وجلّ: إِنْ أَنْتُمْ أي: قلنا للرسل: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: في ذهاب عن الحق بعيد. قال الزجاج: ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أي: سماع من يعي ويفكّر أَوْ نَعْقِلُ
__________
(1) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 181: قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قيل: المعنى خلقكم للموت والحياة، يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة وقدّم الموت على الحياة، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم. قال العلماء:
الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار، والحياة عكس ذلك. قلت: وفي التنزيل قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ السجدة: 11 وقال: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ [الأنفال: 50] وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم. وهو سبحانه المميت على الحقيقة.
(2) هود: 7.
(3) الكهف: 12.
(4) فصلت: 12.
(5) الحجر: 18.
(6) هود: 106.(4/314)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
عقل من يُميِّز وينظر ما كُنَّا من أهل النار فَسُحْقاً. وهو منصوب على المصدر، المعنى: أسحقهم الله سحقاً، أي: باعدهم الله من رحمته مباعدة، والسحيق: البعيد. وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «فسحقاً» أي: بُعْدَاً. وقال سعيد بن جبير، وأبو صالح: السُّحق: وادٍ في جهنّم يقال له:
سحق.
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ قد شرحناه في سورة الأنبياء «1» لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وهو: الجنة. ثم عاد إلى خطاب الكفّار، فقال عزّ وجلّ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيخبره جبريل بما قالوا، فيقول بعضهم: أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمّد «2» .
قوله عزّ وجلّ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي: ألا يعلم ما في الصدور خالقها؟! واللَّطِيفُ مشروح في الأنعام «3» والْخَبِيرُ في سورة البقرة «4» .
قوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا أي: مُذَلَّلةً سَهْلَةَ لم يجعلها ممتنعة بالحُزُونَة والغِلَظ.
قوله عزّ وجلّ: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها فيه ثلاثة أقوال: أحدها: طرقاتها، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: جبالها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، واختاره الزجاج، قال: لأن المعنى: سهل لكم السلوك فيها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها، فهو أبلغ في التذليل. والثالث: في جوانبها، قاله مقاتل، والفراء، وأبو عبيدة، واختاره ابن قتيبة، قال: ومنكبا الرّجل: جانباه.
قوله عزّ وجلّ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي: إليه تُبْعَثُون من قبوركم.
[سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 19]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
ثم خوف الكفار فقال: أَأَمِنْتُمْ قرأ ابن كثير: «وإليه النشور أأمنتم» وقرأ نافع، وأبو عمرو:
__________
(1) الأنبياء: 49.
(2) عزاه المصنف لابن عباس، وكذا الواحدي في «الأسباب» 835. ساقه بدون إسناد، وهو باطل، فإن سباق الآيات وسياقها يدل على أن المراد بالآية المؤمنون. [.....]
(3) الأنعام: 103.
(4) البقرة: 234.(4/315)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
«النشور آمنتم» بهمزة ممدودة. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «أأمنتم» بهمزتين، مَنْ فِي السَّماءِ قال ابن عباس: أمنتم عذاب مَنْ في السماء، وهو الله عزّ وجلّ؟! وتَمُورُ بمعنى: تدور.
قال مقاتل: والمعنى: تدور بكم إلى الأرض السّفلى.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وهي: الحجارة، كما أرسل على قوم لوط فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي: كيف كانت عاقبة إِنذاري لكم في الدنيا إذا نزل بكم العذاب وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كفار الأمم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي: إنكاري عليهم بالعذاب.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي: تصفُّ أجنحتها في الهواء، وتقبض أجنحتها بعد البسط، وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط ما يُمْسِكُهُنَّ أن يقعن إِلَّا الرَّحْمنُ.
[سورة الملك (67) : الآيات 20 الى 27]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
قوله عزّ وجلّ: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ هذا استفهام إنكار. ولفظ «الجُنْدِ» مُوحَّد، فلذلك قال عزّ وجلّ: «هذا الذي هو» والمعنى: لا جُنْدَ لكم يَنْصُرُكُمْ أي: يمنعكم من عذاب الله إن أراده بكم، إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ وذلك أن الشيطان يغرُّهم، فيقول: إن العذاب لا ينزل بكم، أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ المطر وغيرَه إِنْ أَمْسَكَ الله ذلك عنكم بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ أي: تمادٍ في كفر وَنُفُورٍ عن الإيمان.
ثم ضرب مثلاً، فقال عزّ وجلّ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ قال ابن قتيبة: أي لا يبصر يميناً، ولا شمالاً ولا من بين يديه. يقال: أكبّ الله فلانا على وجهه، بالألف، وكبَّه الله لوجهه، وأراد:
الأعمى. قال المفسرون: هذا مثل للمؤمن، والكافر، و «السويُّ» : المعتدل، أي: الذي يبصر الطريق.
وقال قتادة: هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مُكِبّاً على وجهه، والمؤمن يمشي سوياً.
قوله عزّ وجلّ: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ فيه قولان: أحدهما: أنهم لا يشكرون، قاله مقاتل: والثاني:
أنهم يشكرون قليلا، قاله أبو عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: خلقكم وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون الوعد: بالعذاب فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً أي: رأوا العذاب قريباً منهم سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا قال الزجاج: أي: تبين فيها السُّوءُ. وقال غيره: قُبِّحْت بالسواد وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ فيه قولان: أحدهما: أنَّ «تدَّعون» بالتشديد، بمعنى تدعون بالتخفيف، وهو «تفتعلون» من الدعاء. يقال: دعوت، وادَّعيت، كما يقال:
خَبَرْتُ وَاخْتَبَرْتُ، ومثله: يدّكرون، ويذكرون، هذا قول الفراء، وابن قتيبة. والثاني: أن المعنى: هذا الذي كنتم من أجله تَدَّعون الأباطيلَ والأكاذيبَ، تَدَّعون أنكم إِذا مُتُّم لا تُبْعَثُون؟! وهذا اختيار الزجاج.(4/316)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
وقرأ أبو رزين، والحسن، وعكرمة، وقتادة والضحاك، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «تَدْعون» بتخفيف الدال، وسكونها، بمعنى تَفْعَلون من الدعاء. وقال قتادة: كانوا يدعون بالعذاب.
[سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
قوله عزّ وجلّ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ بعذاب وَمَنْ مَعِيَ من المؤمنين «1» . قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «معيَ» بفتح الياء. وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي: «معي» بالإسكان أَوْ رَحِمَنا فلم يعذِّبْنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ أي يمنعهم ويؤمِّنُهم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ومعنى الآية: إنا مع إيماننا، بين الخوف والرّجاء: فمن يجيرُكم مع كفركم من العذاب؟! أي: لأنه لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ الذي نعبُدُ فَسَتَعْلَمُونَ وقرأ الكسائي:
«فسيعلمون» بالياء عند معاينة العذاب مَن الضالُّ نحن أم أنتم.
قوله عزّ وجلّ: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً قد بيَّنَّاه في الكهف «2» فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي: بماءٍ ظاهر تراه العيون، وتناله الأرشية.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 471: يقول الله تعالى: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي: خلّصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنّكال، فسواء عذّبنا الله أو رحمنا، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم. ثم قال:
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا كما قال: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ثم قال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي: ذاهبا في الأرض إلى أسفل، فلا ينال بالفؤوس الحداد، ولا السواعد الشداد، والغائر عكس النابع. ولهذا قال: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي: نابع وسائح جار على وجه الأرض، أي: لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل. فمن فضله وكرمه أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض، بحسب ما يحتاج العباد إليه، من القلة والكثرة، فله الحمد والمنّة.
(2) الكهف: 41.(4/317)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
سورة القلم
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم إلّا ما حكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها من المدني قوله عزّ وجلّ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله عزّ وجلّ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
قوله عزّ وجلّ: ن قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص: نْ وَالْقَلَمِ النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة عند الواو، وهذا اختيار الفراء. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان لا يُبين النون من «نون» . وبها قرأ الكسائي، وخلف، ويعقوب، وهو اختيار الزجاج. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والأعمش: «نونِ والقلم» بكسر النون وقرأ الحسن، وأبو عمران، وأبو نهيك: «نُ والقلم» برفع النون..
وفي معنى (نون) سبعة أقوال «1» : أحدها: أنها الدواة.
(1479) روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النّون،
__________
صدره قوي بشواهده، وعجزه باطل. أخرجه ابن عدي 6/ 269 من طريق محمد بن وهب عن الوليد بن مسلم به، وأعله بمحمد بن وهب، وحكم ببطلانه، ووافقه الذهبي في «الميزان» 4/ 61. وأخرجه الآجري في «الشريعة» 358 من طريق الحسن بن يحيى الخشني عن الحسين أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ضعيف لضعف الحسن بن يحيى الخشني، وكذا ذكره ابن كثير في «تفسيره» 4/ 428 من هذا الوجه ونسبه لابن أبي حاتم وقال: غريب جدا. ولقوله «أول ما خلق الله القلم» شواهد كثيرة والمنكر فيه لفظ «النون وهي الدواة» ويشهد لصدره حديث عبادة بن الصامت: أخرجه أبو داود 4700 والترمذي 2156 وأحمد 5/ 317 والآجري 359. وحديث ابن عباس: أخرجه أبو يعلى 2329 والبيهقي 9/ 3 وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 190 وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات. وانظر «الجامع لأحكام القرآن»
__________
(1) الراجح في هذه الأقوال القول الأول، يدل على ذلك ذكر القلم، والله تعالى أعلم.(4/318)
وهي الدواة» وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير، وبه قال الحسن وقتادة.
والثاني: أنه آخر حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنه الحوت الذي على ظهر الأرض، وهذا المعنى في رواية أبي ظبيان عن ابن عباس، وهو مذهب مجاهد، والسّدّيّ، وابن السّائب «1» . والرابع: أنه لَوْح من نور، قاله معاوية بن قرّة. والخامس: أنه افتتاح اسمين «نصير» ، و «ناصر» قاله عطاء. والسادس: أنه قَسَم ٌبِنُصْرَةِ الله للمؤمنين، قاله القرظي. والسابع: أنه نهر في الجنة، قاله جعفر الصادق.
وفي «القلم» قولان «2» : أحدهما: أنه الذي كتب به في اللوح المحفوظ. والثاني: أنه الذي يكتب به الناس. وإنما أقسم به، لأن كتبه إنما تكتب ويَسْطُرُونَ بمعنى: يكتبون.
وفي المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة. وفيما أرادوا بما يكتبونه قولان: أحدهما: أنه الذّكر، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: أعمال بني آدم، قاله مقاتل. والقول الثاني: أنهم جميع الكتبة، حكاه الثّعلبيّ، قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أي: ما أنت بِإنْعامِ ربِّك عليك بالإيمان والنُّبوَّة بمجنون. قال الزجاج: هذا جواب قولهم: إنك لمجنون. وتأويله: فارقك الجنون بنعمة الله.
قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّ لَكَ بصبرك على افترائهم عليك. ونسبتهم إيّاك إلى الجنون لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع ولا منقوص، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فيه ثلاثة أقوال «3» :
أحدها: دين الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: أدب القرآن، قاله الحسن. والثالث: الطبع الكريم. وحقيقة «الخُلُق» : ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، فسمي خُلُقاً، لأنه يصير كالخِلْقة في صاحبه. فأما ما طبع عليه فيسمى: «الخِيم» فيكون الخِيم: الطبع الغريزي. والخُلُق: الطبع المُتكلَّف.
هذا قول الماوردي.
(1480) وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: كان خُلُقُه القرآن.
تعني: كان على ما أمره الله به في القرآن.
__________
6064 و 6065 و «أحكام القرآن» 2168.
الخلاصة: هو باطل بهذا اللفظ، وذكر القلم قوي له شواهد.
صحيح. أخرجه مسلم 746 وأبو داود 1342 و 1343 وعبد الرزاق 4714 و 4751 من حديث عائشة مطولا. وأخرجه الحاكم 2/ 392 من حديث عائشة بلفظ: أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن: قد أفلح المؤمنون.
__________
(1) هذه الروايات جميعا مصدرها الإسرائيليات، وهي من أباطيل الإسرائيليين وترّهاتهم.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 473: وقوله: وَالْقَلَمِ الظاهر أنه جنس القلم يكتب به كقوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم.
(3) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 199: أصح الأقوال ما ذكرته عائشة في صحيح مسلم.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 475: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن، أمرا ونهيا، سجية له، وخلقه تطبعه، وترك طبعه الجبلّيّ فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم، والشجاعة، والصفح، والحلم، وكل خلق جميل.(4/319)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
قوله عزّ وجلّ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ يعني: أهل مكة. وهذا وعيد لهم بالعذاب. والمعنى:
سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب بِبَدْرٍ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ وفيه أربعة أقوال: أحدها: الضالُّ، قاله الحسن. والثاني: الشيطان، قاله مجاهد. والثالث: المجنون، قاله الضحاك. والمعنى: الذي قد فتن بالجنون. والرابع: المعذَّب، حكاه الماوردي.
وفي الباء قولان: أحدهما: أنها زائدة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. وأنشدوا:
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الفَلَجْ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْف وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ «1»
والثاني: أنها أصلية، وهذا قول الفراء، والزجاج. قال الزجاج: ليس كونها لغواً بجائز في العربية في قول أحد من أهلها.
وفي الكلام قولان للنحويين: أحدهما: أن «المفتون» هاهنا: الفتون. والمصادر تجيء على المفعول. تقول العرب: ليس هذا معقود رأي، أي: عقد رأي، تقول: دعه إلى ميسوره، أي: يسره.
والمعنى: بأيكم الجنون. والثاني: بأيكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها، أم بفرقة الكفار؟ فيكون المعنى: في أي الفرقتين المجنون. وقد ذكر الفراء نحو ما شرحه الزجاج. وقد قرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: «في أي المفتون» . ثم أخبر أنه عالم بالفرقتين بما بعد هذا.
[سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 16]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
قوله عزّ وجلّ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وذلك أن رؤساء أهل مكة دَعَوْه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ فيه سبعة أقوال «2» : أحدها: لو ترخص فيرخصون، قاله ابن عباس.
__________
(1) البيت لراجز من بني جعدة، كما في «مجاز القرآن» 2/ 5 و «الخزانة» 4/ 160 والفلج: موضع بنجد.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 182: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلبون لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ وإنما هو مأخوذ من الدهن شبّه التليين في القول بتليين الدهن.
وقال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 305: وقال أهل اللغة: الإدهان هو التلبيس، معناه: ودوا لو تلبس إليهم في عملهم وعقدهم فيميلون إليك. وحقيقة الإدهان إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة أي مدافعة. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنه استأذن على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة هو، أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول! فقال لي: «يا عائشة، إن شر الناس منزلة من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه» .
قلت: حديث صحيح. أخرجه البخاري 6054 و 6131 ومسلم 2591 وأبو داود 4791 والترمذي 1996 وأحمد 6/ 38 والحميدي 249 وابن حبان 4538 والبيهقي 10/ 345 والبغوي 3563 من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة بن الزبير عن عائشة به.(4/320)
والثاني: لو تُصَانِعُهم في دِينك فَيَصانِعون في دينهم، قاله الحسن. والثالث: لو تكفر فيكفرون، قاله عطية، والضحاك، ومقاتل. والرابع: لو تَلِينُ لهم فيلينون لك، قاله ابن السائب. والخامس: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون، قاله زيد بن أسلم. والسادس: ودُّوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم. وكانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مُدَّة، ويعبدوا الله مدة، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: هو من المداهنة. والسابع: لو تقاربهم فيقاربوك، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ وهو كثير الحلف بالباطل مَهِينٍ وهو الحقير الدنيء. وروى العوفي عن ابن عباس قال: المَهين: الكذَّاب. واختلفوا فيمن نزل هذا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: الأخنس بن شريق، قاله عطاء، والسدي.
والثالث: الأسود بن عبد يغوث، قاله مجاهد.
قوله عزّ وجلّ: هَمَّازٍ قال ابن عباس: هو المغتاب. وقال ابن قتيبة: هو العيّاب.
قوله عزّ وجلّ: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهو نقل الكلام السيء من بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم «1» ، قوله: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ فيه قولان: أحدهما: أنه منع ولده وعشيرته الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: مَنَّاعٍ للحقوق في ماله، ذكره الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: مُعْتَدٍ أي ظلوم أَثِيمٍ فاجر عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ أي مع ما وصفناه به.
وفي «العُتُلِّ» سبعة أقوال: أحدها: أنه العاتي الشديد المنافق، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الموفر الجسم، قاله الحسن. والثالث: الشديدُ الأَشِرُ، قاله مجاهد. والرابع: القويُّ في كفره، قاله عكرمة.
والخامس: الأكول الشروب القوي الشديد، قاله عبيد بن عمير. والسادس: الشديد الخصومة بالباطل، قاله الفراء. والسابع: أنه الغليظ الجافي، قاله ابن قتيبة.
وفي «الزنيم» أربعة أقوال «2» : أحدها: أنه الدَّعيُّ في قريش وليس منهم، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا معروف في اللغة أنّ الزّنيم: هو الملصق في القوم وليس منهم، وبه قال الفراء، وأبو عبيدة وابن قتيبة. قال حسان:
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آل هَاشِمٍ ... كما نِيطَ خلف الرّاكب القدح الفرد
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 476: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يعني: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقبرين قال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة» . وقال الزمخشري في «الكشاف» 4/ 591: حَلَّافٍ كثير الحلف في الحقّ والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومثله قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] مَهِينٍ من المهانة وهي القلة والحقارة، يريد القلة في الرأي والتمييز. أو أراد الكذاب لأنه حقير عند الناس هَمَّازٍ عياب طعان، وعن الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مضرب نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم. والنميم والنميمة: السعاية.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 478: الأقوال في هذا كثيرة وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو:
المشهور بالشر الذي يعرف به من بين الناس، وغالبا يكون دعيّا ولد زنا، فإنه في الغالب يتسلّط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره.(4/321)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
والثاني: أنه الذي يعرف بالشَّرِّ، كما تعرف الشاة بِزَنَمتها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: أنه الذي له زَنَمة مثل زنمة الشاة. وقال ابن عباس: نُعت فلم يعرف حتى قيل: زنيم، فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها. ولا يعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه من ذكر عيوب الوليد، لأنه وصف بالحلف، والمهانة، والعيب للناس، والمشي بالنميمة، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدِّعوة، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة، قال الزّجّاج: والزَّنَمَتان:
المعلقتان عند حلوق المعزى. وقال ابن فارس: هي التي تتعلق من أذنها. والرابع: أنه الظلوم، رواه الوالبيّ عن ابن عباس.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم: «أن كان» على الخبر، أي: لأن كان. والمعنى لا تطعه لماله وبنيه. وقرأ ابن عباس بهمزتين، الأولى: مخففة. والثانية: ملينة، وفصل بينهما بألف أبو جعفر. وقرأ حمزة: «أأن كان» بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وله وجهان: أحدهما: ألأن كان ذا مال تطيعه؟ -! والثاني: ألأن كان ذا مال وبنين؟! إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا يكفر بها؟ فيقول: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ذكر القولين الفراء. وقرأ ابن مسعود: «أن كان» بهمزة واحدة مقصورة. ثم أوعده فقال عزّ وجلّ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ الخرطوم:
الأنف. وفي هذه السِّمة ثلاثة أقوال: أحدها: سنسمه بالسيف، فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، فقاتل يوم بدر فخطم بالسيف، قاله ابن عباس. والثاني: سنُلْحق به شيئاً لا يفارقه، قاله قتادة، واختاره ابن قتيبة. والثالث: أن المعنى: سَنُسَوِّد وجهه. قال الفراء: و «الخرطوم» وإِن كان قد خص بالسِّمة، فإنه في مذهبٍ الوجه، لأن بعض الوجه يؤدِّي عن البعض. وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم. وجائز- والله أعلم- أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يتبيّن بها عن غيره.
[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 41]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يعني: أهل مكة، أي: ابتليناهم بالجوع، والقحط كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ حين هلكت جنّتهم.(4/322)
وهذه الإشارة إِلى قصتهم «1»
ذكر أهل التفسير أن رجلاً كان بناحية اليمن له بستان، وكان مؤمنا. وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته، وكان يتصدّق بالباقي. وقيل: كان يترك للمساكين ما تعدَّاه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدّباس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاثة بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإِنما كان أبونا يفعل هذا إذْ كان المال كثيراً، والعيال قليلاً، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا. فعزموا على حرمان المساكين، وتحالفوا بينهم ليغدون قبل خروج الناس، فليصرمُنَّ نخلهم، فذلك قوله عزّ وجلّ: إِذْ أَقْسَمُوا أي:
حلفوا لَيَصْرِمُنَّها أي: ليقطعنّ نخلهم مُصْبِحِينَ أي: في أول الصباح. وقد بقيت من الليل ظُلمة لئلا يبقى للمساكين شيء.
وفي قوله عزّ وجلّ: وَلا يَسْتَثْنُونَ قولان: أحدهما: لا يقولون: إن شاء الله، قاله الأكثرون.
والثاني: لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ أي: من أمر ربك. قال الفراء: الطائف لا يكون إلا بالليل. قال المفسرون: بعث الله عليها ناراً بالليل، فاحترقت، فصارت سوداء، فذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: كالرَّماد الأسود، قاله ابن عباس. والثاني: كالليل المسودّ، قاله الفراء. وكذلك قال ابن قتيبة: أصبحت سوداء كالليل محترقة. والليل: هو الصريم، والصبح أيضاً: صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه. والثالث: أصبحت قد ذهب ما فيها من الثمر، فكأنه قد صرم، أي: قطع، وجُذَّ حكاه ابن قتيبة أيضا.
قوله عزّ وجلّ: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي: نادى بعضهم بعضاً لما أصبحوا أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ يعني:
الثمار والزروع والأعناب إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي: قاطعين للنخل، فَانْطَلَقُوا أي: ذهبوا إلى جنَّتهم وَهُمْ يَتَخافَتُونَ قال ابن قتيبة: يتشاورون ب أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.
قوله: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ فيه ثمانية أقوال: أحدها: على قدرة، قاله ابن عباس. والثاني: على فاقة، قاله الحسن في رواية. والثالث: على جد، قاله الحسن في رواية، وقتادة، وأبو العالية، والفراء! ومقاتل.
والرابع: على أمر مجمع قد أسَّسوه بينهم، قاله مجاهد، وعكرمة. والخامس: أنّ الحرد، اسم الجنّة،
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 210: قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جدّ ثمره أن يواسي منها من حضره، وذلك معنى قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام: 141] وأنه غير الزكاة. وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصادون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. وقيل: إنما نهى عن ذلك خشية الحياة وهوام الأرض.
قلت: الأول أصح، والثاني: حسن، وإنما قلنا الأول أصح لأن العقوبة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. وفي هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظير هذه الآية، قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] وفي الصحيح: عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» متفق عليه. اه.(4/323)
قاله السدي. والسادس: أنه الحنَق والغضب على المساكين، قاله الشعبي، وسفيان، وأنشد أبو عبيدة:
أُسُودُ شَرَىً لاَقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ ... تَسَاقَوْا على حَرْدٍ دِمَاءَ الأَسَاوِدِ «1»
والسابع: أنه المنع، مأخوذ من حارَدَتِ السَّنَة فليس فيها مطر، وحاردت الناقة فليس لها لبن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثامن: أنه القصد. يقال: حَرَدْتُ حَرْدَكَ، أي: قَصَدْتُ قَصْدَكَ، حكاه الفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وأنشدوا:
قَدْ جَاءَ سَيْلٌ كَانَ مِنْ أَمْرِ اللهْ ... يَحْرُدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّةْ
أي: يقصد قصدها. قال ابن قتيبة: وفيها لغتان: حَرَدٌ، وحَرْدٌ، كما يقال: الدَّرَك، والدّرك.
وقوله: قادِرِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: قادرين على جَنَّتهم عند أنفسهم، قاله قتادة. والثاني:
قادرين على المساكين، قاله الشعبي. والثالث: أن المعنى: منعوا وهم قادرون، أي: واجدون، قاله ابن قتيبة، قوله: فَلَمَّا رَأَوْها محترقة قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أي: قد ضللنا طريق جَنَّتنا، فليست هذه. ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: حرمنا ثمر جنّتنا بمنعنا المساكين قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم، وأفضلهم لَوْلا أي: هلاَّ تُسَبِّحُونَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: هلا تَسْتَثْنُون عند قولكم:
لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ قاله ابن جريج والجمهور. والمعنى: هلاَّ قلتم: إن شاء الله. قال الزجاج: وإنما قيل للاستثناء: تسبيح، لأنّ التسبيح في اللغة: تنزيه الله عزّ وجلّ عن السوء. والاستثناء تعظيم لله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلاً إلا بمشيئة الله. والثاني: أنه كان استثناؤهم قول: «سبحان الله» قاله أبو صالح. والثالث: هلا تسبِّحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم، حكاه الثعلبي. وقوله تعالى: قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا فنزَّهوه أن يكون ظالماً فيما صنع، وأقرُّوا على أنفسهم بالظلم فقالوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بمنعنا المساكين فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي: يلوم بعضهم بعضاً في منع المساكين حقوقهم. يقول هذا لهذا: أَنْتَ أَشَرْتَ علينا. ويقول الآخر: أنت فَعَلْتَ، ثم نادَوْا على أنفسهم بالويل، فقالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ حين لم نصنع ما صنع آباؤنا، ثم رجعوا إِلى الله تعالى فسألوه أن يبدِّلهم خيراً منها، فذلك قوله: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها. وقرأ قوم: «يبدِلنا» بالتخفيف، وهما لغتان. وفرَّق قوم بينهما، فقالوا: التبديل: تغيير حال الشيء وصفته والعين باقية. والإبدال: إزالة الشيء ووضع غيره مكانه.
ونقل أن القوم أخلصوا، فبدَّلهم الله جنَّةً العنقودُ منها وقر بغل «2» .
قوله عزّ وجلّ: كَذلِكَ الْعَذابُ ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا. وهاهنا قصة أهل الجنّة. ثم قال عزّ وجلّ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني: المشركين. ثم ذكر ما للمتقين عنده بما بعد هذا، فقال المشركون: إنا لنُعْطى في الآخرة أفضل ممّا يعطون، فقال تعالى مكذِّباً لهم: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ قال الزجاج: هذه ألف الاستفهام مجازها هاهنا مجاز التوبيخ والتقرير.
قوله عزّ وجلّ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي: كيف تقضون بالجَوْرِ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ أُنْزِلَ من عند الله فِيهِ هذا تَدْرُسُونَ أي: تقرؤون ما فيه إِنَّ لَكُمْ في ذلك الكتاب لَما تَخَيَّرُونَ أي: ما تختارون وتشتهون. وقرأ أبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: «أن لكم» بفتح الهمزة. وهذا تقريع
__________
(1) البيت للأشهب بن رميلة الذي كان يهاجي الفرزدق، كما في «الكامل» للمبرد 438 و «الخزانة» 2/ 508. [.....]
(2) وقر بغل: حمل بغل.(4/324)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
لهم، وتوبيخ على ما يتمنَّوْن من الباطل، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ أي: ألكم عهود على الله تعالى حلف لكم على ما تَدَّعُونَ بأَيْمانٍ بالغةٍ، أي: مُؤكَّدةٍ. وكل شيء متناهٍ في الجودة والصحة فهو بالغ. ويجوز أن يكون المعنى: بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأَيمان إلى يوم القيامة في لزومها وتوكيدها إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله تعالى. قال الفراء: والقرَّاء على رفع «بالغة» إلّا الحسن فإنه ينصبها على مذهب المصدر، كقوله عزّ وجلّ:
حَقًّا. ومعنى الآية: هل لكم أيمان علينا بالغة بأنّ لكم ما تحكمون؟! لمّا كانت اللام في جواب «إن» كسرتَها.
قوله عز وجل: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الكفيل، قاله ابن عباس، وقتادة. والمعنى: أيُّهُمْ كفل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير. والثاني: أنه الرسول، قاله الحسن.
قوله عزّ وجلّ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى، والمعنى: ألهم أرباب يفعلون بهم هذا الذي زعموا. وقيل: يشهدون لهم بصدق ما ادَّعَوْا فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أنها شركاء لله. وإنما أضيف الشرك إليهم لادّعائهم أنهم شركاء لله.
[سورة القلم (68) : الآيات 42 الى 47]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
يَوْمَ يُكْشَفُ المعنى: فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق. قرأ الجمهور: «يُكْشَفُ» بضم الياء، وفتح الشين. وقرأ ابن أبي عبلة، وعاصم الجحدريّ، وأبو الجوزاء، بفتح الياء، وكسر الشين. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس: «تكشف» بتاء مفتوحة، وبكسر الشين. وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وابن يعمر، والضحاك: «نَكشف» بنون مفتوحة مع كسر الشين. وهذا اليوم هو يوم القيامة. وقد روى عكرمة عن ابن عباس: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: يكشف عن شدّة، وأنشدوا:
وَقَامَتْ الحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ
وهذا قول مجاهد، وقتادة.
قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إِلى معاناته والجدّ فيه، شمّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة، هذا قول الفراء وأبي عبيدة، واللغويين. وقد أضيف هذا الأمر إِلى الله تعالى.
(1481) فروي في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «يكشف عن
__________
صحيح. أخرجه البخاري 7439 و 4919 وابن حبان 7377 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 745 والبغوي في «شرح السنة» 4221 من حديث أبي سعيد. وأخرجه مسلم 183 من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم به مطوّلا. وأخرجه أحمد 3/ 16- 17 من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن زيد بن أسلم به(4/325)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
ساقه» ، وهذا إضافة إليه، لأن الكل له وفعله. وقال أبو عمر الزّاهد: السّاق: يراد بها النّفس «1» ، ومنه قول عليّ رضي الله عنه: أقاتلهم ولو تلفت ساقي، أي: نفسي. فعلى هذا يكون المعنى: يتجلّى لهم.
قوله تعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني: المنافقين فَلا يَسْتَطِيعُونَ كأن في ظهورهم سفافيد الحديد. قال النقاش: وليس ذلك بتكليف لهم أن يسجدوا، وهم عجزة، ولكنه توبيخ لهم بتركهم السجود خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي: خاضعةً تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي: تغشاهم وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني:
بالأذان في دار الدنيا، ويُؤْمَرون بالصلاة المكتوبة وَهُمْ سالِمُونَ أي: معافَوْن ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد. وفي هذا وعيد لمن ترك صلاة الجماعة. وكان كعب يقول: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلَّفون عن الجماعات فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن. والمعنى: خَلِّ بيني وبينه. قال الزجاج: أي: لا تشغل قلبك به، كِلْه إليَّ فأنا أكفيك أمره. وذكر بعض المفسرين أن هذا القدر من الآية إلى قوله: «الحديث» منسوخ بآية السيف. وما بعد هذا مفسر في الأعراف «2» إِلى قوله عزّ وجلّ: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فإنها مفسّرة والتي تليها في الطّور «3» .
[سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 52]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
قوله عزّ وجلّ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آتٍ. وقيل: معنى الأمر بالصبر منسوخ بآية السيف.
قوله عزّ وجلّ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وهو يونس. وفي ماذا نُهِيَ أن يكون مثله قولان:
أحدهما: أنه العجلة، والغضب، قاله قتادة. والثاني: الضعف عن تبليغ الرسالة، قاله ابن جرير. قال ابن الأنباري: وهذا لا يُخْرِجُ يونس من أولي العزم، لأنها خطيئة. ولو قلنا: إن كل مخطئ من الأنبياء ليس من أولي العزم، خرجوا كلهم إلا يحيى. ثم أخبر عن عقوبته إذ لم يصبر، فقال عزّ وجلّ: إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ قال الزجاج: مملوء غمّا وكربا.
قوله عزّ وجلّ: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن أبي عبلة: «لولا أن تَداركتْه» بتاء خفيفة، وبتاءٍ ساكنة بعد الكاف مع تخفيف الدال. وقرأ أبو هريرة، وأبو المتوكل: «تَدَّاركه» بتاء واحدة خفيفة مع تشديد الدال. وقرأ أُبَيّ بن كعب: «تتداركه» بتاءين خفيفتين نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ فرحمه بها، وتاب عليه من معاصيه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ وقد بينا معنى «العَراء» في الصافات «4» . ومعنى الآية: أنه نبِذَ غيرَ مذموم لنعمة الله عليه بالتوبة والرحمة. وقال ابن جريج: نُبِذَ بالعراء، وهي أرض المحشر، فالمعنى: أنه كان يبقى مكانه إلى يوم القيامة فَاجْتَباهُ رَبُّهُ أي: استخلصه واصطفاه، وخلّصه
__________
مطوّلا. وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 173 من طريق هشام بن سعد عن زيد به.
__________
(1) هذه الأقوال جميعا يردها الحديث الصحيح المتقدم، ولم يسق المصنف لفظه.
(2) الأعراف: 182- 183.
(3) الطور: 39- 40.
(4) الصافات: 145.(4/326)
من الذم فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فردَّ عليه الوحي، وشفّعه في قومه ونفسه، قوله: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قرأ الأكثرون بضم الياء، من أزلقته، وقرأ أهل المدينة، وأبان بفتحها من زَلَقْتُه أزْلِقُهُ، وهما لغتان مشهورتان في العرب. قال الزجاج: يقال: زلق الرّجل رأسه أزلقه: إذا حلقه. وفي معنى الآية للمفسرين قولان «1» :
(1482) أحدهما: أن الكفار قصدوا أن يصيبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالعين، وكان فيهم رجل يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل شيئاً، ثم يرفع جانب خبائه، فتمرُّ به النَّعم، فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها عدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالعين، فعصم الله نبيَّه، وأنزل هذه الآية، وهذا قول الكلبي، وتابعه قوم من المفسرين تلقَّفوا ذلك من تفسيره، منهم الفراء.
والثاني: أنهم كانوا ينظرون إليه بالعداوة نظرا سديدا يكاد يُزْلِقُه من شدته، أي: يلقيه إلى الأرض. وهذا مستعمل في كلام العرب. يقول القائل: نظر إليَّ فلان نظراً كاد يصرعني. وأنشدوا:
يَتَقَارضُون إذا التَقَوْا في مَوْطنٍ ... نَظَراً يزيل مواطئ الأَقْدَامِ
أي: ينظر بعضهم إلى بعض نظراً شديداً بالعداوة يكاد يزيل الأقدام، وإلى هذا ذهب المحققون، منهم ابن قتيبة، والزجاج. ويدل على صحته أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله تعالى: لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ والقوم كانوا يكرهون ذلك أَشَدَّ الكراهة، فيُحِدُّون النظر إليه بالبغضاء. وإصابةُ العين، إنما تكون مع الإعجاب والاستحسان، لا مع البغض فلا يُظن بالكلبي أنه فهم معنى الآية. قوله:
وَما هُوَ يعني: القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أي: موعظة.
__________
عزاه المصنف للكلبي، وهو متهم بالكذب، فهذا خبر باطل، لا أصل له.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 482: وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق، بأمر الله- عز وجل-. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 222: أخبر الله بشدة عداوتهم للنبي صلّى الله عليه وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين، فعصم الله نبيه صلّى الله عليه وسلم قال القشيري: وفي هذا نظر، لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض.
قلت: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرناه، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك، يقال: زلقه، يزلقه، أزلقه، إذا نحّاه وأبعده. فمعنى الكلمة إذا التنحية والإزالة، وذلك لا يكون في حقّ النبي صلّى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته.(4/327)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
سورة الحاقّة
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
الْحَاقَّةُ: القيامة. قال الفراء: إنما قيل لها: حاقة، لأن فيها حواق الأمور. وقال الزجاج: إنما سميت الحاقة، لأنها تحق كل إنسان بعمله من خير وشرّ.
قوله عزّ وجلّ: مَا الْحَاقَّةُ هذا استفهام، معناه التفخيم لشأنها، كما تقول: زيد، ما زيد؟ على التعظيم لشأنه. ثم زاد في التهويل بأمرها، فقال عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي: لأنك لم تعاينها، ولم تدر ما فيها من الأهوال. ثم أخبر عن المكذّبين بها، فقال عزّ وجلّ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ قال ابن عباس: القارعة: اسم من أسماء يوم القيامة. قال مقاتل: وإنما سميت بالقارعة، لأن الله تعالى يقرع أعداءه بالعذاب. وقال ابن قتيبة: القارعة: القيامة لأنها تقرع، يقال: أصابتهم قوارع الدهر. وقال الزجاج: لأنها تقرع بالأهوال. وقال غيرهم: لأنها تقرع القلوب بالفزع.
فأما بِالطَّاغِيَةِ ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها طغيانهم وكفرهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وأبو عبيدة وابن قتيبة. قال الزجاج: ومعنى الطاغية عند أهل اللغة: طغيانهم. و «فاعلة» قد يأتي بمعنى المصادر، نحو عاقبة، وعافية. والثاني: بالصيحة الطاغية، قاله قتادة. وذلك أنها جاوزت مقدار الصياح، فأهلكتهم. والثالث: أن الطاغية: عاقر الناقة، قاله ابن زيد. والريح الصرصر قد فسرناها في حم السجدة «1» . والعاتية: التي جاوزت المقدار. وجاء في التفسير أنها عَتَتْ على خُزَّانها يومئذ، فلم يكن لهم عليها سبيل.
__________
(1) فصلت: 16.(4/328)
قوله عزّ وجلّ: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ أي أرسلها وسلَّطها. والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار.
وفي قوله عزّ وجلّ: حُسُوماً ثلاثة أقوال «1» : أحدها: تباعاً، قاله ابن عباس. قال الفراء:
الحسوم: التِّباع، يقال في الشيء إذا تتابع فلم ينقطع أوله عن آخره: حسوم. وإِنما أُخِذَ- والله أعلم- من حَسْمِ الدَّاءِ: إذا كُوي صاحبُه، لأنه يحمى ثم يكوى، ثم يتابع الكي عليه. والثاني: كاملة، قاله الضحاك. فيكون المعنى: أنها حسمت الليالي والأيام فاستوفتها على الكمال، لأنها ظهرت مع طلوع الشمس، وذهبت مع غروبها. قال مقاتل: هاجت الريح غُدْوَةً، وسكنت بالعَشِيِّ في اليوم الثامن، وقبضت أرواحهم في ذلك اليوم، ثم بعث الله طيراً أسود فالتقطهم حتى ألقاهم في البحر. والثالث: أنها حسمتهم، فلم تبق منهم أحداً، أي: أذهبتهم وأفنتهم، هذا قول ابن زيد، قال الزّجّاج: وهذا هو الذي توجبه اللغة.
قوله عزّ وجلّ: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها أي: في تلك الليالي والأيام صَرْعى وهو جمع صريع، لأنهم صرعوا بموتهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ أي: أصول نخل خاوِيَةٍ أي: بالية. وقد بيَّنَّا هذا في سورة القمر «2» .
قوله عزّ وجلّ: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من بقاءٍ، قاله الفراء. والثاني:
من بقية، قاله أبو عبيدة. قال: وهو مصدر كالطاغية. والثالث: هل ترى لهم من أثر؟ قاله ابن قتيبة، قوله: وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ قرأ أبو عمرو، ويعقوب، والكسائي، وأبان: بكسر القاف، وفتح الباء.
والباقون: بفتح القاف، وإسكان الباء. فمن كسر القاف أراد به: من يليه ويَحفّ به من جنوده وأتباعه.
ومن فتحها أراد من كان قبله من الأمم الكافرة. وفي «المؤتفكات» ثلاثة أقوال: أحدها: قرى قوم لوط.
والمعنى: وأهل المؤتفكات، قاله الأكثرون. والثاني: أنهم الذين ائتفكوا بذنوبهم، أي: هلكوا بالذّنوب التي أعظمها الإفك، وهو الكذب، قاله الزجاج. والثالث: أنه قارون وقومه، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: بِالْخاطِئَةِ قال ابن قتيبة: أي: بالذنوب، وقال الزجاج: الخاطئة: الخطأ العظيم فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي: كذَّبوا رسلهم فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً أي: زائدة على الأخذات، قوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي: تجاوز حدَّه حتى علا على كل شيء في زمن نوح حَمَلْناكُمْ يعني: حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم فِي الْجارِيَةِ وهي: السفينة التي تجري في الماء لِنَجْعَلَها
أي: لنجعل تلك الفَعْلةَ التي فعلنا من إغراق قوم نوح، ونجاة من حملنا معه تَذْكِرَةً
أي: عبرةً، وموعظةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
أي
__________
(1) قال الزمخشري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602- 603: قوله تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. والصرصر: الشديدة الصوت لها صرصرة. وقيل الباردة من الصرّ، كأنها التي كرر فيها البرد وكثر: فهي تحرق لشدة بردها عاتِيَةٍ شديدة العصف والعتو استعارة، أو عتت على عاد، فما قدروا على ردّها بحيلة، من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء في حفرة. فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم والحسوم لا يخلو من أن يكون حاسم كشهود وقعود أو مصدرا كالشكور والكفور، فإن كان جمعا فمعنى قوله: حُسُوماً نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة، أو متتابعة هبوب الرياح: ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء.
وتحسم حسوما: تستأصل استئصالا.
(2) القمر: 20.(4/329)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
أذن واعية أي أُذُنٌ تحفظُ ما سمعَتْ، وتعمل به. وقال الفراء: لتحفظها كل أُذُن، فتكون عظة لمن يأتي بعده.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 37]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32)
إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وفيها قولان: أحدهما: أنها النفخة الأولى، قاله عطاء. والثاني: الأخيرة، قاله ابن السّائب، ومقاتل. قوله: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي: حملت الأرض والجبال وما فيها فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أي: كسرتا، ودقَّتا دقَّةً واحدة، لا يثنى عليها حتى تستوي بما عليها من شيءٍ، فتصير كالأديم الممدود. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في الأعراف عند قوله عزّ وجلّ:
جَعَلَهُ دَكًّا «1» . قال الفراء: وإنما قال: فدكتا، ولم يَقُل: فَدُكِكْنَ، لأنه جعل الجبال كالشيء الواحد، كقوله عزّ وجلّ: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً «2» وانشدوا:
هُمَا سَيِّدَانَا يَزْعُمانِ وَإنَّما ... يَسُودَانِنَا أَنْ يَسَّرَتْ غَنَماهُما «3»
والعرب تقول: قد يسرت الغنم: إذا ولدت، أو تهيّأت للولادة.
قوله عزّ وجلّ: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي: قامت القيامة وَانْشَقَّتِ السَّماءُ لنزول من فيها من الملائكة فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ فيه قولان: أحدهما: أن وَهْيَها: ضَعْفُها وتمزُّقْها من الخوف، قاله مقاتل.
والثاني: أنه تشققها، قاله الفراء: وَالْمَلَكُ يعني: الملائكة، فهو اسم جنس عَلى أَرْجائِها أي: على جوانبها. قال الزجاج: ورجاء كل شيء: ناحيته، مقصور. والتثنية: رجوان، والجمع: أرجاء. وأكثر المفسرين على أن المشار إليها السماء. قال الضحاك: إذا انشقت السماء كانت الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الله تعالى، فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بها، ومن عليها. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: على أرجاء الدنيا.
قوله عز وجل: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ فيه ثلاثة أقوال «4» : أحدها: فوق رؤوسهم، أي: العرش
__________
(1) الأعراف: 143.
(2) الأنبياء: 30.
(3) البيت لأبي أسيدة الدبيري، كما في «اللسان» يسبر-.
(4) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 489: أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش، العرش العظيم، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب اه.(4/330)
على رؤوس الحَمَلة، قاله مقاتل. والثاني: فوق الذين على أرجائها، أي: أن حملة العرش فوق الملائكة الذين هم على أرجائها. والثالث: أنهم فوق أهل القيامة، حكاهما الماوردي، يَوْمَئِذٍ أي:
يوم القيامة ثَمانِيَةٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ثمانية أملاك.
(1483) وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله بأربعة أملاك آخرين، وهذا قول الجمهور.
والثاني: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدّتهم إلا الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، وابن جبير، وعكرمة. والثالث: ثمانية أجزاء من الكروبيين لا يعلم عددهم إلا الله عزّ وجلّ، قاله مقاتل.
(1484) وقد روى أبو داود في «سننه» من حديث جابر بن عبد الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن مَلَك من ملائكة الله من حملة العرش، أن ما بين شحمة أُذُنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» .
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ على الله لحسابكم لا تَخْفى عليه. قرأ حمزة، والكسائي: «لا يخفى» بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. والمعنى: لا يخفى عليه مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي: نفس خافية، أو فَعْلَة خافية.
(1485) وفي حديث أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال، ومعاذير، وأما الثالثة، فعندها تتطاير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله، وكان عمر بن الخطاب يقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ لا تخفى منكم خافية. قوله: فَيَقُولُ هاؤُمُ قال الزّجّاج: «هاؤم» أمر للجماعة بمنزلة هاكم. تقول للواحد: ها يا رجل، وللاثنين: هاؤما يا رجلان. وللثلاثة: هاؤم يا رجال. قال المفسرون: إنما يقول هذا ثقة بسلامته وسروراً بنجاته. وذكر مقاتل أنها نزلت في أبي
__________
ضعيف. أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» 148 والطبري 34793 من طريق محمد بن إسحاق قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... فذكره. وهذا معضل. وأخرجه البيهقي في «البعث والنشور» 669 والطبراني في «المطوّلات» 360 من حديث أبي هريرة في أثناء حديث الصور الطويل. وفي إسناده إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، قال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء اه.
حسن. أخرجه أبو داود 4727 وابن طهمان في «مشيخته» 238/ 2 من حديث جابر، وإسناده حسن لأجل إبراهيم بن طهمان، فهو وإن روى له البخاري ومسلم، فقد تكلم فيه غير واحد. لكن لأصله شواهد.
انظر «الصحيحة» 151.
ضعيف. أخرجه أحمد 4/ 414 وابن ماجة 4277 والطبري 34795 عن الحسن عن أبي موسى، وإسناده ضعيف لانقطاعه بينهما، وأخرجه الترمذي 2425 عن الحسن عن أبي هريرة، وهذا منقطع أيضا، الحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئا. وورد عن قتادة مرسلا. أخرجه الطبري 34797، وهذا ضعيف أيضا، فإن عامة مراسيل قتادة إنما هي عن الحسن، فالحديث مداره على الحسن، ولم تتعدد مخارجه، فهو ضعيف والراجح فيه الوقف، والله أعلم. وقد أخرجه الطبري وغيره من قول ابن مسعود غير مرفوع، وهو أصح والله أعلم.
وانظر «تفسير الشوكاني» 2580 بتخريجنا.(4/331)
سلمة بن عبد الأسد «1» .
قوله عزّ وجلّ: إِنِّي ظَنَنْتُ أي: علمت وأيقنت في الدنيا أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي: أبعث، وأحاسب في الآخرة فَهُوَ فِي عِيشَةٍ أي: في حالة من العيش راضِيَةٍ قال الفراء: أي: فيها الرضى.
وقال الزجاج: أي: ذات رضىً يرضاها من يعيش فيها. وقال أبو عبيدة: مجازها مجاز مرضيّة، قوله:
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أي: عالية المنازل قُطُوفُها أي: ثمارها دانِيَةٌ أي: قريبة ممن يتناولها، وهي جمع قطف. والقطف: ما يقطف من الثمار. قال البراء بن عازب: يتناول الرجل الثمرة وهو نائم.
قوله عزّ وجلّ: كُلُوا أي: يقال لهم: كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ أي: قَدَّمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية، وهي أيام الدنيا. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ قال مقاتل: نزلت في الأسود بن عبد الأسد، قتله حمزة ببدر، وهو أخو أبي سلمة. وقيل: نزلت في أبي جهل «2» .
قوله عزّ وجلّ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وذلك لما يرى فيه من القبائح وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب، إنما كلُّه عليه. وكان ابن مسعود، وقتادة، ويعقوب، يحذفون الهاء من «كتابيه» ، و «حسابيه» في الوصل. قال الزّجّاج: والوجه أن يوقف على هذه الهاءات، ولا توصل، لأنها أدخلت للوقف. وقد حذفها قوم في الأصل، ولا أُحبُّ مخالفة المصحف، وكذلك قوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ «3» .
قوله عزّ وجلّ: يا لَيْتَها يعني: الموتة التي ماتها في الدنيا كانَتِ الْقاضِيَةَ أي: القاطعة للحياة، فكأنه تمنَّى دوام الموت، وأنه لم يُبْعَثْ للحساب.
قوله هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ فيه قولان: أحدهما: ضلَّت عني حجتي، قاله مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والسدي. والثاني: زال عني ملكي، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: خُذُوهُ أي: يقول الله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ أي: اجمعوا يده إلى عنقه ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي: أدخلوه النار. وقال الزجاج: اجعلوه يصلى النّار. قوله: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ وهي: حَلَقٌ منتظمة ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً وقال ابن عباس: بذراع المَلَك. وقال نوفٌ الشامي: كل ذراع سبعون باعاً، الباع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعاً. وقال مقاتل: ذرعها سبعون ذراعاً بالذراع الأول. ويقال: إن جميع أهل النار في تلك السلسلة.
قوله عزّ وجلّ: فَاسْلُكُوهُ أي: أدخلوه. قال الفراء: وذكر أنها تدخل في دبر الكافر فتخرج من رأسه، فذلك سلكه فيها. والمعنى: ثم اسلكوا فيه السلسلة، ولكن العرب تقول: أدخلت رأسي في القلنسوة، وأدخلتها في رأسي. ويقال: الخاتم لا يدخل في يدي، وإنما اليد تدخل في الخاتم، وإنما استجازوا ذلك، لأن معناه معروف.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ أي: لا يصدّق بوحدانيته وعظمته
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، ليس بشيء. [.....]
(2) الصحيح عموم الآية في كل من يؤتى كتابه بشماله.
(3) القارعة: 10.(4/332)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي: لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي: قريب ينفعه، أي: يشفع له وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ في ثلاثة أقوال: أحدها: أنه صديد أهل النار، قاله ابن عباس. قال مقاتل: إِذا سال القيح، والدم، بادروا أكله قبل أن تأكله النار. والثاني: شجر يأكله أهل النار، قاله الضحاك، والربيع. والثالث: أنه غُسَالَةُ أجوافهم، قاله يحيى بن سلام. قال ابن قتيبة: وهو «فعلين» من «غسلت» كأنه غسالة.
قوله عزّ وجلّ: إِلَّا الْخاطِؤُنَ يعني: الكافرين.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 43]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ «لا» ردٌّ لكلام المشركين، كأنه قيل: ليس الأمر كما يقول المشركون أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ وقال قوم: «لا» زائدة مؤكدة والمعنى: أقسم بما ترون، وما لا ترون، فأراد جميع الموجودات. وقيل: الأجسام والأرواح إِنَّهُ يعني: القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ فيه قولان: أحدهما: محمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله الأكثرون. والثاني: جبريل، قاله ابن السائب، ومقاتل.
قال ابن قتيبة: لم يرد أنه قول الرسول، وإِنما أراد أنه قول الرسول عن الله تعالى، وفي الرسول ما يدل على ذلك، فاكتفى به من أن يقول عن الله، قوله: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وقرأ ابن كثير:
«يؤمنون» و «يَذَكَّرون» بالياء فيهما. قال الزجاج: «ما» مؤكدة، وهي لغو في باب الإعراب. والمعنى: قليلاً تؤمنون. وقال غيره: أراد نفي إيمانهم أصلاً. وقد بيَّنَّا معنى «الكاهن» في الطور «1» قال الزجاج: وقوله عزّ وجلّ: «تنزيل» مرفوع ب «هو» مضمرة يدل عليها قوله عزّ وجلّ: «وما هو بقول شاعر» هو تنزيل.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 44 الى 52]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا أي: لو تكلَّف محمد أن يقول علينا ما لم نقله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي: لأخذناه بالقوة والقدرة، قاله الفراء، والمبرد، والزجاج. قال ابن قتيبة: إنما أقام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في ميامنه.
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه. قال أبو عبيدة: الوتين: نياط القلب، وأنشد الشَّمَّاخ:
إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ فَاشْرَقِي بِدَمِ الوَتينِ
وقال الزجاج: الوتين: عرق أبيض غليظ كأنه قصبة.
قوله عزّ وجلّ: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أي: ليس منكم أحد يحجزنا عنه، وإنما قال تعالى: حاجِزِينَ لأن أحداً يقع على الجمع، كقوله عزّ وجلّ: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «2» ،
__________
(1) الطور: 29.
(2) البقرة: 285.(4/333)
هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، والزجاج. ومعنى الكلام: لا يتكلَّف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلَّف ذلك لعاقبناه، ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه وَإِنَّهُ يعني: القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ في يوم القيامة. يندمون إذا لم يؤمنوا به وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ إضافة إلى نفسه لاختلاف اللفظين، كقوله عزّ وجلّ: وَلَدارُ الْآخِرَةِ «1» . وقال الزجاج: المعنى: وإنه لليقين حق اليقين، وقد شرحنا هذا المعنى، وما بعدها في الواقعة «2» .
__________
(1) يوسف: 109.
(2) الواقعة: 95- 96.(4/334)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
سورة المعارج
ويقال لها: سورة سأل سائل، ويقال لها: سورة الواقع. وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
قوله عزّ وجلّ: سَأَلَ سائِلٌ، قال المفسرون:
(1486) نزلت في النضر بن الحارث حين قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» ، وهذا مذهب الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد. وقال الربيع بن أنس: هو أبو جهل. قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر: «سال» بغير همز. والباقون: بالهمز. فمن قرأ:
«سأل» بالهمز ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: دَعَا دَاعٍ على نفسه بعذابٍ واقعٍ. والثاني: سأل سائل عن عذابٍ واقعٍ لمن هو؟ وعلى من يَنْزِل؟ ومتى يكون؟ وذلك على سبيل الاستهزاء، فتكون الباء بمعنى «عن» ، وأنشدوا:
فَإنْ تَسْأَلُوني بالنّساء فإنّني ... خبير بأدواء النّساء طبيب «2»
__________
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 640 عن ابن عباس وإسناده على شرط البخاري، فيه المنهال صدوق ربما وهم وقد أخرجه له البخاري. وأخرجه الحاكم 2/ 502 عن الأعمش عن سعيد بن جبير قوله، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورمز له الذهبي في «التلخيص» أنه على شرط البخاري وزاد السيوطي نسبته في «الدر» 6/ 415 للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. وتقدم في الأنفال.
__________
(1) الأنفال: 32.
(2) البيت لعلقمة بن عبدة، وهو في ديوانه 11 و «أدب الكاتب» 505.(4/335)
والثالث: سأل سائل عذاباً واقعاً، والباء زائدة.
ومن قرأ بلا همز ففيه قولان: أحدهما: أنه من السؤال أيضاً، وإنما لَيَّن الهمزة، يقال: سأل، وسال، وأنشد الفراء:
تَعَالَوْا فَسَالُوا يَعْلمِ النَّاسُ أَيُّنَا ... لِصَاحِبِهِ في أَوَّلِ الدَّهْرِ نافع
والثاني: المعنى: سال وادٍ في جهنم بالعذاب للكافرين، وهذا قول زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن. وكان ابن عباس في آخرين يقرءون «سَالَ سَيْلٌ» بفتح السين، وسكون الياء من غير ألف ولا همز. وإذا قلنا: إنه من السؤال، فقوله عزّ وجلّ: «للكافرين» جواب للسؤال، كأنه لما سأل: لمن هذا العذاب؟ قيل: للكافرين. والواقع: الكائن. والمعنى: أنّ العذاب الذي سأله هذا الكافر كائن لا محالة في الآخرة لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ قال الزجاج: المعنى: ذلك العذاب واقع من الله للكافرين.
قوله عزّ وجلّ: ذِي الْمَعارِجِ فيه قولان: أحدهما: أنها السموات، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: هي معارج الملائكة. قال ابن قتيبة: وأصل «المعارج» الدَّرَج، وهي من عَرَجَ: إِذا صَعِدَ. قال الفراء: لما كانت الملائكة تَعْرُج إليه، وصف نفسه بذلك. قال الخطابي: المعارج: الدَّرَج، واحدها:
مَعْرَجٌ، وهو المَصْعَدُ، فهو الذي يُصْعَدُ إِليه بأعمال العباد، وبأرواح المؤمنين. فالمعارج: الطّرائق أي يُصْعَدُ فيها. والثاني: أن المَعَارِجَ: الفَوَاضِلُ والنِّعم، قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ قرأ الكسائي: «يَعْرُج» بالياء. والروحُ وفي «الرّوح» قولان:
أحدهما: أنه جبريل، قاله الأكثرون. والثاني: أنه روُح الميِّت حين تُقْبَضُ، قاله قبيصة بن ذؤيب.
قوله عزّ وجلّ: إِلَيْهِ أي: إلى الله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فيه قولان:
أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والقرظي، وهذا هو مقدار يوم القيامة من وقت البعث إِلى أن يفصل بين الخلق.
(1487) وفي الحديث: «إنه لَيُخفَّفُ على المؤمِن حتى يكون أَخَفَّ عليه من صلاة مكتوبة» .
وقيل: بل لو ولي حساب الخلق سوى الله عزّ وجلّ لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة، والحقُّ يفرغ منه في ساعة من نهار. وقال عطاء: يفرغ الله من حساب الخلق في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا. فعلى هذا يكون المعنى: ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وقيل: المعنى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ في يوم كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير.
والثاني: أنه مقدار صعود الملائكة من أسفل الأرض إلى العرش لو صعده غيرهم قطعه في
__________
حسن بشاهده ورد من حديث أبي سعيد. أخرجه أحمد 3/ 75 وأبو يعلى 1390 من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج به وإسناده ضعيف، ابن لهيعة ودراج ضعيفان. وأخرجه الطبري 34867 وابن حبان 7334 من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن درّاج به، وقد توبع ابن لهيعة هاهنا فانحصرت العلة في دراج. وله شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه ابن حبان 7333 وأبو يعلى 6025 وإسناده على شرط البخاري ومسلم، وهو صحيح إن كان سمعه يحيى بن أبي كثير من أبي سلمة، فهو وإن روى عنه، فإنه كثير الإرسال أيضا، وبكل حال الحديث حسن.(4/336)
خمسين ألف سنة، وهذا معنى قول مجاهد.
قوله عزّ وجلّ: فَاصْبِرْ أي: اصبر على تكذيبهم إياك صَبْراً جَمِيلًا لا جزع فيه، وهذا قبل أن يُؤْمَرَ بقتالهم، ثم نسخ بآية السيف، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ يعني: العذاب بَعِيداً غير كائن وَنَراهُ قَرِيباً كائناً، لأن كل ما هو آتٍ قريب. ثم أخبر متى يكون فقال عزّ وجلّ: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وقد شرحناه في الكهف «1» وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أي: كالصوف، فَشَبَّهها في ضَعْفها ولِينِها بالصوف. وقيل: شبَّهها به في خِفَّتِها وسَيْرِها، لأنه قد نقل أنها تسير على صورها، وهي كالهباء. قال الزجاج: «العهن» الصوف.
واحدته: عِهْنَةٌ، ويقال: عُهْنَةٌ، وعُهْنٌ، مثل: صُوفَةٍ، وصُوفٍ. وقال ابن قتيبة: «العِهْنُ» الصّوف المصبوغ.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) قرأ الأكثرون: «يسأل» بفتح الياء. والمعنى: لا يسأل قريب عن قرابته، لاشتغاله بنفسه. وقال مقاتل: لا يسأل الرجل عن قرابته، ولا يكلِّمه من شدة الأهوال. وقرأ معاوية، وأبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر بضم الياء. والمعنى: لا يقال للحميم: أين حميمك؟
قوله عزّ وجلّ: يُبَصَّرُونَهُمْ أي: يُعَرَّفُ الحميم حميمَه حتى يَعْرِفَه، وهو مع ذلك لا يسأل عن شأنه، ولا يكلِّمه اشتغالاً بنفسه. يقال: بَصَّرْتُ زيداً كذا: إذا عَرَّفْتَهُ إيَّاه. قال ابن قتيبة: معنى الآية: لا يَسْأَلُ ذو قرابة عن قرابته، ولكنهم يُبَصَّرُونَهم، أي: يُعَرَّفُونَهم. وقرأ قتادة، وأبو المتوكل، وأبو عمران «يُبْصِرُونَهم» بإسكان الباء، وتخفيف الصاد، وكسرها.
قوله عزّ وجلّ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ يعني: يتمنَّى المشرك لو قُبِلَ منه هذا الفداءُ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وهي الزوجة وَفَصِيلَتِهِ قال ابن قتيبة: أي: عشيرته. وقال الزجاج: هي أدنى قبيلته منه.
ومعنى تُؤْوِيهِ تضمه، فيودُّ أن يفتديَ بهذه المذكورات ثُمَّ يُنْجِيهِ من ذلك الفداء كَلَّا لا ينجيه ذلك إِنَّها لَظى قال الفراء هو اسم من أسماء جهنّم فلذلك لم يجر لها ذكر «2» ، وقال غيره: معناها في اللغة: اللهب الخالص، وقال ابن الأنباري: سميت لظى لشدة تَوَقُّدِها وتلهُّبِها، يقال: هو يتلظَّى، أي:
يتلهَّب ويتوقَّد. وكذلك النار تتلظّى يراد به هذا المعنى. وأنشدوا:
جَحِيماً تَلَظَّى لا تَفْتَّرُ سَاعَةً ... ولا الحَرُّ مِنْها غَابِرَ الدَّهْرِ يَبْرُدُ
نَزَّاعَةً لِلشَّوى قرأ الجمهور «نَزَّاعةٌ للشوى» بالرفع على معنى: هي نزَّاعة. وقرأ عمر بن الخطّاب، وأبو رزين، وابن عبد الرحمن، ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي عبلة، وحفص عن عاصم «نَزَّاعةً» بالنصب. قال الزجاج: وهذا على أنها حال مؤكدة، كما قال تعالى: هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً ويجوز أن ينصب على معنى «إنها تتلظى نزاعة» . وفي المراد ب الشَّوى أربعة أقوال: أحدها: جلدة الرأس، قاله مجاهد. والثاني: محاسن الوجه، قاله الحسن، وأبو العالية. والثالث: العصب، والعقب، قاله ابن جبير. والرابع: الأطراف: اليدان، والرّجلان، والرأس، قاله الفرّاء، والزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عن الإيمان وَتَوَلَّى عن الحق. قال المفسّرون: تقول: إليّ يا
__________
(1) الكهف: 29.
(2) فاطر: 31.(4/337)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
مشرك، إِليّ يا منافق وَجَمَعَ فَأَوْعى قال الفراء: أي جمع المال في وعاءٍ فلم يؤدِّ منه زكاةً، ولم يصل منه رحماً.
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 44]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً قال مقاتل: عنى به أُميَّة بن خلف الجُمَحي «1» . وفي الهَلوع سبعة أقوال: أحدها: أنه الموصوف بما يلي هذه الآية، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة، والزجاج. والثاني: أنه الحريص على ما لا يحلُّ له، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث:
البخيل، قاله الحسن، والضحاك. والرابع: الشحيح، قاله ابن جبير. والخامس: الشَّرِه، قاله مجاهد.
والسادس: الضَّجُور، قاله عكرمه، وقتادة، ومقاتل، والفراء. والسابع: الشديد الجزع، قاله ابن قتيبة.
قوله عزّ وجلّ: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي: إذا أصابه الفقر جَزُوعاً لا يصبر، ولا يحتسب وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ أصابه المال مَنُوعاً يمنعه من حق الله إِلَّا الْمُصَلِّينَ وهم أهل الإيمان بالله. وإنما استثنى الجمع من الإنسان، لأنه اسم جنس الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الذين يحافظون على المكتوبات، وهو معنى قول ابن مسعود. والثاني: أنهم لا يلتفتون عن أيمانهم وشمائلهم في الصلاة، قاله عقبة بن عامر، واختاره الزجاج. قال: ويكون اشتقاقه من الدائم، وهو الساكن، كما جاء في الحديث أنه:
__________
(1) الصحيح عموم الآية، ولفظ «آل» في «الإنسان» لاستغراق الجنس. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 251: قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً يعني الكافر، عن الضحاك، والهلع في اللغة: أشد الحرص، وأسوأ الجزع وأفحشه والمعنى: أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي. وقال صلّى الله عليه وسلم: «شرّ ما أعطي العبد شحّ هالع وجبن خالع» اه. قلت: حسن. أخرجه أبو داود 2511 والبخاري في «التاريخ» 6/ 8- 9 وابن حبان 3250 وأبو نعيم 9/ 50 وأحمد 2/ 302 و 320 من حديث أبي هريرة وإسناده حسن فيه عبد العزيز بن مروان، وهو صدوق، والحديث جوّده العراقي في «الإحياء» 3/ 253.(4/338)
(1488) نهى عن البول في الماء الدائم.
والثالث: أنهم الذين يكثرون فعل التطوع، قاله ابن جبير. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ قد سبق شرح هذه الآية والتي بعدها في الذاريات «1» وبينا معنى «يوم الدين» في «الفاتحة» . وما بعد هذا قد شرحناه في المؤمنين «2» إلى قوله عزّ وجلّ: «لأماناتهم» قرأ ابن كثير وحده: «لأمانتهم» وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «بشهادتهم» على التوحيد. وقرأ حفص عن عاصم: «بشهاداتهم» جمعا، قائِمُونَ أي: يقيمون فيها بالحق ولا يكتمونها، فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ.
(1489) نزلت في جماعة من الكفار جلسوا حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستهزئون بالقرآن، ويكذِّبون به. قال الزجاج: والمُهْطِع: المُقْبِلُ ببَصَره على الشيء لا يُزَايِلُه، وكانوا ينظرون إلى النبيّ نظرة عداوة.
وقد سبق الخلاف في قوله تعالى: مُهْطِعِينَ «3» .
قوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ. قال الفرّاء: العزون: الحلق، الخلق الجماعات، واحدتها:
عِزَةٌ.
(1490) وكانوا يجتمعون حول النبي صلّى الله عليه وسلم يقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة، كما يقول محمد، فلندخلنَّها قبلهم، فنزل قوله تعالى: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ وقرأ ابن مسعود، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش، والمفضل عن عاصم «أن يَدْخُلَ» بفتح الياء، وضم الخاء.
وقال أبو عبيدة: عِزِين جمع عِزَة، مثل ثُبَة، وثُبِين، فهي جماعات في تفرقة.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: لا يكون ذلك إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ فيه قولان:
أحدهما: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فالمعنى: لا يستوجب الجنة أحد بما يَدَّعيه من الشرف على غيره، إذ الأصل واحد، وإِنما يستوجبها بالطاعة.
والثاني: إنا خلقناهم من أقذار. فبما يستحقون الجنة ولم يؤمنوا؟! (1491) وقد روى بشر بن جحّاش عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «أنه تلا هذه الآية إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ثم
__________
صحيح. أخرجه البخاري 239 ومسلم 282 وأبو داود 69 والترمذي 68 والنسائي 1/ 49 وأحمد 2/ 346 من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح القدير» 1/ 83 للكمال ابن الهمام بتخريجي.
صحيح. أخرجه البخاري 239 ومسلم 282 وأبو داود 69 والترمذي 68 والنسائي 1/ 49 وأحمد 2/ 346 من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح القدير» 1/ 83 للكمال ابن الهمام بتخريجي.
انظر الحديث الآتي.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 840 بدون سند، ولم يعزه لأحد إنما ذكره نقلا عن المفسرين، فهو واه، ليس بشيء.
ضعيف، أخرجه البيهقي في «الشعب» 3473 عن جعفر بن محمد الفريابي ثنا صفوان ثنا الوليد بن مسلم، ثنا جرير بن عثمان الرحبي عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بشر بن جحاش قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم وبصق يوما ... فذكره» رجاله ثقات سوى عبد الرحمن بن ميسرة، فقد وثقه العجلي وابن حبان على قاعدتهما في توثيق المجاهيل، وقال علي المديني: مجهول، والقول قول ابن المديني، فإنه إمام هذا الشأن.
قلت: ولفظ «بصق في كفه» غريب، بل هو منكر، وراويه لا يحتمل التفرد بمثل هذا. وأخرجه ابن ماجة-
__________
(1) الذاريات: 19.
(2) المؤمنون: 7- 8.
(3) إبراهيم: 43، والقمر: 8. [.....](4/339)
بزق، وقال: يقول الله عزّ وجلّ: أنَّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟! حتى إذا سَوَّيتُك، وعَدَّلتُك، مَشَيْتَ بين بُرْدَيْنِ، وللأرض منك وئيد، فجمعتَ، ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي قلت:
أتَصدَّقُ، وأنَّى أوان الصدقة؟!» .
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ قد تكلمنا عليه في الحاقة «1» والمراد بالمشارق، والمغارب:
مشرق كل يوم ومغربُه، إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي: نَخْلُقَ أَمْثَلَ منهم، وأَطْوَعَ لله حين عَصَوْا وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ مفسر في الواقعة «2» فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا أي: يلهوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا وقرأ ابن محيصن «يَلْقَوْا يومَهم الذي يوعدون» وهو يوم القيامة. وهذا لفظ أمر، معناه الوعيد. وذكر المفسرون أنه منسوخ بآية السيف. وإذا قلنا: إنه وعيد بلقاء يوم القيامة، فلا وجه للنسخ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً أي: يخرجون بسرعة كأنهم يَسْتَبِقُون.
قوله عزّ وجلّ: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ قرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم بضمّ النون والصاد. قال ابن جرير: وهو واحد الأنصاب، وهي آلهتهم التي كانوا يعبدونها. فعلى هذا يكون المعنى: كأنهم إلى آلهتهم التي كانوا يعبدونها يُسرعون. وقرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي بفتح النون وسكون الصاد، وهي في معنى القراءة الأولى، إلا أنه مصدر. كقول القائل: نصبت الشيء أنصبه نصباً. قال قتادة: معناه: كأنهم إلى شيء منصوب يسرعون. وقال ابن جرير: تأويله: كأنهم إِلى صنم منصوب يُسْرِعُون. وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، والنخعي «نُصْب» برفع النون، وإسكان الصاد.
وقرأ الحسن، وأبو عثمان النَّهدي، وعاصم الجحدري «إلى نَصَبٍ» بفتح النون والصاد جميعاً. قال ابن قتيبة: النصب: حجر يُنْصَبُ أو صنم، يقال: نَصْب، ونُصْب، ونُصُب. وقال الفراء: النَّصْب والنُّصْبُ واحد، وهو مصدر، والجمع: الأنصاب. وقال الزجاج: النَّصْب، والنُّصُب: العلم المنصوب. قال الفراء: والإيفاض: الإسراع.
قوله عزّ وجلّ: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ قرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعمرو بن دينار «ذِلَّةُ ذلك اليومِ» بغير تنوين، وبخفض الميم. وباقي السّورة قد تقدّم بيانه «3» .
__________
2707 وأحمد 4/ 210 والطبراني 1193 من طرق عن حريز بن عثمان به. وأخرجه الطبراني 1194 من طريق ثور بن يزيد الرحبي عن عبد الرحمن بن ميسرة به. وقال البوصيري في «الزوائد» إسناده صحيح؟! واضطرب الألباني فحسن إسناده في «الصحيحة» 1099 في حين صححه برقم 1143؟!! وما تمسك به الألباني قول أبي داود: شيوخ حريز كلهم ثقات، وفيما قاله نظر، فابن المديني نص على الرجل بعينه في حين عبارة أبي داود عامة، على أن علي المديني أثبت وأعلم في الرجال من أبي داود، وقاعدة أبي داود فيها نظر، فإن شعبة أثبت من حريز، وهو مع تعنته في الرجال روى عن ضعفاء ومثل هذا كثير.
__________
(1) الحاقة: 38.
(2) الواقعة: 60.
(3) المعارج: 42.(4/340)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
سورة نوح
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قوله تعالى: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أي: بأن أنذر قومك. و «العذاب الأليم» : الغَرَق.
قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وعلي بن نصر عن أبي عمرو «أنُ اعبدوا الله» بضم النون. وقرأ عاصم، وحمزة، وعبد الوارث عن أبي عمرو «أنِ اعبدوا الله» ، بكسر النون. قال أبو عليّ: من ضمّ كره الكسرة قبل الضمّة.
قوله عزّ وجلّ: وَأَطِيعُونِ أثبت الياء في الحالين يعقوب.
قوله عزّ وجلّ: مِنْ ذُنُوبِكُمْ «مِن» هاهنا صلة. والمعنى: يغفر لكم ذنوبَكم، قاله السدي ومقاتل. وقال الزجاج: إنما دخلت «من» هاهنا لتختص الذنوب من سائر الأشياء. ولم تدخل لتبعيض الذنوب، ومثله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» وذهب بعض أهل المعاني إلى أنها للتبعيض.
والمعنى يغفر لكم من ذنوبكم إلى وقت الإيمان وَيُؤَخِّرْكُمْ أي: عن العذاب إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو منتهى آجالهم. والمعنى: فتموتوا عند منتهى آجالكم غير مِيتة المعذَّبين إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه أجل الموت، قاله مجاهد. فيكون المعنى: إن أجل الله الذي أَجَّلكم إِليه لا يُؤَخَّرُ إذا جاءَ، فلا يمكنكم حينئذ الإيمان. والثاني: أنه أجل البعث، قاله الحسن. والثالث: أجل
__________
(1) الحج: 30.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 501: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: يمدّ في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تنزجروا عما نهاكم عنه أوقعه بكم وقد يستدل بهذه الآية من يقول: إن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة، كما ورد به الحديث: «صلة الرحم تزيد في العمر» وقوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة، فإنه إذا أمر الله تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع، فإنه العظيم الذي قهر كل شيء، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.(4/341)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
العذاب، قاله السّدّيّ ومقاتل.
[سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 24]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
قوله عزّ وجلّ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أي: تباعداً من الإيمان وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان والطاعة جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلا يسمعوا صوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي: غطوا بها وجوههم لئلا يَرَوْني وَأَصَرُّوا على كفرهم وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بك واتِّباعي ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أي: أعلنت لهم بالدعاء. قال ابن عباس: بأعلى صوتي ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ أي: كرَّرت الدعاء معلناً وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً قال ابن عباس: يريد أكلِّم الرجل بعد الرجل. في السِّرِّ، وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ قال المفسرون «1» : منع الله عنهم القطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فقال لهم نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك، أي: استدعوا مغفرته بالتوحيد يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً قد شرحناه في أول الأنعام «2» ومعنى الكلام أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة.
قوله عزّ وجلّ: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً فيه أربعة أقوال: أحدها: لا تَرَوْن لله عظمة، قاله ابن عباس. والثاني: لا تخافون لله عظمة، قاله الفراء وابن قتيبة. والثالث: لا تَرَوْن لله طاعة، قاله ابن زيد.
والرابع: لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد، قاله الزّجّاج.
قوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي: وقد جعل لكم في أنفسكم آيةً تدل على توحيده من خلقه إياكم من نطفة، ثم من علقة شيئاً بعد شيء إلى آخر الخلق. قال ابن الأنباري: الطَّوْر: الحال، وجمعه: أطوار.
وقال ابن فارس: الطَّوْر: التارة، طوراً بعد طور، أي: تارةً بعد تارة. وقيل: أراد بالأطوار: اختلاف
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 501: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أي ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب عليه. ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك، ولهذا قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي: متواصلة الأمطار. ولهذا يستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء، لأجل هذه الآية. وهذا مقام الدعوة بالترغيب.
(2) الأنعام: 6.(4/342)
المناظر والأخلاق، من طويل، وقصير، وغير ذلك، ثم قرّرهم، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة «طباقٍ» بتنوين القاف، وكسرها من غير ألف. وقد بيَّنَّا هذا في سورة الملك «1» .
