يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية. سبب نزولها:
(1178) أن الفُسَّاق كانوا يؤذون النساء إِذا خرجن بالليل، فاذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا: هذه حُرَّة، وإِذا رأوها بغير قناع قالوا: أَمَة، فآذَوها، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
قوله تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ قال ابن قتيبة: يَلْبَسْنَ الأردية. وقال غيره: يغطين رؤوسهنّ ووجوههنّ ليُعلَم أنهنَّ حرائر ذلِكَ أَدْنى أي: أحرى وأقرب أَنْ يُعْرَفْنَ أنهنَّ حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ. قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ أي: عن نفاقهم وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: فجور، وهم الزناة وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ بالكذب والباطل، يقولون: أتاكم العدوّ، وقُتلت سراياكم وهُزمت لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي: لَنُسلِّطنَّك عليهم بأن نأمرك بقتالهم. قال المفسرون: وقد أُغري بهم، فقيل له:
جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «1» . وقال يوم جمعة:
(1179) «اخرج يا فلان من المسجد فانك منافق. قم يا فلان فانك منافق» .
ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها ثم لا يجاورونك فيها أي: في المدينة إِلَّا قَلِيلًا حتى يهلكوا، مَلْعُونِينَ منصوب على الحال أي: لا يجاورونك إِلاَّ وهم ملعونون أَيْنَما ثُقِفُوا أي: وُجِدوا وأُدركوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا معنى الكلام: الأمر، أي: هذا الحكم فيهم، سُنَّةَ اللَّهِ أي: سنَّ في الذين ينافقون الأنبياء ويُرجِفون بهم أن يُفعل بهم هذا.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
قوله تعالى: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قال عروة: الذي سأله عنها عُتبة بن ربيعة.
قوله تعالى: وَما يُدْرِيكَ أي: أيّ شيء يُعْلِمك أمر الساعة ومتى تكون؟ والمعنى: أنت لا تعرف ذلك ثم قال: لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً فإن قيل: هلاَّ قال: قريبة؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها:
__________
أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 5/ 416 عن السدي مرسلا. وأخرجه الطبري 28651 عن قتادة، وهذا مرسل. وورد من مرسل أبي مالك. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 719. وورد من مرسل أبي صالح، أخرجه الطبري 28653 ومع إرساله فيه من لم يسم، وأبو صالح ضعيف الحديث، ليس بشير بشيء. وعزاه الواحدي في «الأسباب» 718 للضحاك والسدي والكلبي بدون إسناد. وورد من مرسل معاوية بن قرة، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر المنثور» 5/ 416. الخلاصة: هذه المراسيل تتأيد بمجموعها وتعتضد، ويعلم أن للخبر أصلا، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 3/ 626 بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه الطبري 17137 بإسناد واه، لأجل حسين بن عمرو العنقزي عن أسباط عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس به.
__________
(1) التوبة: 73. [.....](3/484)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
أنه أراد الظَّرف، ولو أراد صفة الساعة بعينها، لقال: قريبة، هذا قول أبي عبيدة. والثاني: أن المعنى راجع إِلى البعث، أو إِلى مجيء الساعة. والثالث: أن تأنيث الساعة غير حقيقي، ذكرهما الزجاج. وما بعد هذا قد سبق بيان ألفاظه «1» .
فأمّا قوله تعالى: وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فقال الزجاج: الاختيار الوقف بألف، لأن أواخر الآي وفواصلها تجري مجرى أواخر الأبيات، وإِنما خوطبوا بما يعقلونه من الكلام المؤلَّف ليدلّ بالوقف بزيادة الحرف أن الكلام قد تمّ، وقد أشرنا إِلى هذا في قوله تعالى: الظُّنُونَا «2» .
قوله تعالى: أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا أي: أشرافنا وعظماءنا. قال مقاتل: هم المطعمون في غزاة بدر. وكلّهم قرءوا: «سادتَنا» على التوحيد، غير ابن عامر، فانه قرأ: «ساداتنا» على الجمع مع كسر التاء، ووافقه المفضَّل، ويعقوب، إلّا أبا حاتم فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي: عن سبيل الهدى، رَبَّنا آتِهِمْ يعنون السادة ضِعْفَيْنِ أي: ضعفي عذابنا، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «كثيراً» بالثاء. وقرأ عاصم، وابن عامر: «كبيرا» . وقال أبو علي: الكثرة أشبه بالمِرار المتكررة من الكبر.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
قوله تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى أي: لا تؤذوا محمداً كما آذى بنو إِسرائيل موسى فينزل بكم ما نزل بهم، وفي ما آذَوا به موسى أربعة أقوال:
(1180) أحدها: أنهم قالوا: هو آدَر، فذهب يوماً يغتسل، ووضع ثوبه على حجرٍ، ففرَّ الحجر
__________
صح مرفوعا وموقوفا، فالله أعلم. أخرجه البخاري 3404 والترمذي 3221 والبغوي في «معالم التنزيل» 3/ 545 من طريق روح بن عبادة عن عوف عن الحسن ومحمد وخلاس عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده فيه لين، روح بن عبادة، وإن وثقه غير واحد، فقد قال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال يعقوب بن شيبة: سمعت عفان لا يرضى أمر روح بن عبادة. هذا شيء. والشيء الثاني: الحسن لم يسمع من أبي هريرة. وكذا خلاس فيما قال أحمد. قال الحافظ في «الفتح» 6/ 437: قال أبو داود عن أحمد: لم يسمع خلاس من أبي هريرة. قال الحافظ: وما له في البخاري غير هذا الحديث، وقد أخرجه له مقرونا بغيره، وله حديث آخر مقرون بمحمد بن سيرين. قلت: وكأن روح اضطرب في هذا الحديث. فقد أخرجه أحمد 2/ 514- 515 عن روح عن عوف عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلّم وخلاس ومحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
فجعل رواية الحسن مرسلة. وهكذا أخرجه الطبري 28674 من طريق ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن مرسلا. وأخرجه الطبري 28673 والطحاوي في «المشكل» 67 عن روح عن عوف عن محمد- ابن سيرين- عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي في «التفسير» 444 و «الكبرى» 11424 من طريق روح عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة مرفوعا، وتقدم عن أحمد قوله: خلاس لم يسمع من أبي هريرة. وكرره النسائي 11425 وفي «التفسير» 445 من طريق النضر عن عوف بمثله. وعلى هذا فقد توبع روح، لكن هذا الإسناد معلول بسبب-
__________
(1) البقرة: 159- النساء: 10- الإسراء: 97.
(2) الأحزاب: 1.(3/485)
بثوبه، فخرج في طلبه، فرأَوه فقالوا: واللهِ ما به من بأس. والحديث مشهور في الصحاح كلِّها من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد ذكرتُه باسناده في «المغني» و «الحدائق» . قال ابن قتيبة:
والآدَر: عظيم الخُصيتين.
(1181) والثاني: أن موسى صَعِد الجبل ومعه هارون، فمات هارون، فقال بنو إِسرائيل: أنت قتلتَه فآذَوه بذلك، فأمر اللهُ تعالى الملائكةَ فحملته حتى مرَّت به على بني إِسرائيل، وتكلَّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إِسرائيل أنه مات، فبرّأه الله تعالى من ذلك، قاله عليّ عليه السلام.
__________
الإرسال كما تقدم. وكرره البخاري 4799 من طريق روح عن عوف عن الحسن ومحمد وخلاس عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن موسى كان رجلا حييّا» ، وذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى....
- وللحديث طريق آخر: أخرجه البخاري 278 ومسلم 339 وص 1841 وابن حبان 6211 وأبو عوانة 1/ 281 والواحدي في «الوسيط» 3/ 483 من طرق عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة مرفوعا.
- وله علة، وهي الوقف: أخرجه مسلم ص 1842 من وجه آخر عن خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة موقوفا عليه. وراويه عن خالد الحذاء، يزيد بن زريع، وهذا إسناد كالشمس.
- وأخرجه الطبري 26875 عن قتادة، قال: حدث الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ... الحديث، وهذا منقطع. وورد من حديث أبي هريرة من وجه آخر: أخرجه الطبري 28669 من طريق جابر الجعفي عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ساقط، جابر هو ابن يزيد، متروك الحديث. وله شاهد من حديث أنس: أخرجه البزار 2252 «كشف» وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 93- 94: ثقة، سيء الحفظ. قلت: جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه. وورد عن ابن عباس موقوفا: أخرجه الطبري 28668 وإسناده صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم. وكرره 28670 وإسناده ضعيف جدا، فيه مجاهيل، وعطية العوفي واه. وورد عن قتادة قوله: أخرجه الطبري 28672. وورد عن الحسن وقتادة قولهما:
أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 2382 عن معمر عن الحسن وقتادة.
- الخلاصة: روي مرفوعا بإسناد حسن، وآخر صحيح، وأخر ضعيفة. وورد موقوفا بإسناد كالشمس، عن أبي هريرة ومثله عن ابن عباس بسند صحيح موقوفا. وورد عن قتادة وعن الحسن قولهما لم يرفعاه. فالحديث كما ترى ورد مرفوعا، وموقوفا، وموقوفا على بعض التابعين، وفي المتن غرابة. لكن لا أقدم على ترجيح الوقف بسبب أن الحديث في الصحيحين، ولم أجد من رجح وقفه، والله أعلم.
ولفظ البخاري المرفوع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن موسى كان رجلا حييا سترا لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أدرة، وإما من آفة. وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو الله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا. فذلك قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً. قال الحافظ في «الفتح» 1/ 386: قال الجوهري: الأدرة: نفخة في الخصية، وهي بفتحات، وحكي بضم أوله، وإسكان الدال.
وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 14/ 224: وهو الصحيح من الأقوال. وهو مذهب الجمهور.
أخرجه الطبري 2876 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 639 وإسناده حسن لأجل سفيان بن حسين، فإنه حسن الحديث، وباقي الإسناد ثقات. وانظر «أحكام القرآن» 3/ 627 بتخريجنا.(3/486)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
(1182) والثالث: أن قارون استأجر بغيّاً لتقذِف موسى بنفسها على ملأٍ من بني إِسرائيل فعصمها الله تعالى وبرّأ موسى من ذلك، قاله أبو العالية.
والرابع: أنهم رمَوه بالسِّحر والجنون، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً قال ابن عباس: كان عند الله تعالى حَظيّاً لا يسألُه شيئاً إِلاَّ أعطاه. وقد بيّنّا معنى الوجيه في سورة آل عمران «1» . وقرأ ابن مسعود والأعمش، وأبو حيوة: «وكان عبد الله» بالتنوين والباء وكسر اللام.
قوله تعالى: وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فيه أربعة قوال: أحدها: صواباً، قاله ابن عباس. والثاني:
صادقاً، قاله الحسن. والثالث: عدلاً، قاله السدي. والرابع: قصداً، قاله ابن قتيبة. ثم في المراد بهذا القول ثلاثة أقوال: أحدها: أنه «لا إِله إِلا الله» ، قاله ابن عباس وعكرمة. والثاني: أنه العدل في جميع الأقوال، والأعمال، قاله قتادة. والثالث: في شأن زينب وزيد، ولا تنسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى ما لا يصلُح، قاله مقاتل بن حيّان. قوله تعالى: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ فيه قولان: أحدهما: يتقبَّل حسناتكم، قاله ابن عباس. والثاني: يزكِّي أعمالكم، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي: نال الخير وظفر به.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ فيها قولان «2» :
أحدهما: أنها الفرائض، عرضها الله على السّموات والأرض والجبال، إِن أدَّتها أثابها، وإِن ضيَّعَتْها عذَّبها، فكرهتْ ذلك وعرضها على آدم فقَبِلها بما فيها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وكذلك قال سعيد بن جبير: عُرضت الأمانة على آدم فقيل له: تأخذها بما فيها، إِن أطعتَ غفرتُ لك، وإِن عصيتَ عذَّبتُك، فقال: قَبِلتُ، فما كان إِلاَّ كما بين صلاة العصر إِلى أن غَرَبت الشمس حتى أصاب الذَّنْب. وممن ذهب إِلى أنها الفرائض قتادة والضحاك والجمهور.
والثاني: أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها. روى السدي عن أشياخه أن آدم لمَّا أراد الحج قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض، فأبت، وقال للجبال، فأبت، فقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وتجيء وتجد أهلك كما يسرُّك، فلما انطلق آدم قتل قابيل هابيل،
__________
لا أصل له. عزاه المصنف لأبي العالية، ولم أره عنه مسندا، وأبو العالية يروي عن كتب الإسرائيليات، وهذا منها.
__________
(1) آل عمران: 45.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 342: إنه عني بالأمانة في هذا الموضع جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس، وذلك أن الله تعالى لم يخصّ بقوله بعض معاني الأمانات.(3/487)
فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه، فذلك حيث يقول الله عزّ وجلّ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ إِلى قوله:
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وهو ابن آدم، فما قام بها.
وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن آدم لمّا حضرته الوفاة قال: يا ربِّ، من أستخلف من بعدي؟ فقيل له: اعرض خلافتك على جميع الخلق، فعرضها، فكلٌّ أباها غير ولده. وللمفسرين في المراد بعَرْض الأمانة على السّموات والأرض قولان: أحدهما: أن الله تعالى ركَّب العقل في هذه الأعيان، وأفهمهنَّ خطابه، وأنطقهنَّ بالجواب حين عرضها عليهنَّ، ولم يُرد بقوله: «أبَيْنَ» المخالَفَة، ولكنْ أَبَيْنَ للخَشية والمخافة، لأن العَرْض كان تخييراً لا إِلزاماً، و «أشفقن» بمعنى خِفْنَ منها أن لا يؤدِّينَها فيلحقهنَّ العقاب، هذا قول الأكثرين. والثاني: أن المراد بالآية: إنّا عرضنا الأمانة على أهل السّموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة، قاله الحسن.
وفي المراد بالإِنسان أربعة أقوال: أحدها: آدم في قول الجمهور. والثاني: قابيل في قول السدي. والثالث: الكافر والمنافق، قاله الحسن. والرابع: جميع الناس، قاله ثعلب.
قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ظَلوماً لنفسه، غِرّاً بأمر ربِّه، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: ظَلوماً لنفسه، جَهولاً بعاقبة أمره، قاله مجاهد. والثالث: ظَلوماً بمعصية ربِّه، جَهولاً بعقاب الأمانة، قاله ابن السائب.
وذكر الزجاج في الآية وجهاً يخالف أكثر الأقوال، وذكر أنَّه موافق للتفسير فقال: إِن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السّموات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأمّا السموات والأرض فقالتا: أَتَيْنا طائِعِينَ «1» وأعلَمنا أن من الحجارة ما يَهْبِط من خَشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجُدون لله، فعرَّفنا اللهُ تعالى أنَّ السموات والأرض لم تحتمل الأمانة، لأنها أدَّتها، وأداؤها: طاعة الله وترك معصيته، وكلُّ من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كلُّ من أثم فقد احتمل الإِثم، وكذلك قال الحسن: «وحملها الإِنسان» أي: الكافر والمنافق حَمَلاها، أي: خانا ولم يُطيعا فأمّا من أطاع، فلا يقال: كان ظلوماً جهولاً.
قوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قال ابن قتيبة: المعنى: عَرَضْنا ذلك ليظهر نفاقُ المنافق وشِرك المشرك فيعذِّبهم الله، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم، أي: يعود عليهم بالرحمة والمغفرة إِن وقع منهم تقصير في الطاعات.
__________
(1) فصلت: 11.(3/488)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
سورة سبأ
وهي مكّيّة بإجماعهم. وقال الضّحّاك، وابن السّائب، ومقاتل: فيها آية مدنيّة، وهي قوله تعالى:
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلْكاً وخَلْقاً وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ يَحَمَدُه أولياؤه إِذا دخلوا الجنَّة، فيقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «2» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «3» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «4» . يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من بذر أو مطر أو كنز أو غير ذلك وَما يَخْرُجُ مِنْها من زرع ونبات وغير ذلك وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من مطر أو رزق أو ملَك وَما يَعْرُجُ فِيها من ملَك أو عمل أو دُعاءٍ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مُنْكِري البعث لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أي: لا نُبْعَث «5» .
قوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو: «عالم الغيب» بكسر الميم، وقرأ
__________
(1) سبأ: 6.
(2) الزمر: 74.
(3) الأعراف: 43.
(4) فاطر: 34.
(5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 645: هذه إحدى الآيات الثلاث اللاتي لا رابع لهن، مما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس: [53] ، والثانية هذه، والثالثة في سورة التغابن [7] .(3/489)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
نافع وابن عامر برفعها. وقرأ حمزة والكسائي: «علاَّمِ الغيب» بالكسر ولام قبل الألف. قال أبو علي:
من كسر فعلى معنى: الحمدُ للهِ عالِم الغيب ومن رفع جاز أن يكون «عَالِمُ الغيب» خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو عالِمُ الغيب، ويجوز أن يكون ابتداءً خبره لا يَعْزُبُ عَنْهُ و «علاَّم» أبلغ من «عالم» . وقرأ الكسائي وحده: «لا يَعْزِِبُ» بكسر الزاي وهما لغتان.
قوله تعالى: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وقرأ ابن السميفع، والنخعي، والأعمش: «ولا أصغرَ مِنْ ذلك ولا أكبرَ» بالنصب فيهما. قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا قال الزّجّاج: المعنى: بل وربّي لتأتينّكم المجازاة، وقال ابن جرير: المعنى: أثبت مثقال الذرَّة وأصغر منه في كتاب مبين، ليَجْزِيَ الذين آمنوا، وليُريَ الذين أوتوا العلم.
قوله تعالى: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ويعقوب، والمفضل: «مِنْ رِجْزٍ أليمٌ» رفعاً والباقون بالخفض فيهما «1» . وفي الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قولان: أحدهما: أنهم مؤمنوا أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة.
قوله تعالى: الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني القرآن هُوَ الْحَقَّ قال الفرّاء: «هو» عماد للذي، فلذلك انتصب الحقّ. وما أخللنا به فقد سبق في مواضع «2» .
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم منكروا البعث، قال بعضهم لبعض: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ أي: يقول لكم: إِنَّكم إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي: فرّقتم كلّ فريق والممزّق ها هنا مصدر بمعنى التمزيق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: يجدَّد خَلْقكم للبعث. ثم أجاب بعضُهم فقالوا: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً حين زعم أنَّا نُبعث؟! وألف «أَفْترى» ألف استفهام، وهو استفهام تعجب وإِنكار، أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي: جنون؟! فردّ الله تعالى عليهم فقال: بَلِ أي: ليس الأمر كما تقولون من الافتراء والجنون، بل الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وهم الذين يجحدون البعث فِي الْعَذابِ إِذا بُعثوا في الآخرة وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ من الحق في الدنيا. ثم وعظهم فقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وذلك أن الإِنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض قُدَّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فالمعنى أنهم أين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إِن شئتُ خسفتُ بهم الأرض، وإِن شئتُ أسقطتُ عليهم قطعة من السماء إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما يَرَون من السماء والأرض
__________
(1) أي هنا وفي سورة الجاثية: 11.
(2) البقرة: 130- 267، الحج: 51- 52.(3/490)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
لَآيَةً تدلُّ على قدرة الله تعالى على بعثهم والخسف بهم لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي: راجعٍ إِلى طاعة الله، متأمِّلٍ لِمَا يرى.
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا وهو النُّبوَّة والزَّبور وتسخير الجبال والطير، إِلى غير ذلك ممَّا أنعم اللهُ به عليه يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وروى الحلبي عن عبد الوارث: «أُوْبي» بضم الهمزة وتخفيف الواو. قال الزجاج: المعنى: وقلنا: يا جبال أوِّبي معه، أي: ارجعي معه. والمعنى: سبِّحي معه ورجِّعي التسبيح. ومن قرأ: «أُوْبي» معناه: عودي في التسبيح معه كلما عاد. وقال ابن قتيبة: «أوِّبي» أي: سبِّحي، وأصل التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كلَّه، وينزل ليلاً، فكأنه أراد: ادأَبي النهار كلَّه بالتسبيح إِلى الليل.