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً فيه قولان «2» : أحدهما: أن وجهَ القمر قِبَل السموات، وظهرَه قِبَل الأرض، يضيء لأهل السموات، كما يضيء لأهل الأرض، وكذلك الشمس، هذا قول عبد الله بن عمر. والثاني: أن القمر في السماء الدنيا. وإنما قيل: «فيهن» لأنهن كالشيء الواحد، ذكره الأخفش والزجاج، وغيرهما. وهذا كما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيت بعضهم، وركبت في السّفن، قوله: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يستضيء بها العالم وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني: أن مبتدأ خلقكم من الأرض، وهو آدم نَباتاً قال الخليل: معناه: فنبتُّم نباتاً، وقال الزجاج: «نباتاً» محمول في المصدر على المعنى، لأنّ المعنى أنبتكم: جعلكم تنبتون نباتاً. قال ابن قتيبة: هذا مما جاء فيه المصدر على غير المصدر، لأنه جاء على نبت، ومثله وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «3» فجاء على «بَتَّل» .
قال الشاعر:
وَخَيْرُ الأَمْرِ ما استقبلت منه ... وليس بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّباعاً «4»
فجاء على اتَّبَعْتُ.
وقال الآخر:
وإن شئتم تعاودنا عواداً
فجاء على «عاودنا» ، وإنما تجيء المصادر مخالفة للأفعال، لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها، واحدة في المعنى.
قوله عزّ وجلّ: سُبُلًا فِجاجاً قال الفراء: هي الطرق الواسعة.
قوله عزّ وجلّ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم «ووَلَده» بفتح اللام والواو. وقرأ الباقون «وُلْده» بضم الواو، وسكون اللام. قال الزجاج: وهما بمعنى واحد، مثل العَرَب، والعُرْب، والعَجَم، والعُجْم. وقرأ الحسن، وأبو العالية، وابن يعمر، والجحدري:
«وَوِلْده» بكسر الواو، وإسكان اللام. قال المفسرون: المعنى: أن الأتباع، والفقراء اتّبعوا رأي الرؤساء والكبراء.
__________
(1) الملك: 3.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 502: المقصود أن الله سبحانه خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي فاوت بينهما في الاستنارة، فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدّر القمر منازل وبروجا وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر، ليدل على مضي الشهور والأعوام. كما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
(3) المزمل: 8.
(4) البيت للقطامي، وهو في ديوانه 35 و «اللسان» - تبع-.(4/343)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
قوله عزّ وجلّ: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وقرأ أبو رجاء، وأبو عمران: «كُبَارا» برفع الكاف، وتخفيف الباء. وقرأ أبو يعمر، وأبو الجوزاء، وابن محيصن «كِبَارا» بكسر الكاف مع تخفيف الباء والمعنى «كبيراً» يقال: كبير وكبار وكبار وقد شرحنا هذا في أول ص. ومعنى «المكر» : السعي في الفساد: وذلك أن الرؤساء منعوا أتباعهم عن الإيمان بنوح وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي: لا تَدَعُنَّ عبادتها وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا قرأ أبو جعفر، ونافع بضم الواو. والباقون بفتحها. وهذا الاسم وما بعده أسماء آلهتهم.
وجاء في التفسير أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح، فنشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صُوَرَهُمْ كان أنشط لكم، وأشوق للعبادة، ففعلوا. ثم نشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم وكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت. وسمّيت تلك الصورة بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صور أولئك القوم المسمّين بهذه الأسماء. وقيل: إنما هي أسماء لأولاد آدم، مات منهم واحد، فجاء الشيطان فقال: هل لكم أن أصور لكم صورته، فتذكرونه بها؟ فصورها. ثم مات آخر، فصور لهم صورته، إلى أن صور صوراً خمسة.
ثم طال الزمان، وتركوا عبادة الله، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئا؟ فقالوا: من نعبد؟ قال:
هذه آلهتكم، وآلهة آبائكم، ألا ترونها مصوَّرة في مصلاكم؟! فعبدوها.
وقال الزجاج: هذه الأصنام كانت لقوم نوح، ثم صارت إِلى العرب، فكان «ود» لكلب، و «سواع» لهمدان، و «يغوث» لمذحج، و «يعوق» لكنانة و «نسر» لحمير، وقال مقاتل: إنما كان «سواع» لهذيل و «يعوق» لهمدان «ويغوث» لبني غطيف، وهم حيّ من بني مراد. وقيل: لما جاء الطوفان غطى على هذه الأصنام وطمَّها التراب، فلما ظهرت بعد الطوفان صارت إلى هؤلاء المذكورين، قال الواقدي: كان «ودّ» على صورة رجل، و «سواع» على صورة امرأة، و «يغوث» على صورة أسد، و «يعوق» على صورة فرس، و «نسر» على صورة النسر من الطير.
قوله عزّ وجلّ: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً فيه قولان: أحدهما: وقد أضلت الأصنام كثيراً من الناس، أي: ضلوا بسببها. والثاني: وقد أضلَّ الكبراء كثيراً من الناس. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ يعني: الكافرين إِلَّا ضَلالًا وهذا دعاء من نوح عليهم، لما أعلمه الله أنهم لا يؤمنون.
[سورة نوح (71) : الآيات 25 الى 28]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
قوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ «ما» : صلة. والمعنى من خطيئاتهم: أي من أجلها، وسببها وقرأ أبو عمرو «مما خطاياهم» وقرأ أبو الجوزاء، والجحدري «خطيئتهم» من غير ألف أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً قال ابن السائب: المعنى: سيدخلون في الآخرة ناراً، فجاء لفظ الماضي بمعنى الاستقبال، لأن الوعد حق، هذا قول الأكثرين. وقال الضحاك: فأُدخلوا نارا في الدنيا، وذلك أنهم كان يغرقون من جانب، ويحترقون في الماء من جانب.
قوله عزّ وجلّ: فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أي: لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله.(4/344)
قوله عزّ وجلّ: دَيَّاراً قال ابن قتيبة: أي: أحداً. يقال: ما بالمنازل دَيَّارٌ، أي: ما بها أحد، وهو من الدار، أي: ليس بها نازل داراً. وقال الزجاج: أصلها: «دَيْوار» فَيْعَال، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت إحداهما في الأخرى. وإِنما دعا عليهم نوح، لأنّ الله عزّ وجلّ أوحى إِليه أنه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «1» .
قوله عزّ وجلّ: يُضِلُّوا عِبادَكَ وذلك أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح، فيحذِّره تصديقه.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً قال المفسرون: إن الله تعالى أخبر نوحاً أنهم لا يلدون مؤمناً، فلذلك علم الفاجر الخارج عن الطاعة.
قوله عزّ وجلّ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قال الحسن: وذلك أنهما كانا مؤمنَين. وقرأ أبو بكر الصديق، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، والجحدري، والجوني «ولوالدِي» ساكنة الياء على التوحيد.
وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وابن يعمر، والزهري، والنخعي «ولولديّ» من غير ألف على التثنية، قوله: وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ وقرا حفص عن عاصم «بيتيَ» بفتح الياء. وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: منزله، قاله ابن عباس. والثاني: مسجده، قاله الضّحّاك. والثالث: سفينته، حكاه الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ هذا عام في كل من آمن وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ يعني: الكافرين إِلَّا تَباراً أي: هلاكا ومنه قوله عزّ وجلّ: تَبَّرْنا تَتْبِيراً «2» .
__________
(1) هود: 36.
(2) الفرقان: 39.(4/345)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
سورة الجنّ
كلّها مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
قوله عزّ وجلّ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في (الأحقاف) «1» وبَيَّنَّا هنالك سبب استماعهم. ومعنى «النّفر» وعددهم، فأمّا قوله عزّ وجلّ: قُرْآناً عَجَباً فمعناه: بليغاً يعجب منه لبلاغته يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي: يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أي: لن نعدل بربنا أحداً من خلقه. وقيل: عنوا إبليس، أي: لا نطيعه في الشرك بالله.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا اختلف القراء في اثنتي عشرة همزة في هذه السورة، وهي:
«وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنا ظننا» ، «وأنه كان رجال» ، «وأنهم ظنوا» ، «وأنا لمسنا» ، «وأنا كنا» ، «وأنا لا ندري» ، «وأنا منا» ، «وأنا ظننا أن لن نعجز الله» ، «وأنا لمّا سمعنا» ، «وأنّا منّا» ، ففتح
__________
(1) الأحقاف: 29. [.....](4/346)
الهمزة في هذه المواضع ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع «وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنه كان رجال» ، وكسر الباقيات. وقرأ الباقون بكسرهن. وقال الزجاج: والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه:
«أن» بالفتح، وما كان من قول الجن قيل: «إن» بالكسر، معطوف على قوله عزّ وجلّ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً وعلى هذا يكون المعنى: وقالوا: إنه تعالى جَدُّ ربنا، وقالوا: إنه كان يقول سفيهنا. فأما من فتح، فذكر بعض النحويين: يعني الفراء، أنه معطوف على الهاء في قوله عزّ وجلّ: فَآمَنَّا بِهِ وبأنه تعالى جَدُّ رَبِّنا. وكذلك ما بعد هذا. وهذا رديء في القياس، لا يعطف على الهاء المتمكّنة المخفوضة إلا بإظهار الخافض. ولكن وجهه أن يكون محمولاً على معنى أمنَّا به، فيكون المعنى: وصدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ رَبِّنا.
وللمفسرين في معنى تَعالى جَدُّ رَبِّنا سبعة أقوال: أحدها: قُدْرَةُ رَبِّنا، قاله ابن عباس. والثاني:
غِنى رَبِّنا، قاله الحسن. والثالث: جَلاَلُ رَبِّنا، قاله مجاهد، وعكرمة. والرابع: عَظَمَةُ رَبِّنا، قاله قتادة.
والخامس: أَمْرُ رَبِّنا، قاله السدي. والسادس: ارتفاع ذِكره وعظمته، قاله مقاتل. والسابع: مُلْكُ رَبِّنا وثناؤه وسلطانه، قاله أبو عبيدة.
قوله: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا فيه قولان: أحدهما: أنه إبليس، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: أنه كفارهم، قاله مقاتل. و «الشطط» : الجَوْر، والكذب، وهو: وصفه بالشريك، والولد، ثم قالت الجن:
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وقرأ يعقوب: «أن لن تَقَوَّلَ» بفتح القاف، وتشديد الواو.
والمعنى: ظنناهم صادقين في قولهم: لله صاحبة وولد، وما ظننَّاهم يكذبون حتى سمعنا القرآن، يقول الله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بِسِّيدِ هذا الوادي من شَرِّ سُفَهَاءِ قومه، فيبيت في جِوارٍ منهم حتى يصبح.
(1492) ومنه حديث كردم بن أبي السائب الأنصاري، قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذُكِرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي فنادى: يا عامر الوادي جارك، فنادى منادٍ لا نراه: يا سرحان أرسله. فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، فأنزل الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ الآية.
__________
ضعيف جدا. أخرجه العقيلي 1/ 101 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية، والواحدي في «الوسيط» 4/ 364 من طريق فروة ثنا القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري، وإسناده ضعيف جدا، فيه عبد الرحمن بن إسحاق، وهو ضعيف متروك، وأبوه إسحاق بن الحارث، ضعفه أحمد وغيره، ولم يرو عنه سوى ابنه. وقال ابن حبان: منكر الحديث، فلا أدري التخليط منه أو من ابنه. وأخرجه الطبراني في «الكبير» 19/ 191- 192 وأبو الشيخ في «العظمة» 1122 من طريق القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق به. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 129 وقال: وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، وهو ضعيف. والظاهر أنه خفي عليه حال أبيه إسحاق، وقد ضعفه أحمد وغيره كما نقل الذهبي في «الميزان» 1/ 189. الخلاصة: الإسناد ضعيف جدا، والمتن منكر.(4/347)
وفي قوله عزّ وجلّ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً قولان: أحدهما: أن الإنس زادوا الجن رهقاً لتعوُّذهم بهم، قاله مقاتل. والمعنى: أنهم لما استعاذوا بسادتهم قالت السادة: قد سدنا الجن والإنس. والثاني: أن الجن زادوا الإنس رَهَقاً، ذكره الزجاج. قال أبو عبيدة: زادوهم سَفَهَاً وطغياناً. وقال ابن قتيبة: زادوهم ضلالاً. وأصل الرهق: العيب. ومنه يقال: فلان يرهق في دينه.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا بقول الله عزّ وجلّ: ظن الجن كَما ظَنَنْتُمْ أيها الإنس المشركون أنه لا بعث. وقالت الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي: أتيناها فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع وَشُهُباً جمع شهاب، وهو النجم المضيء وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي: كنا نستمع، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمّد صلّى الله عليه وسلم رُمِينا بالشُّهُب. ومعنى «رصداً» قد أرصد له المرمى به وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بإرسال محمد إليهم، فيكذبونه، فيهلكون أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وهو أن يؤمنوا فيهتدوا، قاله مقاتل.
والثاني: أنه قول كفرة الجن، والمعنى: لا ندري أشرٌّ أريدَ بمن في الأرض بحدوث الرجم بالكواكب، أم صلاح؟ قاله الفراء. ثم أخبروا عن حالهم، فقالوا: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وهم المؤمنون المخلصون وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: المشركون. والثاني: أنهم أهل الشرِّ دون الشرك كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً قال الفراء: أي: فرقاً مختلفة أهواؤنا. وقال أبو عبيدة: واحد الطرائق: طريقة، وواحد القِددِ: قدة، أي: ضروباً وأجناساً ومِلَلاً. قال الحسن، والسدي: الجن مثلكم، فمنهم قدريّة، ومرجئة، ورافضة.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أي: أيقنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي: لن نَفُوتَه إِذا أراد بنا أمراً وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي: أنه يدركنا حيث كنَّا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى وهو القرآن الذي أتى به محمد صلّى الله عليه وسلم آمَنَّا بِهِ أي: صدَّقنا أنه من عند الله عزّ وجلّ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي: نقصاً من الثواب وَلا رَهَقاً أي: ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ قال مقاتل: المخلصون لله وَمِنَّا الْقاسِطُونَ وهم المَرَدَة. قال ابن قتيبة: القاسطون: الجائرون. يقال: قسط: إذا عدل، إذا جاور، وأقسط: إذا عدل. قال المفسرون: هم الكافرون فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي: تَوَخَّوْه، وأَمَّوْه. ثم انقطع كلام الجن. قال مقاتل: ثم رجع إلى كفّار مكّة فقال عزّ وجلّ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يعني: طريقة الهدى، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد وقتادة والسدي، واختاره الزجاج، قال: لأن الطريقة هاهنا بالألف واللام معرفة، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى: وذهب قوم إلى أن المراد بها طريقة الكفر، قال محمد بن كعب، والربيع، والفراء، وابن قتيبة، وابن كيسان. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو آمنوا لوسَّعنا عليهم لِنَفْتِنَهُمْ أي: لنختبرَهم فِيهِ فننظر كيف شُكْرُهم. والماء الغَدَق: الكثير. وإنما ذكر الماء مثلاً، لأن الخير كله يكون بالمطر، فأقيم مقامه إِذ كان سببه.
وعلى الثاني: يكون المعنى: لو استقاموا على الكفر فكانوا كفاراً كلهم، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدراجا، ثم نعذبهم على ذلك. وقيل: لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم، كقوم نوح، قوله:
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يعني: القرآن يَسْلُكْهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «نسلكه» بالنون. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ يسلكه بالياء. عَذاباً صَعَداً قال ابن قتيبة: أي:(4/348)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
عذاباً شاقاً. يقال: تصعَّدني الأمر: إذا شَقَّ علي. ومنه قول عمر: ما تَصَعَّدني شيء ما تصعَّدَتني خِطْبَةُ النِّكاح. ونرى أصل هذا كله من الصعود، لأنه شاق، فكني به عن المشَقَّات. وجاء في التفسير أنه جبل في النَّار يكلَّف صعوده، وسنذكره عند قوله عزّ وجلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً «1» إن شاء الله تعالى.
[سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 28]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فيها أربعة أقوال: أحدها: أنها المساجد التي هي بيوت للصّلوات، قاله ابن عباس. قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعَهُم أشركوا، فأمر الله عزّ وجلّ المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم. والثاني: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، قاله سعيد بن جبير، وابن الأنباري، وذكره الفراء. فيكون المعنى، لا تسجدوا عليها لغيره. والثالث:
أن المراد بالمساجد هاهنا: البقاع كلُّها، قاله الحسن. فيكون المعنى: أن الأرض كلها مواضع للسجود، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. والرابع: أنّ المساجد: السجود، فإنها جمع مسجد. يقال:
سجدت سجوداً، ومَسْجِداً، كما يقال: ضربت في الأرض ضرباً، ومَضْرِباً، ثم يجمع، فيقال:
المسَاجِد، والمضارِب. قال ابن قتيبة: فعلى هذا يكون واحدها: مَسْجَداً، بفتح الجيم. والمعنى:
أَخْلِصُوا له، ولا تسجدوا لغيره. ثم رجع إلى ذكر الجنّ فقال عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني محمداً صلّى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ أي: يعبده. وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في الأحقاف «2» كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قرأ الأكثرون: بكسر اللام، وفتح الباء. وقرأ هشام عن ابن عامر، وابن محيصن «لُبَداً» بضم اللام، وفتح الباء مع تخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين واحد. يقال: لِبَدة، ولُبَدة. قال الزجاج: والمعنى: كادوا يركب بعضهم بعضاً. ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش. وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لَبَّدته. وقرأ قوم منهم الحسن، والجحدري: «لُبَّداً» بضم اللام مع تشديد الباء. قال الفراء:
فعلى هذه القراءة تكون صفة للرجال، كقولك: رُكَّعاً وركوعاً، وسُجَّداً وسجوداً. وقال الزّجّاج: هو جمع لا بد، مثل راكع، وركَّع.
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنه من إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم.
__________
(1) المدثر: 17.
(2) الأحقاف: 29.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 273: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: ذلك خبر من الله عن أن رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم لما قام يدعوه كادت العرب تكون عليه جميعا في إطفاء نور الله.
ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 510: واختيار ابن جرير، وهو الأظهر لقوله بعده قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أي قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحقّ واجتمعوا على عداوته: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له، وأستجير به وأتوكل عليه.(4/349)
والمعنى: أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضاً، حِرْصاً على سماع القرآن، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم، فوصفوا لهم طاعة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع، والسجود، فكأنهم قالوا: لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبداً. وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس. والثالث: أن المعنى: لما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالدَّعوة تلبَّدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاء به، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي قرأ عاصم، وحمزة «قل إنما أدعو ربي» بغير ألف. وقرأ الباقون «قال» على الخبر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع بمثله فارجع عنه، فنزلت هذه الآية «1» .
قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا أي: لا أدفعه عنكم وَلا أسوق إليكم رَشَداً أي: خيراً، أي: إن الله تعالى يملك ذلك، لا أنا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي: إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا له: اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً قد بيّنّاه في الكهف «2» قوله: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ فيه وجهان، ذكرهما الفرّاء: أحدهما: أنه استثناء من قوله عزّ وجلّ: لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً إلا أن أبلغكم. والثاني: لن يجيرني من الله أحد إِن لم أبلِّغ رسالته. وبالأول قال ابن السائب. وبالثاني قال مقاتل. وقال بعضهم: المعنى: لن يجيرني من عذاب الله إلا أن أبلّغ عن الله ما أرسلت به، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بترك الإيمان والتوحيد.
قوله عزّ وجلّ: حَتَّى إِذا رَأَوْا يعني: الكفار ما يُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا، وهو القتل، وفي الآخرة فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أي: جندا ونصيرا، أهم، أم المؤمنون؟ قُلْ إِنْ أَدْرِي أي: ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي: غاية وبُعْداً.
وذلك لأن علم الغيب لله وحده فَلا يُظْهِرُ أي: فلا يُطلِع على غيبه الذي يعلمه أحداً من الناس إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارَهم بالغيب. والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه. وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدلّه على الغيب فهو كافر. ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال عزّ وجلّ: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي:
من بين يدي الرسول وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي: يجعل له حَفَظَةً من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكَهَنة، فيتكلَّمون به قبل أن يخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم الناس. وقال الزّجّاج يسلك
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
(2) الكهف: 27.(4/350)
من بين يدي الوحي. والرّصد من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي.
قوله عزّ وجلّ: لِيَعْلَمَ فيه خمسة أقوال «1» : أحدها: ليعلم محمد صلّى الله عليه وسلم أن جبرائيل قد بلَّغ إليه، قاله ابن جبير. والثاني: ليعلم محمّد صلّى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وأن الله قد حفظها فدفع عنها، قاله قتادة. والثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد.
والرابع: ليعلم الله عزّ وجلّ ذلك موجوداً ظاهراً يجب به الثواب، فهو كقوله عزّ وجلّ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ «2» قاله ابن قتيبة. والخامس: ليعلم النبيُّ أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج. وقرأ رويس عن يعقوب «ليُعلَم» بضم الياء على ما لم يُسمَّ فاعله. وقال ابن قتيبة: ويُقرأ «لتَعْلَم» بالتاء، يريد: لتعلم الجن أن الرسل قد بلَّغت عن إلههم بما رجوا من استراق السّمع، قوله:
وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي: علم الله ما عند الرسل وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً فلم يفته شيء حتى الذّرّ والخردل.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 277: وأولى الأقوال عندنا بالصواب قول من قال: ليعلم الرسول أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالاتِ رِّبهم.
(2) آل عمران: 142.(4/351)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
سورة المزّمّل
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إلّا أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: سوى آيتين منها، قوله عزّ وجلّ وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والتي بعدها «1» . وقال ابن يسار، ومقاتل: فيها آية مدنيّة، وهي قوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ «2» .
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو العالية، وأبو مجلز، وأبو عمران، والأعمش «المتزمِّل» بإظهار التاء. وقرأ عكرمة، وابن يعمر: «المزمل» بحذف التاء، وتخفيف الزاي.
قال اللغويون: «المُّزَّمِّل» الملتف في ثيابه، وأصله «المتزِّمل» فأدغمت التاء في الزاي، فثقِّلت. وكل من التفَّ بثوبه فقد تزمَّل. قال الزجاج: وإِنما أدغمت فيها لقربها منها.
(1493) قال المفسرون: وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتزمَّل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فَرَقاً منه حتى أنس به. وقال السدي: كان قد تزمَّل للنوم. وقال مقاتل: خرج من البيت وقد لبس ثيابه، فناداه جبريل: يا
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4956 ومسلم 160 والواحدي في «أسباب النزول» 5 من حديث عائشة مطوّلا، وتقدّم في «الجزء الأول من هذا الكتاب» . وانظر «تفسير الشوكاني» 2598 بتخريجنا.
__________
(1) المزمل: 10- 11.
(2) المزمل: 20.(4/352)
أيها المُزَّمِّل. وقيل: أريد به مُتَزَمِّل النبوة. قال عكرمة في معنى هذه الآية: زُمِّلْتَ هذا الأمر، فَقُمْ به.
وقيل: إِنما لم يخاطب بالنبي والرسول هاهنا، لأنه لم يكن بعد قد بلَّغ، وإنما كان في بدء الوحي.
قوله عزّ وجلّ: قُمِ اللَّيْلَ أي: للصلاة. وكان قيام الليل فرضاً عليه إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ هذا بدل من الليل، كما تقول: ضربت زيداً رأسَه. فإنما ذكرت زيداً لتوكيد الكلام، لأنه أوكد من قولك:
ضربت رأس زيد. والمعنى: قم من الليل النّصف إلّا قليلا، وهو قوله: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أي: من النصف أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي: على النصف. قال المفسرون: انقص من النصف إلى الثلث، أو زد عليه إلى الثلثين، فجعل له سَعَة في مدّة قيامه، إذا لم تكن محدودة، فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين فشق ذلك عليه وعليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى، وكم بقي من الليل، فكان يقوم الليل كلَّه مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الآية، هذا مذهب جماعة من المفسرين. وقالوا: ليس في القرآن سورة نَسَخَ آخِرُها أولَها سوى هذه السورة. وذهب قوم إلى أنه نسخ قيام اللّيل في حقّه بقوله عزّ وجلّ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس وقيل: نسخ عن الأمّة، وبقي فرضه عليه أبداً. وقيل: إنما كان مفروضاً عليه دونهم. وفي مدة فرضه قولان: أحدهما: سَنَةٌ، قال ابن عباس: كان بين أول (المزَّمِّل) وآخرها سَنَةٌ. والثاني: ستة عشر شهراً، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ قد ذكرنا الترتيل في الفرقان «2» .
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا وهو القرآن. وفي معنى ثِقَله ستة أقوال «3» :
(1494) أحدها: أنه كان يثقُل عليه إذا أُوحي إليه، وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإِن جبينه ليتفصّد عرقاً.
والثاني: أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: أنه يثقل في
__________
صحيح. وهو قطعة من حديث عائشة في خبر مطول.
أخرجه البخاري 2 والترمذي 3638 والنسائي 2/ 146- 147 وأحمد 6/ 257 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 437 وفي «الدلائل» 7/ 52- 53 وأبو نعيم في «الدلائل» 1/ 279 من طرق عن مالك. وأخرجه مالك 1/ 202- 203 والبغوي في «شرح السنة» 3631 عن هشام بن عروة به. وأخرجه البخاري 3215 ومسلم 2333 وأحمد 6/ 158 والبيهقي في «الأسماء» 426 والحميدي 6/ 25 من طرق عن هشام بن عروة به.
__________
(1) الإسراء: 79.
(2) الفرقان: 32.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 281: وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: إن الله وصفه بأنه قول ثقيل، فهو كما وصفه به ثقيل محمله ثقيل العمل بحدوده وفرائضه. وقال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 328: والقول: ثقله على النبي صلّى الله عليه وسلم كان يلقيه الملك إليه هو الأولى لأنه جاء: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] .(4/353)
الميزان يوم القيامة، قاله ابن زيد. والرابع: أنه المهيب، كما يقال للرجل العاقل: هو رزين راجح، قاله عبد العزيز بن يحيى. والخامس: أنه ليس بالخفيف ولا السفساف، لأنه كلام الربّ عزّ وجلّ، قاله الفراء. والسادس: أنه قول له وزن في صحته وبيانه ونفعه، كما تقول: هذا كلام رصين، وهذا قول له وزن: إذا استجدته، ذكره الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ قال ابن مسعود، وابن عباس: هي قيام الليل بلسان الحبشة.
وهل هي في وقت مخصوص من الليل، أم في جميعه؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها في جميع الليل. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: الليل كلُّه ناشئة.
وإلى هذا ذهب اللغويون. قال ابن قتيبة: ناشئة الليل: ساعاته الناشئة، من نشأتْ: إذا ابتدأتْ. وقال الزجاج: ناشئة الليل: ساعات الليل، كلّ ما نشأ منه، أي: كلّ ما حدث. قال أبو علي الفارسي: كأن المعنى: إن صلاة ناشئة الليل، أو عمل ناشئة الليل.
والثاني: أنها في وقت مخصوص من الليل. وفيه خمسة أقوال «1» : أحدها: أنها ما بين المغرب والعشاء، قاله أنس بن مالك. والثاني: أنها القيام بعد النوم، وهذا قول عائشة، وابن الأعرابي. وقد نصّ عليه الإمام أحمد في رواية المروذي. والثالث: أنها ما بعد العشاء، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو مجلز. والرابع: أنها بَدْءُ الليل، قاله عطاء، وعكرمة. والخامس: أنها القيام من آخر الليل، قاله يمان، وابن كيسان.
قوله عزّ وجلّ: هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرأ ابن عامر، وأبو عمرو «وِطاءً» بكسر الواو مع المد، وهوَ مصدر واطأت فلاناً على كذا مواطأة، وأراد أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهُّم للقرآن والإحكام لتلاوته. ومنه قوله تعالى: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ «2» . وقرأ الباقون «وَطْأً» بفتح الواو مع القصر. والمعنى: إنه أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب:
اشتدت على القوم وَطْأَةُ السلطان: إذا ثقل عليهم ما يلزمهم.
(1495) ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» . ذكر معنى القراءتين ابن قتيبة.
وقرأ ابن محيصن «أشد وطاء» بفتح الواو، والطاء، وبالمدّ.
قوله عزّ وجلّ: وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: أخلص للقول وأسمع له، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات فتخلص القراءة، ويفرغ القلب لفهم التلاوة، فلا يكون دون سمعه وتفهّمه حائل.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي: فراغا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل
__________
متفق عليه، وتقدّم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 514: والغرض: أن ناشئة الليل هي: ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، وهي الآنات والمقصود: أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة، وأجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش.
(2) التوبة: 37. [.....](4/354)
بعبادتك، قاله ابن عباس، وعطاء. وقرأ يحيى بن يعمر، وابن مسعود، وأبو عمران، وابن أبي عبلة «سبخاً» بالخاء المعجمة. قال الزجاج: ومعناها في اللغة صحيح. يقال سبخت القطن بمعنى نفشته.
ومعنى نَفَّشته: وسَّعته، فيكون المعنى: إن لك في النهار توسُّعاً طويلا.
قوله عزّ وجلّ: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي: بالنهار أيضاً وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال مجاهد: أخلص له إخلاصاً. وقال ابن قتيبة: انقطع إليه، من قولك: بَتَّلُت الشيء: إذا قطعتَه. وقال الزجاج: انقطع إِليه في العبادة. ومنه قيل لمريم: البتول، لأنها انقطعت إلى الله عزّ وجلّ في العبادة. وكذلك صدقة بتلة:
منقطعة من مال المصّدّق. والأصل في مصدر تبتّل تبتيلا. وإنما قوله عزّ وجلّ «تبتيلاً» محمول على معنى: تبتّل، رَبُّ الْمَشْرِقِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم «ربُّ» بالرفع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بالخفض. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزّ وجلّ: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من التكذيب لك والأذى وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا لا جزع فيه. وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي: لا تهتمَّ بهم، فأنا أكفيكهم أُولِي النَّعْمَةِ يعني: التَّنَعُّم.
وفيمن عُني بهذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المطعِمُون بِبَدْرٍ، قاله مقاتل بن حيان. والثاني: أنهم بنو المغيرة بن عبد الله، قاله مقاتل بن سليمان. والثالث: أنه المستهزئون، وهم صناديد قريش، حكاه الثعلبي.
قوله عزّ وجلّ: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا قالت عائشة: فلم يكن إلا اليسير حتى كانت وقعة بدر، وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وهي القيود، واحدها: نكل. وقد شرحنا معنى «الجحيم» في البقرة «1» وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وهو الذي لا يسوغ في الحلق. وفيه للمفسرين أربعة أقوال:
أحدها: أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: الزَّقُّوم، قاله مقاتل. والثالث: الضَّريع، قاله الزجاج. والرابع: الزَّقُّوم والغِسْلين والضَّريع، حكاه الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ قال الزجاج: هو منصوب بقوله عزّ وجلّ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا والمعنى: ينكِّل الكافرين ويعذِّبهم يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ أي: تُزَلزَل وتُحَرَّك أغلظ حركة.
قوله عزّ وجلّ: وَكانَتِ الْجِبالُ قال مقاتل: المعنى: وصارت بعد الشدة، والقوة كَثِيباً قال الفراء: «الكثيب» : الرمل. و «المهيل» : الذي تحرّك أسفله، فينهال عليك من أعلاه. والعرب تقول:
مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول. وقال الزجاج: الكثيب جمعه: كثبان، وهي: القطع العظام من الرمل.
والمهيل: السائل.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يعني أهل مكة رَسُولًا يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلم شاهِداً عَلَيْكُمْ بالتبليغ وإِيمان من آمن، وكفر من كفر وعصى كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا وهو موسى عليه السلام.
والوبيل: الشديد. قال ابن قتيبة: هو من قولك: استوبلت إذا استوخمته المكان ويقال: كلأ مستوبل
__________
(1) البقرة: 119.(4/355)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
أُي: لاَ يُسْتَمْرَأُ. قال الزجاج: الوبيل: الثقيل الغليظ جداً. ومنه قيل للمطر العظيم: وابل. قال مقاتل:
والمراد بهذا الأخذ الوبيل: الغرق. وهذا تخويف لكفار مكة أن ينزل بهم العذاب لتكذيبهم، كما نزل بفرعون:
قوله عزّ وجلّ: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً أي: عذاب يوم. وقال الزجاج: المعنى: بأي شيء تتحصَّنون من عذاب يوم مِنْ هوله يَشيب الصغير من غير كِبَر. وقرأ أُبي بن كعب، وأبو عمران «نجعل الولدان» بالنون.
قوله عزّ وجلّ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ قال الفراء: السماء تُذَكَّر وتؤنَّث. وهي هاهنا في وجه التذكير. قال الشاعر:
فَلَوْ رَفَع السَّماءُ إليه قوماً ... لَحِقْنَا بِالسَّماءِ مَعَ السَّحابِ
قال الزجاج: وتذكير السماء على ضربين: أحدهما: على أن معنى السماء معنى السقف.
والثاني: على قولهم: امرأة مُرْضِع على جهة النسب. فالمعنى: السماء ذات انفطار، كما أن المرضع ذات الرضاع. وقال ابن قتيبة: ومعنى الآية: السماء مُنْشَقّ به، أي: فيه، يعني في ذلك اليوم.
قوله عزّ وجلّ: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا وذلك أنه وعيد بالبعث، فهو كائن لا محالة.
[سورة المزمل (73) : الآيات 19 الى 20]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
إِنَّ هذِهِ يعني: آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي: تذكير وموعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أي: أقل مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ قرأ ابن كثير، وأهل الكوفة بفتح الفاء والثاء. والباقون: بكسرهما.
قوله عزّ وجلّ: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ يعني: المؤمنين وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعلم مقاديرهما، فيعلم القدر الذي تقومونه من الليل عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ وفيه قولان:
أحدهما: لن تطيقوا قيام ثُلُثَيِ الليل، ولا ثلث الليل، ولا نصف الليل، قاله مقاتل.
والثاني: لن تحفظوا مواقيت الصلاة، قاله الفرّاء، قاله: فَتابَ عَلَيْكُمْ أي: عاد عليكم بالمغفرة والتخفيف فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ عليكم مِنَ الْقُرْآنِ يعني: في الصلاة، من غير أن يوقت وقتاً. وقال الحسن: هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء. ثم ذكر أعذارهم فقال عزّ وجلّ: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى فلا يطيقون قيام الليل وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ وهم المسافرون للتجارة يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي: من رزقه فلا يطيقون قيام الليل وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهم المجاهدون فلا يطيقون قيام(4/356)
الليل فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ذكروا أن هذا نسخ عن المسلمين بالصلوات الخمس، فذلك قوله عزّ وجلّ:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: الصلوات الخمس في أوقاتها «1» وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وقد سبق بيانه «2» . قال ابن عباس: يريد سوى الزكاة في صلة الرحم وقِرى الضيف، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي: تجدوا ثوابه في الآخرة. هُوَ خَيْراً قال أبو عبيدة: المعنى: تجدوه خيراً. قال الزجاج:
ودخلت «هو» فصلاً. وقال المفسرون: ومعنى «خيراً» أي: أفضل مما أُعطيتم وَأَعْظَمَ أَجْراً من الذي تؤخّرونه إلى وقت الوصيّة عند الموت.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 518: وقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة، قال: وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرّج لم تبيّن إلا بالمدينة، والله أعلم.
(2) الحديد: 18.(4/357)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
سورة المدّثّر
وهي مكّيّة بإجماعهم قال مقاتل: فيها من المدني آية، وهي قوله عزّ وجلّ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 37]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34)
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
فأمّا سبب نزولها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله قال:
(1496) حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: جاورت بِحِرَاء شهراً، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4923 و 4924 ومسلم 161 ح 257 و 258 وأحمد 3/ 306 و 392 والطبري 35309 وابن حبان 34 و 35 وأبو عوانة 1/ 112 و 114 و 115 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 155- 156 من طرق عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قلت: إنهم-
__________
(1) المدثر: 31.(4/358)
بطن الوادي، فنوديتُ فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر أحداً، ثم نوديتُ فرفعتُ رأسي فإذا هو في الهواء، يعني: جبريل عليه السلام، فأقبلتُ إِلى خديجة، فقلت: دثّروني دثّروني، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ.
(1497) قال المفسرون: فلما رأى جبريل وقع مغشياً عليه، فلما أفاق دخل إلى خديجة، ودعا بماءٍ فصبَّه عليه، وقال: دثِّروني، فدثَّروه بقطيفة، فأتاه جبريل فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، والأعمش «المتدثِّر» بإظهار التاء، وقرأ أبو رجاء، وعكرمة، وابن يعمر «المدثر» بحذف التاء، وتخفيف الدال. قال اللغويون: وأصل «المدَّثِّر» المتدثر، فأدغمت التاء، كما ذكرنا في المتزمّل، وهذا قول الجمهور من التدثير بالثياب، وقيل المعنى: يا أيها المدثر بالنبوَّة، وأثقالها. قال عكرمة:
دثّرت هذا الأمر فقم به..
قوله عزّ وجلّ: قُمْ فَأَنْذِرْ كفارَ مكة العذابَ إن لم يُوحِّدوا وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: عظِّمه عما يقول عبدة الأوثان وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ فيه ثمانية أقوال «1» :
أحدها: لا تلبسها على معصية، ولا على غدر. قال غيلان بن سلمة الثقفي:
وَإني بِحَمْدِ الله لاَ ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلاَ مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ «2»
روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: لا تكن ثيابُك من مكسب غير طاهر، روي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث: طهر نفسك من الذنب، قاله مجاهد! وقتادة. ويشهد له قول عنترة:
فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِيَابَهُ ... لَيْسَ الكَرِيمُ عَلَى القَنَا بِمُحرَّمِ
أي: نفسه، وهذا مذهب ابن قتيبة. قال: المعنى: طهر نفسك من الذنوب، فكنّى عن الجسم
__________
يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «جاورت ... » الحديث، وفيه «وصبوا عليّ ماء باردا» . وأخرجه البخاري 4 و 3238 و 4925 و 4954 و 6214 ومسلم 161 ح 255 وأحمد 3/ 306 والترمذي 3325 والطبري 35307 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 138 و 156 وأبو نعيم في «الدلائل» 1/ 278 من طرق عن الزهري عن أبي سلمة به.
انظر ما قبله.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 521 وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي: اغسلها بالماء. وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر ويطهر ثيابه. وهذا القول اختاره ابن جرير وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب. وقال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 340: ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز، وإذا حملناها على الثياب المعلومة فهي تتناول معنيين: أحدهما: تقصير الأذيال، فإنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب لغلام من الأنصار: وقد رأى ذيله مسترخيا: يا غلام، ارفع إزارك، فإنه أتقى وأنقى وأبقى اه. والمعنى الثاني: غسلها من النجاسة، وهو ظاهر منها صحيح فيها.
(2) البيت لغيلان بن سلمة الثقفي، كما في «الجامع لأحكام القرآن» 19/ 59 و «تفسير الطبري» 12/ 298 و «اللسان» - ثوب-.(4/359)
بالثياب، لأنها تشتمل عليه. قالت ليلى الأخيلية وذَكَرَتْ إبلاً:
رَمَوْها بأثواب خِفَافٍ فلا ترى ... لَهَا شَبَهَاً إلا النَّعَام المُنَفَّرا
أي: ركبوها، فَرَمَوْها بأنفسهم! والعرب تقول للعفاف: إزارٌ، لأن العفيف كأنه استتر لما عَفَّ.
والرابع: وعَمَلَكَ فأصلح، قاله الضّحّاك. الخامس: خُلُقَكَ فَحَسِّنْ، قاله الحسن، والقرظي.
والسادس: وَثِيَابَك فقصّر وشمّر، قاله طاوس. والسابع: قَلْبَكَ فَطَهِّرْ، قاله سعيد بن جبير. ويشهد له قول امرئ القيس.
فإن تك قَدْ سَاءَتْكِ مِني خَلِيقَةٌ ... فَسُلِّي ثِيابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
أي: قلبي من قلبك.
والثامن: اغسل ثيابك بالماء، ونقِّها، قاله ابن سيرين، وابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعاصم إلّا أبا بكر، ويعقوب، وابن محيصن، وابن السميفع «والرُّجزَ» بضم الراء. والباقون بكسرها. ولم يختلفوا في غير هذا الموضع. قال الزجاج: ومعنى القراءتين واحد. وقال أبو علي: قراءة الحسن بالضم، وقال: هو اسم صنم. وقال قتادة: صنمان: إساف، ونائلة. ومن كسر، الرّجز: العذاب. فالمعنى: ذو العذاب فاهجر.
وفي معنى: «الرّجز» للمفسّرين فيه ستة أَقوال «1» : أحدها: أنه الأصنام، والأوثان، قاله ابن عباس. ومجاهد، وعكرمة وقتادة، والزهري، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنه الإثم، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: الشرك، قاله ابن جبير، والضحاك. والرابع: الذنب، قاله الحسن. والخامس:
العذاب، قاله ابن السائب. قال الزجاج: الرجزُ في اللغة: العذاب، ومعنى الآية: اهجر ما يؤدِّي إلى عذاب الله. والسادس: الشيطان، قاله ابن كيسان.
قوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: لا تعط عطيَّة تلتمس بها أفضل منها، قاله
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 521: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ على كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك، كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 303: وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال: معنى ذلك: ولا تمنن على ربك من أن تستكثر عملك الصالح. قال: وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لأن ذلك في سياق آيات تقدم فيهن أمر الله بنيه بالجدّ في الدعاء إليه، والصبر على ما يلقى من الأذى فيه، فهذه بأن تكون من أنواع تلك، أشبه منها بأن تكون من غيرها.
وقال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 242: وأما من قال: أراد به العمل، أي لا تستكثر به على ربك فهو صحيح، فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
وأما قوله: «لا تعط عطيَّة تلتمس بها أفضل منها» فهذا لا يليق بالنبي صلّى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم: 39] . وقد روي عن عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها. وفي الحديث: «لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت» . قلت: صحيح.
أخرجه البخاري 2568 و 5178 وأحمد 2/ 424 وابن حبان 5291 من حديث أبي هريرة وأخرجه الترمذي 1338 وصححه ابن حبان 9292 من حديث أنس، وفي الباب من حديث ابن عمر أخرجه البخاري 5179 ومسلم 1429 وغيرهما. ومعنى الكراع: مستدق الساق من الرجل.
قال ابن العربي: وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب، لأنها باب من أبواب المذلة. وكذلك قول من قال: إن معناه لا تعط عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع. وذلك في حيزه بحكم الامتناع.(4/360)
ابن عباس، وعكرمة، وقتادة. قال المفسرون: معناه: أَعْطِ لِربّك وأرد به الله، فأدَّبه بأشرفِ الآداب.
ومعنى «لا تمنن» : لا تعط شيئاً من مالك لتُعطَى أكثر منه. وهذا الأدب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصة، وليس على أحد من أمته إثم أن يهديَ هدية يرجو بها ثواباً أكثر منها. والثاني: لا تمنن بعملك تستكثره على ربك، قاله الحسن. والثالث: لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، قاله مجاهد. والرابع: لا تمنن على الناس بالنُّبُوَّة لتأخذ عليها منهم أجرا، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: وَلِرَبِّكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لأجل ربك. والثاني: لثواب ربك. والثالث:
لأمر ربك. والرابع: لوعْدِ ربِّك فَاصْبِرْ فيه قولان: أحدهما: على طاعته وفرائضه. والثاني: على الأذى والتكذيب.
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي: نفخ في الصور. وهل هذه النفخة هي الأولى أو الثانية؟
فيه قولان: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ أي: تعسّر الأمر فيه عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ غير هيّن، قوله: ذَرْنِي قد شرحناه في المزمل «1» وَمَنْ خَلَقْتُ أي: ومن خلقته وَحِيداً فيه قولان «2» : أحدهما: خلقته وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد، قاله مجاهد. والثاني: خلقته وحدي لم يَشْركني في خَلْقِهِ أحَدٌ، قاله الزجاج.
(1498) قال ابن عباس: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، فإنك أتيت محمّدا تتعرّض لمقالته، فقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل منه قولاً يبلغ قومك أنَّك منكر له، قال: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، والله ما يشبهها الذي يقول، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو ولا يُعلى. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه. فقال: هذا سحر يؤثر: يأثره عن غيره،
__________
أخرجه الحاكم 2/ 506 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 199- 200 والواحدي في «أسباب النزول» 842 عن ابن عباس، وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي، ورجاله رجال الصحيح. وورد عن عكرمة مرسلا، أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 3384. وفي إسناده راو مجهول. وورد موصولا عن ابن عباس من وجه آخر أخرجه الطبري 35420 وفيه عطية العوفي واه لكن تعدّد طرقه يفيده قوة، والله أعلم. وانظر ما بعده. وانظر «تفسير الشوكاني» 2606 بتخريجنا.
__________
(1) المزمل: 11.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 522: يقول تعالى متوعدا لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرا وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر. وقد عدد الله نعمه حيث قال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي خرج من بطن أمه لا مال له ولا ولد، ثم رزقه الله مالًا مَمْدُوداً.(4/361)
فنزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ... الآيات كلُّها.
(1499) وقال مجاهد: قال الوليد لقريش: إن لي إِليكم حاجة فاجتمعوا في دار الندوة، فقال:
إنكم ذوو أحساب وأحلام، وإن العرب يأتونكم، وينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا على شيء واحد. ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول: إِنه شاعر. فعبس عندها، وقال: قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر. فقالوا: نقول: إنه كاهن، قال: إِذن يأتونه فلا يجدونه يحدث بما يحدث به الكهنة، فقالوا: نقول: إِنه مجنون، قال: إذن يأتونه فلا يجدونه مجنوناً. فقالوا: نقول: إنه ساحر.
قال: وما الساحر؟ قالوا: بشر يحبِّبون بين المتباغضين، ويبغِّضون بين المتحابين، قال: فهو ساحر، فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إِلا قال: يا ساحر، فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وذكر بعض المفسّرين أن قوله عزّ وجلّ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً منسوخ بآية السيف. ولا يصحّ.
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً في معنى الممدود ثلاثة أقوال: أحدها: كثيراً، قاله أبو عبيدة. والثاني: دائماً، قاله ابن قتيبة. والثالث: غير منقطع، قاله الزجاج.
وللمفسرين في مقداره أربعة أقوال: أحدها: غَلَّة شهر بشهر، قاله عمر بن الخطاب. والثاني:
ألف دينار، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير. قال الفرّاء: ونرى أنّ الممدود: جعل غاية للعدد، لأنّ الألف غاية للعدد يرجع في أول العدد من الألف. والثالث: أربعة آلاف، قاله قتادة. والرابع: أنه بستان كان له بالطائف لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَبَنِينَ شُهُوداً أي: حضورا معه لا يحتاجون إلى التّصرّف والنّفر فيغيبوا عنه.
وفي عددهم أربعة أقوال: أحدها: عشرة، قاله مجاهد. والثاني: ثلاثة عشر، قاله ابن جبير.
والثالث: اثنا عشر، قاله السدي. والرابع: سبعة، قاله مقاتل. قوله: وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي: بسطت له العيش، وطول العمر، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ فيه قولان: أحدهما: أيطمع أن أدخله الجنة. قاله الحسن.
والثاني: أن أزيده من المال والولد، قاله مقاتل.
إلى قوله: كَلَّا أي: لا أفعل فمنعه الله المالَ والوَلدَ حتى مات فقيراً، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي: معانداً.
وفي المراد بالآيات هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن قاله ابن جبير. والثاني: الحق، قاله مجاهد. والثالث: رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله السّدّيّ.
قوله عزّ وجلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال الزجاج: سأحمله على مشقة من العذاب وقال غيره:
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 842 معلقا عن مجاهد. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 2/ 199- 200 من طريق محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد، وأصل الخبر له شواهد كثيرة. ورد من مرسل ابن زيد، أخرجه الطبري 35424. وورد من مرسل قتادة مختصرا، أخرجه الطبري 35421. وورد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 35423.
رووه بألفاظ متقاربة مختصرا ومطوّلا، فالخبر صحيح في الأصل وانظر ما قبله.(4/362)
سأكلِّفه مشقةً من العذاب لا راحة له منها. وقال ابن قتيبة: «الصَّعود» : العقبة الشاقة، وكذلك «الكؤود» .
(1500) وفي حديث أبي سعيد عن نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال: جبل من نار يكلَّف أن يصعده، فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت. يصعد سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً.
(1501) وذكر ابن السائب أنه جبل من صخرة ملساء في النار، يكلَّف أن يصعَدها حتى إِذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلَّف أن يصعَدها، فذلك دأبه أبدا، يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة.
قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ أي: تفكر ماذا يقول في القرآن وَقَدَّرَ القول في نفسه فَقُتِلَ أي:
لعن كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي: لُعِن على أيّ حال قدَّر من الكلام. وقيل: «كيف» هاهنا بمعنى التعجب والإنكار والتوبيخ. فإنما كرر تأكيداً ثُمَّ نَظَرَ في طلب ما يدفع به القرآن، ويردُّه ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ قال اللغويون: أي: كَرَّهَ وَجْهَهُ وقطَّب. يقال: بسر الرجل وجهه، إذا قبضه. وأنشدوا لتَوْبَةَ:
وقَدْ رَابَني مِنْها صُدُودٌ رَأَيْتُهُ ... وَإِعْرَاضُها عن حَاجتي وبُسُورُها «1»
قال المفسرون: كرَّه وجهه، ونظر بكراهية شديدة، كالمهتمّ المتفكِّر في الشيء ثُمَّ أَدْبَرَ عن الإيمان وَاسْتَكْبَرَ أي: تكبر حين دعي إليه فَقالَ إِنْ هذا أي: ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي:
يُروى عن السَّحَرة إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ أي: من كلام الإنس، وليس من كلام الله تعالى، فقال الله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أي: سأدخله النار. وقد ذكرنا «سقر» في سورة القمر «2» ، قوله: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لِعِظَم شَأْنِها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ أي: لا تبقي لهم لحماً إلا أكلته، ولا تذرهم إذا أُعيدوا فيها خلقاً جديداً لَوَّاحَةٌ أي: مغيِّرة يقال: لاحته الشمس، أي: غيّرته. وأنشدوا:
__________
ضعيف. وصدر الحديث أخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 382 من طريق عبد الله بن سليمان عن منجاب بن الحارث أنا شريك عن عمار الذهني عن عطية العوفي عن أبي سعيد، وعطية ضعيف. وأخرجه الطبري 35412 من طريق شريك به. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 131: أخرجه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه عطية، وهو ضعيف. وأخرجه أحمد 3/ 75 والترمذي 3326 والحاكم 2/ 507 والطبري 35413 والبيهقي في «البعث» 513 من حديث أبي سعيد بلفظ «الصعود جبل في النار يكلف الكافر أن يصعد فيه سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً» . وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن درّاج.
وقال ابن كثير: وفيه غرابة ونكارة، قلت: إسناده ضعيف لضعف درّاج في روايته عن أبي الهيثم، وتابعه عطية عند الطبري 35412 وعطية ضعيف، والحديث صححه الحاكم! وسكت الذهبي، ولعل سبب سكوت الذهبي عليه هو كون الحديث في مقام الترهيب، وقد تساهل أهل العلم في ذلك والله أعلم.
وانظر «فتح القدير» 2607 بتخريجنا ولله الحمد والمنة.
عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وقد كذّبه غير واحد، وهو ساقط الرواية.
__________
(1) البيت لتوبة بن الحميّر، وهو في «مجاز القرآن» 2/ 275. و «الأغاني» 10/ 272.
(2) القمر: 48.(4/363)
يا ابْنَةَ عَمِّي لاَحَني الهواجر
وقرأ ابن مسعود، وابن السّميفع، وابن عبلة «لوَّاحةً» بالنصب.
وفي «البَشَر» قولان: أحدهما: أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة، وهذا قول مجاهد، والفراء، والزجاج. والثاني: أنهم الإنس من أهل النار، قاله الأخفش، وابن قتيبة في آخرين.
قوله عزّ وجلّ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ وهم خزنتها.
(1502) مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كَفّ أحدهم مثل ربيعة ومضر. قد نزعت منهم الرحمة. فلما نزلت هذه الآية قال أبو جهل: يخوّفكم محمّد بتسعة عشر، ما له من الجنود إلا هؤلاء! أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم يخرجون من النار! فقال أبو الأشد «1» قال مقاتل:
اسمه: أسيد بن كلدة. وقال غيره: كلدة بن خلف الجمحي: يا معشر قريش: أنا أمشي بين أيديكم وأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر، فندخل الجنة، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً لا آدميين، فمن يطيقهم ومن يغلبهم؟! وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ في هذه القِلَّة إِلَّا فِتْنَةً أي: ضلالة لِلَّذِينَ كَفَرُوا حتى قالوا ما قالوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أن ما جاء به محمد حق، لأن عِدَّتهم في التوراة تسعة عشر، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا من أهل الكتاب إِيماناً أي: تصديقا بمحمّد صلّى الله عليه وسلم إذ وجدوا ما يخبرهم به موافقاً لما في كتابهم وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ أي: ولا يشك هؤلاء في عدّة الخَزَنَة.
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النفاق، ذكره الأكثرون. والثاني: أنه الشك، قاله مقاتل، وزعم أنهم يهود أهل المدينة، وعنده أن هذه الآية مدنية. والثالث: أنه الخلاف، قاله الحسين بن الفضل. وقال: لم يكن بمكة نفاق. وهذه مكية. فأما «الكافرون» فهم مشركو العرب، ماذا أَرادَ اللَّهُ أي: أي شيء أراد الله بِهذا الحديث والخبر مَثَلًا والمثل يكون بمعنى الحديث نفسه ومعنى الكلام: يقولون ما هذا من الحديث كَذلِكَ أي: كما أضلَّ من أنكر عدّة الخَزَنَة، وهدى من صدَّق يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وأُنزل في قول أبي جهل: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار. وذلك أن لكل واحد من هؤلاء التسعة عشر من الأعوان ما لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ، وذكر الماوردي في وجه الحكمة في كونهم تسعة عشرة قولاً محتملاً، فقال: التسعة عشر: عدد يجمع أكثر القليل، وأقل الكثير، لأن الآحاد أقل الأعداد، وأكثرها تسعة، وما سوى الآحاد كثير. وأقل الكثير: عشرة، فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير، وأكثر القليل. ثم رجع إلى ذكر النار فقال عزّ وجلّ: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى أي: ما
__________
لا أصل له بهذا اللفظ. ذكره الزمخشري في «الكشاف» 4/ 651 فقال الحافظ: لم أجده. والظاهر أن مصدره مقاتل، حيث ذكره المصنف في أثناء الخبر، أو يكون الكلبي، وكلاهما ممن يضع الحديث.
__________
(1) وقع في المطبوع: أبو الأسدين، وسيأتي في سورة الانفطار، الآية 6: أبو الأشدين، والتصويب عن «معالم التنزيل» 4/ 385 و «الكشاف» 4/ 651 و «تفسير الماوردي» 4/ 145.(4/364)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
النار في الدنيا إلّا مذكّرة بنار الآخرة كَلَّا أي: حقاً وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «إذا أدبر» وقرأ نافع، وحمزة، وحفص، والفضل عن عاصم، ويعقوب وخلف، «إذ» بسكون الذال من غير ألف بعدها «أدبر» بسكون الدال، وبهمزة قبلها.
وهل معنى القراءتين واحد، أم لا؟ فيه قولان «1» : أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد. يقال: دبر الليل، وأدبر، ودبر الصيف وأدبر، هذا قول الفراء. والأخفش، وثعلب. والثاني: أن «دبر» بمعنى خلف، و «أدبر» بمعنى وَّلى. يقال: دبرني فلان: جاء خلفي، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيدة وابن قتيبة.
قوله عزّ وجلّ: إِذا أَسْفَرَ أي: أضاء وتبيَّن إِنَّها يعني: سقر لَإِحْدَى الْكُبَرِ قال ابن قتيبة:
الكُبَر، جمع كبرى، مثل الأُوَل والأُولى، والصُّغَر والصُّغْرى. وهذا كما يقال: إنها لإحدى العظائم.
قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها.
وقال ابن السائب، ومقاتل: أراد بالكُبَر: دركات جهنّم السبعة.
قوله عزّ وجلّ: نَذِيراً لِلْبَشَرِ قال الزجاج: نصب «نذيراً» على الحال. والمعنى: إِنها لكبيرة في حال الإنذار. وذَكَّر «النذير» ، لأن معناه معنى العذاب. ويجوز أن يكون «نذيراً» منصوباً متعلقاً بأول السورة، على معنى: قم نذيرا للبشر.
قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ بدل من قوله عزّ وجلّ: «للبشر» ، أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن يتقدَّم في طاعة الله أو يتأخَّر عن معصيته، قاله ابن جريج. والثاني: أن يتقدَّم إلى النار، أو يتأخَّر عن الجنة، قاله السدي. والثالث: أن يتقدَّم في الخير، أو يتأخر إلى الشر، قاله يحيى بن سلام. والرابع: أن يتقدَّم في الإيمان، أو يتأخَّر عنه. والمعنى: أن الإِنذار قد حصل لكل أحد ممن أقر أو كفر.
[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)
كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قوله عزّ وجلّ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كل نفس بالغةٍ مُرتَهنةٌ بعملها لتُحاسَب عليه إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ وهم أطفال المسلمين، فإنه لا حساب عليهم، لأنه لا ذنوب عليهم، قاله عليّ رضي الله عنه واختاره الفراء. والثاني: كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار، إلّا أصحاب
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 315: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان بمعنى، وذلك أنه محكي عن العرب، قبح الله ما قبل وأبر، ودبر الصيف وأدبر، وكذلك قبل وأقبل، وأخرى أن أهل التفسير لم يميزوا في تفسيرهم بين القراءتين وذلك دليل على أنهم فعلوا ذلك كذلك، لأنهما بمعنى واحد. [.....](4/365)
اليمين، وهم المؤمنون، فإنهم في الجنة، قاله الضحاك. والثالث: كل نفس مرتهنةٌ بعملها لتحاسب عليه إلا أصحاب اليمين، فإنهم لا يحاسبون، قاله ابن جريج.
قوله عزّ وجلّ: يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ قال مقاتل: إذا خرج أهل التوحيد من النار قال المؤمنون لمن بقي في النار: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قال الفرّاء: وهذه الآية تقوّي أنهم الولدان لأنهم لم يعرفوا الذنوب فسألوا ما سلككم في سقر؟ قال المفسرون: سلككم بمعنى: أدخلكم. وقال مقاتل: ما حبسكم فيها؟ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ لله في دار الدنيا وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي: لم نتصدَّق لله وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أهل الباطل والتكذيب وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي: بيوم الجزاء والحساب حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ وهو الموت. يقول الله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ وهذا إنما جرى بعد شفاعة الأنبياء والملائكة والشهداء والمؤمنين. وهذا يدل على أنّ نفع الشفاعة لمن آمن. قوله: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ يعني: كفار قريش حين نفروا من القرآن والتذكير بمواعظه. والمعنى: لا شيء لهم في الآخرة إِذْ أعرضوا عن القرآن ولم يؤمنوا به، ثم شبَّههم في نفورهم عنه بالحمر، فقال عزّ وجلّ:
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم بفتح الفاء. والباقون بكسرها. قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: من قرأ بفتح الفاء أراد: مذعورة، استنفرت فنفرت، ومن قرأ بكسر الفاء أراد: نافرة: قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: حُمُرٌ مستنفَرة. وناس من العرب يكسرون الفاء. والفتح أكثر في كلام العرب. وقراءتنا بالكسر. أنشدني الكسائي:
اِحْبِسْ حِمَارَك إنَّه مُسْتَنْفِرُ ... في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عمدن لغرّب
«وغرّب» موضع.
وفي «القسورة» سبعة أقوال: أحدها: أنه الأسد، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس: وبه قال أبو هريرة، وزيد بن أسلم، وابنه. قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عايَنَتْ الأسد هَرَبَتْ منه، فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم هربوا منه، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة، والزجاج. قال ابن قتيبة:
كأنَّه من القَسْرِ والقهر. والأسد يقهر السباع. والثاني: أن القسورة: الرماة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وابن كيسان. والثالث: أن القسورة: حِبَال الصيادين، رواه عكرمة عن ابن عباس. والرابع: أنهم عُصَبُ الرِّجَال، رواه أبو حمزة عن ابن عباس. واسم أبي حمزة: نصر بن عمران الضبعي. والخامس: أنه رِكْز الناس، وهذا في رواية عطاء أيضاً عن ابن عباس. ورِكْز الناس: حِسُّهم وأصواتهم. والسادس: أنه الظُّلْمة والليل، قاله عكرمة. والسابع: أنه النَّبْل، قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: إن سَرَّك أن نَتَّبِعْك، فليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله تعالى إلى فلان بن فلان يؤمر فيه باتِّباعك قاله الجمهور «1» . والثاني: أنهم أرادوا براءةً من النار أن لا يعذَّبوا بها، قاله أبو صالح. والثالث: أنهم قالوا: كان الرجل إذا أذنب في بَني إسرائيل وجده مكتوباً إذا أصبح في رقعة.
__________
(1) عزاه المصنف للجمهور. وهو عند الطبري 35519 عن قتادة. وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 461 لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد.(4/366)
فما بالنا لا نرى ذلك؟ فنزلت هذه الآية، قاله الفراء. فقال الله تعالى: كَلَّا أي: لا يؤتَون الصُّحُف بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي: لا يخشون عذابها. فالمعنى: أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالة كَلَّا أي: حقاً. وقيل: معنى (كلا) : ليس الأمر كما يريدون ويقولون إِنَّهُ يعني القرآن تَذْكِرَةٌ أي: تذكير وموعظة فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ الهاء عائدة على القرآن فالمعنى: فمن شاء أن يذكر القرآن ويتعظ به ويفهمه، ذَكره. ثم رد المشيئة إلى نفسه فقال عزّ وجلّ: وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي: إلا أن يريد لهم الهدى هُوَ أَهْلُ التَّقْوى أي: أهل أن يُتَّقى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي: أهل أن يَغفِر لمن تاب.
(1503) روى أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية، فقال: «قال ربكم عزّ وجلّ: أنا أهل أن أُتقى، فلا يشرك بي غيري. وأنا أهل لمن اتَّقى أن يشرك بي غيري أن أغفر له» .
__________
ضعيف، في إسناده سهيل بن أبي حزم ضعيف، ومداره عليه. قال الحافظ في «التهذيب» قال أحمد: روى أحاديث منكرة، وقال ابن معين: صالح. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات. أخرجه ابن ماجة 4299 وأبو يعلى 3317 من طريق هدبة بن خالد ثنا سهيل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس به. وأخرجه الترمذي 3325 وأحمد 3/ 142 و 243 والدارمي 2/ 302- 303 والحاكم 2/ 508 والواحدي في «الوسيط» 4/ 388- 389 من طرق عن سهيل بن أبي حزم به. وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث، وقد تفرّد سهيل بهذا الحديث عن ثابت.
الخلاصة: هو حديث ضعيف.
وانظر «فتح القدير» 2612 و «الجامع لأحكام القرآن» 6180 بتخريجنا.(4/367)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
سورة القيمة
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
قوله تعالى: لا أُقْسِمُ اتفقوا على أن المعنى «قسم» واختلفوا في «لا» فجعلها بعضهم زائدة، كقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» وجعلها بعضهم توكيدا للقسم كقولك: لا والله لا أفعل، وجعلها بعضهم رداً على منكري البعث. ويدل عليه أنه «أقسم» على كون البعث. قال ابن قتيبة: زيدت «لا» على نية الرد على المكذبين، كما تقول: لا والله ما ذاك كما تقول: ولو حذفت جاز، ولكنه أبلغ في الرد. وقرأ ابن كثير إلا ابن فليح «لأقسم» بغير ألف بعد اللام فجعلها لاما دخلت على «أقسم» ، وهي قراءة ابن عباس، وأبي عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، وعكرمة. وابن محيصن. قال الزجاج:
من قرأ «لأقسم» فاللام لام القسم والتوكيد. وهذه القراءة بعيدة في العربية، لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون، تقول: لأَضربنَّ زيداً. ولا يجوز: لأَضْرِبُ زيداً.
قوله عزّ وجلّ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال الحسن: أَقسمَ بالأولى ولم يقسم بالثانية. وقال قتادة: حكمها حكم الأولى.
وفي «النفس اللّوامة» ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها المذمومة، قاله ابن عباس. فعلى هذا: هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم. والثاني: أنها النفس المؤمنة، قاله الحسن. قال: لا ترى المؤمن
__________
(1) الحديد: 29.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 528: إن المقسم عليه متى كان منفيا جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي، والمقسم عليه هاهنا إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بعث الأجساد، ولهذا قال: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قال قتادة رحمه الله وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير واختاره ابن جرير.(4/368)
إلا يلوم نفسه على كل حال. والثالث: أنها جميع النفوس. قال الفراء: ليس من نفس بَرَّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت: هلّا زدت. وإن كانت عملت سوءا قالت: ليتني لم أفعل «1» .
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ المراد بالإنسان هاهنا: الكافر.
وقال ابن عباس: يريد أبا جهل.
(1504) وقال مقاتل: عدي بن ربيعة وذلك أنه قال: أيجمع الله هذه العظام؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم له:
«نعم» ، فاستهزأَ مِنْه، فنزلت هذه الآية. قال ابن الأنباري: وجواب القسم محذوف كأنه: ليبعثنّ ليحاسبنّ، فدلّ قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ على الجواب، محذوف.
وقوله عزّ وجلّ: بَلى وقف حسن. ثم يُبتدأ قادِرِينَ على معنى: بلى نجمعها قادرين، ويصلح نصب «قادرين» على التكرير: بلى فَلْيَحْسَبْنَا قادرين عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ وفيه قولان: أحدهما:
أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفّ البعير، وحافر الحمار، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة والخياطة، هذا قول الجمهور. والثاني: نقدر على تسوية بنانه كما كانت، وإن صغرت عظامها، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع كبارها أقدر، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج.
وقد بينا معنى البنان في الأنفال «2» .
قوله عزّ وجلّ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فيه قولان: أحدهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، قاله ابن عباس. والثاني: يقدِّم الذنب ويؤخِّر التوبة، ويقول: سوف أتوب، قاله سعيد بن جبير. فعلى هذا: يكون المراد بالإنسان: المسلم. وعلى الأول: الكافر.
قوله عزّ وجلّ: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي: متى هو؟ تكذيباً به، وهذا هو الكافر، فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قرأ أهل المدينة، وأبان عن عاصم «بَرَق» بفتح الراء، والباقون بكسرها: قال الفراء: العرب تقول: بَرِق البصر يبرَق، وبَرَق يبرُق: إذا رأى هولاً يفزع منه. و «بَرِق» أكثر وأجود. قال الشاعر:
فَنَفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَني ... ودَاوِ الكُلُومَ ولاَ تَبْرَقِ «3»
بالفتح. يقول: لا تفزع من هول الجراح التي بك. قال المفسرون: يشخص بصر الكافر يوم القيامة، فلا يَطْرِفُ لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا. وقال مجاهد: برق البصر عند الموت.
قوله عزّ وجلّ: وَخَسَفَ الْقَمَرُ قال أبو عبيدة: خسف وكسف بمعنى واحد، أي: ذهب ضوءه.
__________
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 843 بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 659: ذكره الثعلبي والبغوي والواحدي بغير إسناد. فالخبر باطل لا أصل له، ولم ينسبه هؤلاء إلى قائل، ولم يذكره السيوطي في «الدر» ولا في «أسباب النزول» ولا ذكره الطبري، وكل ذلك دليل على وضعه، والله أعلم.
وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6181.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 327: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن- النفس اللوامة- وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها، فمتقاربات المعاني، وأشبه القول في ذلك بظاهر التنزيل أنها تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات.
(2) الأنفال: 12.
(3) البيت لطرفة بن العبد، في ديوانه: 218، و «اللسان» - برق.(4/369)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
قوله عزّ وجلّ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إنما قال: «جمع» لتذكير القمر، هذا قول أبي عبيدة. وقال الفراء: إنما لم يقل: جُمِعَتْ، لأن المعنى: جمع بينهما وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: جمع بين ذاتَيْهما. وقال ابن مسعود: جمعا كالبعيرين القرينين. وقال عطاء بن يسار:
يُجْمَعَان ثم يُقْذَفَان في البحر. وقيل: يُقْذَفَان في النار. وقيل: يجمعان، فيطلعان من المغرب. والثاني:
جمع بينهما في ذهاب نورهما، قاله الفراء، والزجاج.
قوله عزّ وجلّ: يَقُولُ الْإِنْسانُ يعني: المكذِّب بيوم القيامة أَيْنَ الْمَفَرُّ قرأ الجمهور بفتح الميم، والفاء، وقرأ ابن عباس، ومعاوية، وأبو رزين وأبو عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والضّحّاك والزّهريّ، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: بكسر الفاء. قال الزجاج: فمن فتح، فالمعنى: أين الفرار؟ ومن كسر، فالمعنى: أين مكان الفرار؟ تقول: جلست مجلَساً بالفتح، يعني: جلوساً. فإذا قلت: مجلسا بالكسر. فأنت تريد المكان.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا لا وَزَرَ قال ابن قتيبة: لا ملجأ. وأصل الوزر: الجبل الذي يمتنع فيه إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
أي: المنتهى والمرجع. يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
فيه ستة أقوال: أحدها: بما قدَّم قبل موته، وما سنَّ من شيء فعُمِل به بعد موته، قاله ابن مسعود، وابن عباس. والثاني: يُنَبَّأُ بأوَّل عمله وآخره. قاله مجاهد. والثالث: بما قدَّم من الشَّرِّ، وأخَّر من الخير. قاله عكرمة. والرابع: بما قدَّم من فرض، وأخَّر من فرض، قاله الضحاك. والخامس: بما قدَّم من المعصية، وأخّر من الطاعة.
والسادس: بما قدَّم من أمواله، وما خلَّف للورثة قاله زيد بن أسلم. قوله عزّ وجلّ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
قال الفراء: المعنى: بل على الإنسان من نفسه بصيرة، أي رقباء يشهدون عليه بعمله، وهي:
الجوارح. قال ابن قتيبة: فلما كانت جوارحه منه، أقامها مقامه. وقال أبو عبيدة: جاءت الهاء في «بصيرة» في صفة الذّكر، كما كانت في: رجل راوية، وطاغية، وعلّامة.
قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ.
وفي المعاذير قولان: أحدهما: أنه جمع عذر، فالمعنى: لو اعتذر، وجادل عن نفسه، فعليه من يكذَّب عذره، وهي: الجوارح، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أن المعاذير جمع معذار، وهو: الستر.
والمعاذير: الستور. فالمعنى: ولو أرخى ستوره، هذا قول الضحاك، والسدي، والزجاج. فيخرج في معنى «ألقى» قولان: أحدهما: قال، ومنه: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ «1» ، وهذا على القول الأول.
والثاني: أرخى، وهذا على القول الثاني.
[سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 25]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
قوله عزّ وجلّ: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
__________
(1) النحل: 36.(4/370)
(1505) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يشتد عليه حِفظه، وكان إذا نزل عليه الوحي يُحرِّك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، مخافة أن لا يحفَظه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. معناها: لا تحرك بالقرآن لسانك لتعجل بأخذه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
قال ابن قتيبة: أي: ضمَّه وجمعه في صدرك فَإِذا قَرَأْناهُ
أي: جمعناه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي:
جمعه. قال المفسرون: يعني: اقرأه إذا فرغ جبريل من قراءته «1» . قال ابن عباس: فاتِّبع قرآنه، أي:
اعمل به. وقال قتادة: فاتبع حلاله وحرامه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: نبيِّنه بلسانك، فتقرؤه كما أقرأك جبريل. وكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب، قرأه كما وعده الله، قاله ابن عباس.
والثاني: إِن علينا أن نجزيَ به يوم القيامة بما فيه من وعد ووعيد، قاله الحسن. والثالث: إِن علينا بيانه:
ما فيه من الأحكام، والحلال، والحرام، قاله قتادة. والرابع: علينا أن ننزِّله قرآناً عربياً، فيه بيان للناس، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال عطاء: أي: لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه، وقال ابن جرير:
والمعنى: ليس الأمر كما تقولون من أنكم لا تُبْعَثُون، ولكن دعاكم إلى قِيلِ ذلك مَحَبَّتُكم للعاجلة.
قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو «بل يحبون العاجلة ويذرون» بالياء فيهما. وقرأ الباقون بالتاء فيهما. والمراد: كفار مكة، يحبونها ويعملون لها «ويذرون الآخرة» أي:
يتركون العمل إيثارا للدنيا عليها.
قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي: مشرقة بالنّعم إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ روى عطاء عن ابن عباس قال: إلى الله ناظرة. قال الحسن: حق لها أن تَنْضَر وهي تنظر إلى الخالق، وهذا مذهب عكرمة. ورؤية الله عزّ وجلّ حقّ لا شكّ فيها. والأحاديث صحيحة صحاح، قد ذكرتُ جملة منها في «المغني» و «الحدائق» .
قوله عزّ وجلّ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ قال ابن قتيبة: أي: عابسة مقطّبة.
قوله عزّ وجلّ: تَظُنُّ قال الفراء: أي: تعلم، و «الفاقرة» يقال: إنه الداهية. قال ابن قتيبة: إنه من فَقارة الظهر، كأنها تكسره، يقال: فَقَرْتُ الرجل إذا كسرتَ فَقارَه، كما يقال: رَأَسْتُه: إذا ضربتَ رأْسَه، وبَطَنْتُه: إذا ضَرَبْتَ بَطْنَه. قال ابن زيد: والفاقرة: دخول النار. قال ابن السائب: هي أن تُحْجَبَ عن ربها، فلا تنظر إليه.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4929 والبغوي في «التفسير» 2297 بترقيمنا عن قتيبة بن سعيد بن عن ابن عباس.
وأخرجه البخاري 5 و 4927 و 4928 و 5044 و 7524 ومسلم 448 والترمذي 3329 والنسائي في «التفسير» 654 من طريق موسى بن أبي عائشة به.
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 349: فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلّى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح. وهذا يعضد ما تقدم في سورة المزمل من قوله: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أن قراءته صلّى الله عليه وسلم كان يمد صوته مدّا. وهذا المعنى صحيح. وذلك أن المتلقن من حكمه الأوكد أن يصغي إلى الملقن بقلبه ولا يستعين بلسانه، فيشترك الفهم بين القلب واللسان، فيذهب روح التحصيل بينهما، ويخزل اللسان بتجرد القلب للفهم، فيتيسر التحصيل، وتحريك اللسان يجرد القلب عن الفهم، فيتعسر التحصيل بعادة الله التي يسّرها.(4/371)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال الزجاج: «كلا» ردع وتنبيه. المعنى: ارتَدِعوا عما يؤدِّي إلى العذاب. وقال غيره: معنى «كلا» : لا يُؤْمِنُ الكافر بهذا.
قوله عزّ وجلّ: إِذا بَلَغَتِ يعني: النفس. وهذه كناية عن غير مذكور. والتَّراقِيَ العظام المكتنفة لنُقْرَة النَّحر عن يمين وشمال. وواحدة التراقي تَرْقوة، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، وَقِيلَ مَنْ راقٍ
فيه قولان: أحدهما: أنه قول الملائكة بعضهم لبعض: من يرقى روحه، ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب؟ رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية ومقاتل.
والثاني: أنه قول أهله: هل مِنْ رَاقٍ يَرْقيه بالرُّقى؟ وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال عكرمة، والضحاك، وأبو قلابة، وقتادة، وابن زيد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج.
قوله عزّ وجلّ: وَظَنَّ أي: أيقن الذي بلغت روحه التراقيَ أَنَّهُ الْفِراقُ للدنيا وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ فيه خمسة أقوال: أحدها: أمر الدنيا بأمر الآخرة، رواه الوالبي عن ابن عباس: وبه قال مقاتل.
والثاني: اجتمع فيه الحياة والموت، قاله الحسن. وعن مجاهد كالقولين. والثالث: التفت ساقاه في الكفن، قاله سعيد بن المسيب. والرابع: التفت ساقاه عند الموت، قاله الشعبي. والخامس: الشّدة بالشّدة، قاله قتادة. آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة.
قوله عزّ وجلّ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي: إلى الله المنتهى، قوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى قال أبو عبيدة: «لا» هاهنا في موضع «لم» . قال المفسرون هو أبو جهل وَلكِنْ كَذَّبَ بالقرآن وَتَوَلَّى عن الإيمان ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي: رجع إليهم يتبختر ويختال. قال الفراء: يَتَمَطَّى أي: يتبختر، لأن الظهر هو المَطَا، فيلوي ظهره متبختراً. وقال ابن قتيبة: أصله يتمطّط، فقلبت الطاء فيه، كما قيل:
يتظنّى، أي: يتظنن، ومنه المشية المُطَيْطَاء. وأصل الطاء في هذا كله دال. إنما هو مد يده في المشي إذا تبختر. يقال: مَطَطتُ ومَدَدتُ بمعنى.
قوله عزّ وجلّ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى قال ابن قتيبة: هو تهديد ووعيد. وقال الزجاج: العرب تقول:
أولى لفلان: إِذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه: وليك المكروه يا أبا جهل.
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ يعني: أبا جهل أَنْ يُتْرَكَ سُدىً قال ابن قتيبة: أي: يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعاقب، يقال: أسديت الشيء، أي: أهملته. ثم دل على البعث ب قوله عزّ وجلّ:
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى قرأ أبن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تُمْنَى» بالتاء. وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم، ويعقوب «يُمْنَى» بالياء. وعن أبي عمرو كالقراءتين. وقد شرحنا هذا في النجم «1» ثُمَّ كانَ عَلَقَةً بعد النطفة فَخَلَقَ فيه الروح، وسَوَّى خلقه فَجَعَلَ مِنْهُ أي:
__________
(1) النجم: 24.(4/372)
خَلَقَ من مائه أولاداً ذكوراً وإناثاً أَلَيْسَ ذلِكَ الذي فعل هذا بِقادِرٍ على أن يحيي الموتى وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري «يقدر» عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وهذا تقرير لهم، أي: إن من قَدَر على الابتداء قَدَر على الإعادة.
(1506) قال ابن عباس: إذا قرأ أحدكم هذه الآية، فليقل: اللهم بلى.
__________
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا كما في «الدر» 6/ 479. وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. أخرجه أبو داود 887 عن عبد الله بن محمد الزهري به. وأخرجه أحمد 2/ 249 والترمذي 3347 مختصرا والبيهقي 2/ 310 من طريق إسماعيل بن أمية به.
وقال الترمذي: هذا حديث إنما يروى بهذا الإسناد عن هذا الأعرابي عن أبي هريرة، ولا يسمى اه.
وأخرجه الحاكم 2/ 510 من طريق إسماعيل بن أمية عن أبي اليسع عن أبي هريرة به وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! في حين قال الذهبي في «الميزان» 4/ 589: أبو اليسع لا يدرى من هو. وأخرجه عبد الرزاق 3658 في «التفسير» عن إسماعيل بن أمية مرسلا، وهو الصحيح. الخلاصة: الحديث ضعيف بصيغة الأمر، وأما كونه مستحب فهو حسن كما في حديث موسى بن أبي عائشة أخرجه أبو داود 884 والبيهقي 2/ 310 وعبد الرزاق في «التفسير» عن إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة: أن رجلا حدثهم أنه سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلم.(4/373)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
سورة الإنسان
سورة هل أتى: ويقال لها: سورة الدهر وفيها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها مدنيّة كلّها، قاله الجمهور منهم، مجاهد وقتادة. والثاني:
مكيّة، قاله ابن يسار، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس. والثالث: أنّ فيها مكّيّا ومدنيّا.
ثم في ذلك قولان: أحدهما: أن المكّيّ منها آية، وهي قوله عزّ وجلّ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وباقيها جميعه مدنيّ، قاله الحسن وعكرمة. والثاني: أنّ أوّلها مدنيّ إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «2» ومن هذه الآية إلى آخرها مكّيّ، حكاه الماورديّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
قوله تعالى: هَلْ أَتى قال الفراء: معناه: قد أتى. و «هل» تكون خبراً، وتكون جحداً، فهذا من الخبر، لأنك تقول: هل وعظتك؟ هل أعطيتك؟ فتقرِّره بأنك قد فعلت ذلك. والجحد، أن تقول:
وهل يقدر أحد على مثل هذا؟ وهذا قول المفسرين، وأهل اللغة. وفي هذا الإنسان قولان: أحدهما:
أنه آدم عليه السلام. والحين الذي أتى عليه: أربعون سنة، وكان مصوَّراً من طين لم يُنُفَخ فيه الروح، هذا قول الجمهور. والثاني: أنه جميع الناس، روي عن ابن عباس، وابن جريج، فعلى هذا يكون الإنسان اسم جنس، ويكون الحين زمان كونه نطفة، وعلقة، ومضغة.
قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً المعنى: أنه كان شيئاً، غير أنه لم يكن مذكوراً.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني: ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ قال ابن قتيبة: أي:
أخلاط. يقال: مشجته، فهو مشيج، يريد: اختلاط ماء المرأة بماء الرجل.
قوله تعالى: نَبْتَلِيهِ قال الفراء: هذا مقدَّم، ومعناه التأخير، لأن المعنى: خلقناه وجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه. قال الزجاج: المعنى: جعلناه كذلك لنختبره وقوله عزّ وجلّ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 19/ 170: قال الجمهور: مدنية وقيل: فيها مكي، من قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا [الإنسان: 23] إلى آخر السورة وما تقدّمه مدني.
(2) الإنسان: 23.(4/374)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
أي بيَّنَّا له سبيل الهدى بنصب الأَدلة، وبعث الرسول «1» إِمَّا شاكِراً أي: خلقناه إما شاكرا وَإِمَّا كَفُوراً وقال الفراء: بيَّنَّا له الطريق إن شكر، أو كفر.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 31]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة «سلاسل» بغير تنوين، ووقفوا بألف، ووصله أبو عمرو بألف من غير تنوين والباقون يصلون بالتنوين ويقفون بألف.
قال مكي بن أبي طالب النحوي: «سلاسل» و «قوارير» أصله أن لا ينصرف، ومن صرفه من القراء، فإنها لغة لبعض العرب. وقيل: إنما صرفه لأنه وقع في المصحف بالألف، فصرفه لاتباع خط المصحف. قال مقاتل: السلاسل في أعناقهم، والأغلال في أيديهم. وقد شرحنا معنى «السّعير» في سورة النّساء «2» .
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْأَبْرارَ واحدهم بَرٌّ، وبَارٌّ، وهم الصادقون. وقيل: المطيعون. وقال الحسن: وهم الذين لا يؤذون الذَّر يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي: من إناءٍ فيه شراب كانَ مِزاجُها يعني:
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 535: وقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بيناه له ووضحناه وبصّرناه به، كقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى وكقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ، أي بينا له طريق الخير وطريق الشر، وهذا قول عكرمة وعطية وابن زيد ومجاهد- في المشهور عنه- والجمهور.
(2) النساء: 10.(4/375)
مزاج الكأس كافُوراً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكافور المعروف، قاله مجاهد، ومقاتل، فعلى هذا في المراد «بالكافور» ثلاثة أقوال: أحدها: برده، قاله الحسن. والثاني: ريحه، قاله قتادة.
والثالث: طعمه، قاله السدي. والثاني: أنه اسم عين في الجنة، قاله عطاء، وابن السائب. والثالث: أن المعنى: مزاجها كالكافور لطيب ريحه، وأجازه الفراء، والزجاج.
قوله عزّ وجلّ: عَيْناً قال الفراء: هي المفسرة للكافور، وقال الأخفش: هي منصوبة على معنى: أعني عيناً. وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى: من عين، قوله: يَشْرَبُ بِها فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يشرب منها. والثاني: يشربها، والباء صلة. والثالث: يشرب بها عباد الله الخمر يمزجونها بها.
وفي هذه العين قولان: أحدهما: أنها الكافور الذي سبق ذكره. والثاني: التّسنيم، وعِبادُ اللَّهِ هاهنا: أولياؤه يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً قال مجاهد: يقودونها إلى حيث شاؤوا من الجنة. قال الفراء: حيث ما أحب الرجل من أهل الجنّة فجّرها لنفسه.
قوله عزّ وجلّ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قال الفراء: فيه إضمار «كانوا» يوفون بالنذر. وفيه قولان «1» :
أحدهما: يوفون بالنذر إذا نذروا في طاعة الله، قاله مجاهد، وعكرمة. والثاني: يوفون بما فرض الله عليهم، قاله قتادة. ومعنى «النذر» في اللغة: الإيجاب. فالمعنى يوفون بالواجب عليهم، قوله: وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً قال ابن عباس: فاشياً. وقال ابن قتيبة: فاشياً منتشراً. يقال: استطار الحريق: إِذا انتشر، واستطار الفجر: إذا انتشر الضوء. وأنشدوا للأعشى:
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 536: وقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي: يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر.
وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 19/ 115: أي لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة: بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والحج والعمرة، وغيره من الواجبات. والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه في شيء يفعله، وإن شئت قلت: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقد قال الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج: 29]- أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم امتثال أمر الله بإحرامهم الحج. وهذا يقوي قول قتادة. قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 353: النذر مكروه بالجملة، ثبت في الصحيح عن مالك عن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قال تعالى: لا يأتي النذر على ابن آدم بشيء لم أكن قدّرته له، إنما يستخرج به من البخيل» - قلت: حديث صحيح. أخرجه أحمد 2/ 242 والحميدي 1112 والطحاوي في «المشكل» 842 من طريق سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى. وأخرجه أبو داود 3288 من طريق مالك به ولم يقل: «قال الله تعالى: ... » وأخرجه البخاري 6694 والنسائي 7/ 106. من طريق أبي الزناد به، وليس فيه «قال الله تعالى» .
وأخرجه البخاري 6694 ومسلم 1640 والنسائي 7/ 16- 17 والترمذي 1538 وابن ماجة 2123 وأحمد 2/ 373 و 412 و 463 وابن أبي عاصم في «السنة» 312 وابن حبان 4376 والحاكم 4/ 304 والبيهقي 10/ 77 من طريق عبد الرحمن الأعرج به. ولم يقل: «قال الله تعالى» . قال ابن العربي: وذلك لفقه صحيح، وهو أن الباري سبحانه وعد بالرزق على العمل ومنه مفروض، ومنه مندوب، فإذا عين العبد ليستدر به الرزق، أو يستجلب به الخير، أو يستدفع به الشر لم يصل إليه به، فإن وصل فهو لبخله. والله أعلم. [.....](4/376)
فبانت وقد أسأرت في الفؤاد ... صَدْعاً عَلَى نَأْيِها مُسْتَطِيراً «1»
وقال مقاتل: كان شرّه فاشيا في السموات، وانشقّت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكوِّرت الشمس والقمر في الأرض، ونُسِفَتْ الجبال، وغَارَت المياه، وتكَسَّر كل شيء على وجه الأرض من جبلٍ، وبناءٍ، وفَشَا شَرُّ يوم القيامة فيهما.
قوله عزّ وجلّ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
(1507) أحدهما: نزلت في علي بن أبي طالب. آجر نفسه يسقي نخلاً بشيء من شعيرٍ ليلة حتى أصبح، فلما قبض الشعير طحن ثلثه، وأصلحوا منه شيئاً يأكلونه، فلما استوى أتى مسكين، فأخرجوه إليه، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم أتى يتيم، فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي، فلمّا تمّ جاء أسير من المشركين، فأطعموه وطوَوْا يومهم ذلك، فنزلت هذه الآيات، رواه عطاء عن ابن عباس.
(1508) والثاني: أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري صام يوماً، فلما أراد أن يفطر جاء مسكين، ويتيم، وأسير، فأطعمهم ثلاثة أرغفة، وبقي له ولأهله رغيف واحد، فنزلت فيهم هذه الآية، قاله مقاتل.
وفي هاء الكناية في قوله عزّ وجلّ عَلى حُبِّهِ قولان: أحدهما: ترجع إلى الطعام، فكأنهم كانوا يُؤْثِرُون وهم محتاجون إليه، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والزجاج، والجمهور. والثاني: أنها ترجع إلى الله تعالى، قاله الداراني. وقد سبق معنى «المسكين واليتيم» «2» . وفي الأسير أربعة أقوال «3» : أحدها:
أنه المسجون من أهل القبلة، قاله مجاهد، وعطاء وسعيد بن جبير. والثاني: أنه الأسير المشرك، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: المرأة، قاله أبو حمزة الثمالي. والرابع: العبد، ذكره الماورديّ.
__________
موضوع. ذكره الواحدي في «الأسباب» 844 عن عطاء عن ابن عباس معلقا بدون إسناد. وأخرجه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس، ومن رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، في قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ... الآية فذكره بتمامه، وزاد في أثناءه أشعارا لعلي وفاطمة. قاله الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 670. وأخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 390 عن الأصبغ بن نباتة ... فذكره بشعره وزيادة بعض الألفاظ، ثم قال: وهذا لا نشك في وضعه. وكذا قال الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» 1/ 154- 155: ومن الحديث الذي ينكره قلوب المحققين: ما روي عن ابن عباس ... فذكره ثم قال: هذا حديث مزوّق، وقد تطرف فيه صاحبه حتى يشبّه على المستمعين، والجاهل يعض على شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يدري أن صاحب هذا الفعل مذموم.
- وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6208 بتخريجي.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء، وذكر نزول السورة ليس له أصل في هذا الخبر، وقد ورد في أبي الدحداح غير هذه الآية، وتقدم.
__________
(1) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس، وهو في ديوانه 93.
(2) البقرة: 83.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 537: قال عكرمة: هم العبيد، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك، وقد أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث، حتى إنه كان آخر ما أوصى به أن جعل يقول: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» .(4/377)
فصل: وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تضمنت مدحهم على إطعام الأسير المشرك.
قال: وهذا منسوخ بآية السيف. وليس هذا القول بشيء، فإن في إطعام الأسير المشرك ثواباً، وهذا محمول على صدقة التطوع. فأما الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفَّار، ذكره القاضي أبو يعلى.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي: لطلب ثواب الله. قال مجاهد، وابن جبير: أما إنهم ما تكلموا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم لِيَرْغَبَ في ذلك راغب.
قوله عزّ وجلّ: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي: بالفعل وَلا شُكُوراً بالقول إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي: ما في يوم عَبُوساً قال ابن قتيبة: أي: تعبس فيه الوجوه، فجعله من صفة اليوم، كقوله عزّ وجلّ: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «1» ، أراد: عاصف الريح: فأما «القمطرير» فروى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه الطويل. وروى عنه العوفي أنه قال: هو الذي يقبّض فيه الرجل ما بين عينيه ووجهه. فعلى هذا يكون اليوم موصوفاً بما يجري فيه، كما قلنا في «العبوس» لأن اليوم لا يوصف بتقبيض ما بين العينين. وقال مجاهد، وقتادة: «القمطرير» الذي يقلِّص الوجوه، ويقبض الحياة، وما بين الأعين من شدته. وقال الفراء: هو الشديد. يقال: يوم قمطرير، ويوم قماطر، وأنشدني بعضهم.
بَنِي عَمِّنَا هَلْ تَذْكُرونَ بَلاَءَنَا ... عليكُم إذا ما كان يَوْمٌ قُماطِرُ
وقال أبو عبيدة: العبوس، والقمطرير، والقماطر، والعَصِيب، والعَصَبْصَب: أشد ما يكون من الأيام، وأطوله في البلاء.
قوله عزّ وجلّ: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ بطاعتهم في الدنيا وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي: حُسْنَاً وبياضاً في الوجوه، وَسُرُوراً لا انقطاع له. وقال الحسن: النَّضْرة في الوجوه والسُّرُور في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا على طاعته، وعن معصيته جَنَّةً وَحَرِيراً وهو لباس أهل الجنة مُتَّكِئِينَ فِيها قال الزجاج: هو منصوب على الحال، أي: جزاهم جنة في حال اتكائهم فيها. وقد شرحنا هذا في الكهف «2» .
قوله عزّ وجلّ: لاَ يَرَوْنَ فِيها شَمْساً فيُؤذيهم حَرُّها وَلا زَمْهَرِيراً وهو البرد الشديد. والمعنى: لا يجدون فيها الحَرَّ والبرد. وحكي عن ثعلب أنه قال: الزمهرير: القمر، وأنشد:
وَلَيْلَةٍ ظَلاَمُهَا قَد اعْتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا وَالزّمْهَريرُ مَا زَهَر
أي: لم يطلع القمر.
قوله عزّ وجلّ: وَدانِيَةً قال الفراء: المعنى: وجزاهم جنة، ودانيةً عليهم ظلالها، أي: قريبة منهم ظلال أشجارها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا قال ابن عباس: إِذا هَمَّ أن يتناول من ثمارها تَدَلَّتْ إليه حتى يتناولَ ما يريد. وقال غيره: قُرِّبَتْ إليهم مُذَلَّلة كيف شاؤوا، فهم يتناولونها قياماً، وقعودا، ومضطجعين، فهو كقوله عزّ وجلّ: قُطُوفُها دانِيَةٌ «3» . فأمّا «الأكواب» فقد شرحناها في (الزّخرف) «4» قوله: كانَتْ قَوارِيرَا أي: تلك الأكواب هي قوارير، ولكنها من فضة. قال ابن عباس: لو ضَرَبْتَ فضةَ الدنيا حتى جعلتَها مثل جناح الذباب، لم يُرَ الماء من ورائها، وقوارير الجنة من فضة في صفاء
__________
(1) إبراهيم: 18.
(2) الكهف: 31.
(3) الحاقة: 23.
(4) الزخرف: 71.(4/378)
القارورة. وقال الفراء. وابن قتيبة: هذا على التشبيه، المعنى: كأنها من فضة، أي: لها بياض كبياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير. وكان نافع، والكسائيّ، وأبو بكر عن عاصم يقرءون «قواريراً قواريراً» فَيَصِلُونَهما جميعاً بالتنوين. ويقفون عليهما بالألف. وكان ابن عامر وحمزة يَصِلاَنِهما جميعاً بغير تنوين، ويقفان عليهما بغير ألف. وكان ابن كثير يصل الأول بالتنوين، ويقف بغير ألف. ويصل الثاني بغير تنوين وروى حفص عن عاصم أنه كان يقرأ «سلاسل» و «قوارير قوارير» يَصِلُ الثلاثة بغير تنوين، ويقف على الثلاثة بالألف. وكان أبو عمرو يقرأ الأول «قواريرا» فيقف عليه بألف، ويصل بغير تنوين.
وقال الزجاج: الاختيار عند النّحويين أن لا تنصرف «قوارير» لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف. ومن قرأ «قواريرا» يصرف الأول لأنّه رأس آية، ويترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية. ومن صرف الثاني: أتبع اللفظ اللفظ، لأن العرب ربما قلبت إعراب الشيء لتُتْبِعَ اللفظ اللفظ، كما قالوا:
جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ. وإِنما الخَرِبُ من نعت الجحر.
قوله عزّ وجلّ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر «قُدِّروها» برفع القاف، وكسر الدال، وتشديدها. وقرأ حميد، وعمرو بن دينار «قَدَرُوها» بفتح القاف، والدال، وتخفيفها. ثم في معنى الآية قولان: أحدهما: قَدَّرُوها في أنفسهم، فجاءت على ما قَدَّرُوا، قاله الحسن. وقال الزجاج: جعل الإناء على قَدْر ما يحتاجون إليه ويريدونه على تقديرهم. والثاني: قَدَّروها على مقدارٍ لا يزيد ولا ينقص، قاله مجاهد. وقال غيره: قدروا الكأس على قَدْر رِيِّهم، لا يزيد عن رِيِّهم فيُثْقِلُ الكفَّ، ولا ينقص منه فيطلب الزيادة، وهذا ألذُّ الشراب. فعلى هذا القول يكون الضمير في «قدَّروا» للسقاة والخدم. وعلى الأول للشاربين.
قوله عزّ وجلّ: وَيُسْقَوْنَ فِيها يعني في الجنة كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا والعرب تضرب المثل بالزنجبيل والخمر ممزوجين. قال المسيّب يصف فم امرأة:
فَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبيل بِهِ ... إذْ ذُقْتَهُ وَسُلاَفَةُ الخَمْرِ «1»
وقال آخر:
كَأَنَّ القرنفل والزّنجبيل ... باتا بِفِيها وأرْيَاً مُشَاراً «2»
الأَرْي: العسل. والمشار: المستخرج من بيوت النّحل. قال مجاهد: الزّنجبيل: اسم العين التي منها شراب الأبرار. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الزنجبيل معرّب. قال: وقال الدِّيْنَوَرِي: يَنْبُتُ في أرياف عُمَان، وهي عروق تسري في الأرض، وليس بشجرة تؤكل رُطَباً، وأجود ما يحمل من بلاد الصين. قال الزجاج: وجائز أن يكون فيها طعم الزنجبيل، والكلام فيه كالكلام السابق في الكافور. وقيل: شراب الجنّة على بردِ الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك.
قوله عزّ وجلّ: عَيْناً فِيها قال الزجاج: يسقون عيناً. وسلسبيل: اسم العين، إلا أنه صرف لأنه رأس آية. وهو في اللغة: صفة لما كان في غاية السلاسة. فكأن العين وصفت وسميت بصفتها. وقرأت
__________
(1) هو في آخر ديوان الأعشى ابن أخت المسيب بن علس.
(2) البيت في ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس 93.(4/379)
على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قوله عزّ وجلّ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا قيل: هو اسم أعجمي نَكِرَة، فلذلك يصرف. وقيل: هو اسم معرفة، إلا أنه أُجْرِيَ، لأنه رأس آية. وعن مجاهد قال: حديدة الجرية. وقيل: سلسبيل: سلس ماؤها، مستفيد لهم. وقال ابن الأنباري: السّلسبيل صفة الماء، لِسَلَسِهِ وسهولة مدخله في الحلق. يقال: شراب سَلْسَل، وسَلْسال، وسَلْسَبِيل. وحكى الماوردي: أن عليّاً عليه السلام قال: المعنى: سَلْ سَبِيلاً إليها، ولا يصح.
قوله عزّ وجلّ: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ قد سبق بيانه «1» إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أي: في بياض اللؤلؤ وحسنه، واللؤلؤ إذا انتثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما. وإنما شُبِّهوا باللؤلؤ المنثور، لانتشارهم في الخدمة. ولو كانوا صفّا لشبّهوه بالمنظوم. قوله: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ يعني:
الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً لا يوصف وَمُلْكاً كَبِيراً أي: عظيماً واسعاً لا يريدون شيئاً إِلا قدَروا عليه، ولا يدخل عليهم ملَك إلّا باستئذان.
قوله عزّ وجلّ: عالِيَهُمْ قرأ أهل المدينة، وحمزة، والمفضل عن عاصم بإسكان الياء، وكسر الهاء. وقرأ الباقون بفتح الياء، إلا أن الجعفي عن أبي بكر قرأ «عَالِيَتُهُم» بزيادة تاء مضمومة. وقرأ أنس بن مالك، ومجاهد وقتادة «عَلَيْهِم» بفتح اللام، وإسكان الياء من غير تاءٍ، ولا ألف.
قال الزجاج: فأما تفسير إعراب «عالِيْهم» بإسكان الياء، فيكون رفعه بالابتداء، ويكون الخبر ثِيابُ سُندُسٍ وأما «عَالِيَهم» بفتح الياء، فنصبه على الحال من شيئين، أحدهما من الهاء والميم، والمعنى: يطوف على الأبرار وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون عالي الأبرار ثياب سندس، لأنه قد وصف أحوالهم في الجنة، فيكون المعنى: يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء. ويجوز أن يكون حالاً من الوِلْدان.
المعنى: إذا رأيتَهم حَسِبْتَهم لؤلؤاً منثوراً في حال عُلُوِّ الثياب. وأمّا «عاليهم» فقد قرئت بالرفع وبالنصب، وهما وجهان جَيِّدان في العربية، إلا أنهما يخالفان المصحف، فلا أرى القراءة بهما، وتفسيرها كتفسير «عاليهم» .
قوله عزّ وجلّ: ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، «خضر» رفعا «وإِسْتَبْرقٍ» خفضاً.
وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم «خُضْرٍ» خفضاً «وإستبرقٌ» رفعا. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم «خُضْرٌ وإستبرقٌ» كلاهما بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي «خضْرٍ وإسْتَبْرقٍ» كلاهما بالخفض. قال الزجاج: من قرأ خُضْرٌ بالرفع، فهو نعت الثياب، ولفظ الثياب لفظ الجمع، من قرأ «خُضْرٍ» فهو من نعت السندس، والسندسُ في المعنى راجع إلى الثياب. ومن قرأ «وإستبرق» رفعا فهو نسق على «ثياب» والمعنى: عليهم إستبرق. ومن خفض عطفه على السندس، فيكون المعنى: عليهم ثياب من هذين النوعين وقد بَيّنَّا في الكهف «2» معنى السندس، والإستبرق والأساور.
قوله عزّ وجلّ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً فيه قولان: أحدهما: لا يُحْدِثون ولا يَبُولُون عن شُرْب خَمْر الجَنَّة. قاله عطية. والثاني: لأن خمر الجنة طاهرةٌ، وليست بنجسةٍ كخمرِ الدنيا، قاله الفراء: وقال أبو قلابة: يُؤْتَوْنَ بعد الطَعام بالشَّرابِ الطَّهورِ فيشربون فَتَضْمُر بذلك بُطونُهم، ويفيض من
__________
(1) الواقعة: 17.
(2) الكهف: 31.(4/380)
جلودهم عرق مثل رشح المسك.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ هذا يعني: ما وصف من نعيم أهل الجنة كانَ لَكُمْ جَزاءً بأعمالكم وَكانَ سَعْيُكُمْ أي: عملكم في الدنيا بطاعة الله مَشْكُوراً قال عطاء: يريد: شكرتكم عليه، وأثيبكم عليه أفضل الثواب إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا، أي: فصّلناه في الإنزال، فلم نُنْزِلْه جُمْلَةً واحدةً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ قد سبق بيانه في مواضع «1» . والمفسّرون يقولون: هو منسوخ بآية السيف، ولا يصحّ، قوله:
وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ أي: من مشركي أهل مكة آثِماً أَوْ كَفُوراً «أو» بمعنى الواو، كقوله: أَوِ الْحَوايا «2» . وقد سبق بيان هذا.
وللمفسّرين في المراد بالآثم وفي الكفور ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما صفتان لأبي جهل. والثاني:
أن الآثم: عتبة بن ربيعة، والكفور الوليد بن المغيرة. والثالث: الآثم: الوليد. والكَفُور: عتبة، وذلك أنهما قالا له: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج. قوله وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي: اذكره بالتوحيد في الصلاة بُكْرَةً يعني: الفجر وَأَصِيلًا يعني: العصر. وبعضهم يقول: الظهر والعصر وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ يعني: المغرب والعشاء. وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وهي: صلاة الليل كلّ فريضة عليه، وهي لأُمَّتِهِ تَطَوُّع إِنَّ هؤُلاءِ يعني: كفّار مكّة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي يعني: الدّار العاجلة، وهي الدنيا وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يعني: أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا أي: عسيراً شديداً. والمعنى: أنهم يتركون الإيمان به، والعمل له. ثم ذكر قدرته، فقال عزّ وجلّ: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي: خَلْقهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. قال ابن قتيبة: يقال: امرأة حَسَنَةُ الأسر، أي: حَسَنَةُ الخَلْقِ كأنها أُسِرتْ أي: شُدَّتْ. وأصل هذا من الإسار، وهو: القِدُّ. الذي تشد به الأقتاب يقال: ما أحسن ما أَسَر قَتَبَهُ، أي: ما أحسن ما شَدَّه بالقِدِّ. وروي عن أبي هريرة قال: مفاصلهم. وعن الحسن قال: أوصالهم بعضا إلى بعض بالعروق والعصب، قوله: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي: إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ وقد شرحنا الآية في المزّمّل «3» .
قوله عزّ وجلّ: وَما تَشاؤُنَ إيجاد السبيل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ذلكم، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، «وما يشاءون» بالياء.
قوله عزّ وجلّ: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ قال المفسرون: والرّحمة هاهنا: الجنّة وَالظَّالِمِينَ المشركين. قال أبو عبيدة: نصب «الظالمين» بالجوار، المعنى: ولا يُدخل الظالمين في رحمته. وقال الزجاج: إنما نصب «الظالمين» لأنَّ قبله منصوباً. المعنى: يُدخل من يشاء في رحمته، ويعذب الظالمين، فيكون قوله عزّ وجلّ: أَعَدَّ لَهُمْ تفسيراً لهذا المضمر، وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة «والظالمون» رفعا.
__________
(1) الطور: 48، والقلم: 48.
(2) الأنعام: 146.
(3) المزمل: 19. [.....](4/381)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
سورة المرسلات
وهي مكّيّة كلّها في قول الجمهور وحكي عن ابن عباس، وقتادة، ومقاتل أن فيها آية مدنيّة، وهي قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
قوله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: أنها الرياح يَتْبَعُ بعضُها بعضاً، رواه
__________
(1) المرسلات: 48.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 541: توقف ابن جرير في الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً هل هي الملائكة، ولم يرجح- وقطع بأن العاصفات عصفا هي الرياح كما قاله ابن مسعود اه.(4/382)
أبو العُبَيْدَينِ عن ابن مسعود، والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، رواه مسروق عن ابن مسعود، وبهذا قال أبو هريرة ومقاتل.
وقال الفراء: هي الملائكة.
فأمّا قوله عزّ وجلّ: عُرْفاً فإنها: أُرْسِلتْ بالمعروف، ويقال: تَتَابَعَتْ كعُرْفِ الفَرَسِ. والعرب تقول: يركب الناس إلى فلان عُرْفاً واحداً: إِذا توجهوا إليه فأكثروا. قال ابن قتيبة: يريد أن الملائكة متتابعة بما ترسَل به. وأصله من عرف الفرس، لأنه طرف مستوٍ، بعضه في إِثر بعض فاستعير للقوم يتبع بعضُهم بعضاً. والثالث: أنهم الرسل بما يعرفون به من المعجزات، هذا معنى قول أبي صالح، ذكره الزجاج. والرابع: أنها الملائكة والريح، قاله أبو عبيدة. قال: ومعنى «عرفا» : يتبع بعضها بعضا. يقال:
جاءوني عُرْفاً.
وفي «العاصفات» قولان: أحدهما: أنها الرياح الشديدة الهبوب، قاله الجمهور. والثاني:
الملائكة، قاله مسلم بن صبيح. قال الزجاج: تعصف بروح الكافر.
وفي «الناشرات» خمسة أقوال: أحدها: أنها الرياح تنشر السحاب، قاله ابن مسعود، والجمهور.
والثاني: الملائكة تنشر الكتب، قاله أبو صالح. والثالث: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، قاله الضحاك. والرابع: البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح، قاله الربيع. والخامس: المطر ينشر النبات، حكاه الماوردي.
وفي «الفارقات» أربعة أقوال «1» : أحدها: الملائكة تأتي بما يفرِّق بين الحق والباطل، قاله الأكثرون. والثاني: آي القرآن فَرَّقَتْ بين الحلال والحرام، قاله الحسن، وقتادة، وابن كيسان.
والثالث: الريح تفرّق بين السحاب فتبدِّدُه، قاله مجاهد. والرابع: الرسل، حكاه الزّجّاج.
وفي «الملقيات ذكرا» قولان: أحدهما: الملائكة تبلّغ ما حملت من الوحي إلى الأنبياء، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، والجمهور. والثاني: الرسل يلقون ما أُنزل عليهم إلى الأمم، قاله قطرب.
قوله عزّ وجلّ: عُذْراً أَوْ نُذْراً وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «عُذْراً» خفيفاً «أو نُذُراً» ثقيلا. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف «عُذْراً أو نُذْراً» خفيفتان.
قال الفراء: وهو مصدر، مثقَّلاً كان أو مخفّفاً. ونصبه على معنى: أُرسلتُ بما أرسلتُ به إِعذاراً من الله وإنذاراً. وقال الزجاج: المعنى: فالملقياتِ عُذراً أو نُذراً. ويجوز أن يكون المعنى: فالملقيات ذكراً للإعذار والإنذار. وهذه المذكورات مجرورات بالقسم. وجواب القسم إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ قال المفسرون: إنَّ ما توعَدون به من أمر الساعة، والبعث، والجزاء لَواقِعٌ، أي: لكائن. ثم ذكر متى يقع فقال عزّ وجلّ: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي: مُحِيَ نُورُها وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ: شُقَّتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ قال الزجاج: أي: ذُهِبَ بها كلُّها بسرعة. يقال: انتسفتُ الشيء: إذا أخذته بسرعة.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 542: يعني الملائكة، ولا خلاف هاهنا فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، فتفرق بين الحقّ والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره.(4/383)
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ قرأ أبو عمرو «وُقِّتَتْ» بواو مع تشديد القاف. ووافقه أبو جعفر، إلا أنه خَفَّفَ القاف. وقرأ الباقون: «أُقِّتت» بألف مكان الواو مع تشديد القاف. قال الزجاج:
وُقِّتَتْ وأُقِّتَتْ بمعنى واحد. فمن قرأ «أُقِّتت» بالهمز، فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو. وكل واو انضمت، وكانت ضمّتها لازمة، جاز أن تبدل منها بهمزة. وقال الفراء: الواو إذا كانت أول حرف، وضُمَّتْ، همزت. تقول: صلى القوم أُحداناً. وهذه أُجوهٌ حسان. ومعنى «أُقِّتت» : جمعت لوقتها يوم القيامة. وقال ابن قتيبة: جمعت لوقت، وهو يوم القيامة. وقال الزجاج: جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمّة.
قوله عزّ وجلّ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي: أُخِّرَتْ. وضَرْبُ الأجل لجمعهم، يعجِّب العباد من هول ذلك اليوم. ثم بيّنه فقال عزّ وجلّ: لِيَوْمِ الْفَصْلِ وهو يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق. ثم عَظَّم ذلك اليوم بقوله: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بالبعث. ثم أخبر الله تعالى عما فعل بالأمم المكذِّبة، فقال: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ يعني بالعذاب في الدنيا حين كذَّبوا رسلهم ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ والقراء على رفع العين في «نتبعُهم» ، وقد قرأ قوم منهم أبو حيوة بإسكان العين. قال الفراء:
«نتبعهم» مرفوعة. ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود «وسنتبعهم الآخرين» . ولو جزمتَ على معنى: ألم نقدر على إهلاك الأولين وإتباعهم الآخرين كان وجهاً جيداً. وقال الزجاج: الجزم عطف على «نُهْلكْ» ، ويكون المعنى: لمن أُهلك أولاً وآخراً. والرفع على معنى: ثم نتبع الأول والآخر من كل مجرم. وقال مقاتل: ثم نتبعهم الآخرين: يعني: كفار مكّة كذّبوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقال ابن جرير: الأوَّلون: قوم نوح، وعاد، وثمود، والآخرون: قوم إبراهيم، ولوط، ومَدْيَن.
قوله عزّ وجلّ: كَذلِكَ أي: مثل ذلك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ يعني: المكذِّبين. فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ؟ فالجواب: أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى، لأنه كلما ذكر شيئاً قال: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذا.
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ قرأ قالون عن نافع بإظهار القاف. وقرأ الباقون بإدغامها.
قوله عزّ وجلّ: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي: ضعيف فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ يعني: الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وهو مدة الحمل فَقَدَرْنا قرأ أهل المدينة، والكسائي «فَقَدَّرْنَا» بالتشديد. وقرأ الباقون: بالتخفيف.
وهل بينهما فرق؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد. قال الفراء: تقول العرب: قَدَر عليه، وقَدَّر عليه. وقد احتج من قرأ بالتخفيف فقال: لو كانت مشدّدة لقال: فنعم القادرون، فأجاب الفراء فقال: قد تجمع العرب بين المعنيين، كقوله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «1» . قال الشاعر:
وَأَنْكَرَتْني وَمَا كانَ الَّذي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوَادِثِ إِلاَّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا «2»
يقول: ما أنكرت إلّا ما يكون في الناس.
__________
(1) الطارق: 17.
(2) البيت للأعشى الكبير ديوانه: 101 من قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة.(4/384)
والثاني: أن المخفَّفة من القُدْرَة والملك، والمشدَّدة من التقدير والقضاء. ثم بيَّن لهم صنعه ليعتبروا فيوحّدوه، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً قال اللغويون: الكفت في اللغة: الضم.
والمعنى: أنها تضم أهلها أحياءً على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. قال ابن قتيبة: يقال: اكفتْ هذا إليك، أي: ضمه. وكانوا يسمون بقيع الغرقد: كفتة، لأنه مقبرة يضمّ الموتى.
وفي قوله عزّ وجلّ: أَحْياءً وَأَمْواتاً قولان: أحدهما: أن المعنى: تكفتهم أحياءً وأمواتاً، قاله الجمهور. قال الفراء: وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم، كأنك قلت: ألم نجعل الأرض كفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ، فإذا نَوَّنْتَ نصبتَ كما يقرأ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً «1» وقال الأخفش: انتصب على الحال.
والقول الثاني: أن المعنى: ألم نجعل الأرض أحياءً بالنبات والعمارة، وأمواتاً بالخراب واليبس، هذا قول مجاهد، وأبي عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ قد سبق بيانه شامِخاتٍ أي: عاليات وَأَسْقَيْناكُمْ قد سبق معنى «أسقينا» «2» ومعنى «الفرات» «3» والمعنى: أن هذه الأشياء أعجب من البعث. ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا، وهو النار انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي. قال ابن قتيبة: «والظّل» هاهنا: ظل من دخان نار جهنم سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدُّخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيقال لهم: كونوا فيه إِلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه، أو حيث شاء من الظل، ثم يُؤْمَرُ بكل فريق إلى مستقرِّه من الجنة والنار لا ظَلِيلٍ أي: لا يظلكم من حرِّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس. قال مجاهد: تكون شعبة فوق الإِنسان، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله، فتحيط به. وقال الضحاك: الشعب الثلاث: هي الضَّريع، والزَّقوم، والغِسْلين. فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي: لا يدفع عنكم لَهَبَ جهنم. ثم وصف النار فقال عزّ وجلّ إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ، وهو جمع شررة، وهو ما يتطاير من النار متفرقاً كَالْقَصْرِ قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنيَّة. وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول الجمهور. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، وأبو الجوزاء «كالقَصَر» بفتح الصاد. وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس قال: كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل فنرفعه للشتاء، فنسميه:
القصر. قال ابن قتيبة: من فتح الصاد أراد: أُصول النخل المقطوعة المقلوعة. وقال الزّجّاج: أراد أعناق الإبل. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعائشة، وعكرمة، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وابن يعمر «كالقَصِر» بفتح القاف، وكسر الصاد. وقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، والنخعي «كالقُصُر» برفع القاف والصاد جميعاً. وقرأ أبو الدرداء، وسعيد بن جبير «كالقِصَر» بكسر القاف، وفتح الصاد، وقرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ «كالقصر» بضمّ القاف وإسكان الصاد.
__________
(1) البلد: 14- 15.
(2) الحجر: 22، الجن: 16.
(3) الفرقان: 53، فاطر: 12.(4/385)
قوله عزّ وجلّ: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «جِمالاَتٌ» بألف، وكسر الجيم. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «جِمَالَةُ» على التوحيد. وقرأ رويس عن يعقوب «جُمَالاَت» بضم الجيم. وقرأ أبو رزين، وحميد، وأبو حيوة «جُمَالة» برفع الجيم على التوحيد. قال الزجاج: من قرأ «جِمالات» بالكسر، فهو جمع جِمَال، كما تقول:
بُيوت، وبُيوتَات، وهو جمع الجمع، فالمعنى: كأن الشرارات كالجمالات. ومن قرأ «جُمالات» بالضم، فهو جمع «جمالة» ، وهو القلس من قلوس سفن البحر، ويجوز أن يكون جمع جمل وجمال وجمالات، ومن قرأ جِمالةً فهو جمع جَمَل وجِمالة، كما قيل: حَجر، وحِجَارة. وذَكَر، وذِكَارَة.
وقرئت «جُمالة» على ما فسرناه في جُمالات بالضم. و «الصُّفْر» هاهنا: السود. يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصفرة: إِبل صُفْرٌ. وقال الفراء: الصُّفْر: سود الإبل لا يُرى الأسود من الإبل إلا وهو مُشْرَبٌ صُفْرَةً، فلذلك سَمَّتْ العرب سود الإبل: صُفْراً، كما سَمَّوا الظباء: أدماً لما يعلوها من الظلمة في بياضها، قال الشاعر:
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هنّ سور أولادها كالزّبيب
قوله عزّ وجلّ: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ قال المفسرون: هذا في بعض مواقف القيامة. قال عكرمة:
تكلَّموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، فتكلَّمت أيديهم، وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذون لهم فيعتذرون. وقال ابن الأنباري: لا ينطقون بحجة تَنْفَعُهم. وقرأ أبو رجاء، والقاسم بن محمد، والأعمش، وابن أبي عبلة «هذا يومَ لا ينطقون» بنصب الميم.
قوله عزّ وجلّ: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي: بين أهل الجنة وأهل النار جَمَعْناكُمْ يعني: مكذِّبي هذه الأمة وَالْأَوَّلِينَ من المكذِّبين الذين كذَّبوا أنبياءَهم فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب، أي: إن قَدَرْتُم على حيلة، فاحتالوا لأنفسكم. ثم ذكر ما للمؤمنين، فقال عزّ وجلّ:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ يعني: ظلال الشجر، وظلال أكنان القصور وَعُيُونٍ الماء وهذا قد تقدّم بيانه، إلى قوله عزّ وجلّ: كُلُوا أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون في الدنيا بطاعة الله.
ثم قال لكفار مكة: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا في الدنيا إِلى منتهى آجالكم إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي: مشركون بالله.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا فيه قولان: أحدهما: أنه حين يُدْعَون إلى السجود يوم القيامة، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم: اركعوا، أي صلوا لا يَرْكَعُونَ أي: لا يصلُّون. وإلى نحو هذا ذهب مجاهد في آخرين، وهو الأصح.
(1509) وقيل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالصلاة، فقالوا: لا نحني، فإنها مَسَبَّةٌ علينا، فقال: «لا خير في دين ليس فيه ركوع» .
قوله عزّ وجلّ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي: إن لم يصدِّقوا بهذا القرآن، فبأيِّ كتاب بعده يصدِّقون، ولا كتاب بعده.
__________
ضعيف. أخرجه أبو داود 3026 وأحمد 4/ 218 من حديث عثمان بن أبي العاص وليس فيه سبب نزول، وحسّن إسناده الأرناؤوط في «جامع الأصول» 6175. وخالفه الألباني فذكره في ضعيف أبي داود 652 و «الضعيفة» 4319 وعلته عنعنه الحسن، وهو مدلس.(4/386)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
سورة النّبأ
ويقال لها: سورة عمّ يتساءلون وهي مكيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24)
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصله «عنْ ما» فأدغمت النون في الميم، وحذفت ألف «ما» كقولهم:
فيم، وبم.
(1510) قال المفسرون: لما بُعِثَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جَعَلَ المشركون يتساءلون بينهم، فيقولون: ما الذي أتى به؟ ويتجادلون، ويختصمون فيما بعث به، فنزلت هذه الآية. واللفظ لفظ استفهام. والمعنى:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 35997 عن الحسن قوله. وأخرج الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما غير ذلك، وكل ذلك ضعيف، لا حجة فيه لأنه مجرد اجتهاد منهم.(4/387)
تفخيم القصة، كما يقولون: أيُّ شيء زيد؟ إذا أردت تعظيم شأنه. ثم بيَّن ما الذي يتساءلون عنه، فقال عزّ وجلّ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: عن الخبر العظيم الشأن. وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: القرآن، قاله مجاهد، ومقاتل، والفراء. قال الفراء: فلما أجاب صارت «عم» كأنها في معنى: لأي شيءٍ يتساءلون عن القرآن. والثاني: البعث، قاله قتادة. والثالث: أنه أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم، حكاه الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ من قال: إنه القرآن، فإن المشركين اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو سحر، وقال بعضهم: هو شعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين، إلى غير ذلك. وكذلك من قال: هو أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. فأما من قال: إنه البعث والقيامة، ففي اختلافهم فيه قولان:
أحدهما: أنهم اختلفوا فيه لما سمعوا به، فمنهم من صدَّق وآمن، ومنهم من كذَّب، وهذا معنى قول قتادة. والثاني: أن المسلمين والمشركين اختلفوا فيه، فصدَّق به المسلمون، وكذَّب به المشركون، قاله يحيى بن سلام.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال بعضهم: هي ردع وزجر. وقال بعضهم: هي نفي لاختلافهم، والمعنى: ليس الأمر على ما قالوا، سَيَعْلَمُونَ عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وعيد على إثر وعيد. وقرأ ابن عامر «ستعلمون» في الحرفين بالتاء. ثم ذكر صنعه ليعرفوا توحيده، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي: فراشاً وبساطاً وَالْجِبالَ أَوْتاداً للأرض لئلا تميد وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي: أصنافاً، وأضداداً، ذكوراً، وإناثاً، سوداً وبيضاً، وحمراً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً قال ابن قتيبة: أي: راحة لأبدانكم. وقد شرحنا هذا في الفرقان «1» وشرحنا هناك قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً.
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي: سبباً لمعاشكم. والمعاش: العيش، كلّ شيء يُعَاشُ به، فهو مَعَاشٌ. والمعنى: جعلنا النهار مطلباً للمعاش. وقال ابن قتيبة: معاشاً، أي: عيشاً، وهو مصدر وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً قال مقاتل: هي السموات، غِلظ كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مثل ذلك وهي فوقكم يا بني آدم. فاحذروا أن تعصوا فتخرّ عليكم.
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا سِراجاً يعني: الشمس وَهَّاجاً قال ابن عباس: هو المضيء. وقال اللغويون: الوهَّاج: الوقَّاد. وقيل: الوهّاج يجمع النّور والحرارة.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها السموات، قاله أُبَيّ بن كعب، والحسن، وابن جبير. والثاني: أنها الرّياح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة ومقاتل. قال زيد بن أسلم: هي الجنوب. فعلى هذا القول تكون «من» بمعنى «الباء» ، وتقديره: بالمعصرات. وإنما قيل للرياح: معصرات، لأنها تستدرُّ المطر. والثالث: أنها السحاب، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية. والضحاك، والربيع، قال الفراء: السحابة المعصر: التي تتحلَّب بالمطر ولما يجتمع، مثل الجارية المعصر، قد كادت تحيض، ولما تحضْ. وكذلك قال ابن قتيبة: شبِّهت السحاب بمعاصير الجواري، والمُعصِرُ: الجارية التي قد دنت من الحيض. وقال
__________
(1) الفرقان: 47.(4/388)
الزجاج: إنما قيل للسحاب: معصرات، كما قيل: أجزَّ الزرع، فهو مُجِزُّ أي: صار إلى أن يُجَزَّ، فكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر.
قوله عزّ وجلّ: ماءً ثَجَّاجاً قال مقاتل: أي: مطراً كثيراً مُنْصبّاً يتبع بعضُه بعضاً. وقال غيره:
يقال: ثجَّ الماء يثج: إذا انصبَّ لِنُخْرِجَ بِهِ أي: بذلك الماء حَبًّا وَنَباتاً وفيه قولان:
أحدهما: أن الحب: ما يأكله الناس، والنبات: ما تنبته الأرض مما يأكل الناس والأنعام، هذا قول الجمهور. قال الزجاج: كُلُّ ما حُصِدَ حَبٌّ، وكُلُّ ما أَكَلَتْهُ الماشية من الكلإ، فهو نبات.
والثاني: أن الحب: اللؤلؤ، والنبات: العشب. قال عكرمة: ما أنزل الله من السماء قطراً، إلا نبت به في البحر لؤلؤاً، وفي الأرض عشباً.
قوله عزّ وجلّ: وَجَنَّاتٍ يعني: بساتين أَلْفافاً قال أبو عبيدة: أي: ملتَفَّة من الشجر ليس بينها خلال، الواحدة: لَفَّاء، وجنّات لُفٌّ، وجمع الجمع: ألْفَافٌ. قال المفسرون: فدلَّ بذكر المخلوقات على البعث. ثم أخبر عن يوم القيامة فقال عز وجل: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي: يوم القضاء بين الخلائق كانَ مِيقاتاً لما وعد الله من الثواب والعقاب. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ من قبوركم أَفْواجاً أي: زُمَراً زُمَراً من كل مكان وَفُتِحَتِ السَّماءُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «وفتّحت» بالتشديد. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالتخفيف، وإنما تفتح لنزول الملائكة فَكانَتْ أَبْواباً أي: ذات أبواب وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ عن أماكنها فَكانَتْ سَراباً أي: كالسّراب، لأنها تصير هباء منثورا فيراها الناظر كالسراب بعد شِدَّتها وصلابتها إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً قال المبرد: مرصاداً يرصدون به، أي: هو مُعَدٌّ لهم يَرصُد بها خزنتها الكفارَ. وقال الأزهري: المرصاد: المكان الذي يَرصُد فيه الراصد العدُوَّ. ثم بين لمن هي مرصاد فقال عزّ وجلّ: لِلطَّاغِينَ قال ابن عباس: للمشركين مَآباً أي: مرجعا.
قوله عزّ وجلّ: لابِثِينَ وقرأ حمزة «لَبِثين» والمعنى: فيهما واحد. يقال: هو لابث بالمكان، ولبث. ومثله طَامع، وطَمِع، وفَارِه، وفَرِه. وأما الأحقاب فجمع حقب، وقد ذكرنا الاختلاف فيه في الكهف «1» .
فإن قيل: ما معنى ذكر الأحقاب، وخلودهم في النار لا نفاد له؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن هذا لا يدل على غاية، لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب ولو أنه قال: لابِثِينَ فِيها عشرة أحقاب أو خمسة دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة، والجمهور. وبيانه أن زمان أهل الجنة والنار يُتَصَوَّرُ دخوله تحت العدد، وإن لم يكن له غاية. كقوله: بكرة وعشيا، مثل هذا أنّ كلمات الله تعالى داخلة تحت العدد وإن لم تكن لها نهاية.
والثاني: أن المعنى: أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يَذُوقُونَ في الأحقاب بَرْداً وَلا شَراباً فأما خلودهم في النار فدائم. هذا قول الزجاج. وبيانه أن الأحقاب حَدٌّ لعذابهم بالحميم والغَسّاق، فإذا انقضت الأحقاب عُذِّبوا بغير ذلك من العذاب.
__________
(1) الكهف: 60.(4/389)
وفي المراد «بالبرد» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه برد الشراب. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: لا يذوقون فيها برد الشراب، ولا الشراب. والثاني: أنه الرَّوْح والراحة، قاله الحسن، وعطاء. والثالث:
أنه النوم، قاله مجاهد، والسدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، وأنشدوا:
فَإنْ شئتِ حرَّمتُ النِّساء سِواكُم ... وإِن شئتِ لَمُ أَطْعَمْ نُقَاخَاً وَلاَ بَرْدَاً «1»
قال ابن قتيبة: النقاخ: الماء، والبرد: النوم، سمي بذلك لأنه تبرد فيه حرارة العطش. وقال مقاتل: لا يذوقون فيها برداً ينفعهم من حرها، ولا شراباً ينفعهم من عطش إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «غَسَاقاً» بالتخفيف. وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وحفص عن عاصم بالتشديد وقد تقدّم «2» ذكر الحميم، والغسّاق جَزاءً وِفاقاً قال الفراء: وِفْقاً لأعمالهم وقال غيره: جُوزوا جزاءً وفاقاً لأعمالهم على مقدارها، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النّار إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً فيه قولان: أحدهما: لا يخافون أن يحاسبوا، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الجمهور. والثاني: لا يرجون ثواب حساب، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً أي: بما جاء به الأنبياء قال الفراء: الكِذَّاب بالتشديد لغة يمانية فصيحة يقولون: كذَّبت به كِذَّاباً، وخرَّقت القميص خِرَّاقاً، وكل «فَعَّلْتُ» فمصدره في لغتهم مُشَدَّد. قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني: الحَلْقُ أحب اليك، أم القِصَّار؟ وأنشدني بعض بني كلاب:
لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتني عن صَحَابَتي ... وَعَنْ حوَجٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا
وأما أهل نجد، فيقولون: كذَّبت به تكذيباً. وقال أبو عبيدة: الكِّذاب أشد من الكِذَاب، وهما مصدر المكاذبة. قال الأعشى:
فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها ... وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كذابه
قوله عزّ وجلّ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ قال الزجاج: «كلَّ» منصوب بفعل مضمر تفسيره:
أحصيناه، والمعنى: وأحصينا كلّ شيء، وكِتاباً توكيد ل «أحصيناه» ، لأن معنى «أحصيناه» و «كتبناه» فيما يحصل ويثبت واحد. فالمعنى: كتبناه كتاباً. قال المفسرون: وكلّ شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ فَذُوقُوا أي: فيقال لهم: ذوقوا جزاء فعالكم فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الذين لم يشركوا مَفازاً وفيه قولان: أحدهما: متنزَّهاً، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني:
فازوا بأن نَجَوْا من النار بالجنة، ومن العذاب بالرحمة، قاله قتادة. قال ابن قتيبة: «مفازا» في موضع «فوز» قوله: حَدائِقَ قال ابن قتيبة: الحدائق: بساتين نخل، واحدها: حديقة.
قوله عزّ وجلّ: وَكَواعِبَ قال ابن عباس: الكواعب: النواهد. قال ابن فارس: يقال: كعبت المرأة كعابة، فهي كاعب: إذا نَتَأَ ثَدْيُها. وقد ذكرنا معنى «الأتراب» في ص «3» .
قوله عزّ وجلّ: وَكَأْساً دِهاقاً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الملأى، رواه أبو صالح عن ابن
__________
(1) البيت لعبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان العرجي، وهو في دواوينه 109 و «شواهد الكشاف» 34.
(2) ص: 57.
(3) ص: 52.(4/390)
عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد. والثاني: أنها المتتابعة. رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير. وعن مجاهد كالقولين. والثالث: أنها الصافية، قاله عكرمة.
قوله عزّ وجلّ: لا يَسْمَعُونَ فِيها أي: في الجنة إذا شربوها لَغْواً وقد ذكرناه في الطور «1» وغيرها، وَلا كِذَّاباً أي: لا يكذِّب بعضهم بعضاً، لأن أهل الدنيا إذا شربوا الخمر تكلَّموا بالباطل وأهل الجنة مُنَزَّهون عن ذلك. قال الفرّاء. وقراءة عليّ رضي الله عنه «كِذَاباً» بالتخفيف، كأنه- والله أعلم- لا يتكاذبون فيها. وكان الكسائيّ يخفّف هذه ويشدّد، «وكذّبوا بآياتنا كذِّاباً» لأن «كذَّبوا» يقيد «الكذاب» بالمصدر، وهذه ليست مقيدة بفعل يصيِّرها مصدراً، وقد ذكرنا عن أبي عبيدة أن الكِذاب بالتشديد والتخفيف مصدر المكاذبة. وقال أبو علي الفارسي: «الكِذَاب» بالتخفيف مصدر «كَذَب» ، مثل «الكِتَاب» مصدر «كتب» .
قوله عزّ وجلّ: جَزاءً قال الزجاج: المعنى: جازاهم بذلك جزاءً، وكذلك «عَطاءً» لأن معنى أعطاهم وجازاهم واحد. وحِساباً معناه: ما يكفيهم، أي: فيه كل ما يشتهون. يقال: أحسبني كذا بمعنى كفاني. رَبِّ السَّماواتِ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والمفضل «ربُّ السموات والأرض وما بينهما الرحمنُ» برفع الباء من «رب» والنون من الرحمن على معنى: هو ربُّ السموات. وقرأ عاصم، وابن عامر بخفض الباء والنون على الصفة من «ربِّك» . وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء ورفع النون، واختار هذه القراءة الفراء. ووافقه على هذا جماعة، وعلَّلوا بأن الربَّ قريب من المخفوض، والرحمن بعيد منه.
قوله عزّ وجلّ: لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً فيه قولان: أحدهما: لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه قاله ابن السائب. والثاني: لا يقدر الخلق أن يكلِّموا الربَّ إلا بإذنه، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ فيه سبعة أقوال «2» :
(1511) أحدها: أنه جند من جند الله تعالى، وليسوا بملائكة، رواه ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون.
والثاني: أنه مَلَك أعظم من السموات والجبال، والملائكة، قاله ابن مسعود، ومقاتل بن سليمان.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: الروح: مَلَك ما خلق الله ملكا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صَفَّاً، وقامت الملائكة كلهم صفاً واحدا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم.
__________
باطل، أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» 412 من حديث ابن عباس، وفي إسناده مجاهيل والمتن منكر، ولو صح لما اختلف المفسرون في معنى الروح في هذه الآية. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6233 بتخريجنا.
__________
(1) الطور: 23. [.....]
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» : والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن خلقه لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح، والروح: خلق من خلقه وجائز أن يكون بعض الأشياء التي ذكرت. والله أعلم أي ذلك هو. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 549: هو جبريل، قاله الشعبي وسعيد بن جبير ويستشهد لهذا القول، بقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ وتوقف ابن جرير فلم يقطع بواحد من هذه الأقوال كلها، والأشبه- والله أعلم- أنهم بنو آدم.(4/391)
والثالث: أنها أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تُرَدَّ إلى الأجساد، رواه عطية عن ابن عباس. والرابع: أنه جبريل عليه السلام قاله الشعبي، وسعيد بن جبير، والضحاك.
والخامس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن، وقتادة. والسادس: أنه القرآن، قاله زيد بن أسلم. والسابع:
أنهم أشرف الملائكة، قاله مقاتل بن حيّان.
قوله عزّ وجلّ: وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قال الشعبي: هما سماطان، سماط من الروح، وسماط من الملائكة. فعلى هذا يكون المعنى: يوم يقوم الرُّوحُ صفاً، والملائكة صفّا. وقال ابن قتيبة: معنى قوله عزّ وجلّ: صَفًّا صفوفا.
قوله عزّ وجلّ: لا يَتَكَلَّمُونَ يعني: الخلق كلهم إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الكلام وَقالَ صَواباً أي: قال في الدنيا صواباً، وهو الشهادة بالتوحيد عند أكثر المفسرين. وقال مجاهد: قال حقاً في الدنيا، وعمل به ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الكائن الواقع بلا شك فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي:
مرجعاً إليه بطاعته. ثم خوّف كفّار مكّة، فقال عزّ وجلّ: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
وهو عذاب الآخرة، وكل آت قريب وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
أي: يرى عمله مثبَتاً في صحيفته خيراً كان أو شرّا، يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
قال الحسن: إذا سمع الله الخلائق يوم القيامة وقضى الثّقلين الجنّ والإنس وأروا منازلهم قال لسائر الخلق: كونوا ترابا فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا. وحكى الزّجّاج أنّ معنى: يا ليتني كنت تراباً. يا ليتني لم أُبعث. وحكى الثعلبي عن بعض أشياخه. أنه رأى في بعض التفاسير أن الكافر هاهنا: إبليس، وذلك أنه عاب آدم، لأنه خُلِقَ من التراب فتمنَّى يوم القيامة أنه كان بمكان آدم، فقال: يا ليتني كنت تراباً.(4/392)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
سورة النّازعات
مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قوله عزّ وجلّ: وَالنَّازِعاتِ فيه سبعة أقوال «1» : أحدها: أنها الملائكة تَنْزِعُ أرْواح الكفَّار، قاله علي، وابن مسعود، وروى عطية عن ابن عباس قال: هي الملائكة تَنْزِع نفوسَ بني آدم، وبه قال مسروق. والثاني: أنه الموت يَنْزِع النفوسَ، قاله مجاهد. والثالث: أنها النفس حين تُنْزَعُ، قاله السدي.
والرابع: أنها النجوم تَنْزِع من أُفُق الى أُفُق تطلع ثم تغيب، قاله الحسن، وقتادة، وأبو عبيدة، والأخفش، وابن كيسان. والخامس: أنها القِسِيّ تَنْزِع بالسَّهم، قاله عطاء وعكرمة. والسادس: أنها الوحوش تنزع وتنفر، حكاه الماوردي. والسابع: أنها الرّماة، حكاه الثّعلبيّ.
وقوله عزّ وجلّ: غَرْقاً اسم أقيم مقام الإغراق. قال ابن قتيبة: والمعنى: والنازعات إغراقاً، كما يغرق النازع في القوس، يعني: أنه يبلغ به غاية المد..
قوله عزّ وجلّ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً فيه خمسة أقوال: أحدها: أنها الملائكة. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنها حين تنشط أرواح الكفار حتى تخرجها بالكرب والغمّ، قاله عليّ عليه السلام.
قال مقاتل: ينزع ملك الموت روح الكافر، فإذا بلغت ترقوته غرقها في حلقه، فيعذِّبه في حياته، ثم ينشطها من حلقه- أي: يجذبها- كما ينشط السفّود من الصوف المبتل. والثاني: أنها تنشط. أرواح المؤمنين بسرعة كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنها، قاله ابن عباس. وقال الفراء: الذي سمعته
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 551: قال ابن مسعود: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً: الملائكة، يعنون حين تنتزع أرواح بنو آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتفرق في نزعها، ومن تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط. وهو الصحيح وعليه الأكثرون اه..(4/393)
من العرب: كأنما أُنْشِط من عِقَال، بألف. تقول: إذا ربطت الحبل في يد البعير: نشطته، فإذا حللته قلت: أنشطته.
والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
وبيانه أن المؤمن يرى منزله من الجنة قبل الموت فتنشط نفسه لذلك. والثالث: أن الناشطات: الموت ينشط نفس الإنسان، قاله مجاهد. والرابع: النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي: تذهب، قاله قتادة، وأبو عبيدة، والأخفش. ويقال لبقر الوحش: نواشط، لأنها تذهب من موضع إلى موضع. قال أبو عبيدة: والهموم تنشط بصاحبها. قال هميان بن قحافة:
أَمْسَتْ همومي تَنْشِط المنَاشِطَا ... الشَّامَ بي طَوْراً وطَوْراً وَاسِطَا
والخامس: أنها النفس حين تنشط بالموت، قاله السّدّيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فيه ستة أقوال:
أحدها: أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين، قاله عليّ عليه السلام. قال ابن السائب: يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء. فأحياناً ينغمس، وأحياناً يرتفع، يسلُّونها سلاً رفيقاً، ثم يَدَعُونها حتى تستريح. والثاني: أنهم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، كما يقال للفرس الجواد: سابح: إذا أسرع في جريه، قاله مجاهد، وأبو صالح، والفراء. والثالث: أنه الموت يسبح في نفوس بني آدم، روي عن مجاهد أيضاً. والرابع: أنها السفن تسبح في الماء، قاله عطاء. والخامس: أنها النجوم، والشمس، والقمر، كل في فلك يسبحون، قاله قتادة، وأبو عبيدة. والسادس: أنها الخيل، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فيه خمسة أقوال: أحدها: أنها الملائكة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، قاله عليّ عليه السلام ومسروق. والثاني:
أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، قاله مجاهد، وأبو روق. والثالث: سبقت بني آدم الى إلإيمان، قاله الحسن.
والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تسبق الملائكة شوقاً إلى لقاء الله، فيقبضونها وقد عاينت السرور، قاله ابن مسعود. والثالث: أنه الموت يسبق إلى النفوس، روي عن مجاهد أيضاً. والرابع:
أنها الخيل، قاله عطاء. والخامس: أنها النجوم يسبق بعضه بعضا في السّير، قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قال ابن عباس: هي الملائكة. قال عطاء: وُكِّلتْ بأمور عَرَّفهم الله العمل بها. وقال عبد الرحمن بن سابط: يُدَبِّر أمر الدنيا أربعة: جبريل، وهو موكل بالرِّياح والجنود. وميكائيل، وهو موكل بالقطر والنبات. وملك الموت، وهو موكل بقبض الأنفس.
وإسرافيل، وهو يَنزل بالأمر عليهم. وقيل: بل جبريل للوحي، وإسرافيل للصور. وقال ابن قتيبة:
فالمدبِّرات أمراً: تنزل بالحلال والحرام. فإن قيل: أين جواب هذه الأقسام ففيه جوابان: أحدهما: أنّ الجواب قوله عزّ وجلّ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى، قاله مقاتل. والثاني: أن الجواب مضمر، تقديره:
لَتُبْعَثُنَّ، ولتحاسبنّ، ويدلّ على هذا قوله عزّ وجلّ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قاله الفرّاء.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، وهي النفخة الأولى التي تموت منها جميع الخلائق.(4/394)
و «الراجفة» صيحة عظيمة فيها تردُّدٌ واضطراب كالرعد إذا تمحض. و «ترجف» بمعنى: تتحرَّك حركة شديدةً تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وهي: النفخة الثانية ردفت الأولى، أي: جاءت بعدها وكل شيء جاء بعد شيءٍ فهو يردفه قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي: شديدة الاضطراب لما عاينت من أهوال يوم القيامة أيضا أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي: ذليلةٌ لمعاينة النار. قال عطاء: وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام. ويدل على هذا أنه ذَكَرَ منكري البعث، فقال عزّ وجلّ: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قرأ ابن عامر وأهل الكوفة «أإنا» بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وقرأ الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية، وفصل بينهما بألف وأبو عمرو. فِي الْحافِرَةِ وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إن الحافرة: الحياة بعد الموت. والمعنى:
أنرجع أحياءً بعد موتنا؟! وهذا قول ابن عباس، وعطية، والسدي. قال الفراء: يعنون: أَنُرَدُّ إلى أمرنا الأول إلى الحياة؟! والعرب تقول: أتيت فلاناً، ثم رجعت على حافرتي، أي: رجعت من حيث جئت.
قال أبو عبيدة: يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته: إذا رجع من حيث جاء، وهذا قول الزجاج. والثاني: أنها الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فَسُمِّيت حافرةً، والمعنى: محفورة، كما يقال:
ماءٍ دافِقٍ «1» وعِيشَةٍ راضِيَةٍ «2» وهذا قول مجاهد والخليل. فيكون المعنى: أإنّا لمردودون إلى الأرض خلقاً جديداً؟! قال ابن قتيبة: «في الحافرة» أي: إلى أول أمرنا. ومن فسّرها بالأرض، فإلى هذا يذهب، لأنّا منها بدأنا. قال الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار
كأنه قال: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصّبا «بعد ما شبت وصلعت» .
والثالث: أنّ الحافرة: النار، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ناخرة» قال الفرّاء: وهما بمعنى واحد في اللغة. مثل طمع، وطامع وحذر، وحاذر. وقال الأخفش: هما لغتان.
وقال الزّجّاج: يقال: نخر العظم ينخر، فهو نخر. مثل عفن الشيء يعفن، فهو عفن. وناخرة على معنى: عظاما فارغة، يجيء فيها من هبوب الرياح كالنّخير. قال المفسّرون: والمراد أنهم أنكروا البعث، وقالوا: نردّ أحياء إذا متنا وبليت عظامنا؟! تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي: إن رددنا بعد الموت لنخسرنّ بما يصيبنا ممّا يعدنا به محمّد، فأعلمهم الله بسهولة البعث عليه، فقال عزّ وجلّ: فَإِنَّما هِيَ يعني النّفخة الأخيرة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي: صيحة في الصّور يسمعونها من إسرافيل وهم في بطون الأرض فيخرجون فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وفيها أربعة أقوال «3» : أحدها: أنّ السّاهرة: وجه الأرض، قاله ابن عباس:
ومجاهد، وعكرمة والضّحّاك، واللغويون. قال الفرّاء: كأنها سمّيت بهذا الاسم، لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم. والثاني: أنه جبل عند بيت المقدس، قاله وهب بن منبّه. والثالث: أنها جهنّم، قاله قتادة.
والرابع: أنها أرض الشام، قاله سفيان.
__________
(1) الطارق: 6.
(2) الحاقة: 21.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 552: وهذه الأقوال كلها غريبة، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى.(4/395)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 33]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي: قد جاءك. وقد بيَّنَّا هذا في طه «1» وما بعده إلى قوله عزّ وجلّ: طُوىً (16) اذْهَبْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «طُوى اذهب» غير مُجراةٍ. وقرأ الباقون «طوىً» منونة، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وقرأ ابن كثير، ونافع، «تَزَّكَّى» بتشديد الزاي، أي: تَطَّهَّر من الشرك وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي: أدعوك إلى توحيده، وعبادته فَتَخْشى عذابه فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى وفيها قولان: أحدهما: أنها اليد والعصا، قاله جمهور المفسرين. والثاني: أنها اليد قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فَكَذَّبَ أي بأنها من الله، وَعَصى نبيَّه ثُمَّ أَدْبَرَ أي: أعرض عن الإيمان يَسْعى أي: يعمل بالفساد في الأرض فَحَشَرَ لما اجتمعوا فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي: أنا لا ربَّ فوقي. وقيل أراد أن الأصنام أرباب، وأنا ربُّها وربُّكم. وقيل: أراد: أنا ربّ السّادة والقادة.
قوله عزّ وجلّ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: أن الأولى قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «3» والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قاله ابن عباس، وعكرمة، والشعبي، ومقاتل، والفراء. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة. قال السدي: فبقي بعد الآخرة ثلاثين سنة. قال الفراء: فالمعنى: أخذه الله أخذاً نكالاً للآخرة والأولى.
والثاني: المعنى: جعله الله نكال الدنيا والآخرة، أغرقه في الدنيا، وعذَّبه في الآخرة، قاله الحسن، وقتادة. وقال الربيع بن أنس: عذَّبه الله في أول النهار بالغَرَق، وفي آخره بالنَّار. والثالث: أن الأولى:
تكذيبه وعصيانه. والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قاله أبو رزين. والرابع: أنها أول أعماله وآخرها، رواه منصور عن مجاهد. قال الزجاج: النكال: منصوب، مصدر مؤكد، لأن معنى أخذه الله: نكل الله به نكال الآخرة والأولى: فأغرقه في الدنيا ويعذِّبه في الآخرة.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ فِي ذلِكَ الذي فُعِل بفرعون لَعِبْرَةً أي عظة لِمَنْ يَخْشى الله.
ثم خاطب منكري البعث، فقال عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها قال الزجاج: ذهب بعض النحويين الى أن قوله عزّ وجلّ: بَناها من صفة السماء، فيكون المعنى: أم السماء التي بناها. وقال
__________
(1) طه: 9.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 553: قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي انتقم منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ كما قال تعالى:
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ هذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله:
نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي: الدنيا والآخرة. لا شك فيه.
(3) القصص: 38.(4/396)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
قوم: السماء ليس مما توصل، ولكن المعنى: أأنتم أشد خلقاً أم السماءُ أشد خلقاً. ثم بيّن كيف خلقها، فقال عزّ وجلّ بَناها قال المفسرون: أخَلْقُكم بعدَ الموت أشدُّ عندكم، أم السماءُ في تقديركم؟ وهما في قدرة الله واحد. ومعنى: «بناها» رفعها. وكل شيء ارتفع فوق شيءٍ فهو بناءٌ.
ومعنى رَفَعَ سَمْكَها رفع ارتفاعها وعلوَّها في الهواء فَسَوَّاها بلا شقوق، ولا فُطور، ولا تفاوت، يرتفع فيه بعضها على بعض وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي: أظلمه فجعله مظلماً. قال الزجاج: يقال: غطش الليل وأغطش، وغبش وأغبش، وغسق وأغسق، وغشي وأغشى، كلّه بمعنى أظلم.
قوله عزّ وجلّ: وَأَخْرَجَ ضُحاها أي: أبرز نهارها. والمعنى: أظهر نورها بالشمس. وإنما أضاف النور والظلمة إلى السماء لأنهما عنها يصدران وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد خلق السماء دَحاها أي:
بسطها. وبعض من يقول: إن الأرض خلقت قبل السماء يزعم أن «بعد» هاهنا بمعنى «قبل» ، كقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «1» وبعضهم يقول: هي بمعنى «مع» ، كقوله عزّ وجلّ:
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «2» ، ولا يمتنع أن تكون الأرض خلقت قبل والسماء، ثم دحيت بعد كمال السماء، وهذا مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص. وقد أشرنا إلى هذا الخلاف في البقرة «3» . ونصبت الأرض بمضمر تفسيره قوله عزّ وجلّ: دَحاها.
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها أي: فجَّر العيون منها وَمَرْعاها وهو ما يأكله الناس والأنعام وَالْجِبالَ أَرْساها قال الزجاج: أي: أثبتها مَتاعاً لَكُمْ أي: للإمتاع، لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها: أمتع بذلك.
وقال ابن قتيبة: «متاعا لكم» أي: منفعة.
[سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 46]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43)
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى والطامة: الحادثة التي تطمُ على ما سواها، أي: تعلو فوقه، وفي المراد بها هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: النفخة الثانية التي فيها البعث. والثاني: أنها حين يقال لأهل النار: قوموا إلى النار. والثالث: أنها حين يساق أهل الجنة إلى الجنّة، وأهل النار إلى النار.
قوله عزّ وجلّ: يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي: ما عمل من خير وشر وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي:
لأبصار الناظرين. قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق. وقرأ أبو مجلز، وابن السميفع «لمن ترى» بالتاء. وقرأ ابن عباس، ومعاذ القارئ «لمن رأى» بهمزة بين الراء والألف.
قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغى في كفره وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا على الآخرة فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى قال الزجاج: أي هي المأوى له. وهذا جواب فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ فإن الأمر كذلك.
قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ قد ذكرناه في سورة الرّحمن «4» .
__________
(1) الأنبياء: 105.
(2) القلم: 13.
(3) البقرة: 29.
(4) الرحمن: 46.(4/397)
قوله عزّ وجلّ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي: عما تهوى من المحارم. قال مقاتل: هو الرجل يَهُمّ بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب، فيتركها.
قوله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قد سبق في الأعراف «1» فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي:
لست في شيءٍ من علمها وذِكْرِها. والمعنى: إنك لا تعلمها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي: منتهى علمها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها وقرأ أبو جعفر «منذرٌ» بالتنوين. ومعنى الكلام: إنما أنت مُخَوِّفٌ من يخافها.
والمعنى: إنما ينفع إنذارك من يخافها. وهو المؤمن بها. وأما من لا يخافها فكأنه لم يُنْذَر كَأَنَّهُمْ يعني: كفار قريش يَوْمَ يَرَوْنَها أي: يعاينون القيامه لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا. وقيل: في قبورهم إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي: قَدْر آخر النهار من بعد العصر، أو أوله إلى أن ترتفع الشمس. قال الزجاج: والهاء والألف في «ضحاها» عائد إلى العشية. والمعنى: إلا عشية، أو ضحى العشية. قال الفراء:
فإن قيل: للعشية ضحى، إنما الضحى لصدر النهار؟.
فالجواب: أن هذا ظاهر في كلام العرب أن يقولوا: آتيك العشية، أو غداتَها، أو آتيك الغداةَ أو عَشِيَّتَها، فتكون العشية في معنى «آخر» ، والغداة في معنى «أول» . أنشدني بعض بني عقيل:
نَحْنُ صَبَحْنَا عَامِراً في دَارِها ... عَشِيَّةَ الهِلاَلِ أو سِرارِها
أراد: عشية الهلال، أو عشية سرار العشية، فهذا أشد من قولهم: آتيك الغداة أو عشيّتها.
__________
(1) الأعراف: 187.(4/398)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
سورة عبس
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى.
(1512) قال المفسرون: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوماً يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، وأُمية وأُبَيَّاً ابني خلف، ويَدْعوهم إلى الله تعالى، ويرجو إسلامهم، فجاء ابن أم مكتوم الأعمى، فقال:
علِّمني يا رسول الله مما علَّمك الله، وجعل يناديه، ويكرِّر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بكلام غيره حتى ظهرت الكراهية في وجهه صلّى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأقبل على القوم يكلِّمهم، فنزلت هذه الآيات، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه بعد ذلك، ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي.