قوله تعالى: وَالطَّيْرَ وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، وأبو العالية، وابن أبي عبلة:
«والطَّيْرُ» بالرفع. فأما قراءة النصب، فقال أبو عمرو بن العلاء: هو عطف على قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا وَالطَّيْرَ أي: وسخَّرْنا له الطَّيْرَ. قال الزجاج: ويجوز أن يكون نصباً على النداء، كأنه قال: دعَوْنا الجبالَ والطيرَ، فالطير معطوف على موضع الجبال، وكل منادى عند البصريين فهو في موضع نصب قال: وأما الرفع، فمن جهتين: إِحداهما: أن يكون نسقاً على ما في «أوِّبي» فالمعنى يا جبال رجِّعي التسبيح معه أنتِ والطير. والثانية: على النداء، المعنى: يا جبال ويا أيُّها الطير أوِّبي معه.
قال ابن عباس: كانت الطير تسبِّح معه إِذا سبَّح، وكان إِذا قرأ لم تبق دابَّة إِلا استمعت لقراءته وبكت لبكائه. وقال وهب بن منبه: كان يقول للجبال: سبِّحي. وللطير: أجيبي، ثم يَأخذ هو في تلاوة الزَّبور بين ذلك بصوته الحسن، فلا يرى الناسُ منظراً أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئاً أطيبَ منه. قوله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أي: جعلناه ليِّناً. قال قتادة: سخَّر اللهُ له الحديد بغير نار، فكان يسوِّيه بيده، لا يُدخله النار، ولا يضربه بحديدة، وكان أول من صنع الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح.
قوله تعالى: أَنِ اعْمَلْ قال الزجاج: معناه: وقلنا له: اعْمَل، ويكون في معنى «لأن يعمل» سابِغاتٍ أي: دروعاً سابغات، فذكر الصفة لأنها تدل على الموصوف. قال المفسرون: كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء، فيعمل الدّروع في بعض يوم فيبيعه بمال كثير، فيأكل ويتصدق. والسابغات: الدروع الكوامل التي تغطّي لابسها حتى تَفْضُل عنه فيجرّها على الأرض.
وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي: اجعله على قدر الحاجة. قال ابن قتيبة: السَّرْدُ: النَّسْج، ومنه يقال لصانع الدُّروع: سَرَّادٌ وزَرّادٌ، تبدل من السين الزاي، كما يقال: سرّاط وزرّاط. وقال الزجاج: السَّرْدُ في اللغة: تَقْدِمَةُ الشيء إِلى الشيء تأتي به متَّسقاً بعضُه في إِثر بعض متتابعاً، ومنه قولهم: سَرَدَ فلان الحديثَ. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: عدِّل المسمار في الحَلْقة ولا تصغِّره فيقلق، ولا تُعظِّمه فتنفصم الحَلْقة، قاله مجاهد. والثاني: لا تجعل حِلَقَه واسعة فلا تَقي صاحبها، قاله قتادة. قوله تعالى:
وَاعْمَلُوا صالِحاً خطاب لداود وآله.(3/491)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
[سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 14]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قرأ الأكثرون بنصب الرِّيح على معنى: وسخَّرنا لسليمان الرِّيحَ.
وروى أبو بكر، والمفضل عن عاصم: «الرِّيحُ» رفعاً، أي: له تسخيرُ الريح. وقرأ أبو جعفر: «الرِّياح» على الجمع. غُدُوُّها شَهْرٌ قال قتادة: تغدو مسيرةَ شهر إِلى نصف النهار، وتروح مسيرةَ شهر إِلى آخر النهار، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين. قال الحسن: لمَّا شَغَلت نبيَّ الله سليمانَ الخيلُ عن الصلاة فعقرها، أبدله الله خيراً منها وأسرع وهي الريح، فكان يغدو من دمشق فيَقيل بإِصْطَخْر وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إِصطخر فيبيت بكابُل، وبينهما مسيرة شهر للمسرع. قوله تعالى:
وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ قال الزجاج: القِطْر: النُّحاس، وهو الصُّفْر، أُذيب مذ ذاك، وكان قبل سليمان لا يذوب. قال المفسّرون: أجرى الله تعالى: لسليمان عين الصُّفْر حتى صنع منها ما أراد من غير نار، كما أُلين لداود الحديدُ بغير نار، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهنّ كجري الماء وإِنما يعمل الناس اليوم مما أُعطي سليمان.
قوله تعالى: وَمِنَ الْجِنِّ المعنى: وسخَّرنا له من الجن مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي:
بأمره سخَّرهم الله له، وأمرهم بطاعته والكلام يدلُّ على أنَ منهم من لم يسخَّر له وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ أي: يَعْدِل عَنْ أَمْرِنا له بطاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ وهل هذا في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان: أحدهما: في الآخرة، قاله الضحاك. والثاني: في الدنيا، قاله مقاتل. وقيل: إِنه كان مع سليمان مَلَك بيده سوط من نار، فمن زاغ من الجن ضربه الملك بذلك السوط. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المساجد، قاله مجاهد، وابن قتيبة. والثاني:
القصور، قاله عطية. والثالث: المساجد والقصور، قاله قتادة. وأما التماثيل، فهي الصّور قاله الحسن. ولم تكن يومئذ محرَّمة ثم فيها قولان: أحدهما: أنها كانت كالطَّواويس والعِقْبان والنُّسور على كرسيِّه ودرجات سريره لكي يَهابَها من أراد الدُّنُوَّ منه، قاله الضحاك. والثاني: أنها كانت صُوَرُ النبييِّن والملائكة لكي يراهم الناس مصوَّرين، فيعبُدوا مثل عبادتهم ويتشبَّهوا بهم، قاله ابن السائب.
وفي ما كانوا يعملونها منه قولان: أحدهما: من النُّحاس، قاله مجاهد. والثاني: من الرُّخام والشَّبَه «1» ، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ الجِفَان: جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة، والجَوَابي جمع جابِيَة، وهي الحوض الكبير يُجبَى فيه الماء، أي: يُجمع. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «كالجوابي» بياء،
__________
(1) في «اللسان» : الشّبه: النحاس يصبغ فيصفر.(3/492)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
إِلا أن ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف، وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف. قال الزجاج:
وأكثر القراء على الوقف بغير ياءٍ، وكان الأصل الوقف بالياء، إِلاَّ أن الكسرة تنوب عنها. قال المفسرون: كانوا يصنعون له القِصَاع كحياض الإِبل، يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها. قوله تعالى: وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي: ثوابت يقال: رسا يرسو: إِذا ثبت. وفي علَّة ثبوتها في مكانها قولان: أحدهما: أن أثافيها «1» منها، قاله ابن عباس. والثاني: أنها لا تُنزل لِعِظَمها، قاله ابن قتيبة. قال المفسرون: وكانت القُدور كالجبال لا تحرَّك من أماكنها، يأكل من القِدْر ألف رجل. قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً المعنى: وقلنا: اعملوا بطاعة الله تعالى، شكراً له على ما آتاكم.
قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ يعني على سليمان. قال المفسرون: كانت الإِنس تقول:
إِن الجن تعلم الغيب الذي يكون في غد، فوقف سليمان في محرابه يصلِّي متوكِّئاً على عصاه، فمات، فمكث كذلك حولاً والجن تعمل تلك الأعمال الشّاقّة ولا تعلم بموته حتى أكلتِ الأَرَضُ عصا سليمان، فخرَّ فعلموا بموته، وعَلِم الإِنس أن الجن لا تعلم الغيب. وقيل: إِن سليمان سأل الله تعالى أن يعمِّي على الجن موته، فأخفاه الله عنهم حولاً. وفي سبب سؤاله قولان: أحدهما: لأن الجن كانوا يقولون للانس: إِنَّنا نَعْلَمُ الغيب، فأراد تكذيبهم. والثاني: لأنه كان قد بقي من عِمارة بيت المقدس بقيَّة. فاما دَابَّةُ الْأَرْضِ فهي: الأَرَضَة: وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: «دابَّة الأرض» بفتح الراء. والمِنْسأة: العصا. قال الزجاج: وإِنما سمِّيت مِنْسأة، لأنه يُنْسَأُ بها، أي: يُطْرَدُ ويُزْجَر. قال الفراء: أهل الحجاز لا يهمزون المِنْسأة، وتميم وفصحاء قيس يهمزونها.
قوله تعالى: فَلَمَّا خَرَّ أي: سقط تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي: ظهرت وانكشف للناس أنهم لا يعلمون الغيب، ولو علموا ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أي: ما عملوا مسخَّرين وهو ميت وهم يظنُّونه حيّاً.
وقيل: تبيَّنت الجن، أي عَلِمت، لأنَّها كانت تَتَوَهَّم باستراقها السمع أنها تعلم الغيب، فعلمت حينئذ خطأَها في ظنِّها. وروى رويس عن يعقوب: «تبيّنت» برفع التاء والباء وكسر الياء.
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
__________
(1) في «اللسان» : الأثف: الحجر الذي توضع عليه القدر، وجمعها أثافي. [.....](3/493)
قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «في مَسَاكِنِهم» . وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «مَسْكَنِهم» بفتح الكاف من غير ألف. وقرأ الكسائي، وخلف: «مَسْكِنِهم» بكسر الكاف، وهي لغة.
قال المفسّرون: المراد بسبإ ها هنا: القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يشجب بن يَعْرُب بن قحطان وقد ذكرنا في سورة النمل «1» الخلاف في هذا، وأن قوماً يقولون: هو اسم بلد، وليس باسم رجل. وذكر الزجاج في هذا المكان أنَّ مَنْ قرأ: «لِسَبأَ» بالفتح وترك الصَّرْف، جعله اسماً للقبيلة، ومن صرف وكسر ونوَّن، جعله اسماً للحيِّ واسما لرجل وكلّ جائز حسن. وآيَةٌ رفع، اسم «كان» وجَنَّتانِ رفع على نوعين. أحدهما: أنه بدل من «آية» . والثاني: على إِضمار، كأنَّه لمَّا قيل: «آيةٌ» قيل: الآية جنَتَّان.
الإِشارة إِلى قصتهم
ذكر العلماء بالتفسير والسِّيَر أن بلقيس لمَّا ملكت قومَها جعل قومُها يقتتِلون على ماء واديهم، فجعلت تنهاهم فلا يُطيعونها، فتركت مُلْكها وانطلقت إِلى قصرها فنزلتْه، فلمَّا كَثُر الشَّرُّ بينهم وندموا، أتَوها فأرادوها على أن ترجع إِلى مُلكها، فأبت، فقالوا: لَتَرجِعِنَّ أو لَنَقْتُلَنَّكِ، فقالت: إِنكم لا تُطيعونني وليست لكم عقول، فقالوا: فانَّا نُطيعك، فجاءت إِلى واديهم- وكانوا إِذا مُطِروا أتاه السَّيل من مسيرة أيَّام- فأمرتْ به، فسُدَّ ما بين الجبلين بمُسَنَّاة «2» ، وحبستْ الماء من وراء السد، وجعلتْ له أبواباً بعضها فوق بعض، وبنتْ من دونه برِكة وجعلت فيها اثني عشر مَخْرجاً على عِدَّة أنهارهم، فكان الماء يخرج بينهم بالسويَّة، إِلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذكره «3» ، وبقُوا بعدها على حالهم، وقيل: إِنما بنَواْ ذلك البنيان لِئلاَّ يغشى السيلُ أموالهم فيُهلكها، فكانوا يفتحون من أبواب السَّدِّ ما يريدون، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إِليه، وكانت لهم جنَّتان عن يمين واديهم وعن شماله، فأخصبت أرضُهم، وكَثُرت فواكههم، وإِن كانت المرأةُ لتمُرُّ بين الجنَّتين والمِكْتَل على رأسها، فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تَمسُّ بيدها شيئاً منه، ولم يكن يُرى في بلدهم حيَّة ولا عقرب، ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، ويمُرُّ الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القَمْل، فيموت القمل لطيب هوائها. وقيل لهم: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي: هذه بلدة طيِّبة، أو بلدتُكم بلدةٌ طيِّبة، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي وَرَبٌّ غَفُورٌ أي: واللهُ ربٌّ غفور، وكانت ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إِليهم ثلاثة عشر نبيّاً «4» ، فكذَّبوا الرُّسل، ولم يقرّوا بنعم الله، فذلك قوله تعالى: فَأَعْرَضُوا أي: عن الحقّ، وكذَّبوا أنبياءهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وفيه أربعة أقوال: أحدها: أن العَرِم: الشديد، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقال ابن الأعرابي: العَرِم: السَّيل الذي لا يُطاق. والثاني: أنه اسم الوادي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، ومقاتل. والثالث: أنه المُسَنَّاة، قاله مجاهد، وأبو ميسرة، والفراء، وابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: العَرِم: جمع عَرِمَة، وهي: السّكر «5» والمسنّاة. والرابع: أنّ العرم: الجرذ
__________
(1) النمل: 22.
(2) في «اللسان» سننت التراب: صببته على وجه الأرض صبا حتى صار كالمسنّاة.
(3) النمل: 29- 44.
(4) هذا الأثر من إسرائيليات وهب بن منبه.
(5) السّكر بالسكون: ما سد به النهر.(3/494)
الذي نقب عليهم السِّكْر، حكاه الزجاج.
وفي صفة إِرسال هذا السيل عليهم قولان: أحدهما: أن الله تعالى بَعَثَ على سِكْرهم دابَّةً من الأرض فنقبت فيه نقباً، فسال ذلك الماء إِلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال قتادة والضحاك في آخرين: بعث اللهُ عليهم جُرَذاً يسمَّى الخُلْد- والخُلْد: الفأر الأعمى- فنقبه من أسفله، فأغرق اللهُ به جنَّاتهم، وخرَّب به أرضهم. والثاني: أنه أرسل عليهم ماءً أحمر، أرسله في السدِّ فنسفه وهدمه وحفر الوادي، ولم يكن الماء أحمر من السد، وإِنما كان سيلاً أُرسل عليهم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ يعني اللَّتين تُطعمان الفواكه جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «أُكُلٍ» بالتنوين. وقرأ أبو عمرو: «أُكُلِ» بالإِضافة. وخفَّف الكاف ابن كثير ونافع، وثقَّلها الباقون. أمَّا الأُكُل، فهو الثمر.
وفي المراد بالخَمْط ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الأراك، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور فعلى هذا، أُكُلُه: ثمره ويسمَّى ثمر الأراك: البَرِير. والثاني: أنه كل شجرة ذات شوك، قاله أبو عبيدة. والثالث: أنه كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله، قاله المبرِّد والزجّاج. فعلى هذا القول، الخَمْط: اسم للمأكول، فيَحسُن على هذا قراءة من نوَّن الأُكُل وعلى ما قبله، هو اسم شجرة، والأُكُل ثمرها، فيحسُن قراءة من أضاف.
فأمَّا الأَثْل، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الطَّرْفاء «1» ، قاله ابن عباس. والثاني: أنه السَّمُر، حكاه ابن جرير. والثالث: أنه شجر يشبه الطَّرْفاء إِلاَّ أنَّه أعظم منه.
قوله تعالى: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ففيه تقديم، تقديره: وشيء قليل من السّدر وهو شجر النّبق. والمعنى: أنه كان الخَمْط والأَثْل في جنَّتيهم أكثر من السِّدْر. قال قتادة: بينما شجرُهم من خير الشجر، إِذ صيَّره اللهُ تعالى من شرِّ الشجر.
قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ أي: ذلك التبديل جزيناهم بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
فان قيل: قد يُجازى المؤمنُ والكافر، فما معنى هذا التخصيص؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن المؤمن يُجزى ولا يُجازى، فيقال في أفصح اللغة: جزى اللهُ المؤمن، ولا يقال:
جازاه، لأن جازاه بمعنى كافأه، فالكافر يُجازى بسيِّئتِهِ مثلها، مكافأة له، والمؤمن يُزاد في الثواب ويُتفضَّل عليه، هذا قول الفراء. والثاني: أن الكافر ليست له حسنة تكفِّر ذنوبه، فهو يُجازى بجميع الذُّنوب، والمؤمن قد أَحبطت حسناتُه سيِّئاته، هذا قول الزجاج. وقال طاوس: الكافر يُجازى ولا يُغْفَر له، والمؤمن لا يُناقَش الحسابَ.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ هذا معطوف على قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ والمعنى: كان من قَصَصهم أنّا جَعَلْنا بينهم وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي: قرى الشام وقد سبق بيان معنى البركة
__________
(1) في «اللسان» : الطرفاء: قال أبو حنيفة: الطرفاء من العضاه وهدبه مثل هدب الأثل، وليس له خشب وإنما يخرج عصيا سمحة في السماء.(3/495)
فيها «1» ، هذا قول الجمهور. وحكى ابن السائب أن الله تعالى لمَّا أهلك جنَّتيهم قالوا للرسل: قد عرفنا نعمة الله علينا، فلئن ردَّ إِلينا ما كنَّا عليه لنَعْبُدَنَّه عبادةً شديدة، فردَّ عليهم النِّعمة، وجعل لهم قُرىً ظاهرة، فعادوا إِلى الفساد وقالوا: باعد بين أسفارنا فَمُزِّقوا.
قوله تعالى: قُرىً ظاهِرَةً أي: متواصلة ينظُر بعضها إِلى بعض وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ فيه قولان:
أحدهما: أنهم كانوا يَغْدون فيَقِيلون في قرية، ويَرُوحون فيَبِيتون في قرية، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني: أنه جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: سِيرُوا فِيها والمعنى: وقلنا لهم: سيروا فيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً أي: ليلاً ونهاراً آمِنِينَ من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سَبُع أو تعب. وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان، فبَطِروا النِّعمة وملّوها كما ملّ بنو إِسرائيل المَنَّ والسَّلوى فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «بَعِّد» بتشديد العين وكسرها. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة: «باعِدْ» بألف وكسر العين. وعن ابن عباس كالقراءتين. قال ابن عباس: إِنهم قالوا: لو كانت جنَّاتنا أبعد ممَّا هي، كان أجْدَرَ أن يُشتهى جَنَاها. قال أبو سليمان الدمشقي: لمَّا ذكَّرتْهم الرُّسلُ نِعَم الله، أنكروا أن يكون ما هم فيه نعمة، وسألوا الله أن يُباعِد بين أسفارهم. وقرأ يعقوب: «ربُّنا» برفع الباء «باعَدَ» بفتح العين والدال، جعله فعلاً ماضياً على طريق الإخبار للناس بما أنزله الله عزّ وجلّ بهم. وقرأ عليّ بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، وابن السميفع، وابن أبي عبلة: «بَعُدَ» برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف، على طريق الشّكاية إلى الله عزّ وجلّ. وقرأ عاصم الجحدري وأبو عمران الجوني: «بُوعِدَ» برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين. قوله تعالى: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فيه قولان:
أحدهما: بالكفر وتكذيب الرُّسل. والثاني: بقولهم: «بَعِّدْ بين أسفارنا» . فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم يتحدَّثون بما فُعل بهم وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي: فرَّقْناهم في كل وجه من البلاد كلَّ التفريق، لأنَّ الله لمَّا غرَّق مكانهم وأذهب جنَّتَيْهم تبدَّدوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل في الفُرقة بسبأٍ إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما فُعِل بهم لَآياتٍ أي: لَعِبَراً لِكُلِّ صَبَّارٍ عن معاصي الله شَكُورٍ لِنِعَمه.