__________
أصله محفوظ. أخرجه الطبري 3639 من حديث ابن عباس بنحوه، وإسناده واه عطية العوفي واه، وعنه مجاهيل. وذكره ابن كثير في «تفسيره» 4/ 556 وقال: فيه غرابة ونكارة. لكن أصل الحديث قوي له شواهد.
وله شواهد كثيرة، وأحسن شيء في هذا الباب: ما أخرجه الترمذي 3331 وابن حبان 535 والحاكم 2/ 514 والطبري 36318 والواحدي في «أسباب النزول» 845 من حديث عائشة قالت: «أنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل رسول الله يعرض عنه، ويقبل على الآخر ويقول: أترى بما تقول بأسا، فيقال: لا ففي هذا أنزل» . وإسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الحاكم على شرطهما، لكن قال: وأرسله جماعة عن هشام بن عروة عن عروة ليس فيه ذكر عائشة.
قلت: والمرسل، أخرجه مالك 1/ 203، ومراسيل عروة جياد. وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 36322. وله شاهد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 36325. وله شاهد من مرسل عبد الرحمن بن زيد، أخرجه الطبري 36326. وله شاهد من مرسل مجاهد والحسن، أخرجه الطبري 36322.
الخلاصة: رووه بألفاظ متقاربة، والمعنى متحد، وأن الآيات نزلت في شأن ابن أم مكتوم.
فالحديث حسن أو صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وانظر «أحكام القرآن» 2263.(4/399)
(1513) وذهب قوم، منهم مقاتل، إلى أنه إنما جاء ليؤمن، فأعرض عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلم اشتغالاً بالرؤساء، فنزلت فيه هذه الآيات.
ومعنى: عَبَسَ قطَب وكَلَح وَتَوَلَّى أعرض بوجهه أَنْ جاءَهُ أي: لأن جاءه. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، والحسن، وأبو المتوكل، وأبو عمران، «آن جاءه» بهمزة واحدة مفتوحة ممدودة. وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع «أَأَن» بهمزتين مقصورتين مفتوحتين. والْأَعْمى هو ابن مكتوم، واسمه عمرو بن قيس. وقيل: اسمه عبد الله بن عمرو وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي: يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح، وما يتعلَّمه منك، وقال مقاتل: لعله يؤمن أَوْ يَذَّكَّرُ أي: يتعظ بما يتعلمه من مواعظ القرآن فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى قرأ حفص عن عاصم «فتنفعه» بفتح العين، والباقون بضمّها. قال الزجاج: من نصب، فعلى جواب «لعل» ، ومن رفع، فعلى العطف على «يزَّكَّى» .
قوله عزّ وجلّ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى قال ابن عباس: استغنى عن الله وعن الإيمان بماله. قاله مجاهد:
«أما من استغنى» عتبة، وشيبة، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. قرأ ابن كثير، ونافع «تصَّدَّى» بتشديد الصاد. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، «تَصَدَّى» بفتح التاء، والصاد وتخفيفهما وقرأ أُبيُّ بنُ كعبٍ، وأبو الجوزاء، وأبو عمرو بن دينار: «تَتَصَدَّى» بتاءين مع تخفيف الصاد، قال الزّجّاج:
والأصل: تتصدى، ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين، ومن قرأ «تَصَدَّى» بإدغام التاء، فالمعنى أيضاً: تتصدى، إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب مخرج التاء من الصاد. قال ابن عباس: «تَصَدَّى» تقبل عليه بوجهك. وقال ابن قتيبة: تتعرض. وقرأ ابن مسعود وابن السميفع، والجحدري «تُصْدَى» بتاء واحدة مضمومة، وتخفيف الصاد.
قوله عزّ وجلّ: وَما عَلَيْكَ أي: أي شيءٍ عليك في أن لا يُسْلِمَ مَنْ تدعوه إلى الإسلام؟ يعني:
أنه ليس عليه إلّا البلاغ.
قوله وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى فيه قولان: أحدهما: يمشي. والثاني: يعمل في الخير، وهو ابن أم مكتوم وَهُوَ يَخْشى الله فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرف، وأبو الجوزاء «تتلهى» بتاءٍ واحدة خفيفة مرفوعة. قال الزجاج: أي: تتشاغل عنه. يقال: لهيت عن الشيء ألهى عنه: إذا تشاغلت عنه.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: لا تفعل ذلك: إِنَّها في المكني عنها قولان: أحدهما: آيات القرآن، قاله مقاتل. والثاني: هذه السورة، قاله الفراء. «والتذكرة» بمعنى التذكير فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ مفسر في آخر المدثر «1» . ثم أخبر بجلالة القرآن عنده فقال عزّ وجلّ: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أي: هو في صحف، أي: في كتب مكرَّمة، وفيها قولان: أحدهما: أنها اللوح المحفوظ، قاله مقاتل. والثاني: كتب الأنبياء، ذكره الثعلبي. فعلى هذا يكون معنى مَرْفُوعَةٍ عالية القدر، وعلى الأول يكون رفعها كونها في السماء.
__________
هذا قول ضعيف ليس بشيء، والصواب ما تقدم. انظر الروايات المتقدمة.
__________
(1) المدثر: 55. [.....](4/400)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
وفي معنى مُطَهَّرَةٍ أربعة أقوال: أحدها: مطهرة من أن تنزل على المشركين، قاله الحسن.
والثاني: مطهرة من الشرك والكفر، قاله مقاتل: والثالث: لأنه لا يمسها إلا المطهرون، قاله الفراء.
والرابع: مطهرة من الدنس، قاله يحيى بن سلام.
قوله عزّ وجلّ: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ فيهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، قاله الجمهور. والثاني:
أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله وهب بن منبه.
وفي معنى «سفرة» ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم الكتَبَة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة: والزجاج. قال الزجاج: واحدهم: سَافر، وسَفَرَة، مثل كَاتِب وكَتَبَة، وكافِر، وكَفَرة، وإنما قيل للكتاب: سفر، وللكاتب: سافر، لأن معناه أنه يبين الشيء، ويوضحه. يقال: أسفر الصبح:
إذا أضاء. وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها. ومنه: سفرتُ بين القوم، أي: كشفتُ ما في قلب هذا، وقلب هذا، لأُصْلِحَ بينهم. والثاني: أنهم القراء، قاله قتادة. والثالث: أنهم السفراء، وهم المصلحون، قال الفراء: تقول العرب: سفرتُ بين القوم، أي: أصلحتُ بينهم، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله، كالسفير الذي يصلح بين القوم. قال الشاعر:
وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمي ... وَمَا أَمشي بِغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ
قوله عزّ وجلّ: كِرامٍ أي: على ربِّهم بَرَرَةٍ أي: مطيعين. قال الفراء: واحد «البررة» في قياس العربية: بَارٌّ، لأن العرب لا تقول: فَعَلَة ينوون به الجمع إلّا الواحد، ومنه فاعل، مثل كافر، وكفرة، وفاجر، وفجرة.
[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 32]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31)
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
قوله عزّ وجلّ: قُتِلَ الْإِنْسانُ أي: لعن، والمراد بالإنسان هاهنا: الكافر.
وفيمن عنى بهذا القول ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أشار إلى كل كافر، قاله مجاهد. والثاني: أنه أُمية بن خلف، قاله الضّحّاك. والثالث: عتبة بن لهب، قاله مقاتل.
وفي قوله عزّ وجلّ: ما أَكْفَرَهُ ثلاثة أقوال: أحدها: ما أشد كفره، قاله ابن جريج. والثاني: أي شيء أكفَره؟ قاله السدي. فعلى هذا يكون استفهام توبيخ. والثالث: أنه على جهة التعجُّب. وهذا التعجب يؤمر به الآدميون والمعنى: اعجبوا أنتم من كفره، قاله الزجاج.
قوله عزّ وجلّ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ثم فسّره عزّ وجلّ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ. وفي معنى «فقدره» ثلاثة أقوال: أحدها: قدّر أعضاء رأسه. وعينيه، ويديه، ورجليه، قاله ابن السائب. والثاني: قدَّره أطواراً:
نطفة، ثم علقة، إلى آخر خلقه، قاله مقاتل.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 556: قال ابن جرير: والصحيح أن السفرة الملائكة، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه ومنه يقال: السفير: الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير.(4/401)
والثالث: فقدّره على الاستواء، قاله الزّجّاج.
قوله: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ فيه قولان «1» : أحدهما: سهَّل له العلم بطريق الحق والباطل، قاله الحسن، ومجاهد. قال الفراء. والمعنى: ثم يسره للسبيل. والثاني: يسر له السبيل في خروجه من بطن أمّه، قاله السّدّيّ، ومقاتل، قوله عزّ وجلّ: فَأَقْبَرَهُ قال الفراء: أي جعله مقبوراً، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير، فكأنَّ القبر مما أُكْرِم به المسلم. ولم يقل: قبره، لأن القابر هو الدافن بيده.
والمُقْبِرُ الله، لأنه صيَّره مقبوراً. فليس فعله كفعل الآدمي. والعرب تقول: بَتَرْتُ ذَنَبَ البعير، والله أبتره. وَعضَبْتُ قَرْنَ الثور، والله أَعْضَبَه وطردتُ فلاناً عني، والله أطرده، أي: صيَّره طريداً. وقال أبو عبيدة: أقبره: أي أمر أن يقبر، وجعل له قبراً. قالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل صالح بن عبد الرحمن: أقبرنا صالحاً، فقال: دونكموه. والذي يدفن بيده هو القابر. قال الأعشى:
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاش وَلَمْ يُسْلَم إلى قابر «2»
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي: بعثه. يقال: أنشر الله الموتى فَنُشِرُوا، ونَشَر الميِّتُ: حَيِيَ هو بنفسه، واحدهم ناشر. قال الأعشى:
حتَّى يقولَ النَّاسُ ممَّا رَأَوْا ... يا عَجَباً للميّت النّاشر
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال الحسن: حقاً لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ به ربُّه، ولم يؤدِّ ما فرض عليه. وهل هذا عام أم خاص؟ فيه قولان «3» : أحدهما: أنه عام. قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً كُلَّ ما افترض الله عليه. والثاني: أنه خاص للكافر لم يقض ما أمر به من الإيمان والطاعة، وقاله يحيى بن سلام ولما ذَكَر خَلْق ابن آدم، ذكر رزقه ليقبو ويسد بالنّبات على البعث، فقال عزّ وجلّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ قال مقاتل: يعني به عتبة بن أبي لهب. ومعنى الكلام: فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببا لحياته؟ ثم بيّن فقال عزّ وجلّ: أَنَّا قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وابن عامر «إنا» بالكسر.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي أَنَّا صَبَبْنَا بفتح الهمزة في الوصل وفي الابتداء، ووافقهم رويس على فتحها في الوصل، فإذا ابتدأ كسر. قال الزجاج: من كسر «إنا» فعلى الابتداء والاستئناف، ومن فتح، فعلى البدل من الطعام، المعنى: فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا. قال المفسرون: أراد بصب الماء: المطر
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 557: قال العوفي، عن ابن عباس: ثم يسّر عليه خروجه من بطن أمه، واختاره ابن جرير. وقال مجاهد: هذه كقوله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً أي وضحناه وبيناه وسهلنا عليه علمه وهذا هو الأرجح.
(2) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس، ديوانه 139 من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة ويمدح عامر بن الطفيل.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 557: قال ابن جرير: كلا، ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر، من أنه قد أدى حقّ الله عليه في نفسه وماله، لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ يقول: لم يؤد ما فرض عليه من الفرائض لربه عز وجل، ولم أجد للمتقدمين فيه كلاما سوى هذا. والذي يقع لي في معنى ذلك- والله أعلم- أن المعنى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي: بعثه كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ: لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدنيا، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا، فإذا تناهى لذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.(4/402)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا يعني جميع الحبوب التي يُتَغَذَّى بها وَعِنَباً وَقَضْباً قال الفراء: هو الرَّطبة. وأهل مكة يسمون القَتَّ: القضب. قال ابن قتيبة ويقال: إنه سمي بذلك، لأنه يُقْضَبُ مرة بعد مرة، أي: يقطع، وكذلك القَصيل، لأنه يُقْصَلُ، أي: يقطع.
قوله عزّ وجلّ: وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً قال الفراء: كل بستان عليه حائط، فهو حديقة، وما لم يكن عليه حائط لم يقل: حديقة. والغُلْب: ما غلظ من النخل. قال أبو عبيدة: يقال: شجرة غَلْباء: إذا كانت غليظة. وقال ابن قتيبة: الغُلب: الغِلاظ الأعناق. وقال الزجاج: هي المتكاثفة، العظام.
قوله عزّ وجلّ: وَفاكِهَةً يعني: ألوان الفاكهة وَأَبًّا فيه قولان: أحدهما: أنه ما ترعاه البهائم.
قاله ابن عباس، وعكرمة، واللغويون. قال الزجاج: هو جميع الكلأ التي تعتلفه الماشية. والثاني: أنه الثمار الرطبة، رواه الوالبي عن ابن عباس.
قوله: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ قد بَيَّنَّاه في السورة التي قبلها «1» .
[سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) وهي الصيحة الثانية. قال ابن قتيبة: الصاخة تصِخُّ صَخَّاً أي: تُصِمُّ. يقال: رجل أصخ، وأصلخ: إذا كان لا يسمع. والداهية صاخة أيضاً. وقال الزجاج: هي الصيحة التي تكون عليها القيامة، تصخ الأسماع، أي: تصمها، فلا تسمع إلا ما تدعى به لإحيائها. ثم فسر في أي وقت تجيء فقال عزّ وجلّ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ قال المفسرون:
والمعنى «2» : لا يلتفت الإنسان إلى أحد من أقاربه، لِعِظَم ما هو فيه. قال الحسن: أول من يَفِرُّ من أخيه هابيل، ومن أُمه وأبيه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح. وقال قتادة: يفر هابيل من قابيل، والنبيّ صلّى الله عليه وسلم من أُمه، وإبراهيم من أبيه، ولوط من صاحبته، ونوح من ابنه.
قوله عزّ وجلّ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ قال الفراء: أي: يَشْغَلُه عن قرابته. وقال ابن قتيبة: أي: يَصْرِفه ويصدُّه عن قرابته، يقال: اغْنِ عني وجهك، أي: اصرفه، واغْن عني السفيه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والزهري، وأبو العالية، وابن السميفع، وابن محيصن، وابن أبي عبلة «يَعنيه» بفتح الياء، والعين غير معجمة. قال الزجاج: معنى الآية: له شأن لا يقدر مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره، وكذلك قراءة من قرأ «يعنيه» بالعين، معناه له شأن لا يهمه معه غيره.
__________
(1) النازعات: 33.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 559: يراهم ويفرّ منهم، ويبتعد عنهم لأن الهول عظيم، والخطب جليل. وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة: أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق، يقول: نفسي، نفسي، لا أسأله اليوم إلا نفسي.(4/403)
(1514) وقد روى أنس بن مالك قال: قالت عائشة للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: أنحشر عراةً؟ قال: نعم. قالت:
واسوءتاه، فأنزل الله عزّ وجلّ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.
قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي: مضيئة قد علمت ما لها من الخير ضاحِكَةٌ لسرورها مُسْتَبْشِرَةٌ أي: فرحة بما نالها من كرامة الله عزّ وجلّ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي: غبار. وقال مقاتل:
أي: سواد وكآبة تَرْهَقُها أي: تغشاها قَتَرَةٌ أي: ظُلمة. وقال الزجاج: يعلوها سواد كالدخان. ثم بَيَّن مَنْ أَهْلُ هذه الحال، فقال عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ وهو جمع كافر وفاجر.
__________
صحيح دون لفظ «وا سوأتاه» فإنه منكر ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 846 من طريق إبراهيم بن هراسة ثنا عائذ بن شريح الكندي، قال: سمعت أنس بن مالك، قال: قالت عائشة. وفيه لفظة منكرة وهي «واسوءتاه» وإسناده ضعيف لضعف عائذ.
وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 559 والطبري 36392 من طريق الفضل بن موسى، عن عائذ بن شريح، عن أنس قال: سألت عائشة رضي الله عنها: إني ساءلتك عن حديث فتجزني أنت به، ... »
فذكره بنحوه والمتن غريب بهذا اللفظ. وقال أبو حاتم: عائذ بن شريح ضعيف، في حديثه ضعف. وقال ابن طاهر: ليس بشيء. فالإسناد ضعيف، والمتن ضعيف.
وأصل حديث عائشة دون ذكر لفظ «واسوءتاه» أخرجه البخاري 6527 ومسلم 2859. وورد من حديث عائشة- دون ذكر اللفظة. أخرجه النسائي في «التفسير» 668 والحاكم 4/ 564 وإسناده صحيح، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 425 من طريق بريد بن عبد ربه عن بقية عن الزبيدي عن الزهري عن عروة عن عائشة.
وورد من وجه آخر من حديث سودة: أخرجه الحاكم 2/ 514- 515 والطبراني في «الكبير» 24/ (91) والواحدي في «الوسيط» 4/ 425 من طريق إسماعيل بن أبي أويس ثنا أبي عن محمد بن أبي عياش عن عطاء بن يسار عن سودة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم. وفيه محمد بن أبي عياش مجهول، وثّقه ابن حبان وحده. وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي!؟
وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 333: ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن أبي عياش وهو ثقة! كذا قال رحمه الله، والصواب أنه مجهول، وثقه ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل، وقد اضطرب، فرواه تارة عن أم سلمة به، أخرجه الطبراني في «الأوسط» 10/ 332/ 18320.(4/404)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
سورة التّكوير
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
(1515) روى أبو عبد الله الحاكم في «صحيحه» من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.
__________
أخرجه الترمذي 3333 وأحمد 2/ 37 وابن حبان في «المجروحين» 2/ 25 من طريق عبد الرزاق.
وأخرجه الحاكم 2/ 515 من طريق هشام بن يوسف الصنعاني وكلا الطريقين عن عبد الله بن بحير القاضي قال سمعت عبد الرحمن بن زيد الصنعاني قال سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... الحديث. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 427 من طريق علي بن محمد الفقيه عن المؤمل بن حسن ثنا أحمد بن منصور الرمادي ثنا إبراهيم بن خالد ثنا عبد الله بن بحير به.
وإسناده غير قوي، عبد الله بن بحير مختلف فيه، وثقه ابن معين، وفرق ابن حبان بين عبد الله بن بحير بن ريسان، وبين أبي وائل القاص، في حين عدهما ابن حجر والذهبي واحدا، وشيخه وإن روى عنه غير واحد، فقد وثّقه ابن حبان وحده، وروى حديثين فقط. وصححه الألباني في «الصحيحة» 1081، وفي ذلك نظر، قال ابن حبان: أبو وائل القاص، اسمه عبد الله بن بحير الصنعاني، وليس هو ابن بحير بن ريسان، ذاك ثقة، وهذا يروي عن عروة بن محمد بن عطية، وعبد الرحمن بن يزيد، العجائب التي كأنها معمولة لا يجوز الاحتجاج به، ثم أسند هذا الحديث، وحديثا آخر. وكذا فرق بينهما أبو أحمد الحاكم، فقال في الكنى في فصل من عرف بكنيته، ولا يوقف على اسمه، قلت: وذكره البخاري في «التاريخ» 8/ 9 في الكنى، فقال: أبو وائل القاص الصنعاني، سمع عروة بن محمد، روى عنه إبراهيم بن خالد. ولم يذكر البخاري فيه جرحا أو تعديلا. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 134 أن الترمذي رواه موقوفا، وهذا لم أجده في المرفوع، ولعل الوقف صواب، فإن في المتن غرابة، لكن لا أجزم بذلك لأنه إن كان كما قال ابن حبان، فهو خبر واه، وإلا فحسن غريب، فالله أعلم. فالجزم بصحته من الألباني، من غير بحث وتمحيص في الإسناد غير جيد، والله أعلم.(4/405)
وفي قوله عزّ وجلّ: كُوِّرَتْ أربعة أقوال: أحدها: أظلمت، رواه الوالبي عن ابن عباس، وكذلك قال الفراء: ذهب ضوؤها، وهذا قول قتادة، ومقاتل. والثاني: ذَهَبَتْ، رواه عطية عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: اضمحلَّتْ. والثالث: غُوِّرَتْ، روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن الأنباري، وهذا من قول الناس بالفارسيّة: كور بكرد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال:
هو بالفارسيّة كور بور.
والرابع: أنها تكوّر مثل العمامة، فتلفُّ وتمحى، قاله أبو عبيد. قال الزجاج: ومعنى «كُوِّرت» جمع ضوؤها، ولُفَّتْ كما تلفّ العمامة. يقال: كَوَّرْتُ العمامة على رأسي أُكوِّرُها: إذا لَفَفْتَها. قال المفسرون: تُجمع الشمس بعضُها إلى بعض، ثم تُلَفُّ ويرمى بها في البحر. وقيل: في النار. وقيل:
تعاد إلى ما خلقت منه.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي: تناثرت، وتهافتت. يقال: انكدر الطائر في الهواء: إذا انقضَّ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ عن وجه الأرض، واستوت مع الأرض وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ قال المفسرون وأهل اللغة: النوق الحوامل، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها: العشار لذلك، وذلك الوقت أَحْسَنُ زَمَانِ حَمْلِها، وهي تضع إذا وَضَعَتْ لتمامٍ في سنة، فهي أنفس ما للعرب عندهم، فلا يعطلونها، إلا لإتيان ما يَشْغَلهم عنها، وإنما خوطبت العرب بأمر العشار، لأن أكثر عيشهم ومالهم من الإبل، ومعنى «عُطِّلت» سُيِّبَتْ وأُهْمِلَتْ، لإشتغالهم عنها بأهوال القيامة.
قوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ يعني: دوابَّ البرّ حُشِرَتْ وفيه قولان: أحدهما: ماتت، قاله ابن عباس. والثاني: جمعت إلى يوم القيامة، قاله السدي. وقد زدنا هذا شرحاً في الأنعام «1» .
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو «سجرت» بتخفيف الميم، وقرأ الباقون بتشديدها. وفي المعنى ثلاثة أقوال: أحدها: أُوقِدَتْ فاشتعلت ناراً، قاله علي وابن عباس.
والثاني: يبست، قاله الحسن. والثالث: ملئت بأن صارت بحراً واحداً، وكثر ماؤها، قاله ابن السّائب والفراء، وابن قتيبة.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: قرنت بأشكالها. قاله عمر رضي الله عنه، الصالح مع الصالح في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار، وهذا قول الحسن، وقتادة.
والثاني: رُدَّت الأرواح إلى الأجساد، فَزُوِّجَت بها، قاله الشعبي. وعن عكرمة كالقولين. والثالث:
زُوِّجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين، قاله عطاء، ومقاتل.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ قال اللغويون: الموؤودة: البنت تُدْفَن وهي حَيَّةٌ، وكان هذا من فعل الجاهلية. يقال: وَأَدَ وَلَدَهُ، أي: دفنه حياً. قال الفرزدق:
ومنّا الّذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يؤاد
يعني: صعصعة بن صوحان، وهو جَدّ الفرزدق. قال الزّجّاج: ومعنى سؤالها تبكيت قاتلها في
__________
(1) الأنعام: 111.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 563: أي جمع كل شكل إلى نظيره، كقوله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ، وعن مجاهد قال: الأمثال من الناس جمع بينهم، واختاره ابن جرير، وهو الصحيح.(4/406)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
القيامة، لأنّ جوابها: قتلت بغير ذنب. وقيل: سئلت: طلبت، كما تقول: سألته حقّي وإنما طلبت لتبكيت قاتلي. ومثل هذا التبكيت قوله عزّ وجلّ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ «1» وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وهارون عن أبي عمرو «سَأَلَتْ» بفتح السين، وألف بعدها بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ بإسكان اللام، وضم التاءَ الأخيرة. وسؤالها هذا أيضاً تبكيت لقاتليها. قال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت، فكان أوان ولادها حفرت حفيرة، فتمخَّضت على رأس الحفيرة، فإن ولدت جارية رَمَتْ بها في الحفيرة، وإن ولدت غلاماً حبسته.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب «نُشِرَتْ» بالتخفيف، والباقون بالتشديد. والمراد بالصحف: صحائف أعمال بني آدم نشرت للحساب وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قال الفرّاء: يعني نُزِعَتْ، فطُوِيَتْ. وفي قراءة عبد الله «قُشِطَتْ» بالقاف، وهكذا تقول قيس، وتميم، وأسد، بالقاف. وأما قريش، فتقوله بالكاف، والمعنى واحد. والعرب تقول:
القافور، والكافور، والقسط، والكسط. وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللّغات، كما يقال:
جدث، وجدف. قال ابن قتيبة: كشطت كم يُكْشَطُ الغِطَاء عن الشيء، فطُوِيَتْ. وقال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف. وسُعِّرَتْ أُوقدت. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «سُعِّرت» مشددة.
قال الزجاج: المعنى واحد. إلا أن معنى المشدد: أُوقدت مرة بعد مرة. وأُزْلِفَتْ قُرِّبَتْ من المتقين. وجواب هذه الأشياء عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أي: إذا كانت هذه الأشياء عَلِمَتْ في ذلك الوقت كلُّ نفس ما أحضرت من عمل، فأثيبتْ على قدر عملها. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قوله عزّ وجلّ: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ: لهذا جرى الحديث. وقال ابن عباس: من أول السورة إلى هاهنا اثنتا عشرة خصلة، ستة في الدنيا، وستة في الآخرة.
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ لا زائدة، والمعنى: أقسم بِالْخُنَّسِ وفيها خمسة أقوال:
أحدها: أنها خمسة أنجم تَخْنُس بالنهار فلا تُرى، وهي: زُحَل، وعُطَارد، والمشتري، والمرّيخ.
وبه قال مقاتل، وابن قتيبة. وقيل: اسم المشتري: البرجس. واسم المريخ: بهرام. والثاني: أنها النجوم، قاله الحسن وقتادة على الإطلاق، وبه قال أبو عبيدة. والثالث: أنها بقر الوحش، قاله ابن مسعود. والرابع: الظباء، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والخامس: الملائكة، حكاه الماوردي. والأكثرون على أنها النجوم. قال ابن قتيبة: وإنما سماها خنّسا، لأنها تسير في البروج
__________
(1) المائدة: 116.(4/407)
والمنازل، كسير الشمس والقمر، ثم تَخْنُس، أي: ترجع، بينا يرى أحدها في آخر البروج كَرَّ راجعاً إلى أوله، وسماها كُنَّساً، لأنها تكنس، أي: تسير كما تكنس الظباء. وقال الزّجّاج: تخنس، أي: تغيب، وكذلك تكنس تدخل في كناسها، أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها. وإذا كان المراد الظّباء فهي تدخل الكناس، وهو الغصن من أغصان الشجر. ووقف يعقوب على «الجواري» بالياء.
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ فيه قولان: أحدهما: ولَّى، قاله ابن عباس، وابن زيد، والفراء. والثاني: أقبل، قاله ابن جبير، وقتادة. قال الزجاج: يقال: عسعس الليل: إذا أقبل.
وعسعس: إذا أدبر. واستدل من قال: إن المراد: إدباره ب قوله عزّ وجلّ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن قرط:
حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وفي قوله عزّ وجلّ: تَنَفَّسَ قولان: أحدهما: أنه طلوع الفجر، قاله عليّ رضي الله عنه وقتادة.
والثاني: طلوع الشمس، قاله الضّحّاك. وقال الزجاج: معناه: إذا امتد حتى يصير نهاراً بَيِّناً. وجواب القسم في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ وما بعده قولُه: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني: أن القرآن نزل به جبريل. وقد بيَّنَّا هذا في الحاقة «1» . ثم وصف جبريل ب قوله عزّ وجلّ: ذِي قُوَّةٍ وهو كقوله عزّ وجلّ:
ذُو مِرَّةٍ وقد شرحناه في النّجم «2» ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ يعني: في المنزلة مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ أي: في السموات تطيعه الملائكة. فَمِنْ طَاعَةِ الملائكة له: أنه أَمَرَ خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتحها لمحمّد صلّى الله عليه وسلم فدخلها ورأى ما فيها، وأمر خازن جهنم ففتَح له عنها حتى نظر إليها. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو حيوة «ثم أمين» بضم الثاء. ومعنى «أَمين» على وحي الله ورسالاته. وقال أبو صالح: أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير إذن.
قوله عزّ وجلّ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ يعني محمّدا صلّى الله عليه وسلم، والخطاب لأهل مكة. قال الزجاج:
وهذا أيضاً من جواب القسم، وذلك أنه أقسم أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمداً ليس بمجنون كما يقول أهل مكة.
قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ قال المفسرون: رأى محمّد صلّى الله عليه وسلم جبريل على صورته بالأفق.
وقد ذكرنا هذا في سورة النّجم «3» .
قوله عزّ وجلّ: وَما هُوَ يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلم عَلَى الْغَيْبِ أي: على خبر السماء الغائب عن أهل الأرض بِضَنِينٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس «بظنين» بالظاء، وقرأ الباقون بالضاد.
قال ابن قتيبة: من قرأ بالظاء، فالمعنى: ما هو بمُتَّهم على ما يخبر به عن الله، ومن قرأ بالضاد، فالمعنى: ليس ببخيل عليكم بعلم ما غابَ عنكم مما ينفعكم. وقال غيره: ما يكتمه كما يكتم الكاهن ليأخذ الأجر عليه.
قوله عزّ وجلّ: وَما هُوَ يعني: القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ قال مقاتل: وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يجيء به الشيطان، فيلقيه على لسان محمّد.
__________
(1) الحاقة: 40.
(2) النجم: 6.
(3) تقدم في سورة النجم: 7.(4/408)
قوله عزّ وجلّ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ قال الزجاج: معناه: فأيَّ طريق تسلكون أَبْيَنَ من هذه الطريقة التي قد بيّنت لكم؟ قوله: إِنْ هُوَ أي: ما هو، يعني: القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي: موعظة للخلق أجمعين لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ على الحق والإيمان. والمعنى: أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق. وقد بيَّنَّا سبيل الإستقامة، فمن شاء أخذ في تلك السبيل. ثم أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه بما بعد هذا، وقد بَيَّنَّا هذا في سورة الإنسان «1» .
(1516) قال أبو هريرة: لما نزلت لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قالوا: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل قوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وقيل: القائل لذلك أبو جهل. وقرأ أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وأبو المتوكّل، وأبو عمران: «وما يشاءون» بالياء.
فصل:
وقد زعم بعض ناقلي التفسير أنّ قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وقوله عزّ وجلّ في (عبس) «2» : فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، وقوله عزّ وجلّ في سورة الإنسان «3» وفي سورة المزمل «4» :
فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا كله منسوخ بقوله عزّ وجلّ: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ولا أرى هذا القول صحيحاً، لأنه لو جاز وقوع مشيئتهم مع عدم مشيئته توجَّه النسخ. فأما إذ أخبر أن مشيئتهم لا تقع إلا بعد مشيئته، فليس للنّسخ وجه.
__________
أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر» 6/ 532 عن أبي هريرة، ولم أقف على إسناده، وتفردهما به دليل وهنه. وورد عن سليمان بن موسى قوله، وهو أصح. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 847 والطبري 36549 و 36550 عن سليمان بن موسى به.
__________
(1) الإنسان: 30.
(2) عبس: 12. [.....]
(3) الإنسان: 29.
(4) المزمل: 18.(4/409)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
سورة الانفطار
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
قوله عزّ وجلّ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ انفطارها: انشقاقها. وانْتَثَرَتْ بمعنى تساقطت.
وفُجِّرَتْ بمعنى فُتح بعضها في بعض فصارت بحراً واحدا. وقال الحسن: ذهب ماؤها، وبُعْثِرَتْ بمعنى أثيرت. قال ابن قتيبة: قُلِبَتْ فأُخْرِج ما فيها. يقال: بَعْثَرْتُ المتاع وبَحْثَرْتُه: إذا جعلت أسفله أعلاه.
قوله عزّ وجلّ: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ هذا جواب الكلام. وقد شرحناه في قوله عزّ وجلّ: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«1» .
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه عني به أبو الأشد «2» ، وكان كافراً، قاله ابن عباس، ومقاتل. وقد ذكرنا اسمه في المدثر «3» . والثاني: أنه الوليد بن المغيرة، قاله عطاء.
والثالث: أنه أُبيّ بن خلف، قاله عكرمة. والرابع: أنه أشار الى كل كافر، ذكره الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: ما غَرَّكَ قال الزجاج: أي: ما خَدَعك وسوَّلَ لك حتى أضعتَ ما وجب عليك؟. وقال غيره: المعنى: ما الذي أمَّنك من عقابه وهو كريم متجاوز إذْ لم يعاقبك عاجلا؟ وقيل
__________
(1) القيامة: 30.
(2) تقدم الكلام عليه في سورة المدثر: 30.
(3) المدثر: 30.(4/410)
للفضيل بن عياض: لو أقامك الله سبحانه يوم القيامة، وقال: ما غرَّك بربك الكريم، ماذا كنت تقول؟
قال: أقول: غرني سُتورك المرخاة. وقال يحيى بن معاذ: لو قال لي: ما غرك بي؟ قلت: بِرُّك سالفاً وآنفا. وقيل: لما ذكر الصفة التي هي الكرم هاهنا دون سائر صفاته، كان كأنه لقَّن عبده الجواب، ليقول: غرّني كرم الكريم.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَكَ ولم تك شيئاً فَسَوَّاكَ إنساناً تسمع وتبصر فَعَدَلَكَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «فعدَّلك» بالتشديد. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي «فَعَدَلك» بالتخفيف. قال الفراء: من قرأ بالتخفيف. فوجهه- والله أعلم-: فصوَّرك إلى أيّ صورة ما شاء، إما حَسَن، وإما قبيح، وإما طويل، وإما قصير. وقيل: في صورة أب، في صورة عم، في صورة بعض القرابات تشبيها. ومن قرأ بالتشديد، فإنه أراد- والله أعلم-: جعلك معتدلا، معدّل الخلق. وقال غيره: عدَّل أعضاءك فلم تفضل يد على يد، ولا رِجل على رجل، وعدل بك أن يجعلك حيوانا بهيما.
قوله عزّ وجلّ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ قال الزجاج: يجوز أن تكون «ما» زائدة. ويجوز أن تكون بمعنى الشرط والجزاء، فيكون المعنى: في أي صورة ما شاء أن يركِّبك فيها ركبك. وفي معنى الآية أربعة أقوال: أحدها: في أي صورة من صور القرابات ركَّبك، وهو معنى قول مجاهد. والثاني:
في أيّ صورة، من حسن، أو قبيح أو طويل، أو قصير، أو ذَكَر، أو أنثى، وهو معنى قول الفراء.
والثالث: إن شاء أن يركِّبك في غير صورة الإنسان ركبك، قاله مقاتل. وقال عكرمة: إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. والرابع: إن شاء في صورة إنسان بأفعال الخير. وإن شاء في صورة حمار بالبلادة والبله، وإن شاء في صورة كلب بالبخل، أو خنزير بالشرّ، ذكره الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وقرأ أبو جعفر بل يكذبون «بالياء» أي: بالجزاء والحساب، فيزعمون أنه غير كائن. ثم أعلمهم أن أعمالهم محفوظة، فقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ أي: من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم كِراماً على ربِّهم كاتِبِينَ يكتبون أعمالكم يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ من خير وشر، فيكتبونه عليكم.
قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وذلك في الآخرة إذا دخلوا الجنة وَإِنَّ الْفُجَّارَ وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: الظَّلَمة. ونقل عن سليمان بن عبد الملك أنه قال لأبي حازم: يا ليت شعري ما لنا عند الله؟ فقال له: اعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عنده، فقال:
وأين أجده؟ قال: عند قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين.
قوله عزّ وجلّ: يَصْلَوْنَها يعني: يدخلون الجحيم مقاسين حرَّها يَوْمَ الدِّينِ أي: يوم الجزاء على الأعمال وَما هُمْ عَنْها أي: الجحيم بِغائِبِينَ وهذا يدل على تخليد الكفار. وأجاز بعض العلماء أن تكون «عنها» كناية عن يوم القيامة، فتكون فائدة الكلام تحقيق البعث. ويشتمل هذا على الأبرار والفجار. ثم عظَّم ذلك اليوم ب قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثم كرَّر ذلك تفخيماً لشأنه، وكان ابن السائب يقول: الخطاب بهذا للإنسان الكافر، لا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم.(4/411)
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو «يوم» بالرفع، والباقون:
بالفتح. قال الزجاج: من رفع «اليوم» ، فعلى أنه صفة لقوله عزّ وجلّ: يَوْمُ الدِّينِ. ويجوز أن يكون رفعه بإضمار «هو» ، ونصبه على معنى: هذه الأشياء المذكورة تكون يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً قال المفسرون: ومعنى الآية أنه لا يملك الأمرَ أحدٌ إلا الله ولم يملِّك أحداً من الخلق شيئاً كما ملَّكهم في الدنيا. وكان مقاتل يقول: لا تملك نفس لنفسٍ كافرةٍ شيئاً من المنفعة. والقول على الإطلاق أصح، لأن مقاتلاً فيما أحسب خاف نفي شفاعة المؤمنين. والشفاعة إنما تكون عن أمر الله وتمليكه.(4/412)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
سورة المطفّفين
وفيها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها مكّيّة، قاله ابن مسعود، والضّحّاك، ويحيى بن سلام.
والثاني: مدنيّة، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل، إلّا أنّ ابن عباس، وقتادة قالا:
فيها ثمان آيات مكيّة، من قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا «2» إلى آخرها. وقال مقاتل: فيها آية مكّيّة، وهي قوله عزّ وجلّ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «3» . والثالث: أنها نزلت بين مكّة، والمدينة، قاله جابر بن زيد وابن السّائب، وذكر هبة الله بن سلامة المفسّر أنها نزلت في الهجرة بين مكّة والمدينة، نصفها يقارب مكّة، ونصفها يقارب المدينة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.
(1517) قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وقال السّدّيّ: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية «4» . وقد شرحنا معنى «الويل» في البقرة «5» قال ابن قتيبة:
المطفف: الذي لا يوفي الكيل، يقال: إناء طَفَّانُ: إذا لم يكن مملوءاً. وقال الزّجّاج: إنما قيل: مطفّف،
__________
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 674 وابن ماجة 2223 والحاكم 2/ 33 والطبري 36577 والواحدي 848 من حديث ابن عباس، وإسناده حسن. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن صحيح، وقد صححه السيوطي في «الدر» 6/ 536. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 2266.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 571: سورة المطففين مدنية.
(2) المطففين: 29.
(3) المطففين: 13.
(4) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 850 بدون إسناد عن السدي، فهو لا شيء. وقال الحافظ في «تخريجه» 4/ 718: لم أجده.
(5) البقرة: 79.(4/413)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف، وإنما أخذ من طَفَّ الشيء، وهو جانبه.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي: من الناس. ف «على» بمعنى «من» في قول المفسرين واللغويين. قال الفراء: «على» ، و «من» يعتقبان في هذا الموضع، لأنك إذا قلت: اكتلت عليك، فكأنك قلت: أخذت ما عليك كيلا، وإذا قلت: اكتلت منك كيلا، فهو كقولك: استوفيت منك. قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، وكذلك إذا اتَّزنوا، ولم يَذْكُرْ «إذا اتَّزنوا» ، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يُكَال ويُوزَن، فأحدهما يدل على الآخر وَإِذا كالُوهُمْ أي: كالوا لهم أَوْ وَزَنُوهُمْ أي: وزنوا لهم يُخْسِرُونَ أي: ينقصون في الكيل، والوزن.
فعلى هذا لا يجوز أن يقف على «كالوا» ، ومِنَ الناس من يجعل «هم» توكيداً لما كالوا، ويجوز أن يقف على «كالوا» والاختيار الأول. قال الفراء: سمعت أعرابية تقول:
إذا صدر الناس أتينا التاجر، فيكيلنا المدّ والمدّين إلى الموسم المقبل.
قوله عزّ وجلّ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ؟! قال الزجاج: المعنى: لو ظنوا أنهم يُبْعَثُون ما نقصوا في الكيل والوزن لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني به يوم القيامة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ اليوم منصوب بقوله عزّ وجلّ «مبعوثون» . قال المفسرون: والظن هاهنا بمعنى العلم واليقين. ومعنى يقوم الناس، أي: من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي: لأمره، أو لجزائه وحسابه. وقيل يقومون بين يديه لفصل القضاء.
(1518) وفي «الصحيحين» من حديث ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: في هذه الآية: «يقوم أحدهم في رَشَحِهِ إلى أنصاف أذنيه» . وقال كعب: يقفون ثلاثمائة عام. قال مقاتل: وذلك إذا أخرجوا من قبورهم.
[سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 28]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا ردع وزجر، أي: ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا. وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء. وكان أبو حاتم يقول: «كلا» ابتداء يتصل بما بعده على معنى «حقّا»
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4938 والبغوي في «التفسير» من طريق إبراهيم بن المنذر به. وأخرجه مسلم 2862 من طريق معن به. وأخرجه الطبراني 30/ 94 من طريق مالك به. وأخرجه البخاري 6531 ومسلم 2862 والترمذي 2422 وابن ماجة 4278، وأحمد 2/ 105 و 125 وابن أبي شيبة 13/ 233 وابن حبان 7331 والطبري 36585 و 36589 والبغوي 4211 والواحدي في «الوسيط» 4/ 442 من طرق عن نافع به.(4/414)
إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ قال مقاتل: إن كتاب أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها الأرض السابعة، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل. وروي عن مجاهد قال: «سجين» صخرة تحت الأرض السابعة، جعل كتاب الفاجر تحتها، وهذه علامة لخسارتهم، ودلالة على خساسة منزلتهم. والثاني: أن المعنى: إن كتابهم لفي سفال، قاله الحسن. والثالث: لفي خسار، قاله عكرمة.
والرابع: لفي حبس، فعِّيل من السجن، قاله أبو عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ هذا تعظيم لأمرها. وقال الزجاج: أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
قوله عزّ وجلّ: كِتابٌ مَرْقُومٌ أي: ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب مرقوم، أي: مكتوب.
قال ابن قتيبة: والرّقم: الكتاب. قال ابن ذؤيب «1» :
عرفت الدّيار كرقم الدّواة ... يَزْبُرُه الكَاتِبُ الحِمْيَرِيُّ
وأنشده الزجاج: «يَذْبِرها» بالذال المعجمة، وكسر الباء. قال الأصمعي: يقال: زبر: كتب، وذبر: قرأ. وروى أبو عمرو عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الصواب: زبرت- بالزاي- كتبت.
وذبرت- بالذال- أتقنت ما حفظت. قال: والبيت يزبرها، بالزاي والضم. وقال ابن قتيبة: يروى «يزبرُها» و «يذبرُها» وهو مثله، يقال: زبر الكتاب يزبره، ويذبره. وذَبره يذبرُه، ويذبِره. وقال قتادة:
رقّم له بشرٍّ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر. وقيل: المعنى: إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به.
قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا منتظم بقوله عزّ وجلّ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ، وما بينهما كلام معترض. وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله عزّ وجلّ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «بل ران» بفتح الراء مدغمة، وقرأ أبو بكر عن عاصم «بل ران» مدغمة بكسر الراء.
وقرأ حفص عن عاصم «بل» بإظهار اللام «ران» بفتح الراء وقرأ حمزة والكسائيّ بإدغام اللام بكسر الراء، قال اللغويون: أي: غلب على قلوبهم يقال: الخمر ترين على عقل السكران. قال الزجاج:
قرئت بإدغام اللام في الراء، لقرب ما بين الحرفين، وإظهار اللام جائز، لأنه من كلمة، والرأس من كلمة أخرى. ويقال: ران على قلبه الذَّنْب يرين ريناً: إذا غشي على قلبه، ويقال: غان يغين غينا، والغين كالغيم الرقيق، والرين كالصدأ يغشى على القلب. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول:
الغين يقال: بالراء، وبالغين، ففي القرآن كَلَّا بَلْ رانَ.
(1519) وفي الحديث: «إنه ليغان على قلبي» وكذلك الراية تقال بالراء، وبالغين، والرميصاء تكتب «بالغين» ، وبالراء، لأن الرمص يكتب بهما. قال المفسرون: لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم. قال الحسن: هو الذَّنب على الذَّنب حتى يعمى القلب.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2702 وأبو داود 1515 وأحمد 4/ 260 والنسائي في «اليوم والليلة» 442 وابن حبان 931 من حديث الأغرّ المزني بزيادة «وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة» . وانظر «تفسير القرطبي» 512.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب خويلد بن خالد، جاهلي إسلامي، «ديوان الهذليين» 1/ 64.(4/415)
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: لا يصدِّقون. ثم استأنف إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال ابن عباس: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته. وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يَرَوْه تجلَّى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسُّخْطِ دل على أن قوماً يرونه بالرّضى «1» . وقال الزّجّاج: وهذه الآية دليل على أنّ الله عزّ وجلّ يُرى في القيامة. ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خسَّت منزلة الكفّار بأنهم يحجبون عن ربّهم. ثم بعد حجبهم عن الله يدخلون النار، فذلك قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ.
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ يُقالُ أي: تقول خزنة النار: هذَا العذاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه. ثم أعلم أين محمل كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ فقال عزّ وجلّ:
لَفِي عِلِّيِّينَ وفيها سبعة أقوال «2» : أحدها: الجنة، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنها السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، قاله كعب، وهو مذهب مجاهد، وابن زيد. والرابع: أنها قائمة العرش اليمنى، وقال مقاتل: ساق العرش. والخامس: أنه سدرة المنتهى، قاله الضحاك. والسادس:
أنه في علو وصعود إلى الله عزّ وجلّ قاله الحسن. وقال الفراء: في ارتفاع بعد ارتفاع. والسابع: أنه أعلى الأمكنة، قاله الزجاج.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ هذا تعظيم لشأنها.
قوله عزّ وجلّ: كِتابٌ مَرْقُومٌ الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها.
قوله عزّ وجلّ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي: يحضر المقرَّبون من الملائكة ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين. وما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إلى قوله عزّ وجلّ يَنْظُرُونَ ففيه قولان:
أحدهما: إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.
والثاني: إلى أعدائهم حين يعذَّبون.
قوله عزّ وجلّ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ وقرأ أبو جعفر، ويعقوب «تُعرَف» بضم التاء، وفتح الراء «نضرةُ» بالرفع. قال الفراء: بريق النعيم ونداه. قال المفسرون: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم، لما ترى من الحسن والنور. وفي «الرحيق» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الخمر، قاله الجمهور. ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال: أحدها: أجود
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 574: وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم الآية، كما دلّ عليه منطوق قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة، وفي روضات الجنان الفاخرة. اه.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 574- 575: أي مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف سجين، والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع، ولهذا قال معظما أمره ومفخما شأنه وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ثم قال مؤكدا لما كتب لهم كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وهم الملائكة.
(3) الانفطار: 13. [.....](4/416)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
الخمر، قاله الخليل بن أحمد. والثانية: الخالصة من الغش، قاله الأخفش. والثالث: الخمر البيضاء، قاله مقاتل. والرابع: الخمر العتيقة، حكاه ابن قتيبة.
والقول الثاني: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، قاله الحسن.
والثالث: أنه الشراب الذي لا غش فيه، قاله ابن قتيبة، والزّجّاج.
وفي قوله عزّ وجلّ: مَخْتُومٍ ثلاثة أقوال: أحدها: ممزوج، قاله ابن مسعود. والثاني: مختوم على إنائه، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد. والثالث: أنه ختام، أي: عاقبة ريح، وتلك العاقبة هي قوله عزّ وجلّ: خِتامُهُ مِسْكٌ، أي عاقبته. هذا قول أبي عبيدة.
قوله: خِتامُهُ مِسْكٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة «ختامه» بكسر الخاء، وبفتح التاء، وبألف بعدهما، مرفوعه الميم. وقرأ الكسائي «خَاتَمه» بخاء مفتوحة، بعدها ألف، وبعده تاء مفتوحة. وروى الشّيزري عنه «خَاتِمه» مثل ذلك، إلا أنه يكسر التاء. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعروة، وأبو العالية: «ختمه مسك» بفتح الخاء والتاء وبضمّ الميم من غير ألف. وللمفسرين في قوله تعالى: خِتامُهُ مِسْكٌ أربعة أقوال: أحدها: خلطه مسك، قاله ابن مسعود، ومجاهد. والثاني: أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك، قاله ابن عباس. والثالث: أن طعمه وريحه مسك، قاله علقمة. والرابع: أن آخر طعمه مسك، قاله سعيد بن جبير، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزّجّاج في آخرين.
قوله عزّ وجلّ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي: فليجدُّوا في طلبه، وليحرصوا عليه بطاعة الله. والتنافس: كالتشاحّ على الشيء، والتّنازع فيه.
قوله عزّ وجلّ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ فيه قولان: أحدهما: أنه اسم عين في الجنة، قال ابن مسعود: وهي عين في الجنة يشربها المقربون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين. والثاني: أن التسنيم الماء، قاله الضحاك. قال مقاتل: وإنما سمي تسنيماً، لأنه يتسنّم عليه من جنة عدن، فينصبُّ عليهم انصباباً، فيشربون الخمر من ذلك الماء. قال ابن قتيبة: يقال: إن التسنيم أرفع شراب في الجنة.
ويقال: إنه يمتزج بماءٍ ينزل من تسنيم، أي: من علو. وأصل هذا من سنام البعير، ومن تسنيم القبور.
وهذا أعجب إليَّ، لقول المسيَّب بن عَلَس في وصف امرأة:
كأنّ بريقتها للمزاج ... مِنْ ثَلْجِ تَسْنِيمَ شِيْبَتْ عُقَاراً
أراد: كأن بريقتها عُقَاراً شِيْبَتْ للمزاج من ثلج تسنيم، يريد: جبلاً. قال الزجاج: المعنى:
ومزاجه من تسنيم عيناً تأتيهم من تسنيم، أي: من علو يَتَسَنَّم عليهم من الغرف. ف «عيناً» في هذا القول منصوبة، كما قال عزّ وجلّ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً «1» . ويجوز أن تكون «عيناً» منصوبة بقوله: يُسْقَوْن عيناً، أي: من عين. وقد بينا معنى «يشرب بها» في «هل أتى» «2» .
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
__________
(1) البلد: 14- 15.
(2) الدهر: 6.(4/417)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي: أشركوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مثل عمَّار، وبلال، وخبَّاب وغيرهم يَضْحَكُونَ على وجه الإستهزاء بهم وَإِذا مَرُّوا
يعني: المؤمنين بِهِمْ
أي: بالكفار يَتَغامَزُونَ
أي: يشيرون بالجفن والحاجب استهزاءً بهم وَإِذَا انْقَلَبُوا يعني: الكُفار إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي: متعجِّبين بما هم فيه يتفكَّهون بذكرهم. وقرأ أبو جعفر، وحفص عن عاصم، وعبد الرزاق عن ابن عامر «فكهين» بغير ألف. وقد شرحنا معنى القراءتين في «يس» «1» قوله: وَإِذا رَأَوْهُمْ أي: رأَوْا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ يقول الله تعالى: وَما أُرْسِلُوا يعني الكفار عَلَيْهِمْ أي: على المؤمنين حافِظِينَ يحفظون أعمالهم عليهم، أي: لم يُوَكَّلوا بحفظ أعمالهم فَالْيَوْمَ يعني: في الآخرة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ إذا رَأَوْهم يعذَّبون في النار. قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا، وتفتح لهم أبوابها، فإذا أقبلوا يريدون الخروج، غُلِّقت أبوابها دونهم. والمؤمنون عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إليهم فذلك قوله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إليهم عذاب عدوِّهم. قال مقاتل: لكل رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذَّبون، فيحمدون الله على ما أكرمهم به، فهم يكلِّمون أهل النار ويكلمونهم إلى أن تطبق النار على أهلها، فتسد حينئذ الكوى.
قوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ وقرأ حمزة، والكسائي، وهارون عن أبي عمرو «هل ثوب» بإدغام اللام. أي: هل جوزوا وأُثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا؟ وهذا الإستفهام بمعنى التقرير.
__________
(1) يس: 55.(4/418)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
سورة الانشقاق
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
قوله عزّ وجلّ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) قال المفسرون: انشقاقها من علامات الساعة. وقد ذكر ذلك في مواضع من القرآن. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي: استمعت وأطاعت في الانشقاق، من الأذن، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه، وأنشدوا:
صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيراً ذُكِرْتُ بِهِ ... وإن ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُم أَذِنُوا «1»
وَحُقَّتْ أي: حقَّ لها أن تُطيع ربَّها الذي خلقها وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قال ابن عباس: تُمَدُّ مَدَّ الأديم، ويزاد في سَعَتها. وقال مقاتل: لا يبقى جبل ولا بناءٌ إلا دخل فيها.
قوله عزّ وجلّ: وَأَلْقَتْ ما فِيها من الموتى والكنوز وَتَخَلَّتْ أي: خلت من ذلك، فلم يبق في باطنها شيء. واختلفوا في جواب هذه الأشياء المذكورات على أربعة أقوال: أحدها: أنه متروك، لأن المعنى معروف قد تردَّد في القرآن. والثاني: أنه يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، كقول القائل: إذا كان كذا وكذا فيا أيها الناس تَرَوْن ما عملتم، فيجعل: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ هو الجواب، وتضمر فيه الفاء، فكأنّ المعنى: ترى الثواب والعقاب إذا السماء انشقّت، ذكر القولين الفراء. والثالث: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت» قاله المبرد. والرابع: أن الجواب مدلول عليه بقوله عزّ وجلّ: «فملاقيه» . فالمعنى: إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فيه قولان: أحدهما: إنك عامل لربك عملاً، قاله ابن
__________
(1) البيت لقعنب بن ضمرة بن أم صاحب، كما في «الاقتضاب» 292 و «اللسان» - أذن-.(4/419)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
عباس. والثاني: ساعٍ إلى ربك سَعْياً، قاله مقاتل. قال الزجاج: و «الكدح» في اللغة: السّعي، والدّأب في العمل باب الدنيا والآخرة. قال تميم بن مقبل:
وَمَا الدَّهر إِلاَّ تَارَتانِ فمِنْهما ... أموتُ وأُخرى أبتغي العيش أكدح
وفي قوله عزّ وجلّ: إِلى رَبِّكَ قولان: أحدهما: عامل لربك. وقد ذكرناه عن ابن عباس.
والثاني: إلى لقاء ربّك، قاله ابن قتيبة.
وفي قوله عزّ وجلّ: فَمُلاقِيهِ قولان: أحدهما: فملاقٍ عَمَلَكَ. والثاني: فملاقٍ ربّك، ذكرهما الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وهو أن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له.
(1520) وفي «الصّحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من نوقش الحساب هلك، فقلت: يا رسول الله، فإن الله يقول: «فسوف يحاسب حساباً يسيرا» ؟! قال:
ذلك العرض» .
قوله عزّ وجلّ: وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ يعني: في الجنة من الحور العين والآدميات مَسْرُوراً بما أُوتي من الكرامة وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ قال المفسرون: تُغَلُّ يده اليمنى إلى عنقه، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً قال الزجاج: يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وهذا يقوله كلُّ من وقع في هلكة.
قوله عزّ وجلّ: وَيَصْلى سَعِيراً قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي «ويُصُلَّى» بضم الياء، وتشديد اللام. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة «ويصلى» بفتح الياء خفيفة، إلا أن حمزة والكسائي يميلانها. وقد شرحناه في سورة النّساء «1» . قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ يعني في الدنيا مَسْرُوراً باتباع هواه، وركوب شهواته إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي: لن يرجع إلى الآخرة، ولن يبعث وهذه صفة الكافر. قال اللغويون: الحور في اللغة: الرجوع، وأنشدوا للبيد:
وما المرء إِلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 15 الى 25]
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
__________
صحيح. أخرجه البخاري 103 والبغوي في «شرح السنة» 4214 عن سعيد بن أبي مريم به. عن عائشة.
وأخرجه البخاري 4939 ومسلم 2876 ح 79 والترمذي 3337 وأحمد 6/ 47 والطبري 36736 وابن حبان 7369 والقضاعي 338 من طرق عن أيوب عن ابن أبي مليكة. وأخرجه البخاري 4939 و 6536 والترمذي 2426 و 3337 والطبري 36739 و 36740 من طرق عن ابن أبي مليكة به.
__________
(1) النساء: 11.(4/420)
قوله عزّ وجلّ: بَلى قال الفراء: المعنى: بلى ليحورون، ثم استأنف، فقال عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً قال المفسرون: بصيرا به على سائر أحواله.
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ قد سبق بيانه.
وأمّا «الشفق» فقال ابن قتيبة: هما شفقان: الأحمر، والأبيض، فالأحمر: من لدن غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء ثم يغيب، ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل. وللمفسرين في المراد «بالشّفق» هاهنا ستة أقوال: أحدها: أنه الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس.
(1521) وقد روى ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الشفق: الحمرة» ، وهذا قول عمر، وابنه، وابن مسعود، وعبادة، وأبي قتادة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وابن المسيّب، وابن جبير، وطاوس، ومكحول، ومالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، والشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، وابن قتيبة، والزجاج. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول وعليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق، وكان أحمر.
والثاني: أنه النهار. والثالث: الشمس، روي القولان عن مجاهد. والرابع: أنه ما بقي من النهار، قاله عكرمة. والخامس: السواد الذي يكون بعد ذهاب البياض، قاله أبو جعفر بن محمّد بن علي.
والسادس: أنه البياض، قاله عمر بن عبد العزيز.
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي: وما جمع وضم. وأنشدوا:
إنَّ لنا قَلائصَاً حَقَائِقا ... مُسْتَوْسِقَاتٍ لو يَجِدْنَ سَائِقَا «1»
قال أبو عبيدة: وَما وَسَقَ ما علا فلم يمنع منه شيء، فإذا جلل الليل الجبال، والأشجار، والبحار، والأرض، فاجتمعت له، فقد وسقها. وقال بعضهم: معنى: «ما وسق» : ما جمع مما كان منتشراً بالنهار في تصرّفه إلى مأواه.
قوله عزّ وجلّ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قال الفرّاء: اتّساقه: واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، إلى ستّ عشرة.
قوله عزّ وجلّ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قرأ ابن كثير، وحمزة والكسائيّ «لتركبن» بفتح التاء والباء جميعا، وفي معناه قولان: أحدهما: أنه خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم في معناه قولان: أحدهما: لتركبنَّ سماءً بعد سماءٍ، قاله ابن مسعود، والشعبي، ومجاهد. والثاني: لتركبن حالاً بعد حال، قاله ابن عباس، وقال: هو نبيُّكم.
والقول الثاني: أن الإشارة إلى السماء. والمعنى: أنها تتغير ضروباً من التغيير، فتارة كالمُهْل، وتارةً كالدِّهان، روي عن ابن مسعود أيضا.
__________
الصحيح موقوف. أخرجه الدارقطني 1/ 269 من حديث ابن عمر، وفي إسناده عتيق بن يعقوب، وهو لم يسمع من مالك. وورد من وجه آخر موقوفا، أخرجه الدارقطني 1/ 269، وهو الراجح، وكذا روي عن جماعة من الصحابة موقوفا، وهو أصح، والله أعلم.
__________
(1) الرجز في «ملحق ديوان العجاج» 84، وهو في «مجاز القرآن» 2/ 291 و «اللسان» وسق.(4/421)
قرأ عاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «لتركبنَّ» بفتح التاء وضم الباء، وهو خطاب لسائر الناس ومعناه: لتركبنَّ حالاً بعد حال. وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وأبو الأشهب «ليركبنّ» بالياء، ونصب اللام. وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران، وابن يعمر «ليركبنّ» بالياء، ورفع الباء. و «عن» بمعنى «بعد» . وهذا قول عامّة المفسّرين واللغويين، وأنشدوا للأقرع بن حابس:
إنّي امْرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدَّهْرَ أَشْطَرَهُ ... وَسَاقَنِي طَبَقٌ منه إلى طَبَقِ
ثم في معنى الكلام خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه الشدائد، والأهوال، ثم الموت، ثم البعث، ثم العرض، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الرخاء بعد الشدة، والشدة بعد الرخاء، والغنى بعد الفقر، والفقر بعد الغنى، والصحة بعد السقم، والسقم بعد الصحة، قاله الحسن. والثالث: أنه كون الإنسان رضيعاً ثم فطيماً ثم غلاما ثم شاباً ثم شيخاً، قاله عكرمة. والرابع: أنه تغير حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا، فيرتفع من كان وضيعاً، ويتضع من كان مرتفعاً، وهذا مذهب سعيد بن جبير. والخامس: أنه ركوب سنن من كان قبلهم من الأولين، قاله أبو عبيدة. وكان بعض الحكماء يقول: من كان اليوم على حالة، وغداً على حالة أخرى، فليعلم أن تدبيره إلى سواه.
قوله عزّ وجلّ: فَما لَهُمْ يعني: كفار مكة لا يُؤْمِنُونَ بمحمّد والقرآن، وهو استفهام إنكار وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ فيه قولان: أحدهما: لا يصلُّون، قاله عطاء، وابن السائب.
والثاني: لا يخضعون له، ويستكينون، قاله ابن جرير، واختاره القاضي أبو يعلى. قال: وقد احتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك، وإنما المعنى: لا يخشعون، ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه.
قوله عزّ وجلّ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ بالقرآن، والبعث، والجزاء وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من التكذيب. قال ابن قتيبة: «يوعون» : يجمعون في قلوبهم. وقال الزجاج: يقال: أوعيت المتاع في الوعاء، ووعيت العلم.
قوله عزّ وجلّ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي: أخبرهم بذلك. وقال الزجاج: اجعل للكفار بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة، العذابَ الأليم. و «الممنون» عند أهل اللغة: المقطوع.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 516: والصواب من التأويل قول من قال: لتركبن أنت يا محمد حالا بعد حال، وأمرا بعد أمر من الشدائد، والمراد بذلك- وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم موجها- جميع الناس، أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا.(4/422)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
سورة البروج
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ قد ذكرنا البروج في الحجر «1» وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ هو يوم القيامة بإجماعهم وفي قوله: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ فيه أربعة وعشرون قولاً «2» :
(1522) أحدها: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، رواه أبو هريرة عن
__________
ضعيف، والراجع وقفه، أخرجه الحاكم 2/ 519 والبيهقي 3/ 170 من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف، لضعف علي بن زيد، وخالفه يونس فرواه موقوفا، وصحح الحاكم الموقوف، ووافقه الذهبي وهو كما قالا.
والموقوف أخرجه الطبري 36838، بإسناد على شرط مسلم من حديث أبي هريرة قال: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يوم القيامة. وورد عند الطبري 36850 من طريق ابن حرملة عن سعيد أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن سيد الأيام الجمعة، وهو الشاهد، والمشهود: يوم عرفة» وهذا مرسل، وهو معلول، فقد كرره الطبري 36853 عن سعيد قوله. وأخرجه الطبري 36852 من طريق شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الشاهد ... » فذكره. وفي إسناده محمد بن إسماعيل، وهو واه. وورد موقوفا منجما بألفاظ
__________
(1) الحجر: 16.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 582: قال البغوي: الأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة اه. وتوقف ابن جرير ولم يرجّح.(4/423)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبه قال علي، وابن عباس في رواية، وابن زيد. فعلى هذا سمي يومُ الجمعة شاهداً، لأنه يشهد على كل عامل بما يعمل فيه، وسمي يومُ عرفة مشهوداً، لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة. والثاني: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم النحر، قاله ابن عمر.
والثالث: أن الشاهد: الله عزّ وجلّ، والمشهود: يوم القيامة، رواه الوالبي عن ابن عباس. والرابع: أن الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة، رواه مجاهد عن ابن عباس. والخامس: أنّ الشّاهد:
محمّد صلّى الله عليه وسلم، والمشهود: يوم القيامة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن بن علي.
والسادس: أن الشاهد: يوم القيامة، والمشهود: الناس، قاله جابر بن عبد الله. والسابع: أن الشاهد:
يوم الجمعة، والمشهود: يوم القيامة، قاله الحسن. والثامن: أن الشاهد: يوم التروية، والمشهود: يوم عرفة، قاله سعيد بن المسيب. والتاسع: أن الشاهد: هو الله، والمشهود: بنو آدم، قاله سعيد بن جبير. والعاشر: أن الشاهد: محمد، والمشهود: يوم عرفة، قاله الضحاك. والحادي عشر: أنّ الشاهد آدم، والمشهود: يوم القيامة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني عشر: أن الشاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال عكرمة. والثالث عشر: أنّ الشاهد: آدم، وذريته، والمشهود يوم القيامة، قاله عطاء بن يسار. والرابع عشر: أن الشاهد: الإنسان، والمشهود:
الله عزّ وجلّ، قاله محمد بن كعب. والخامس عشر: أن الشاهد: يوم النحر، والمشهود: يوم عرفة، قاله إبراهيم. والسادس عشر: أنّ الشاهد: عيسى ابن مريم عليه السلام، والمشهود: أمته، قاله أبو مالك. ودليله قوله عزّ وجلّ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً «1» . والسابع عشر: أنّ الشاهد: محمّد صلّى الله عليه وسلم، والمشهود: أمته، قاله عبد العزيز بن يحيى، وبيانه: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «2» . والثامن عشر:
أن الشاهد: هذه الأمة، والمشهود: سائر الناس، قاله الحسين بن الفضل، ودليله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «3» . والتاسع عشر: أن الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم، قاله محمد بن علي الترمذي، وحكي عن عكرمة نحوه. والعشرون: أن الشاهد: الحق، والمشهود: الكون، قاله الجنيد. والحادي والعشرون: أن الشاهد، الحجر الأسود، والمشهود: الحجّاج. والثاني والعشرون: أنّ الشاهد: الأنبياء والمشهود: محمّد صلّى الله عليه وسلم، وبيانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الآية «4» . والثالث والعشرون: أنّ الشاهد:
__________
مختلفة عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهذا الاختلاف يدل على الاضطراب الخلاصة: الحديث ضعيف بهذا اللفظ. وقد ورد من حديث أبي هريرة مرفوعا وعجزه وما طلعت الشمس ولا غربت في يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، لا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه» ، وعجزه هذا محفوظ.
أخرجه الترمذي 3339 والبغوي في «شرح السنة» بإثر 1042 عن عبد بن حميد عن روح بن عبادة وعبيد الله بن موسى به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 458 من طريق يحيى بن نصر والطبري 36851 من طريق مهران كلاهما عن موسى بن عبيدة به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وانظر «تفسير الشوكاني» 2683.
__________
(1) المائدة: 117.
(2) النساء: 41.
(3) البقرة: 143.
(4) آل عمران: 81.(4/424)
الله عزّ وجلّ، والملائكة، وأولو العلم، والمشهود: لا إله إلا الله، وبيانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ «1» ، حكى هذه الأقوال الثلاثة الثعلبي. والرابع والعشرون: أنّ الشاهد: الأنبياء والمشهود: الأمم، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله.
وفي جواب القسم أقوال: أحدها: أنه قوله عزّ وجلّ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قاله قتادة، والزجاج.
والثاني: أنه قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، كما أنّ القسم في قوله عزّ وجلّ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... قَدْ أَفْلَحَ، حكاه الفراء. والثالث: أنه متروك، وهذا اختيار ابن جرير.
قوله عزّ وجلّ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ أي: لُعِنُوا. والأخدود: شق يشق في الأرض، والجمع:
أخاديد. وهؤلاء قوم حفروا حفائر في الأرض وأوقدوا فيها النار، وألقَوا فيها من لم يكفر.
واختلف العلماء فيهم على ستة أقوال «2» :
(1523) أحدها: أنه مَلِكٌ كان له ساحر فبعث إليه غلاماً يعلِّمه السّحر، فكان الغلام يمرُّ على راهب، فأعجبه أمره، فتبعه، فعلم به المَلِك، فأمره أن يرجع عن دينه، فقال: لا أفعل، فاجتهد الملك في إهلاكه، فلم يقدر، فقال الغلام: لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. اجمع الناس في صعيد واحد، واصلبني على جذع، وارمني بسهم من كنانتي، وقل: بسم الله ربِّ الغلام، ففعل، فمات الغلام، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فخدَّ الأخاديد، وأضرم فيها النار، وقال: فمن لم يرجع عن دينه فاقحموه فيها، ففعلوا، وهذا مختصر الحديث، وفيه طول، وقد ذكرته في «المغني» و «الحدائق» بطوله من حديث صهيب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(1524) والثاني: أن ملكاً من الملوك سكر، فوقع على أخته، فلما أفاق قال لها: ويحك: كيف المخرج؟ فقالت له: اجمع أهل مملكتك فأخبرهم أنّ الله عزّ وجلّ قد أَحَلَّ نكاح الأخوات، فإذا ذهب هذا في الناس وتناسَوه، خطبتَهم فحرَّمته. ففعل ذلك، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فبسط فيهم السّوط، ثم
__________
صحيح. أخرجه مسلم 3005 وابن حبان 873 والواحدي في «الوسيط» 4/ 459- 460 من طريق هدبة بن خالد به. من حديث صهيب. وأخرجه الطبري 36874 من طريق حرمي بن عمارة ثنا حماد بن سلمة به.
وأخرجه الترمذي 3340 وعبد الرزاق 9751 والطبراني 7319 من طريق معمر عن ثابت به. وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11661 وأحمد 6/ 17 و 18 والطبراني 7320 من طرق عن حماد بن سلمة به.
موقوف. أخرجه الطبري 36868 عن علي موقوفا، وإسناده ضعيف، فيه إرسال بين ابن أبزى وبين علي.
__________
(1) آل عمران: 18. [.....]
(2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 19/ 256: قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية، ما كان يلقاه من وحّد قبلهم من الشدائد، يؤنّسهم بذلك. وذكر لهم النبي صلّى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام، والمشقات التي كانوا عليها ليتأسوا بمثل هذا الغلام، في صبره وتصلبه في الحقّ وتمسكه به، وبذله نفسه في حقّ إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره، قال ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا. قلت: ليس بمنسوخ عندنا، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى، قال تعالى مخبرا عن لقمان: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] اه.
قلت: ذكر المصنف أقوالا عن الصحابة والتابعين والمفسرين، والحجة في المرفوع الآتي.(4/425)
جرَّد السيف، فأبَوْا، فخدَّ لهم أخدودا، وأوقد فيه النار، وقذف من أبى قبول ذلك، قاله عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه.
(1525) والثالث: أنهم أناس اقتتل مؤمنوهم وكافروهم، فظهر المؤمنون، ثم تعاهدوا أن لا يَغدِر بعضهم ببعض، فغدر الكفار، فأخذوهم، فقال لهم رجل من المؤمنين: أوقدوا ناراً، واعرضوا عليها، فمن تابعكم على دينكم، فذاك الذي تحبون، ومن لم يتابعكم أُقحم النار فاسترحتم منه. ففعلوا، فجعل المسلمون يقتحمونها، ذكره قتادة.
(1526) والرابع: أن قوماً من المؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، فأرسل إليهم جبَّار من عبدة الأوثان، فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا، فخدّ لهم أخدودا، وألقاهم فيه، قاله الربيع بن أنس.
(1527) والخامس: أن جماعة آمنوا من قوم يوسف بن ذي نواس بعد ما رفع عيسى، فخدّ لهم خدّا، وأوقد فيه النار، فأحرقهم كلهم، فأنزل الله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وهم: يوسف بن ذي نواس وأصحابه، قاله مقاتل.
والسادس: أنهم قوم كانوا يعبدون صنماً، ومعهم قوم يكتمون إيمانهم، فعلموا بهم، فخدُّوا لهم أُخدوداً، وقذفوهم فيه، حكاه الزجاج.
واختلفوا في الذين أُحرقوا على خمسة أقوال: أحدها: أنهم كانوا من الحبشة، قاله عليّ عليه السلام. والثاني: من بني إسرائيل، قاله ابن عباس. والثالث: من أهل اليمن، قاله الحسن. قال الضحاك: كانوا من نصارى اليمن، وذلك قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأربعين سنة. والرابع: من أهل نجران، قاله مجاهد. والخامس: من النبط، قاله عكرمة.
وفي عددهم ثلاثة أقوال: أحدها: اثنا عشر ألفاً، قاله وهب. والثاني: سبعون ألفاً، قاله ابن السّائب. والثالث: ثمانون رجلا، وتسع نسوة، قاله مقاتل.
قوله عزّ وجلّ: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ هذا بدل من «الأخدود» كأنه قال: قتل أصحاب النار، و «الوقود» مفسر في البقرة «1» وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، ومجاهد، وأبو العالية، وابن يعمر وابن أبي عبلة «الوُقُود» بضم الواو إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ أي: عند النار. وكان الملك وأصحابه جلوساً على الكراسي عند الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر، فمن أبى ألْقَوْه وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي: حضور، فأخبر الله عزّ وجلّ في هذه الآيات بقصة قوم بلغ من إيمانهم ويقينهم أن صبروا على التحريق بالنار، ولم يرجعوا عن دينهم.
قوله عزّ وجلّ: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ وقرأ ابن أبي عبلة «نقِموا» بكسر القاف. قال الزّجّاج: أي: ما
__________
أخرجه الطبري 36869 عن قتادة قال حدثنا أن عليا رضي الله عنه كان يقول: «هم أناس بمزارع اليمن، اقتتل مؤمنوها وكفارها ... » فذكره. وهذا ضعيف، قتادة عن علي منقطع.
مرسل. أخرجه الطبري 36875 عن الربيع بن أنس به.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم، والصحيح في ذلك حديث صهيب، وتقدم برقم 1523.
__________
(1) البقرة: 24.(4/426)
أنكروا عليهم إيمانهم. وقد شرحنا معنى «نقموا» في المائدة «1» وبراءة «2» وشرحنا معنى الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ في البقرة «3» .
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: لم يَخْفَ عليه ما صنعوا، فهو شهيد عليهم بما فعلوا.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي: أحرقوهم، وعذّبوهم. كقوله عزّ وجلّ:
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «4» ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا من شركهم وفعلهم ذلك فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بكفرهم وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ بما أحرقوا المؤمنين، وكلا العذابَيْن في جهنم عند الأكثرين وقد ذهب الربيع بن أنس في جماعة إلى أن النار ارتفعت إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم، فذلك عذاب الحريق في الدنيا. قال الربيع: وقبض الله أرواح المؤمنين قبل أن تمسَّهم النار. وحكى الفراء أن المؤمنين نَجوْا من النار، وأنها ارتفعت فأحرقت الكفرة.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ لأنهم فازوا بالجنة. وقال بعض المفسرين: فازوا من عذاب الكفار، وعذاب الآخرة.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظّلمة والجبابرة لشديد.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ فيه قولان: أحدهما: يبدئ الخلق ويعيدهم، قاله الجمهور.
والثاني: يبدئ العذاب في الدنيا على الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس.
وقد شرحنا في هود «5» معنى «الودود» و «المجيد» .
قوله عزّ وجلّ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ وقد قرأ حمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم «المجيدِ» بالخفض، وقرأ غيرهم بالرفع، فمن رفع «المجيدُ» جعله من صفات الله عزّ وجلّ، ومن كسر جعله من صفة العرش.
قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ أي: قد أتاك حديث الْجُنُودِ وهم الذين تجنَّدوا على أولياء الله. ثم بيّن من هم، فقال عزّ وجلّ: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي مكّة فِي تَكْذِيبٍ لك وللقرآن، أي: لم يعتبروا بمن كان قبلهم وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ أي: كريم، لأنه كلام الله، وليس كما يقولون: شعر، وكهانة، وسحر. وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السّميفع «بل قرآن مجيد» بغير تنوين وبخفض «مجيد» فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ وهو اللوح المحفوظ، منه نسخ القرآن وسائر الكتب، فهو محفوظ عند الله محروس به من الشياطين، ومن الزيادة فيه والنقصان منه. وقرأ نافع «محفوظ» رفعاً على نعت القرآن فالمعنى: إنه محفوظ من التحريف والتّبديل.
__________
(1) المائدة: 59.
(2) التوبة: 74.
(3) البقرة: 129 و 267.
(4) الذاريات: 13.
(5) هود: 90.(4/427)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
سورة الطّارق
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ قال ابن قتيبة: الطارق: النجم، سمي بذلك، لأنه يطرق، أي:
يطلع ليلاً، وكل من أتاك ليلاً، فقد طرقك، ومنه قول هند ابنة عتبة:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
تريد: إن أبانا نجم في شرفه وعلوّه.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ قال المفسّرون: وذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلا، فلم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلم يدري ما المراد به حتى تبينه بقوله عزّ من قائل: النَّجْمُ الثَّاقِبُ يعني:
المضيء، كما بيَّنا في الصافات»
وفي المراد بهذا النجم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه زحل، قاله عليّ رضي الله عنه. وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: هو زحل، ومسكنه في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجومُ أمكنتَها من السماء، هبط، فكان معها، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد. والثاني: أنه الثريا، قاله ابن زيد. والثالث:
أنه اسم جنس، ذكره علي بن أحمد النّيسابوريّ.
قوله عزّ وجلّ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو المتوكل «إنَّ» بالتشديد «كلَّ» بالنصب لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم وحمزة، وأبو حاتم عن يعقوب «لمَّا» بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف. قال الزجاج: هذه الآية جواب القسم، ومن خفف فالمعنى: لَعَلَيْها حافظ و «ما» ومن شدد، فالمعنى: إلا، قال: فاستعملت «لما» في موضع «إلا» في موضعين: أحدهما: هذا.
والآخر: في باب القسم. تقول: سألتك لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت. قال المفسرون: المعنى: ما
__________
(1) الصافات: 10.(4/428)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
من نفس إلا عليها حافظ. وفيه قولان: أحدهما: أنهم الحفظة من الملائكة، قاله ابن عباس. قال قتادة: يحفظون على الإنسان عمله من خير أو شر. والثاني: حافظ يحفظ الإنسان حتى حين يسلِّمه إلى المقادير، قاله الفرّاء. ثم نبّه على البعث ب قوله عزّ وجلّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ أي: من أي شيء خلقه ربّه؟ والمعنى: فلينظر نظر التفكُّر والاستدلال ليعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادرٌ على إعادته.
قوله جلّ جلاله: مِنْ ماءٍ دافِقٍ قال الفراء: معناه: مدفوق، كقول العرب. سرٌّ كاتم، وهمٌ ناصب، وليلٌ نائم، وعيشة راضية. وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً. قال الزجاج: ومذهب سيبويه وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق، والمعنى: من ماءٍ ذي اندفاق.
قوله عزّ وجلّ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وقرأ ابن مسعود، وابن سيرين، وابن السميفع، وابن أبي عبلة «الصلب» بضم الصاد، واللام جميعاً. يعني: يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. قال الفراء:
يريد يخرج من الصلب والترائب. يقال: يخرج من بين هذين الشيئين خير كثير. بمعنى: يخرج منهما.
وفي «الترائب» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه موضع القلادة، قاله ابن عباس. قال الزجاج: قال أهل اللغة أجمعون: التّرائب: موضع القلادة من الصّدر، وأنشدوا لامرئ القيس:
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ... تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ
قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: السجنجل: المرآة بالرومية. وقيل: هي سبيكة الفضة، وقيل: السجنجل: الزعفران، وقيل: ماء الذهب. ويروى البيت: «بالسجنجل» . والثاني: أن الترائب:
اليدان والرجلان والعينان، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر، حكاه الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ الهاء كناية عن الله عزّ وجلّ عَلى رَجْعِهِ الرجع: رد الشيء إلى أول حاله.
وفي هذه الهاء قولان: أحدهما: أنها تعود على الإنسان. ثم في المعنى قولان: أحدهما: أنه على إعادة الإنسان حياً بعد موته قادر، قاله الحسن، وقتادة. قال الزّجّاج: ويدل على هذا القول قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. والثاني: أنه على رجعه من حال الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة قادر، قاله الضّحّاك. والقول الثاني: أنها تعود على الماء. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: رد الماء في الإحليل، قاله مجاهد. والثاني: على رده في الصلب، قاله عكرمة، والضحاك. والثالث: على حبس الماء فلا يخرج، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ تختبر السرائر التي بين العبد وبين ربه حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤدِّيها من مضيِّعها، فإن الإنسان مستور في الدنيا، لا يُدري أصلى، أم لا؟ أتوضأ، أم لا؟ فإذا كان يوم القيامة أبدى الله كل سِرٍّ، فكان زَيْناً في الوجه، أو شَيْناً. وقال ابن قتيبة: تختبر سرائر القلوب.
قوله عزّ وجلّ: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ أي: فما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله وَلا ناصِرٍ ينصره.
[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)(4/429)
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي: ذات المطر، وسمي المطر رجعاً لأنه يجيء ويرجع ويتكرَّر وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ أي: ذات الشقّ. وقيل لها هذا، لأنها تتصدَّع وتتشقَّق بالنبات، هذا قول المفسّرين وأهل اللغة في الحرفين.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ يعني به القرآن، وهذا جواب القسم. والفصل: الذي يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي: بالَّلعِب. والمعنى: إنه جِدٌّ، ولم ينزل بالَّلعِب. وبعضهم يقول: الهاء في «إنه» كناية عن الوعيد المتقدم ذكره.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُمْ يعني مشركي مكة يَكِيدُونَ كَيْداً أي: يحتالون وهذا الاحتيال في المكر برسول الله صلّى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة. وَأَكِيدُ كَيْداً أي: أُجازيهم على كيدهم بأن أستدرجهم من حيث لا يعلمون، فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ هذا وعيد من الله عزّ وجلّ لهم. ومَهِّل وأَمْهِل لغتان جمعتا هاهنا. ومعنى الآية: مهِّلهم قليلاً حتى أهلكهم، ففعل الله ذلك بِبَدْر، ونسخ الإمهال بآية السيف. قال ابن قتيبة: ومعنى «رويداً» مهلاً، ورويدَك. بمعنى أمهل.
قال الله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي: قليلاً، فإذا لم يتقدمها «أمهلهم» كانت بمعنى «مهلاً» .
ولا يتكلم بها إلا مصغرة ومأموراً بها، وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر.
قال الشاعر:
كأنها مِثْلُ مَنْ يمشي على رُودِ
أي: على مهل.(4/430)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
سورة الأعلى
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
وفي معنى سَبِّحِ خمسة أقوال «1» : أحدها: قل: سبحان ربي الأعلى، قاله الجمهور. والثاني:
عَظِّم. والثالث: صَلِّ بأمر ربك، روي القولان عن ابن عباس. والرابع: نَزِّه ربك عن السوء، قاله الزجاج. والخامس: نَزِّه اسم ربك وذكرك إياه أن تذكره وأنت معظم له، خاشع له، ذكره الثّعلبي.
وفي قوله عزّ وجلّ: اسْمَ رَبِّكَ قولان: أحدهما: أن ذكر الاسم صلة، كقول لبَيد بن ربيعة:
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَليْكُما ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فَقَد اعْتَذَرْ
والثاني: أنه أصلي، وقال الفرّاء: قوله: سبّح اسم ربّك وسبّح باسم ربّك، سواء في كلام العرب.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أي: فعدَّل الخلق. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في «الإنفطار» «2» : وَالَّذِي قَدَّرَ وقرأ الكسائي وحده «قَدَر» بالتخفيف فَهَدى فيه سبعة أقوال «3» : أحدها:
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 543: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: معناه:
نزه اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان فكانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى، فبين بذلك أن معناه عندهم كان معلوما: عظم اسم ربك، ونزهه.
(2) الانفطار: 7.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 592: وقوله: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى قال مجاهد: هدى الإنسان للشقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها، وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي: قدّر قدرا، وهدى الخلائق إليه. اه.
وتوقف الطبري فلم يرجح، وقال: الخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به حجة.(4/431)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
قدَّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، قاله مجاهد. والثاني: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها إليه، قاله عطاء. والثالث: قَدَّر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج، قاله السدي. والرابع:
قَدَّرهم ذكوراً وإناثاً، وهدى الذكر لإتيان الأنثى، قاله مقاتل. والخامس: أن المعنى: قدَّر فهدى وأضل، فحذف «وأضل» ، لأن في الكلام دليلا عليه، حكاه الزجاج. والسادس: قَدَّر الأرزاق، وهدى إلى طلبها. والسابع: قَدَّر الذنوب، وهدى إلى التوبة، حكاهما الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي: أنبت العشب، وما ترعاه البهائم فجعله: بعد الخضرة غُثاءً قال الزجاج، أي: جفَّفه حتى جعله هشيماً جافاً كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل. وقد بيّنّا هذا في سورة المؤمنون «1» . فأمّا قوله عزّ وجلّ: أَحْوى فقال الفراء: الأحوى: الذي قد اسود من القِدَم، والعتق، ويكون أيضاً: أخرج المرعى أحوى: أسود من الخضرة، فجعله غثاءً كما قال عزّ وجلّ: مُدْهامَّتانِ «2» .
قوله عزّ وجلّ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى قال مقاتل: سنعلِّمك القرآن، ونجمعه في قلبك فلا تنساه أبداً.
قوله عزّ وجلّ: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: إلا ما شاء الله أن تنساه ثم تذكره بعد. حكاه الزّجّاج. والثالث: أنه استثناء ألّا يقع، قال الفرّاء: لم يشأ أن ينسى شيئاً، فإنما هو كقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «3» ، ولا يشاء.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ من القول والفعل وَما يَخْفى منهما وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي:
نُسهِّل عليك عمل الخير فَذَكِّرْ أي: عظ أهل مكة إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى وفي «إن» ثلاثة أقوال: أحدها:
أنها الشّرطية، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن قبلت الذّكرى، قاله يحيى بن سلام. والثاني:
إن نفعت وإن لم تنفع، قاله علي بن أحمد النيسابوري. والثاني: أنها بمعنى «قد» ، فتقديره: قد نفعت الذكرى، قاله مقاتل. والثالث: أنها بمعنى «ما» فتقديره: فذكر ما نفعت الذّكرى، حكاه الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: سَيَذَّكَّرُ أي سيتّعظ بالقرآن مَنْ يَخْشى الله يَتَجَنَّبُهَا
ويتجنب الذكرى الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي: العظيمة الفظيعة لأنها أشد من نار الدنيا ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى حياة تنفعه. وقال ابن جرير: تصير نفس أحدهم في حلقه، فلا تخرج فتفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ قال الزجاج: أي: صادف البقاء الدائم، والفوز مَنْ تَزَكَّى فيه خمسة أقوال: أحدها: من تطهَّر من الشرك بالإيمان، قاله ابن عباس. والثاني: من أعطى صدقة الفطر، قاله أبو سعيد الخدري، وعطاء، وقتادة. والثالث: من كان عمله زاكياً، قاله الحسن، والربيع. والرابع: أنها
__________
(1) المؤمنون: 41.
(2) الرحمن: 64.
(3) هود: 107. [.....](4/432)
زكوات الأموال كلّها، قاله أبو الأحوص. والخامس: تكثَّر بتقوى الله. ومعنى الزاكي: النامي الكثير، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ قد سبق بيانه «1» . وفي قوله عزّ وجلّ: فَصَلَّى ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: صلاة العيدين، قاله أبو سعيد الخدري. والثالث: صلاة التطوع، قاله أبو الأحوص. والقول قول ابن عباس في الآيتين، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة، ولا عيد.
قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا قرأ أبو عمرو، وابن قتيبة، وزيد عن يعقوب «بل يؤثرون» بالياء، والباقون بالتاء، واختار الفراء والزجاج التاء، لأنها رويت عن أُبَيِّ بن كعب: «بل أنتم تؤثرون» . فإن أريد بذلك الكفار، فالمعنى: أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة، لأنهم لا يؤمنون بها. وإن أريد به المسلمون، فالمعنى: يريدون الاستكثار من الدنيا على الاستكثار من الثواب. قال ابن مسعود:
إن الدنيا عجِّلت لنا، وإن الآخرة نُعِتَتْ لنا، وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل.
قوله عزّ وجلّ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ يعني الجنة أفضل وَأَبْقى أي: أدوم من الدنيا.
إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى في المشار إِليه أربعة أقوال: أحدها: أنه قوله عزّ وجلّ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى قاله قتادة. والثاني: هذه السورة، قاله عكرمة، والسدي. والثالث: أنه لم يرد السّورة، ولا ألفاظها بعينها، وإنما أراد أن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى، في الصحف الأولى، كما هو في القرآن، قاله ابن قتيبة. والرابع: أنه من قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلى قوله: وَأَبْقى قاله ابن جرير.
ثم بين الصحف الأولى ما هي، فقال: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وقد فسّرناها في النّجم «2» .
__________
(1) الأحزاب: 31.
فائدة: قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 380: الذكر حقيقته إنما هو في القلب، لأنه محمل النسيان الذي هو ضده، والضدان إنما يتضادان في المحل الواجب، فأوجب الله بهذه الآية النية في الصلاة خصوصا، وإن كان قد اقتضاها عموما قوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] وقوله صلّى الله عليه وسلم:
«إنما الأعمال بالنيات» والصلاة أم الأعمال ورأس العبادات، ومحل النية في الصلاة مع تكبيرة الإحرام، فإن الأفضل في كل نية بفعل أن تكون مع الفعل لا قبله، وإنما رخّص في تقديم نية الصوم لأجل تعذر اقتران النية فيه بأول الفعل عند العجز، لوجوده والناس في غفلة، وبقيت سائر العبادات على الأصل.
وتوهم بعض القاصرين عن معرفة الحقّ أن تقديم النية على الصلاة جائز، بناء على ما قال علماؤنا من تجويز تقديم النية على الوضوء في الذي يمشي إلى النهر في الغسل، فإذا نسي واغتسل يجزئه- قال: فكذلك الصلاة. وهذا القائل ممن دخل في قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ [الملك: 22] وقد بيناه، وحققنا أن الصلاة أصل متفق عليه في وجوب النية، والوضوء فرع مختلف فيه، فكيف يقاس المتفق عليه على المختلف فيه، ويحمل الأصل على الفرع؟
وإذا قلنا: إنه الذكر باللسان المخبر عن ذكر القلب المعبر عنه بأنه مشروع في الصلاة مفتتح به في أولها باتفاق من الأئمة، لكنهم اختلفوا في تعينه، فمنهم من قال: إنه كل ذكر، منهم أبو حنيفة، وقال أبو يوسف: يجزئه «الله الكبير» والله أكبر، والله الأكبر. وقال الشافعي: يجزئه الله أكبر والله أكبر. وقال مالك: لا يجزئه إلا قوله:
الله أكبر. ونعوّل الآن هنا على أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «صلّوا كما رأيتموني أصلي» وهو إنما كان يكبر ولا يتعرض لكل ذكر، فتعين التكبير بأمره باتباعه في صلاته، فهو المبين لذلك كله.
(2) النجم: 36.(4/433)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
سورة الغاشية
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ أي: قد أتاك، قال قطرب. وقال الزّجّاج: المعنى: هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك.
وفي «الغاشية» قولان: أحدهما: أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال، قاله ابن عباس، والضحاك، وابن قتيبة. والثاني: أنها النار تغشى وجوه الكفار، قاله سعيد بن جبير، والقرظي، ومقاتل.
قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ أي: ذليلة وفيها قولان: أحدهما: أنها وجوه اليهود والنصارى، قاله ابن عباس. والثاني: أنه جميع الكفار، قاله يحيى بن سلام.
قوله عزّ وجلّ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام، كعبدة الأوثان، وكفَّار أهل الكتاب، مثل الرهبان وغيرهم، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنهم الرهبان، وأصحاب الصوامع، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم. والثالث: عاملة ناصبة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال، لأنها لم تعمل لله في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار، وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن. وقال قتادة: تكبَّرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب. قال الضحاك: يُكلِّفون ارتقاء جبل من حديد في النار. وقال ابن السائب: يَخِرُّون على وجوههم. وقال مقاتل: عاملة في النار تأكل من النار، ناصبة للعذاب. والرابع: عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة، قاله عكرمة والسدي. والكلام هاهنا على الوجوه، والمراد أصحابها. وقد بينا معنى «النصب» في قوله عزّ وجلّ: لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ «1» .
قوله عزّ وجلّ: تَصْلى ناراً حامِيَةً قرأ أهل البصرة وعاصم إلّا حفصا «تصلى» بضمّ التاء. والباقون
__________
(1) الحجر: 48.(4/434)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
بفتحها. قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي: متناهية في الحرارة. قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا.
قوله عزّ وجلّ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ فيه ستة أقوال: أحدها: أنه نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، وتسميه قريش «الشِّبْرِق» فإذا هاج سموه: ضريعاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة. والثاني: أنه شجر من نار، رواه الوالبي عن ابن عباس. والثالث: أنها الحجارة، قاله ابن جبير. والرابع: أنه السَّلَم، قاله أبو الجوزاء. والخامس: أنه في الدنيا: الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار، قاله ابن زيد. والسادس: أنه طعام يضرعون إلى الله تعالى منه، قاله ابن كيسان.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله تعالى: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وكُذِّبوا، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً، وحينئذ يسمَّى شِبْرِقاً، لا ضريعاً، فإذا يبس وسمّي ضريعاً لم يأكله شيء.
فإن قيل: إنه قد أخبر في هذه الآية: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وفي مكان آخر وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ «1» فكيف الجمع بينهما؟
فالجواب: أن النار دركات، وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طَعامُهُ الزَّقُّوم، ومنهم مَنْ طعامه غِسْلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم مَنْ شَرَابُهُ الصَّديد. قاله ابن قتيبة.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 26]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12)
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي: في نعمة وكرامة لِسَعْيِها في الدنيا راضِيَةٌ والمعنى: رضيت بثواب عملها فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قد فسرناه في «الحاقّة» «2» لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورويس «لا يُسمع» بياء مضمومة. «لاغيةُ» بالرفع. وقرأ نافع كذلك إلا أنه بتاءٍ مضمومة، والباقون بتاءٍ مفتوحة، ونصب «لاغيةً» لا تسمع فيها كلمة لغو فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكلَّلة بالزبرجد، والدر، والياقوت، مرتفعة ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ عندهم. وقد ذكرنا «الأكواب» في الزخرف «3» وَنَمارِقُ وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون.
قال الفراء: وسمعت بعض كلب تقول: نِمرِقة، بكسر النون والراء مَصْفُوفَةٌ بعضها إلى جنب بعض، والزرابي: الطنافس التي لها خمل رقيق مَبْثُوثَةٌ كثيرة. وقال ابن قتيبة: مبثوثة كثيرة مفرّقة. قال
__________
(1) الحاقة: 36.
(2) الحاقة: 22.
(3) الزخرف: 71.(4/435)
المفسّرون: لمّا نعت الله سبحانه وتعالى ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الكفر، فذكّرهم صنعه، فقال عزّ وجلّ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ.
(1528) وقال قتادة: ذكر الله ارتفاع سُرُرِ الجنة، وفرشها، فقالوا: كيف نصعدها، فنزلت هذه الآية. قال العلماء: وإنما خص الإبل من غيرها لأن العرب لم يَرَوْا بهيمة قَطُّ أعظمَ منها، ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم، ولأنها كانت أَنْفَسَ أموالهم وأكثرها، لا تفارقهم ولا يفارقونها، فيلاحظون فيها العِبَر الدَّالةَ على قدرة الخالق، من إخراج لبنها من بين فرث ودم وعجيب خَلْقِها، وهي على عِظَمها مُذلَّلة للحمل الثقيل، وتنقاد للصبي الصغير، وليس في ذوات الأربع ما يحمل عليه وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها. وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، والأصمعي عن أبي عمرو «الإبْل» بإسكان الباء وتخفيف اللام. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو المتوكل، والجحدري، وابن السميفع، ويونس بن حبيب وهارون كلاهما عن أبي عمرو «الإبِلِّ» بكسر الباء، وتشديد اللام. قال هارون: قال أبو عمرو «الإبِلُّ» بتشديد اللام: السّحاب الذي يحمل الماء.
قوله عزّ وجلّ: كَيْفَ خُلِقَتْ وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو عمران، وابن أبي عبلة «خَلَقْتُ» بفتح الخاء، وضم التاء. وكذلك قرءوا: «رفعت» و «نصبت» و «سطحت» .
قوله عزّ وجلّ: وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ من الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عَمَدٍ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ على الأرض لا تزول ولا تتغير وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أي: بُسِطَتْ. والسطح: بسط الشيء، وكل ذلك يدل على خالقه فَذَكِّرْ أي: فعظ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي: واعظ، ولم يكن حينئذ أمر بغير التذكير، ويدل عليه قوله عزّ وجلّ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي: بمسلِّط، فتقتلهم وتكرههم على الإيمان. ثم نسختها آية السيف. وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة والحلواني عن ابن عامر «بمسيطر» بالسين. وقد سبق بيان «المسيطر» في قوله عزّ وجلّ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ «1» .
قوله عزّ وجلّ: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى هذا استثناء منقطع معناه: لكن من تولى وَكَفَرَ بعد التذكير.
وقرأ ابن عباس، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وأبو مجلز، وقتادة، وسعيد بن جبير «ألا من تولّى» بفتح الهمزة وتخفيف اللام فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو أن يدخله جهنم، وذلك أنهم قد عُذِّبوا في الدنيا بالجوع، والقتل، والأسر، فكان عذاب جهنم هو الأكبر إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعائشة، وعبد الرحمن، وأبو جعفر «إيَّابهم» بتشديد الياء، أي: رجوعهم ومصيرهم بعد الموت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ قال مقاتل: أي: جزاءهم.
__________
أخرجه الطبري 37043 عن قتادة قوله، فهو ضعيف.
__________
(1) الطور: 37.(4/436)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
سورة الفجر
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
قوله تعالى: وَالْفَجْرِ قال ابن عباس: الفجر: انفجار الظّلمة عن الصّبح، وانفجر الماء: انفتح.
قال شيخنا علي بن عبيد الله: الفجر: ضوء النهار إذا انشق عنه الليل، وهو مأخوذ من الانفجار، يقال:
انفجر النهر ينفجر انفجاراً: إذا انشق فيه موضع لخروج الماء: ومن هذا سمي الفاجر فاجراً، لأنه خرج عن طاعة الله.
وللمفسرين في المراد بهذا الفجر ستة أقوال: أحدها: أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار، قاله عليّ رضي الله عنه. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو انفجار الصبح كل يوم، وبهذا قال عكرمة، وزيد بن أسلم، والقرظي. والثاني: صلاة الفجر، رواه عطية عن ابن عباس. والثالث: النهار كلُّه، فعبَّر عنه بالفجر، لأنه أوله، وروى هذا المعنى أبو نصر عن ابن عباس. والرابع: أنه فجر يوم النحر خاصة قاله مجاهد. والخامس: أنه فجر أول يوم من ذي الحجة، قاله الضحاك. والسادس: أنه أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: وَلَيالٍ عَشْرٍ فيها أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه عشر ذي الحجة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي ومقاتل. والثاني: أنها العشر الأواخر من رمضان، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والثالث: العشر الأول من رمضان، قاله الضحاك. والرابع:
العشر الأول من المحرم، قاله يمان بن رئاب.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 561: والصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه. ووافقه ابن كثير رحمه الله.(4/437)
قوله عزّ وجلّ: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف «والوِتْر» بكسر الواو، وفتحها الباقون، هما لغتان، قال الفراء الكسر لقريش وتميم وأسد، والفتح لأهل الحجاز. وللمفسرين في «الشفع والوتر» عشرون قولا:
(1529) أحدها: أن الشفع: يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر: ليلة النحر، رواه أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(1530) والثاني: أنّ الشّفع يوم النحر، والوتر: يوم عرفة. رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبه قال ابن عباس، عكرمة والضحاك.
(1531) والثالث: أن الشفع والوتر: الصلاة، منها الشفع، ومنها الوتر، رواه عمران بن حصين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبه قال قتادة.
والرابع: أن الشفع: الخلق كله، والوتر: الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية مسروق، وأبو صالح. والخامس: أن الوتر: آدم شفع بزوجته، رواه مجاهد عن ابن عباس.
والسادس: أن الشفع يومان بعد يوم النحر، وهو النفر الأول، والوتر: اليوم الثالث، وهو النّفر الأخير، قاله عبد الله بن الزّبير، واستدلّ بقوله عزّ وجلّ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «1» . والسابع: أن الشفع: صلاة الغداة، والوتر: صلاة المغرب، حكاه عطية. والثامن: أن الشفع: الركعتان من صلاة المغرب، والوتر: الركعة الثالثة، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس. والتاسع: أن الشفع والوتر: الخلق كله، منه شفع، ومنه وتر، قاله ابن زيد ومجاهد في رواية. والعاشر: أنه العدد، منه شفع، ومنه وتر، وهذا والذي قبله مرويان عن الحسن. والحادي عشر: أن الشفع: عشر ذي الحجة، والوتر: أيام منى الثلاثة، قاله الضحاك. والثاني عشر: أنّ الشّفع: هو الله، لقوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ «2» والوتر: هو الله، لقوله عزّ وجلّ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قاله سفيان بن عيينة.
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبراني في «الكبير» 4073 من حديث أبي أيوب، وقال في «المجمع» 7/ 137 فيه واصل بن السائب وهو متروك. وانظر «تفسير القرطبي» 6322 بتخريجنا.
أخرجه النسائي في «التفسير» 691 و 692 وأحمد 3/ 327 والطبري 37073 والحاكم 4/ 220 والبزار 2286 «كشف» من حديث جابر، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 137: رجال أحمد والبزار رجال الصحيح غير عياش بن عقبة، وهو ثقة اهـ. قلت: ومداره على أبي الزبير، وهو مدلس، وقد عنعن، فالإسناد ضعيف. وقال الحافظ ابن كثير 4/ 600 رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة، والله أعلم اه. وهو كما قال: فإن هناك روايات أخرى مرفوعة وموقوفة على خلاف ذلك، فلو صح مرفوعا لما اختلف الصحابة والتابعون في تفسير هذه الآيات، والله أعلم.
ضعيف. أخرجه الترمذي 3342 وأحمد 4/ 437- 438 والطبري 37099 والحاكم 2/ 522 من حديث عمران بن حصين، وإسناده ضعيف فيه راو لم يسم، وضعفه الترمذي بقوله: غريب اه وقد سقط الراوي الذي لم يسم من إسناد الحاكم فجرى على ظاهره، وحكم بصحته! وسكت الذهبي! وهو من صنع أحد الرواة، ورجح ابن كثير رحمه الله 4/ 600 كونه مقوفا، وهو كما قال. والله أعلم.
__________
(1) البقرة: 203.
(2) المجادلة: 7.(4/438)
والثالث عشر: أن الشفع: هو آدم وحواء. والوتر: الله تعالى، قاله مقاتل بن سليمان. والرابع عشر: أن الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة، قاله مقاتل بن حيان.
والخامس عشر: الشفع: درجات الجنان، لأنها ثمان، والوتر: دَرَكات النار لأنها سبع، فكأنّ الله تعالى أقسم بالجنة والنار، قاله الحسين بن الفضل. والسادس عشر: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين بين عِزٍ وذُلٍّ، وقدرة وعجز، وقوة وضعف، وعلم وجهل، وموت وحياة. والوتر: انفراد صفات الله عزّ وجلّ، عِزٌّ بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بل جهل، وحياة بلا موت، قاله أبو بكر الورَّاق. والسابع عشر: أن الشفع: الصفا والمروة، والوتر: البيت. والثامن عشر: أن الشفع: مسجد مكة والمدينة، والوتر: بيت المقدس. والتاسع عشر: أنّ الشّفع: القران في الحج والتمتع، والوتر:
الإفراد. والعشرون: الشفع: العبادات المتكررة كالصلاة، والصوم، والزكاة، والوتر: العبادة التي لا تتكرر، كالحجّ، حكى هذه الأقوال الأربعة الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قرأ ابن كثير، ويعقوب «يسري» بياءٍ في الوصل والوقف، وافقهما في الوصل نافع وأبو عمرو. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «يسر» بغير ياءٍ في الوصل والوقف. قال الفراء، والزجاج: الاختيار حذفها لمشاكلتها لرؤوس الآيات، ولاتِّباع المصحف. وفي قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قولان: أحدهما: أن الفعل له، فيه قولان: أحدهما: إذا يسري ذاهباً، قاله الجمهور، وهو اختيار الزجاج. والثاني: إذا يسري مقبلا، قاله قتادة.
والقول الثاني: أن الفعل لغيره، والمعنى: إذا يسري فيه، كما يقال: ليل نائم، أي: ينام فيه، قاله الأخفش، وابن قتيبة. وفي المراد بهذا الليل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عام في كل ليلة، وهذا الظاهر.
والثاني: أنه ليلة المزدلفة، وهي ليلة جَمْعٍ: قاله مجاهد وعكرمة. والثالث: ليلة القدر، حكاه الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: هَلْ فِي ذلِكَ أي هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي: لذي عقل، وسمي العقل حجْراً، لأنه يحجر صاحبه عن القبيح، وسمي عقلا، لأنه يعقل عمّا لا يحسن، وسمي العقل النُّهى، لأنه ينهى عما لا يحل. ومعنى الكلام: أن من كان ذا لبٍّ عَلِم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء، فيه دلائل على توحيد الله وقدرته، فهو حقيق أن يقسم به لدلالته.
وجواب القسم قوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فاعترض بين القسم، وجوابه قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ فخوَّف أهل مكة بإهلاك من كان أشدَّ منهم. وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر «بعادِ إِرمَ» بكسر الدال من غير تنوين على الإضافة. وفي إِرَمَ أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه اسم بلدة، قال الفرّاء. ولم
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 567: وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي: أنها اسم قبيلة من عاد، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها، وترك إجرائها. ولو كانت إرم اسم بلدة أو اسم جد لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها، كما يقال: هذا عمرو وزبيد وحاتم طيء، وأعشى همدان، ولكنها اسم قبيلة منها، فيما أرى.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602: ومن زعم أن المراد بقوله إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مدينة إما دمشق، أو الاسكندرية، أو غيرهما، ففيه نظر، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم، قال:
وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عن هذه الآية من ذكر مدينة يقال لها: إرم ذات العماد، مبنية بلبن الذهب والفضة وقصورها ودورها وبساتينها، وأن حصباءها لآلئ وجواهر، وترابها بنادق المسك، وأنهارها سارحة، وثمارها ساقطة، ودورها لا أنين بها، وأنها تنقل، فتارة تكون في أرض الشام، وتارة باليمن، وتارة بغير ذلك من البلاد، فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم، ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك.(4/439)
يُجْرَ «إرم» لأنها اسم بلدة ثم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها دمشق، قاله سعيد بن المسيب، وعكرمة، وخالد الرَّبَعِي. والثاني: الإسكندرية، قاله محمد بن كعب. والثالث: أنها مدينة صنعها شداد بن عاد، وهذا قول كعب. وسيأتي ذكره إن شاء الله.
والقول الثاني: أنه اسم أمة من الأمم، ومعناه: القديمة، قاله مجاهد. والثالث: أنه قبيلة من قوم عاد، قاله قتادة ومقاتل. قال الزجاج: وإنما لم تنصرف «إرم» لأنها جعلت اسماً للقبيلة ففتحت، وهي في موضع خفض. والرابع: أنه اسم لجَدِّ عادٍ، لأنه عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح، قاله ابن اسحاق. قال الفراء: فإن كان اسماً لرجل على هذا القول، فإنما ترك إجراؤه، لأنه كالعجميّ، وقال أبو عبيدة: هما عادان، فالأولى: وهي إرم، وهي التي قال الله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى «1» وهل قوم هود عاد الأولى، أم لا؟ فيه قولان قد ذكرناهما في النجم «2» .
وفي قوله عزّ وجلّ: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ أربعة أقوال «3» : أحدها: لأنهم كانوا أهل عمد وخيام يطلبون الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم، فلا يقيمون في موضع، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والفراء. والثاني: أن معنى ذات العماد: ذات الطول، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل، وأبو عبيدة. قال الزجاج: يقال: رجل مُعْمَدٌ: إذا كان طويلاً.
والثالث: ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة، قاله الضحاك. والرابع: ذات البناء المحكم بالعماد، قاله ابن زيد. وقيل: إنما سميت ذات العماد لبناءٍ بناه بعضهم.
قوله عزّ وجلّ: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران: «لم تَخْلُق» بتاءٍ مفتوحة ورفع اللام «مثلَها» بنصب اللام. وقرأ معاذ القارئ، وعمرو بن دينار: «لم نَخْلُق» بنون مفتوحة ورفع اللام «مثلَها» بنصب اللام. وفي المشار إليها قولان: أحدهما: لم يَخْلُق مثل تلك القبيلة في الطول والقوّة، وهذا معنى قول الحسن. والثاني: المدينة لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد، قاله عكرمة.
__________
(1) النجم: 50.
(2) النجم: 50.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 568: وأشبه الأقوال في ذلك بما دل عليه ظاهر التنزيل، قول من قال: عني بذلك أنهم كانوا أهل عمود سيارة، لأن المعروف من كلام العرب من العماد، ما عمد به الخيام من الخشب، والسواري التي يحمل عليها البناء ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح. وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه، وما وجد إلى ذلك سبيل، دون الأنكر، فقد وجه أهل التأويل قوله ذاتِ الْعِمادِ إلى أنه عني به طول أجسامهم. ولا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهه إليه.
قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 601- 602: وقوله: ذاتِ الْعِمادِ لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد وقال مجاهد: كانوا أهل عمود لا يقيمون، وقال العوفي، عن ابن عباس: إنما قيل لهم ذاتِ الْعِمادِ لطولهم، واختار الأول ابن جرير رحمه الله، ورد الثاني فأصاب. [.....](4/440)
وقد جاء في التفسير صفات تلك المدينة. وهذه الإشارة إلى ذلك.
(1532) روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قِلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو في صحارى عدن وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة. فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله، فلم ير خارجاً ولا داخلاً، فنزل عن دابته، وعقلها، وسلَّ سيفه، ودخل من باب الحصن، فلما دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما والبابان مُرصَّعان بالياقوت الأبيض والأحمر، فلما رأى ذلك دهش ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا قصور، كلّ قصر منها فيه غرف وفوق الغرف غرف مبنيَّة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت.
ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع المدينة، يقابل بعضها بعضاً، مفروشة كلها باللؤلؤ، وبنادق من مسك وزعفران. فلما عاين ذلك، ولم ير أحداً، هَالَه ذلك، ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو في كل زقاق منها شجر قد أثمر، وتحت الشجر أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة. فقال الرجل: إن هذه هي الجنة، فحمل معه من لؤلؤها، ومن بنادق المسك والزعفران ورجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه.
وبلغ الأمر إلى معاوية، فأرسل إليه. فقص عليه ما رأى، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال له: يا أبا إسحاق: هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال: نعم أخبرك بها وبمن بناها؟ إنما بناها شداد بن عاد، والمدينة: «إرم ذات العماد» ، قال: فحدثني حديثها، فقال: إن عادا المنسوب إليه عاد الأولى، كان له ولدان: شديد، وشداد. فلما مات ملكا بعده، ثم مات شديد وبقي شدّاد، فملك الأرض، ودانت له الملوك، وكان مولعاً بقراءة الكتب، فكان إذا مر بذكر الجنة دعته نفسه إلى بناء مثلها
__________
قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 748: أخرجه الثعلبي من طريق عثمان الدارمي عن عبد الله بن أبي صالح عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قِلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فذكره مطوّلا. قال الحافظ: آثار الوضع لائحة عليه! وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602: وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة (إرم ذات العماد) هاهنا مطوّلة جدا، فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها، ولو صح إلى ذلك الإعرابي فقد يكون قد اختلق ذلك، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وليس كذلك، وهذا مما يقطع بعدم صحته، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطر الذهب والفضة، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ونحو ذلك من الهذيانات، ويطنزون بهم، والذي نجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية، وكنوزا كثيرة، من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله، فأما على الصفة التي زعموها، فكذب وافتراء وبهت، ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم، والله سبحانه الهادي للصواب.
وقال الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» 4/ 530: وهذا كذب على كذب وافتراء، وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء، وفاقرة عظمى، ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترءون على الكذب، تارة على بني إسرائيل، وتارة على الأنبياء وتارة على الصالحين، وتارة على رب العالمين، وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها من موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة والأقاصيص المخولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه، فحرفوا وبدلوا وغيروا، وقال: ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتاب الذي سميته «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» . اه. قلت: هو كتاب مطبوع متداول، وعمدة هذا الكتاب «موضوعات ابن الجوزي» و «اللآلئ المصنوعة» للسيوطي.(4/441)
عُتُوَّاً على الله تعالى فأمر بصنع «إرم ذات العماد» فأمَّر على عملها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدُّوه بما في بلادهم من الجواهر، فخرج القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا ما يوافقه حتى وقعوا على صحراء عظيمة نقية من التلال، وإذا هم بعيون مطّردة فقالوا:
هذه صفة الأرض التي أمر الملك أن يبنى بها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا، واجعلوا عليها حصناً، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند كل قصر ألف علم يكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي، ففعلوا، فأمر الوزراء- وهم ألف وزير- أن يتهيؤوا للنقلة إلى «إرم ذات العماد» ، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها، فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه، وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً، ولم يَبْقَ منهم أحد.
وروى الشعبي عن دَغْفَل الشيباني عن علماء حِمْيَر قالوا: لما هلك شدّاد بن عاد ومن معه من الصيحة، ملَكَ بعده ابنه مَرْثَد بن شَدَّاد، وقد كان أبوه خلَّفه بحضرموت على ملكه وسلطانه، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت، وأمر بدفنه فحفرت له حفيرة في مغارة، فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى عليه سبعين حُلَّةً منسوجة بقضبان الذهب، ووضع عند رأسه لوحاً عظيماً من ذهب وكتب عليه:
اعتبر يا أيّها المغرور ... بالعمرِ المديدِ
أنا شَدَّادُ بنُ عادٍ ... صاحبُ الحصن المشيد
وأخو القوّة والبأساء ... والملك الحشيد
دان أهل الأرض لي ... من خوف وعدي ووعيدي
وملكت الشرق والغرب ... بسلطان شديد
وبفضل الملك والعدّة ... فيه والعديدِ
فأتى هود وكنَّا ... في ضلال قبل هود
فدعانا لو قبلناه ... إلى الأمر الرشيدِ
فعصيناه ونادى ... ما لكم هل من محيد
فأتتنا صيحة تهوي ... من الأفق البعيدِ
فتوافينا كزرعٍ ... وسط بيداء حصيد
قوله عزّ وجلّ: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ أي قطعوه ونقبوه. قال ابن إسحاق: والوادي: وادي القرى. وقرأ الحسن: «بالوادي» بإثبات الياء في الحالين وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ مفسر في سورة ص «1» الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ يعني: عاداً، وثمود، وفرعون، عملوا بالمعاصي، وتجبَّروا على أنبياء الله فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ القتل والمعاصي فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ قال ابن قتيبة: وإنما قال: سوط عذاب، لأن التعذيب قد يكون بالسوط، وقال الزجاج: أي جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب.
__________
(1) ص: 12.(4/442)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي: يرصد مَنْ كفر به بالعذاب، والمرصد: الطريق، وقد شرحناه في قوله عزّ وجلّ:
كانَتْ مِرْصاداً «1» .
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ فيمن عنى به أربعة أقوال: أحدها: عتبة بن ربيعة، وأبو حذيفة بن المغيرة، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أُبَيّ بن خلف، قاله ابن السائب. والثالث: أُمية بن خلف، قاله مقاتل. والرابع: أنه الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، قال الزجاج: وابتلاه بمعنى اختبره بالغنى واليسر فَأَكْرَمَهُ بالمال وَنَعَّمَهُ بما وسَّع عليه من الإفضال فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ فتح ياء «ربيَ» «أكرمنيَ» «ربيَ» أهاننيَ» أهل الحجاز، وأبو عمرو، أي: فضلني بما أعطاني، ويظنّ إنما، أعطاه من الدنيا لكرامته عليه وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ بالفقر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر «فقدَّر» بتشديد الدال، والمعنى: ضيَّق عليه بأن جعله على مقدار البلغة فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أي هذا الهوان منه لي حين أذلَّني بالفقر.
واعلم أن من لا يؤمن بالبعث، فالكرامة عنده زيادة الدنيا، والهوان قِلَّتُها.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: ليس الأمر كما ظنّ. قال مقاتل: ما أعطيت من أغنيت هذا الغنى لكرامته عليَّ، ولا أفقرت مَنْ أفقرت لهوانه عليَّ. وقال الفراء: المعنى: لم يكن ينبغي له أن يكون هكذا، إنما ينبغي أن يحمد الله على الأمرين: الفقر، والغنى. ثم أخبر عن الكفّار فقال عزّ وجلّ: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ قرأ أهل البصرة «يُكرِمون» و «يَحُضُّون» و «يَأْكُلون» و «يُحِبُّون» بالياء فيهن، والباقون بالتاء. ومعنى الآية: إني أهنت من أهنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم. والآية تحتمل معنيين: أحدهما:
أنهم كانوا لا يَبَرُّونه. والثاني: لا يعطونه حَقَّه من الميراثِ، وكذلك كانت عادة الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبيان. ويدل على المعنى الأول قوله عزّ وجلّ: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وقرأ أبو جعفر، وأهل الكوفة «تحاضون» بألف مع فتح التاء. وروى الشّيزري عن الكسائي كذلك إلا أنه ضم التاء. والمعنى: لا يأمروه بإطعامه لأنهم لا يرجون ثواب الآخرة. ويدل على المعنى قوله عزّ وجلّ:
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا قال ابن قتيبة: التراث: الميراث، والتاء فيه منقلبة عن واوٍ، كما قالوا:
تُجاه، والأصل: وُجاه، وقالوا: تُخمَة، والأصل: وخمة. ولَمًّا أي: شديداً، وهو من قولك:
لممْتُ بالشيء: إذا جمعتَه، وقال الزجاج: هو ميراث اليتامى.
__________
(1) النبأ: 21.(4/443)
قوله عزّ وجلّ: وَتُحِبُّونَ الْمالَ أي: تحبون جمعه حُبًّا جَمًّا أي: كثيراً فلا تنفقونه في خير كَلَّا أي: ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم، فقال عزّ من قائل: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي: مرَّة بعد مرّة، فتكسّر كلّ شيء عليها. قوله: وَجاءَ رَبُّكَ قد ذكرنا هذا المعنى في قوله عزّ وجلّ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ «1» .
قوله عزّ وجلّ: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا أي: تأتي ملائكة كل سماء صفا على حدة، قال الضحاك:
يكونون سبعة صفوف، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ.
(1533) روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرَّونها» . قال مقاتل: يجاء بها فتقام عن يسار العرش.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ أي: يوم يجاء بجهنم يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي: يتّعظ الكافر ويتوب. وقال مقاتل: هو أمية بن خلف وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي: كيف له بالتوبة وهي في القيامة لا تنفع يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ العمل الصالح في الدنيا لِحَياتِي في الآخرة التي لا موت فيها فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ قرأ الكسائي، ويعقوب، والمفضل «لا يعذّب» و «لا يوثق» بفتح الذال والثاء، والباقون بكسرها، فمن فتح، أراد: لا يعذب عذاب الكافر أحد، ومن كسر أراد: لا يعذَّب عذاب الله أحد، أي كعذابه، وهذه القراءة تختص بالدنيا، والأولى تختص بالآخرة.
قوله عزّ وجلّ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «2» :
أحدها: في حمزة بن عبد المطلب لما استشهد يوم أُحد، قاله أبو هريرة، وبريدة الأسلمي.
والثاني: في عثمان بن عفان حين أوقف بئر رومة، قاله الضحاك. والثالث: في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة، قاله مقاتل. والرابع: في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، حكاه الماوردي. والخامس:
في جميع المؤمنين، قاله عكرمة. وفي معنى الْمُطْمَئِنَّةُ ثلاثة أقوال: أحدها: المؤمنة، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: المطمئنة بالإيمان. والثاني: الراضية بقضاء الله، قاله مجاهد. والثالث: الموقنة بما وعد الله، قاله قتادة.
واختلفوا في أي حين يقال لها ذلك على قولين: أحدهما: عند خروجها من الدنيا، قاله الأكثرون. والثاني: عند البعث يقال لها: ارجعي إلى صاحبك، وإلى جسدك، فيأمر الله الأرواح أن تعود إلى الأجساد، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة والضّحّاك.
وفي قوله عزّ وجلّ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً أربعة أقوال: أحدها: ارجعي إلى صاحبك الذي كنتِ في جسده، وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال عكرمة والضّحّاك. والثاني:
__________
صحيح. أخرجه مسلم 4/ 2184، والترمذي 2573 من حديث ابن مسعود. وانظر «فتح القدير» 2713.
__________
(1) البقرة: 210.
(2) قلت: الصواب أنها عامة كما قال القرطبي وحمزة رضي الله عنه منهم، ثم إن السورة مكية.(4/444)
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ بعد الموت في الدنيا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: ارجعي إلى ثواب ربك، قاله الحسن. والرابع: يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا ارجعي إلى الله تعالى بتركها، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي: في جملة عبادي المصطَفَيْن. قال أبو صالح: يقال لها عند الموت: ارجعي إلى ربك، فإذا كان يوم القيامة قيل لها: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وقال الفراء: ادخلي مع عبادي. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأُبيّ بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران «في عبدي» على التوحيد. قال الزجاج: فعلى هذه القراءة- والله أعلم- يكون المعنى:
ارجعي إلي ربك، أي: إلى صاحبك الذي خرجتِ منه، فادخلي فيه.(4/445)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
سورة البلد
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
قوله عزّ وجلّ: لا أُقْسِمُ قال الزجاج: المعنى: أقسم. و «لا» دخلت توكيدا، كقوله عزّ وجلّ:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» وقرأ عكرمة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو العالية: «لأُقْسِمُ» قال الزجاج:
وهذه القراءة بعيدة في العربية، وقد شرحنا هذا في أول القيامة «2» .
قوله عزّ وجلّ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ فيه ثلاثة أقوال: و (البلد) هاهنا: مكة «3» .
أحدها: حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتل وغيره، قاله ابن عباس، ومجاهد. قال الزجاج:
يقال: رجل حِلٌّ، وحَلاَل، ومُحِلٌّ، قال المفسرون: والمعنى: إن الله تعالى وعد نبيَّه أن يفتح مكة على يديه بأن يُحلَّها له، فيكون فيها حلّا. والثاني: وأنت مُحِلٌّ بهذا البلد غير مُحْرم في دخوله، يعني: عام الفتح، حلالا، قاله الحسن، وعطاء. والثالث: وأنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلون إخراجك وقتلك، ويحرِّمون قتل الصيد، حكاه الثّعلبي.
قوله عزّ وجلّ: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه آدم. وما ولد، قاله الحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة والثاني: إنّ الوالد إبراهيم، وما ولد: ذريته «4» ، قاله أبو عمران الجونيّ.
__________
(1) الحديد: 29.
(2) القيامة: 1.
(3) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 20/ 54: والْبَلَدِ هي مكة، أجمعوا عليه، أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه لكرامتك عليّ وحبي لك.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 587: والصواب من القول في ذلك، ما قاله الذين قالوا: إن الله أقسم بكل والد وولده. لأنّ الله عمّ كل والد وما ولد. وغير جائز أن يخصّ ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر، أو عقل. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 607: وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة والضحاك وسفيان الثوري، وسعيد بن جبير، والسدي، والحسن البصري، وخصيف، وشرحبيل بن سعيد وغيرهم:
يعني بالوالد: آدم، وما ولد: ولده، قال: وهذا الذي ذهب إليه مجاهد حسن قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن وهو آدم أبو البشر وولده.(4/446)
والثالث: أنه عامٌّ في كل والدٍ وما ولد، حكاه الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ هذا جواب القسم. وفيمن عنى بالإنسان خمسة أقوال:
أحدها: أنه اسم جنس، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني: أنه أبو الأشد الجمحي، وقد سبق ذكره، قاله الحسن.
(1534) والثالث: أنه الحارث بن عامر بن نوفل، وذلك أنه أذنب ذنباً، فأمره النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالكفارة، فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات، والنفقات منذ دخلت في دين محمد، قاله مقاتل.
والرابع: آدم عليه السلام، قاله ابن زيد. والخامس: الوليد بن المغيرة، حكاه الثعلبي.
قوله عزّ وجلّ: فِي كَبَدٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: في نَصَبٍ، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو عبيدة، وأنهم قالوا: في شدة. قال الحسن: يكابد الشكر على السّرّاء والصبر على الضّرّاء، ولا يخلو من أحدهما، ويكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة. وقال ابن قتيبة: في شدة غلبةٍ ومكابدةٍ لأمور الدنيا والآخرة، فعلى هذا يكون من مكابدة الأمر، وهي معاناته. والثاني: أن المعنى: خلق منتصباً يمشي على رجلين، وسائر الحيوان غير منتصب، رواه مقسم عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والضحاك، وعطية، والفراء، فعلى هذا يكون معنى الكبد: الاستواء والاستقامة. والثالث: في وسط السماء، قال ابن زيد «1» : (لقد خلقنا الإنسان) يعني: آدم (في كبد) أي: في وسط السماء.
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يعني الله عزّ وجلّ أي: أيحسب أن لن نقدر على بعثه، ومعاقبته؟! يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالا لُبَداً أي: كثيراً، قال أبو عبيدة: هو فعل من التلبُّد، وهو المال الكثير بعضه على بعض، قال ابن قتيبة: وهو المال كأنَّ بعضَه على بعض. قال الزجاج: وهو فعل للكثرة، كما يقال: رجل حُطَم: إذا كان كثير الحطم. وقرأ أبو بكر الصديق، وعائشة، وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وأبو العالية، وأبو جعفر «لُبَّدا» بضم اللام، وتشديد الباء مفتوحة. وقرأ عمر بن الخطّاب، وأبو المتوكّل، وأبو عمران «لبدا» برفع اللام وتسكين الباء خفيفة. وقرأ عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد «لُبُداً» برفع اللام والباء وتخفيفهما. وقرأ عليّ بن أبي طالب وأبو الجوزاء «لِبَدَاً» بكسر اللام، وفتح الباء مخففة. وفيما قال لأجل ذلك قولان: أحدهما: أنه أراد: أهلكت مالاً كثيرا في عداوة محمّد صلّى الله عليه وسلم قاله ابن السائب، فكأنه استطال بما أنفق. والثاني: أنفقت في سبيل الله وفي الكفارات مالاً كثيراً، قاله مقاتل. فكأنه ندم على ما أنفق.
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني اللهَ عزّ وجلّ. والمعنى: أيظن أن الله لم ير نفقته، ولم يحصها؟! وكان قد ادّعى إنفاق ما لم ينفق.
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط، كذبه غير واحد، فهذا خبر لا شيء.
__________
(1) اسمه عبد الرحمن.(4/447)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ المعنى: ألم نجعل به ما يدل على أن الله قادر على بعثه؟! قوله عزّ وجلّ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: سبيل الخير والشر، قاله علي، والحسن، والفراء. وقال ابن قتيبة: يريد طريق الخير والشر. وقال الزّجّاج: النّجدين: الطريقين الواضحين والنجد: المرتفع من الأرض، فالمعنى: ألم نُعرِّفه طريق الخير والشر كَتَبَيُّن الطريقين العاليين. والثاني: سبيل الهدى والضلال، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: هو سبيل الشّقاوة والسّعادة.
والثالث: الثّديين ليتغذى بلبنهما، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال ابن المسيّب، والضّحّاك، وقتادة.
[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
قوله عزّ وجلّ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قال أبو عبيدة: فلم يقتحم العقبة في الدنيا. وقال ابن قتيبة:
فلا هو اقتحم العقبة. قال الفراء: لم يضم إلى قوله عزّ وجلّ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ كلاماً آخر فيه «لا» ، والعرب لا تكاد تفرد «لا» في كلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر، كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. ومعنى: «لا» موجود في آخر هذا الكلام، فاكتفى بواحدة من الأخرى، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة، فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فسّرها بثلاثة أشياء. فكأنّه قال في أول الكلام: فلا فعل ذا، ولا ذا ولا ذا. وذهب ابن زيد في آخرين إلى أن المعنى: أفلا اقتحم العقبة؟ على وجه الاستفهام، والمعنى: فهلاَّ أنفق ماله في فَكِّ الرِّقاب والإطعام ليجاوز بذلك العقبة؟! فأما: الاقتحام فقد بَيَّناه في (ص) «1» . وفي العقبة سبعة أقوال: أحدها: أنه جبل في جهنم، قاله ابن عمر. والثاني: عقبة دون الجسر، قاله الحسن. والثالث: سبعون دركة في جهنم، قاله كعب.
والرابع: الصراط، قاله مجاهد، والضّحّاك والكلبي. والخامس: نار دون الجسر، قاله قتادة.
والسادس: طريق النجاة، قاله ابن زيد. والسابع: أن ذكر العقبة هاهنا مَثَلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البِرِّ، فجعله كالذي يتكلَّف صعود العقبة. يقول: لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة، والإطعام، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في آخرين.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ قال سفيان بن عيينة: كلُّ ما فيه «وما أدراك» ، فقد أخبره به، وكلُّ ما فيه «وما يدريك» فإنه لم يخبره به. قال المفسرون: المعنى: وما أدراك ما اقتحام العقبة؟.
ثم بيَّنه فقال عزّ وجلّ: فَكُّ رَقَبَةٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، إلا عبد الوارث، والكسائي، والداجوني عن ابن ذكوان «فَكَّ» بفتح الكاف «رَقَبَةَ» بالنصب «أو أطعم» بفتح الهمزة والميم وسكون الطاء من غير ألف، فعل ماض. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة «فكّ» برفع الكاف «رقبة» بالخفض «أو إطعام» بألف، ومعنى فك الرقبة: تخليصها من أسر الرق، وكل شيء أطلقته فقد فكَكْتَه ومن قرأ «فكّ رقبة»
__________
(1) ص: 59.(4/448)
على الفعل، فهو تفسير اقتحام العقبة بالفعل، واختاره الفرّاء، لقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا قال ابن قتيبة: والمسغبة: المجاعة. يقال: سَغِبَ يَسْغَبُ سُغُوباً: إذا جاع يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي ذا قرابة «1» أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي: ذا فقر كأنه لَصِق بالتراب. وقال ابن عباس: هو المطروح في التراب لا يقيه شيء. ثم بين أن هذه القُرَبَ إنما تنفع مع الإيمان بقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا و «ثم» هاهنا بمعنى الواو، كقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ «2» .
قوله عزّ وجلّ: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ على فرائض الله وأمره وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي بالتّراحم بينهما.
وقد ذكرنا أصحاب الميمنة والمشأمة في الواقعة «3» قال الفراء: و «المؤصدة» : المطبقة. قال مقاتل:
يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد. وقال ابن قتيبة: يقال: أَوْصَدْتُ الباب وآصدته: إذا أطبقته. وقال الزّجّاج: المعنى: أنّ العذاب مطبق عليهم.
قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي وأبو بكر عن عاصم «موصدة» بغير همزة هاهنا وفي «الهمزة» «4» . وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وحفص عن عاصم بالهمز في الموضعين.
__________
(1) قال ابن العربي في «الأحكام» 4/ 402: قوله تعالى: ذا مَقْرَبَةٍ يفيد أن الصدقة على القريب أفضل منها على البعيد، ولذلك بدأ به قبل المسكين، وذلك عند مالك بالنفل. والمتربة: الفقر البالغ الذي لا يجد صاحبه طعاما إلا التراب، ولا فراشا سواه. والله أعلم.
(2) يونس: 46.
(3) الواقعة: 7، 8.
(4) الهمزة: 8. [.....](4/449)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
سورة الشمس
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
قوله عزّ وجلّ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) في المراد «بضحاها» ثلاثة أقوال:
أحدها: ضوؤها، قاله مجاهد، والزجاج. والضحى: حين يصفو ضَوْءُ الشمس بعد طلوعها.
والثاني: النهار كلُّه، قاله قتادة، وابن قتيبة. والثالث: حَرُّها، قاله السّدّيّ، ومقاتل قوله: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها فيه قولان:
أحدهما: إذا تَبِعهَا، قاله ابن عباس في آخرين. ثم في وقت اتّباعه لها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه في أول ليلة من الشهر يرى القمر إذا سقطت الشمس، قاله قتادة. والثاني: أنه في الخامس عشر يطلع القمر مع غروب الشمس، حكاه الماوردي. والثالث: أنه في النّصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخَلَفها في النور، حكاه علي بن أحمد النيسابوري.
والقول الثاني: إذا ساواها، قاله مجاهد. وقال غيره: إذا استدار، فتلا الشمس في الضياء والنور، وذلك في الليالي البيض.
قوله عزّ وجلّ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها في المكنى عنها قولان: أحدهما: أنها الشمس، قاله مجاهد، فيكون المعنى: والنهار، إذا بَيَّن الشمس، لأنها تتبيَّن إذا انبسط النهار. والثاني: أنها الظّلمة فتكون كناية عن غير مذكور، لأن المعنى معروف، كما تقول: أصبحت باردة، وهبت شمالاً، وهذا قول الفرّاء، واللغويين قوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي: يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق. وَالسَّماءِ وَما بَناها في «ما» قولان: أحدهما: بمعنى «مَن» تقديره «ومن بناها» ، قاله الحسن، ومجاهد، وأبو عبيدة. وبعضهم يجعلها بمعنى الذي. والثاني: أنها بمعنى المصدر، تقديره: وبناها، وهذا مذهب قتادة، والزجاج.
وكذلك القول في «وما طحاها» «وما سَّواها» وقد قرأ أبو عمران الجوني في آخرين «ومن بناها» ومن طحاها» «ومن سوَّاها» كله بالنون. قال أبو عبيدة: ومعنى «طحاها» بسطها يميناً وشمالاً، ومن كلّ(4/450)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
جانب، قال ابن قتيبة: يقال: خَيْرٌ طَاحٍ، أي: كثير متّسع.
وفي المراد «بالنّفس» هاهنا قولان: أحدهما: آدم، قاله الحسن. والثاني: جميع النفوس، قاله عطاء. وقد ذكرنا معنى «سوَّاها» في قوله عزّ وجلّ: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. قوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها الإلهام: إيقاع الشيء في النفس. قال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها، وقال ابن زيد: جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور.
قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها قال الزجاج: هذا جواب القسم. والمعنى: لقد أفلح، ولكن اللام حذفت لأن الكلام طال، فصار طوله عوضاً منها. وقال ابن الأنباري: جوابه محذوف. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: قد أفلحت نفس زكاها الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، ومقاتل والفراء، والزجاج. والثاني: قد أفلح من زكّى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال، قاله قتادة، وابن قتيبة. ومعنى زَكَّاها: أصلحها وطهّرها من الذنوب. قوله: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها فيه قولان: كالذي قبله.
فإن قلنا: إن الفعل لله، فمعنى «دساها» : خذلها، وأخملها، وأخفى محلها بالكفر والمعصية، ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح.
وإن قلنا: الفعل للإنسان، فمعنى «دساها» : أخفاها بالفجور. قال الفراء: ويروى أن «دَسَّاها» دَسَّسَهَا لأن البخيل يخفي منزله وماله. وقال ابن قتيبة: والمعنى: دسى نفسه، أي: أخفاها بالفجور والمعصية. والأصل من دَسَّسَتُ، فقلبت السين ياءً، كما قالوا: قصَّيت أظفاري، أي: قصصتها. فكأن النَّطِفَ بارتكاب الفواحش دس نفسه، وقمعها، ومُصْطَنِعُ المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الرُّبا للشهرة. واللئام تنزل الأطراف لتخفي أماكنها. وقال الزّجّاج: معنى «دسّاها» جعلها قليلة خسيسة.
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
قوله عزّ وجلّ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها أي: كذبت رسولها بطغيانها. والمعنى: أن الطغيان حملهم على التكذيب. قال الفراء: أراد بطغواها: طغيانها، وهما مصدران، إلا أنّ الطّغوى أشكل برءوس الآيات، فاختير لذلك. وقيل: كذبوا العذاب إِذِ انْبَعَثَ أي: انْتَدَبَ أَشْقاها وهو: عاقر الناقة يعقرها فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ وهو صالح ناقَةَ اللَّهِ قال الفراء: نصب الناقة على التحذير، وكلّ تحذير فهو نصب. وقال ابن قتيبة: احذروا ناقة الله وشربها. وقال الزجاج: المعنى: ذروا «ناقة الله» وذروا «سقياها» قال المفسرون: سقياها: شربها من الماء. والمعنى: لا تتعرَّضوا ليوم شربها فَكَذَّبُوهُ في تحذيره إياهم العذاب بعقرها فَعَقَرُوها وقد بيَّنا معنى «العقر» في الأعراف «1» فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ قال الزجاج: أي: أطبق عليهم العذاب. يقال: دمدمت على الشيء: إذا أطبقت فكرَّرت الإطباق. وقال المؤرّج: الدّمدمة: إهلاك باستئصال.
__________
(1) الأعراف: 77.(4/451)
وفي قوله عزّ وجلّ: فَسَوَّاها قولان: أحدهما: سوَّى بينهم في الإهلاك، قاله السدي، ويحيى بن سلام. وقيل: سوَّى الدمدمة عليهم. والمعنى: أنه أهلك صغيرهم، وكبيرهم. والثاني:
سوَّى الأرض عليهم. قال مقاتل: سوَّى بيوتهم على قبورهم. وكانوا قد حفروا قبوراً فاضطجعوا فيها، فلما صِيْحَ بهم فهلكوا زُلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَخافُ عُقْباها قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر «فلا» بالفاء، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام. وقرأ الباقون بالواو، وكذلك هي في مصاحف مكة، والكوفة، والبصرة.
وفي المشار إِليه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه الله عزّ وجلّ، فالمعنى: لا يخاف الله من أحد تَبِعَةً في إهلاكهم، ولا يخشى عقبى ما صنع، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنه الذي عقرها، فالمعنى: أنه لم يخف عقبَى ما صنع، وهذا مذهب الضحاك والسدي، وابن السائب. فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: إذ انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها. والثالث: أنه نبي الله صالح لم يخف عقباها، حكاه الزّجّاج.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 615: قال ابن عباس: لا يخاف الله من أحد تبعة، وهذا القول أولى لدلالة السياق عليه، والله أعلم.(4/452)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
سورة الليل
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قال ابن عباس: يغشى بظلمته النهار. وقال الزجاج: يغشى الأفق، ويغشى جميع ما بين السماء والأرض قوله: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي: بان وظهر من بين الظلمة، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) في «ما» قولان. وقد ذكرناهما عند قوله عزّ وجلّ: وَما بَناها «1» . وفي «الذكر والأنثى» قولان: أحدهما: آدم وحواء، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: أنه عام، ذكره الماوردي. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا جواب القسم. قال ابن عباس: إن أعمالكم لمختلفة، عمل للجنة، وعمل للنار. وقال الزجاج: سعي المؤمن والكافر مختلف، بينهما بُعْدٌ. وفي سبب نزول هذه السورة قولان:
(1535) أحدهما: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالا من أميّة بن خلف وأبيّ بن خلف بِبُرْدةٍ وعشرة أواق، فأعتقه، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى يعني: سعي أبي بكر، وأُميَّة وأُبَيٍّ، قاله عبد الله بن مسعود.
(1536) والثاني: أن رجلاً كانت له نخلةٌ فرعُها في دار رجلٍ فقيرٍ ذي عيال، وكان الرجل إذا
__________
أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 853 عن عبد الله بن مسعود به، وإسناده ضعيف، فيه انقطاع بين أبي إسحاق السبيعي وابن مسعود.
واه. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية والواحدي في «أسباب النزول» 852 وفي «الوسيط» 4/ 502 من طريق حفص عن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس مطوّلا. ولم يذكر اسم «أبو الدحداح» . وإسناده واه لأجل حفص بن عمر بن ميمون، ضعفه الحافظ في «التقريب» وأخرجه ابن-
__________
(1) الشمس: 5.(4/453)
صَعِدَ النخلة ليأخذ منها الثمر، فربما سقطت الثمرة، فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ الثمرة من أيديهم، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل أصبعه حتى يخرجها، فشكا ذلك الرجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فلقي النبيّ صلّى الله عليه وسلم صاحب النّخلة، فقال: «تعطيني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟» فقال الرجل: إن لي نخلاً وما فيه نخلة أعجب إليَّ منها، ثم ذهب الرجل، فقال رجل ممن سمع ذلك الكلام: يا رسول الله أتعطيني نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال: نعم، فذهب الرجل، فلقي صاحب النخلة، فساومها منه، فقال له: أَمَا شَعَرْتَ أن محمداً أعطاني بها نخلة في الجنة؟ فقلتُ:
ما لي نخلة أعجب إليَّ منها، فقال له: أتريد بيعها؟ قال: لا، إلا أن أُعطى بها ما لا أظنني أعطى، قال: ما مناك؟ قال: أربعون نخلة، فقال: أنا أعطيك أربعين نخلة، وأشهد له ناساً، ثم ذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: إن النخلة قد صارت في ملكي، وهي لك، فذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى صاحب الدار، فقال: النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عطاء: الذي اشتراها من الرجل أبو الدحداح، أخذها بحائط له، فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أبو الدحداح، وصاحب النخلة.
قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى قال ابن مسعود: يعني: أبا بكر الصّدّيق وهذا قول الجمهور.
وقال عطاء: هو أبو الدحداح. وفي المراد بهذا العطاء ثلاثة أقوال: أحدها: أعطى من فضل ماله، قاله ابن عباس. والثاني: أعطى الله الصّدق من قلبه، قاله الحسن. والثالث: أعطى حق الله عليه، قاله قتادة.
وفي قوله عزّ وجلّ: وَاتَّقى ثلاثة أقوال: أحدها: اتقى الله، قاله ابن عباس. والثاني: اتقى البُخْل، قاله مجاهد. والثالث: اتقى محارم الله التي نهى عنها، قاله قتادة.
وفي «الحسنى» ستة أقوال: أحدها: أنه «لا إِله إِلا الله» ، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثاني: الخَلَف، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثالث: الجنة، قاله مجاهد. والرابع: نِعَم الله عليه، قاله عطاء. والخامس: بوعد الله أن يثيبه، قاله قتادة، ومقاتل.
والسادس: الصلاة، والزكاة، والصوم، قاله زيد بن أسلم.
قوله عزّ وجلّ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ضم أبو جعفر سين «اليسرى» وسين «العسرى» وفيه قولان:
أحدهما: للخير، قاله ابن عباس. والمعنى: نُيَسِّر ذلك عليه. والثاني: للجنّة، قاله زيد بن أسلم.
قوله وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ قال ابن مسعود: يعني بذلك أُميَّة وأُبي ابنَيْ خلف. وقال عطاء: هو صاحب النّخلة.
__________
حبان. والجمهور على أنها نزلت في أبي بكر والله أعلم.
ثم إن السورة مكية، وذاك أنصاري؟! وورد بمعناه دون ذكر نزول الآية من حديث جابر. أخرجه أحمد 3/ 328 وقال الهيثمي في «المجمع» 3/ 127: رواه أحمد والبزار، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه كلام وقد وثق.
- قلت: ضعفه غير واحد لسوء حفظه، وهو غير حجة. ورواية عطاء: وفيها اسم الرجل أبو الدحداح، هي من رواية علي بن حجر عن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء مرسلا، ومعلقا، فهو لا شيء.(4/454)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
قال المفسرون: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بالنفقة في الخير والصّدقة. وقال قتادة: بحقّ الله عزّ وجلّ، قوله:
وَاسْتَغْنى أي عن ثواب الله فلم يرغب فيه وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى وقد سبقت الأقوال فيها.
وفي «العسرى» قولان: أحدهما: النار، قاله ابن مسعود. والثاني: الشر، قاله ابن عباس.
والمعنى: سنهيؤه للشر فيؤدِّيه إلى الأمر العسير، وهو عذاب النار.
ثم ذكر أن ما أمسكه من ماله لا ينفعه، فقال عزّ وجلّ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ الذي يبخل به عن الخير إِذا تَرَدَّى وفيه قولان: أحدهما: إذا تردَّى في جهنم، قاله ابن عباس، وقتادة. والمعنى: إذا سقط فيها. والثاني: إذا مات فتردَّى في قبره، قاله مجاهد.
[سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى قال الزجاج: المعنى: إن علينا أن نبيِّن طريق الهدى من طريق الضّلال. قوله: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي: فليطلبا منا فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى أي: تتوقّد وتتوهَّج لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى يعني: المشرك الَّذِي كَذَّبَ الرسول وَتَوَلَّى عن الإيمان. قال أبو عبيدة: والْأَشْقَى بمعنى الشقيّ. والعرب تضع «أَفْعَلَ» في موضع «فاعل» . قال طرفة:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
قال الزّجّاج: وهذه الآية هي التي من أجلها زعم أهل الإرجاء أنه لا يدخل النار إلّا كافر، وليس كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها، ولأهل النار منازل. فلو كان من لا يشرك لا يعذَّب لم يكن في قوله عزّ وجلّ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» فائدة. وكان «ويغفر ما دون ذلك» كلاماً لا معنى له.
قوله عزّ وجلّ: وَسَيُجَنَّبُهَا أي: يُبْعَدُ عنها، فيجعل منها على جانب الْأَتْقَى يعني: أبا بكر الصديق في قول جميع المفسرين، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي: يطلب أن يكون عند الله زاكيا، ولا يطلب الرياء، ولا السمعة وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي: لم يفعل ذلك مجازاة ليد أُسْدِيَتْ إليه.
__________
وروى عطاء عن ابن عباس أن أبا بكر لما اشترى بلالاً بعد أن كان يعذَّب قال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك إلا ليدٍ كانت لبلال عنده، فأنزل الله تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي: إلا طلباً لثواب ربه. قال الفراء: و «إلا» بمعنى «لكن» ونصب «ابتغاءَ» على إضمار إنفاقه. فالمعنى: وما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه.
قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يَرْضى أي: بما يعطى في الجنّة من الثّواب.
ذكره الواحدي 857 عن عطاء عن ابن عباس بدون إسناد.
__________
(1) النساء: 48.(4/455)
سورة الضّحى
وهي مكّيّة بإجماعهم اتّفق المفسّرون: على أنّ هذه السورة نزلت بعد انقطاع الوحي مدّة. ثم اختلفوا في سبب انقطاعه على ثلاثة أقوال:
(1538) أحدها: أنّ اليهود سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، وعن الرّوح، فقال: سأخبركم غدا، ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي.
والثاني: لقلّة النّظافة في بعض أصحابه. وقد ذكرنا هذين القولين في سورة مريم «1» . والثالث:
لأجل جرو كان في بيته، قاله زيد بن أسلم «2» .
وفي مدّة احتباسه عنه أقوال قد ذكرناها في مريم «3» .
(1539) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جندب قال: قالت امرأة من قريش
__________
تقدم في سورة الكهف، وأنكر الحافظ في «الفتح» 8/ 710 كون نزول الضحى، كان بسبب سؤالهم عن ذي القرنين، وقال ما معناه: الزمن بين نزول السورة، وسؤالهم إياه غير متحد، ويجوز أن يكون قريبا.
صحيح. أخرجه البخاري 4950 والبغوي في «التفسير» 2349 بترقيمنا عن أحمد بن يونس به. من حديث جندي. وأخرجه البخاري 1125 و 1124 و 4983 والترمذي 3345 والطبري 37504 وابن حبان 6566 والطبراني 1709 والبيهقي 3/ 14 وفي «الدلائل» 7/ 58 والواحدي في «الوسيط» 4/ 507 وفي «أسباب النزول» 858 من طرق عن سفيان عن الأسود بن قيس به. وأخرجه البخاري 4951 ومسلم 1797 ح 115-
__________
(1) مريم: 65، وتقدّم الحديث، وهو حديث ضعيف، والصواب ما رواه الشيخان وهو الآتي من حديث جندب البجلي.
(2) ضعيف جدا، هو مرسل، وله علة ثانية، وهي كونه من رواية ابنه عبد الرحمن، وهو واه.
وصح هذا السياق، لكن ليس فيه نزول سورة الضحى عقب ذلك. فقد أخرج مسلم 2105 وأبو داود 4157 والنسائي 7/ 186 وأحمد 6/ 330 وأبو يعلى 7093 و 7112 من طريق الزهري عن ابن السباق عن ابن عباس عن ميمونة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصبح يوما واجما فقالت ميمونة: يا رسول الله! لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة، فلم يلقني. أم والله ما أخلفني» فظل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومه ذاك على ذلك، ثم وقع في نفسه جر وكلب تحت فسطاط لنا، فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني في البارحة قال: «أجل، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب، ولا صورة» . وأخرجه مسلم 2104 وأحمد 6/ 142- 143 وأبو يعلى 4508 من حديث عائشة بنحوه.
(3) مريم: 66.(4/456)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: ما أرى شيطانك إلّا قد ودعك، فنزلت وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، جندب: هو ابن سفيان، والمرأة: يقال لها: أمّ جميل امرأة أبي لهب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
وفي المراد «بالضحى» أربعة أقوال: أحدها: ضوء النهار، قاله مجاهد. والثاني: صدر النهار، قاله قتادة. والثالث: أول ساعة من النهار إذا ترحّلت الشمس، قاله السدي، ومقاتل. والرابع: النهار كلُّه، قاله الفراء.
وفي معنى «سجى» خمسة أقوال «1» : أحدها: أظلم. والثاني: ذهب، رويا عن ابن عباس.
والثالث: أقبل، قاله سعيد بن جبير. والرابع: سكن، قاله عطاء، وعكرمة، وابن زيد. فعلى هذا: في معنى «سكن» قولان: أحدهما: استقرّ ظلامه، قال الفرّاء: «سجى» يعني أظلم وركد في طوله. كما يقال: بَحْرٌ سَاجٍ، ولَيْل سَاجٍ: إذا ركد وأظلم. ومعنى: ركد: سكن. قال أبو عبيدة، يقال: ليلة ساجية، وساكنة، وشاكرة. قال الحادي:
يَا حَبَّذا القَمْرَاءُ والليلُ الساجْ ... وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّساجْ
قال ابن قتيبة: «سجى» بمعنى سكن، وذلك عند تناهي ظلامه وركوده.
والثاني: سكن الخلق فيه، ذكره الماوردي.
والخامس: امتد ظلامه، قاله ابن الأعرابي.
قوله عزّ وجلّ: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وقرأ عمر بن الخطاب، وأنس، وعروة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حاتم عن يعقوب «مَا وَدَعَكَ» بتخفيف الدال. وهذا جواب القسم. قال أبو عبيدة: «ما وَدَّعك» من التوديع كما يودع المفارق، و «مَا وَدَعَكَ» مخففة من ودعه يدعه وَما قَلى أي:
أبغض.
قوله عزّ وجلّ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى قال عطاء، أي خير لك من الدنيا. وقال غيره:
الذي لك في الآخرة أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا.
قوله عزّ وجلّ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ في الآخرة من الخير فَتَرْضى بما تعطى. قال عليّ
__________
والطبري 37505 والطبراني 1710 و 1711 وأحمد 4/ 312 والبيهقي 3/ 14 من طريقين عن الأسود بن قيس به. وفي الباب أحاديث، وهذا الحديث أصحها إسنادا وأحسنها متنا.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 622: وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك قول من قال معناه:
والليل إذا سكن بأهله، وثبت بظلامه، كما يقال: بحر ساج أي ساكنا.(4/457)
والحسن: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى.