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «عليهم» بمعنى «فيهم» ، وصِدْقه في ظنه أنَّه ظنَّ بهم أنَّهم يتَّبعونه إِذ أغواهم، فوجدهم كذلك. وإِنما قال: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ بالظنِّ، لا بالعِلْم، فمن قرأ: «صَدَّق» بتشديد الدال، فالمعنى: حقَّق ما ظنَّه فيهم بما فعل بهم ومن قرأ بالتخفيف، فالمعنى:
صَدَق عليهم في ظنِّه بهم. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم أهل سبأ. والثاني: سائر المطيعين لإِبليس. قوله تعالى: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ قد شرحناه في قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «2» . قال الحسن: واللهِ ما ضربهم بعصاً ولا قهرهم على شيء، إِلاَّ أنه دعاهم إِلى الأماني والغرور. قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ أي: ما كان تسليطنا إِيَّاه إِلاَّ لِنَعْلَم المؤمنين من الشاكِّين. وقرأ الزهري: «إِلاَّ لِيُعْلَمَ» بياء مرفوعة على ما لمُ يسمَّ فاعله. وقرأ ابن يعمر: «لِيَعْلَمَ» بفتح الياء. وفي المراد بعلمه ها هنا ثلاثة أقوال: قد شرحناها في أول العنكبوت «3» . وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الشكِّ والإِيمان حَفِيظٌ، وقال ابن قتيبة: والحفيظ بمعنى الحافظ. قال الخطّابي: وهو فَعِيل بمعنى فاعل، كالقدير،
__________
(1) الأنبياء: 71.
(2) الحجر: 42.
(3) العنكبوت: 3.(3/496)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
والعليم، فهو يحفظ السّموات والأرض بما فيها لتبقى مدَّة بقائها، ويحفظ عباده من المَهالك، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نيَّاتِهم، ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذُّنوب، ويحرسُهم من مكايد الشيطان.
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ المعنى: قل للكفار: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهةٌ ليُنْعِموا عليكم بنِعْمة، أو يكشفوا عنكم بليَّة. ثم أخبر عنهم فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي: من خير وشرّ ونفع وضُرّ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ لم يشاركونا في شيء من خلقهما، وَما لَهُ أي: وما لله مِنْهُمْ أي: من الآلهة مِنْ ظَهِيرٍ أي: من مُعِين على شيء. وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «أُذِنَ له» بفتح الألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ، «أُذِنَ له» برفع الألف، وعن عاصم كالقراءتين. أي: لا تنفع شفاعة مَلَك ولا نبيّ حتى يُؤْذَن له في الشفاعة، وقيل: حتى يؤذَن له فيمن يشفع. وفي هذا ردّ عليهم حين قالوا: إِن هذه الآلهة تشفع لنا. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قرأ الأكثرون: «فُزِّعَ» بضم الفاء وكسر الزاي، قال ابن قتيبة: خُفِّفَ عنها الفَزَع. وقال الزجاج: معناه: كُشِف الفَزَع عن قلوبهم. وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وأبان: «فَزَعَ» بفتح الفاء والزاي، والفعل لله عزّ وجلّ. وقرأ الحسن، وقتادة، وابن يعمر: «فرغ» بالراء غير معجمة، وبالغين معجمة، وهو بمعنى الأول، لأنها فرغت من الفزع. وقال غيره بل فرغت من الشك والشِّرك. وفي المشار إِليهم قولان «1» :
أحدهما: أنهم الملائكة وقد دلَّ الكلام على أنهم يفزعون لأمر يطرأ عليهم من أمر الله ولم يذكره في الآية، لأن إِخراج الفزع يدل على حصوله وفي سبب فَزَعهم قولان: أحدهما: أنهم يفزعون لسماع كلام الله تعالى. وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال:
(1183) «إِذا تكلَّم اللهُ بالوحي سمع أهلُ السماء صلصلةً كجرِّ السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيَهم جبريل، فاذا جاءهم جبريل فزِّع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل، ماذا
__________
حسن بشواهده. أخرجه أبو داود 4738 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 145 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 434 وابن حبان 37، ورجاله ثقات معروفون. وأخرجه موقوفا ابن خزيمة في التوحيد ص 146 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 432 كلاهما عن أبي معاوية به. وأخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» ص 92، 93 والخطيب في «تاريخ بغداد» 11/ 393 وعبد الله بن أحمد في «السنة» ص 71 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 146- 147 من طرق عن الأعمش به موقوفا على عبد الله. وعلقه البخاري عن مسروق عن ابن مسعود موقوفا كما في «الفتح» 13/ 452. ومع ذلك فمثله لا يقال بالرأي، ويشهد لأصله ما بعده.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 375: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، حتى إذا فزِّع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربُّكم؟ قالت الملائكة: الحق. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 659: وقد اختار ابن جرير القول الأول: أن الضمير عائد على الملائكة، وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه.(3/497)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قال ربُّك؟ قال: فيقول: الحق، فينادون: الحقّ الحقّ» .
(1184) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِذا قضى اللهُ عزَّ وجل الأمرَ في السماء ضَربت الملائكةُ بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فاذا فزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربُّكم، قالوا للذي قال: الحقَّ وهو العلي الكبير» .
والثاني: أنهم يفزعون من قيام الساعة. وفي السبب الذي ظنُّوه بدنوِّ الساعة ففزعوا، قولان:
(1185) أحدهما: أنه لمَّا كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، ثم بعث اللهُ محمداً، أنزَل اللهُ جبريل بالوحي، فلمَّا نزل ظنَّت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة، فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمرُّ بكل سماءٍ ويكشف عنهم الفَزَع ويُخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة، ومقاتل، وابن السائب. وقيل: لمّا علموا بالإيحاء إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم، فزعوا، لِعِلمهم أنَّ ظُهوره من أشراط الساعة.
(1186) والثاني: أن الملائكة المعقِّبات الذين يختلفون إِلى أهل الأرض ويكتبون أعمالهم إِذا أرسلهم الله تعالى فانحدروا، يُسْمَع لهم صوتٌ شديد، فيحْسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرُّون سُجَّداً، ويُصْعَقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا كلَّما مرُّوا عليهم، رواه الضحاك عن ابن مسعود.
والقول الثاني: أن الذي أُشير إِليهم المشركون ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى:
حتى إِذا كُشف الفزع عن قلوب المشركين عند الموت- إِقامةً للحجة عليهم- قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربُّكم في الدنيا؟ قالوا: الحقّ، فأقرُّوا حين لم ينفعهم الإِقرار، قاله الحسن، وابن زيد. والثاني:
حتى إِذا كُشف الغِطاء عن قلوبهم يوم القيامة، قيل لهم: ماذا قال ربُّكم؟ قاله مجاهد.
[سورة سبإ (34) : الآيات 24 الى 27]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ يعني المطر وَالْأَرْضِ يعني النبات والثمر. وإِنما
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4701 و 7481 و 4800 وأبو داود 3989 والترمذي 3223 وابن ماجة 194 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 147 وابن حبان 36 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 235- 236 وابن مندة في «الإيمان» 700 والحميدي 1151 من طرق عن سفيان به.
لا أصل له، عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ومقاتل، وكلاهما يضع الحديث. وأخرجه الطبري 28854 عن قتادة قال: يوحي الله إلى جبرائيل، فتفرّق الملائكة، أو تفزع مخافة يكون شيء من أمر الساعة، فإذا جلي عن قلوبهم، وعلموا أنه ليس ذلك من أمر الساعة قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
وهذا من كلام قتادة، ليس بمرفوع، فالخبر ليس له أصل في المرفوع.
موقوف ضعيف. أخرجه الطبري 28855 عن الضحاك عن ابن مسعود قوله، وإسناده ضعيف، شيخ الطبري لم يسمّ، والضحاك لم يلق ابن مسعود.(3/498)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
أُمر أن يسأل الكفار عن هذا، احتجاجاً عليهم بأن الذي يرزُق هو المستحِقُّ للعبادة، وهم لا يُثبتون رازقاً سواه، ولهذا قيل له: قُلِ اللَّهُ لأنهم لا يُجيبون بغير هذا وها هنا تم الكلام. ثم أمره أن يقول لهم:
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مذهب المفسّرين أنّ «أو» ها هنا بمعنى الواو. وقال أبو عبيدة: معنى الكلام: وإِنَّا لَعَلى هُدىً، وإِنَّكم لفي ضلالُ مبين. وقال الفراء: معنى «أو» عند المفسرين معنى الواو، وكذلك هو في المعنى، غير أن العربيَّة على غير ذلك، لا تكون «أو» بمنزلة الواو، ولكنها تكون في الأمر المفوَّض، كما تقول: إِن شئت فَخُذ درهماً أو اثنين، فله أن يأخذ واحداً أو اثنين، وليس له أن يأخذ ثلاثة، وإِنما معنى الآية: وإِنّا لضالُّون أو مهتدون، وإِنكم أيضاً لضالُّون أو مهتدون، وهو يَعْلَمُ أن رسوله المهتدي، وأن غيره الضالُّ، كما تقول للرجل تكذِّبه: واللهِ إِنَّ أحدنا لكاذب- وأنت تعنيه- فكذَّبْتَه تكذيباً غير مكشوف ويقول الرجل: والله لقد قَدِم فلان، فيقول له من يَعْلَم كذبه: قل: إِن شاء الله، فيكذِّبه بأحسنَ من تصريح التكذيب ومن كلام العرب أن يقولوا: قاتله الله، ثم يستقبحونها، فيقول: قاتَعَه الله، ويقول بعضهم: كاتعه الله ويقولون: جوعاً، دعاء على الرجل، ثم يستقبحونها فيقولن: جوداً، وبعضهم يقول: جوساً ومن ذلك قولهم: ويحك وويسك، وإِنما هي في معنى «ويلك» إِلا أنها دونها. قوله تعالى: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا أي: لا تؤاخَذون به وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الكفر والتكذيب والمعنى إِظهار التبرِّي منهم. وهذه الآية عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك. قوله تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يعني عند البعث في الآخرة ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا أي: يقضي بِالْحَقِّ أي: بالعدل وَهُوَ الْفَتَّاحُ القاضي الْعَلِيمُ بما يقضي قُلْ للكفار أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أي: أَعلِموني من أيِّ وجه ألحقتموهم وهم لا يخلُقون ولا يرزُقون كَلَّا ردع وتنبيه والمعنى: ارتدِعوا عن هذا القول، وتنبَّهوا عن ضلالتكم، فليس الأمر على ما أنتم عليه.
[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 30]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي: عامَّة لجميع الخلائق. وفي الكلام تقديم، تقديره: وما أرسلناك إِلاَّ للناس كافَّةً. وقيل: معنى «كافة للناس» : تكفُّهم عمَّا هُم عليه من الكفر، والهاء فيه للمبالغة. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون العذاب الذي يَعِدُهم به في يوم القيامة وإِنما قالوا هذا لأنهم يُنْكرون البعث قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ وفيه قولان: أحدهما: أنه يوم الموت عند النَّزْع والسّياق، قاله الضحاك. والثاني: يوم القيامة، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)(3/499)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي مكَّة لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعنون التوراة والإِنجيل، وذلك أن مؤمني أهل الكتاب قالوا: إِنّ صفة محمد في كتابنا، فكفر أهلُ مكَّة بكتابهم. ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ يعني مشركي مكة مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي: يَرُدُّ بعضُهم على بعض في الجدال واللَّوم يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم الأشراف والقادة: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أي: مصدِّقين بتوحيد الله والمعنى: أنتم منعتمونا عن الإِيمان فأجابهم المتبوعون فقالوا: أنحن صددنكم عن الهُدى أي: منعناكم عن الإِيمان بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ به الرسول؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ بترك الإِيمان- وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سبباً للعداوة في الآخرة- فردَّ عليهم الأتباع فقالوا: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: بل مكرُكم بنا في الليل والنهار.
قال الفراء: وهذا ممَّا تتوسع فيه العرب لوضوح معناه، كما يقولون: ليله قائم، ونهاره صائم، فتضيف الفعل إِلى غير الآدميين، والمعنى لهم. وقال الأخفش: وهذا كقوله تعالى: مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ «1» ، قال جرير:
لقد لُمْتِنا يا أمَّ غَيلانَ في السُّرى ... ونمتِ وَما ليلُ المطيِّ بِنائمِ «2»
وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: «بل مَكَرَ» بفتح الكاف والراء «الليلُ والنهارُ» برفعهما. وقرأ ابن يعمر: «بل مَكْرُ» باسكان الكاف ورفع الراء وتنوينها، «الليلَ والنهارَ» بنصبهما.
قوله تعالى: إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وذلك أنهم كانوا يقولون لهم: إِنَّ دِيننا حقّ ومحمد كذّاب، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ وقد سبق بيانه في يونس «3» .
قوله تعالى: وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِذا دخلوا جهنم غُلَّت أيديهم إِلى أعناقهم، وقالت لهم خزنة جهنم: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا. قال أبو عبيدة: مجاز «هل» ها هنا مجاز الإِيجاب، وليس باستفهام والمعنى: ما تُجزَون إلّا ما كنتم تعملون.
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
__________
(1) محمد: 13.
(2) في «اللسان» : السّرى: سير الليل عامته.
(3) يونس: 54.(3/500)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ أي: نبيّ يُنْذِر إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها وهم أغنياؤها ورؤساؤها.
قوله تعالى: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً. في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المُتْرَفون من كل أُمَّة. والثاني: مشركو مكة، فظنوا من جهلهم أن الله خوَّلهم المال والولد لكرامتهم عليه، فقالوا: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لأن الله أحسن إِلينا بما أعطانا فلا يعذِّبنا، فأخبر أنه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ والمعنى أنَّ بَسْطَ الرِّزق وتضييقه ابتلاءٌ وامتحان، لا أنَّ البَسْطَ يدلُّ على رضى الله، ولا التضييق يدل على سخطه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك. ثم صرح بهذا المعنى بقوله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قال الفراء: يصلُح أن تقع «التي» على الأموال والأولاد جميعاً، لأن الأموال جمع والأولاد جمع وإِن شئتَ وجَّهتَ «التي» إِلى الأموال، واكتفيتَ بها من ذِكْر الأولاد وأنشد لمرّار الأسدي:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» . وقال الزجاج: المعنى: وما أموالكم بالتي تقرِّبكم، ولا أولادكم بالذين يقرِّبونكم، فحُذف اختصاراً. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وأَبو الجوزاء: «باللاتي تقرّبكم» . قال الأخفش: و «زلفى» ها هنا اسم مصدر، كأنه قال: تقرِّبكم عندنا ازْدِلافاً. وقال ابن قتيبة: «زُلْفى» أي: قُرْبى ومَنْزِلةً عِندنا.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ آمَنَ قال الزجاج: المعنى: ما تقرِّبُ الأموالُ إِلاَّ من آمن وعمل بها في طاعة الله، فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ والمراد به ها هنا عشر حسنات، تأويله: لهم جزاءُ الضِّعف الذي قد أعلمتُكم مقداره. وقال ابن قتيبة: لم يُرِدْ فيما يَرى أهلُ النظر- والله أعلم- أنهم يُجازَون بواحدٍ مثله، ولا اثنين، ولكنه أراد جزاء التضعيف، وهو مِثْل يُضَمُّ إِلى مِثْلٍ ما بَلَغ، وكأنَّ الضِّعفَ الزيادةُ، فالمعنى: لهم جزاءُ الزيادة. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ورويس، وزيد عن يعقوب: «لهم جزاءً» بالنصب والتنوين وكسر التنوين وصلاً «الضِّعفُ» بالرفع. وقرأ أبو الجوزاء، وقتادة وأبو عمران الجوني: «لهم جزاءٌ» بالرفع والتنوين «الضِّعفُ» بالرفع.
قوله تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ يعني غُرَف الجنة، وهي البيوت فوق الأبنية. وقرأ حمزة: «في الغُرْفة» على التوحيد أراد اسم الجنس. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل: «في الغُرْفات» بضم الغين وسكون الراء مع الألف. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر: بضم الغين وفتح الراء مع الألف آمِنُونَ من الموت والغير. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره «2» إلى قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي:
يأتي ببدله، يقال: أخلف اللهُ له وعليه: إِذا أبدل ما ذهب عنه. وفي معنى الكلام أربعة أقوال. أحدها: ما أنفقتم من غير إِسراف ولا تقتير فهو يُخْلِفُه، قاله سعيد بن جبير. والثاني: ما أنفقتم في طاعته، فهو يخلفه في الآخرة بالأجر، قاله السدي. والثالث: ما أنفقتم في الخير والبِرِّ فهو يُخْلِفه، إِمَّا أن يعجله في الدنيا،
__________
(1) التوبة: 34. [.....]
(2) الحج: 51- الرعد: 26.(3/501)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
أو يدَّخرَه لكم في الآخرة، قاله ابن السائب. والرابع: أن الإِنسان قد يُنفق ماله في الخير ولا يرى له خَلَفاً أبداً وإِنما معنى الآية: ما كان من خَلَف فهو منه، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لمَّا دار على الألسن أن السلطان يرزُق الجند، وفلان يرزق عياله، أي: يعطيهم، أخبر أنه خير المعطين.
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 45]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني المشركين وقال مقاتل: يعني الملائكة ومَنْ عَبَدها ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ وهذا استفهام تقرير وتوبيخ للعابدين فنزَّهت الملائكةُ ربَّها عن الشِّرك ف قالُوا سُبْحانَكَ أي: تنزيهاً لك مما أضافوه إِليك من الشركاء أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي: نحن نتبرَّأُ إِليك منهم، ما تولّيناهم ولا اتَّخذناهم عابدين، ولسنا نريد وليّاً غيرك بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي: يُطيعون الشياطين في عبادتهم إِيَّانا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ أي: بالشياطين مُؤْمِنُونَ أي:
مصدِّقون لهم فيما يُخبرونهم من الكذب أن الملائكةَ بناتُ الله، فيقول الله تعالى: فَالْيَوْمَ يعني في الآخرة لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ يعني العابدين والمعبودين نَفْعاً بالشفاعة وَلا ضَرًّا بالتعذيب وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا فعبدوا غير الله ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ ... الآية. ثم أخبر أنهم يكذِّبون محمداً والقرآن بالآية التي تلي هذه، وتفسيرها ظاهر. ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بيِّنة، ولم يكذِّبوا محمداً عن يقين، ولم يأتهم قبله كتاب ولا نبيّ يخبرهم بفساد أمره، فقال: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ولا بعث إِليهم نبيّاً قبل محمد وهذا محمول على الذين أنذرهم نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم وقد كان إِسماعيل نذيراً للعرب.
ثم أخبر عن عاقبة المكذِّبين قبلهم مخوِّفاً لهم، فقال: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأمم الكافرة وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما بلغ كفار مكة معشار ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوَّة والمال وطول العمر، قاله الجمهور. والثاني: ما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا هؤلاء من الحُجَّة والبرهان. والثالث: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، حكاهما الماوردي. والمِعشار: العُشر. والنَّكير: اسم بمعنى الإِنكار. قال الزجاج: والمعنى: فكيف كان نكيري وإِنما حُذفت الياءُ لأنَّه آخر آية.
[سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 50]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)(3/502)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ أي: آمُرُكم وأُوصيكم بِواحِدَةٍ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها:
أنها «لا إِله إِلا الله» ، رواه ليث عن مجاهد. والثاني: طاعة الله، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث:
أنها قوله تعالى: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، قاله قتادة. والمعنى: أن التي أَعِظُكم بها، قيامُكم وتشميركم لطلب الحق، وليس بالقيام على الأقدام. والمراد بقوله تعالى: «مثنى» يجتمع اثنان فيتناظران في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والمراد ب «فُرادى» أن يتفكَّر الرجل وحده، ومعنى الكلام: لِيتفكرِ الإِنسانُ منكم وحده، ولْيَخْلُ بغيره، ولْيُناظِر، ولْيَسْتَشِر، فَيَسْتَدِلَّ بالمصنوعات على صانعها، ويُصدِّق الرسول على اتبّاعه، ولْيَقُل الرجلُ لصاحبه: هَلُمَّ فلْنَتَصادق هل رأينا بهذا الرجل جِنَّة قَطّ، أو جرَّبْنا عليه كَذِباً قَطّ. وتم الكلام عند قوله: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، وفيه اختصار تقديره: ثم تتفكَّروا لتعلموا صِحَّة ما أمرتُكم به وأنَّ الرسول ليس بمجنون، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ في الآخرة.