(1540) قال ابن عباس: عُرِض على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يُفْتَح على أُمته من بعده كَفْرَاً كفرا، فسرّ بذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فيه قولان: أحدهما: جعل لك مأوى إذ ضَمَّك إلى عمك أبي طالب، فكفاك المؤونة، قاله مقاتل. والثاني: جعل لك مأوى لنفسك أغناك به عن كفالة أبي طالب، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيه ستة أقوال: أحدها: ضالاً عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة، فهداك إليها، قاله الجمهور منهم الحسن، والضحاك. والثاني: أنه ضَلَّ وهو صبي صغير في شعاب مكة، فردَّه الله إلى جده عبد المطلب، رواه أبو الضحى عن ابن عباس. والثالث: أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورده إلى القافلة، فمنَّ الله عليه بذلك قاله سعيد بن المسيب. والرابع: أن المعنى: ووجدك في قوم ضُلاَّل، فهداك للتوحيد والنبوة، قاله ابن السائب. والخامس: ووجدك نِسْيَاً، فهداك إلى الذِّكْر. ومثله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى «1» قاله ثعلب. والسادس:
ووجدك خاملاً لا تُذْكَر ولا تُعْرَف، فهدى الناس إليك حتى عرفوك، قاله عبد العزيز بن يحيى، ومحمد بن عليّ التّرمذيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَوَجَدَكَ عائِلًا قال أبو عبيدة: أي: ذا فقر. وأنشد:
وَمَا يَدري الفقيرُ مَتى غِناه ... وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ «2»
أي: يفتقر. قال ابن قتيبة: العائل: الفقير، كان له عيال، أو لم يكن يقال: عال الرجل: إذا افتقر. وأعال: إذا كثر عياله.
وفي قوله: فَأَغْنى قولان: أحدهما: أرضاك بما أعطاك من الرزق، قاله ابن السائب، واختاره الفرّاء فقال: لم يكن غناه عن كثرة المال، ولكن الله رضَّاه بما آتاه. والثاني: فأغناك بمال خديجة عن أبي طالب، قاله جماعة من المفسّرين.
قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فيه قولان: أحدهما: لا تحقر، قاله مجاهد. والثاني: لا تقهره على ماله، قاله الزّجّاج.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 37513 من طريق الأوزاعي يحدث عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، وإسناده ضعيف الأوزاعي لم يسمعه من إسماعيل كما يدل على ذلك عبارة الراوي عنه، وكرره 37514 وفيه رواد بن الجراح ضعيف.
وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 576 عن ابن عباس مرفوعا، وإسناده ضعيف فيه معاوية بن أبي العباس مجهول، والموقوف أصح من المرفوع، فالخبر لا يصح مرفوعا ولا موقوفا. وانظر «تفسير الشوكاني» 2746 بتخريجنا.
__________
(1) البقرة: 282.
(2) البيت لأحيحة بن الجلاح الأوسي، وهو في «جمهرة أشعار العرب» 125 و «اللسان» - عيل-.(4/458)
قوله: وَأَمَّا السَّائِلَ فيه قولان: أحدهما: سائل البِر، قاله الجمهور. والمعنى: إذا جاءك السائل، فإما أن تعطيه، وإِما أن تردَّه ردَّاً ليناً. ومعنى فَلا تَنْهَرْ لا تنهره، يقال: نهره وانتهره: إذا استقبله بكلام يزجره. والثاني: أنه طالب العلم، قاله يحيى بن آدم في آخرين.
قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ في النعمة ثلاثة أقوال: أحدها: النُبُوَّة. والثاني: القرآن، رويا عن مجاهد. والثالث: أنها عامة في جميع الخيرات، وهذا قول مقاتل.
(1541) وقد روي عن مجاهد قال: قرأت على ابن عباس. فلما بلغت «والضحى» قال: كبِّر إذا ختمت كل سورة حتى تختم. وقرأت على أُبيِّ بن كعب فأمرني بذلك.
(1542) قال علي بن أحمد النيسابوري: ويقال: إن الأصل في ذلك أن الوحي لما فتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال المشركون: قد هجره شيطانه وَوَدَعَه، اغتمَّ لذلك، فلما نزل «والضحى» كبَّر عند ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي، فاتّخذه الناس سنّة.
__________
ضعيف جدا. وله علتان، ابن أبي بزة، وهو أحمد بن محمد بن عبد الله ضعيف منكر الحديث، وشيخه عكرمة مجهول، لم يرو عنه غيره، ولم يوثقه أحد، وذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» 7/ 11 من غير جرح أو تعديل، حتى ابن حبان لم يدخله في الثقات. أخرجه الحاكم 3/ 305 والواحدي في «الوسيط» 4/ 514 والذهبي في «الميزان» 1/ 145/ 564 والبغوي في «التفسير» 2362 بترقيمنا. كلهم من طريق أحمد البزي به. وقال الذهبي في «الميزان» في البزي: إمام في القراءة ثبت، ثم ذكر له حديثا غير هذا فقال: قال أبو حاتم: هذا حديث باطل. وقال العقيلي: منكر الحديث، وقال أبو حاتم ضعيف الحديث، لا أحدث عنه- وقال ابن أبي حاتم: روى حديثا منكرا. ثم أسند الذهبي هذا الحديث، وقال: هذا حديث غريب، وهو مما أنكر على البزي، قال أبو حاتم: هذا حديث منكر. وقال العقيلي في «الضعفاء» 1/ 127: منكر الحديث، يوصل الأحاديث.
قلت: وعكرمة بن سليمان مجهول كما تقدم، لم يوثقه أحمد، ولا روى عنه سوى البزي، وهو ضعيف، فيزيد هذا من جهالته. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله 4/ 620: أحمد البزي ضعفه أبو حاتم، لكن ورد عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: أحسنت، وأصبت السنة حكاه أبو شامة المقدسي، في «شرح الشاطبية» ، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. كذا قال رحمه الله؟!! ولعل هذا لا يصح عن الشافعي، فإن خبرا واهيا، لا يصلح للاحتجاج به، وبخاصة إدخال شيء في الصلاة، ليس منها، والدليل على عدم صحته عن الشافعي، أنه ليس في مذهب الشافعية تكبير في الصلاة عند الانتقال من سورة إلى سورة بعد الضحى، والأشبه أن هذه السنة هي سنة عكرمة بن سليمان ذاك الشيخ المجهول، فحملها عنه البزي، ثم حملها عنه آخرون. ولو ثبت هذا عند الشافعي لرواه في المسند أو السنن أو الأم، بل لو صح هذا لرواه الأئمة الستة وغيرهم لاشتهاره، والصواب أن هذا سنة شيخ مجهول، والله أعلم.
والخلاصة: الإسناد ضعيف، والمتن منكر كما قال أبو حاتم وغيره، وهذا مما ينبغي أن يشتهر لو صح، فلما لم يرو إلا بهذا الطريق علم أنه شبه موضوع.
تقدم أن هذا الحديث صحيح دون ذكر التكبير، انظر الحديث رقم 1539 ولا أصل له بهذا اللفظ- قال ابن كثير رحمه الله 4/ 621: لم يرو ذلك بإسناد وقد مضى في الذي قبله، الكلام على التكبير مما يغني عن الإعادة هنا.(4/459)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
سورة الشرح
وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ الشرح: الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك. والله تعالى فتح صدر نبيه للهدى والمعرفة بإذهاب الشّواغل التي تصدّ «1» عن إدراك الحق. ومعنى هذا الإستفهام التقريرُ، أي: فعلنا ذلك «2» وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ أي: حَطَطْنَا عنك إِثْمَكَ الذي سَلَفَ في الجاهلية، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، والفراء، وابن قتيبة في آخرين. وقال الزجاج: المعنى:
أنه غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال ابن قتيبة: وأصل الوِزْر: ما حمله الإنسان على ظهره، فشبّه بالحمل فجعل مكانه. وبمعنى أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أثقله حتى سمع نقيضه، أي: صوته. وهذا مَثَلٌ، يعني: أنه لو كان حملاً يحمل لَسُمِع نقيضُ الظهر منه. وذهب قوم إلى أن المراد بهذا تخفيف أعباء النبوة التي يُثْقِلُ القيامُ بها الظُّهْرَ، فَسَهَّلَ الله له ذلك حتى تيَسَّر عليه الأمر. وممن ذهب إلى هذا عبد العزيز بن يحيى.
قوله عزّ وجلّ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ فيه خمسة أقوال:
(1543) أحدها: ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية،
__________
ضعيف. أخرجه أبو يعلى 1380 والواحدي في «الوسيط» 4/ 516 من طريق ابن لهيعة به. وإسناده واه، فيه-
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 624- 625: يقول تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، يعني أما شرحنا لك صدرك؟ أي نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا، كقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا واسعا سمحا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 633: والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: التين: هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت، لأن ذلك معروف عند العرب، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين، ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهبا، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك، دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه، لأن دمشق هي منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون.
ابن لهيعة ضعيف، ودراج عن أبي الهيثم ضعيف أيضا. وأخرجه الطبري 37532 وابن حبان 3382 من طريق عمرو بن الحارث عن دراج به. وذكره الهيثمي في «المجمع» 8/ 245 وقال: رواه أبو يعلى وإسناده حسن.
كذا قال؟! مع أن في إسناد أبي يعلى ابن لهيعة، ودراج.(4/460)
فقال: قال الله عزّ وجلّ: إذا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ معي. قال قتادة: فليس خطيب، ولا مُتَشَهِّدٌ، ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وهذا قول الجمهور.
والثاني: رفعنا لك ذِكْرَك بالنبوة، قاله يحيى بن سلام. والثالث: رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا، حكاه الماوردي. والرابع: رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء. والخامس: بأخذ الميثاق لك على الأنبياء، وإلزامهم الإيمان بك، والإقرار بفضلك، حكاهما الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ضم سين «العُسُر» وسين «اليُسُر» أبو جعفر و «العسر» مذكور في الآيتين بلفظ التعريف. و «اليُسر» مذكور بلفظ التنكير، فدل على أن العسر واحد، واليسر اثنان. قال ابن مسعود، وابن عباس في هذه الآية: لن يغلب عُسْر يسرين. قال الفراء: العرب إذا ذَكَرَتْ نَكِرَةً ثم أعادتها بنكرة صارت اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأول، وإذا أعادتها معرفة، فهي من قولك: إذا كسبت درهماً فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول. ونحو هذا قال الزجاج:
ذَكَرَ العُسْر بالألف واللام، ثم ثَنَّى ذِكْرَه، فصار المعنى: إن مع العسر يسرين. وقال الحسين بن يحيى الجرجاني- ويقال له: صاحب النظم-: معنى الكلام: لا يحزنك ما يُعَيِّرك به المشركون من الفقر «فإن مع العسر يسراً» عاجلاً في الدنيا، فأنجزه بما وعده الله، بما فتح عليه، ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال: «إن مع العسر يسراً» والدليل على ابتدائه تَعرِّيه من الفاء والواو، وهو وعد لجميع المؤمنين أي أن مع عسر المؤمنين يسراً في الآخرة، فمعنى قولهم: لن يغلب عسر يسرين: لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا، واليسر الذي وعدهم في الآخرة، إنما يغلب أحدهما، وهو يسر الدنيا.
فأما يسر الآخرة، فدائم لا ينقطع، كقوله صلّى الله عليه وسلم:
(1544) «شهرا عيد لا ينقصان» ، أي: لا يجتمعان في النقص. وحكي عن العتبي قال: كنت ذات ليلة في البادية بحالة من الغَمِّ، فأُلْقِيَ في رَوعي بيت من الشعر، فقلت:
أرى الموت لمن أصبح ... مَغْمُوماً لَهُ أَرُوَحْ
فلما جن الليل سمعت هاتفا يهتف:
ألا يا أيّها المرء الذي ... الهمُّ بِه بَرَّحْ
وَقَدْ أَنْشَدَ بَيْتَاً لَمْ ... يزل في فكره يسبح
إذا اشتَدَّ بك العُسْرُ ... فَفَكِّر في «أَلَمْ نَشْرَحْ»
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ ... إِذا أَبْصَرْتَهُ فَافْرَحْ
فحفظت الأبيات وفرّج الله غمّي.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 1912 ومسلم 1089 وأبو داود 2323 والترمذي 692 وابن ماجة 1659 وأحمد 5/ 38 و 47 و 48 والطيالسي 863 والطحاوي 2/ 58 وابن حبان 325 والبيهقي 4/ 250 من طرق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا.(4/461)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي: فادأبْ في العمل، وهو من النَّصْب، والنَّصب: التعبُ، الدَّؤوب في العمل. وفي معنى الكلام ستة أقوال أحدها: فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، قاله ابن مسعود. والثاني: فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، قاله ابن عباس، والضحاك، ومقاتل. والثالث: فإذا فرغت من جهالة عدوّك فانصب لعبادة ربّك، قاله الحسن وقتادة.
والرابع: فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك، قاله مجاهد. والخامس: فإذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، قاله الشّعبيّ والزّهريّ. والسادس: إذا صح بدنك فاجعل صحتك نَصباً في العبادة، ذكره عليّ بن أبي طلحة.
قوله وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ قال الزجاج: اجعل رغبتك إلى الله عزّ وجلّ وحده.(4/462)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
سورة التّين
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، قاله الجمهور، منهم الحسن، وعطاء. والثاني: أنها مدنيّة، حكاه الماورديّ عن ابن عباس، وقتادة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
قوله عزّ وجلّ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فيها سبعة أقوال «1» : أحدها: أنه التين المعروف، والزيتون المعروف، قاله ابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وإبراهيم. وذكر بعض المفسرين أنه إنما أقسم بالتين لأنها فاكهة مُخَلَّصة من شائب التنغيص، وهو يدل على قدرة من هيَّأه على تلك الصفة، وجعل الواحد منه على مقدار اللقمة، وإنما أقسم بالزيتون لكثرة الانتفاع به.
والثاني: أن التين: مسجد نوح الذي بنى على الجودي. والزيتون: بيت المقدس، رواه عطية عن ابن عباس. والثالث: التين: المسجد الحرام، والزيتون: المسجد الأقصى، قاله الضحاك. والرابع: التين:
مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس، قاله كعب، وقتادة، وابن زيد. والخامس: أنهما جبلان، قاله عكرمة في رواية. وروي عن قتادة قال: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس. والسادس: أن التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد إيلياء، قاله القرظي.
والسابع: أن التين: جبال ما بين حلوان إلى همذان، والزيتون: جبال الشام، حكاه الفرّاء. فأمّا وَطُورِ سِينِينَ فالطور: جبل. وفيه قولان «2» : أحدهما: أنه الجبل الذي كلم الله موسى عليه، قاله كعب الأحبار في الأكثرين. والثاني: أنه جبل بالشام، قاله قتادة.
فأما سِينِينَ فهو لغة في سيناء. وقد قرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وسعد بن أبي وقاص، وأبو العالية، وأبو مجلز «وطور سَيناء» ممدودة مهموزة، مفتوحة السين. وقرأ ابن مسعود،
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 634: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: طور سينين:
جبل معروف، لأن الطول هو جبل ذو النبات، فإضافته إلى سينين تعريف له، ولو كان نعتا للطور كما قال من قال: معناه: حسن أو مبارك لكان الطور منونا، وذلك أن الشيء لا يضاف إلى نعته لغير علة تدعو إلى ذلك.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 634: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: طور سينين:
جبل معروف، لأن الطول هو جبل ذو النبات، فإضافته إلى سينين تعريف له، ولو كان نعتا للطور كما قال من قال: معناه: حسن أو مبارك لكان الطور منونا، وذلك أن الشيء لا يضاف إلى نعته لغير علة تدعو إلى ذلك. [.....](4/463)
وأبو الدرداء، وأبو حيوة «وطورِ سيناء» مثلهم إلا أنهم كسروا السين. وقرأ أبو رجاء، والجحدريّ «سينين» كما في القرآن، لكنهما فتحا السين. وقال ابن الأنباري: «سينين» هو سيناء.
واختلفوا في معناه فقيل: معناه: الحسن. وقيل: المبارك. وقيل: إنه اسم للشجر الذي حوله.
وقد شرحنا هذا في سورة المؤمنون «1» قال الزّجّاج: وقد قرئ هاهنا «وطور سيناء» وهو أشبه لقوله عزّ وجلّ: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ. وقال مقاتل: كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين، وسيناء بلغة النّبط.
قوله عزّ وجلّ: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعني: مكة يأمن فيه الخائف في الجاهلية، والإسلام «2» . قال الفراء: ومعنى «الأمين» الآمن. والعرب تقول للآمن: أمين.
قال الشاعر:
أَلَمْ تَعْلَمي يا أَسْمَ وَيْحَكِ أَنَّني ... حَلَفْتُ يَمِيناً لا أَخُونُ أَمِينِي
يريد آمني.
قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ هذا جواب القسم. وفي المراد بالإنسان هاهنا خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه كَلدَة بن أسيد، قاله ابن عباس. والثاني: الوليد بن المغيرة، قاله عطاء. والثالث:
أبو جهل بن هشام. والرابع: عتبة، وشيبة، حكاهما الماوردي. والخامس: أنه اسم جنس، وهذا مذهب كثير من المفسرين، وهو معنى قول مقاتل.
قوله عزّ وجلّ: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فيه أربعة أقوال «4» : أحدها: في أعدل خلق. والثاني: منتصب القامة، رويا عن ابن عباس. والثالث: في أحسن صورة، قاله أبو العالية. والرابع: في شباب وقوة، قاله عكرمة.
قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ فيه قولان «5» : أحدهما: إلى أرذل العُمُر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وإبراهيم، وقتادة. وقال الضحاك: إلى الهرم بعد الشباب، والضعف بعد
__________
(1) المؤمنون: 20.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 628: وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبيا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأولى محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى عليه السلام والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام والثالث: مكة: وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمدا صلّى الله عليه وسلم.
(3) والقول الخامس هو الصواب: أنه اسم جنس ولم يكن المراد منه إنسان باسمه.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 638: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن معنى ذلك. لقد خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأعدلها، لأن قوله: أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إنما هو نعت لمحذوف، وهو في تقويم أحسن تقويم، فكأنه قيل: لقد خلقناه في تقويم أحسن تقويم.
(5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 628: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي: إلى أرذل العمر. روي هذا عن ابن عباس وعكرمة، واختاره ابن جرير الطبري ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك، لأن الهرم قد يصيب بعضهم إنما المراد ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي إلى النار، كقوله وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.(4/464)
القوََّة. والسافلون: هم الضعفاء، والزَّمنى، والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً، قال الفراء:
وإنما قال: «سافلين» على الجمع، لأن الإنسان في معنى جمع. تقول: هذا أفضل قائم، ولا تقول:
قائمين، لأنك تريد واحداً، فإذا لم ترد واحداً ذكرته بالتوحيد وبالجمع. والثاني: إلى النار، قاله الحسن، وأبو العالية، ومجاهد. والمعنى: إنا نفعل هذا بكثير من الناس. تقول العرب: أنفق فلان ماله على فلان، وإنما أنفق بعضه، ومثله قوله عزّ وجلّ: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى «1» لم يُرِدْ كُلَّ ماله. ثم استثنى من الإنسان فقال عزّ وجلّ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا لأن معنى الإنسان الكثير. وللمفسرين في معنى الاستثناء قولان: أحدهما: إلا الذين آمنوا، فإنهم لا يُرَدُّون إلى الخَرَف، وأَرْذَل العُمُر وإن عُمِّروا طويلاً، وهذا على القول الأول. قال ابن عباس: من قرأ القرآن لم يُردّ إِلى أرذل العمر. وقال إبراهيم النخعي: إذا بلغ المؤمن من الكِبَر ما يعجز عن العمل كُتِبَ له ما كان يعمل، وهو قوله عزّ وجلّ:
فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وقال ابن قتيبة: المعنى: إلا الذين آمنوا في وقت القوَّة والقدرة، فإنهم في حال الكِبَر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات، لأنّ الله عزّ وجلّ يعلم أنه لو لم يسلبهم القوَّة لم ينقطعوا عن أفعال الخير، فهو يجري لهم أجر ذلك. والثاني: إلا الذين آمنوا، فإنهم لا يُرَدُّون إلى النار. وهذا على القول الثاني. وقد شرحنا معنى «الممنون» في «ن» «2» .
قوله عزّ وجلّ: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ فيه قولان: أحدهما: فما يكذِّبك أيها الإنسان بعد هذه الحجة «بالدِّين» أي: ما الذي يجعلك مكذِّباً بالجزاء؟!، وهذا توبيخ للكافر، وهو معنى قول مقاتل.
وزعم أنها نزلت في عدي بن ربيعة. والثاني: فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له خلقُنا الإنسان على ما وصفنا، قاله الفراء. فأما «الدِّين» فهو الجزاء. والمشار إليه بذكره إلى البعث، كأنه استدلّ بتقلّب الأحوال على البعث.
قوله عزّ وجلّ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي: بأقضى القاضين. قال مقاتل: يحكم بينك وبين مكذِّبيك. وذكر بعض المفسرين: أن معنى هذه الآية تسليته في تركهم والإعراض عنهم. ثم نسخ هذا المعنى بآية السيف.
__________
(1) الليل: 18.
(2) ن: 3.(4/465)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
سورة العلق
وتسمّى: سورة القلم، وسورة اقرأ، وهي مكّيّة بإجماعهم. وهي أول ما نزل من القرآن. وقيل:
إنما أنزل عليه في أول الوحي خمس آيات منها، ثم نزل باقيها في أبي جهل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
قوله تعالى: اقْرَأْ قرأ أبو جعفر بتخفيف الهمزة في الحرفين. قال أبو عبيدة: المعنى: «اقرأ اسم ربك» والباء زائدة.
وقال المفسرون: المعنى: اذكر اسمه مستفتحا به قراءتك. وإنما قال عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَ لأن الكفار كانوا يعلمون أنه الخالق دون أصنامهم. والإنسان هاهنا: ابن آدم. والعلق: جمع علقة، وقد بَيَّنَّاها في سورة الحج «1» قال الفراء: لما كان الإنسان في معنى الجمع جمع العلق مع مشاكلة رؤوس الآيات..
قوله تعالى: اقْرَأْ تكرير للتأكيد. ثم استأنف فقال عزّ وجلّ: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ قال الخطّابي:
الأكرم: الذي لا يوازيه كريم، ولا يعادله في الكرم نظير. وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم، كما جاء الأعَزُّ والأطول، بمعنى العزيز والطويل. وقد سبق تفسير الكريم.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي: علم الإنسان الكتابة بالقلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من الخط، والصنائع، وغير ذلك. وقيل: المراد بالإنسان هاهنا: محمّد صلّى الله عليه وسلم.
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 19]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: حقاً. وقال مقاتل: كَلَّا لا يعلم أن الله علمه. ثم استأنف فقال
__________
(1) مضى في أول سورة الحج.(4/466)
عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى يعني: أبا جهل. وكان إذا أصاب مالاً أَشر وبَطِرَ في ثيابه، ومراكبه، وطعامه قوله: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى قال ابن قتيبة: أي: أن رأى نفسه استغنى. و «الرُّجْعى» المرجع.
قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى معنى: أرأيت: تعجيب المخاطب، وإنما كررها للتأكيد والتعجيب. والمراد بالناهي هاهنا: أبو جهل.
(1545) قال أبو هريرة: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمَّدٌ وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال:
فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقال له: ها هو ذاك يصلي. فانطلق لِيَطَأَ على رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتَّقي بيديه، فأتوه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ فقال:
إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً وأَجْنِحَةً. وقال نبي الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً» ، فأنزل الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى إلى آخر السورة.
(1546) وقال ابن عباس: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟! فانصرف إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلم فَزَبَرَه «1» ، فقال أبو جهل: والله إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني، فأنزل الله تعالى:
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله.
قال المفسرون: والمراد بالعبد هاهنا: محمد صلّى الله عليه وسلم. وقيل: كانت الصلاة صلاة الظّهر.
قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يعني المنهي وهو النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى يعني: الناهي، وهو أبو جهل، قال الفراء: والمعنى:
أرأيتَ الذي ينهى عبداً إذا صلى، وهو كاذب مُتَوَلٍّ عن الذّكر، وأيّ شيء أعجب من هذا؟! وقال ابن الأنباري: تقديره: أرأيته مصيبا.
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَعْلَمْ يعني أبا جهل بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ذلك فيجازيه كَلَّا أي: لا يعلم ذلك لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عن تكذيب محمد وشتمه وإيذائه لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ السفع: الأخذ، والناصية: مقدّم شعر الرأس. قال أبو عبيدة: يقال: سفعتُ بيده، أي: أخذتُ بها. وقال الزجاج: يقال: سفعتُ بالشيء: إذا قبضتَ عليه وجذبته جذباً شديداً. والمعنى: لنجرّنّ ناصيته إلى النّار.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2797 والبغوي في «التفسير» 2372 من طريق عبيد الله بن معاذ ومحمد بن الأعلى القيسي من حديث أبي هريرة.
وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11683 وأحمد 2/ 370 وابن حبان 6571 والبيهقي 2/ 19 وأبو نعيم في «الدلائل» 158 والواحدي في «الوسيط» 4/ 529 من طرق عن معتمر بن سليمان به. وأخرجه الطبري 37687 من طريق ابن ثور عن أبيه عن نعيم بن أبي هند به.
صحيح. أخرجه البخاري 4958 وعبد الرزاق في «التفسير» 3660 والطبري 37689 من حديث ابن عباس.
__________
(1) فزبره: نهره وأغلظ عليه. قلت: وما زالت هذه الآية التي نزلت في شأن أبي جهل مستمرة شاملة لكل من يمنع الصلاة بأي شكل من الأشكال، سواء كانت بالقوة، أو بمجرد تخويف، أو تهديد وسواء كان في الأماكن العامة أو بالأماكن الخاصة، وسواء كان مباشر، أو بصورة غير مباشرة، فهؤلاء كلهم آباء جهل وهم أشد الناس عذابا يوم القيامة إذ لا يعبدون الله، وإذا عبدوا كانوا يراءون الناس، ومع ذلك يصدون عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. نسأل الله السلامة، وحسن الختام.(4/467)
قوله عزّ وجلّ: ناصِيَةٍ قال أبو عبيدة: هي بدل، فلذلك جَرَّها. قال الزجاج: والمعنى: بناصية صاحبُها كاذبٌ خاطئ، كما يقال: نهارُه صائم، وليله قائم، أي: هو صائم في نهاره، قائم في ليله فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي: أهل ناديه، وهم أهل مجلسه فليستنصرهم سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال عطاء: هم الملائكة الغِلاظ الشِّداد، وقال مقاتل: هم خَزَنَةُ جهنم. وقال قتادة: الزَّبانية في كلام العرب: الشُّرَط. قال الفراء: كان الكسائي يقول: لم أسمع للزَّبانية بواحد، ثم قال بأَخَرة: واحد الزبانية: زِبْنِيٌّ، فلا أدري أقياساً منه أو سماعاً. وقال أبو عبيدة: واحد الزبانية: زِبْنِيَة، وهو كل متمرِّد من إنس، أو جان. يقال:
فلان زِبْنِيَة عِفْرِيَة. قال ابن قتيبة: وهو مَأْخوذٌ من الزَّبْن، وهو الدَّفْع، كأنهم يدفعون أهل النّار إليها.
وقال ابن دريد: الزَّبْن: الدفع. يقال: ناقة زبون: إذا زَبَنَتْ حالبها. ودفعته برجلها. وتَزَابَنَ القوم:
تدارؤوا. واشتقاق الزبانية من الزَّبْن. والله أعلم.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: ليس الأمر على ما عليه أبو جهل لا تُطِعْهُ في ترك الصلاة وَاسْجُدْ أي: صَلِّ لله وَاقْتَرِبْ إليه بالطاعة، وهذا قول الجمهور أنّ قوله عزّ وجلّ: وَاقْتَرِبْ خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقد قيل: إنه خطاب لأبي جهل: ثم فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: اسجد أنت يا محمد، واقترب أنت يا أبا جهل إلى النَّار، قاله زيد بن أسلم. والثاني: واقترب يا أبا جهل تَهَدَّدَاً له، رواه أبو سليمان الدمشقي عن بعض القُدَماء وهذا يشرحه حديث أبي هريرة الذي قدَّمناه.
(1547) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدّعاء» .
__________
صحيح. أخرجه مسلم 482 والنسائي 2/ 226 وأحمد 2/ 421 وأبو يعلى 6658 وابن حبان 1928 وأبو عوانة 2/ 180 والبيهقي 2/ 110 من طرق عن ابن وهب به. من حديث أبي هريرة. وأخرجه أبو داود 875 عن أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو، ومحمد بن سلمة به. وأخرجه البغوي في «شرح السنة» 659 وفي «التفسير» 2373 من طريق أبي داود سليمان بن الأشعث به.(4/468)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
سورة القدر
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها مدنيّة، قاله الضّحّاك، ومقاتل. قال الماورديّ: الأول قول الأكثرين. وقال الثّعلبي: الثاني قول الأكثرين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني: القرآن فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وذلك أنه أنزل جملةً في تلك الليلة إلى بيت العِزَّة، وهو بيت في السماء الدنيا. وقد ذكرنا هذا الحديث في أول كتابنا. والهاء في «إنا أنزلناه» كناية عن غير مذكور. وقال الزجاج: قد جرى ذكره في قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ.
فأما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ففي تسميتها بذلك خمسة أقوال: أحدها: أن القَدْرَ: العظمةُ، من قولك:
لفلان قَدْر، قاله الزهري. ويشهد له قوله عزّ وجلّ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «1» . والثاني: أنه من الضيق، أي: هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون، قاله الخليل بن أحمد، ويشهد له قوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «2» . والثالث: أنّ القدر: الحكم كأن الأشياء يقدّر فيها، قاله ابن قتيبة.
والرابع: لأن من لم يكن له قَدْر صار بمراعاتها ذَا قَدْر، قاله أبو بكر الورَّاق. والخامس: لأنه نزل فيها كتاب ذُو قَدر، وتنزل فيها رحمة ذات قَدْر، وملائكةٌ ذوُو قَدْر، حكاه شيخنا عليّ بن عبيد الله.
فصل
«3» : اختلف العلماء هل ليلة القدر باقية، أم كانت في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصّة؟ والصحيح بقاؤها.
__________
(1) الأنعام: 91، والزمر: 67.
(2) الطلاق: 7.
(3) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 433، في الصحيح فيها وترجيح سبل النظر الموصلة إلى الحق منها: أنا نقول: إن الله تبارك وتعالى قال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فأفاد هذا بمطلقه، لو لم يكن كلام سواه، أنها في العام كله، لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فأنبأنا الله أنه أنزله في ليلة من العام، فقلنا:
من يقم الحول يصب ليلة القدر، ثم نظرنا إلى قوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فأفادنا ذلك أن تلك الليلة هي من شهر رمضان، ثم أخبر في الصحيح أنها في العشر الأواخر، وتواطأت روايات الصحابة على أنها في العشر الأواخر، وخبأها عن التعيين ليكون ذلك أبرك على الأمة في القيام في طلبها شهرا أو أياما، فيحصل مع ليلة القدر ثواب غيرها، فهذه سبل النظر المجتمعة من القرآن والحديث أجمع- على ما سيأتي- فتبصروها لمما، واسلكوها أمما إن شاء الله.(4/469)
وهل هي في جميع السنة، أم في رمضان؟ وفيه قولان: أحدهما: في رمضان، قاله الجمهور والثاني: في جميع السنة، قاله ابن مسعود.
واختلف القائلون بأنها في شهر رمضان هل تختص ببعضه دون بعض؟ على قولين: أحدهما: أنها في العشر الأواخر، قاله الجمهور، وأكثر الأحاديث الصّحاح تدل عليه.
(1548) وقد روى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعةٍ تبقى، أو سابعة تبقى أو في خامسة تبقى» .
(1549) وفي حديث أبي بَكْرَة قال: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلاَ في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول: «التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث يبقين، أو آخر ليلة» .
والقول الثاني: أنها في جميع رمضان، قاله الحسن البصري.
واختلف القائلون بأنها في العشر الأواخر هل تختص ليالي الوتر دون الشفع؟ على قولين:
أحدهما: أنها تختص الأفراد، قاله الجمهور. والأحاديث الصحاح كلها تدل عليه.
(1550) وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها» .
والثاني: أنها تكون في الشفع كما تكون في الوتر، قاله الحسن. وروي عن الحسن ومالك بن أنس قالا: هي ليلة ثماني عشرة.
واختلف القائلون بأنها في الأفراد في أخص الليالي بها على خمسة أقوال: أحدها: أن الأخص بها ليلة إحدَى وعشرين.
(1551) فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري قال: اعتكف
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2021 من حديث ابن عباس ولم أره بهذا اللفظ لا في الموطأ ولا في مسلم.
- وانظر الحديث الآتي عن أبي سعيد الخدري.
صحيح. أخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 535- 536 من طريق عبد الله بن حامد بهذا الإسناد. وأخرجه الترمذي 794 والحاكم 1/ 438 وأحمد 5/ 36 و 39 و 40 وابن خزيمة 2175 والطيالسي 881 والبيهقي في «الشعب» 3681 من حديث أبي بكرة، وإسناده صحيح.
صحيح. أخرجه البخاري 2027 وأبو داود 1382 وابن خزيمة 2243 وابن حبان 3673 والبيهقي 4/ 309 من طرق عن مالك به. من حديث أبي سعيد. وأخرجه البخاري 2018 من طريق ابن أبي حازم والدراوردي عن يزيد به. وأخرجه مسلم 1167 ح 215 وابن خزيمة 2171 وابن حبان 3684 والبيهقي 4/ 314- 305 من طريق عمارة بن غزية، عن محمد بن إبراهيم به. وأخرجه البخاري 2040 وأحمد 3/ 7 و 24 والحميدي 756 من طرق عن أبي سلمة به. وأخرجه البخاري 669 و 813 و 2016 ومسلم 1167 ح 216 وأحمد 3/ 60 و 74 و 94 والطيالسي 3187 وعبد الرزاق 8685 وابن أبي شيبة 3/ 76- 77- وابن حبان 3685 من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. وأخرجه مالك 1/ 319 والبغوي في «شرح السنة» 1819 عن يزيد بن عبد الله به.
هو الحديث المتقدم 1550.(4/470)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم العشر الأوسط واعتكفنا معه، فلما أصبحنا صبيحة عشرين رجع، ورجعنا معه، وأُرِيَ ليلةَ القدر، ثم أُنسيها، فقال: «إني رأيتُ ليلة القدر، ثم أُنسيتها وأُراني أسجد في ماء وطين، فمن اعتكف فليرجع إلى مُعتَكفه، وهاجت علينا السماء آخر تلك العشية، وكان سَقْفُ المسجد عريشاً من جريد، فوكف المسجد فو الذي هو أكرمه، وأنزل عليه الكتاب لَرَأَيْتُه يصلي بنا المغرب ليلة إحدى وعشرين، وإن جبهته وأرنبة أنفه لفي الماء والطين، وهذا مذهب الشافعي.
والثاني: أن الأخص بها ليلة ثلاث وعشرين.
(1552) وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ليلة ثلاث وعشرين: «اطلبوها الليلة» .
(1553) وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئاً فليقم ليلة ثلاث وعشرين» .
(1554) وروى مسلم في أفراده من حديث عبد الله بن أُنَيْس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أريت ليلة القدر، ثم نسيتها، وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين. قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأبصرته وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه. قال: وكان عبد الله بن أُنَيْس يقول: ليلة ثلاث وعشرين.
(1555) والثالث: ليلة خمس وعشرين وروى هذا المعنى أبو بكرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
والرابع: ليلة سبع وعشرين.
(1556) روى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: من كان متحرّيا
__________
صحيح. أخرجه ابن ماجة 1656 وأحمد 2/ 251 وابن حبان 2548 والبيهقي 4/ 310 والواحدي في «الوسيط» 4/ 534 من حديث أبي هريرة، وإسناده على شرط الشيخين.
صحيح. أخرجه البخاري 2015 ومسلم 1165 ح 205 وابن حبان 3675 والبيهقي 4/ 310 و 311 من طرق عن مالك به- وأخرجه مالك 1/ 331 والبغوي في «شرح السنة» 1817 عن نافع به. وأخرجه البخاري 1158 وأحمد 2/ 17 وعبد الرزاق 7688 وابن خزيمة 2182 والبيهقي 4/ 310- 311 من طريق عن نافع به. وأخرجه البخاري 6991 ومسلم 1165 ح 207 وأحمد 2/ 37 والدارمي 2/ 28 والبيهقي 4/ 311 من طريق الزهري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر به. وأخرجه ابن خزيمة 2222 من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر به. وأخرجه مسلم 1165 ح 208 وأحمد 2/ 8 و 36 وعبد الرزاق 7681 من طرق عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.
صحيح. أخرجه مسلم 1168 وأبو داود 1379 ومالك 1/ 320 وأحمد 3/ 495 وعبد الرزاق في «المصنف» 7689 و 7690 و 7694 وابن نصر في «قيام رمضان» 40 والطحاوي في «المعاني» 3/ 86- 90 والبيهقي 4/ 309 من حديث عبد الله بن أنيس. وأخرجه أبو داود 1380 وابن نصر في «قيام رمضان» 39 وابن خزيمة 2200 والبيهقي 4/ 309 والبغوي في «شرح السنة» 1820 وفي «التفسير» 4/ 511 من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عبد الله بن أنيس عن أبيه أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: مرني بليلة من هذا الشهر أنزلها إلى المسجد فأصليها فيه، فقال: «انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيه ... » . ورجاله ثقات، وابن إسحاق صرح بالتحديث. وانظر «أحكام القرآن» 2342- 2341.
هو الحديث المتقدم برقم 1549.
صحيح. أخرجه مسلم 1165 ح 207 وأحمد 2/ 27 من حديث ابن عمر. وانظر «فتح الباري» 4/ 264(4/471)
فليتحرها ليلة سبع وعشرين، يعني: ليلة القدر، وهذا مذهب عليٍّ وأُبَيِّ بن كعب.
(1557) وكان أُبَيٌّ يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، وبه قال ابن عباس، وعائشة، ومعاوية. واختاره أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
وروى ابن عباس: أنه استدل على ذلك بشيئين: أحدهما: أنه قال: إن الله تعالى خلق الإنسان على سبعة أصناف، يشير إلى قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ الآيات «1» . ثم جعل رزقه في سبعة أصناف يشير إلى قوله عزّ وجلّ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا «2» ثم يصلّي الجمعة على رأس سبعة أيام. وجعل السموات سبعاً، والأرضين سبعاً، والمثاني سبعاً «3» ، فلا أرى ليلة القدر إلّا ليلة السابعة.
والثاني: أنه قال: قوله عزّ وجلّ: سَلامٌ هي الكلمة السابعة والعشرون، فدل على أنها كذلك.
واحتج بعضهم فقال: ليلة القدر كُرِّرت في هذه السورة ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، والتسعة إذا كُرِّرت ثلاثاً فهي سبع وعشرون، وهذا تنبيه على ذلك.
والقول الخامس: أن الأولى طلبها في أول ليلة من رمضان، قاله أبو رزين العقيلي.
وروى أيوب عن أبي قُلابة أنه قال: ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر.
فأما الحكمة في إخفائها فليتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان طَمَعاً منهم في إدراكها، كما أخفى ساعة الجمعة، وساعة الليل، واسمه الأعظم، والصلاة الوسطى، والوليّ في الناس.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ هذا على سبيل التعظيم والتّشوّق إلى خيرها.
قوله عزّ وجلّ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قال مجاهد: قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر، وهذا قول قتادة، واختيار الفراء، وابن قتيبة، والزجاج.
(1558) وروى عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذُكِرَ له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح
__________
وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6421.
صحيح. أخرجه مسلم 2/ 828 ح 220 والحميدي 375 وابن خزيمة 2191 وابن حبان 3689 والبيهقي 4/ 312 من طرق عن سفيان بن عيينة عن عبدة بن أبي لبابة، وعاصم عن زر بن حبيش به.
وأخرجه مسلم 762 ح 180 والواحدي في «الوسيط» 4/ 535 من طرق شعبة عن عبدة بن أبي لبابة عن زر به مختصرا. وأخرجه أبو داود 1378 والترمذي 793 وعبد الرزاق 7700 وابن خزيمة 2193 وابن حبان 3691 والواحدي في «الوسيط» 4/ 533. وأخرجه ابن أبي شيبة 3/ 76 من طريق أبي خالد وعامر الشعبي عن زر به.
وأخرجه مسلم 762 ح 179 وابن حبان 3690 من طريق الأوزاعي عن عبدة عن زر به. وهم جميعا من حديث زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب: يا أبا المنذر أخبرنا عن ليلة القدر، فإن ابن مسعود عبد الله يقول: من يقم الحول يصبها فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، أما إنه قد علم أنها في رمضان ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا. هي والذي أنزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين، فقلنا: يا أبا المنذر أنى علمت هذا؟ قال: بالآية التي أخبرنا النبي صلّى الله عليه وسلم فحفظناها وعددناها هي والله لا تنس، قال قلنا: وما الآية؟ قال: تطلع الشمس كأنها طاس ليس لها شعاع.
ضعيف جدا. ذكره المصنف عن عطاء عن ابن عباس ولم أره عنه مسندا.
وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 864 والبيهقي في «الشعب» 3668 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن-
__________
(1) المؤمنون: 12.
(2) عبس: 25. [.....]
(3) الفاتحة: وهي سبع آيات.(4/472)
على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لذلك، وتمنَّى أن يكون ذلك في أمته، فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: هي خير من ألف شهر التي حمل فيها الاسرائيلي السلاح في سبيل الله عزّ وجلّ.
وذكر بعض المفسرين أنه كان الرجل فيما مضى لا يستحق أن يقال له: عابد حتى يعبد الله ألف شهر كانوا يعبدون فيها.
قوله عزّ وجلّ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ «1» قال أبو هريرة: الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصا.
وفي «الروح» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جبريل، قاله الأكثرون.
(1559) وفي حديث أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلُّون ويسلِّمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزّ وجلّ.
والثاني: أن الروح: طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر، قاله كعب، ومقاتل بن حيان.
والثالث: أنه ملَك عظيم يفي بخلق من الملائكة، قاله الواقدي.
قوله عزّ وجلّ: فِيها أي: في ليلة القدر بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي: بما أمر به وقضاه مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قال ابن قتيبة: أي: بكل أمر. قال المفسرون: يتنزَّلون بكل أمر قضاه الله في تلك السنة إلى قابل. وقرأ ابن عمر، وابن عباس وأبو العالية، وأبو عمرو الجونيّ «من كل امرئ» بكسر الراء وبعدها همزة مكسورة منوَّنة، وبوصل اللام من غير همز.
ولهذه القراءة وجهان: أحدهما: من كل مَلَك سلام. والثاني: أن تكون «من» بمعنى «على» تقديره: على كل أمر من المسلمين سلام من الملائكة، كقوله عزّ وجلّ: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا والقراءة الموافقة لخط المصحف هي الصواب. ويكون تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ «من كل أمر» ثم ابتدأ فقال عزّ وجلّ: سَلامٌ هِيَ أي: ليلة القدر سلام.
وفي معنى السلام قولان: أحدهما: أنه لا يحدث فيها داءٌ ولا يُرسَل فيها شيطان، قاله مجاهد.
والثاني: أن معنى السلام: الخير والبركة، قاله قتادة. وكان بعض العلماء يقول: الوقف على «سلام» على معنى تنزَّل الملائكة بالسلام.
__________
كثير» 4/ 567، وهذا مرسل، فهو واه. وأخرجه الطبري 37713 عن مجاهد موقوفا عليه، وهو أصح.
الخلاصة: المرفوع واه، والصواب عن أهل التفسير. وانظر «أحكام القرآن» 2337.
ضعيف جدا. أخرجه البيهقي في «الزهد» 3717 من حديث أنس بأتم منه، وفيه صرح بن حوشب وهو متروك متهم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 634: أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة ينزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له.(4/473)
قوله عزّ وجلّ: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة «مطلَع» بفتح اللام. وقرأ الكسائي بكسرها. قال الفراء: والفتح أقوى في قياس العربية، لأن المطلَع بالفتح: الطّلوع، وبالكسر: الموضع الذي تطلع منها، إلا أن العرب تقول: طلعت الشمس مطلِعاً، بالكسر، وهم يريدون المصدر، كما تقول: أكرمتك كرامة، فتجتزئ بالاسم من المصدر. وقد شرحنا هذا المعنى في «الكهف» «1» عند قوله عزّ وجلّ: مَطْلِعَ الشَّمْسِ. شرحا كافيا، ولله الحمد.
__________
(1) الكهف: 9.(4/474)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
سورة البيّنة
وتسمى سورة لم يكن «1» . وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الجمهور. والثاني: مكّيّة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره يحيى بن سلام.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ أي:
ومن المشركين، وهم عبدة الأوثان مُنْفَكِّينَ أي: منفصلين وزائلين- يقال: فككت الشيء، فانفك، أي: انفصل- والمعنى: لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ أي: أتتهم، فلفظه لفظ المستقبل، ومعناه الماضي. والْبَيِّنَةُ الرّسول، وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم وذلك أنه بَيَّنَ لهم ضلالهم وجهلهم.
وهذا بيان عن نعمة الله على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية:
لم يختلفوا أن الله يبعث إليهم نبياً حتى بعث فافترقوا. وقال بعضهم: لم يكونوا ليتركوا منفكين عن حجج الله حتى أُقيمت عليهم البَيِّنة، والوجه هو الأول. والرسول هاهنا محمّد صلّى الله عليه وسلم. ومعنى يَتْلُوا صُحُفاً أي: ما تضمنته الصحف من المكتوب فيها، وهو القرآن. ويدل على ذلك أنه كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه لا من كتاب. ومعنى «مُطَهرة» أي: من الشرك والباطل. فِيها أي: في الصحف كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي: عادلة مستقيمة تُبِيِّن الحق من الباطل، وهي الآيات. قال مقاتل: وإنما قيل لها:
كتب لما جمعت من أمور شتّى.
__________
(1) أخرج البخاري 4959 و 4960 ومسلم 799 والترمذي 3792 وأحمد 3/ 85 وابن سعد 2/ 340 وعبد الرزاق 20411 وأبو يعلى 2995 وابن حبان 7144 من حديث أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب: «إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا، قال: وسماني لك؟ قال نعم، فبكى» .(4/475)
قوله عزّ وجلّ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني: من لم يؤمن منهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه محمّد صلّى الله عليه وسلم. والمعنى: لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بُعِث، قاله الأكثرون. والثاني: القرآن، قاله أبو العالية. والثالث: ما في كتبهم من بيان نُبُوَّتِهِ، ذكره الماوردي. وقال الزجاج: وما تَفَرَّقوا في كفرهم بالنبيِّ إلا من بعد أن تَبَيَّنوا أنه الذي وُعِدُوا به في كتبهم.
قوله عزّ وجلّ: وَما أُمِرُوا أي: في كتبهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ. أي: إلا أن يعبدوا الله. قال الفراء: والعرب تجعل اللام في موضع «أن» في الأمر والإرادة كثيرا، كقوله عزّ وجلّ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «1» ، ويُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «2» . وقال في الأمر: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ «3» .
قوله عزّ وجلّ: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: موحِّدين لا يعبدون سواه حُنَفاءَ على دين إبراهيم وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ المكتوبة في أوقاتها وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ عند وجوبها وَذلِكَ الذي أُمروا به هو دِينُ الْقَيِّمَةِ قال الزجاج: أي دين الأمة القيِّمة بالحق. ويكون المعنى: ذلك الدِّينُ دين الملة المستقيمة «4» .
قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر بالهمزة في الكلمتين وقرأ الباقون بغير همز فيهما. قال ابن قتيبة: البريَّة: الخلق. وأكثر العرب والقراء على ترك همزها لكثرة ما جرت عليه الألسنة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. ومن الناس من يزعم أنها مأخوذة من بَرَيْتُ العود، ومنهم من يزعم أنها من البَرَى وهو التراب أي خلق من التراب، وقالوا: لذلك لا يهمز، وقال الزّجّاج:
لو كانت من البَرَي وهو التَراب لما قرنت بالهمز، وإنما اشتقاقها من بَرَأ الله الخلق، وقال الخطابي:
أصل البريَّة الهمز، إلا أنهم اصطلحوا على ترك الهمز فيها. وما بعده ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قال مقاتل: رضي الله عنهم بطاعته وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه. وكان بعض السلف يقول: إذا كنت لا ترضى عن الله، فكيف تسأله الرضى عنك؟! قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي خافه في الدنيا، وتناهى عن معاصيه «5» .
__________
(1) النساء: 26.
(2) الصف: 8.
(3) الصف: 8.
(4) الأنعام: 71.
(5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 643: وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، ولهذا قال: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. قال ابن العربي رحمه الله في «الإحكام» 4/ 437: أمر الله عباده بعبادته، وهي أداء الطاعة له بصفة القربة، وذلك بإخلاص النية بتجريد العمل عن كل شيء إلا لوجهه، وذلك هو الإخلاص. وإذا ثبت هذا فالنية واجبة في التوحيد، لأنها عبادة، فدخلت تحت هذا العموم دخول الصلاة، فإن قيل: فلم خرجت عنه طهارة النجاسة، وذلك يعترض عليكم في الوضوء؟ قلنا: إزالة النجاسة معقولة المعنى، لأن الغرض منها إزالة العين لكن بمزيل مخصوص فقد جمعت عقل المعنى وضربا من التعبد، كالعدة جمعت بين براءة الرحم والتعبد، حتى صارت على الصغيرة واليائسة اللتين تحقق براءة رحمهما قطعا، وليس في الوضوء غرض ناجز إلا مجرد التعبد، بدليل أنه لو أكمل الوضوء وأعضاؤه تجري بالماء، وخرج منه ريح بطل وضوءه.(4/476)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
سورة الزّلزلة
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله ابن عباس، وقتادة، ومقاتل، والجمهور. والثاني:
مكّيّة، قاله ابن مسعود، وعطاء وجابر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
قوله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي: حُرِّكت حركةً شديدةً، وذلك عند قيام الساعة.
وقال مقاتل: تتزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى يَنْكَسِرَ كلُّ ما عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقيَ ما على ظهرها من جبل، أو بناءٍ، أو شجر، ثم تتحرك وتضطرب، فتُخْرِج ما في جوفها. وفي وقت هذه الزلزلة قولان: أحدهما: أنها تكون في الدنيا، وهي من أشراط الساعة، قاله الأكثرون.
والثاني: أنها زلزلة يوم القيامة، قاله خارجة بن زيد في آخرين. قال الفراء: حدثني محمد بن مروان، قال: قلت للكلبي: أرأيت قول الله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها؟ فقال: هذه بمنزلة قوله عزّ وجلّ: وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً «1» فأضيف المصدر إلى صاحبه. وأنت قائل في الكلام: لأُعطيَنَّكَ عَطِيَّتَكَ، تريد عطية. والزِّلزال بالكسر المصدر، وبالفتح: الاسم. وقد قرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو حيوة والجحدريّ «زلزالها» بفتح الزاي.
قوله عزّ وجلّ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها فيه قولان «2» : أحدهما: ما فيها من الموتى، قاله ابن عباس. والثاني: كنوزها، قاله عطية. وجمع الفراء بين القولين، فقال: لفظت ما فيها من ذهب، أو فضّة أو ميت.
قوله عزّ وجلّ: وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها فيه قولان: أحدهما: أنه اسم جنس يعمّ الكافر والمؤمن،
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 643: أي هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حقّ تقواه، وعبده كأنه يراه، وعلم أنه إن لم يره فإنه يراه. وقال ابن جرير رحمه الله في «تفسيره» 12/ 658: يقول: لمن خاف الله في الدنيا في سرّه وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
(2) نوح: 18.(4/477)
وهذا قول من جعلها من أشراط الساعة، لأنها حين ابتدأت لم يعلم الكلُّ أنها من أشراط الساعة، فسأل بعضهم بعضاً حتى أيقنوا. والثاني: أنه الكافر خاصة، وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة، لأن المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها، والكافر جاحد لها لأنه لا يؤمن بالبعث، فلذلك يسأل.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال الزجاج: «يومئذ» منصوب بقوله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ وَأَخْرَجَتِ ففي ذلك اليوم تحدِّث بأخبارها، أي: تخبر بما عمل عليها.
(1560) وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنّ أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا.
قوله عزّ وجلّ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها قال الفراء: تحدِّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها. قال ابن عباس: أوحى لها، أي: أوحى إليها، وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها. وقال أبو عبيدة: «لها» بمعنى «إليها» . قال العجَّاج:
وحى لها القرار فاستقرّت قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أي: يرجعون عن موقف الحساب أَشْتاتاً أي:
فِرَقاً. فأهل الإيمان على حدةٍ وأهل الكفر على حِدة لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ وقرأ أبو بكر الصديق، وعائشة، والجحدري: «لِيَروْا» بفتح الياء. قال ابن عباس: أي ليروا جزاء أعمالهم. فالمعنى: أنهم يرجعون عن الموقف فرقاً لينزلوا منازلهم من الجنة والنار. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: تُحَدِّث أخبارها بأن ربَّك أوحى لها ليروا أعمالهم يومئذ يصدر الناس أشتاتاً. فعلى هذا: يرون ما عملوا من خير أو شر في موقف العرض.
__________
يشبه الحسن، أخرجه الترمذي 2429 و 3353 والنسائي في «التفسير» 713 وأحمد 2/ 374 وابن حبان 7360 من طرق عن ابن المبارك عن يحيى بن أبي سليمان به. إسناده لين، رجاله ثقات سوى يحيى بن أبي سليمان. قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوي يكب حدثه، ووثقه ابن حبان والحاكم، وقال ابن عدي: هو ممن تكتب أحاديثه وإن كان بعضها غير محفوظ. وذكر له ابن عدي أحاديث فيها غرابة، وليس هذا منها، وقد روى عنه غير واحد من الثقات كشعبة وابن أبي ذئب وغيرهما، فالرجل غير متفق على ضعفه كما ترى، - وقال الحافظ في «التقريب» : لين الحديث، ولحديثه شواهد بمعناه.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه الحاكم 2/ 532: من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 542 من طريق شعبة عن يحيى به. وصححه الحاكم، وقال الذهبي: يحيى هذا منكر الحديث قاله البخاري. قلت: أخذ الذهبي رحمه الله بالأشد، فقد تفرد البخاري بجرحه، في حين خالفه أبو حاتم فلينه، وابن حبان والحاكم فوثقاه. وله شاهد من حديث أنس، أخرجه البيهقي في «الشعب» 7296 لكنه من طريق رشدين بن سعد عن يحيى بن أبي سليمان، ورشدين واه، وهذا من أوهامه كونه عن أنس، والمحفوظ عن سليمان عن سعيد عن أبي هريرة. فهذا شاهد لا يفرح به. وله شاهد من حديث ربيعة الجرشي، أخرجه الطبراني 4596، وفيه ابن لهيعة ضعيف، وربيعة مختلف في صحبته، والجمهور على أن له صحبة. ويشهد لأصل معناه حديث مسلم 1013 والترمذي 2208 وابن حبان 6697 من حديث أبي هريرة- وقد ورد في تعليق ابن كثير رحمه الله السابق، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تقيء الأرض ... » الحديث.(4/478)
قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ قال المفسرون: من يعمل في الدنيا مثقال ذرة من الخير أو الشر يره، وقرأ أبان عن عاصم «ير» بضم الياء في الحرفين. وقد بَيَّنَّا معنى «الذَّرَّة» في سورة النساء وفي معنى هذه الرؤية قولان: أحدهما: أنه يراه في كتابه. والثاني: يرى جزاءه.
(1561) وذكر مقاتل: أنها نزلت في رجلين كانا بالمدينة، كان أحدهما يستقلُّ أن يعطيَ السائل الكِسْرة، أو التمرة، وكان الآخر يتهاون بالذّنب اليسير، فأنزل الله عزّ وجلّ هذا يُرَغِّبُهم في القليل من الخير، ويُحَذِّرهم اليسير من الشرّ.
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره هذا لا شيء.(4/479)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
سورة العاديات
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن مسعود، وعطاء، وعكرمة، وجابر. والثاني: مدنيّة، قاله ابن عباس، وقتادة، ومقاتل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
قوله عزّ وجلّ: وَالْعادِياتِ فيه قولان:
أحدهما: أنها الإبل في الحج، قاله علي، وابن مسعود، وعبيد بن عمير، والقرظي، والسدي.
وروي عن علي أنه قال: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال هذا في صفة وقعة بدر. قال: وما كان معنا يومئذ إلا فرس. وفي بعض الحديث أنه كان معهم فرسان.
والثاني: أنها الخيل في سبيل الله، قاله ابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، وقتادة، وعطية، والربيع، واللغويون. وكان ابن عباس يذهب إلى أن هذا كان في سريَّة، (1562) فروى عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث خيلاً، فلم يأته خبرها شهراً، فنزلت وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ضبحت بمناخرها فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قدحت بحوافرها الحجارة فأورت ناراً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً صبحت القوم بغارة فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أثارت بحوافرها التراب فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قال: صبحت الحي جميعا.
(1563) وقال مقاتل: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سريّة إلى حيّين من كنانة واستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، فأبطأ عنه خبرها، فجعل اليهود والمنافقون إذا رأوا رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم تناجَوْا، فيظن الرجل أنه قد قُتِلَ أخوه أو أبوه، أو عمه، فيجد من ذلك، فنزلت: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً
__________
أخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 6/ 651 عن ابن عباس به، ولم أقف على إسناد، وتفرد ابن مردويه به دليل وهنه.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره هذا لا شيء.(4/480)
فأخبر الله عزّ وجلّ كيف فعل بهم. قال الفراء: الضبح: أصوات أنفاس الخيل إذا عَدَوْنَ. وقال ابن قتيبة: الضبح: صوت حلوقها إذا عَدَتْ. وقال الزجاج: ضبحها: صوت أجوافها إذا عدت.
قوله عزّ وجلّ: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فيه خمس أقوال «1» : أحدها: أنها الخيل تُوري النار بحوافرها إذا جرت، وهذا قول الجمهور. قال الزجاج: إذا عدت الخيل بالليل، فأصابت بحوافرها الحجارة، انقدحت منها النيران. والثاني: أنها نيران المجاهدين إذا أُوقدت، روي عن ابن عباس. والثالث: مَكْرُ الرجال في الحرب، قاله مجاهد، وزيد بن أسلم. والرابع: نيران الحجيج بالمزدلفة، قاله القرظي.
والخامس: أنها الألسنة إذا ظهرت بها الحجج وأُقيمت بها الدلائل على الحق وفضح بها الباطل، قاله عكرمة.
قوله عزّ وجلّ: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً هي التي تغير على العَدُوِّ عند الصباح، هذا قول الأكثرين. وقال ابن مسعود: فالمغيرات صبحاً حين يُفيضون من جمع.
قوله عزّ وجلّ: فَأَثَرْنَ بِهِ قال الفرّاء: يريد به الوادي ولم يذكر قبل ذلك، وهذا جائز، لأن الغبار لا يثار إلا من موضع. والنقع: الغبار، ويقال: التراب. وقال الزجاج: المعنى: فأثرن بمكان عَدْوِهِنَّ، ولم يتقدم ذكر المكان، ولكن في الكلام دليل عليه، قوله: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قال المفسرون: المعنى: توسطن جمعاً من العدو، فأغارت عليهم. وقال ابن مسعود: فوسطن به جمعاً، يعني مزدلفة.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ هذا جواب القسم. والإنسان هاهنا: الكافر. قال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقال مقاتل: نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي وفي «الكَنُود» ثلاثة أقوال:
(1564) أحدها: أنه الذي يأكل وحده، ويمنع رِفْده، ويضرب عبده، رواه أبو أُمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه الكفور، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثالث: لَوَّام لِرَبِّهِ يَعُدُّ المصيبات، وينسى النِّعَم، قاله الحسن. قال ابن قتيبة: والأرض الكنود: التي لا تُنْبِتُ شيئاً.
قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله عزّ
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 37840 وكذا الطبراني 7778 و 7958 من حديث أبي أمامة، وإسناده ضعيف جدا لضعف جعفر بن الزبير، بل هو متروك، وكذبه شعبة.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 645: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها يعني: ألقت ما فيها من الموتى، قاله غير واحد من السلف، وهذه كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وكقوله: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ، وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيء» اه.(4/481)
وجلّ، تقديره: وإن الله على كفره لشهيد. والثاني: أنها ترجع إلى الإنسان، تقديره: إن الإنسان شاهد على نفسه أنه كنود، روي القولان عن ابن عباس «1» .
قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ يعني: الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ يعني: المال لَشَدِيدٌ.
وفي معنى الآية قولان: أحدهما: وإنه من أجل حُبِّ المال لبخيلٌ، هذا قول الحسن، وابن قتيبة، والزجاج. قال أبو عبيدة: ويقال للبخيل: شديد، ومُتَشَدِّدٌ قال طرفة.
أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَام ويَصْطَفي ... عَقِيلَةَ مَالِ البَاخِلِ المُتَشدِّدِ
والثاني: وإنه للخير لشديد الحبِّ، وهذا اختيار الفراء. قال: فكأن الكلمة لمَّا تقدم فيها الحب، وكان موضعه أن يضاف إليه «شديد» ، حذف الحبّ من آخره لما جرى ذكره في أوّله، ولرؤوس الآيات. ومثله: اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «2» فلما جرى ذكر الريح قبل اليوم طرحت من آخره.
قوله عزّ وجلّ: أَفَلا يَعْلَمُ يعني: الإنسان المذكور إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أي: أُثير وأُخرج وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي: مُيِّز واستُخرج. والتحصيل: تمييز ما يحصل. وقال ابن عباس: أُبرز ما فيها، وقال ابن قتيبة: مُيِّزَ ما فيها من الخير والشر. وقال أبو سليمان الدمشقي: المعنى: لو علم الإنسان الكافر ما له في ذلك اليوم لزهد في الكفر، وبادر إلى الإسلام. ثم ابتدأ فقال عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ وقال غيره: إنّما قرئت «إن» بالكسر لأجل اللام، ولو لاها كانت مفتوحة بوقوع العلم عليها.
فإن قيل: أليس الله خبيراً بهم في كل حال، فلم خص ذلك اليوم؟
فالجواب أن المعنى: أنه يجازيهم على أفعالهم يومئذ، ومثله: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ «3» ، معناه: يجازيهم على ذلك، ومثله: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ «4» .
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 669: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالموريات التي توري النيران قدحا، فالخيل توري بحوافرها، والناس يورونها بالزند، واللسان مثلا يوري بالمنطق، والرجال يورون بالمكر مثلا، وكذلك الخيل تهيج الحرب بين أهلها إذا التقت في الحرب، ولم يضع الله دلالة على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فكل ما أورت النار قدحا، فداخلة فيما أقسم به لعموم ذلك بالظاهر.
(2) إبراهيم: 18. [.....]
(3) النساء: 63.
(4) غافر: 16.(4/482)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
سورة القارعة
وهي مكّيّة بإجماعهم وقد ذكرنا تفسير فاتحتها في أول «الحاقّة» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ قال الزّجّاج اليوم منصوب على الظرف. المعنى: يكون يوم يكون الناس كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه غوغاء الجراد، قاله الفراء. قال ابن قتيبة: غوغاء الجراد: صغاره، ومنه قيل لعامة الناس: غوغاء. والثاني: أنه طير ليس ببعوض ولا ذِبَّان، قاله أبو عبيدة. والثالث: أنه ما تهافت في النار من البعوض، قاله ابن قتيبة. وكذلك قال الزّجّاج:
الفراش ما يُرى كصغار البَقِّ يتهافت في النار. وشَبَّه الناس في وقت البعث به وبالجراد المنتشر، لأنهم إذا بعثوا ماج بعضهم في بعض. وذكر الماوردي: أن هذا التشبيه للكفار، فهم يتهافتون في النار يوم القيامة تَهَافُتَ الفراش.
فأمّا «المبثوث» فهو المنتشر المتفرّق.
قوله عزّ وجلّ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وقد شرحناه في (سأل سائل) «1» ، و «المنفوش» الذي قد ندف. قال مقاتل: وتصير الجبال كالصوف المندوف. فإذا رأيت الجبل قلت: هذا جبل: فإذا مسسته لم تر شيئاً، وذلك من شِدَّة الهَوْل.
قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، أي: رجحت بالحسنات، وقد بَّينَّا هذه الآية في أول الأعراف «2» وبيَّنَّا معنى «عيشة راضية» في الحاقة «3» .
قوله عزّ وجلّ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، قرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرّف، والجحدري «فإمه»
__________
(1) المعارج: 9.
(2) الأعراف: 8.
(3) الحاقة: 21.(4/483)
بكسر الهمزة. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أُمُّ رأسه هاوية، يعني: أنه يهوي في النار على رأسه، هذا قول عكرمة، وأبي صالح. والثاني: أنها كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد قالوا: هَوَتْ أُمُّه، قاله قتادة. والثالث: أن المعنى، فمسكنُه النار. وإنما قيل لمسكنه: أمّه، لأنّ الأصل السّكون إلى الأمّهات. فالنّار لهذا كالأُمِّ، إذ لا مأوى له غيرها، هذا قول ابن زيد، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج، ويدل على صحة هذا.
(1565) ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: إذا مات العبد تلقى رُوحُه أرواحَ المؤمنين، فتقول له: ما فعل فلان؟ فإذا قال: مات، قالوا: ذُهِبَ به إلى أُمِّه الهاوية، فَبَئِسَتِ الأُمُّ، وبِئستِ المربَّيَة.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ يعني: الهاوية. قرأ حمزة، ويعقوب «ما هي» بحذف الهاء الأخيرة في الوصل، وإثباتها في الوقف. وقرأ الباقون بإثباتها في الحالين. قال الزّجّاج: الهاء في «هيه» دخلت في الوقف، لتبيين فتحة الياء، فالوقف «هيه» والوصل هي نار. والذي يجب اتباعُ المصحف.
والهاء فيه ثابتة فيوقف عليها، ولا توصل، قوله: نارٌ حامِيَةٌ أي: حارَّة قد انتهى حرها.
__________
تفرد ابن مردويه برفعه، كما في «الدر» 6/ 656 وهو غير حجة فيما ينفرد به. وأخرجه الحاكم 2/ 533 عن الحسن مرسلا، ومراسيل الحسن واهية. وورد من كلام أبي أيوب موقوفا عليه كما في «الدر» 6/ 656، وهو أصح، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» 2802 بتخريجنا.(4/484)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
سورة التّكاثر
وهي مكّيّة بإجماعهم وفي سبب نزولها قولان:
(1566) أحدهما: أنّ اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، فألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلّالا، فنزلت هذه فيهم، قاله قتادة.
(1567) والثاني: أنّ حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني سهم كان بينهما لحاء، فقال هؤلاء: نحن أكثر سيّدا، وأعزّ نفرا. وقال أولئك مثل هذا، فتعادّوا السّادة والأشراف أيّهم أكثر، فكثّرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعدّ موتانا، فزاروا القبور، فعدّوا موتاهم، فكثّرهم بنو سهم، لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية، فنزلت هذه فيهم قاله ابن السّائب، ومقاتل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
قوله تعالى: أَلْهاكُمُ وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، والشّعبي، وأبو العالية، وابن عمران، وابن أبي عبلة: «أَأَلهاكم» بهمزتين مقصورتين على الاستفهام. وقرأ معاوية، وعائشة «آلهاكم» بهمزة واحدة ممدودة استفهاماً أيضاً. ومعنى ألهاكم: شغلكم عن طاعة الله وعبادته.
وفي المراد بالتكاثر ثلاثة أقوال: أحدها: التكاثر بالأموال والأولاد، قاله الحسن. والثاني:
التفاخر بالقبائل والعشائر، قاله قتادة. والثالث: التشاغل بالمعاش والتجارة، قاله الضحاك.
وفي قوله عزّ وجلّ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ قولان: أحدهما: حتى أدرككم الموت على تلك الحال، فصرتم في المقابر زُوَّاراً ترجعون منها إلى منازلكم من الجنة أو النار، كرجوع الزائر إلى منزله.
والثاني: حتى زرتم المقابر فَعَدَدْتم من فيها من موتاكم.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 37869، 37870 عن قتادة، وليس فيه ذكر اليهود، والخبر ضعيف لإرساله، وذكر اليهود يبطل الخبر لأن المصنف نقل الإجماع على أن السورة مكية، وأخبار يهود مدنية.
عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ومقاتل، وكلاهما ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.(4/485)
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال الزّجّاج، هي ردع وتنبيه. والمعنى: ليس الأمر الذي ينبغي أن يكونوا عليه التّكاثر.
قوله عزّ وجلّ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ هذا وعيد والمعنى سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت. وقيل: العلم الأول: يقع عند نزول الموت. والثاني: عند نزول القبر.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ المعنى: لو تعلمون الأمر علماً يقيناً لَشَغَلَكم ما تعلمون عن التكاثر، والتفاخر. وجواب «لو» محذوف وهو ما ذكرنا. ثم أوعدهم وعيداً آخر فقال عزّ وجلّ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة «لتَرون» «ثم لتَرونها» بفتح التاء. فيها وقرأ ابن عامر والكسائيّ (لترون الجحيم) بضمّ التاء (ثم لتَرونها) بفتح التاء، وقرأ مجاهد، وعكرمة، وحميد، وابن أبي عبلة «لترون» ثم «لتُرونها» بضم التاء فيهما من غير همز، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أي: مشاهدة، فكان المراد ب «عين اليقين» نفسه، لأن عين الشيء: ذاته.
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ اختلفوا، هل هذا السؤال عام، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه خاص للكفار، قاله الحسن. والثاني: عام، قاله قتادة. وللمفسرين في المراد بالنعيم عشرة أقوال:
(1568) أحدها: أنه الأمن والصحة، رواه ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وتارة يأتي موقوفاً عليه، وبه قال مجاهد والشعبي.
(1569) والثاني: أنه الماء البارد، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
والثالث: أنه خبز البُرّ والماءُ العَذْبُ، قاله أبو أُمامة. والرابع: أنه ملاذ المأكول والمشروب، قاله جابر بن عبد الله. والخامس: أنه صحة الأبدان، والأسماع، والأبصار، قاله ابن عباس. وقال قتادة:
هو العافية. والسادس: أنه الغداء، والعشاء، قاله الحسن. والسابع: الصحة والفراغ، قاله عكرمة.
والثامن: كل شيء من لذة الدنيا، قاله مجاهد. والتاسع: أنه إنعام الله على الخلق بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلم، قاله القرظي. والعاشر: أنه صنوف النعم، قاله مقاتل.
والصحيح أنه عام في كل نعيم، وعام في جميع الخلق، فالكافر يسأل توبيخاً إذا لم يشكر المنعم، ولم يوحِّده. والمؤمن يسأل عن شكرها.
(1570) وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: «ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهن وأسأله عما سوى ذلك، بيت يُكنُّه، وما يقيم به صلبه من الطعام، وما يواري به عورته من اللباس» .
__________
لا يصح مرفوعا، إنما هو من كلام ابن مسعود، كذا أخرجه الطبري 37884. وورد من قول مجاهد برقم 37881 و 37883 عن الشعبي من قوله، وهو الصواب والمرفوع فيه انقطاع وضعف. وانظر «تفسير الشوكاني» 2809.
جيد. أخرجه الترمذي 3358 والحاكم 4/ 138 والطبري 37899 والبيهقي 4607 من طرق عن عبد الله بن العلاء بن زبر عن الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورجاله رجال البخاري سوى الضحاك بن عبد الرحمن، وهو ثقة. وانظر «تفسير الشوكاني» 2714.
أخرجه البيهقي 10368 بسند قوي عن الحسن مرسلا. وله شاهد من حديث عثمان، أخرجه الترمذي 2444 والحاكم 4/ 412 والطبراني 1/ 91، وإسناده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(4/486)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
سورة العصر
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، وابن الزّبير، والجمهور. والثاني: مدنيّة، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
قوله عزّ وجلّ: وَالْعَصْرِ فيه ثلاثة أقوال «1» :
أحدها: أنه الدَّهر، قاله ابن عباس، وزيد بن أسلم، والفراء، وابن قتيبة. وإنما أقسم بالدهر لأن فيه عبرة للناظر من مرور الليل والنهار على تقدير لا ينخرم. والثاني: أنه العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها، قاله الحسن وقتادة. والثالث: صلاة العصر، قاله مقاتل.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ قال الزجاج: هو جواب القسم. والإنسان هاهنا بمعنى الناس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس تريد الدراهم. والخسر والخسران في معنى واحد. قال أهل المعاني: الخسر: هلاك رأس المال أو نقصه. والإنسان إذا لم يستعمل نفسه وعمره فيما يوجب له الربح الدائم، فهو في خسران، لأنه عمل في إهلاك نفسه وعمره، وهما أكبر رأس ماله، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أي: صدَّقوا الله ورسوله، وعملوا بالطاعة وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ أي: بالتوحيد، والقرآن، واتباع الرسول وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ على طاعة الله، والقيام بشريعته. وقال إبراهيم في تفسير هذه السورة: إن الإنسان إذا عُمِّر في الدنيا لفي نقص وضعف، إلا المؤمنين، فإنهم يكتب لهم أجور أعمالهم التي كانوا يعملون في شبابهم وصحّتهم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 657: العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم، من خير وشر، وقال مالك، عن زيد بن أسلم: هو العشي، والمشهور الأول. وقال الشافعي رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. وقال الزمخشري في «الكشاف» 4/ 800: أقسم بصلاة العصر لفضلها، بدليل قوله تعالى وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وقوله عليه الصلاة والسلام: «من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله» متفق عليه، ولأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس على تجارتهم ومكاسبهم آخر النهار، واشتغالهم بمعايشهم.(4/487)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
سورة الهمزة
وهي مكّيّة بإجماعهم قال هبة الله المفسّر: وقد قيل: إنها مدنيّة. واختلف المفسّرون هل نزلت في حقّ شخص بعينه، أم نزلت عامّة؟ على قولين: أحدهما: نزلت في حقّ شخص بعينه.
ثم فيه ستة أقوال «1» : أحدها: الأخنس بن شريق، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال السّدّيّ، وابن السّائب. والثاني: العاص بن وائل السّهمي، قاله عروة. والثالث: جميل بن عامر، قاله ابن أبي نجيح. والرابع: الوليد بن المغيرة، قاله ابن جريج، ومقاتل. والخامس: أميّة بن خلف، قاله ابن إسحاق. والسادس: أبيّ بن خلف، حكاه الماوردي.
والقول الثاني: أنها نزلت عامّة لا في شخص بعينه، قاله مجاهد.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ اختلفوا في الهُمَزَة واللُّمَزَة هل هما [بمعنى واحد، أم مختلفان؟] على قولين: أحدهما: أنهما مختلفان.
ثم فيهما سبعة أقوال: أحدها: أن الهُمَزَة: المُغْتَاب، واللُّمَزَة: العيَّاب، قاله ابن عباس. والثاني:
أن الهُمَزَة: الذي يهمز الإنسان في وجهه. واللُّمَزَة: يَِلْمِزُه إذا أدبر عنه، قاله الحسن، وعطاء، وأبو العالية. والثالث: أن الهُمَزَة: الطعَّان في الناس، واللُّمَزَة: الطعَّان في أنساب الناس، قاله مجاهد.
والرابع: أن الهُمَزَة: بالعين، واللُّمَزَة: باللسان، قاله قتادة. والخامس: أن الهُمَزَة: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللُّمَزَة: الذي يَلْمِزهم بلسانه، قاله ابن زيد. والسادس: أن الهُمَزَة: الذي يهمز بلسانه، واللُّمَزَة: الذي يلمز بعينه، قاله سفيان الثوري. والسابع: أن الهُمَزَة: المغتاب، واللُّمَزَة:
الطاعن على الإنسان في وجهه، قاله مقاتل.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 688: والصواب من القول في ذلك، أن يقال: إن الله عم بالقول كل همزة لمزة، كل من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها.(4/488)
والقول الثاني: أن الهُمَزَة: العَيَّاب الطعان، واللُّمَزَة مثله. وأصل الهمز واللمز: الدفع، قاله ابن قتيبة، وكذلك قال الزجاج: الهُمَزَة اللُّمَزَة: الذي يغتاب الناس ويعضهم، قال ابن فارس: والعضيهة الكذب والبهتان قال الشاعر:
إذا لَقِيتُكَ عَنْ كُرْهٍ تُكَاشِرُني ... وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزة
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي جَمَعَ مالاً قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وروح: «جَمَّع» بالتشديد. والباقون بالتخفيف.
قوله عزّ وجلّ: وَعَدَّدَهُ قرأ الجمهور بتشديد الدال. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وابن يعمر بتخفيفها. وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: أحصى عَدَدَه، قاله السدي.