قوله تعالى: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ على تبليغ الرسالة فَهُوَ لَكُمْ والمعنى: ما أسألكم شيئاً ومثله قول القائل: ما لي في هذا فقد وهبتُه لك، يريد: ليس لي فيه شيء.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي: يُلقي الوحي إِلى أنبيائه عَلَّامُ الْغُيُوبِ وقرأ أبو رجاء:
«عَلاَّمَ» بنصب الميم. قُلْ جاءَ الْحَقُّ وهو الإِسلام والقرآن. وفي المراد بالباطل ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه الشيطان، لا يخلُق أحداً ولا يبعثُه، قاله قتادة. والثاني: أنه الأصنام، لا تُبدئ خَلْقاً ولا تُحيي، قاله الضحاك. وقال أبو سليمان: لا يبتدئ الصنم من عنده كلاماً فيُجاب ولا يرُدُّ ما جاء من الحق بحُجَّة.
والثالث: أنه الباطل الذي يُضادُّ الحق فالمعنى: ذهب الباطل بمجيء الحقِّ، فلم تَبْقَ منه بقيَّة يُقبِل بها أو يدبر أو يبدئ أو يعيد، ذكره جماعة من المفسرين.
قوله تعالى قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي: إِثم ضلالتي على نفسي وذلك أنَّ كُفَّار مكَّة زعموا أنه قد ضَلَّ حين ترك دين آبائه وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من الحكمة والبيان.
[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا في زمان هذا الفزع قولان: أحدهما: أنه حين البعث من القبور، قاله الأكثرون. والثاني: أنه عند ظهور العذاب في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال سعيد بن جبير: هو الجيش الذي يُخسف به بالبيداء، يبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقُوا، وهذا حديث مشروح في التفسير، وأن هذا الجيش يؤمُّ البيت الحرام لتخريبه، فيخسف بهم «1» .
وقال الضّحّاك وزيد بن أسلم: هذه الآية فيمن قُتل يوم بدر من المشركين. قوله تعالى: فَلا فَوْتَ المعنى: فلا فَوْتَ لهم، أي: لا يُمكنهم أن يفوتونا وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
__________
(1) هذا من بدع التأويل، ولا يصح، والصواب أن ذلك يوم يحشرون إلى جهنم.(3/503)
من مكانهم يوم بدر، قاله زيد بن أسلم. والثاني: من تحت أقدامهم بالخسف، قاله مقاتل. والثالث:
من القبور، قاله ابن قتيبة. وأين كانوا فهُم من الله قريب.
قوله تعالى: وَقالُوا أي: حين عاينوا العذاب آمَنَّا بِهِ في هاء الكناية أربعة أقوال:
أحدها: أنها تعود إلى الله عزّ وجلّ، قاله مجاهد. والثاني: إِلى البعث، قاله الحسن. والثالث:
إِلى الرسول، قاله قتادة. والرابع: إِلى القرآن، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم:
«التَّنَاوُشُ» غير مهموز. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم: بالهمز. قال الفراء: من همز جعله من «نأشْتُ» ، ومن لم يهمز، جعله من «نُشْتُ» ، وهما متقاربان والمعنى:
تناولتُ الشيء، بمنزلة: ذِمْتُ الشيءَ وذأمْتُه: إِذا عِبْتَه وقد تناوش القومُ في القتال: إِذا تناول بعضُهم بعضاً بالرِّماح، ولم يتدانَوا كُلَّ التداني، وقد يجوز همز «التَّنَاؤش» وهي من «نُشْتُ» لانضمام الواو، مثل قوله تعالى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ «1» . وقال الزجّاج: من همز «التَّنَاؤش» فلأنّ واو التّناوش مضمومة، وكلّ واو مضمومة ضمَّتُها لازمة، إِن شئتَ أبدلت منها همزة، وإِن شئتَ لم تبدل نحو: أدؤر. وقال ابن قتيبة: معنى الآية: وأنَّى لهم التَّناوُشُ لِمَا أرادوا بلوغَه، وإِدراكُ ما طلبوا من التَّوبة مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وهو الموضع الذي تُقْبَل فيه التوبةُ. وكذلك قال المفسرون: أنَّى لهم بتناول الإِيمان والتوبة وقد تركوا ذلك في الدنيا والدنيا قد ذهبت؟! قوله تعالى: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ في هاء الكناية أربعة أقوال قد تقدّمت في قوله تعالى: آمَنَّا بِهِ، ومعنى مِنْ قَبْلُ أي: في الدنيا من قبل معاينة أهوال الآخرة وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أ: يَرْمُون بالظّنِّ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وهو بُعدهم عن العلم بما يقولون. وفي المراد بمقالتهم هذه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يظُنُّون أنهم يُرَدُّون إِلى الدنيا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني:
أنه قولهم في الدنيا: لا بعث لنا ولا جنة ولا نار، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: أنه قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هو ساحر، هو كاهن، هو شاعر، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ أي: مُنع هؤلاء الكفار مما يشتهون، وفيه ستة أقوال:
أحدها: انه الرجوع إِلى الدنيا، قاله ابن عباس. والثاني: الأهل والمال والولد، قاله مجاهد. والثالث:
الإِيمان، قاله الحسن. والرابع: طاعة الله، قاله قتادة. والخامس: التوبة. قاله السدي. والسادس: حيل بين الجيش الذي خرج لتخريب الكعبة وبين ذلك بأن خُسف بهم، قاله مقاتل «2» .
قوله تعالى: كَما فُعِلَ وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وأبو عمران: «كما فَعَل» بفتح الفاء والعين بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ قال الزجّاج: أي: بمن كان مذهبُه مذهبَهم. قال المفسرون: والمعنى: كما فُعل بنُظَرائهم من الكفار، مِنْ قَبْل هؤلاء، فانهم حِيل بينهم وبين ما يشتهون. وقال الضحاك: هم أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ من البعث ونزول العذاب بهم مُرِيبٍ أي: مُوقِعٍ لِلرِّيبة والتُّهمة. والله أعلم بالصّواب.
__________
(1) المرسلات: 11.
(2) لا يصح كما تقدّم.(3/504)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
سورة فاطر
وتسمّى سورة الملائكة، وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: خالِقُهما مبتدئاً على غير مِثال. قال ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر السّموات والأرض حتى اختصم أعرابيَّان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتُها، أي: ابتدأتُها.
قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ وروى الحلبي والقزَّاز عن عبد الوارث: «جاعِلٌ» بالرفع والتنوين «الملائكةَ» بالنصب رُسُلًا يرسلهم إِلى الأنبياء وإِلى ما شاء من الأمور أُولِي أَجْنِحَةٍ أي: أصحاب أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فبعضُهم له جناحان، وبعضُهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ويَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه زاد في خَلْق الملائكة الأجنحة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: يَزيد في الأجنحة ما يشاء، رواه عبّاد بن منصور عن الحسن، وبه قال مقاتل. والثالث: أنه الخلق الحسن، رواه عوف عن الحسن. والرابع: أنه حُسن الصوت، قاله الزهري: وابن جريج.
والخامس: المَلاحة في العينين، قاله قتادة.
قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أي: من خير ورزق. وقيل: أراد بها المطر فَلا مُمْسِكَ لَها وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «فلا مُمْسِكَ له» . وفي الآية تنبيه على أنه لا إِله إِلا هو، إِذ لا يستطيع أحدٌ إِمساك ما فتَحَ وفَتْح ما أمسك.
[سورة فاطر (35) : الآيات 3 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)(3/505)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال المفسرون: الخطاب لأهل مكة، و «اذكُروا» بمعنى احفظوا، ونعمة الله عليهم: إِسكانهم الحَرَم ومنع الغارات عنهم. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وقرأ حمزة والكسائي: «غيرِ الله» بخفض الراء، قال أبو علي: جعلاه صفة على اللفظ، وذلك حَسَنٌ لإِتباع الجرِّ. وهذا استفهام تقرير وتوبيخ والمعنى: لا خالق سواه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر وَمن الْأَرْضِ النبات. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ أي: إِنه يريد هلاككم فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي: أنزِلوه من أنفُسكم منزلة الأعداء، وتجنّبوا طاعته إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي:
شيعته إِلى الكفر لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ.
[سورة فاطر (35) : الآيات 8 الى 9]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
قوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
(1187) أحدها: أنها نزلت في أبي جهل ومشركي مكة، قاله ابن عباس.
والثاني: في أصحاب الأهواء والمِلل التي خالفت الهُدى، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله أبو قلابة. فان قيل: أين جواب «أفَمَنْ زُيِّن له» ؟. فالجواب من وجهين: ذكرهما الزجاج. أحدهما: أن الجواب محذوف والمعنى: أفَمَنْ زُيِّن له سُوء عمله كمن هداه الله؟ ويدُلُّ على هذا قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. والثاني: أن المعنى: أفَمَنْ زُيِّن له سوء عمله فأضلَّه اللهُ ذهبتْ نفسُك عليهم حسرات؟! ويدلّ على هذا قوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ. وقرأ أبو جعفر: «فلا تُذْهِبْ» بضم التاء وكسر الهاء «نَفْسَكَ» بنصب السين. وقال ابن عباس: لا تغتمَّ ولا تُهْلِكْ نَفْسَكَ حَسْرة على تركهم الإِيمان. قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً أي:
تُزعجه من مكانه وقال أبو عبيدة: تجمعُه وتجيء به، و «سُقْناه» بمعنى «نسوقه» والعرب قد تضع «فَعَلْنَا» في موضع «نَفْعَلُ» وأنشدوا:
إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً ... مِنَّي ومَا سَمعوا مِنْ صَالحٍ دَفَنُوا «2»
المعنى: يَطيروا ويَدفِنوا.
قوله تعالى: كَذلِكَ النُّشُورُ وهو الحياة، وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: كما أحيا اللهُ الأرض بعد موتها يُحيي الموتى يوم البعث.
__________
واه بمرة. ورد في «أسباب النزول» للسيوطي 928 برواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وهذا سند تالف، جويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس. والصحيح عموم الآية.
__________
(1) البقرة: 210، آل عمران: 184، لقمان: 33.
(2) البيت لقعنب بن أم صاحب كما في «اللسان» - أذن- وقد سبق تخريجه.(3/506)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
(1188) روى أبو رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله كيف يُحيي اللهُ الموتى؟ وما آيةُ ذلك في خَلْقه؟ فقال: «هل مررتَ بوادي أهلك مَحْلاً، ثم مررتَ به يهتزُّ خَضِراً؟» قلت: نعم، قال:
«فكذلك يُحيي اللهُ الموتى، وتلك آيتُه في خَلْقه» .
والثاني: كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يُحيي الله الموتى بالماء. قال ابن مسعود:
يرسِلُ اللهُ تعالى ماءً من تحت العرش كمنِيِّ الرجال، قال: فتنبت لُحْمانهم وجُسْمانهم من ذلك الماء، كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ هذه الآية. وقد ذكرنا في الأعراف «1» نحو هذا الشّرح.
[سورة فاطر (35) : آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: من كان يريد العزَّة بعبادة الأوثان فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، قاله مجاهد. والثاني: من كان يريد العزَّة فليتعزَّز بطاعة الله، قاله قتادة. وقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(1189) «إِنَّ ربَّكم يقول كل يوم: أنا العزيز، فمن أراد عِزَّ الدَّارَيْن فليُطِع العزيز» .
والثالث: من كان يريد عِلْم العزَّة لِمن هي، فانها لله جميعاً، قاله الفراء.
قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي، والنخعي، والجحدري، والشيزري عن الكسائي: «يُصْعَدُ الكلامُ الطَّيِّبُ» وهو توحيده وذِكْره وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قال علي بن المديني: الكِلَم الطَّيِّب: لا إِله إِلا الله، والعمل الصالح: أداء الفرائض واجتناب المحارم. وفي هاء الكناية في قوله تعالى: يَرْفَعُهُ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إِلى الكَلِم الطَّيِّب فالمعنى: والعمل الصالح يرفع الكَلِم الطَّيِّب، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك. وكان الحسن يقول: يُعْرَض القولُ على الفعل، فان وافق القولَ الفعلُ قُبِل، وإِن خالف رُدَّ. والثاني: أنها ترجع إِلى العمل الصالح، فالمعنى:
والعمل الصالح يرفعُه الكَلِم الطَّيِّب، فهو عكس القول الأول، وبه قال أبو صالح، وشهر بن حوشب.
فاذا قلنا: إِن الكَلِم الطَّيِّب هو التوحيد، كانت فائدة هذا القول أنه لا يُقْبَلُ عملٌ صالح إلّا من موحّد.
__________
ضعيف. أخرجه أحمد 4/ 11 والطيالسي 1089 من حديث أبي رزين، وفيه وكيع بن عدس، قال الذهبي في «الميزان» لا يعرف، تفرد عنه يعلى بن عطاء اه فالإسناد ضعيف، وكيع مجهول العين.
باطل. أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 119 من حديث أنس، وأعله بداود بن عفان، وقال: قال ابن حبان: كان يضع الحديث على أنس. وكرره 1/ 120 من وجه آخر، وأعله بسعيد بن هبيرة، ونقل عن ابن عدي وابن حبان أنه كان يضع الحديث.
__________
(1) الأعراف: 57.
(2) قال الطبري في «تفسيره» 10/ 398: وأولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال: من كان يريد العزة فبالله فليتعزز، فلله العزة جميعا، وقال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 673: من كان يحب أن يكون عزيزا في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله فإنه يحصل له مقصوده، لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعها.(3/507)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
والثالث: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، فالمعنى: والعمل الصالح يرفعُه اللهُ إِليه، أي: يَقْبَلُه. قاله قتادة.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ قال أبو عبيدة: يمكرون: بمعنى يكتسِبون ويجترحِون. ثم في المشار إِليهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلّم في دار الندوة، قاله أبو العالية.
والثاني: أنهم أصحاب الرِّياءَ، قاله مجاهد، وشهر بن حوشب. والثالث: أنهم الذين يعملون السَّيِّئات، قاله قتادة، وابن السائب. والرابع: أنهم قائلو الشِّرك، قاله مقاتل.
وفي معنى يَبُورُ قولان: أحدهما: يَبْطُلُ، قاله ابن قتيبة. والثاني: يَفْسُدُ، قاله الزّجّاج.
[سورة فاطر (35) : الآيات 11 الى 14]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني نسله ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي: أصنافاً، ذكوراً وإِناثاً قال قتادة: زوَّج بعضهم ببعض.
قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي: ما يطُول عمر أحد وَلا يُنْقَصُ وقرأ الحسن، ويعقوب:
«يَنْقُصُ» بفتح الياء وضم القاف مِنْ عُمُرِهِ في هذه الهاء قولان: أحدهما: أنها كناية عن آخر، فالمعنى: ولا يُنْقَص من عمر آخر وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في آخرين. قال الفراء: وإِنما كني عنه كأنه الأول، لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول، كأنه قال: ولا يُنْقَصُ من عمر مُعَمَّر، ومثله في الكلام: عندي درهم ونصفه والمعنى: ونصف آخر. والثاني: أنها ترجع إِلى المُعَمَّر المذكور فالمعنى: ما يذهب من عمر هذا المُعَمَّر يومٌ أو ليلة إِلاَّ وذلك مكتوب قال سعيد بن جبير: مكتوب في أول الكتاب: عمره كذا وكذا سنة، ثم يُكتب أسفل من ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، ذهبت ثلاثة، إِلى أن ينقطع عُمُره وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة وأبو مالك في آخرين.
فأما الكتاب، فهو اللوح المحفوظ. وفي قوله تعالى إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قولان:
أحدهما: أنه يرجع إِلى كتابة الآجال. والثاني: إِلى زيادة العُمُر ونقصانه.
قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ يعني العذب والمِلْح وهذه الآية وما بعدها قد سبق بيانه «1» إِلى قوله: ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ قال ابن عباس: هو القِشْر الذي يكون على ظهر النَّواة. قوله تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد وَلَوْ سَمِعُوا بأن يخلق الله لهم أسماعاً مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ
__________
(1) آل عمران: 27، الرعد: 2، الفرقان: 53، النحل: 14.(3/508)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
أي: لم يكن عندهم إِجابة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي: يتبرَّؤون من عبادتكم وَلا يُنَبِّئُكَ يا محمد مِثْلُ خَبِيرٍ أي: عالِم بالأشياء، يعني نفسه عزّ وجلّ والمعنى أنه لا أخبر منه عزّ وجلّ بما أخبر أنّه سيكون.
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ أي: المحتاجون إِليه وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن عبادتكم الْحَمِيدُ عند خلقه باحسانه إِليهم. وما بعد هذا قد تقدّم بيانه «1» إلى قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي: نَفْس مُثْقَلة بالذُّنوب إِلى حِمْلِها الذي حملتْ من الخطايا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ الذي تدعوه ذا قُرْبى ذا قرابة إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي: يخشونه ولم يَرَوه والمعنى:
إِنما تَنفع بانذارك أهل الخشية، فكأنك تُنذرهم دون غيرهم لمكان اختصاصهم بالانتفاع، وَمَنْ تَزَكَّى أي: تطهَّر من الشِّرك والفواحش، وفعلَ الخير فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي: فصلاحُه لنَفْسه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيجزي بالأعمال. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني المؤمن والمشرك، وَلَا الظُّلُماتُ يعني الشِّرك والضَّلالات وَلَا النُّورُ الهدى والإِيمان، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ فيه قولان: أحدهما: ظِلُّ اللَّيل وسَمُوم النهار، قاله عطاء. والثاني: الظِّلُّ: الجَنَّة، والحَرُور: النَّار، قاله مجاهد. قال الفراء: الحَرُور بمنزلة السَّمُوم، وهي الرِّياح الحارَّة. والحَرُور تكون بالنَّهار وبالليل، والسَّمُوم لا تكون إِلا بالنَّهار. وقال أبو عبيدة: الحَرُور تكون بالنَّهار مع الشمس، وكان رؤبة يقول: الحَرور باللَّيل، والسَّمُوم بالنَّهار.
قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ فيهم قولان: أحدهما: أن الأحياء: المؤمنون، والأموات: الكفار. والثاني: أن الأحياء، العقلاء: والأموات: الجُهَّال. وفي «لا» المذكورة في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها زائدة مؤكِّدة. والثاني: أنها نافية لاستواء أحد المذكورَين مع الآخر. قال قتادة: هذه أمثال ضربها اللهُ تعالى للمؤمن والكافر، يقول: كما لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي: يُفهم من يريد إِفهامه وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والجحدري: «بِمُسْمِعِ مَنْ» على الإِضافة يعني الكفار، شبههم بالموتى، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ قال بعض المفسرين: نُسخ معناها بآية السيف. قوله
__________
(1) إبراهيم: 19- 71، الأنعام: 164.(3/509)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي: ما من أُمَّة إِلا قد جاءها رسول. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب، وافقه في الوصل ورش.
[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
قوله تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ أي: ومِمَّا خَلَقْنا من الجبال جُدَدٌ. قال ابن قتيبة: الجُدَدُ:
الخُطوط والطَّرائق تكون في الجبال، فبعضُها بِيض، وبعضُها حُمر، وبعضُها غرابيبُ سودٌ، والغَرابيب جمع غِرْبِيبٍ، وهو الشديد السواد، يقال: أسْودُ غِرْبِيبٌ، وتمام الكلام عند قوله: «كذلك» ، يقول: من الجبال مختلِفٌ ألوانه، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي: كاختلاف الثمرات. قال الفراء: وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وسودٌ غرابيب، لأنه يقال: أسودُ غِرْبيبٌ، وقلّما يقال: غربيب أسود. وقال الزجاج: المعنى: ومن الجبال غرابيبُ سود، وهي ذوات الصخر الأَسْود. وقال ابن دريد: الغِرْبيب: الأَسْود، أحسِبُ أن اشتقاقه من الغُراب. وللمفسرين في المراد بالغرابيب ثلاثة أقوال: أحدها: الطرائق السُّود، قاله ابن عباس. والثاني: الأودية السود، قاله قتادة.
والثالث: الجبال السود، قاله السدي.
ثم ابتدأ فقال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ يعني العلماء بالله عزَّ وجل. قال ابن عباس:
يريد: إِنَّما يخافُني مِنْ خَلْقي مَنْ عَلِم جبروتي وعِزَّتي وسلطاني. وقال مجاهد والشعبي: العالِم من خاف اللهَ. وقال الربيع بن أنس: من لم يَخْش اللهَ فليس بعالِم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يعني قُرَّاء القرآن، فأثنى عليهم بقراءة القرآن وكان مطرّف يقول: هذه آية القُرَّاء. وفي قوله تعالى يَتْلُونَ قولان: أحدهما: يقرءون. والثاني: يَتبَّعون.
قال أبو عبيدة: وَأَقامُوا الصَّلاةَ بمعنى ويُقيمون وهو إِدامتها لمواقيتها وحدودها. قوله تعالى:
يَرْجُونَ تِجارَةً قال الفراء: هذا جواب قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ. قال المفسرون:
والمعنى: يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسُد ولن تَهْلِك ولن تَكْسُد لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أي: جزاء أعمالهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس: سوى الثّواب ما لم تر عين ولم تسمع أُذن. فأما الشَّكور، فقال الخطّابي: هو الذي يشكُر اليسيرَ من الطاعة، فيُثيب عليه الكثير من الثواب، ويُعطي الجزيل من النِّعمة، ويرضي باليسير من الشُّكر ومعنى الشُّكر المضاف إِليه: الرِّضى بيسير الطَّاعة من العبد، والقبول له، وإِعظام الثواب عليه وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله بالشّكور ترغيب
__________
(1) آل عمران: 184.(3/510)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
الخَلْق في الطاعة قلَّت أو كَثُرت، لئلاَّ يَسْتَقِلُّوا القليل من العمل، ولا يتركوا اليسير منه.
[سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 33]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33)
قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ في «ثُمَّ» وجهان: أحدهما: أنها بمعنى الواو. والثاني: أنها للترتيب. والمعنى: أنزلنا الكتب المتقدِّمة، ثُمَّ أَوْرَثْنا الكتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا وفيهم قولان: أحدهما:
أنهم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن. وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه اسم جنس، والمراد به الكتب التي أنزلها الله عزّ وجلّ، وهذا يخرَّج على القولين. فان قلنا: الذين اصطُفوا أُمَّة محمد، فقد قال ابن عباس: إنّ الله أورث أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم كلَّ كتاب أنزله. وقال ابن جرير الطبري: ومعنى ذلك: أورثهم الإِيمانَ بالكتب كلِّها- وجميع الكتب تأمر باتِّباع القرآن- فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها واستدل على صحة هذا القول بأن الله تعالى قال في الآية التي قبل هذه: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ وأتبعه بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ فعلمنا أنهم أُمَّةٌ محمد، إِذ كان معنى الميراث: انتقال شيء من قوم إِلى قوم، ولم تكن أُمَّةٌ على عهد نبيّنا صلى الله عليه وسلّم انتقل إِليهم كتابٌ من قوم كانوا قبلهم غير أُمَّته. فان قلنا: هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى:
أَورثْنا كلَّ كتاب أُنزل على نبيٍّ ذلك النبيَّ وأتباعَه. والقول الثاني: أن المراد بالكتاب القرآن. وفي معنى «أَوْرَثْنا» قولان: أحدهما: أَعْطَيْنا، لأنَّ الميراث، عطاء، قاله مجاهد. والثاني: أخَّرْنا، ومنه الميراث، لأنه تأخّر عن الميت فالمعنى: أخَّرْنا القرآنَ عن الأُمم السالفة وأعطيناه هذه الأُمَّة، إِكراماً لها، ذكره بعض أهل المعاني.
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه صاحب الصغائر (1190) روى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «سابقُنا سابق، ومقتصدُنا ناجٍ، وظالمُنا مغفورٌ له» .
(1191) وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية، قال: «كلُّهم في الجنة» .
__________
أخرجه العقيلي في «الضعفاء» 1491 من طريق محمد بن أيوب عن عمرو بن الحصين به، وإسناده ضعيف جدا لأجل عمرو بن حصين، فإنه متروك. وأخرجه البيهقي في «البعث» 65 من طريق حفص بن خالد عن ميمون بن سياه عن عمر به. وقال البيهقي: فيه إرسال بين ميمون، وعمر. وانظر ما بعده.
حسن. أخرجه الترمذي 3225 وأحمد 3/ 78 والطبري 29012 والطيالسي 2236 والبيهقي في «البعث» 61 من حديث أبي سعيد، وإسناده ضعيف. فيه رجل من ثقيف عن رجل من كنانة، وكلاهما لم يسمّ، فالخبر واه، وضعفه الترمذي، بقوله: غريب اه لكن له شواهد. وانظر «تفسير الشوكاني» 2065.
- وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» 2577، وفيه نظر، وحسبه الحسن.
__________
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 680: والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهو اختيار ابن جرير، فقد قال: وأما الظالم لنفسه فإنه من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك.(3/511)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
والثاني: أنه الذي مات على كبيرة ولم يَتُب منها، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: أنه الكافر، رواه عمرو بن دينار عن ابن عباس.
(1192) وقد رواه ابن عمر مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم. فعلى هذا يكون الاصطفاء لجملة من أُنزل عليه الكتاب، كما قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» أي: لَشَرف لكم، وكم من مُكْرَم لم يَقبل الكرامة! والرابع: أنه المنافق، حكي عن الحسن. وقد روي عن الحسن أنه قال: الظالم: الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد: الذي قد استوت حسناته وسيِّئاته، والسابق: من رَجَحت حسناتُه.
وروي عن عثمان بن عفان أنه تلا هذه الآية، فقال: سابقُنا أهل جهادنا، ومقتصدِنا أهل حَضَرنا، وظالمُنا أهل بدونا.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ سابِقٌ وقرأ أبو المتوكل والجحدري وابن السميفع: «سَبَّاقٌ» مثل: فَعَّال بِالْخَيْراتِ أي: بالأعمال الصالحة إِلى الجنة، أو إِلى الرَّحمة بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بارادته وأمره ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعني إِيراثهم الكتاب.
ثم أخبر بثوابهم، فجمعهم في دخول الجنة فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها قرأ أبو عمرو وحده:
«يُدْخَلُونَها» بضم الياء وفتحها الباقون، وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: وَلُؤْلُؤاً بالنصب. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان يهمز الواو الثانية ولا يهمز الأولى وفي رواية أخرى أنه كان يهمز الأولى ولا يهمز الثانية. والآية مفسرة في سورة الحج «2» . قال كعب: تحاكت مناكبُهم وربِّ الكعبة، ثم أُعطوا الفضل بأعمالهم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 34 الى 39]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
ثم أخبر عمَّا يقولون عند دخولها، وهو قوله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ الحَزَن والحُزْن واحد، كالبَخَل والبُخْل. وفي المراد بهذا الحزن خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه الحزن
__________
باطل، أخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 5/ 474 عن عمر مرفوعا، وتفرد ابن مردويه به دليل وهنه، ويخالفه ما تقدم من أحاديث، فهو متن باطل.
__________
(1) الزخرف: 44.
(2) الحج: 23. [.....]
(3) قال الطبري في «تفسيره» 10/ 416: وأولى الأقوال عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم الذين أكرمهم بما أكرمهم به أنهم قالوا حين دخلوا الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ وخوف دخول النار من الحزن، والجزع من الموت من الحزن، والجزع من الحاجة إلى المطعم من الحزن ولم يخصص الله إذ أخبر عنهم أنهم حمدوه على إذهابه الحزن عنهم نوعا دون نوع.(3/512)
لطول المقام في المحشر.
(1193) روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أمَّا السابق، فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصِد، فيحاسَب حساباً يسيراً، وأما الظَّالم لنفسه، فانه حزين في ذلك المقام» ، فهو الحزن والغم، وذلك قوله تعالى: «الحمد لله الذي أذهب عنّا الحَزَن» .
(1194) والثاني: أنه الجوع، رواه أبو الدرداء أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا يصح، وبه قال شمر بن عطية. وفي لفظ عن شمر أنه قال: الحزن: هَمُّ الخُبز، وكذلك روي عن سعيد بن جبير أنه قال: الحزن: هَمُّ الخُبز في الدنيا.
والثالث: أنه حزن النار، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والرابع: حزنهم في الدنيا على ذُنوب سلفت منهم، رواه عكرمة عن ابن عباس. والخامس: حزن الموت، قاله عطية.
والآية عامَّة في هذه الأقوال وغيرها، ومن القبيح تخصيص هذا الحزن بالخبز وما يشبهه، وإِنما حزنوا على ذُنوبهم وما يوجبه الخوف.
قوله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنا أي: أنزلنا دارَ الْمُقامَةِ قال الفراء: المُقامة هي الإِقامة، والمَقامة:
المجلس، بالفتح لا غير، قال الشاعر:
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقامَاتٍ وأنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلى الأعْدَاءِ تأْوِيبِ «1»
قوله تعالى: مِنْ فَضْلِهِ قال الزجاج: أي: بتفضُّله، لا بأعمالنا. والنَّصَبُ: التَّعَب.
واللُّغوب: الإِعياء من التَّعب. ومعنى لُغُوبٌ: شيء يُلْغِب أي: لا نتكلّف شيئاً نُعَنّى منه.
قوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي: لا يهلكون فيستريحوا ممَّا هُمْ فيه، ومثله: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ «2» . قوله تعالى: كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وقرأ أبو عمرو: «يجزى» بالياء «كلّ»
__________
حديث حسن أو شبه حسن بطرقه وشواهده دون لفظ «فإنه حزين ... » فهذا ضعيف، ليس له شواهد.
أخرجه أحمد 5/ 194 و 6/ 444 من طريق وكيع عن سفيان به. وأخرجه الحاكم 2/ 426 ومن طريقه البيهقي في «البعث» 62 من طريق جرير عن الأعمش به. وأخرجه أحمد 5/ 198 من طريق أنس بن عياض الليثي عن موسى بن عقبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء به. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 95- (12290) : رواه الطبراني، وأحمد باختصار إلا أنه قال عن ثابت أو أبي ثابت ... وثابت بن عبيد ومن قبله من رجال الصحيح، وفي إسناد الطبراني رجل غير مسمى. وقد فصّل الحاكم في اختلاف طرق هذا الحديث، وقال: إذا كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث أصلا. وللحديث شواهد منها الضعيف، وانظر «فتح القدير» 2066 و 2067.
لم أره مسندا، وأمارة الوضع لائحة عليه، فإنه من بدع التأويل، واكتفى المصنف رحمه الله بقوله: لا يصح.
وورد من كلام شمر بن عطية أحد علماء التفسير، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 4/ 476.
- والصحيح عموم الآية في كل ما يحزن الإنسان من مصائب وهموم ونصب، وهو الذي اختاره المصنف.
__________
(1) البيت لسلامة بن جندل كما في «اللسان» - أوب-.
(2) القصص: 51.(3/513)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
برفع اللام. وقرأ الباقون: «نَجزي» بالنون «كُلَّ» بنصب اللام.
قوله تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها وهو افتعال من الصُّراخ: والمعنى: يستغيثون، فيقولون:
رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً أي: نوحِّدك ونُطيعك غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من الشِّرك والمعاصي فوبَّخهم الله تعالى بقوله: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ قال أبو عبيدة: معناه التقرير، وليس باستفهام والمعنى: أو لم نعمِّركم عُمُراً يتذكرَّ فيه من تَذَكَّر؟! وفي مقدار هذا التعمير أربعة أقوال: أحدها: أنه سبعون سنة، قال ابن عمر: هذه الآية تعيير لأبناء السبعين. والثاني: أربعون سنة. والثالث: ستون سنة، رواهما مجاهد عن ابن عباس، وبالأول منهما قال الحسن، وابن السائب. والرابع: ثماني عشرة سنة، قاله عطاء، ووهب بن منبّه، وأبو العالية، وقتادة.
قوله تعالى: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الشيب، قاله ابن عمر وعكرمة وسفيان بن عيينة والمعنى: أو لم نعمركم حتى شبتم؟! والثاني: النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة وابن زيد وابن السائب ومقاتل. والثالث: موت الأهل والأقارب. والرابع: الحمّى، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: فَذُوقُوا يعني العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي: من مانع يَمنع عنهم. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «1» إلى قوله تعالى: خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ وهي الأُمَّة التي خَلَفَتْ مَنْ قَبْلها ورأت فيمن تقدَّمها ما ينبغي أن تَعتبر به فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي: جزاء كفره.
[سورة فاطر (35) : الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
قوله تعالى: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ المعنى: أَخبِروني عن الذين عبدتم من دون الله واتخذتموهم شركاء بزعمكم، بأيّ شيءٍ أوجبتم لهم الشركة في العبادة؟! أبشيءٍ خلقوه من الارض، أم شارَكوا خالق السموات في خَلْقها؟! ثم عاد إِلى الكفار فقال: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً يأمرهم بما يفعلون فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وحفص عن عاصم: «على بيِّنةٍ» على التوحيد. وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «بيِّناتٍ» جمعاً. والمراد: البيان بأنَّ مع الله شريكاً بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ يعني المشركين يَعِدُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً أنَّ الأصنام تَشفع لهم، وأنّه لا حساب عليهم ولا عقاب. وقال مقاتل: ما يَعِدُ الشيطانُ الكفَّار من شفاعة الآلهة إِلاَّ باطلاً. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي: يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع. قال الفراء وَلَئِنْ بمعنى «ولو» ، و «إِن» بمعنى «ما» ، فالتقدير: ولو زالتا ما أمسكهما من أحد. وقال الزجاج: لمَّا قالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، كادت السمواتُ يتفطَّرْن والجبالُ أن تَزُول والأرضُ أن تنشقَّ، فأمسكها الله عزّ وجلّ وإِنَّما وحَّد «الأرض» مع جمع «السموات» ، لأن الأرض تدل على الأَرَضِين. وَلَئِنْ زالَتا تحتمل وجهين: أحدهما: زوالهما يوم القيامة. والثاني: أن يقال
__________
(1) المائدة: 7.(3/514)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
تقديرًا: وإِن لم تزولا، وهذا مكان يَدُلُّ على القدرة، غير أنه ذكر الحِلْم فيه، لأنه لمَّا أمسكهما عند قولهم: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً «1» ، حلم فلم يعجّل لهم العقوبة.
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني كفار مكة حلفوا بالله قبل إِرسال محمد صلى الله عليه وسلّم لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ أي: رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى أي: أَصْوَبَ دِيناً مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ يعني: اليهود والنّصارى والصّابئين فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وهو محمّد صلى الله عليه وسلّم ما زادَهُمْ مجيئُه إِلَّا نُفُوراً أي: تباعُداً عن الهُدى، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي: عتوّاً على الله وتكبُّراً عن الإِيمان به. قال الاخفش: نصب «استكباراً» على البدل من النفور. قال الفراء: المعنى: فعلوا ذلك استكباراً وَمَكْرَ السَّيِّئِ، فأضيف المكر إلى السّيئ، كقوله: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ «2» ، وتصديقه في قراءة عبد الله: «ومَكْراً سَيِّئاً» ، والهمزة في «السّيئ» مخفوضة، وقد جزمها الأعمش وحمزة، لكثرة الحركات قال الزجّاج: وهذا عند النحويِّين الحُذَّاق لَحْن، إِنّما يجوز في الشِّعر اضطراراً. وقال أبو جعفر النحاس: كان الأعمش يقف على «مَكْرَ السَّيّ» فيترك الحركة، وهو وقف حَسَنٌ تامّ، فغَلِط الراوي فروى أنه كان يَحْذِفُ الإِعراب في الوصل، فتابع حمزة الغلط، فقرأ في الإِدراج بترك الحركة. وللمفسرين في المراد ب «مكر السيّئ» قولان: أحدهما:
أنه الشِّرك. قال ابن عباس: عاقبة الشِّرك لا تَحُلُّ إِلا بمن أشرك. والثاني: أنه المكر برسول الله صلى الله عليه وسلّم، حكاه الماوردي. قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي: ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي: إِلاَّ أن يَنْزِل العذاب بهم كما نَزَل بالأمم المكذِّبة قبلهم فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ في العذاب تَبْدِيلًا وإِن تأخَّر وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي: لا يَقْدِر أحدٌ أن يحوّل العذاب عنهم إلى غيرهم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا هذا عامٌّ، وبعضهم يقول: أراد بالناس المشركين. والمعنى: لو واخذهم بأفعالهم لعجَّل لهم العقوبة. وقد شرحنا هذه الآية في «النحل» «3» .
وما أخللنا به فقد سبق بيانه «4» . قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً قال ابن جرير: بصيرا بمن يستحقّ العقوبة ومن يستوجب الكرامة.
__________
(1) مريم: 88.
(2) الحاقة: 51.
(3) النحل: 61.
(4) يوسف: 109، الروم: 9، الأعراف: 34، النحل: 61.(3/515)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
سورة يس
وفيها قولان «1» : أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والجمهور.
وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إنها مكّيّة إلّا آية منها، وهي قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا «2» . والثاني: أنها مدنيّة، حكاه أبو سليمان الدّمشقي، وقال: ليس بالمشهور.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)
وفي قوله تعالى: يس خمسة أقوال:
(1195) أحدها: أن معناها: يا إنسان، بالحبشية، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومقاتل.
والثاني: أنها قَسَم أقسم اللهُ به، وهو من أسمائه، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أن معناها: يا محمد، قاله ابن الحنفية، والضحاك. والرابع: أن معناها: يا رجُل، قاله الحسن. والخامس: اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء: «يسن» بفتح الياء وكسر النون. وقرأ أبو المتوكل وأبو رجاء وابن أبي عبلة بفتح الياء والنون جميعاً. وقرأ أبو حصين الأسدي بكسر الياء وإظهار النون. قال الزجاج: والذي عند أهل العربية أن هذا بمنزلة افتتاح السُّوَر، وبعض العرب يقول: «يسنَ والقرآن» بفتح النون، وهذا جائز في العربية لوجهين: أحدهما: أن «يس» اسم للسورة، فكأنه قال: اتْلُ يس، وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف. والثاني: أنهُ فتح لالتقاء الساكنين، والتسكين أجود لأنه حرف هجاء. قوله تعالى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ هذا قسم، وقد سبق معنى
__________
أخرجه الطبري 29048 بسند رجاله ثقات عن عكرمة عن ابن عباس، والله أعلم.
__________
(1) قال القرطبي في «تفسيره» 15/ 5: هي مكية بإجماع، إلا أن فرقة قالت: إن قوله تعالى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [الآية 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار ... قلت: وفي هذا نظر وسيأتي.
(2) يس: 45.(3/516)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
«الحكيم» «1» ، قال الزجّاج: وجوابه: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وأحسنُ ما جاء في العربيّة أن يكون «لَمِنَ المرسلين» خبر «إنّ» ، ويكون قوله تعالى: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبراً ثانياً، فيكون المعنى: إِنَكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ، إِنَّكَ على صِراطٍ مستقيم. ويجوز أن يكون «على صِراطٍ» من صلة «المُرْسَلِين» ، فيكون المعنى: إِنَكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ الذين أُرسِلوا على طريقة مستقيمة. قوله تعالى: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «تنزيلُ» برفع اللام. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تنزيلَ» بنصب اللام. وعن عاصم كالقراءتين. قال الزجاج: من قرأ بالنصب، فعلى المصدر، على معنى: نزَّل اللهُ ذلك تنزيلاَ، ومن قرأ بالرفع، فعلى معنى: الذي أُنزلَ إليكَ تنزيلُ العزيز. وقال الفراء: من نصب، أراد: إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ تنزيلاً حَقاَ مُنزَلاً ويكون الرفع على الاستئناف، كقوله: «ذلك تنزيل العزيز» .
وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رزين، وأبو العالية، والحسن، والجحدري: «تنزيلِ» بكسر اللام. وقال مقاتل: هذا القرآن تنزيل العزيز في ملكه، الرحيمِ بخَلْقه.
قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ في «ما» قولان: أحدهما: أنها نفي، وهو قول قتادة والزجاج في الأكثرين. والثاني: أنها بمعنى «كما» ، قاله مقاتل. وقيل: هي بمعنى «الذي» .