والثاني: أَعَدَّه لما يكفيه في السِّنين، قاله عكرمة. قال الزجاج: من قرأ «عدَّده» بالتشديد، فمعناه: عدَّده للدهور. ومن قرأ «عدده» بالتخفيف، فمعناه: جمع مالا وعدّده. أي: وقوما اتّخذهم أنصارا.
قوله عزّ وجلّ: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أخلده بمعنى يخلده، والمعنى: يظن ماله مانعاً له من الموت، فهو يعمل عمل من لا يظن أنه يموت كَلَّا أي: لا يخلده ماله ولا يبقى له لَيُنْبَذَنَّ أي:
ليُطْرَحَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وهو اسم من أسماء جهنم. سميت بذلك لأنها تحطم ما يُلقى فيها، أي:
تكسره، فهي تكسر العظم بعد أكلها اللحم. ويقال للرجل الأكول: إنه لَحُطَمة. وقرأ أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وابن أبي عبلة، وابن محيصن: «لينبذانِّ» بألف ممدودة، وبكسر النون، وتشديدها، أي: هو وماله.
قوله عزّ وجلّ: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي: تأكل اللحم والجلود حتى تقع على الأفئدة فتحرقها.
وقال الفرّاء: يبلغ ألمها للأفئدة. والاطِّلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى واحد، والعرب تقول: متى طلعَت أرضنا؟ أي: بلغتَ. وقال ابن قتيبة: تطّلع على الأفئدة، أي: تقوى عليها وتشرف. وخص الأفئدة، لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه، فأخبر أنهم في حال من يموت، وهم لا يموتون. وقد ذكرنا تفسير «المؤصدة» في سورة البلد «1» .
قوله عزّ وجلّ: فِي عَمَدٍ قرأ حمزة والكسائيّ، وخلف، وعاصم إلا حفصاً بضم العين، وإسكان الميم. وقرأ الباقون بفتحهما. قال الفرّاء وهما حيطان للعمود، وقرأ هارون عن ابن عمرو بضم العين وإسكان الميم. قال المفسرون: وهي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. و «في» بمعنى الباء. والمعنى: مطبَقة بعُمُدٍ. قال قتادة: وكذلك هو في قراءة عبد الله. وقال مقاتل: أُطبقت الأبواب عليهم، ثم شُدَّت بأوتادٍ من حديد، حتى يرجع عليهم غَمُّها وحَرُّها. و «ممدَّدة» صفة العُمُد، أي: أنها ممدودة مطوّلة، وهي أرسخ من القصيرة. وقال قتادة: هي عُمُدٌ يعذَّبون بها في النار. وقال أبو صالح:
«عمد ممددة» قال: القيود الطّوال.
__________
(1) البلد: 20.(4/489)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
سورة الفيل
وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ فيه قولان: أحدهما: ألم تُخْبَرْ، قاله الفراء. والثاني: ألم تَعْلَم، قاله الزجاج. ومعنى الكلام معنى التعجب. وأصحاب الفيل هم الذين قصدوا تخريب الكعبة وفي سبب قصدهم لذلك قولان «1» : أحدهما: أن أبرهة بني بيعةً وقال: لست منتهياً حتى أضيف إليها حَجَّ العرب، فسمع بذلك رجل من بني كنانة، فخرج، فدخلها ليلاً، فأحدث فيها، فبلغ ذلك أبرهة، فحلف ليسرنّ إلى الكعبة فيهدِمَها، قاله ابن عباس. والثاني: أن قوماً من قريش خرجوا في تجارة إلى أرض النجاشي فنزلوا في جنب بِيعَةٍ فأوقدوا ناراً، وشَوَوْا لحماً، فلما رَحَلُوا هَبَّت الرِّيح فاضطرم المكان ناراً، فغضب النجاشي لأجل البِيَعة، فقال له كبراء أصحابه- منهم حجر بن شراحيل، وأبو يكسوم-: لا تحزن، فنحن نَهدِم الكعبة، قاله مقاتل. وقال ابن اسحاق: أبو يكسوم اسمه أبرهة بن الأشرم. وقيل: كان أبرهة صاحب جيشه وقيل: وزيره، وحِجْر من قُوَّادِه.
ذكر الإِشارة إِلى القصة
ذكر أهل التفسير أن أبرهة لما سار بجنوده إلى الكعبة ليهدِمها خرج معه بالفيل، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على نَعَم الناس، فأصابوا إبلاً لعبد المطلب، وبعث بعض جنوده، فقال: سل عن شريف مكة، وأخبره أني لم آتِ لقتال، وإنما جئت لأهدِم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقيَ عبد المطلب بن هاشم، فقال: إن الملك أرسلني إليك لأخبركَ أنه لم يأتِ لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم ينصرف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، وما لنا به يد، إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه، فهو بيته
__________
(1) انظر قصة أصحاب الفيل في «دلائل النبوة» للبيهقي 1/ 85 و «السيرة النبوية» لابن هشام 1/ 43 و «تفسير السمرقندي» 3/ 512- 515 و «تفسير ابن كثير» 4/ 587- 591 و «تفسير البغوي» 4/ 494- 497. و «الدر» 6/ 672- 676 وخبر أبرهة ومحاولته هدم الكعبة، خبر مشهور بل متواتر وشهرته تغني عن الإسناد والله تعالى أعلم.(4/490)
وحرمه، وإن يخلّ بينه وبين ذلك، فو الله ما لنا به قوة. قال: فانطلق معي إلى الملك، فلما دخل عبد المطلب على أبرهة أعظمه، وأكرمه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان، فقال: حاجتي أن يردَّ عليَّ مائتي بعير أصابها. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، حين جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك لأهدمنّه، فلم تكلِّمني فيه، وكلَّمتني لإبل أصبتُها. فقال عبد المطلب: أنا ربُّ هذه الإبل، ولهذا البيت رَبُّ سيمنعه.
فأمر بإبله فَرُدَّت عليه، فخرج، وأخبر قريشاً، وأمرهم أن يتفرَّقوا في الشعاب ورؤوس الجبال خوفاً من مَعَرَّة الجيش إذا دخل، ففعلوا، فأتى عبد المطلب الكعبة، فأخذ بحلقة الباب، وجعل يقول:
يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لهم سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا
إنَّ عَدُوَّ البيت مَنْ عَادَاكا ... إمْنَعْهُمُ أن يُخْرِبُوا قُرَاكا
وقال أيضاً:
لاَ هُمَّ إنَّ المرء يمنع ... رحله وحلاله فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم عدوا مِحَالَكْ
جَرُّوا جميعَ بلادهم ... والفيلَ كي يَسْبُوا عِيَالَكْ
عَمِدُوا حِمَاك بكيدِهم ... جهلاً وما رَقَبُوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك
ثم إن أبرهة أصبح متهيئاً للدخول، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه، فأبى، فوجَّهوه إلى اليمن راجعاً، فقام يهرول، ووجَّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، وإلى المشرق ففعل مثل ذلك، فوجَّهوه إلى الحرم، فأبى، فأرسل الله طيراً من البحر.
واختلفوا في صفتها، فقال ابن عباس: كانت لهم خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وقال عكرمة: كانت لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال ابن إسحاق: كانت أمثال الخطاطيف.
واختلفوا في ألوانِها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كانت خضراء، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير.
والثاني: سوداء، قاله عبيد بن عمير. والثالث: بيضاء، قاله قتادة. وقال: وكان مع كل طير ثلاثة أحجار، حَجَرانِ في رجليه، وحجر في منقاره.
واختلفوا في صفة الحجارة فقال بعضهم: كانت كأمثال الحمص والعدس. وقال عبيد بن عمير:
بل كان الحجر كرأس الرجل وكالجمل، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك. وكان الحجر يقع على رأس الرجل، فيخرج من دبره. وقيل: كان على كل حجر اسم الذي وقع عليه، فهلكوا ولم يدخلوا الحرم، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فتساقطت أنامله، وانصدع صدره قطعتين عن قلبه، فهلك، ورأى أهل مكّة الطير قد أقبلت من ناحية البحر، فقال عبد المطلب: إن هذه الطير غريبة. ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس ينظر إلى القوم، فرجع يركض وهو يقول: هلك القوم جميعاً، فخرج عبد المطلب وأصحابه فغنموا أموالهم. وقيل: لم ينج من القوم إلّا أبو يكسوم، فسار، وطائر يطير على رأسه من فوقه، ولا يشعر به، حتى دخل على النجاشي، فأخبره بما أصاب القوم، فلما أتم كلامه رماه الطائر فمات، فأرى الله تعالى النجاشي كيف(4/491)
كان هلاك أصحابه.
واختلفوا كم كان بين مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين هذه القصة على ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وهو الأصح. والثاني: كان بينهما ثلاث وعشرون سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أربعون سنة، حكاه مقاتل.
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ وهو ما أرادوا من تخريب الكعبة فِي تَضْلِيلٍ أي: في ذهاب.
والمعنى: أن كيدهم ضَلَّ عما قصدوا له، فلم يصلوا إلى مرادهم وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ.
وفي «الأبابيل» خمسة أقوال: أحدها: أنها المتفرِّقة من هاهنا وهاهنا، قاله ابن مسعود، والأخفش. والثاني: أنها المتتابعة التي يتبع بعضها بعضاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل. والثالث:
الكثيرة، قاله الحسن، وطاوس. والرابع: أنها الجمع بعد الجمع، قاله عطاء، وأبو صالح، وكذلك قال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج: «الأبابيل» : جماعات في تفرقة. والخامس: المختلفة الألوان، قاله زيد بن أسلم. قال الفراء، وأبو عبيدة: «الأبابيل» لا واحد لها.
قوله عزّ وجلّ: تَرْمِيهِمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن يعمر وحميد وأبو حنيفة «يرميهم» بالياء. وقد بينا معنى «سجِّيل» في هود «2» ومعنى «العصف» في سورة الرّحمن «3» عزّ وجلّ.
في معنى «مأكول» ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون أراد به أنه أُخذ ما فيه من الحب فأكل، وبقي هو لا حب فيه. والثاني: أن يكون أراد العصف مأكول البهائم، كما يقال للحنطة: هذا المأكول ولمَّا يؤكل. وللماء: هذا المشروب ولمَّا يشرب، يريد أنهما مما يؤكل ويشرب، ذكرهما ابن قتيبة. والثالث:
أن المأكول هاهنا: الذي وقع فيه الأُكال. فالمعنى: جعلهم كَوَرَقِ الزَّرْعِ الذي جَفَّ وأُكل: أي: وقع فيه الأُكال، قاله الزّجّاج.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في «السيرة النبوية» 1/ 203: كون رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولد عام الفيل هو قول الجمهور.
وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6476. وقال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 4/ 659: سورة الفيل: هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله وأرغم آنافهم وخيّب سعيهم وأضلّ عملهم وردهم بشر خيبة، وكانوا قوما نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم يا معشر قريش لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثه النبي محمد صلّى الله عليه وسلم على خاتم الأنبياء.
(2) هود: 82.
(3) الرحمن: 12.(4/492)
سورة قريش
ويقال لها: سورة لإيلاف وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، قاله الجمهور. والثاني: مدنيّة، قاله الضّحّاك، وابن السّائب.
واختلف القرّاء في «لإيلاف» «1» فقرأ ابن عامر «لإلاف» بغير ياء بعد الهمزة، مثل: لعلاف. وقرأ أبو جعفر بياء ساكنة من غير همز. وروى حمّاد بن أحمد عن الشموني «2» بهمزتين مخففتين، الأولى:
مكسورة، والثانية: ساكنة على وزن لفعلان. وقرأ الباقون بهمزة بعدها ياء ساكنة، مثل لعيلاف.
وفي لام «لإيلاف» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها موصولة بما قبلها، المعنى: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش. وما قد ألفوا من رحلة الشتاء، والصيف هذا قول الفرّاء والجمهور. والثاني: أنها لام التعجّب، كأنّ المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت، قاله الأعمش، والكسائيّ. والثالث: أنّ معناها متّصل بما بعدها. المعنى: فليعبد هؤلاء ربّ هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، لأنهم كانوا في الرّحلتين آمنين، وإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرّض لهم، قال الزّجّاج: وهذا الوجه قول النّحويين الذي ترتضي أقوالهم. وقال ابن قتيبة: بعض الناس يذهب إلى أنّ هذه السورة وسورة الفيل واحدة، وأكثر الناس على أنهما سورتان، وإن كانتا متّصلتي الألفاظ. والمعنى: أنّ قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء. والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا شجر، وإنما كانت قريش تعيش فيه بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كلّ سنة، رحلة في الشتاء، ورحلة في الصيف إلى الشام. ولولا هاتان الرّحلتان لم يكن به مقام. ولولا أنهم بمجاورة البيت لم يقدروا على التصرّف، فلما قصد أصحاب الفيل هدم الكعب أهلكهم الله لتقيم قريش بالحرم، فذكّرهم الله نعمته بالسورتين. والمعنى: أنه أهلك أولئك ليؤلّف قريشا هاتين الرّحلتين اللّتين بها معاشهم، ومقامهم بمكّة. تقول: ألفت موضع كذا: إذا لزمته، وألفنيه الله، كما تقول: لزمت موضع كذا وكذا، وألزمنيه الله، وكرّر «لإيلاف» للتوكيد، كما تقول:
أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن كلّ الناس. وقال الزّجّاج: يقال: ألفت المكان ألفا، وآلفته إيلافا بمعنى واحد.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 700: والصواب من القراءة في ذلك عندي من قرأه لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ بإثبات الياء فيهما بعد الهمزة من آلفت الشيء أولفه إيلافا، لإجماع الحجة من القراء عليه.
(2) في الأزهرية «محمد بن حبيب الأشموني عن أبي يوسف الأعشى عن أبي بكر عن عاصم» . [.....](4/493)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
وأمّا قريش فهم ولد لنضر بن كنانة، وكل من لم يلده النضر فليس بقرشيّ. وقيل: هم ولد فهر بن مالك بن النّضر فمن لم يلده فهر فليس بقرشيّ. وإنما سمّوا قريشا لتجارتهم وجمعهم المال.
والقرش: الكسب. يقال: هو يقرش لعياله، ويقترش، أي: يكتسب. وقد سأل معاوية ابن عباس لم سمّيت قريش قريشا؟ فقال ابن عباس: بدابّة تكون في البحر يقال لها: القريش لا تمرّ بشيء من الغثّ والسمين إلّا أكلته. وأنشد:
وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سمّيت قريش قريشا
تأكل الغثّ والسّمين ولا تترك ... فيه لذي الجناحين ريشا
وقال ابن الأنباري: قال قوم: سمّوا قريشا بالاقتراش وهو وقوع الرّماح بعضها على بعض. قال الشاعر:
ولمّا دنا الرّايات واقترش القنا ... وطار مع القوم القلوب الرّواجف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قوله عزّ وجلّ: إِيلافِهِمْ قرأ أبو جعفر وابن فليح عن ابن كثير، والوليد بن عتبة عن ابن عامر، والثّعلبي عن ابن ذكوان، عنه «إلا فهم» بهمزة مكسورة من غير ياءٍ بعدها، مثل: علافهم. وروى الخزاعي عن ابن فليح، وأبان بن تغلب عن عاصم «إلفهم» بسكون اللام أيضاً. ورواه الشموني إلا حماداً بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة، ورواه حماد كذلك إلا أنه حذف الياء. وقرأ الباقون بهمزة، بعدها ياء ساكنة مثل «عيلافهم» . وجمهور العلماء على أن الرَّحلتين كانتا للتجارة، وكانوا يخرجون إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء لشدة برد الشام. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. قال الفراء: والرحلة منصوبة بإيقاع الفعل عليها.
قوله عزّ وجلّ: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
أي: ليوحِّدوه الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي: بعد الجوع، كما تقول: كسيتك من عري، وذلك أنّ الله آمَنَهم بالحرم، فلم يُتَعرَّض لهم في رحلتهم، وكان ذلك سببا لإطعامهم بعد ما كانوا فيه من الجوع. وروى عطاء عن ابن عباس قال: كانوا في ضُرٍّ ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرّحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى استَغْنوا.
قوله عزّ وجلّ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ وذلك أنهم كانوا آمنين بالحرم، إن حضروا حماهم، وإن سافروا قيل: هؤلاء أهل الحرم، فلا يَعْرِضُ لهم أحد.(4/494)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
سورة الماعون
ويقال لها: سورة أرأيت وفيها قولان: أحدهما: مكّيّة، قاله الجمهور. والثاني: مدنية، روي عن ابن عباس، وقتادة.
وقال هبة الله المفسّر: نزل نصفها بمكّة في العاص بن وائل، ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبيّ المنافق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ستة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين، قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في عمرو بن عائذ، قاله الضحاك. والثالث: في الوليد بن المغيرة، قاله السدي. والرابع: في العاص بن وائل، قاله ابن السائب. والخامس: في أبي سفيان بن حرب، قاله ابن جريج. والسادس: في أبي جهل، حكاه الماوردي.
وفي «الدين» أربعة أقوال: أحدها: أنه حكم الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس. والثاني: الحساب، قاله مجاهد، وعكرمة. والثالث: الجزاء، حكاه الماوردي. والرابع: القرآن، حكاه بعض المفسّرين.
ويَدُعُّ بمعنى يدفع. وقد ذكرناه في قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا والمعنى: أنه يدفع اليتيم عن حقه دفعاً عنيفاً ليأخذ ماله. وقد بينا فيما سبق أنهم كانوا لا يورِّثون الصغير، وقيل:
يدفع اليتيم إبعاداً له، لأنه لا يرجو ثواب إطعامه وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي: لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه لأنه مكذِّب بالجزاء.
قوله عزّ وجلّ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ»
نزل هذا في المنافقين الذين
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 667: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ إما عن فعلها بالكلية كما قاله ابن عباس، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا فيخرجها عن وقتها بالكلية، كما قاله مسروق وأبو الضحى، وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية.(4/495)
لا يرجون لصلاتهم ثواباً، ولا يخافون على تركها عقابا. فإن كانوا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم صلوا رياءً، وإن لم يكونوا معه لم يصلّوا، فذلك قوله: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وقال ابن مسعود: والله ما تركوها البتَّة ولو تركوها البتة كانوا كفاراً، ولكن تركوا المحافظة على أوقاتها. وقال ابن عباس: يؤخِّرونها عن وقتها.
ونقل عن أبي العالية أنه قال: هو الذي لا يدري عن كم انصرف، عن شفع، أو عن وتر. وردَّ هذا بعض العلماء فقال: هذا ليس بشيء، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد سها في صلاته «1» ، ولأنه قال عزّ وجلّ: عَنْ صَلاتِهِمْ ولم يقل: في صلاتهم، ولأن ذاك لا يكاد يدخل تحت طوق ابن آدم.
قلت: ولا أظن أبا العالية أراد السهو النادر، وإنما أراد السهو الدائم، وذلك ينبئنا عن التفات القلب عن احترام الصلاة، فيتوجَّه الذمُّ إلى ذلك لا إلى السهو. وفي الْماعُونَ ستة أقوال:
(1571) أحدها: الإبرة، والماء، والنار، والفأس، وما يكون في البيت من هذا النحو، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وإلى نحو هذا ذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية. وروى عنه أبو صالح أنه قال: الماعون: المعروف كلُّه حتى ذَكَرَ القِدر، والقصعة، والفأس. وقال عكرمة: ليس الويل لمن منع هذا، إنما الويل لمن جمعهنّ، فرأى في صلاته، وسها عنها، ومنع هذا. قال الزجاج: والماعون في الجاهلية: كل ما كان فيه منفعة كالفأس، والقدر، والدلو، والقداحة، ونحو ذلك، وفي الإسلام أيضاً.
والثاني: أنه الزكاة، قاله عليّ، وابن عمر، والحسن، وعكرمة، وقتادة. والثالث: أنه الطاعة، قاله ابن عباس في رواية. والرابع: المال، قاله سعيد بن المسيب، والزهري. والخامس: المعروف، قاله محمد بن كعب. والسادس: الماء، ذكره الفراء عن بعض العرب قال: وأنشدني:
يمج صَبِيرُهُ الماعون صبّا
والصّبير: السّحاب.
__________
ضعيف جدا. أخرجه ابن الديلمي في «زهر الفردوس» 4/ 168 من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف جدا لضعف عمرو بن شبيب، وفي الإسناد مجاهيل. وحسبه أن يكون من كلام أبي هريرة. وانظر «تفسير الشوكاني» 2823 بتخريجنا.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «التفسير» 20/ 195: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته، فضلا عن غيره، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهود في كتبهم قال ابن العربي: لأن السلامة من السهو محال. اه.
قلت: قوله وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقع له السهو، ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها، ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وتقدم.(4/496)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
سورة الكوثر
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: مدنيّة، قاله الحسن، وعكرمة، وقتادة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
وفي «الكوثر» ستة أقوال: أحدها: أنه نهر في الجنة.
(1572) روى البخاري في أفراده من حديث أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: بينا أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدُّرِّ المجوَّف. قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربّك عزّ وجلّ: فإذا طينه، أو طينته مسك أذفر.
(1573) وروى مسلم أيضاً في أفراده من حديث أنس أيضاً قال: أغفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسّما فقلنا له: لم ضحكت؟ فقال: «إنه أنزلت عليّ آنفاً سورة» فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى ختمها. وقال: «هل تدرون ما الكوثر؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هو نهر أعطانيه الله ربّي عزّ وجلّ في الجنة عليه خير كثير تَرِدُ عليه أمّتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم كواكب السماء، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» .
والثاني: أن الكوثر: الخير الكثير الذي أعطي نبيّنا صلّى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. والثالث: العلم والقرآن، قاله الحسن. والرابع: النبوة، قاله عكرمة. والخامس: أنه حوض رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي يكثر الناس
__________
صحيح. أخرجه البخاري 6580 وأحمد 3/ 191 و 289 وأبو يعلى 2876 والطبري 38173 والطيالسي 2813 من طرق عن همام عن قتادة عن أنس بن مالك به. وأخرجه أحمد 3/ 103 وابن المبارك في «الزهد» 1612 والطبري 38172 من طريق ابن أبي عدي عن حميد به. وأخرجه النسائي في «التفسير» 726 وأحمد 3/ 115 و 263 والآجري في «الشريعة» 949 و 950 وابن أبي شيبة 11/ 437 وابن حبان 6472 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 327 من طرق عن حميد به.
وأخرجه البخاري 4964 وأبو داود 4748 والترمذي 3356 و 3357 وأحمد 3/ 164 و 207 وابن ماجة 4305 والطبري 38170 و 38171 من طرق عن قتادة به.
صحيح. أخرجه مسلم 400 والبغوي في «التفسير» 2403 عن أبي بكر بن أبي شيبة به عن أنس.
- وأخرجه النسائي 2/ 133- 134 وأبو عوانة 2/ 121 من طريق علي بن مسهر به.(4/497)
عليه، قاله عطاء. والسادس: أنه كثرة أتباعه، وأمته، قاله أبو بكر بن عياش.
قوله عزّ وجلّ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وفي هذه الصلاة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة العيد. وقال قتادة: صلاة الأضحى. والثاني: أنها صلاة الصبح بالمزدلفة، قاله مجاهد. والثالث: الصلوات الخمس، قاله مقاتل.
وفي قوله عزّ وجلّ: وَانْحَرْ خمسة أقوال «1» : أحدها: اذبح يوم النحر، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عطاء ومجاهد والجمهور. والثاني: وضع اليمنى على اليسرى عند النحر في الصلاة رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس وهو قول عليّ رضي الله عنه، قال ابن جرير: فيكون المعنى ضع اليمنى على اليسرى عند النحر في الصلاة. والثالث: أنه رفع اليدين بالتكبير إلى النحر، قاله أبو جعفر محمد بن علي. والرابع: أن المعنى: صل لله، وانحر لله، فإن ناساً يصلون لغيره، وينحرون لغيره، قاله القرظي. والخامس: أنه استقبال القبلة بالنحر، حكاه الفراء.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ شانِئَكَ اختلفوا فيمن عنى بذلك على خمسة أقوال «2» :
أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي.
(1574) قاله ابن عباس: نزلت في العاص بن وائل، لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم على باب المسجد فوقف يحدثه حتى دخل العاص المسجد، وفيه أُناس من صناديد قريش، فقالوا له: مَن الذي كنتَ تُحَدِّث؟ قال: ذلك الأبتر، يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانوا يسمون من ليس له ابن: أبتر، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه السورة. وممن ذهب إلى أنها نزلت في العاص سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنه أبو جهل، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أبو لهب، قاله عطاء. والرابع:
عقبة بن أبي معيط، قاله شمر بن عطية. والخامس: أنه عنى به جماعة من قريش، قاله عكرمة.
والشّانئ: المبغض، والْأَبْتَرُ: المنقطع عن الخير.
__________
لم أره مسندا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 872 عن ابن عباس بدون إسناد.
وورد بنحوه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ذكره الشوكاني في «فتح القدير» 6174 وهذا إسناد ساقط. وكون الآية نزلت في العاص بدون هذه القصة. أخرجه الطبري 28216. من مرسل سعيد بن جبير، 38217 من مرسل مجاهد و 38218 من مرسل قتادة. وهو الراجح.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 724: وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك:
فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة وكذلك نحرك، اجعله له دون الأوثان، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له.
وحظك به من إعطائه إياك الكوثر، قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 674: وهذا الذي قاله أبو جعفر الطبري، في غاية الحسن وقد سبقه إلى هذا المعنى محمد بن كعب القرظي، وعطاء.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 674: يعني عدوك، وهذا يعم جميع من أنصف بذلك ممن ذكر وغيرهم. وقال الطبري رحمه الله 12/ 726: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبره أن مبغض رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الأقل الأذل المنقطع عقبه، فذلك صفة كل من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخص معين.(4/498)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
سورة الكافرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن مسعود، والحسن، والجمهور. والثاني: مدنية، روي عن قتادة. ذكر سبب نزولها: اختلفوا على ثلاثة أقوال «1» :
(1575) أحدها: أن رهطاً من قريش منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث لقوا العباس بن عبد المطلب، فقالوا: يا أبا الفضل: لو أن ابن أخيك أسلم بعض آلهتنا لصدقناه بما يقول ولآمنّا بإلهه، فأتاه العباس فأخبره فنزلت هذه السورة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(1576) والثاني: أن عتبة بن ربيعة، وأميّة بن خَلَف لقيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالا يا محمد: لا ندعك حتى تتبع ديننا، ونتبع دينك، فإن كان أمرنا رشداً كنتَ قد أخذتَ بحظِّك منه، وإن كان أمرك رشداً كنا قد أخذنا بحظنا منه، فنزلت هذه السّورة، قاله عبيد بن عمير.
(1577) والثالث: أنّ قريشا قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: إن سَرَّك أن نتبع دينك عاماً، وترجع إلى ديننا عاماً، فنزلت هذه السورة، قاله وهب. قال مقاتل في آخرين: نزلت هذه السورة في أبي جهل وفي المستهزئين، ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد. وأما قوله عزّ وجلّ: لا أَعْبُدُ فهو في موضع
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح ليس بثقة، روى الكلبي وأبو صالح عن ابن عباس تفسير ليس له أصل عنه. راجع ترجمتهما في «الميزان» . وانظر ما بعده.
عزاه المصنف لعبيد بن عمير، وهو تابعي، فهو مرسل. وأخرجه الطبري 38226 عن ابن إسحاق عن سعيد بن مينا به، وهذا مرسل. ويشهد له ما بعده.
مرسل. أخرجه عبد الرزاق 3727 عن وهب بن منبه مرسلا. ويشهد له ما قبله.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 675: هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون وهي آمرة بالإخلاص فيه، فقوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يشمل كل كافر على وجه الأرض ولكن المواجهون بهذا الخطاب هم كفار قريش. وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية.(4/499)
«من» ولكنه جعل مقابلا لقوله عزّ وجلّ: ما تَعْبُدُونَ وهي الأصنام.
وفي تكرار الكلام قولان «1» : أحدهما: أنها لتأكيد الأمر، وحسم أطماعهم فيه، قاله الفراء. وقد أنعمنا شرح هذا في سورة الرحمن «2» . والثاني: أن المعنى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ في حالي هذه وَلا أَنْتُمْ في حالكم هذه، عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ فيما أستقبل، وكذلك أنتم، فنفى عنه وعنهم ذلك في الحال والاستقبال، وهذا في قوم بأعيانهم، أعلمه الله عزّ وجلّ أنهم لا يؤمنون، كما ذكرنا عن مقاتل، فلا يكون حينئذ تكرارا، هذا قول ثعلب، والزّجّاج. وقوله عزّ وجلّ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فتح ياء «وليَ» نافع، وحفص، وأبان عن عاصم. وأثبت ياء «ديني» في الحالين يعقوب. وهذا منسوخ عند المفسّرين بآية السيف.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 676: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في المستقبل قاله البخاري وقيل أن ذلك تأكيد محض. وثم قول رابع، نصره أبو العباس ابن تيمية في بعض كتبه، وهو أن المراد بقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي الفعل لأنها جملة فعلية وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ نفي قبوله لذلك بالكلية، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفي الفعل ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا، وهو قول حسن. واستدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ على أن الكفر كله ملة واحدة، فورث اليهود من النصارى، وبالعكس، لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان.
(2) الرحمن: 13.(4/500)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
سورة النّصر
وهي مدنيّة بإجماعهم (1578) وفي أفراد مسلم من حديث ابن عباس أنها آخر سورة نزلت جميعا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ أي: معونته على الأعداء. وَالْفَتْحُ: فتح مكة قال الحسن: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة قالت العرب: أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان فدخلوا في دين الله أفواجاً. قال أبو عبيدة: والأفواج: جماعات في تفرقة.
قوله عزّ وجلّ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فيه قولان: أحدهما: أنه الصلاة، قاله ابن عباس. والثاني:
التسبيح المعروف، قاله جماعة من المفسرين. قال المفسرون: نُعِيَتْ إليه نفسُهُ بنزول هذه السورة، وأُعْلِم أنه قد اقترب أجله، فأُمر بالتسبيح والاستغفار ليختم له عمره بالزيادة في العمل الصالح «1» . قال ابن عباس: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ: داعٍ من الله، وَوَدَاع من الدنيا. قال قتادة: وعاش بعد نزول هذه السورة سنتين.
__________
صحيح، أخرجه مسلم 3024 والنسائي في «التفسير» 733 عن ابن عباس به.
__________
(1) أخرجه النسائي في «التفسير» 732 والطبراني 11903 من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس.(4/501)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
سورة المسد
وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
(1579) وسبب نزولها ما رواه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» صعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الصفا فقال: «يا صباحاه» . فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتُكم إن أخبرتُكم أن العدوَّ مصبِّحكم، أو ممسِّيكم، أما كنتم تصدقوني؟» قالوا: بلى. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . قال أبو لهب: تَباً لك، ألهذا دعوتنا جمعا؟ فأنزل الله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ومعنى: تبت خسرت يدا أبي لهب وَتَبَّ أي: وخسر هو. قال الفراء: الأول: دعاء، والثاني: خبر، كما يقول الرجل:
أهلكك الله وقد أهلكك، وجعلك الله صالحاً وقد جعلك. وقيل: ذكر يديه، والمراد نفسه، ولكن هذا عادة العرب يعبِّرون ببعض الشيء عن جميعه، كقوله عزّ وجلّ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «2» . وقال مجاهد: «تبت يدا أبي لهب وتب» ولد أبي لهب. فأما أبو لهب فهو عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقيل: إن اسمه عبد العزى. وقرأ ابن كثير وحدُه «أبي لَهْبٍ» بإسكان الهاء. قال أبو عليّ: يشبه أن يكون كالسّمع والسّمع، والنَّهْرِ والنَّهَرِ.
فإن قيل: كيف كناه الله عزّ وجلّ، وفي الكنية نوع تعظيم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه إن صح أن اسمه عبد العُزَّى، فكيف يذكره الله بهذا الاسم وفيه معنى الشرك؟! والثاني: أن كثيراً من الناس اشتهروا بكناهم، ولم يعرف لهم أسماء. قال ابن قتيبة: خبِّرني غير واحد عن الأصمعي أن أبا عمرو بن العلاء، وأبا سفيان بن العلاء اسماهما كناهما، فإن كان اسم أبي لهب كنيته، فإنما ذكره بما لا يعرف إلّا به.
قوله عزّ وجلّ: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ، قال ابن مسعود:
__________
متفق عليه، وتقدم في سورة الشعراء، الآية: 214.
__________
(1) الشعراء: 214.
(2) الحج: 10.(4/502)
(1580) لمّا دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقربيه إلى الله عزّ وجلّ قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً، فإني أفتدي بمالي، وولدي، فقال الله عزّ وجلّ: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ قال الزجاج: و «ما» في موضع رفع. المعنى: ما أغنى عنه ماله وكسبه أي: ولده. وكذلك قال المفسرون:
المراد بكسبه هاهنا: ولده. و «أغنى» بمعنى يغني سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي: تلتهب عليه من غير دخان وَامْرَأَتُهُ أي: ستصلى امرأته، وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان. وفي هذا دلالة على صحة نبوّة نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام، لأنه أخبر بهذا المعنى أنه وزوجته يموتان على الكفر، فكان ذلك، إذا لو قالا بألسنتهما: قد أسلمنا، لوجد الكفار متعلقا في الرّدّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، غير أن الله علم أنهما لا يسلمان باطنا ولا ظاهرا، فأخبره بذلك.
قوله عزّ وجلّ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها كانت تمشي بالنميمة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسّدّيّ، والفرّاء. قال ابن قتيبة: فشبَّهوا النميمة بالحطب، والعداوة والشحناء بالنار، لأنهما يقعان بالنميمة، كما تلتهب النار بالحطب. والثاني: أنها كانت تحتطب الشوك، فتلقيه في طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلاً، رواه عطية عن ابن عباس. وبه قال الضحاك، وابن زيد. والثالث: أن المراد بالحطب: الخطايا، قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنها كانت تعيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالفقر، وكانت تحتطب فعيّرت بذلك، قال قتادة. وليس بالقوي، لأن الله تعالى وصفه بالمال. وقرأ عاصم وحده حَمَّالَةَ الْحَطَبِ بالنصب.
قال الزجاج: من نصب «حمالةَ» فعلى الذَّم. والمعنى: أعني: حمالةَ الحطب. والجيد: العُنُق.
والمَسَدُ في لغة العرب: الحَبْل إذا كان من ليف المُقْل. وقد يقال لما كان من أوبار الإبل من الحبال:
مسد. قال الشاعر:
ومسد أمرّ من أيانق «2»
وقال ابن قتيبة: المَسَد عند كثير من الناس: اللِّيف دون غيره، وليس كذلك، إنما المسد: كُلُّ ما ضُفِرَ وفُتِل من اللِّيف وغيره.
واختلف المفسرون: في المراد بهذا الحبل على ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنها حبال كانت تكون
__________
لم أقف له على إسناد، وذكره ابن كثير في «التفسير» 4/ 681 بصيغه التمريض بقوله: وذكر عن ابن مسعود.
والصواب في هذا الحديث المتقدم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 681: كانت عونا لزوجها على كفره، وجحوده وعناده، فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم، ولهذا قال تعالى: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ يعني تحمل الحطب فتلقي على زوجها يزداد على ما هو فيه، وهي مهيأة لذلك مستعدة له.
(2) هو صدر بيت لعمارة بن طارق وعجزه:
صهب عتاق ذات مخ زاهق
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 738: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو حبل جمع من أنواع مختلفة. قال ابن كثير رحمه الله: وقال بعض أهل العلم في قوله تعالى: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ في عنقها حبل من نار جهنم ترفع به إلى شفيرها ثم ترمى إلى أسفلها. ثم كذلك دائما.(4/503)
بمكة، رواه العَوفي عن ابن عباس وقال الضحاك: حبل من شجر كانت تحتطب به. والثاني: أنه قلادة من وَدَع، قاله قتادة. والثالث: أنه سلسلة من حديد ذَرْعُها سبعون ذراعاً، قاله عروة بن الزبير، وقال غيره: المراد بهذا الحبل: السلسلة التي ذكرها الله تعالى في النار، طولها سبعون ذراعاً. والمعنى: أن تلك السلسلة قد فتلت فتلاً مُحْكَماً، فهي في عنقها تعذَّب بها في النار.(4/504)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
سورة الإخلاص
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن مسعود، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر.
والثاني: مدنية، روي عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك.
(1581) وقد روى البخاري في أفراده من حديث أبي سعيد الخدري أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده إنها لَتَعْدِل ثُلُثَ القرآن» .
(1582) وروى مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّها تعدل ثلث القرآن» . وفي سببها نزولها ثلاثة أقوال:
(1583) أحدها: أن المشركين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم انسب لنا ربك، فنزلت هذه السورة، قاله أُبَيّ بن كعب.
(1584) والثاني: أن عامر بن الطّفيل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إلام تدعونا يا محمد؟ قال: إلى الله عزّ وجلّ. قال: صفه لي، أمن ذهب هو، أو من فضّة، أم من حديد، فنزلت هذه السورة، قاله ابن عباس.
(1585) والثالث: أن الذين قالوا هذا، قوم من أحبار اليهود قالوا: من أي جنس هو، وممّن
__________
صحيح. أخرجه البخاري 5013 و 6643 و 7374 ومالك 1/ 208 وأحمد 3/ 35 وأبو داود 1461 والنسائي 2/ 171 وابن حبان 791 كلهم من حديث أبي سعيد الخدري. وانظر «تفسير القرطبي» 6522.
صحيح. أخرجه مسلم 812 وأحمد 2/ 429 من حديث أبي هريرة. وانظر «تفسير الشوكاني» 2871 بتخريجنا.
حسن. أخرجه الترمذي 3364 وأحمد 5/ 134 والحاكم 2/ 540 والطبري 28298 والواحدي 880 من حديث أبي العالية عن أبيّ بن كعب به، وإسناده لا بأس به، وله شواهد. وورد من مرسل أبي العالية: أخرجه الطبري 38300. وورد من حديث جبير: أخرجه أبو يعلى 2044 والطبري 38301 والواحدي في «أسباب النزول» 881 وفي «الوسيط» 4/ 570- 571. وإسناده ضعيف، فيه مجالد بن سعيد، وهو ضعيف. وورد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 38299، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
عزاه البغوي في «التفسير» 4/ 544 لأبي صالح وأبي ظبيان عن ابن عباس، وأبو صالح متهم في روايته عن ابن عباس، وراوية أبي ظبيان ابنه قابوس، وهو ضعيف. ولا يصح هذا الخبر، وتقدم ذكر أربد في سورة الرعد.
لم أره عن الضحاك مسندا، ومرسل قتادة، أخرجه الطبري 38303، ولا يصح هذا الخبر، فإن السورة(4/505)
ورث الدنيا، ولمن يورِّثها؟ فنزلت هذه السورة، قاله قتادة، والضّحّاك. وقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أحدٌ اللهُ» وقرأ أبو عمرو «أحدُ اللهُ» بضم الدال، ووصلها باسم الله. قال الزّجّاج: هو كناية عن ذكر الله عزّ وجلّ. والمعنى: الذي سألتم تبيين نسبته هو الله.
و «أحد» مرفوع على معنى: هو أحد، فالمعنى: هو الله، وقرئت «أحدٌ اللهُ الصمد» بتنوين أحد، وقرئت «أحد الله الصمد» بترك التنوين، وقرئت بإسكان الدال «أحدْ اللهُ» وأجودها الرفع بإثبات التنوين، وكُسِرَ التنوين لسكونه وسكون اللام في «الله» ، ومن حذف التنوين، فلالتقاء الساكنين أيضاً، ومن أسكن أراد الوقف ثم ابتدأ «الله الصمد» وهو أردؤها.
فأما «الأحد» فقال ابن عباس، وأبو عبيدة: هو الواحد. وفرَّق قوم بينهما. وقال أبو سليمان الخطابي: الواحد: هو المنفرد بالذات، فلا يضاهيه أحد.
والأحد: هو المنفرد بالمعنى، لا يشاركه فيه أحد. وأصل «الأحد» عند النحويين: الوحد، ثم أبدلوا عن الواو الهمزة وفي «الصمد» أربعة أقوال:
(1586) أحدها: أنه السيِّد الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائج، رواه ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الصَّمَدُ: السّيّد الذي كمل في سؤدده. وقال أبو عبيدة: هو السيد الذي ليس فوقه أحد. والعرب تسمي أشرافها: الصَّمد. قال الأسدي:
لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعي بِخَيْريْ بَني أَسَدْ ... بعمرو بن مَسْعودٍ وبالسَّيدِ الصَّمَدْ
وقال الزجاج: هو الذي ينتهي إليه السُّؤدُد، فقد صمد له كلّ شيء أي قصد قصده. وتأويل صمود كل شيء له: أن في كل شيء أثر صُنْعه. وقال ابن الأنباري: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد: السيد الذي ليس فوقه أحد تصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم.
والثاني: أنه الذي لا جوف له، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسّدّيّ. وقال ابن قتيبة: وكان الدال من هذا التفسير مبدلة من تاء، والمصمت من هذا. والثالث: أنه الدائم. والرابع: الباقي بعد فناء الخلق، حكاهما الخطابي وقال: أصح الوجوه الأول، لأن الاشتقاق يشهد له، فإن أصل الصمد: القصد. يقال: اصمد صمد فلان، أي اقصد قصده.
فالصمد: السيد الذي يصمد إليه في الأمور، ويقصد في الحوائج.
قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَلِدْ قال مقاتل: لم يلد فيورَّث وَلَمْ يُولَدْ فيشارَك، وذلك أن مشركي العرب قالوا: الملائكة بناتُ الرحمن. وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فبرّأ الله نفسه من ذلك.
وقوله عزّ وجلّ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ قرأ الأكثرون بالتثقيل والهمز. ورواه حفص بالتثقيل وقلب الهمز واواً. وقرأ حمزة بسكون الفاء. والكفء: المثل المكافئ. فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولم يكن له أحد كفوا، فقدّم وأخّر لتتّفق رؤوس الآيات.
__________
مكية، وأخبار اليهود وسؤالاتهم مدنية، والراجح في ذلك الحديث 1583.
لم أقف عليه، وتفرد المصنف بذكره دون سائر المفسرين أمارة لوهنه أو وضعه لخلوه عن كتب الحديث والأثر والتفسير، ولو صح مرفوعا ما اختلف المفسرون في تأويل «الصمد» .(4/506)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
سورة الفلق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة في آخرين.
والثاني: أنها مكية، رواه كريب عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر. والأول أصح، ويدل عليه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سحر وهو مع عائشة، فنزلت عليه المعوذتان.
(1587) فذكر أهل التفسير في سبب نزولهما: أن غلاماً من اليهود كان يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يزل به اليهود حتى أخذ مُشَاطة رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعِدَّة أسنانٍ من مُشْطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها. وكان الذي تولَّى ذلك لبيد بن أعصم اليهودي. ثم دسَّها في بئر لبني زريق، يقال لها: بئر ذروان.
ويقال: ذي أروان، فمرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وانتثر شعر رأسه، وكان يرى أنه يأتي النساء وما يأتيهنّ، ويخيّل إليه أن يفعل الشيء، وما يفعله، فبينا هو ذات يوم نائم أتاه مَلَكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما بال الرجل؟ قال: طُبَّ. قال: وما طُبَّ؟ قال: سُحِر.
قال: ومن سَحَره؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: وبم طَبَّه؟ قال: بمُشْط ومُشَاطة. قال: وأين هو؟ قال:
في جُفِّ طلعةٍ تحت راعوفة في بئر ذروان. والجف: قشر الطلع. والراعوفة: صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت. فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقِّي عليها، فانتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة أما شعرتِ أن الله أخبرني بدائي، ثم بعث علياً، والزبير، وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء تلك البئر، ثم رفعوا الصخرة، وأخذوا الجُفَّ، وإذا فيه مُشَاطة رأسه، وأسنان مشطه، وإذا وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبرة، فأنزل الله عزّ وجلّ المعوذتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة. ووجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم خِفَّة حين انحلت العُقْدَةُ الأخيرة، وجعل جبريل يقول: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن حاسد وعين، والله يشفيك. فقالوا: يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث فنقلته؟ فقال: «أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شرّا» .
__________
ذكره الحافظ ابن كثير 4/ 614- 615 بأتم منه، ونسبه للثعلبي، وقال: هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة. ولبعضه شواهد مما تقدم، والله أعلم. وانظر ما بعده.(4/507)
(1588) وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها حديث سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد بينا معنى «أعوذ» في أول كتابنا. وفي الْفَلَقِ ستة أقوال «1» :
أحدها: أنه الصبح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والقرظي وابن زيد، واللغويون قالوا: ويقال: هذا أبين من: فَلَق الصبح وَفَرَقَ الصبح. والثاني:
أنه الخلق كلّه. رواه الوالبي عن ابن عباس. وكذلك قال الضحاك: العلق: الخَلْق كلُّه. والثالث: سِجْن في جهنم، روي عن ابن عباس أيضاً. وقال وهب والسدي: جُبٌّ في جهنم. وقال ابن السائب: وادٍ في جهنم. والرابع: شجرة في النار، قاله عبد الله بن عمر. والخامس: أنه كُلُّ ما انفلق عن شيء كالصبح، والحَبُّ، والنَّوى، وغير ذلك، قاله الحسن. قاله الزجاج: وإذا تأملت الخلق بَانَ لك أن أكثره عن انفلاق، كالأرض بالنبات، والسحاب بالمطر. والسادس: أنه اسم من أسماء جهنم، قاله أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحبلي.
قوله عزّ وجلّ: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر: «خُلِق» بضم الخاء، وكسر اللام. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عام، وهو الأظهر. والثاني: أن شر ما خُلِق: إبليسُ وذُريته، قاله الحسن. والثالث: جهنم، حكاه الماوردي.
وفي «الغاسق» أربعة أقوال: أحدها: أنه القمر، روت عائشة قالت: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى القمر، فقال:
(1589) «استعيذي بالله من شره فإنه الغاسق إذا وقب» ، رواه الترمذي، والنسائي في كتابيهما.
قال ابن قتيبة: ويقال: الغاسق: القمر إذا كسف فاسودَّ. ومعنى وَقَبَ دخل في الكسوف.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3175 و 6063 ومسلم 2189 وابن ماجة 3545 وأحمد 6/ 63 وابن حبان 6584 عن عائشة قالت: مكث النبي صلّى الله عليه وسلم كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي، قالت عائشة: فقال لي ذات يوم «يا عائشة إن الله تعالى أفتاني في أمر استفتيته فيه، أتاني رجلان فجلس أحدهما عند رجليّ والآخر عند رأسي، فقال الذي عند رجليّ للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب يعني مسحورا، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم، قال: وفيم؟ قال في جفّ طلعة ذكره في مشط ومشاطة تحت رعوفة في بئر ذروان، فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: هذه البئر التي أريتها كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، وكأن ماءها نقاعة الحنّاء، فأمر به النبي صلّى الله عليه وسلم فأخرج، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، فهلا- تعني تنشّرت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم أمّا الله فقد شفاني، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا، قالت: «ولبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف ليهود» لفظ البخاري بحروفه في الرواية الثانية، فعليك به، ودع الروايات الواهية والضعيفة.
ضعيف. أخرجه أحمد 6/ 206 والبغوي في «شرح السنة» 1361 من طريق وكيع عن ابن أبي ذئب عن خالد بن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن عائشة به. وأخرجه الترمذي 3366 وأحمد 6/ 61 و 206 و 215 و 237 و 252 وأبو يعلى 4440 وأبو الشيخ في «العظمة» 681 والحاكم 2/ 541. والطبري 38377 من طرق عن ابن أبي ذئب به. -
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 748: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أمر نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم أن يقول: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ والفلق من كلام العرب: فلق الصبح.
وقال ابن كثير رحمه الله وهذا هو الصحيح، وهو اختيار البخاري في «صحيحه» رحمه الله تعالى. [.....](4/508)
(1590) والثاني: أنه النجم، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
والثالث: أنه الليل، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والقرظي، والفراء، وأبو عبيد، وابن قتيبة، والزجاج. قال اللغويون: ومعنى «وقب» دخل في كل شيء فأظلم. و «الغسق» الظلمة. وقال الزّجّاج: الغاسق: البارد، وقيل لِلَّيل: غاسق، لأنه أبرد من النهار. والرابع: أنه الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام، والطواعين تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها، قاله ابن زيد.
فأما النَّفَّاثاتِ فقال ابن قتيبة: هن السواحر ينفثن، أي: يَتْفُلن إذا سحرن، ورَقَيْن. قال الزجاج: يَتْفُلْنَ بلا ريق، كأنه نفخ. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: تفسير نَفَثَ: نَفَخَ نفخاً ليس معه ريق، ومعنى تفل: نفخ نفخا معه ريق. وقال ذو الرّمّة:
ومن جوف ماء عرمض الحفل فوقه ... متى تحس منه ماتح القومِ يَتْفُلِ
وقد روى ابن أبي سُرَيج «النافثات» بألف قبل الفاء مع كسر الفاء وتخفيفها. وقال بعض المفسرين: المراد بالنَّفَّاثات هاهنا: بنات لبيد أعصم اليهودي سحرن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ يعني: اليهود حسدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا حدَّ الحسد في البقرة.
والحسد: أخس الطبائع. وأولُ معصية عُصِيَ الله بها في السماء حَسَدُ إبليس لآدم، وفي الأرض حسد قابيل لهابيل.
__________
وقد توبع الحارث عند أحمد في الرواية 6/ 215، تابعه المنذر بن أبي المنذر، وهو مجهول وأخشى أن يكون أخذه الحارث عن المنذر، وهو محتمل، فالمتن غريب. وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي:
حسن صحيح! قلت: والمتن غريب لأن عامة أهل التفسير والأثر على أن المراد بذلك الليل إذا دخل. أخرجه الطبري 38364 عن ابن عباس لكن سنده واه، وكرره عن الحسن 38365 وكرره 38366 عن القرظي، وكرره 38368 عن مجاهد والحسن، وكرره 38369 و 38370 عن الحسن. وكرره 38371 عن ابن عباس بسند رجاله ثقات لكن فيه إرسال، وهذه الروايات تتأيد بمجموعها، وهو الذي اختاره البخاري في «صحيحه» . فقال 8/ 741 «فتح» : وقال مجاهد: الفلق: الصبح، وغاسق الليل إذا وقب غروب الشمس. قلت: فهذا ما عليه عامة أهل العلم، ولو ثبت الحديث عند البخاري لرواه ولو تعليقا أو تبويبا.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 38375 عن أبي هريرة مرفوعا، وإسناده ضعيف، فيه محمد بن عبد العزيز، وهو متروك، وقال الحافظ ابن كثير 4/ 694: لا يصح رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم. وانظر «تفسير الشوكاني» 2893.(4/509)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
سورة النّاس
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها مكّيّة، رواه أبو كريب عن ابن عباس.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
فإن قيل: لم خص الناس هاهنا بأنه ربُّهم، وهو ربُّ كل شيء؟ فعنه جوابان جوابان: أحدهما:
لأنهم معظَّمون متميزون على غيرهم. والثاني: لأنه لما أمر بالاستعاذة من شَرِّهم أعلم أنه ربهم، ليعلم أنه هو الذي يعيذ من شرهم. ولما كان في الناس ملوك قال عزّ وجلّ: مَلِكِ النَّاسِ ولما كان فيهم من يعبد غيره قال عزّ وجلّ: إِلهِ النَّاسِ. والْوَسْواسِ الشيطان، وهو الْخَنَّاسِ يوسوس في الصدور، فإذا ذُكِرَ اللهُ، خَنَس، أي: كفَّ وأَقصر. قال الزّجّاج: الوسواس هاهنا: ذو الوسواس. وقال ابن قتيبة: الصدور هاهنا: القلوب. قال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل، وسوس، فإذا ذكر الله، خنس.
قوله عزّ وجلّ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ الجنّة: الجنّ. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: يوسوس في صدور الناس جِنَّتهم وناسهم، فسمى الجن هاهنا ناساً، كما سمّاهم رجالا في قوله عزّ وجلّ:
يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وسمّاهم نفرا بقوله عزّ وجلّ: اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ هذا قول الفراء. وعلى هذا القول يكون الوسواس موسوساً للجن، كما يوسوس للإنس. والثاني: أن الوسواس: الذي يوسوس في صدور الناس، هو من الجِنَّة، وهم من الجن. والمعنى: من شر الوسواس الذي هو من الجنّ. ثم عطف قوله عزّ وجلّ: وَالنَّاسِ على الْوَسْواسِ والمعنى: من شر الوسواس، ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من الجنّ والإنس «1» ، وهذا قول الزّجّاج.
تمّ الكتاب بحمد الله ومنّه.
__________
(1) فائدة: أخرج البخاري 5016 ومسلم 2192 ح 51 وأبو داود 3902 وأحمد 6/ 181 و 256 و 263 وابن حبان 2963 من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتهما.(4/510)
فهذا آخر «زاد المسير» ، والحمد لله على الإنعام الغزير، وإذ قد بلغنا بحمد الله مرادنا فيما أمّلنا، فلا يعتقدنّ من رأى اختصارنا أنّا أقللنا، فقد أشرنا بما ذكرنا إلى ما تركنا ودللنا، فليكن الناظر في كتابنا متيقظا لما أغفلنا، فإنّا ضمنّا الاختصار مع نيل المراد، وقد فعلنا. ومن أراد زيادة بسط في التفسير، فعليه بكتابنا «المغني» في التفسير. فإن أراد مختصرا، فعليه بكتابنا المسمّى ب «تذكرة الأريب في تفسير الغريب» . والحمد لله ربّ العالمين، أوّلا وآخرا وباطنا وظاهرا وصلواته على سيدنا محمّد النبيّ وآله أجمعين، وعلى أبيه آدم، وذريّته الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
ووافق الفراغ من هذا المجلّد وهو آخر الكتاب يوم الاثنين حادي والعشرين شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وثمانين وثمان مائة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خليفة غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدّعوات، ونقل هذا المجلّد جميعه من أصل ثم من أصل المصنّف وعليه سماع المصنّف وهو الشيخ الإمام العالم الأوحد جمال الدّين أبو الفرج عبد الرّحمن بن عليّ ابن الجوزي مصنّفه رضي الله عنه وأرضاه والحمد لله ربّ العالمين.
بلغ مقابلته بحسب الطاقة والإمكان ونعوذ بالله من الزّيادة والنّقصان.(4/511)
الفهارس
1- فهرس الأحاديث القدسية 515 2- فهرس الأحاديث والآثار النبوية 516 3- فهرس قوافي الأشعار 533 4- فهرس أنصاف الأبيات 549 5- المصادر والمراجع 550(4/513)
1- فهرس الأحاديث القدسية طرف الحديث الجزء/ الصفحة أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً 2/ 277 ادخلوا الجنة (لأصحاب الأعراف) ، فإني قد غفرت لكم 2/ 125 إِذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه 2/ 429 أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما المؤمن فقال: مطرنا بفضل الله 4/ 229 أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت 3/ 441 أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ 2/ 277 أنا أبلغهم عنكم 1/ 347 أنا أهل أن أُتقى فلا يشرك بي غيري 4/ 367 أنا العزيز، فمن أراد عِزَّ الدَّارَيْن فليُطِع العزيز 3/ 507 أنا عند ظن عبدي بي 4/ 264 أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه 3/ 470 أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ 4/ 26 أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ 4/ 26 انفخ نفخة الفزع (يقولها عز وجل لإسرائيل) 4/ 37 أنَّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ 4/ 340 إني خلقت عبادي حنفاء 3/ 423 ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهن، وأسأله عما سوى ذلك 4/ 486 قسمت الصلاة بيني وبين عبدي 2/ 542 كفى بنفْسك اليومَ عليكَ شهيداٍ، وبالكرام الكاتبين شهودا 4/ 49 لم تقنط عبادي؟ نبّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم 2/ 536 من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أَزِيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها 2/ 97 هل جزاءُ مَنْ أنْعَمْنا عليه بالتوحيد إلاّ الجنة؟! 4/ 214 يا آدم، قم فابعث بعث النار 3/ 221 يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني 4/ 174 يا أهل الجنة، هل رضيتم؟ 2/ 277 يا داود، إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة 2/ 103 يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ 3/ 582(4/515)
2- فهرس الأحاديث والآثار النبوية طرف الحديث الجزء/ الصفحة- الألف- آخر آية أنزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلم 1/ 13 آخر آية أنزلت: واتقوا 1/ 13 آخر آية نزلت: لقد جاءكم 1/ 13 آخر آية نزلت: يستفتونك 1/ 13 آخر سورة نزلت جميعا: إذا جاء 1/ 13، 4/ 501 آذني أصلي عليه 2/ 286 آلى صلّى الله عليه وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا 3/ 460، 4/ 305 الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه 1/ 254 ائتني بأربعة شهداء وإِلا فحدٌّ في ظهرك 3/ 281 ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها 4/ 470 أبطأتَ عليَّ حتى ساء ظني واشتقتُ إِليك 3/ 140 أبكي للذي عرض عليَّ أصحابُك من الفداء 2/ 224 أبوك وأبو عائشة والِيا الناس من بعدي 4/ 307 أتبع السيئة الحسنة تمحها 2/ 407 أتحلف 1/ 297 أتدرون ما أخبارها 4/ 478 أتدرون ما المعيشة الضنك 3/ 180 أتدري ما الجمعة؟ 4/ 282 أتردين عليه حديقته؟ 1/ 203 أتركهم حتى يتوب تائبهم 2/ 65 أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين 1/ 255 أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ 1/ 204 طرف الحديث الجزء/ الصفحة أتُعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم 3/ 560 اتق الله 3/ 467 اتق الله حيثما كنت 2/ 407 اتق الله واصبر وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله 4/ 298 اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله 2/ 539 أجاز صلّى الله عليه وسلم للمحرم قتل الحية والعقرب 1/ 585 اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم 4/ 113 اجتنبوا السبع الموبقات 1/ 396 أجدني مغموما 3/ 206 أجدني مكروبا 3/ 206 أجورهم: يدخلهم الجنة 1/ 503 أحب صلّى الله عليه وسلم أن يرى جبريل على حقيقته 4/ 184 أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود 3/ 563 احبسوا عليّ الركب 2/ 275 احترسوا من الناس بسوء الظن 4/ 151 أحسنت 1/ 577 اختصم يهود المدينة ونصارى نجران 1/ 102 أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان 2/ 167 أخذ صلّى الله عليه وسلم كفا من تراب فرماهم به 2/ 247 اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذِّن 2/ 232 اخرج يا أبا بكر، فهذا حين دلكت الشمس 3/ 45 اخرج يا فلان من المسجد فانك منافق 3/ 484 اخرجوا إلى أرض المحشر 4/ 254(4/516)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة اخرجوا إليه واكتموا 2/ 203 أخّرهم إلى ليلة الجمعة 2/ 472 ادعوا لي المقداد 1/ 472 ادعوا لي المقداد 1/ 452 إِذا أحب الله عبداً قال: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبوه 3/ 149 إِذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم 2/ 523 إذا أخذتم الساحر فاقتلوه 3/ 167 إِذا اقشعرَّ جِلْد العَبْد من خَشْية الله تحاتت ذنوبه 4/ 14 إِذا تكلَّم اللهُ بالوحي سمع أهلُ السماء صلصلة 3/ 497 إذا جَمَع اللهُ الخلائق يوم القيامة أمر مناديا 4/ 203 إِذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار 3/ 132 إِذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدَّ ولا يثرب 2/ 469 إذا ظننتم فلا تحققوا 4/ 151 إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم 1/ 22 إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان 2/ 185 إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة 4/ 473 إذا مات العبد تلقى رُوحُه أرواحَ المؤمنين 4/ 484 إِذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة 2/ 500 إذن ترعد له آنف كبيرة 4/ 286 أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن مَلَك من ملائكة الله 4/ 331 إذن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه 4/ 286 اذْهَبْ إِلى قريش فأَخْبِرْهم أنّا لَمْ نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارا 4/ 126 اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة 4/ 143 اذهب
فاذكرها عليّ 3/ 468 اذهب فاطرحه في القبض 2/ 186 اذهب فخذ سيفك 2/ 187 اذهب فسلهم عما كانوا يضحكون منه 2/ 274 أرأيتُكم إن أخبرتُكم أن العدوَّ مصبِّحكم أو ممسيكم 4/ 502 اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا 2/ 129 ارجع اليه فادعه 2/ 488 ارفق به وأحسن إليه 4/ 252 أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر 1/ 423 أري صلّى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة هو وأصحابه 3/ 34 أري صلّى الله عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه 3/ 35 أري صلّى الله عليه وسلم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلاً يقول له: لتدخلن المسجد الحرام 4/ 137 أريت ليلة القدر ثم أنسيتها 4/ 471 استشار صلّى الله عليه وسلم الناس يوم خرج إلى بدر 1/ 534 استعيذي بالله من شره، فإنه الغاسق إذا وقب 4/ 508 اسجدوا للرحمن 2/ 495 اسق ثم أرسل إلى جارك 1/ 428 اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر 1/ 428 اسقه عسلا 2/ 570 أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا 2/ 302 اشهدوا 4/ 196 أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر 4/ 229 اصبروا فإني لم أومر بالقتال 3/ 240 أضعفوا على العباس الفداء 2/ 226 اطلبوها الليلة (ليلة ثلاث وعشرين) 4/ 471 اعتكف صلّى الله عليه وسلم العشر الأوسط واعتكفنا معه 4/ 470 أعوذ بك من دعاء لا يسمع 1/ 111 أقتلته بعد ما قال: آمنت! 1/ 453 اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران 1/ 24 أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد 4/ 468(4/517)
اكتب: لا يستوي القاعدون 1/ 454 ألا احتطتَ فانَّ البِضْع ما بين السبع والتسع 2/ 441، 3/ 416 ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم 3/ 129 ألا أخبركم بخير من ذلك؟ 1/ 327 ألا أُخْبِرُكم لِمَ سمَّى اللهُ إِبراهيمَ خليله الذي وفّى 4/ 192 ألا أراكم تضحكون؟ 2/ 536 ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم 2/ 258 أَلا إِن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع 1/ 248 ألا أنبئكم بأكبر الكبائر 1/ 397، 398 ألا رجل صالح يحرسني الليلة 1/ 568 ألّا يحج بعد العام مشرك 2/ 232 التمسوها في العشر الأواخر من رمضان 4/ 470 التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين 4/ 470 الذي في عينيه بياض 3/ 197 الذين إذا رأوا ذكر الله عز وجلّ 2/ 337 ألست ترين أردّ عليهم ما يقولون 4/ 246 ألك بينة؟ 1/ 297 الله أخبرني 2/ 226 الله (يمنعني منك) 1/ 568 اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا 3/ 427 اللهم ارزق ثعلبة مالا 2/ 282 اللهم اشدد وطأتك على مضر 4/ 354 اللهم أَعِنِّي على قريش بسنين كَسِنِيِّ يوسف 3/ 268 اللهم اكفنيهما بما شئت 2/ 487 اللهم أنجز ما وعدتني 2/ 191 اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه 1/ 547 اللهم صلّ على آل أبي أوفى 3/ 551 اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير 1/ 99 اللهم لا يعلون علينا 1/ 328 اللهم هؤلاء أهلي 1/ 289 اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي 3/ 463 اللهم هل بلغت 3/ 152 ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا؟ أظننتم 1/ 342 ألم أنه عن القتال 3/ 444 ألم يقل الله: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم 2/ 200 إلى الله عز وجل (أدعكم) 4/ 505 إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله وأنِّي رسولُ الله 1/ 507 إليّ عباد الله، أنا رسول الله 1/ 335 أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شرا 4/ 507 أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم 2/ 252 أما إني لو قلت نعم لوجبت 1/ 591 أما ترضى أن تكون مثل نبي الله 2/ 281 أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب 3/ 513 أمَّا ما ظهر فالإِسلام وما سوَّى اللهُ من خلقك 3/ 433 أما واللهِ لا يسألوني خُطَّةً فيها تعظيمُ حرمة الله إلا أعطيتهم إياها 4/ 126 أمر صلّى الله عليه وسلم بالصفح عنهم 1/ 101 أمر صلّى الله عليه وسلم بقتل الكلاب 1/ 514 أمر صلّى الله عليه وسلم عليا أن يتخذ طعاماً ويدعو إِليه أشراف قريش من المشركين 3/ 28 أمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا 1/ 604 أمسك عليك زوجك واتق الله 3/ 467 أمسلمة جئت؟ 4/ 266 أن أبا لبابة ربط نفسه إلى سارية 2/ 203 أن إبليس جاء حواء فقال: ما يدريك 2/ 177 إنَّ أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقْعَدُه بالغداة والعشي 4/ 40 إن الإسلام لا يقال 3/ 225 أن الأولى كانت نسيانا من موسى 3/ 99(4/518)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة إِن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه 3/ 55 إن الله تعالى أعطاني السبع الطول مكان التوراة 4/ 141 أن الله تعالى أَنزل على إبراهيمَ عشر صحائف 4/ 191 إن الله تعالى بعثني مبلغا ولم يبعثني متعنتا 3/ 460 إِن الله تعالى حاط حائط الجنة لَبِنَة من ذهب ولبنة من فضة 3/ 254 إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها 1/ 51 إِن الله طَيِّب لا يقبل إِلا الطيِّب 3/ 115 إِن الله تعالى في ثلاث ساعات يبقَين من الليل ينظر في الكتاب 2/ 501 إن الله قد صدّقك 4/ 287 إن الله قد منعني أن أقبل صدقتك 2/ 282 إنَّ الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا 4/ 190 إن الله كتب عليكم الحج 1/ 590 إن الله لا يقبض العلم انتزاعا 3/ 52 إن الله لا يقبل إلا الطيب 1/ 590 إن الله لم يمسخ قوماً أو يهلك قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة 1/ 563 إِن الله يتعاهد المؤمن
بالبلاء كما يتعاهد 1/ 179 أن الله تعالى يجعل البحار كلَّها ناراً 4/ 176 إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الناس 2/ 103 إن الله تعالى يسلم على أهل الجنة 3/ 471 إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة 1/ 222 إِن الله تعالى يُنزل في كل ليلة ويوم 1/ 110 أن امرأةً حسناءَ كانت تصلي خلف رسول الله 2/ 531 أن تجعل لله ندا وهو خلقك 1/ 398، 3/ 328 أن تزاني حليلة جارك 1/ 398، 3/ 328 أن تصدّق وأنت صحيح شحيح 1/ 303 طرف الحديث الجزء/ الصفحة إِن تقبلوا مِنِّي ما جئتكم به فهو حظكم 3/ 52 أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك 1/ 398، 3/ 328 أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار، فانطبقت عليهم صخرة 2/ 428 أن جبريل أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان 2/ 203 أن جبريل جعل يدسُّ الطين في فم فرعون 2/ 348 إن الجنة لا يدخلها العجائز 3/ 197 إِن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين 1/ 209 أن داود سأل ربه أن يريه الميزان 2/ 103 إن الدخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار 4/ 88 إن ربكم حيي كريم 1/ 46 إِنَّ ربَّكم يقول كل يوم: أنا العزيز 3/ 507 إِن الرجل من بني إِسرائيل كان إِذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيراً 1/ 574 إِن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي 3/ 343 أن زكريا كان نجارا 3/ 120 إن الزمان قد استدار لهيئته يوم خلق الله السموات والأرض 1/ 165، 2/ 234 إن شئت أنبأتك بأبواب الخير 3/ 440 إِن عجزتم عن الليل أن تكابدوه وعن العدو 3/ 88 إن عفريتا من الجِنّ تفلَّت عليّ البارحةَ ليَقْطَعَ عَلَيَّ صلاتي 3/ 575 إِن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً 3/ 103 إنَّ فَضْل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب 4/ 178 إن فعلت تؤمنون؟ 4/ 196 إن فعلت تصدقوني؟ 2/ 65 إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب 3/ 196 إِن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته 4/ 152 إن كان وسادك إذا لعريض 1/ 149(4/519)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف 2/ 445 إن للمؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤةٍ واحدة مجوّفة 4/ 216 إن مقعد ملَكَيك على ثنيَّتيك ولسانُك قلمهما 4/ 160 إِن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت 1/ 491 إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء 2/ 337 إِنَّ من المنشَآت اللاّتي كُنَّ في الدنيا عجائز عمشا رمصا 4/ 224 إِن موسى قام خطيباً في بني إِسرائيل فسئل 3/ 94 إن موسى كان رجلا حييا 3/ 486 إن هذه الآية نزلت في القدرية 4/ 203 إِن يأجوج ومأجوج ليَحفرون السدَّ كل يوم 3/ 110 أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى 1/ 310 أن يطعمها إذا طعم ويكسوها 1/ 200 أنا أكرم ولد آدم على ربه 2/ 451 الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور 2/ 75 أنا بين خيرتين: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم 2/ 286 إنا حاملوك على ولد الناقة 3/ 197 أنا عَبْدُ الله ورسوله لن أُخالِف أمره 4/ 128 أنا على ملّة إبراهيم 1/ 304 أنا فرطكم على الحوض 3/ 161 أنا المنذر 2/ 484 أنت صاحب هذا الكلام؟ 4/ 286 أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد 3/ 530 أنت الهادي يا عليُّ، بك يُهتدى من بعدي 2/ 484 أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت 1/ 226 أنتم خصماء الله 4/ 203 أنشدُك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حدّ الزاني 1/ 547 طرف الحديث الجزء/ الصفحة أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين 2/ 53 انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شقتين 4/ 196 انصرفوا أيها الناس، فقد عصمني الله تعالى 1/ 568 انطلق صلّى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ 2/ 526، 4/ 112 انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه 2/ 297 انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ 4/ 266 انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود 4/ 149 انظر في ذلك 1/ 465 أنفقه على نفسك 1/ 180 أنفقها على خادمك 1/ 180 أنفقها على قرابتك 1/ 180 أنفقها على والديك 1/ 180 أنفقها في سبيل الله، وهو أحسنها 1/ 180 إنك قلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي 2/ 226 إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها 1/ 314 إنَّكم سَترُونَ ربَّكم عِيانا كما ترون هذا القمر 4/ 165 إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق 1/ 416 إنكن أكثر أهل النار 2/ 446 إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة 4/ 301 إنما ذلكم الله 4/ 144 إنما سمّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء 3/ 97 إِنما سمى الله البيت: العتيق، لأن الله أعتقه 3/ 234 إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قاله لقمان 2/ 49 إِنه أتاني داعي الجن فذهبت أُقْرِئهم القرآن 4/ 112 إنه أنزلت عليّ آنفا سورة 4/ 497 إنه أول من سن القتل 1/ 536 إنه ذهب في حاجة الله ورسوله 4/ 127 إنه سيأتيكم إِنسان ينظر إِليكم بعيني شيطان 4/ 250(4/520)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة إنه طلوع الشمس من مغربها 2/ 95 إنه عبد الله وروحه وكلمته إلى مريم 1/ 292 إنه كان ذهبا وفضة 3/ 104 إِنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب 1/ 316 إنه لَيُخفَّفُ على المؤمِن حتى يكون أَخَفَّ عليه من صلاة مكتوبة 4/ 336 إنه ليغان على قلبي 4/ 415 أنه مَلِكٌ
كان له ساحر فبعث إليه غلاما 4/ 425 إنه واد في جهنم 3/ 138 إِنَّها تذهب حتى تسجُد بين يَدَي ربِّها 3/ 524 إنها تعدل ثلث القرآن 4/ 505 إنها الحنظلة 2/ 512 إنها ذات وبر وريش 3/ 369 إنها (الزهرة) فتنت ملكين 1/ 95 إنها في علم الله قليل 3/ 434 إنها النخلة 2/ 510 أنهم قوم قُتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم 2/ 123 إني أراه من شراب شربته عند سودة 4/ 306 إِني أشهدكِ أن سِرِّيَّتي هذه عليَّ حرام رضى لك 4/ 305 إنِّي أُمِرْتُ أن أقرأ على الجن فأيُّكم يتبعني؟ 4/ 112 إني رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها 4/ 471 إِني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إِلا فرّج الله عنه 3/ 210 إني لست بشاعر ولا ينبغي لي 3/ 531 إِني لمَّا خرجت، جاء جبريل عليه السلام 2/ 536 إِني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله 1/ 499 أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ 1/ 547 الأوّاه: الخاشع الدعّاء المتضرّع 2/ 306 أوفاهما وأطيبهما 3/ 382 أو فعلته؟ 4/ 251 أو ليس قد بيّن الله تعالى ذلك 1/ 504 أول سورة أعلنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة 4/ 183 طرف الحديث الجزء/ الصفحة أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون 4/ 318 أول ما نزل من القرآن: اقرأ 1/ 12 أول من يُكْسى من أهل النار يوم القيامة إبليس 3/ 314 أي ذلك كتبت فهو كذلك 2/ 584 أي شيء تحبون؟ 2/ 65 أي عم، قل معي: لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله 2/ 304 أيام الله: نعم الله 2/ 504 إِيت بني النجّار فأقرئهم مني السلام وقل 1/ 450 أيكم أحسن عقلا، وأروع عن محارم الله عز وجل 2/ 359 أيكم يحتمل خبيباً عن خشبته وله الجنة 1/ 171 أيما حلف كان في الجاهلية 1/ 401 أين الذهب الذي تركته عند أم الفضل 2/ 226 أين ترون أن أصلي بكم 1/ 110 أيها الناس، البيعة، البيعة 4/ 133- الباء- بئس عبد الله 2/ 546 الباقيات الصالحات: لا إله إلا الله 3/ 88 بخ بخ، ذاك مال رابح 1/ 304 برئ من الشُّحِّ من أدَّى الزكاة وَقَرَى الضيف 4/ 260 البرق: مخاريق يسوق بها الملك السحاب 1/ 40 بالسيف 3/ 572 بشر الكنازين بكيّ في الجباه 2/ 256 بشراهم: الجنة 2/ 339 بعث صلّى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الموسم ليقيم للناس 2/ 231 بعث صلّى الله عليه وسلم إلى بعض فراعنة العرب يدعوه 2/ 487 بعث صلّى الله عليه وسلم سريَّة إِلى بني العنبر وأمَّر عليهم عيينة 4/ 145(4/521)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة بعث صلّى الله عليه وسلم غلاما يقال له مدلج إلى عمر 3/ 304 بعث صلّى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم 4/ 146 بعثنا صلّى الله عليه وسلم في سرية، فغنمنا إبلا 2/ 188 البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام 3/ 276 البكر تستأمر في نفسها 1/ 340 بل إلى كتاب الله 1/ 269 بل أنا وا رأساه 3/ 207 بل تحسن صحبته ما بقي معنا 4/ 287 بلى فانكحيه فإني قد رضيته لك 3/ 465 بلى والله، لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم 2/ 305 بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها 1/ 569 البيت المعمور: في السماء الدنيا 4/ 175 البيت المعمور: في السماء السابعة 4/ 175 بينا أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدر المجوّف 4/ 497 بينما أنا في الحطيم (أو في الحجر) 3/ 8 بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون 3/ 370 بيني وبينكم التوراة 1/ 269- التاء- تحب ذلك؟ 2/ 307 تخرج الدابَّة معها خاتم سليمان وعصا موسى 3/ 370 تخرج الدابة من شعب أجياد 3/ 370 تدرون أي يوم ذلك؟ 3/ 221 تسع، أعظمهن الإشراك بالله 1/ 397 تَسِم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن 3/ 371 تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار 3/ 46 تشويه النار فتقلِّص شفته العليا حتى تبلغ 3/ 271 تعطيني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟ 4/ 454 تقعد أيام أقرائها 1/ 198 طرف الحديث الجزء/ الصفحة تنزيه الله عن كل سوء 3/ 7 توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصلّ 2/ 405 التيمم: ضربة للوجه والكفين 1/ 413- الثاء- ثماني عشرة سنة 3/ 205- الجيم- جاء الحقّ وزهق الباطل 3/ 49 جاء رجل فقال: حدثني يا محمد عن إلهك 2/ 487 جاءت المجادلة فكلمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم 4/ 241 جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري 4/ 358 جبل من نار يكلف أن يصعده 4/ 363 جعل صلّى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة 3/ 237 جلس في فروة بيضاء فاخضرت 3/ 97 جنان الفردوس أربع، ثنتان من ذهب 3/ 113 الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين 3/ 113 جنتان من ذهب وجنتان من فضة 4/ 215- الحاء- حاربت يهود 4/ 253 الحج عرفة 1/ 164 حجي عنه 4/ 193 حرّض صلّى الله عليه وسلم على الصف الأول فازدحموا 2/ 532 حرّق صلّى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع 4/ 255 الحزن: الجوع 3/ 513 حسدته صلّى الله عليه وسلم اليهود على مقامه بالمدينة 3/ 43 الحمد الله الذي جعل في أُمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام 2/ 34 الحمد الله الذي لم يُمتني حتى أمرني أن أصبر 3/ 79- الخاء- خالق الناس بخلق حسن 2/ 407(4/522)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا 1/ 382 خرج صلّى الله عليه وسلم يعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن
أبيّ 4/ 147 خلق الله تعالى آدم بعد العصر يوم الجمعة 1/ 51 خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعاً 1/ 51 خلق الله عز وجل التربة يومَ السبت وخلق الجبال فيها يومَ الأحد 2/ 126، 4/ 46 خلق فرعون في بطن أمه كافرا 4/ 291 خلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً 4/ 291 خيّر صلّى الله عليه وسلم بريرة بين المقام مع زوجها وفراقه 1/ 391 خيرات الأخلاق حسان الوجوه 4/ 216 خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم 2/ 10- الدال- دثروني 4/ 359 دخل صلّى الله عليه وسلم بيت المقدس وصلّى فيه بالأنبياء 3/ 8 دخل صلّى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما 3/ 49 دعا صلّى الله عليه وسلم على قريش بسنين كسني يوسف 4/ 89 دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى 1/ 113 دنا الجبّار ربُّ العِزَّة فتدلَّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى 4/ 185 دواب الأرض 1/ 127- الذال- ذكرك أخاك بما يكره 4/ 152 ذلك الى الله عز وجل 3/ 52 ذلك العرض 4/ 420- الراء- رأى صلّى الله عليه وسلم إدريس في السماء الرابعة 3/ 135 رأى صلّى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلق عليها 4/ 186 رأى صلّى الله عليه وسلم عسكر المشركين في المنام قبل لقائهم 2/ 214 رأى صلّى الله عليه وسلم في المنام أنه هاجر إلى أرضٍ ذاتِ نخل وشجر وماء 4/ 104 رأى صلّى الله عليه وسلم في النَّوم كأن قائلاً يقول له:
لَتَدْخُلُنْ المسجد الحرام 4/ 126 رأيت ربي عز وجل فقال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ 3/ 582 الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له 2/ 338 ربح البيع يا أبا يحيى 1/ 173 رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل: اجعلني 2/ 450 رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركن شديد 2/ 391 الركعتان قبل صلاة الفجر 4/ 182 رمى صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر بسهم، فأقبل السهم 2/ 196 رميتهم بالسرقة على غير بينة! 1/ 466 الروح: جند من جند الله تعالى 4/ 391- الزاي- الزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل 2/ 326- السين- سابقُنا سابق ومقتصدُنا ناجٍ وظالمُنا مغفورٌ له 3/ 511 سأخبركم غدا 4/ 456 سأقضي بينكما بكتاب الله 4/ 181 سأل صلّى الله عليه وسلم ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته 1/ 270 سأل صلّى الله عليه وسلم اليهود عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره 1/ 358 سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة 2/ 40 سبأ رجل من العرب 3/ 358 سبحان مقلب القلوب 3/ 466(4/523)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة سبى صلّى الله عليه وسلم ريحانة القرظية فلم يَدْنُ منها حتى أسلمت 3/ 477 سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أثر فيه 3/ 166 سدرة المنتهى فوق السماء السابعة 4/ 187 سدرة المنتهى في السماء السادسة 4/ 187 سقتني حفصة شربة عسل 4/ 305 سلاني 1/ 266 سلوني، فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم 1/ 590 سمى صلّى الله عليه وسلم زيد الخيل: زيد الخير 3/ 571 سنوا بهم سنة أهل الكتاب 1/ 519 سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين، لعل الله يغفر لهم 2/ 284 سوّموا، فإن الملائكة قد سومت 1/ 321- الشين- شاهت الوجوه 2/ 195 الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة 4/ 423 شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة 2/ 494 شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر 1/ 214 الشفع والوتر: الصلاة، منها الشفع ومنها الوتر 4/ 438 الشفع: يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر:
ليلة النحر 4/ 438 الشفع: يوم النحر، والوتر: يوم عرفة 4/ 438 الشفق: الحمرة 4/ 421 شهرا عيد لا ينقصان 4/ 461 شيبتني هود وأخواتها 2/ 355- الصاد- صالح صلّى الله عليه وسلم يهود على أرضهم وعلى الحلقة 4/ 255 صدق الله عز وجل: إنما أموالكم وأولادكم فتنة 4/ 294 صدق الله وكذب بطن أخيك 2/ 570 صدقة تصدّق الله بها عليكم 1/ 460 الصراط المستقيم: الإسلام 2/ 325 الصراط المستقيم: كتاب الله 1/ 20، 2/ 325 صلى صلّى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا 1/ 118 صلى صلّى الله عليه وسلم بذي قرد، فصف الناس خلفه 1/ 459 صلى صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق الظهر والعصر والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشفق 1/ 216 صلى صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد 1/ 520 الصمد: السيد الذي يصمد إليه في الحوائج 4/ 506 الصور: قرن ينفخ فيه ثلاث نفخات 2/ 45 الصوم جنة، والصدقة تكفّر الخطيئة 3/ 440- الضاد- الضبع صيد، وفيه كبش إِذا قتله المحرم 1/ 585 ضحك الله الليلة، أو عجب من فَعالكما 4/ 259 ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله 3/ 498 ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا 2/ 231- الطاء- الطاء: طور سيناء، والسين الإسكندرية 3/ 334 طلق إحداهما 1/ 390 الطوفان: الموت 2/ 148، 3/ 402 طولها ستون ذراعا 3/ 370- العين- عبد سوء 2/ 547 عَجِبَ ربُّكَ مِنْ شابٍ ليست له صَبوةٌ 3/ 538 عُرضتْ عليَّ أُمتي وأُعلمت من يؤمن بي 1/ 351 عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم 2/ 428 علام تشتمني أنت وأصحابك؟ 4/ 250 على ملّة إبراهيم 1/ 269(4/524)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة عليّ وفاطمة وولداها 4/ 64 عليكم منازلكم، فإنما يكتب آثاركم 3/ 519 عمدا فعلته يا عمر 1/ 520 العيادة فواق ناقة 3/ 562- الغين- الغاسق: النجم 4/ 509 غدا أخبركم بذلك 3/ 76 غراما: دائما 3/ 327 غشيها فراش من ذهب 4/ 187 غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ 1/ 477- الفاء- فأخرجوا التوراة، فإني مكتوب فيها 1/ 269 فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة 4/ 478 فأنت الحبر السمين 2/ 53 فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربّها 2/ 564 فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته 2/ 527 فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد 4/ 502 فأين أنت من شباب أهل مكة؟ 4/ 266 فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء 1/ 13 فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلّى الله عليه وسلم في الحضر أربعا 1/ 459 فكذلك يُحيي اللهُ الموتى، وتلك آيتُه في خلقه 3/ 507 فلا تعد إليه 4/ 251 فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربه 3/ 443 فما حملك على ما صنعت؟ 4/ 267 فما رأيت عبقريا يفري فري عمر 3/ 128 فما يدريكم أنها إناث؟ 4/ 75 فهلموا إلى التوراة 1/ 269 فيؤمر الملك بأربع كلمات: بكتبِ رزقِهِ وأجلِهِ 4/ 291 فيه جمع أبوك 4/ 282- القاف- قال جبريل: ألا أراك وضعت اللأمة 3/ 458 قال جبريل: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب 1/ 515 قال ذو الخويصرة: اعدل يا رسول الله 2/ 269 قال علي: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي 4/ 249 قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا 1/ 183 قال عمر: لو اتخذنا من مقام إبراهيم 1/ 109 قالت اليهود: من يأتيك من الملائكة؟ 1/ 90 قام قيام ليلة بآية يرددها 1/ 606 قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا 1/ 268 قد أذنت لك 2/ 266 قد حرمت عليه 4/ 242 قد سمع الله ما تقول، فإن شاء أجابك 1/ 480 قد فعلت 3/ 139 قد قبلتك 3/ 465 قد كنت أُحِبُّ أن أراك على غير جوار 3/ 329 القرن: أربعون سنة 2/ 9 القرن: مائة سنة 2/ 10 قسم صلّى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين 4/ 257 قضى صلّى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار 3/ 203 قل: لا إِله إِلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة 3/ 388 قل له: إِن رسول الله يقول: بعني كذا 3/ 182 قلتم كذا وكذا 2/ 275 قم يا فلان، فإنك منافق 3/ 484 قم يا فلان، قم يا فلان 4/ 247 القنطار: اثنا عشر ألف أوقية 1/ 264 القنطار: ألف ومائتا أوقية 1/ 264 القنطار: ألف ومائتا دينار 1/ 264 القوة: الرمي 2/ 221(4/525)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد 3/ 481 قيام العبد من الليل 3/ 440 قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا 1/ 69 قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبيّ 4/ 147- الكاف- كاتب الحسنات على يمين الرجل 4/ 159 كاد يصيبنا في خلافك بلاء 2/ 225 كان صلّى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر أذّن بلال 4/ 282 كان صلّى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره 2/ 286 كان صلّى الله عليه وسلم إِذا سئل: لِمَنْ هذا الأمرُ من بعدك؟
لم يخبر بشيء 4/ 79 كان صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى بالمسجد الحرام قام رجلان 2/ 209 كان صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى رفع بصره إلى السماء 3/ 255 كان صلّى الله عليه وسلم تحت الشجرة يبايع الناس 4/ 133 كان ثعلبة يقول: إنما يعطي محمد من يشاء 2/ 269 كان جبريل يتمثل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجُل 4/ 184 كان (خلقه القرآن 4/ 319 كان ذو الكفل رجلا لا ينزع عن ذنب 3/ 208 كان صلّى الله عليه وسلم قد عاهد يهود قريظة أن لا يحاربوه 2/ 219 كان صلّى الله عليه وسلم لا يقبل الجزية إِلا من أهل الكتاب 1/ 594 كان ليعقوب أخ مؤاخٍ، فقال له ذات يوم 2/ 465 كان صلّى الله عليه وسلم يتزمَّل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فرقا منه حتى أنس به 4/ 352 كان صلّى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيم 3/ 315 كان صلّى الله عليه وسلم يثقل عليه إذا أوحي إليه 4/ 353 كان يجاء بالغنيمة فيقسمها صلّى الله عليه وسلم على خمسة 2/ 211 كان صلّى الله عليه وسلم يجهز بالقراءة في الصلوات كلها 1/ 26 كان صلّى الله عليه وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه 4/ 247 كان صلّى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران 4/ 294 كان صلّى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير 4/ 284 كان صلّى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه، يقوم على رجل 3/ 150 كان صلّى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن بمكة 3/ 60 كان صلّى الله عليه وسلم يستحلف المرأة بالله: ما خرجتِ من بغض زوج 4/ 272 كان (إسرائيل) يسكن البدو فاشتكى عرق النسا 1/ 305 كان يصعد لإدريس من العمل مثلما يصعد 3/ 135 كان صلّى الله عليه وسلم يصلي بمكة عند الصفا فجهر بالقرآن 3/ 61 كان صلّى الله عليه وسلم يطعم معه بعض أصحابه فأصابت يدُ رجل منهم يد عائشة 3/ 479 كان صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان يشتد عليه حفظه 4/ 371 كان صلّى الله عليه وسلم يكتب: باسمك اللهم 3/ 60 كان صلّى الله عليه وسلم يمتحنهن بشهادة أن لا إله إلا الله 4/ 272 كان صلّى الله عليه وسلم يوما يناجي عتبة وأبا جهل وأمية..