قوله تعالى: فَهُمْ غافِلُونَ أي: عن حجج التوحيد وأدلّة البعث.
[سورة يس (36) : الآيات 7 الى 12]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ فيه قولان: أحدهما: وجب العذاب. والثاني: سبق القول بكفرهم.
قوله تعالى: عَلى أَكْثَرِهِمْ يعني أهل مكة، وهذه إِشارة إِلى إِرادة الله تعالى السابقة لكفرهم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لِمَا سبق من القَدَر بذلك. إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها مَثَلٌ، وليس هناك غُلٌّ على حقيقة، قاله أكثر المحقِّقين، ثم لهم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها مَثَل لمنعهم عن كل خير، قاله قتادة. والثاني: لحبسهم عن الإِنفاق في سبيل الله بموانع كالأَغلال، قاله الفراء، وابن قتيبة. والثالث: لمنعهم من الإِيمان بالله، قاله أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أنها موانع حسّيّة منعت ما يمنع الغلّ.
__________
(1) البقرة: 32.
(2) قال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 692: يقول الله تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غلّ، فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مقمحا، ولهذا قال: فَهُمْ مُقْمَحُونَ، والمقمح هو الرافع رأسه، كما قالت أم زرع في كلامها: «وأشرب فأتقمح» ، أي: أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئا وترويا. واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين، لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق، اكتفى بذكر العنق عن اليدين.(3/517)
(1196) قال مقاتل بن سليمان: حلف أبو جهل لئن رأى النبيّ صلى الله عليه وسلّم يصليِّ لَيَدْمَغَنَّهُ، فجاءه وهو يصليِّ، فرفع حجراً فيَبِسَتْ يدُه والتصق الحجر بيده، فرجَع إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، فقام رجل منهم فأخذ الحجر، فلمّا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم طَمَسَ اللهُ على بصره فلم يره، فرجَع إلى أصحابه فلم يُبْصِرهم حتى نادَوْه، فنزل في أبي جهل: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا الآية. ونزل في الآخر: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا.
والقول الثالث: أنه على حقيقته، إلاَّ أنَّه وَصْفٌ لِمَا سيُنْزِلُه اللهُ تعالى بهم في النار، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ قال الفراء: «فهي» كناية عن الأيمان، ولم تُذْكَر، لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في اليمين والعنق جامعاً لهما، فاكتُفيَ بذكر أحدهما عن صاحبه. وقال الزجّاج: «هي» كناية عن الأيدي، ولم يذكرها إيجازاً، لأن الغُلَّ يتضمن اليد والعنق، وأنشد:
وَمَا أدْرِي إِذَا يمَّمْتُ أَرْضاً ... أُرِيْدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِيني
وإنما قال: أَيُّهما، لأنه قد علم أن الخير والشرَّ معرَّضان للإنسان. قال الفراء: والذَّقْن: أسفل اللَّحْيَيْن، والمُقْمَحُ: الغاضّ بصره بعد رفع رأسه. قال أبو عبيده: كل رافعٍ رأسَه فهو مُقَامِح وقَامِح، والجمع: قِماح، فإن فُعل ذلك بإنسان فهو مُقْمَح، ومنه هذه الآية. وقال ابن قتيبة: يقال: بعيرٌ قامِحٌ، وإبلٌ قِماحٌ: إذا رَوِيَتْ من الماء فقَمَحَتْ، قال الشاعر- وذكر سفينة-:
ونحنُ على جَوانِبِها قُعُودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِمَاحِ «1»
وقال الأزهري: المُراد أنَّ أيديهم لمّا غُلَّت عند أعناقهم، رَفَعَتْ الأغلالُ أذقانَهم ورؤوسَهم، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إيَّاها.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بفتح السين، والباقون: بضمها، وقد تكلّمنا على الفرق بينهما في سورة الكهف «2» . وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: منعناهم عن الإِيمان بموانع، فهم لا يستطيعون الخروج عن الكفر. والثاني: حجبناهم عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالظّلمة لمّا قصدوه بالأذى.
__________
عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهو ممن يضع الحديث. وأخرجه أبو نعيم في «دلائل النبوة» 156 من طريق إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس مطوّلا بنحوه، وليس فيه ذكر رجل، ولا ذكر نزول الآية، وإسناده ضعيف فيه من لم يسمّ. وأخرج أبو نعيم 152 من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه: أن رجلا من بني مخزوم قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وفي يده مهز، ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ... » . وهذا مرسل. وليس فيه أن الآية نزلت بسبب ذلك. وأخرج الطبري 29064 عن عكرمة مرسلا «قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا لأفعلن، ولأفعلن» فأنزلت إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا....
وانظر «صحيح البخاري» 4958 حديث ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأنّ على عنقه. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «لو فعله لأخذته الملائكة» .
__________
(1) البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي، كما في «تفسير القرطبي» 15/ 12 و «اللسان» - قمح-.
(2) الكهف: 94. [.....](3/518)
قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ قال ابن قتيبة: أغشينا عيونَهم وأعميناهم عن الهُدىَ. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ويحيى بن يعمر: «فأعشيناهم» بعين غير معجمة. ثم ذكر أن الإِنذارَ لا ينفعهم لإِضلاله إيَّاهم بالآية التي بعد هذه. ثم أخبر عمَّن ينفعُه الإِنذارُ بقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ أي: إنَّما يَنفع إِنذارُك مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وهو القرآن، فعمل به وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وقد شرحناه في الأنبياء «1» ، والأجر الكريم: الحسن، وهو الجنّة. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى للبعث وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا من خير وشرٍّ في دنياهم. وقرأ النخعي، والجحدري: «ويُكْتُبُ» بياء مرفوعة وفتح التاء «وآثارُهم» برفع الراء.
وفي أثارهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنها خُطاهم بأرجُلهم، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة.
(1197) قال أبو سعيد الخدري: شَكَت بنو سَلِمَةَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بُعْدَ منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «عليكم منازلكم، فإنّما يكتب آثارُكم» ، وقال قتادة وعمر بن عبد العزيز: لو كان اللهُ مُغْفِلاً شيئاً، لأغفل ما تعفِّي الرِّياحُ «2» من أثرَ قَدَم ابن آدم.
والثاني: أنها الخُطا إلى الجمعة، قاله أنس بن مالك. والثالث: ما أثَروا من سُنَّة حسنة أو سيِّئة يُعْمَل بها بعدهم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، واختاره الفراء، وابن قتيبة، والزجاج.
قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: «وكُلٌّ» برفع اللام، أي: مِنَ الأعمال أَحْصَيْناهُ أي: حَفِظْناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ وهو اللوح المحفوظ.
__________
ذكر نزول الآية ضعيف، وأصل الحديث صحيح. أخرجه الترمذي 3226 والطبري 29073 وعبد الرزاق في «المصنف» 1982 من طريق سفيان الثوري عن أبي سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري ومداره على طريف بن شهاب، وهو ضعيف. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري، وأبو سفيان هو طريف السعدي. وأخرجه الحاكم 2/ 428 والواحدي في «أسباب النزول» 720 وفي «الوسيط» 3/ 510- 511 من طريق الثوري، عن سعد بن طريف عن أبي نضرة به، وفي الإسناد قلب، والصواب طريف بن شهاب كما تقدم. وقال ابن كثير في «التفسير» عند هذه الآية: فيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية والسورة بكاملها مكية، فالله أعلم. وورد من رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس عند ابن ماجة 785 والطبري 29069 و 2970 وقال البوصيري في «الزوائد» هذا موقوف، فيه سماك، وهو ابن حرب، وإن وثقه ابن معين، وأبو حاتم، فقد قال أحمد: مضطرب الحديث، وقال يعقوب بن شيبة: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وروايته عن غيره صالحة. وأشار الحافظ في «الفتح» 2/ 140 إلى هذه الرواية وقال: وإسناده قوي. وفيه نظر، والصواب أن إسناده ضعيف لضعف سماك في عكرمة، فقد روى عنه مناكير. والسورة مكية كلها كما قال الحافظ ابن كثير، والصواب حديث أنس بن مالك في «صحيح البخاري» وغيره، وحديث جابر عند مسلم، وليس فيه نزول الآية. قال أنس رضي الله عنه: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تعرى المدينة وقال: «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم؟» فأقاموا. أخرجه البخاري 655- 656- 1887 وابن ماجة 784 وأحمد 3/ 106 و 182 و 263 والبيهقي 3/ 64 والبغوي في «شرح السنة» 470 من طرق عن حميد به. وحديث جابر، أخرجه مسلم 665 وأحمد 3/ 332 و 333 و 371 و 390 وابن حبان 2042 وأبو عوانة 1/ 387 والبيهقي 3/ 64 وأبو يعلى 2157.
__________
(1) الأنبياء: 49.
(2) عفت الرياح الأثر: إذا طمسته ومحته.(3/519)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 19]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا المعنى: صف لأهل مكة مثلاً أي: شِبْهاً. وقال الزجاج:
المعنى: مَثَلَ لهم مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ وهو بدل من مَثَل، كأنه قال: اذكُرْ لهم أصحابَ القرية. وقال عكرمة، وقتادة: هذه القرية هي أنطاكية «1» . إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ وفي اسميهما ثلاثة أقوال «2» :
أحدها: صادق وصدوق، قاله ابن عباس، وكعب. والثاني: يوحنا وبولس، قاله وهب بن منبه.
والثالث: تومان وبولس، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَعَزَّزْنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «فعَزَّزْنا» بتشديد الزاي، قال ابن قتيبة: المعنى: قوَّيْنَا وشدَّدْنَا، يقال: تعزَّز لحمُ النّاقة: إذا صَلُب. وقرأ أبو بكر، والمفضَّل عن عاصم: «فعَزَزْنا» خفيفة، قال أبو علي: أراد: فغَلَبْنا.
قال مقاتل: واسم هذا الثالث شمعون، وكان من الحواريِّين، وهو وصيُّ عيسى عليه السلام. قال وهب: وأوحى اللهُ إلى شمعون يُخبره خبر الاثنين ويأمره بنُصرتهما، فانطلق يؤمُّهما. وذكرَ الفراء أن هذا الثالث كان قد أُرسل قبلَهما قال: ونراه في التنزيل كأنه بعدهما، وإنما المعنى: فعزَّزنا بالثالث الذي قبلهما، والمفسرون على أنه إنما أُرسل لنُصرتهما، ثُمَّ إِنَّ الثالث إِنما يكون بعد ثانٍ، فأمَّا إِذا سبق الاثنين فهو أوَّل وإنِّي لأتعجب من قول الفراء.
واختلف المفسِّرون فيمن أَرسلَ هؤلاء الرُّسل على قولين «3» : أحدهما: أنّ الله تعالى أرسلهم،
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 3/ 695- 698: وقد استشكل بعض الأئمة كونها أنطاكية بما سيأتي في نهاية القصة وهو أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح، ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة، وهن القدس لأنها بلد المسيح، وأنطاكية لأنها أول بلد آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية قد ذكر الله تعالى أنهم كذّبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم. وإن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف: أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) هذه الأقوال لا حجة فيها جميعا لأن مصدرها كتب الأقدمين، فالله أعلم بالصواب.
(3) قال ابن كثير في «التفسير» 3/ 698: إن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله- عز وجل- لا من جهة المسيح، كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ... إلى أن قالوا: بُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ
ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام، والله أعلم. ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا.(3/520)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
وهو ظاهر القرآن، وهو مرويّ عن ابن عباس، وكعب، ووهب. والثاني: أن عيسى أَرسلهم، وجاز أن يُضاف ذلك إلى الله تعالى لأنهم رسل رسوله، قاله قتادة، وابن جريج.
قوله تعالى: قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي: ما لكم علينا فضل في شيء وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ أي: لم يُنزِل كتاباً ولم يُرسِل رسولاً. وما بعده ظاهر إلى قوله: قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ وذلك أن المطر حُبس عنهم، فقالوا: إِنَّما أصابنا هذا من قِبلَكم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا أي: تسكتُوا عنا لَنَرْجُمَنَّكُمْ أي لَنَقْتُلَنَّكم. قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي: شؤمكم معكم بكفركم لا بنا أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ قرأ ابن كثير «أين ذُكِّرْتم» بهمزة واحدة بعدها ياء وافقه أبو عمرو إلاَّ أنه كان يَمُدُّ. قال الأخفش: معناه حيث ذُكِّرتم، أي وُعِظتم وخُوِّفتم، وهذا استفهام جوابه محذوف تقديره: أئن ذُكِّرتم تطيَّرتم بنا؟ وقيل: أئن ذكرتم قلتم هذا القول؟ والمسرفون ها هنا المشركون.
[سورة يس (36) : الآيات 20 الى 29]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى واسمه حبيب النجّار، وكان مجذوماً، وكان قد آمن بالرُّسل لمَّا وردوا القرية، وكان منزلهُ عند أقصى باب من أبواب القرية، فلمَّا بلغه أنَّ قومه قد كذَّبوا الرُّسل وهمُّوا بقتلهم، جاء يسعى، فقال ما قصّه الله علينا إلى قوله تعالى: وَهُمْ مُهْتَدُونَ يعني الرُّسل، فأخذوه ورفعوه إلى الملِك، فقال له الملِك: أفأنت تَتبعهم؟ فقال: وَما لِيَ أسكن هذه الياء حمزة، وخلف، ويعقوب لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي: وأيُّ شيء لي إِذا لم أعبُد خالقي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عند البعث، فيَجزِيكم بكُفركم؟! فإن قيل: لِمَ أضاف الفِطرةَ إلى نفسه والبعثَ إليهم وهو يَعلم أنّ الله فطَرهم جميعاً كما يَبعثهم جميعاً؟ فالجواب: أن إيجاد الله تعالى نِعمة يوجب الشُّكر، والبعثُ في القيامة وعيدٌ يوجب الزَّجر، فكانت إِضافةُ النِّعمة إِلى نفسه أظهرَ في الشُّكر، وإِضافةُ البعث إِلى الكافر أبلغ في الزَّجر.
ثم أنكر عبادة الأصنام بقوله تعالى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.
قوله تعالى: لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ يعني أنه لا شفاعة لهم فتُغْني، وَلا يُنْقِذُونِ أثبت ها هنا(3/521)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
الياء في الحالين يعقوب، وورش، والمعنى: لا يخلِّصوني من ذلك المكروه. إِنِّي إِذاً فتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو.
قوله تعالى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فتح هذه الياء أهل الحجاز وأبو عمرو. وفيمن خاطبهم بإيمانه قولان: أحدهما: أنه خاطب قومه بذلك، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه خاطب الرُّسل. ومعنى فَاسْمَعُونِ: اشهَدوا لي بذلك، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: المعنى: فاسمَعوا منِّي. وأثبت ياء «فاسمَعوني» في الحالين يعقوب. قال ابن مسعود: لمَّا خاطب قومه بذلك، وطئوه بأرجُلهم. وقال السدي: رمَوْه بالحجارة، وهو يقول: اللهّم اهْدِ قَومي.
قوله تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ لمَّا قتلوه فلقي الله عزّ وجلّ، قيل له: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فلمَّا دخلها قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي، وفي «ما» قولان:
أحدهما: أنها مع «غَفَرَ» في موضع مصدر والمعنى بغُفران الله لي. والثاني: أنها بمعنى «الذي» ، فالمعنى: ليتهم يَعلمون بالذي غَفَرَ لي به ربِّي فيؤمنون، فنصحهم حياً وميتاً.
فلمَّا قتلوه عجَّل اللهُ لهم العذاب، فذلك قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ يعنى قوم حبيب مِنْ بَعْدِهِ أي: مِنْ بَعْدِ قتله مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ يعني الملائكة، أي: لم ينتصر منهم بجُند من السَّماء وَما كُنَّا نُنْزِلهم على الأُمم إذا أهلكناهم. وقيل: المعنى: ما بعثْنا إليهم بعده نبيّاً، ولا أنزلنا عليهم رسالة. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال المفسِّرون: أخذ جبريل عليه السلام بِعِضَادَتَي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم ميّتون لا يُسْمَع لهم حِسٌّ كالنَّار إِذا طُفئت، وهو قوله تعالى: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي: ساكنون كهيئة الرّماد الخامد.
[سورة يس (36) : الآيات 30 الى 36]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
قوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ قال الفرّاء: المعنى: يا لها حَسْرَة على العباد. وقال الزجاج:
الحَسْرَةُ أن يركب الإنسان من شدّة النّدم ما لا نهاية له حتى يبقى قلبُه حَسِيراً. وفي المتحسِّر على العباد قولان: أحدهما: أنهم يتحسَّرون على أنفسهم، قال مجاهد والزجاج: استهزاؤهم بالرُّسل كان حسرةً عليهم في الآخرة. وقال أبو العالية: لمَّا عايَنوا العذاب، قالوا: يا حسرتنا على المرسَلين، كيف لنا بهمُ الآن حتى نؤمِن. والثاني: أنه تحسُّر الملائكة على العباد في تكذيبهم الرُّسل، قاله الضحاك.
ثم خوَّف كُفَّاَر مكَّة فقال: أَلَمْ يَرَوْا أي: ألم يَعْلَموا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ فيعتبروا ويخافوا أن نعجِّل لهم الهلاك كما عجِّل لمن أُهلك قبلهم ولم يرجعوا إلى الدنيا؟!. قال الفراء: وأَلِف أَنَّهُمْ مفتوحة، لأن المعنى: ألم يَرَوا أنَّهم إِليهم لا يرجعون. وقد كسرها الحسن، كأنه لم يُوقِع(3/522)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
الرؤية على «كم» ، فلم يوقِعها على «أنّ» وإِن استأنفتَها كسرتَها.
قوله تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة: «لَمَّا» بالتشديد، جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي: إِن الأُمم يُحضَرون يوم القيامة، فيجازَون بأعمالهم. قال الزجاج: من قرأ «لَمَا» بالتخفيف، ف «ما» زائدة مؤكِّدة، والمعنى: وإِنْ كُلُّ لَجميعٌ، ومعناه: وما كُلُّ إِلاَّ جميع لدينا مُحضَرون. ومن قرأ «لَمَّا» بالتشديد، فهو بمعنى «إلاَّ» ، تقول: «سألتُكَ لمّا فعلت» و «إلّا فعلتَ» .
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ وقرأ نافع: «المَيِّتَةُ» بالتشديد، وهو الأصل، والتخفيف أكثر، وكلاهما جائز و «آية» مرفوعة بالابتداء، وخبرها «لهم» ، ويجوز أن يكون خبرها «الأرضُ الميتةُ» والمعنى:
وعلامةٌ تدلُّهم على التوحيد وأنَّ الله يَبْعَثُ الموتى أحياءً، الأرضُ الميتةُ.
قوله تعالى: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ يعنى ما يُقتات من الحبوب.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها وقوله تعالى وَفَجَّرْنا فِيها يعني في الأرض.
قوله تعالى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ يعني النخيل، وهو في اللفظ مذكَّر. وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «عَمِلَتْهُ» بهاءٍ. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «عَمِلَتْ» بغير هاءٍ. والهاء مُثْبَتة في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة، ومحذوفة من مصاحف أهل الكوفة. قال الزّجّاج: موضع «ما» خفض والمعنى: ليأكُلوا من ثمره وممَّا عملَتْه أيديهم ويجوز أن يكون «ما» نفياً المعنى: ولم تعمله أيديهم، وهذا على قراءه من أثبت الهاء، فإذا حُذفت الهاءُ، فالاختيار أن تكون «ما» في موضع خفض، وتكون بمعنى «الذي» ، فَيحْسُن حذف الهاء وكذلك ذكر المفسِّرون القولين، فمن قال بالأول. قال: ليأكُلوا ممَّا عملتْ أيديهم، وهو الغُروس والحُروث التي تعبوا فيها، ومن قال بالثاني. قال: ليأكُلوا ما ليس مِنْ صُنعهم، ولكنه مِنْ فِعل الحقّ عزّ وجلّ أَفَلا يَشْكُرُونَ الله تعالى فيوحِّدوه؟!. ثم نزَّه نفسه بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها يعني الأجناس كلّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من الفواكه والحبوب وغير ذلك وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وهم الذكور والإِناث وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من دوابِّ البَرِّ والبحر وغير ذلك ممّا لم يَقِفوا على علمه.
[سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أي: وعلامة لهم تَدُلُّ على توحيدنا وقدرتنا الليلُ نَسلخ منه النهار قال الفراء: نرمي بالنهار عنه، و «منه» بمعنى «عنه» . وقال أبو عبيدة: نُخْرِجُ منه النهار ونميِّزه منه فتجيء الظُّلمة، قال الماوردي: وذلك أنّ ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء، فإذا خرج منه أظلم. وقوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي: داخلون في الظَّلام. وَالشَّمْسُ أي: وآيةٌ لهم الشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها وفيه أربعة أقوال:
أحدها: إلى موضع قرارها. روى أبو ذر قال:(3/523)
(1198) سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله: لِمُسْتَقَرٍّ لَها قال: «مُسْتَقَرُّها تحت العَرْش» .
وقال: «إِنَّها تذهب حتى تسجُد بين يَدَي ربِّها، فتَستأذِنُ في الطُّلوع، فيؤذَنُ لها» .
والثاني: أنَّ مُسْتَقَرَّها مغربها لا تجاوزُه ولا تقصر عنه، قاله مجاهد. والثالث: لِوقت واحدٍ لا تعدُوه، قاله قتاده. وقال مقاتل: لِوقت لها إِلى يوم القيامة. والرابع: تسير في منازلها حتى تنتهيَ إلى مُسْتَقَرِّها الذي لا تجاوزُه، ثم ترجِع إِلى أوَّل منازلها، قاله ابن السائب. وقال ابن قتيبة: إلى مُسْتَقَرٍ لها، ومُسْتَقَرُّها: أقصى منازلها في الغُروب، وذلك لأنها لا تزال تتقدَّم إِلى أقصى مغاربها ثم ترجع. وقرأ ابن مسعود وعكرمة وعليّ بن الحسين والشيزري عن الكسائي «لا مُسْتَقَرَّ لها» والمعنى أنها تجري أبداً لا تثبُت في مكان واحد. قوله تعالى: ذلِكَ الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس والقمر تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في مُلكه الْعَلِيمِ بما يقدِّر.
قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «والقَمَرُ» بالرفع. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «والقمر» بالنصب. قال الزجاج: من قرأ بالنصب، فالمعنى: وقدَّرْنا القمر قدَّرناه منازل، ومن قرأ بالرفع، فالمعنى: وآيةٌ لهم القمرُ قدَّرْناه، ويجوز أن يكون على الابتداء، و «قدَّرْناه» الخبر. قال المفسِّرون: ومنازلُ القمر ثمانيةٌ وعشرون منزِلاً ينزِلها من أوَّل الشَّهر إلى آخره، وقد سمَّيناها في سورة يونس «1» ، فإذا صار إلى آخر منازله، دَقَّ فعاد كالعُرجون، وهو عود العِذْق الذي تركته الشماريخ «2» ، فإذا جفَّ وقَدُمُ يشبه الهلال. قال ابن قتيبة: و «القديم» ها هنا: الذي قد أتى عليه حَوْلٌ، شُبِّه القمرُ آخِر لَيلةٍ يطلعُ به. قال الزجاج: وتقدير «عُرجون» : فُعْلون، من الانعراج. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، والضحاك، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «كالعِرْجَوْن» ، بكسر العين.
قوله تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ فيه ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنهما إذا اجتمعا في السماء، كان أحدهما بين يَدَي الآخر، فلا يشتركان في المنازل، قاله ابن عباس. والثاني: لا يُشْبِه ضوءُ أحدهما ضوءُ الآخر، قاله مجاهد. والثالث: لا يجتمع ضوءُ أحدهما مع الآخر، فإذا جاء سُلطان أحدهما ذهب سُلطان الآخر، قاله قتادة فيكون وجه الحكمة في ذلك أنه لو اتصل الضوء، لم يعرف
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4803 و 7433 ومسلم 159 ح 251 وأحمد 5/ 158 وابن حبان 6152 والواحدي في «الوسيط» 3/ 514 من طرق عن وكيع به عن أبي ذر مرفوعا.
- وأخرجه الطحاوي في «المشكل» 281 من طريق أبي معاوية عن الأعمش به.
__________
(1) يونس: 5.
(2) في «اللسان» : الشمروخ: غصن دقيق رخص ينبت في أعلى الغصن الغليظ في سنته رخصا.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 442: يقول تعالى ذكره: لا الشمس يصلح لها إدراك القمر فيذهب ضوءها بضوئه فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يقول تعالى ذكره: ولا الليل بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلا اه.
وقال ابن كثير رحمه الله: يعني لكل منهما سلطانا، فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل ولا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار، فسلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل. وأنه لا فترة بين الليل والنهار بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ، لأنهما سخران دائبين يتطالبان طلبا حثيثا.(3/524)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
الليل. قوله تعالى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وعاصم الجحدري: «سابِقُ» بالتنوين «النَّهارَ» بالنصب، وفيه قولان: أحدهما: لا يَتقدَّم الليلُ قبل استكمال النهار. والثاني: لا يأتي ليل بعد ليل من غير نهار فاصل بينهما. وباقي الآية مفسّر في سورة الأنبياء «1» .
[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 46]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46)
قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ نافع، وابن عامر: «ذُرْيَّاتِهِمْ» على الجمع وقرأ الباقون من السبعة: «ذُرِّيَّتَهُمْ» على التوحيد. قال المفسِّرون: أراد: في سفينة نوح، فنسب الذُّرِّيَّة إلى المخاطَبين، لأنهم من جنسهم، كأنه قال: ذُرِّيَّة الناس. وقال الفراء: أي: ذُرِّيَّة مَنْ هو منهم، فجعلها ذُرِّيَّةً لهم، وقد سبقتْهم. وقال غيره: هو حَمْلُ الأنبياء في أصلاب الآباء حين رَكِبوا السفينة، ومنه قول العباس:
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفينَ وقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْراً وأَهْلَهُ الغَرَقُ
قال المفضّل بن سلمة: الذُّرِّيَّة: النَّسْل، لأنهم مَنْ ذرأهم اللهُ منهم، والذُّرِّيَّة أيضا: الآباء، لأن الذَّرَّ وقع منهم، فهو من الأضداد، ومنه هذه الآية، وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ «2» . والمشحون: المملوء. قوله تعالى: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ فيه قولان: أحدهما: مِثْل سفينة نوح، وهي السُّفُن، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، وأبو مالك، وأبو صالح، والمراد بهذا ذِكْر مِنَّته بأن خَلَق الخشب الذي تُعْمَل منه السُّفُن. والثاني: أنها الإِبل، خَلَقها لهم للرُّكوب في البَرِّ مثل السُّفُن المركوبة في البحر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وعن الحسن وقتادة كالقولين.
قوله تعالى: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي: لا مُغيثَ ولا مُجِير وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ أي: ينجون من الغرق، يقال: أنقَذه واستنقَذه: إذا خلَّصه من المكروه، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا المعنى: إلا أن نرحمهم ونمتِّعهم إلى آجالهم. قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ يعني الكُفَّار اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ فيه أربعة أقوال:
أحدها: «ما بين أيديكم» : ما مضى من الذُّنوب، «وما خَلْفكم» : ما يأتي من الذنُّوب، قاله مجاهد.
والثاني: ما تَقدَّم من عذاب الله للأُمم، «وما خلفكم» من أمر الساعة، قاله قتادة. والثالث: «ما بين أيديكم» من الدنيا، «وما خَلْفكم» من عذاب الآخرة، قاله سفيان. والرابع: «ما بين أيديكم» من أمر الآخرة، «وما خَلْفكم» من أمر الدنيا فلا تَغْتَرُّوا بها. قاله ابن عباس والكلبي. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي:
لتكونوا على رجاء الرحمة من الله. وجواب «إذا» محذوف، تقديره: إِذا قيل لهم هذا، أعرضوا ويدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ أي: من دلالة تدلّ على صدق الرّسول.
__________
(1) الأنبياء: 33.
(2) آل عمران: 34.(3/525)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
[سورة يس (36) : الآيات 47 الى 58]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56)
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: في اليهود، قاله الحسن. والثاني: في الزنادقة، قاله قتادة.
(1199) والثالث: في مشركي قريش، قاله مقاتل وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين النصيب الذي زعمتم أنه لله من الحرث والأنعام، فقالوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ.
(1200) وقال ابن السائب: كان العاص بن وائل إذا سأله المسكين، قال: اذهب إلى ربِّك فهو أولى بك مني ويقول: قد منعه الله، أُطعمه أنا؟! ومعنى الكلام أنهم قالوا: لو أراد اللهُ أن يرزقهم لرزقهم، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نُطْعِمهم وهذا خطأٌ منهم، لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضاً، ليبلوَ الغنيَّ بالفقير فيما فرض له في ماله من الزكاة، والمؤمن لا يعترض على المشيئة، وإنما يوافق الأمر. وقيل: إنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء. وفي قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قولان: أحدهما: أنه من قول الكفار للمؤمنين، يعنون: إِنكم في خطأٍ من اتِّباع محمد. والثاني: أنه من قول الله للكفار لما ردُّوه من جواب المؤمنين.
قوله تعالى: مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون القيامة والمعنى: متى إنجاز هذا الوعد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ يعنون محمدا وأصحابه. ما يَنْظُرُونَ أي: ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي النّفخة الأولى. ويَخِصِّمُونَ بمعنى يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد، كذلك قرأ ابن كثير، وأبو عمرو:
«يَخَصِّمُونَ» بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وروي عن ابن عمرو اختلاس حركة الخاء. وقرأ عاصم وابن عامر والكسائي «يَخْصِّمُونَ» بفتح الياء وكسر الخاء. وعن عاصم كسر الياء والخاء. وقرأ نافع بسكون الخاء وتشديد الصاد. وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد، أي: يَخْصِمُ بعضهم بعضاً.
وقرأ أُبيٌّ بن كعب: «يختصمون» بزيادة تاء والمعنى أن الساعة تأتيهم أَغفلَ ما كانوا عنها وهم يتشاغلون في متصرَّفاتهم وبيعهم وشرائهم، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً قال مقاتل: أعجلوا عن الوصيّة
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم.
عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم.(3/526)
فماتوا، وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي: لا يعودون من الأسواق إلى منازلهم فهذا وصف ما يَلْقَون في النفخة الأولى. ثم ذكر ما يلقون في النّفخة الثانية قال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ يعني القبور، إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي: يخرُجون بسرعة، وقد شرحنا هذا المعنى في سورة الأنبياء «1» .
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين، والضحاك، وعاصم الجحدري:
«من بعثْنَا» بكسر الميم والثاء وسكون العين. قال المفسرون: إنما قالوا هذا، لأن الله تعالى رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين. قال أُبيُّ بن كعب: ينامون نومة قبل البعث، فإذا بُعثوا قالوا هذا.
قوله تعالى: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ في قائلي هذا الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قول المؤمنين، قاله مجاهد، وقتادة، وابن أبي ليلى. قال قتادة: أول الآية للكافرين، وآخرها للمؤمنين. والثاني: أنه قول الملائكة لهم، قاله الحسن. والثالث: أنه قول الكافرين، يقول بعضهم لبعض: هذا الذي أخبرَنا به المرسَلون أننا نُبعث ونجازى، قاله ابن زيد.
قال الزجاج: «من مرقدنا» هو وقف التمام، ويجوز أن يكون «هذا» من نعت «مرقدنا» على معنى: مَنْ بعثَنا مِنْ مرقدنا هذا الذي كنّا راقدين فيه؟ ويكون في قوله تعالى: ما وَعَدَ الرَّحْمنُ أحد إِضمارين، إما «هذا» ، وإِما «حق» ، فيكون المعنى: حقُّ ما وَعد الرَّحمنُ.
ثم ذكر النفخة الثانية، فقال: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ يعني في الآخرة فِي شُغُلٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «في شُغْلٍ» بإسكان الغين. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «في شُغُلٍ» بضم الشين والغين. وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وأيوب السختياني: «في شَغَلٍ» بفتح الشين والغين. وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك، والنخعي، وابن يعمر، والجحدري: «في شَغْلٍ» بفتح الشين وسكون الغين، وفيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أن شغلهم افتضاض العذارى، رواه شقيق عن ابن مسعود، ومجاهد عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، وقتادة، والضحاك. والثاني: ضرب الأوتار، رواه عكرمة عن ابن عباس وعن عكرمة كالقولين، ولا يثبت هذا القول. والثالث: النِّعمة، قاله مجاهد. وقال الحسن: شغلهم:
نعيمهم عمَّا فيه أهل النار من العذاب. قوله تعالى: فاكِهُونَ وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وقتادة، وأبو الجوزاء، والنخعي، وأبو جعفر: «فَكِهُون» . وهل بينهما فرق؟
فيه قولان: أحدهما: أن بينهما فرقاً. فأما «فاكهون» ففيه أربعه أقوال: أحدها: فَرِحون، قاله ابن عباس. والثاني: مُعْجَبُون، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: ناعمون، قاله أبو مالك، ومقاتل. والرابع:
ذوو فاكهة، كما يقال: فلانٌ لابِنٌ تامِرٌ، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. وأما «فَكِهون» ففيه قولان:
أحدهما: أن الفَكِه: الذي يتفكَّه، تقول العرب للرجل إذا كان يتفكَّه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض
__________
(1) الأنبياء: 96.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 3/ 705: يخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم، وعن ابن عباس في رواية عنه: فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ أي: سماع الأوتار. وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار.(3/527)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
الناس: إن فلاناً لفَكِهٌ بكذا، ومنه يقال للمُزاح: فُكاهَة، قاله أبو عبيدة. والثاني: أن فَكِهين بمعنى فَرِحين، قاله أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أن فاكهين وفكهِين بمعنى واحد، كما يقال: حاذِرٌ وحَذِرٌ، قاله الفراء. وقال الزجاج: فاكِهون وفكهِون بمعنى فَرِحين. وقال أبو زيد: الفَكِه: الطيِّب النَّفْس الضَّحوك، يقال: رجل فاكِه وفَكِه.
قوله تعالى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ يعنى حلائلهم فِي ظُلَلٍ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «في ظُلَلٍ» . قال الفراء: الظِّلال جمع ظِلٍّ والظُّلَل جمع ظُلَّة وقد تكون الظِّلال جمع ظُلَّة أيضا، كما يقال:
خُلَّة وخُلَل فإذا كثرت فهي الخِلال والحِلال والقِلال. قال مقاتل: والظِّلال: أكنان القصور. قال أبو عبيدة: والمعنى أنهم لا يَضْحَوْنَ. فأمّا الأرائك فقد بيّنّاها في الكهف «1» .
قوله تعالى: وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ قال ابن قتيبة: ما يَتَمَنَّوْنَ، ومنه يقول الناس: هو في خيرِ ما ادَّعى، أي: ما تَمَنَّى، والعرب تقول: ادَّع ما شئتَ، أي: تمنّ ما شئت. وقال الزّجّاج: وهو مأخوذ من الدًّعاء والمعنى: كلُّ ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وقوله: سَلامٌ بدل من «ما» المعنى: لهم ما يتمنَّون سلام، أي: هذا مُنى أهل الجنة أن يُسلِّم الله عليهم. وقَوْلًا منصوب على معنى: سلامٌ يقوله اللهُ قولاً. وقال أبو عبيدة: «سلامٌ» رفع على «لهم» فالمعنى: لهم فيها فاكهة ولهم فيها سلام.
وقال الفرّاء: معنى الكلام: لها ما يدَّعون مسلَّم خالص، ونصب القول، كأنكَ قلتَ: قاله قولاً، وإِن شئتَ جعلتَه نصباً من قوله تعالى: ولهم ما يدَّعون قولاًَ، كقولكَ: عِدَةً من الله. وقرأ ابن مسعود، وأًبيُّ بن كعب، والجحدري: «سلاما قولا» بنصبهما جميعا.
[سورة يس (36) : الآيات 59 الى 64]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
قوله تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ قال ابن قتيبة: أي: انقطِعوا عن المؤمنين وتميَّزوا منهم، يقال: مِزتُ الشيءَ من الشيء: إذا عزلتَه عنه، فانماز وامتاز، وميّزتُه فتميَّز. قال المفسرون: إذا اختلط الإِنس والجن في الآخرة، قيل: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فيقال للمجرمين: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أي: ألم آمركم، ألم أوصِكم؟ و «تعبُدوا» بمعنى تُطيعوا، والشيطان هو إبليس، زيَّن لهم الشِّرك فأطاعوه، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، أخرج أبويكم من الجنة. وَأَنِ اعْبُدُونِي قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي: «وأَنُ اعبُدوني» بضم النون. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة: «وأَنِ اعبُدوني» بكسر النون والمعنى: وحِّدوني هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يعني التوحيد. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: «جُبُلاً» بضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر: «جُبْلاً» بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام. وقرأ نافع، وعاصم: «جِبِّلاً» بكسر الجيم والباء مع تشديد اللام. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو عبد الرّحمن السّلمي، والزّهري،
__________
(1) الكهف: 31.(3/528)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
والأعمش: «جُبُلًّا» بضم الجيم والباء مع تشديد اللام. وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن السميفع: «جِبْلاً» بكسر الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ومعاذ القارئ: «جُبَلاً» برفع الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام. وقرأ أبو العالية: وابن يعمر: «جِبَلاً» بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام. وقرأ أبو عمران الجوني، وعمرو بن دينار: «جِبَالاً» مكسورة الجيم مفتوحة الباء وبألف. ومعنى الكلمة كيف تصرَّفت في هذه اللغات: الخَلْق والجماعة فالمعنى: ولقد أضلَّ منكم خَلْقاً كثيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ فالمعنى: قد رأيتم آثار الهالكين قبلكم بطاعة الشيطان، أفلم تعقلوا ذلك؟! وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن يعمر:
«أفلم يكونوا يعقلون» بالياء فيهما، فإذا أُدْنُوا إلى جهنم قيل لهم: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في الدنيا اصْلَوْهَا أي: قاسُوا حَرَّها.
[سورة يس (36) : الآيات 65 الى 68]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «يُخْتَمُ» بياء مضمومة وفتح التاء وَتُكَلِّمُنا قرأ ابن مسعود: «ولتكلّمنا» بزيادة لام مكسورة وفتح الميم وواو قبل اللام. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «لِتُكَلِّمَنا» بلام مكسورة من غير واو قبلها وبنصب الميم وقرءوا جميعا:
«ولِتَشْهَدَ أرجُلُهم» بلام مكسورة وبنصب الدال. ومعنى «نَخْتِمُ» : نَطبع عليها، وقيل: منعُها من الكلام هو الختم عليها، وفي سبب ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنهم لمّا قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «1» ختم الله على أفواههم ونطقت جوارحهُم، قاله أبو موسى الأشعري. والثاني: ليَعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعواناً لهم على المعاصي صارت شهوداً عليهم. والثالث: ليعرفهم أهل الموقف، فتميّزوا منهم بذلك. والرابع: لأن إِقرار الجوارح أبلغ في الإِقرار من نُطْق اللسان، ذكرهنّ الماوردي. فإن قيل: ما الحكمة في تسمية نُطق اليد كلاماً ونطقِ الرِّجْل شهادةً؟ فالجواب: أن اليد كانت مباشِرة والرِّجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما فعل.
قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ولو نشاء لأذهبْنا أعيُنَهم حتى لا يبدوَ لها شَقٌّ ولا جَفْن. والمطموس: الذي لا يكون بين جفنيه شَقّ، فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي:
فتبادروا إلى الطريق فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي: فكيف يُبْصِرون وقد أعمينا أعيُنَهم؟! وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وعروة بن الزبير، وأبو رجاء: «فاستَبِقوا» بكسر الباء «فأنَّى تًُبْصِرونَ» بالتاء. وهذا تهديد لأهل مكة، وهو قول الأكثرين. والثاني: ولو نشاء لأضلَلْناهم وأعميناهم عن الهُدى، فأنّى يُبصِرون الحقَّ؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: ولو نشاء لفقأْنا أعيُنَ ضلالَتهم وأعميناهم عن غَيِّهم وحوَّلْنا أبصارهم من الضلالة إلى الهُدى فأبصروا رشدهم، فأنّى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم؟! حكي عن جماعة منهم مقاتل.