فجاء ابن أم مكتوم 4/ 399 كانا من جلد حمار ميت 3/ 153 كانت الأولى من موسى نسيانا 3/ 95 كانت الملائكة تحج إِلى البيت قبل آدم 1/ 111 كانوا أهل قرية لئاما 3/ 101 كانوا مائة ألف يزيدون عشرين ألفا 3/ 554 الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين 1/ 397 الكبائر سبع: الإشراك بالله أولهن 1/ 396 الكبائر: الشرك بالله، وقتل النفس 1/ 397 كتب صلّى الله عليه وسلم إلى هجر يدعوهم الى الإسلام 1/ 594 كذا أنزلت عليّ فاكتبها 2/ 55 كذب إبراهيم ثلاث كذبات 2/ 457، 3/ 196 كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا 3/ 530 كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم 3/ 411(4/526)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إِلا ما كان من يحيى بن زكريا 1/ 279 كل خير أرجوه من ربي 3/ 197 كل شيء بقدر حتى العجز والكيس 4/ 204 كل مال أديت زكاته فليس بكنز 2/ 254 كل مولود يولد على الفطرة 2/ 13، 3/ 422 كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم 1/ 300 كلمة التقوى: لا إله إلا الله 4/ 136 كلهم في الجنة 3/ 511 كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح 1/ 221 كنا نتعلم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم العشر 1/ 11 كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد 3/ 449 الكنود: الذي يأكل وحده، ويمنع رفده 4/ 484 كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم 1/ 323- اللام- لا آكل حتى تَشهد أن لا إِله إِلا الله وأني رسول الله 3/ 318 لا أجد ما أحملكم عليه 2/ 289، 3/ 21 لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء 1/ 343 لا إله إلا الله 3/ 557 لا، بل أستأني 3/ 33 لا، بل لكل من عُبد من دون الله 3/ 215 لا، بل للناس كافة 2/ 405 لا، بل هم الذين يصلُّون وهم مشفقون 3/ 265 لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم 1/ 244 لا تجالسوهم ولا تكلموهم 2/ 290 لا تجعلوا بيوتكم مقابر 1/ 24 لا تحلفوا بآبائكم 1/ 367 لا تذكري لعائشة ما رأيت 4/ 305 لا تذكريه لأحد 4/ 305 طرف الحديث الجزء/ الصفحة لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها 2/ 95 لا تَسُبُّوا الدَّهْر، فإنَّ الله هو الدَّهْر 4/ 100 لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحقّ 3/ 57 لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم 3/ 410 لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها 1/ 537 لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها 2/ 95 لا تكرهنَّ أحداً من أصحابك على المسير معك 1/ 181 لا تمككوا على غرمائكم 4/ 135 لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة 3/ 275 لا حاجة لي فيه 4/ 305 لا خير في دين ليس فيه ركوع 4/ 386 لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب 1/ 23 لا، فإنه لا ينبغي أن يُسجَد لأحد من دون الله 1/ 298 لا نبرح حتى نناجزهم 4/ 126 لا، ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني 2/ 232 لا يبقى على رأس مائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد 3/ 97 لا يتم بعد حلم 2/ 212 لا يخضد شوكها 4/ 222 لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة 3/ 458 لا يضرك بأيهما بدأت 3/ 530 لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاه 1/ 146 لا ينحني له 2/ 474 لأستغفرن لك ما لم أنه عنك 2/ 304 لأمثلن بكذا وكذا منهم 1/ 324 لَئِن ظفرتُ بقاتل حمزة لأمثلنَّ به مثلة 2/ 594 لسرادق النار أربعة جدر كثف 3/ 80 لعن صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه 1/ 247 لعن صلّى الله عليه وسلم الزهرة وقال: إنها فتنت ملكين 1/ 95(4/527)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة لعن صلّى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة 2/ 545، 3/ 167 لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة 3/ 254 لقد حكمتَ بحُكم الله من فوق سبعة أرقعة 3/ 459 لقد خُتمتْ بما تكلمتَ به يا ابن الخطاب 3/ 258 لقد ذهبتم فيها عريضة 1/ 325 لقد عجب من فعالكما أهل السماء 4/ 259 لقريش 4/ 79 لكن الله يدري، وسيقضي بينهما 2/ 25 لم أومر بذلك 1/ 576 لَمْ نأتِ لقتال أحَد إِنما جئنا لنطوف بهذا البيت 4/ 126 لم يدخل صلّى الله عليه وسلم بيت المقدس ولم يصلّ فيه 3/ 8 لم يصافح صلّى الله عليه وسلم في البيعة امرأة 4/ 274 لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في شك ولا سأل 2/ 350 لم ينظر موسى إلى الله 4/ 70 لما أراد صلّى الله عليه وسلم العمرة استنفر من حول المدينة 4/ 130 لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر 1/ 347 لما انصرف صلّى الله عليه وسلم من الخندق وضع عنه اللأمة واغتسل 3/ 458 لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعاً 1/ 567 لما بويع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة العقبة 2/ 204 لما تزوج صلّى الله عليه وسلم زينب دعا القوم فطعموا 3/ 478 لما حاصر صلّى الله عليه وسلم قريظة سألوه أن يصالحهم 2/ 202 لما دعا صلّى الله عليه وسلم على أهل مكة بالجرب فقحطوا 2/ 322 لمّا غَشِيَها مِنْ أمْر الله ما غَشِيَها تغيرت 4/ 187 لما قدم صلّى الله عليه وسلم المدينةَ كانت تَنُوبه نوائبُ وليس في يده
سعة 4/ 64 لما كان يوم الفتح أمر صلّى الله عليه وسلم بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذّن 4/ 152 لما مات النجاشي أمرهم صلّى الله عليه وسلم بالصلاة عليه 1/ 103 طرف الحديث الجزء/ الصفحة لما نزل عليه صلّى الله عليه وسلم القرآن صلّى هو وأصحابه فأطال القيام 3/ 150 لما هزم الله المشركين يوم بدر 2/ 224 لمّا يئس (من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم 4/ 113 لمن عمل بها من أمتي 2/ 405 لو اتبع آخرُهم أوَّلَهم التهب عليهم الوادي نارا 4/ 284 لو أعطاني لأوفيته، إني لأمينٌ في السماء أمين في الأرض 1/ 363 لو أمرتُ أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة 1/ 200 لو أن يوسف قال: إِني حفيظ عليم إن شاء الله، لملك من وقته 2/ 450 لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا 1/ 106 لو تَعْلَمونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكتم قليلاً ولبَكَيتم كثيرا 4/ 193 لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم 1/ 334 لو كان على أبيك دين قضيته أفكان ذلك يجزئ عنه؟ 1/ 168 لولا أن بني إسرائيل استثنوا لم يعطوا 1/ 77 لولا أن تحزن النساء، أو تكون سنَّة بعدي لتركته 2/ 594 ليت شعري ما فعل أبواي؟ 1/ 106 ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم 1/ 557 ليلة خمس وعشرين 4/ 471 ليهنك العلم يا أبا المنذر 1/ 229- الميم- المؤمن أكرم على الله عز وجل من بعض الملائكة 3/ 40 ما أخت خالك منك؟ 3/ 197 ما أدري تُبَّعاً، نبيّ أو غير نبيّ 4/ 93(4/528)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة ما أردت بما أرى 2/ 297 ما الذي أثنى الله به عليكم؟ 2/ 300 ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً 2/ 294 ما أنا بالذي يسأل ربه هذا 3/ 52 ما أوحي إليّ في هذا شيء 4/ 242 ما بالشعر بُعِثْتُ ولا بالفخَار أُمِرْتُ ولكن هاتوا 4/ 144 ما بهذا بُعثتُ وقد أبلغتكم ما أُرسلتُ به 3/ 52 ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها 1/ 326 ما ترى يا ابن الخطاب 2/ 224 ما توضأ عبد فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة، إلا غفر له 1/ 523 ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل 4/ 126 ما السموات السبع في الكرسي إِلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة 1/ 230 ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا 1/ 179 ما ظنك باثنين الله ثالثهما 2/ 261 ما علَيَّ لو فعلت والله يعلم إِني لكاره 3/ 42 ما عند رسول الله ما يطعمكَ هذه الليلة 4/ 259 ما عندنا اليوم شيء 3/ 21 الماعون: الإبرة والماء والنار والفأس 4/ 496 ما كنتم تقولون إِذا كان مثل هذا في الجاهلية 2/ 527 ما لي أراك محزونا؟ 1/ 430 ما لي أراكم سكوتا؟ 4/ 209 ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار 2/ 121 ما من أحد يلقى الله تعالى إِلا وقد هم بخطيئة 2/ 430 ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاع أقرع 1/ 353 ما مِنْ مُسْلِمٍ إٍلاّ وله في السماء بابان 4/ 91 ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم 1/ 146 طرف الحديث الجزء/ الصفحة ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر 1/ 534 ما هُزم قوم إذا بلغوا اثني عشر ألفا من قلة 2/ 195 ما يُغْني عنه قميصي من عذاب الله تعالى 2/ 286 ما ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين 3/ 468 متعنا بنفسك يا أبا بكر 4/ 251 متعها ولو بقلنسوتك 1/ 212 مثل المنافق مثل الشاة العائِرة بين الغنمين 1/ 489 مرا بثعلبة وبفلان 2/ 282 مرجت عهودهم وأماناتهم 3/ 324 مرحبا بمن عاتبني فيه ربي 4/ 399 مررت بقبر أمي فصليت ركعتين 2/ 303 مستقرها تحت العرش 3/ 524 معاذ الله، ما بذلك بعثني 1/ 298 المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء 2/ 114 المغضوب عليهم: اليهود 1/ 21 مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله 2/ 37 المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ 1/ 369 ملعون من أتى النساء في أدبارهن 1/ 193 ملك من الملائكة موكل بالسحاب 1/ 39 من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ (إذا الشمس كورت) 4/ 405 من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أحبني 1/ 436 من أعطاكه؟ 1/ 561 من أغلق بابه فهو آمن 3/ 444 من توضأ وضوئي، ثم صلى الظهر غُفر له ما كان بينها وبين صلاة الصبح 2/ 407 من حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا 3/ 63 من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف 3/ 63 من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف 3/ 63 من رغب عن سنتي فليس مني 1/ 577 من زوجك؟ 3/ 197 من سره أن يقوم له الرجال صفونا 3/ 571(4/529)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع أُخرى إلا كتب الله له بها حسنة 1/ 306 من عقر جواده 2/ 135 من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر 2/ 186 من كان متحرياً فليتحرها ليلة سبع وعشرين 4/ 471 من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين 4/ 471 من لعن شيئاً لم يكن للعنه أهلاً رجعت 1/ 566 من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من
الله إلا بعدا 3/ 408 من مخاطبة العبد ربه 4/ 49 من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها 3/ 154 من نوقش الحساب هلك 4/ 420 من هؤلاء؟ 2/ 293 من وجد الزاد والراحلة 1/ 308 من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله 4/ 259 مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش 4/ 246- النون- نادِ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة 2/ 247 ناولني حصيات 2/ 247 ناولني كفا من حصباء 2/ 195 نبزهم الرافضة 4/ 150 نَبِقُها مِثْلُ قِلال هَجَر، ووَرَقُها مِثلُ آذان الفيلة 4/ 186 نبي ضيعه قومه 1/ 531 نحن الآخرون السابقون يوم القيامة 1/ 178 نحن معاشر الأنبياء لا نورث 3/ 118 النخلة لك ولعيالك 4/ 454 نزل صلّى الله عليه وسلم يوم بدر وبينه وبين الماء رملة 2/ 192 نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما 1/ 603 نزلت في المؤذنين 4/ 52 طرف الحديث الجزء/ الصفحة نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور 2/ 215 نظرت إِلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر 4/ 294 نعم 3/ 44 نعم، (نهيت عن القتال في الشهر الحرام) 1/ 156 نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما 3/ 251 نعم، يُميتُكَ الله ثُمَّ يُحْييكَ ثُم َّيُدخلكَ نار جهنم 3/ 533 النعيم: الأمن والصحة 4/ 486 النعيم: الماء البارد 4/ 486 نفاعا حيثما توجهت 3/ 130 نهى (أن تنكح المرأة على عمتها 1/ 392 نهى (عن البول في الماء الدائم 4/ 339 نهى (عن قتل النساء والصبيان 1/ 544 نهى (عن متعة النساء 1/ 392 نور يقذفه الله في القلب فينفتح القلب 2/ 75- الهاء- هات المفتاح 1/ 423 هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني 2/ 282 هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو 2/ 237 هذا ما أُوحي إليَّ أنَّه محرَّم على المسلمين وعلى اليهود 2/ 89 هذا وقومُه، والذي نفسي بيده لو أن هذا الدِّين معلَّق بالثُّريَّا لتناوله رجال من فارس 4/ 124 هذه أمتي، بالحقّ يأخذون ويعطون 2/ 173 هذه لكم، وقد أعطي القوم مثلها 2/ 173 هل أعطاك أحد شيئا؟ 1/ 561 هل تدرون ما الكوثر؟ 4/ 497 هل تدرون ما قال ربكم؟ 4/ 214، 229 هل تدرون مم أضحك؟ 4/ 49(4/530)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة هل تعرف هذا الكتاب؟ 4/ 267 هل جئتم في عهد؟ 4/ 134 هل جعل لكم أحد أمانا؟ 4/ 134 هل عندكن شيء؟ 4/ 258 هل متعتها بشيء؟ 1/ 212 هل مررتَ بوادي أهلك مَحْلاً ثم مررتَ به يهتز خضرا؟ 3/ 507 هلاّ قُلْتِ: إِن أبي هارون وإِن عمِّي موسى وإن زوجي محمد 4/ 149 هلك المصرون 2/ 426 هم الجن، وإن الشيطان لا يخبِّل أحداً في داره 2/ 221 هم اليوم أربعة 4/ 331 هم قوم هذا 1/ 560 همّت يهود بالغدر فأخبرني الله بذلك 4/ 253 هو قرن ينفخ فيه 2/ 45 هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل 1/ 99 هو مسجدي هذا 2/ 298 هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة 4/ 497- الواو- والذي بعثني بالحق، لو فعلا لأمطر الوادي 1/ 289 والذي نفسي بيده إنها لَتَعْدِل ثُلُثَ القرآن 4/ 505 والذي نفسي بيده، لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا 4/ 467 والذي نفسي بيده، ما أُنزل في التوراة ولا في الانجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها 1/ 17 والله لأُرْضِيَنَّك، وَإني مُسِرٌّ إليك سراً فاحفظيه 4/ 305 والله لأمثلن بسبعين منهم 2/ 594 والله لو باعني أو أسلفني لقضيته 3/ 182 والله ما أخرجكنَّ الا حبُّ الله ورسولهِ 4/ 271 وإليك نسعى ونحفد 2/ 572 وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم 2/ 293 وأي شيء أقول فيه! هو عبد الله 1/ 502 وتجعلون رزقكم، قال: شكركم 4/ 229 وجدني في أهل غنيمة بشق 2/ 551 الورود: الدخول، لا يبقى بَرّ ولا فاجر إلا دخلها 3/ 143 وفَّى عملَ يومه بأربع ركعات في أول النهار 4/ 192 ولا تجزي عن أحد بعدك 2/ 250 ولَذِكْرُ الله إِيَّاكم أكبرُ من ذِكْركم إِيَّاه 3/ 409 وما تصنع بها؟ 4/ 251 وما هي يا عبد الله؟ 1/ 187 وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر 4/ 267 وممّ ذاك؟ 3/ 465 ومن صاحبكم 1/ 502 ويأتيك من لم تزوده بالأخبار 3/ 531 ويحك يا ثعلبة، قليلٌ تؤدي شكرَهُ خير من كثير 2/ 281 ويسعى بذمتهم أدناهم 2/ 239 ويل: واد في جهنم 1/ 82- الياء- يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام 4/ 444 يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب العظيم 2/ 103، 3/ 112 يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه 3/ 330 يؤتى يوم القيامة بناس إلى الجنة 3/ 132 يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ 1/ 229(4/531)
طرف الحديث الجزء/ الصفحة يا أبا ذر، أتدري فيما انتطحتا؟ 2/ 25 يا أبا ذر، تدري أين ذهبت الشمس؟ 2/ 563 يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض 1/ 155 يا ثوبان، ما غير وجهك؟ 1/ 430 يا جابر، لا أراك ميتاً من وجعك هذا 1/ 504 يا جبريل، لم اتخذ الله إِبراهيم خليلا؟ 1/ 478 يا جبريل، ما يمنعك أن تزورنا 3/ 139 يا جَدُّ، هل لك في جِلاد بني الأصفر؟ 2/ 266 يا رب، كيف أصنع؟ إِنما أنا وحدي يجتمع عليّ الناس 1/ 568 يا رب، كيف بالغضب 2/ 181 يا رحمن يا رحيم 3/ 60 يا صباحاه 4/ 502 يا عائشة، أما شعرتِ أن الله أخبرني بدائي 4/ 507 يا عبد الله، هذه مؤمنة 1/ 187 يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها
العرب 3/ 557 يا عمّاه، إِن الله قد عصمني من الجن والإنس 1/ 568 يا عمر، إِن أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم 4/ 109 يا عمر، ضع سيفك 4/ 98 يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ 1/ 396 يا فلان، أخرج فإنك منافق 2/ 293 يا فلان، يا فلان، اشهدوا 4/ 196 يا معشر الشباب، عليكم بالباءة 3/ 293 يا مَعْشَر قريش، اشْتَرُوا أنفُسَكم من الله 3/ 350 يا مقداد، أقتلت رجلاً قال: لا إِله إلا الله 1/ 452 يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة 2/ 282 يا يهودي، إن الإسلام يسبك الرجال 3/ 225 يأجوج أمة، ومأجوج أمة 3/ 109 يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى 4/ 37 يبسطها ويمدها مد الأديم 2/ 520 يتجلى لهم الرب 4/ 164 يجزئك الثلث 2/ 203 يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل 1/ 119 يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا 3/ 217 يخرج رجل من النار قد ذهَبَ حِبْرُه وسبره 1/ 551 يخلُصُ المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار 2/ 121 يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة 4/ 26 يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات 4/ 331 يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما 4/ 211 يَقْبِضُ اللهُ الأرض يومَ القيامة ويَطْوي السماءَ بيمينه 4/ 26 يُقرَّب إِليه فيكرهه، فإذا أُدني منه شوى 2/ 508 يقوم أحدهم في رَشَحِهِ إلى أنصاف أذنيه 4/ 414 يكشف ربنا عن ساقه 4/ 325 يمنعني الله منك 1/ 525 يوضع في مسامعهم مسامير من نار 3/ 214(4/532)
3- فهرس القوافي القافية: الشاعر: ج/ ص- الألف- جزى: أبو النجم: 1/ 605 العلا: أبو النجم: 1/ 605 وإن شرا فا:: 1/ 26 إلا أن تا:: 1/ 26 ألا تا:: 1/ 26 ألا فا:: 1/ 26 السرى:: 3/ 102 ما مضى:: 3/ 154 اليمنى:: 3/ 383 يبلى:: 3/ 383- الهمزة- وراءها: قيس بن الخطيم: 4/ 204 نساء: زهير بن أبي سلمى: 1/ 66 السواء: زهير بن أبي سلمى: 1/ 290 بقاء: زهير بن أبي سلمى: 1/ 290 نشاء: زهير بن أبي سلمى: 1/ 431 كفاء: حسان بن ثابت: 1/ 91 هواء: حسان بن ثابت: 2/ 518 ضوضاء: الحارث بن حلزة: 1/ 437 مبوؤها: إبراهيم بن هرمة: 2/ 134 الأحياء: عدي بن الرعلاء: 1/ 271 البناء:: 2/ 123 القافية: الشاعر: ج/ ص الأعداء:: 2/ 220 السواء:: 2/ 220- الباء- العجب:: 3/ 560 الذّنب:: 3/ 560 صبّا:: 4/ 496 مخضّبا: الأعشى: 3/ 64 واصبا: أبو الأسود الدؤلي: 2/ 564 دائبا:: 2/ 260 طنبا: أوس بن حجر: 2/ 527 صليبا: الهذلي: 1/ 509 قريبا: الأعشى: 2/ 145 يتذبذب: النابغة الذبياني: 1/ 44 مذهب: النابغة الذبياني: 2/ 507 ومذنب: الكميت بن زيد: 2/ 23 ومعرب: الكميت بن زيد: 4/ 29 فتصوّبوا: النابغة الجعدي: 2/ 179 يغضبوا: ابن الضريبة: 2/ 366 وعقرب:: 1/ 331 أرغب:: 2/ 506 والمهلّب:: 3/ 83 عاتب:: 1/ 386 صاحب:: 1/ 386 سارب:: 2/ 485(4/533)
القافية الشاعر ج/ ص الأسباب:: 2/ 429 الطرب: الكميت: 1/ 280 غضبوا: ابن قيس الرقيات: 2/ 280 العرب: ابن قيس الرقيات: 2/ 280 منقضب: ذو الرمة: 2/ 527 ولا ندب: ذو الرمة: 2/ 533 الكذوب: ابن الزبعرى: 1/ 27 مجيب: كعب بن سعد الغنوي: 1/ 36 و 146 و 348 وقليب: كعب بن سعد الغنوي: 2/ 238 دبيب: علقمة بن عبدة: 1/ 39 فصليب: علقمة بن عبدة: 1/ 232 و 290 و 430 و 4/ 204 طبيب: علقمة بن عبدة: 3/ 326 و: 4/ 335 لبيب: المضرب بن كعب: 1/ 506 لغريب ضابئ البرجمي: 2/ 255 يصوب:: 1/ 49 ذنوب:: 1/ 175 و 2/ 138 طبيب:: 2/ 115 تشيب: 2/ 115 ذنوب:: 4/ 174 القليب:: 4/ 174 وغاربه: أبو الغمر الكلابي: 1/ 470 وأخاطبه: ذو الرمة: 2/ 530 وملاعبة: ذو الرمة: 2/ 530 ثاقبه:: 1/ 36 كذابه: الأعشى: 4/ 390 طلابها: أبو ذؤيب: 1/ 316 جوابها: الفرزدق: 1/ 358 و 2/ 398 ثوابها:: 1/ 331 أبي كعب:: 3/ 213 القافية الشاعر ج/ ص الكواكب: بشر بن أبي خازم: 2/ 527 المعذّب: امرؤ القيس: 4/ 162 تطيّب: امرؤ القيس: 4/ 162 تطيّب امرؤ القيس: 4/ 162 لغرّب:: 4/ 366 عائبي: أبو الغول الطهوي: 1/ 402 العقارب: جرير: 2/ 89 الكتائب: النابغة الذبياني: 2/ 280 الكواكب: النابغة الذبياني: 2/ 565 بالحواجب: القناني: 2/ 385 وبالشراب: امرؤ القيس: 3/ 29 بالإياب امرؤ القيس: 4/ 164 السحاب:: 4/ 356 نشب: عمرو بن معديكرب: 1/ 242 و 2/ 382 النّقب: دريد بن الصمة: 1/ 527 والذّهب: مالك بن نويرة: 4/ 214 الذّنب:: 1/ 55 تأويب: سلامة بن جندل: 3/ 513 بالكوب: عدي بن زيد: 4/ 83 كالزبيب:: 4/ 386- التاء- طولت:: 4/ 29 أمئيت:: 4/ 29 فكررت:: 4/ 29 ثلثت:: 4/ 29 سبعت:: 4/ 29 مقيتا: أحيحة بن الجلاح: 1/ 441 أتيتا:: 2/ 426 هيتا:: 2/ 426(4/534)
القافية الشاعر ج/ ص أسكتا:: 2/ 426 لهيّتا:: 2/ 426 البغت: يزيد بن ضبة: 2/ 21 ودعوت: قيس لبنى: 2/ 503 وقضيت: قيس لبنى: 2/ 503 سريت رؤبة:: 4/ 154 ليت: رؤبة: 4/ 154 ميت:: 1/ 271 واستقيت:: 1/ 271 مشيت:: 4/ 401 مقيت:: 1/ 441 برّت كثير عزة: 1/ 196 و: 581 تقلّت كثير عزة: 2/ 267 ملّت: كثير عزة: 4/ 72 فاستقرّت: العجاج: 4/ 478 فاقفعلت:: 1/ 23 واللاتي:: 1/ 381 لداتي:: 1/ 381- الجيم- الفلج:: 3/ 231 و 4/ 320 بالفرج:: 3/ 126 و 231 و 4/ 320 الساج:: 4/ 457 النساج:: 4/ 457 تأججا:: 3/ 329 تهملج: النابغة الجعدي: 3/ 372- الحاء- أروح:: 4/ 461 برّح:: 4/ 461 يسنح:: 4/ 461 نشرح:: 4/ 461 القافية الشاعر ج/ ص فافرح:: 4/ 461 ورمحا: ابن الزبعرى: 1/ 522 و 4/ 222 الصروحا: أبو ذؤيب الهذلي: 3/ 365 شيحا المضرس بن ربعي: 4/ 162 أكدح: تميم بن مقبل: 1/ 416 و 3/ 420 و 4/ 420 يبرح: ذو الرمة: 1/ 41 أملح:: 1/ 38 و 100 أروح:: 3/ 83 الطوائح: نهشل بن حري: 2/ 529 الرياح: الهذلي: 1/ 199 مذبوح: أبو ذؤيب الهذلي: 3/ 81 الريح:: 2/ 131 وأستريح:: 2/ 131 كشوحها: النمر بن تولب: 1/ 323 راح: جرير: 1/ 50 و 3/ 302 و 414 جناحي: جرير: 3/ 383 بقرواح: أوس بن حجر: 1/ 470 القماح: بشر بن أبي خازم: 3/ 518 والجناح:: 3/ 156 رزاح:: 4/ 85 وذبائح:: 2/ 456- الدال- من أحد: منظور الوبري: 1/ 287 من أسد: منظور الوبري: 1/ 287 في العدد: منظور الوبري: 1/ 287 الصّمد: سبرة الأسدي: 4/ 506 معدّ: الحارث بن دوس: 4/ 198 وبرد:: 2/ 568 الممتاد: رؤبة: 1/ 601(4/535)
القافية الشاعر ج/ ص تغريد:: 4/ 25 بإقليد:: 4/ 25 بردا: العرجي: 1/ 583 و 4/ 390 بعدا:: 1/ 23 وجدا:: 1/ 23 جهدا:: 1/ 23 بها بدّا:: 1/ 509 محمدا: الأعشى: 1/ 381 مخلدا: حطائط بن يعفر: 2/ 383 جلمدا: الأحوص: 3/ 30 جامدا: الأحوص: 3/ 30 الذائدا:: 1/ 464 واحدا:: 1/ 464 باردا:: 1/ 522 و 4/ 222 نكدا:: 2/ 132 صردا:: 2/ 552 بددا:: 2/ 552 الوالدة:: 2/ 346 جيدها:: 2/ 390 والبعد: الحطيئة: 1/ 555 قدّوا: الحطيئة: 2/ 238 الفرد: حسان بن ثابت: 4/ 321 يخلّد: حسان بن ثابت: 3/ 113 ويولد:: 2/ 171 يبرد:: 4/ 337 سبد: الراعي النميري: 2/ 270 سود: الأعشى: 1/ 323 بعيد: عروة بن حزام: 2/ 130 ومحصود
: 2/ 327 و: 3/ 579 المجلود:: 2/ 420 تعود:: 3/ 199 وقعود:: 3/ 199 أمده: الطرماح: 1/ 273 عهد: الحكم بن عبدل: 1/ 470 العبد: المقنع الكندي: 2/ 178 عن خدّ:: 2/ 208 أصدّي:: 2/ 208 ضحى: غد عدي بن زيد: 2/ 66 المتردّد عدي بن زيد: 3/ 153 متهجّد: النابغة الذبياني: 3/ 47 يرشد: النابغة الذبياني: 3/ 47 نقعد: امرؤ القيس: 3/ 154 قدي: حميد الأرقط: 3/ 551 موقد الحطيئة: 4/ 78 يوأد: الفرزدق: 4/ 406 [مخلدي] : طرفة: 3/ 420 تزوّد: طرفة: 3/ 531 بأوحد: طرفة: 3/ 421 و 4/ 455 المتشدّد: طرفة: 4/ 482 باليد:: 2/ 489 المتعمّد:: 3/ 164 أم خالد الأشهب بن رميلة: 1/ 37 و: 4/ 19 الأساود: الأشهب بن رميلة: 4/ 324 وتالد: متمم بن نويرة: 1/ 351 رماد: حسان بن ثابت: 3/ 361 الأوتاد: الأسود بن يعفر: 3/ 561 وغادي:: 1/ 112 فقد: النابغة الذبياني: 1/ 47 البرد:: 2/ 392 شديد: أبو زبيد الطائي: 2/ 157 المنجود: أبو زبيد الطائي: 2/ 444 بمردود: هانئ بن شكيم: 2/ 471(4/536)
القافية الشاعر ج/ ص وثمود:: 1/ 41 جحود:: 1/ 41 رود:: 4/ 430 المديد:: 4/ 442 المشيد:: 4/ 442 الحشيد:: 4/ 442 وعيدي:: 4/ 442 شديد:: 4/ 442 والعديد:: 4/ 442 هود:: 4/ 442 الرشيد:: 4/ 442 محيد:: 4/ 442 البعيد:: 4/ 442 حصيد:: 4/ 442 حدادها: الأعشى: 1/ 151 [فادها] : الأعشى: 1/ 387- الراء- أو مضر: لبيد: 1/ 38 اعتذر: لبيد: 2/ 287 و 288 و 4/ 431 أنتصر: امرؤ القيس: 1/ 259 و 2/ 516 نكر: عبيدة بن همام: 1/ 298 و 437 نسر: النمر بن تولب: 1/ 513 درر: النمر بن تولب: 4/ 207 معتصر: ابن أحمر: 2/ 445 الضجر:: 1/ 172 الشّجر:: 2/ 552 ضرر:: 2/ 552 اعتكر:: 4/ 378 زهر:: 4/ 378 المسير:: 4/ 95 القافية الشاعر ج/ ص الحير:: 4/ 95 سمرا: الفرزدق: 1/ 335 قدرا: ذو الرمة: 1/ 501 تمرا:: 2/ 209 وزبرا:: 2/ 209 خضرا:: 4/ 217 أحمرا: امرؤ القيس: 2/ 60 بيقرا: امرؤ القيس: 4/ 180 أضمرا: الفرزدق: 2/ 335 مسكّرا: الفرزدق: 3/ 23 أبجرا: الأبيرد الرياحي: 3/ 541 وأقهرا: المخبل السعدي: 3/ 545 المنفّرا: ليلى الأخيلية: 4/ 360 موفّرا:: 2/ 429 مشارا: الأعشى: 1/ 340 و 4/ 379 نارا: أبو دؤاد الإيادي: 1/ 401 [واستنارا] : الراعي النميري: 2/ 94 ووقارا: أبو عريف الكلبي: 2/ 247 الإزارا: ابن أحمر: 2/ 360 عقارا: المسيب بن علس: 4/ 417 إعصارا:: 1/ 240 حمارا:: 1/ 309 مستعارا:: 2/ 116 و 435 إكبارا:: 2/ 436 نفرا: الربيع بن منيع الفزاري: 3/ 532 والقمرا: جرير: 4/ 92 سكرا:: 2/ 569 كفورا: الأسود بن عامر بن جوين: 1/ 437 كبيرا: أمية بن أبي الصلت: 2/ 128 سريرا: أمية بن أبي الصلت: 2/ 128 صورا: أمية بن أبي الصلت: 2/ 128(4/537)
القافية الشاعر ج/ ص ذكورا: الأعشى: 4/ 116 مستطيرا: الأعشى: 4/ 377 والفقيرا:: 1/ 175 كسيرا:: 3/ 571 ستر: مسكين الدارمي: 1/ 38 الخدر: مسكين الدارمي: 1/ 38 وقر: مسكين الدارمي: 1/ 38 الدهر: حاتم الطائي: 2/ 139 الفقر: حاتم الطائي: 2/ 139 الصّدر: حاتم الطائي: 4/ 230 الفجر: أبو صخر الهذلي: 2/ 470 الشّكر: أبو صخر الهذلي: 3/ 209 أجر:: 1/ 55 يعصر:: 2/ 444 المقادر: ذو الرمة: 3/ 64 القصائر: كثير عزة: 4/ 216 البحاتر: كثير عزة: 4/ 216 عامر:: 2/ 429 الهواجر:: 4/ 364 قماطر:: 4/ 378 الصّفر: الأعشى: 1/ 246 الزفر: أعشى باهلة: 1/ 312 و 4/ 50 الغمر: أعشى باهلة: 4/ 225 الصدور: العباس بن مرداس: 2/ 345 و 3/ 224 بور: ابن الزبعرى: 3/ 315 القدور:: 1/ 114 و 2/ 236 و 366 صور:: 1/ 236 لمغرور:: 1/ 263 الصّور:: 2/ 45 القافية الشاعر ج/ ص لصبور:: 2/ 516 كثير:: 2/ 571 قذور:: 2/ 571 يضرّه: النابغة الذبياني: 1/ 339 و: 2/ 381 مرّه: النابغة الذبياني: 2/ 381 يسرّه: النابغة الذبياني: 2/ 381 نشورها: خالد بن زهير الهذلي: 1/ 68 و 340 وبسورها: توبة بن الحميّر: 4/ 363 الجمر: عمران بن حطان: 1/ 106 الجزر: خرنق بنت هفان: 1/ 498 الأزر: خرنق بنت هفان: 1/ 498 شهر: زهير بن أبي سلمى: 2/ 298 و 552 لا يفري: زهير بن أبي سلمى: 3/ 258 و 4/ 265 البحر: ذو الرمة: 2/ 316 الخمر: المسيب بن علس: 4/ 379 عمرو: عبد الرحمن المحاربي: 3/ 212 بنكر: زيد بن عمرو بن نفيل: 3/ 395 ضرّ: زيد بن عمرو بن نفيل: 3/ 395 بالغدر:: 1/ 88 أبي بكر:: 1/ 225 وذا ظفر:: 2/ 88 ولا ظفري:: 2/ 88 بني صخر:: 2/ 464 إلى وكر:: 2/ 516 الصّدر:: 3/ 148 والنّكر:: 4/ 265 وحمير: لبيد: 1/ 29 المسحّر: لبيد: 3/ 29 منكر: عبيد بن وهب العبسي: 3/ 72 الحميري: أبو ذؤيب: 4/ 415(4/538)
القافية الشاعر ج/ ص لعامر: الراعي النميري: 1/ 44 عامر: الراعي النميري: 3/ 226 بالجرائر: الشنفري: 2/ 43 الناشر: الأعشى: 2/ 131 و 4/ 402 قابر: الأعشى: 4/ 402 للحوافر: زيد الخيل: 2/ 563 المواطر:: 1/ 22 المقادر:: 1/ 22 المقادر:: 3/ 246 وانتظاري: عدي بن زيد: 1/ 49 اعتصاري: عدي بن زيد: 2/ 445 نهار: ربيع بن زياد: 1/ 293 الأسحار: ربيع بن زياد: 1/ 293 الساري: الأخطل: 4/ 178 إزاري:: 1/ 148 وعار:: 4/ 395 قدر: جرير: 1/ 38 عوري: ابن مقبل: 2/ 524 دعر: ابن مقبل: 3/ 382 بالسّور:: 3/ 231 منثور: الفرزدق: 3/ 39 القدور:: 1/ 259 أظفور:: 2/ 88 زور:: 2/ 128 غدور:: 2/ 255 الأمير:: 3/ 568 دارها:: 4/ 398 سرارها:: 4/ 398- الزاي- الأجراز:: 3/ 65 القافية الشاعر ج/ ص عزّ بزّا: الخنساء: 1/ 487 و 2/ 319 اللمزة: زياد الأعجم: 2/ 269 و 4/ 489 مبزي: رؤبة: 1/ 70 بالرجز: رؤبة: 1/ 70- السين- الأخماس: رؤبة: 2/ 29 وإبلاس: رؤبة: 2/ 29 بسّا:: 4/ 219 مكرسا: العجاج: 2/ 29 وأبلسا: العجاج: 2/ 29 تنفسا: علقمة بن قرط: 4/ 408 وعسعسا: علقمة بن قرط: 4/ 408 التباسا: النابغة الجعدي: 1/ 36 لباسا: النابغة الجعدي: 4/ 211 بئيسا: ذو الإصبع العدواني: 2/ 164 رأس:: 3/ 213 المجلس: المهلهل: 1/ 89 و 3/ 43 الجلّس:: 1/ 78 الفوارس: ذو الرمة: 3/ 71 نفسي: الخنساء: 4/ 78 بالتأسي: الخنساء: 4/ 78 حندس:: 3/ 82 السندس:: 3/ 82 الجواميس: جرير: 2/ 563- الشين- قريشا:: 4/ 494 ريشا:: 4/ 494(4/539)
القافية الشاعر ج/ ص- الصاد- وتبوص: امرؤ القيس: 3/ 559 خميص:: 1/ 30 و 192 2/ 136 و 563 و 4/ 204 حريص:: 2/ 122- الضاد- تقضى: رؤبة: 1/ 250 بعضا: رؤبة: 1/ 250 بالمعضّى: رؤبة: 2/ 544 أرضى:: 2/ 368 ما مضى:: 3/ 154 بعض: طرفة: 3/ 122 نقضي:: 2/ 416 عرضي:: 2/ 416 تبيضّضي:: 2/ 429- الطاء- المناشطا: هميان بن قحافة: 4/ 394 واسطا: هميان بن قحافة: 4/ 394- العين- خدع: سويد بن أبي كاهل: 1/ 31 رتع: سويد بن أبي كاهل: 2/ 417 المستمع:: 1/ 54 جذع:: 2/ 149 أضع:: 2/ 149 بصاع:: 2/ 429 مدفعا: امرؤ القيس: 1/ 436 و 2/ 364 أشنعا: مقاس العائذي: 2/ 39 المقنعا: جرير: 1/ 434 مصنعا:: 2/ 456 القافية الشاعر ج/ ص أطمعا:: 2/ 517 ممنعا:: 4/ 162 اتباعا: القطامي: 4/ 343 ذراعا:: 2/ 389 قد ينعا: الأحوص أو يزيد: 2/ 61 مضطجعا: الأعشى: 2/ 291 والصلعا: الأعشى: 2/ 385 و 4/ 384 خدوعا:: 1/ 294 رفعه: الأضبط بن قريع: 1/ 561 تدفع: أبو ذؤيب الهذلي: 1/ 227 ترقع: أبو ذؤيب الهذلي: 1/ 544 تبّع: أبو ذؤيب الهذلي: 4/ 47 يجزع: أبو ذؤيب الهذلي: 4/ 179 الخشّع: جرير: 2/ 416 وتقطّع: أوس بن حجر: 2/ 464 أتقنّع: غيلان بن سلمة: 4/ 359 مدمع:: 1/ 502 أطمع:: 2/ 166 مجمع:: 2/ 341 و 3/ 166 نوازع: النابغة الذبياني: 1/ 41 سابع: النابغة الذبياني: 1/ 58 الأصابع: النابغة الذبياني: 2/ 434 ساطع: لبيد: 1/ 175 و 3/ 397 و 4/ 420 الأصابع: لبيد: 2/ 507 الزعازع: الفرزدق: 2/ 158 الطوالع: الفرزدق: 4/ 78 الودائع: بيهس العذري: 3/ 95 طالع: عبد الله بن
رواحة: 3/ 198 المضاجع: عبد الله بن رواحة: 3/ 198 مجاشع:: 2/ 107 نافع:: 4/ 336(4/540)
القافية الشاعر ج/ ص وجيع: عمرو بن معديكرب: 1/ 487 صديع: عمرو بن معديكرب: 2/ 545 رجوع: قيس بن ذريح: 2/ 343 رجوعها: الأحوص: 3/ 262 مصرعي: خبيب بن عدي: 1/ 170 ممزّع: خبيب بن عدي: 1/ 170 والأقرع: العباس بن مرداس: 3/ 530 بجائع: امرأة من قشير: 1/ 373 فارع: مقيس بن صبابة: 1/ 450 راجع: مقيس بن صبابة: 1/ 450 القصاع: الحطيئة: 1/ 211 ربوع: الشماخ: 2/ 99 القنوع: الشماخ: 3/ 239- الفاء- قاف:: 1/ 26 و 4/ 157 [الأكفّا] :: 2/ 505 و 506 أوجفا: العجاج: 2/ 406 فزلفا: العجاج: 2/ 406 احقوقفا: العجاج: 2/ 406 دنفا: العجاج: 3/ 46 تزحلفا: العجاج: 3/ 46 الوظيفا: الهذلي: 2/ 506 مشرف: الفرزدق: 1/ 532 مجلّف: الفرزدق: 3/ 164 تقصّف:: 2/ 470 المخلّف:: 2/ 470 وزائف: المزرد: 3/ 78 نزاحف:: 1/ 286 تحانف:: 1/ 286 كاسف:: 2/ 509 القافية الشاعر ج/ ص الرواجف:: 4/ 494 مختلف: عمرو بن امرئ القيس: 2/ 255 أو المرار الأسدي و 3/ 501 و 4/ 159 طرف: جرير: 3/ 194 تنغرف: قيس بن الخطيم: 3/ 283 خلاف:: 1/ 353 الأعراف:: 2/ 123- القاف- المصطلق:: 3/ 100 وانطلق:: 3/ 100 نطق:: 3/ 101 تلق:: 3/ 284 طارق: هند بنت عتبة: 4/ 428 النمارق: هند بنت عتبة: 4/ 428 ساق:: 4/ 325 بالمضيق:: 3/ 333 السرادقا: الفرزدق: 3/ 80 حقائقا:: 4/ 421 سائقا:: 4/ 421 دقيقا:: 1/ 112 لبيقا:: 1/ 112 يبرق: ذو الرمة: 1/ 41 الغرق: العباس بن عبد المطلب: 3/ 525 شرق:: 3/ 337 وتنطلق:: 3/ 337 تذوق: حميد بن ثور: 2/ 490 إبريق: عدي بن زيد: 4/ 221 يذوق:: 1/ 281 أطيق:: 3/ 392(4/541)
القافية الشاعر ج/ ص تشقّق: عقفان بن قيس: 2/ 88 تفتّق: الشماخ أو المزرد: 3/ 17 تبرق: طرفة: 4/ 369 موثق:: 1/ 42 متألق:: 1/ 42 أيانق: عمارة بن طارق: 4/ 503 شقاق: بشر بن أبي خازم: 1/ 570 مراق: عوف بن الأحوص: 2/ 43 العراق:: 2/ 128 مهراق:: 2/ 128 طبق: الأقرع بن حابس: 4/ 422- الكاف- حلالك: عبد المطلب: 4/ 491 محالك: عبد المطلب: 4/ 491 عيالك: عبد المطلب: 4/ 491 جلالك: عبد المطلب: 4/ 491 بدا لك: عبد المطلب: 4/ 491 مكّا:: 4/ 135 وعكّا:: 4/ 135 عذلكا:: 1/ 116 مثلكا:: 1/ 116 مباركا: أبو خالد القناني: 1/ 16 إيثاركا: أبو خالد القناني: 1/ 16 أنا ذلكا: خفاف بن ندبة: 1/ 27 عزائكا: الأعشى: 1/ 198 نسائكا: الأعشى: 1/ 198 مالكا:: 1/ 297 سواكا: عبد المطلب: 4/ 491 حماكا: عبد المطلب: 4/ 491 عاداكا: عبد المطلب: 4/ 491 القافية الشاعر ج/ ص قراكا: عبد المطلب: 4/ 491 الدوالك: ذو الرمة: 3/ 46- اللام- الطفل: لبيد: 1/ 24 سأل: لبيد: 1/ 49 وعجل: لبيد: 2/ 187 فاضمحلّ: لبيد: 2/ 490 [غفل] : لبيد: 3/ 47 وحائل: الطرماح: 2/ 529 مقبلا: أوس بن حجر: 1/ 205 أعضلا: أوس بن حجر: 1/ 205 أسهلا: عمر بن أبي ربيعة: 1/ 500 المغفلا:: 1/ 381 أرملا:: 2/ 467 المطافلا:: 1/ 59 الأوعالا: الفرزدق: 1/ 78 الأبطالا: الفرزدق: 3/ 23 خيالا: الأخطل: 2/ 48 و 4/ 179 ميكالا: جرير: 1/ 91 أبوالا: أمية بن أبي الصلت: 1/ 175 مقالا: الحطيئة: 3/ 122 الأبطالا:: 2/ 389 الطوالا:: 2/ 389 وقبالا:: 4/ 223 والجبالا:: 4/ 223 فصلا: عدي بن زيد: 1/ 71 يخون إلى: الأعشى: 2/ 133 حملا: الأخطل: 2/ 575 معقولا: الراعي النميري: 2/ 420 تحويلا: ابن رواحة: 3/ 113(4/542)
القافية الشاعر ج/ ص السبيلا:: 1/ 309 الجبلّة:: 3/ 347 أمر الله:: 4/ 324 المغلّه:: 4/ 324 قالها: الخنساء: 1/ 290 أوعالها: الخنساء: 1/ 290 أمثالها: الخنساء: 1/ 290 ما لها: الخنساء: 2/ 464 حبالها: الأعشى: 1/ 311 أطفالها: الأعشى: 2/ 467 إبقالها: عامر بن جوين الطائي: 2/ 444 و 3/ 14 ثعل: ابن همام السلولي: 1/ 294 يستهلّ: تأبط شرا: 2/ 386 البقل: زهير بن أبي سلمى: 3/ 259 فيستعلوا: زهير بن أبي سلمى: 4/ 217 القتل:: 1/ 84 رحل:: 4/ 243 أصل:: 4/ 243 منزل: ورقة بن نوفل: 1/ 90 وأطول: الفرزدق: 2/ 153 و 3/ 421 أول: معن بن أوس: 2/ 188 و 3/ 421 لأميل: الأحوص: 3/ 421 العواذل: الهذلي: 4/ 243 والوسائل:: 1/ 544 البطل: الأعشى: 1/ 34 وينتعل: الأعشى: 2/ 122 عجل: الأعشى: 4/ 176 ما يئل: الأعشى: 3/ 93 هطل: الأعشى: 3/ 418 الأصل: الأعشى: 3/ 418 القافية الشاعر ج/ ص الأمل: الراعي النميري: 3/ 379 الزّلل: القطامي: 4/ 36 حملوا:: 2/ 464 الإبل:: 2/ 464 معازيل: عبدة بن الطبيب: 2/ 179 يعيل: أحيحة بن الجلاح: 2/ 249 و 4/ 458 طويل: مجنون ليلى: 2/ 490 أقول:: 1/ 111 و 2/ 141 قليل:: 1/ 239 جزيل:: 2/ 327 فمطيل:: 2/ 327 أو كلّه:: 2/ 113 فلا أحلّه:: 2/ 113 آجله: توبة بن مضرس: 1/ 539 كاهله: ابن ميادة: 2/ 51 أنامله: ضابئ البرجمي: 2/ 489 [حلائله] : ضابئ البرجمي: 3/ 154 حواصله:: 2/ 568 نواصله:: 3/ 262 يستبيلها: الفرزدق: 1/ 55 قبيلها: الأعشى: 3/ 54 والأهل: المنخل: 2/ 416 قبلي: أبو ذؤيب الهذلي: 2/ 506 بالمهل: ذو الرمة: 3/ 316 رسل:: 1/ 81 و 3/ 246 لا أقلي:: 3/ 85 التبقل: أبو النجم: 1/ 71 ونهشل: أبو النجم: 1/ 71 مقتّل: امرؤ القيس: 1/ 259 بكلكل: امرؤ القيس: 1/ 259(4/543)
القافية الشاعر ج/ ص يفعل: امرؤ القيس: 2/ 343 تنجلي: امرؤ القيس: 2/ 398 مرحّل: امرؤ القيس: 2/ 398 تنسل: امرؤ القيس: 4/ 360 كالسجنجل: امرؤ القيس: 4/ 429 ممحل: عبد قيس بن خفاف: 1/ 279 فانزل: عبد قيس بن خفاف: 1/ 279 الأعزل: لبيد: 2/ 270 بهيضل: أبو كبير الهذلي: 2/ 522 فانزل: عنترة العبسي: 3/ 180 المتحوّل: هدبة بن خشرم: 3/ 392 يتفل: ذو الرمة: 4/ 509 ذائل: النابغة الذبياني: 1/ 93 عوامل: الهذلي: 1/ 464 بالأصائل: أبو ذؤيب الهذلي: 2/ 184 حابل:: 1/ 325 والأغلال: أمية بن أبي الصلت: 1/ 34 الأذيال: أمية بن أبي الصلت: 1/ 59 إسرال: أمية بن أبي الصلت: 1/ 59 العقال: أمية بن أبي الصلت: 2/ 524 أمثالي: امرؤ القيس: 1/ 210 ميّال: امرؤ القيس: 2/ 326 إذلال: امرؤ القيس: 1/ 276 و 2/ 326 وأوصالي: امرؤ القيس: 1/ 538 و 2/ 464 أغوال: امرؤ القيس: 3/ 543 مالي: زيد الخيل: 2/ 383 دلال: أمية بن عائذ الهذلي: 2/ 181 الهلال: جرير: 2/ 416 و 3/ 335 المحال: الأعشى: 2/ 488 يبالي: الأعشى: 2/ 488 هلال: لبيد: 2/ 530 القافية الشاعر ج/ ص [بالرجال] : عدي بن زيد: 3/ 538 بخيال: تميم بن مقبل: 4/ 28 الذليل: سري السقطي: 1/ 179 وقيل: سري السقطي: 1/ 179 القتيل: عنترة الطائي: 2/ 208 عقيل: الراعي: 3/ 101 برسول: كثير عزة: 3/ 336 بالعقول:: 2/ 116 قلله: جميل بن معمر: 2/ 435 برجله: أم الأحنف: 1/ 116 هزله: أم الأحنف: 1/ 116 مثله: أم الأحنف: 1/ 116 خليله: ابن رواحة: 3/ 222- الميم- إبرهم: عبد المطلب: 1/ 107 ينتقم: الأعشى: 1/ 296 حرم: الأعشى: 2/ 347 حطم: الحطم البكري: 1/ 507 غنم: الحطم البكري: 1/ 507 وضم: الحطم البكري: 1/ 507 لم ينم: الحطم البكري: 1/ 507 كالزّلم: الحطم البكري: 1/ 507 القدم: الحطم البكري: 1/ 507 من صمم: المثقب العبدي: 2/ 18 كم وكم:: 1/ 163 و 4/ 208 القوم:: 3/ 196 اليوم:: 3/ 196 سلّما: وضاح اليمن: 1/ 277 و 3/ 567 أينما: النمر بن تولب: 1/ 436 مبهما: حاتم الطائي: 1/ 514(4/544)
القافية الشاعر ج/ ص بمنطقها فما: حميد بن ثور: 1/ 259 و 3/ 355 موشّما: حميد بن ثور: 2/ 109 لها ابنما: الملتمس: 2/ 253 ميسما: المتلمس: 3/ 56 لصمّما: المتلمس: 3/ 165 وأزنما: العوام
بن شوذب: 4/ 288 وتمما:: 1/ 18 يتندما:: 1/ 318 درهما:: 2/ 401 الدما:: 2/ 401 راهما: هند بنت عتبة: 3/ 567 عرواهما: هند بنت عتبة: 3/ 567 حماهما: هند بنت عتبة: 3/ 567 تراهما: هند بنت عتبة: 3/ 567 غنماهما: أبو أسيدة الدبيري: 4/ 330 سلاما: جرير: 1/ 78 لماما: جرير: 2/ 109 غراما: بشر بن أبي خازم: 3/ 328 ألاما: أم عمير الحنفي: 3/ 552 الطعاما:: 1/ 58 [السناما] :: 3/ 85 ولا ذمما:: 2/ 238 و 239 هامة: يزيد بن مفرغ: 1/ 432 غمامه: يزيد بن مفرغ: 4/ 92 طعم:: 3/ 169 عقم:: 3/ 246 منظم:: 1/ 239 يقدم:: 2/ 514 جاحم: الأعشى: 1/ 106 راغم: الأعشى: 2/ 346 إبراهم: عبد المطلب: 1/ 107 القافية الشاعر ج/ ص قائم: عبد المطلب: 1/ 107 رواغم:: 1/ 445 والغلام: أوس بن غلفاء: 1/ 280 السلام: المثقب العبدي: 2/ 552 أثام: بلعاء بن قيس: 3/ 329 الحمام:: 1/ 259 السلام:: 2/ 96 السّقم: العرجي: 2/ 464 والرّحم:: 3/ 103 والحرم:: 4/ 78 مذءوم: حسان بن ثابت: 2/ 107 يتيم:: 1/ 84 حكيم:: 2/ 219 والحتوم:: 2/ 469 محروم:: 3/ 142 سمه: رؤبة: 1/ 16 مقدّمه:: 1/ 16 سمه:: 1/ 16 حمامها: لبيد: 4/ 36 عقيمها: كثير عزة: 2/ 529 نسيمها:: 2/ 131 همّي: رؤبة: 1/ 36 غمّي: رؤبة: 1/ 36 عكم: الحطيئة: 1/ 298 الرجم: النابغة الجعدي: 1/ 132 و 3/ 23 أم الهيثم: عنترة العبسي: 1/ 65 مخرم: عنترة العبسي: 2/ 233 و 324 و 3/ 142 لم تحرم: عنترة العبسي: 3/ 568 مكلمي: عنترة العبسي: 4/ 242(4/545)
القافية الشاعر ج/ ص بمحرّم: عنترة العبسي: 4/ 359 المذمّم: الأعشى: 1/ 172 من الدم: الأعشى: 2/ 417 التكلم: زهير بن أبي سلمى: 1/ 331 المرجّم: زهير بن أبي سلمى: 3/ 74 المتخيّم: زهير بن أبي سلمى: 3/ 143 مجثم: زهير بن أبي سلمى: 3/ 327 زهدم: سحيم بن وثيل: 2/ 496 مطعم: أبو وجزة السعدي: 3/ 559 بمعظم:: 1/ 119 وأنعمي:: 1/ 227 لمأثم:: 1/ 331 لم تكلم:: 3/ 93 النواسم: ذو الرمة: 1/ 33 أم القاسم: ابن الرقاع: 1/ 70 و 434 جاسم: ابن الرقاع: 1/ 229 بنائم: ابن الرقاع: 1/ 229 بنائم: جرير: 2/ 340 و 3/ 500 بدارم: الفرزدق: 4/ 85 والأداهم:: 2/ 137 سلّام: الحطيئة: 1/ 93 شمام: الفرزدق: 1/ 163 بالسهام: لبيد: 1/ 350 النعام: حسان بن ثابت: 2/ 239 الأيام: جرير: 3/ 25 أقوام:: 1/ 138 لأقوام:: 1/ 195 أحلام:: 1/ 195 الأقدام:: 4/ 327 الرحيم: جرير: 1/ 120 و 2/ 313- النون- شزن: الأعشى: 1/ 241 أنكرن: الأعشى: 1/ 267 يأتين: الأعشى: 1/ 267 قد عدن: الأعشى: 2/ 277 الجمعين:: 2/ 45 النقعين:: 2/ 45 الصورين:: 2/ 45 ومينا: عدي بن زيد: 1/ 65 أين أينا: عبيد بن الأبرص: 1/ 163 و 4/ 208 لحنا: مالك بن أسماء: 4/ 121 عريانا: سوار بن المضرب: 2/ 110 ومسانا: أمية بن أبي الصلت: 2/ 268 عمرانا:: 2/ 346 أحيانا:: 4/ 74 العالمينا: الحطيئة: 1/ 18 سبعينا: لبيد: 1/ 19 الجاهلينا: عمرو بن كلثوم: 1/ 35 لاعبينا: عمرو بن كلثوم: 1/ 40 جنينا: عمرو بن كلثوم: 1/ 438 العيونا: عمرو بن كلثوم: 3/ 127 مأمونا: عمران بن حطان: 1/ 90 لينا: تميم بن مقيل: 1/ 313 سجّينا: تميم بن مقبل: 2/ 393 شجينا: المسيب بن زيد مناة: 1/ 430 و 3/ 224 و 4/ 204 دفينا: أبو طالب: 2/ 19 عيونا: أبو طالب: 2/ 19 دينا: أبو طالب: 2/ 19 مبينا: أبو طالب: 2/ 19 جنونا: حسان بن ثابت: 2/ 255(4/546)
القافية الشاعر ج/ ص آمينا:: 1/ 23 لما جينا:: 1/ 59 إسرائينا:: 1/ 59 تشكونا:: 1/ 84 يوصينا:: 1/ 84 جافونا:: 1/ 84 لما جينا:: 1/ 110 اسماعينا:: 1/ 110 متينا:: 1/ 311 القرينا:: 3/ 559 والعيونا:: 4/ 222 إنّه: ابن قيس الرقيات: 3/ 165 المباين: المعطل الهذلي: 2/ 436 المساكن:: 2/ 346 دانوا: الفند الزماني: 1/ 250 أذنوا: قعنب بن أم صاحب: 1/ 587 و 4/ 419 دفنوا: قعنب بن أم صاحب: 2/ 141 و 3/ 506 رهين: النابغة الذبياني: 1/ 34 الظنون: النابغة الذبياني: 2/ 380 فيهون: كثير عزة: 2/ 102 ميزانه:: 2/ 103 بشنّ: النابغة الذبياني: 2/ 217 و 4/ 170 الفرقدان: عمرو بن معديكرب: 1/ 448 طهيان: الأحول الكندي: 1/ 598 و 3/ 70 والشّبهان: الأحول الكندي: 3/ 231 بأرسان: امرؤ القيس: 2/ 392 رماني: ابن أحمر: 4/ 159 الأركان:: 2/ 391 باني:: 2/ 391 القافية الشاعر ج/ ص حقّان:: 2/ 404 بالإحسان:: 3/ 101 الكثبان:: 4/ 221 والحزن:: 4/ 237 لم يكن:: 4/ 237 اللعين: الشماخ: 1/ 127 الوتين: الشماخ: 4/ 333 يليني: المثقب العبدي: 1/ 140 و 316 و 2/ 367 و 576 و 3/ 518 يبتغيني: المثقب العبدي: 1/ 140 و 316 الحزين: المثقب العبدي: 2/ 306 والزيتون: أبو طالب: 2/ 60 تخوفيني: أبو حية النميري: 3/ 395 تستتليني:: 2/ 329 أميني:: 4/ 464- الهاء- فشفاها: ليلى الأخيلية: 1/ 206 سقاها: ليلى الأخيلية: 1/ 206 و 280 و 3/ 99 قلاها:: 1/ 313 [عيناها] :: 1/ 522 ابتناها:: 3/ 407 حاديها: طفيل الغنوي: 1/ 60 لاقيها: حسان بن ثابت: 2/ 364 نبنيها:: 2/ 171 المدّه: رؤبة: 1/ 16 تألهي: رؤبة: 1/ 16 ولهله: رؤبة: 1/ 35 مهمه: رؤبة: 1/ 35 العمّه: رؤبة: 1/ 35(4/547)
القافية الشاعر ج/ ص- الياء- بدا ليا: عبد الله بن معاوية: 1/ 329 باقيا: النابغة الجعدي: 2/ 209 الخواليا: عنترة العبسي: 2/ 358 ذاليا: عنترة العبسي: 2/ 358 لجاميا: الفرزدق: 2/ 430 ورائيا: سوار بن المضرب: 2/ 468 و 507 ضاحيا: أمية بن أبي الصلت: 3/ 553 ناهيا:: 3/ 530 القافية الشاعر ج/ ص شفائيا:: 4/ 390 معاوية: علي بن أبي طالب: 2/ 89 الحاويه: علي بن أبي طالب: 2/ 89 أنجيه: سحيم بن وثيل: 2/ 461 كالأرشيه: سحيم بن وثيل: 2/ 461 قنسريّ: العجاج: 1/ 48 دواريّ: العجاج: 1/ 48 غنيّ:: 2/ 139(4/548)
4- أنصاف الأبيات التي لم تعرف قوافيها الشاعر: الجزء: الصفحة لمن الظعائن سيرهن تزحف: الأعشى: 2/ 194 وشر المنايا ميت بين أهله:: 1/ 89 فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم:: 1/ 165 كلوا في نصف بطنكم تعيشوا:: 1/ 192 و 2/ 136 و 4/ 204 تخاطأت إليك أحشاؤه:: 3/ 22 وإن شئتم تعاودنا عوادا:: 4/ 343 يمجّ صبيرة الماعون صبا:: 4/ 496(4/549)
5- المصادر والمراجع أهم المراجع والمصادر في التخريج:
1- صحيح البخاري. بترقيم فؤاد عبد الباقي، طبع دار المعرفة.
2- صحيح مسلم. بترقيم فؤاد عبد الباقي، طبع دار إحياء التراث العربي.
3- سنن أبي داود. بترقيم محيي الدين عبد الحميد، طبع دار إحياء السنة النبوية.
4- سنن الترمذي. بترقيم أحمد شاكر ثم فؤاد عبد الباقي ثم إبراهيم عطوة عوض، طبع دار إحياء التراث العربي.
5- سنن النسائي جزء وصفحة، طبع دار القلم.
6- سنن ابن ماجة. بترقيم فؤاد عبد الباقي، طبع دار الفكر.
7- سنن الدارمي جزء وصفحة، طبع دار صادر.
9- مسند الطيالسي. بترقيم دار الباز، طبع دار المعرفة.
10- صحيح ابن حبان. بترقيم شعيب الأرناؤوط، طبع مؤسسة الرسالة.
11- مستدرك الحاكم جزء وصفحة، طبع دار المعرفة.
12- سنن الدارقطني. طبع مكتبة المتنبي.
13- سنن البيهقي. طبع دار الفكر.
14- موطأ الإمام مالك. بترقيم فؤاد عبد الباقي، طبع دار الكتب العلمية.
15- مسند الشافعي. طبع دار الكتب العلمية.
16- مجمع الزوائد. طبع دار الكتاب العربي.
17- مسند الفردوس للديلمي. طبع دار الكتب العلمية.
18- الكامل لابن عدي. طبع دار الفكر.
19- العلل المتناهية لابن الجوزي. طبع دار الكتب العلمية.
20- سيرة ابن هشام. طبع دار المكتبة التوقيفية.
21- المنتقى لابن الجارود. بترقيم عبد الله عمر البارودي، طبع دار الجنان.
22- المطالب العالية لابن حجر. بترقيم حبيب الرحمن الأعظمي، طبع دار المعرفة.
المراجع اللغوية المعتمدة في هذا العمل:
1- لسان العرب، طبع دار بيروت.
2- القاموس المحيط. طبع دار الفكر.
3- مختار الصحاح للرازي. طبع دار الكتاب العربي.(4/550)
4- المغرب للمطرّزي. طبع مكتبة أسامة بن زيد.
5- المصباح المنير للفيومي. طبع دار الفكر.
كتب الرجال المعتمدة:
1- الجرح والتعديل، للرازي.
2- الكامل في الضعفاء، لابن عدي.
3- الضعفاء، للعقيلي.
4- المجروحون، لابن حبان.
5- ميزان الاعتدال، للذهبي.
6- لسان الميزان، لابن حجر.
7- تقريب التهذيب، لابن حجر.
8- الضعفاء والمتروكون، لابن الجوزي.
9- وفيات الأعيان، لابن خلكان.
10- الوافي بالوفيات، للصفدي.
11- الديباج المذهب، لابن فرحون.
12- جذوة الاقتباس، لابن القاضي.
13- تذكرة الحفاظ، للذهبي.
14- بغية الملتمس، لابن عميرة الضبي.
الكتب المعتمدة في الحكم على الحديث:
1- نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، للإمام الحافظ جمال الدين الزيلعي رحمه الله.
2- الدراية في تلخيص نصب الراية، لابن حجر.
3- تلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير، لابن حجر.
4- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لابن الجوزي.
5- العلل، لابن أبي حاتم الرازي.(4/551)