__________
(1) الأنعام: 23. [.....](3/529)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ روى أبو بكر، عن عاصم «على مكاناتهم» وقد سبق بيان هذا «1» . وفي المراد بقوله: «لمَسَخْناهم» أربعة أقوال: أحدها: لأهلكْناهم، قاله ابن عباس.
والثاني: لأقعدناهم على أرجلهم، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: لجعلْناهم حجارة، قاله أبو صالح، ومقاتل. والرابع: لجعلْناهم قردةً وخنازيرَ لا أرواح فيها، قاله ابن السائب. وفي قوله: فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: فما استطاعوا أن يتقدَّموا ولا أن يتأخروا، قاله قتادة.
والثاني: فما استطاعوا مُضِيّاً عن العذاب، ولا رجوعاً إِلى الخِلقة الأُولى بعد المسخ، قاله الضحاك.
والثالث: مُضِيّاً من الدنيا ولا رجوعاً إليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ قرأ حمزة: «نُنَكِّسْه» مشددة مع ضم النون الأولى وفتح الثانية والباقون: بفتح النون الأولى وتسكين الثانية من غير تشديد وعن عاصم كالقراءَتين.
ومعنى الكلام: من نُطِلْ عمره ننكِّس خَلْقَه، فنجعل مكان القوَّة الضَّعف، وبدل الشباب الهرم، فنردُّه إِلى أرذل العمر. أَفَلا يَعْقِلُونَ قرأ نافع، وأبو عمرو: «أفلا تعقلون» بالتاء، والباقون بالياء. والمعنى:
أفلا يعقلون أنَّ مَنْ فعل هذا قادر على البعث؟
[سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)
قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ قال المفسرون: إنّ كفّار مكّة قالوا: إنّ القرآن شِعْر وإِن محمداً شاعر، فقال الله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ أي: ما يتسهَّل له ذلك. قال المفسرون:
ما كان يَتَّزن له بيتُ شِعر، (1201) حتى إنه روي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه تمثَّل يوماً فقال: كَفَى بالإِسلامِ والشَّيْبِ لِلْمَرْءِ ناهِياً.
فقال أبو بكر: يا رسول الله، إِنما قال الشاعر:
كَفَى الشَّيْبُ والإِسلامُ لِلْمَرْءِ نَاهياً أَشهدُ أنَّكَ رسولَ الله، ما علَّمكَ اللهُ الشِّعر، وما ينبغي لك.
(1202) ودعا يوماً بعباس بن مرداس فقال: «أنت القائل:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين الأَقْرَعِ وعُيَيْنَة» ؟
فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي، لم يقل كذلك، فأنشده أبو بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يَضُرُّكَ بأيِّهما بدأتَ» ، فقال أبو بكر: والله ما أنت بشاعر، ولا ينبغي لك الشّعر.
__________
ضعيف جدا. أخرجه ابن سعد 1/ 298 والبغوي في «معالم التنزيل» 1789 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 709 من طريق علي بن زيد عن الحسن مرسلا، وإسناده ضعيف جدا وله علل ثلاث: الأولى:
ضعف علي بن زيد، والثانية: هو مرسل، والثالث: مراسيل الحسن واهية.
ضعيف. هو بعض حديث أخرجه البيهقي في «الدلائل» 5/ 179- 181- 182 وعلته الإرسال.
__________
(1) البقرة: 65.(3/530)
(1203) وتمثّل يوما، فقال: «ويأتيك مَنْ لم تُزَوِّدْهُ بالأَخْبارِ» فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: «إِنِّي لستُ بشاعر، ولا ينبغي لي» . وإِنما مُنِعَ من قول الشِّعر، لئلا تدخُل الشُّبهة على قوم فيما أتى به من القرآن فيقولون: قوي على ذلك بما في طَبْعه من الفطنة للشِّعر.
قوله تعالى: إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ إِلا موعظة وَقُرْآنٌ مُبِينٌ فيه الفرائض والسُّنن والأحكام. قوله تعالى: لِيُنْذِرَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «لِيُنْذِرَ» بالياء، يعنون القرآن. وقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: «لِتُنْذِرَ» بالتاء، يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلّم، أي: لِتُنْذَرَ يا محمَّدُ بما في القرآن. وقرأ أبو المتوكّل، وأبو الجوزاء، وابن السّميفع: «لينذر» بياء مرفوعة وفتح الذال والراء جميعاً. قوله تعالى: مَنْ كانَ حَيًّا وفيه أربعة أقوال: أحدها: حيّ القلب حيّ البصر، قاله قتادة. والثاني: من كان عاقلاً، قاله الضحاك. قال الزجاج: من كان يَعْقِل ما يخاطَب به، فإن الكافر كالميت في ترك النذير. والثالث: مهتدياً، قاله السدي. وقال مقاتل: من كان مهتدياً في عِلْم الله.
والرابع: من كان مؤمنا، قاله يحيى بن سلام وهذا على المعنى الذي قد سبق في قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ «1» ، ويجوز أن يريد: إِنما يَنفع إِنذارُك مَنْ كان مؤمِناً في علم الله. قوله تعالى: وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ معناه: يجب. وفي المراد بالقول قولان: أحدهما: أنه العذاب.
والثاني: الحجّة.
__________
صحيح. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 2496 والطبري 29229 عن قتادة عن عائشة، ورجاله ثقات لكنه منقطع، قتادة لم يدرك عائشة. وورد موصولا من وجه آخر، أخرجه أحمد 6/ 156 والبخاري في «الأدب المفرد» 867 والترمذي 2852 والطحاوي في «المعاني» 4/ 297 والبغوي في «معالم التنزيل» 1790 عن شريح بن هانئ عن عائشة، وإسناده حسن في الشواهد لأجل شريك. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» 292 وابن سعد 1/ 290 من طريق الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عكرمة عن عائشة، وإسناده ضعيف لضعف الوليد، وسماك مضطرب في عكرمة. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه البزار 2106 والطبراني 11763 وقال الهيثمي في «المجمع» 13346: رجالهما رجال الصحيح. الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشاهده، وانظر «معالم التنزيل» للبغوي 1790 و «أحكام القرآن» 1876 بتخريجنا، والله الموفق.
- وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره 3/ 708: يقول تعالى مخبرا عن نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه أنه ما علّمه الشعر، وَما يَنْبَغِي لَهُ أي: وما هو في طبعه، فلا يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يحفظ بيتا على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأحاديث السابقة- قال ابن كثير رحمه الله: وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلّم ما علّم شعرا ولا ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علّمه القرآن العظيم الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وهو ليس بشعر كما زعمه طائفة من جهلة قريش، ولا كهانة ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهّال. وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلّم تأبى صناعة الشعر طبعا وشرعا، ثم قال ابن كثير رحمه الله: على أن الشعر فيه ما هو مشروع، وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت. وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأحزابهم رضي الله عنهم أجمعين، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية.
__________
(1) فاطر: 18.(3/531)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 76]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
ثم ذكَّرهم قُدرته فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً قال ابن قتيبة: يجوز أن يكون المعنى: ممّا عَمِلْناه بقوَّتنا وقدرتنا، وفي اليد القُدرةُ والقُوَّةُ على العمل، فتُستعارُ اليدُ فتُوضَع موضعها، هذا مَجازٌ للعرب يحتملُه هذا الحرف، والله أعلم بما أراد. وقال غيره: ذِكْر الأيدي ها هنا يدلُّ على انفراده بما خَلَق، والمعنى: لم يشاركْنا أحد في إِنشائنا والواحدُ مِنّا إِذا قال: عملتُ هذا بيدي، دلَّ ذلك على انفراده بعمله. وقال أبو سليمان الدمشقي: معنى الآية: ممّا أَوجدْناه بقُدرتنا وقوَّتنا وهذا إجماع أنه لم يرد ها هنا إلا ما ذكرْنا. قوله تعالى: فَهُمْ لَها مالِكُونَ فيه قولان:
أحدهما: ضابطون، قاله قتادة ومقاتل. قال الزجاج: ومثله في الشِّعر:
أَصبحتُ لا أَحملُ السِّلاحَ ولا ... أملكُ رأسَ البعيرِ إِنْ نَفَرا «1»
أي: لا أَضبِط رأس البعير. والثاني: قادرون عليها بالتسخير لهم، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ أي: سخَّرْناها، فهي ذليلة لهم فَمِنْها رَكُوبُهُمْ قال ابن قتيبة:
الرَّكُوب: ما يَرْكَبون، والحَلوب: ما يَحْلُبُون. قال الفرّاء: ولو قرأ قارئ: «فمنها رُكُوبُهم» ، كان وجهاً، كما تقول: منها أكلهم وشُربهم ورُكوبهم. وقد قرأ بضم الراء الحسن، وأبو العالية، والأعمش، وابن يعمر في آخرين. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وعائشة: «رَكُوبَتُهم» بفتح الراء والباء وزيادة تاء مرفوعة. قال المفسرون: يركبون من الأنعام الإِبل، ويأكلون الغنم، وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الأصواف والأوبار والأشعار والنَّسْل وَمَشارِبُ من ألبانها، أَفَلا يَشْكُرُونَ ربَّ هذه النِّعم فيوحِّدونه؟! ثم ذكر جهلهم فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي: لتمنَعهم من عذاب الله ثم أخبر أن ذلك لا يكون بقوله: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أي: لا تَقْدِرُ الأصنام على منعهم من أَمْرٍ أراده اللهُ بهم وَهُمْ يعني الكفّار ولَهُمْ يعني الأصنام جُنْدٌ مُحْضَرُونَ وفيه أربعة أقوال: أحدها: جُنْدٌ في الدنيا مُحْضَرونَ في النار، قاله الحسن. والثاني: مُحْضَرونَ عند الحساب، قاله مجاهد. والثالث: المشركون جُنْدٌ للأصنام، يَغضبون لها في الدنيا، وهي لا تسوق إِليهم خيراً ولا تدفع عنهم شرّاً، قاله قتادة. وقال مقاتل: الكفار يَغضبون للآلهة ويَحْضُرونها في الدنيا. وقال الزجاج: هم للأصنام ينتصرون، وهي لا تستطيع نصرهم. والرابع: هم جُنْدٌ مُحْضَرون عند الأصنام يعبدونها، قاله ابن السائب.
قوله تعالى فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني قول كفار مكة في تكذيبك إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في ضمائرهم من تكذيبك وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم من ذلك والمعنى: إنا نثيبك ونجازيهم.
[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
__________
(1) البيت للربيع بن منيع الفزاري، كما في «روح المعاني» 23/ 47، قاله بعد ما أسن، وجاوز المائة.(3/532)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية والتي بعدها على خمسة أقوال:
(1204) أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي، أخذ عَظْماً من البطحاء ففتَّه بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أيُحْيي اللهُ هذا بعد ما أرى؟ فقال: «نعم، يُميتُكَ الله ثُمَّ يُحْييكَ ثُم َّيُدخلكَ نار جهنَّم» ، فنزلت هذه الآيات، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(1205) والثاني: أنه عبد الله بن أبيّ ابن سلول، جرى له نحو هذه القصة، رواه العوفي عن ابن عباس.
(1206) والثالث: أنه أبو جهل بن هشام، وأن هذه القصة جرت له، رواه الضحاك عن ابن عباس.
(1207) والرابع: أنه أُميَّةُ بن خَلَف، قاله الحسن.
(1208) والخامس: أنه أُبيُّ بن خَلَف الجُمَحي، وهذه القصة جرت له، قاله مجاهد وقتادة والجمهور، وعليه المفسِّرون.
ومعنى الكلام: التعجُّب مِنْ جهل هذا المخاصِم في إِنكاره البعث والمعنى: ألا يَعلم أنه مخلوق فيتفكر في بدء خلقه فيترك خصومته؟! وقيل: هذا تنبيه له على نعمة الله عليه حيث أنشأه من نطفة فصار مجادلاً. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا في إِنكار البعث بالعَظْم البالي حين فتَّه بيده، وتعجَّب ممن يقول: إِن الله يُحْييه وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي: نَسِيَ خَلْقَنا له، أي: تَرَكَ النَّظَر في خَلْق نفسِه إذ خلق من نطفة قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أي: بالية، يقال: رَمَّ العَظْمُ، إِذا بَلِيَ، فهو رَمِيمٌ، لأنه معدول عن فاعله، وكلّ
__________
حسن. أخرجه الحاكم 2/ 429 من حديث ابن عباس، وإسناده حسن، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري 29243 عن سعيد بن جبير مرسلا. وانظر «أحكام القرآن» 1882.
باطل، أخرجه الطبري 29244 بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي، وهو واه عن ابن عباس، وهذا باطل لأن السورة مكية بإجماع، وعبد الله بن أبي ابن سلول إنما كانت أخباره في العهد المدني.
ضعيف جدا. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك.
عزاه المصنف للحسن البصري، وهذا مرسل، ومراسيل الحسن واهية.
أخرجه الطبري 29240 عن مجاهد مختصرا، وهذا مرسل. وكرره 29242 عن قتادة مرسلا. وذكره الواحدي في «الأسباب» 721 عن أبي مالك مرسلا. والخلاصة: ورد في شأن العاص وابن خلف من وجوه متساوية، فأصل الخبر محفوظ، وإن كان اضطرب المفسّرون في تعيين أحدهما، والله أعلم. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 5181 و «فتح القدير» 2103 بتخريجنا، والله الموفق.(3/533)
معدول عن وجهه ووزنه فهو مصروف عن إِعرابه كقوله: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «1» فأسقط الهاء لأنها مصروفة، عن «باغية» فقاس هذا الكافر قُدرة الله تعالى بقُدرة الخَلْق، فأنكر إِحياء العظم البالي لأن ذلك ليس في مقدور الخَلْق. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أي: ابتدأ خَلْقها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ من الابتداء والإِعادة عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً قال ابن قتيبة: أراد الزُّنُودَ التي تُورِي بها الأَعرابُ من شجر المَرْخِ والعَفَار. فإن قيل: لم قال: «الشَّجَرِ الأَخضرِ» . ولم يقل: الشَّجَرِ الخُضْر. فالجواب: أن الشجر جمع، وهو يؤنَّث ويذكَّر، قال الله تعالى: فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ «2» ، وقال: فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. ثم ذكر ما هو أعظم من خَلْق الإِنسان، فقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ
وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وعاصم الجحدري: «يَقْدِرُ» بياء من غير ألف عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وهذا استفهام تقرير والمعنى: مَنْ قَدَرَ على ذلك العظيم، قَدَرَ على هذا اليسير. وقد فسرنا معنى «أن يَخْلُقَ مِثْلَهم» في بني إسرائيل «3» ثم أجاب عن هذا الاستفهام فقال: بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ يخلُق خَلْقاً بَعْدَ خَلْق. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وعاصم الجحدري: «وهو الخَالِقُ» الْعَلِيمُ بجميع المعلومات. والمَلَكوتُ والمُلْكُ واحد. وباقي السورة قد تقدّم شرحه «4» . والله أعلم بالصّواب.
__________
(1) مريم: 28.
(2) الواقعة: 53.
(3) الإسراء: 99.
(4) البقرة: 32- 117، الأنعام: 75.(3/534)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
سورة الصّافّات
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
قوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فيها قولان: أحدهما: أنها الملائكة، قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور. قال ابن عباس: هم الملائكة صفُوفٌ في السماء، لا يَعْرِفُ مَلَكٌ منهم مَنْ إلى جانبه، لم يَلْتَفِتْ منذ خَلَقَه اللهُ عزّ وجلّ. وقيل: هي الملائكة تصُفُّ أجنحتها في الهواء واقفة إلى أن يأمرها الله تعالى بما يشاء. والثاني: أنها الطّير، كقوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ «1» ، حكاه الثعلبي. وفي الزاجرات قولان: أحدهما: أنها الملائكة التي تزجُر السَّحاب، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: أنها زواجر القرآن وكلُّ ما ينهى ويزجُر عن القبيح، قاله قتادة. وفي التّاليات ذِكْراً ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الملائكة تقرأ كتب الله تعالى، قاله ابن مسعود والحسن والجمهور. والثاني: أنهم الرسل، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: ما يُتلى في القرآن من أخبار الأمم، قاله قتادة. وهذا قَسَم بهذه الأشياء، وجوابه: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. وقيل معناه: ورب هذه الأشياء إِنّه واحد.
قوله تعالى: وَرَبُّ الْمَشارِقِ قال السدي: المَشارق ثلاثمائة وستونَ مَشْرِقاً، والمغارب مِثْلُها، على عدد أيام السَّنة. فإن قيل: لِمَ ترك ذِكْر المَغارب؟
فالجواب: أن المشارق تَدُلُّ على المَغارب، لأنّ الشّروق قبل الغروب.
[سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 10]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا يعني التي تلي الأرض، وهي أدنى السموات إلى الأرض بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو، والكسائي: «بزينةِ الكواكب» مضافاً، أي: بحُسنها وضوئها. وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «بزينة» منوّنة وخفض «الكواكب» فجعل
__________
(1) النور: 41.(3/535)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
«الكواكب» بدلاً من الزينة لأنها هي، كما تقول: مررتُ بأبي عبد الله زيدٍ فالمعنى: إنا زيَّنَّا السماء الدُّنيا بالكواكب. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «بزينةٍ» بالتنوين وبنصب «الكواكبً» والمعنى: زيَّنّا السَّماء الدُّنيا بأن زيَّنّا الكواكب فيها حين ألقيناها في منازلها وجعلناها ذات نور. قال الزجاج: ويجوز أن يكون «الكواكبَ» في النَّصْب بدلاً من قوله: «بزينة» لأن قوله: «بزينة» في موضع نصب. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو حصين الأسدي في آخرين: «بزينةٍ» بالتنوين «الكواكبُ» برفع الباء قال الزجاج: والمعنى: إنّا زيَّنّا السَّماء الدُّنيا بأن زيَّنتْها الكواكبُ وبأن زيّنتِ الكواكب. وَحِفْظاً أي:
وحَفِظْناها حفْظاً. فأمّا المارد، فهو العاتي، وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: شَيْطاناً مَرِيداً «1» .
قوله تعالى: لا يَسَّمَّعُونَ قال الفراء: «لا» ها هنا كقوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ «2» ، ويصلح في «لا» على هذا المعنى الجزم، والعرب تقول: ربطت فرسي لا يَنْفَلِتْ. وقال غيره: لكي لا يَسَّمَّعوا إِلى الملأِ الأعلى، وهم الملائكة الذين في السماء. وقرأ حمزة، والكسائيّ وخلف، وحفص عن عاصم: لا يَسَّمَّعُونَ بتشديد السين، وأصله: يتسمَّعون، فأُدغمت التاء في السين. وإنما قال: إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى لأن العرب تقول: سمعتُ فلاناً، وسمعتُ من فلان، وإلى فلان. وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ بالشًّهُب دُحُوراً قال قتادة: أي قذفاً بالشُّهُب. وقال ابن قتيبة: أي: طَرْداً، يقال: دَحَرْتُه دَحْراً وُدُحوراً، أي: دفعتُه. وقرأ عليّ بن أبي طالب، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن، والضحاك، وأيوب السختياني، وابن أبي عبلة: «دَحُوراً» بفتح الدال. وفي «الواصب» قولان: أحدهما: أنه الدائم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة.
والثاني: أنه المُوجِع، قاله أبو صالح، والسدي. وفي زمان هذا العذاب قولان: أحدهما: أنه في الآخرة. والثاني: أنه في الدنيا، فهم يُخْرَجون بالشُّهُب ويُخبَلُون إِلى النَّفْخة الأولى في الصُّور.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ قرأ ابن السميفع: «خَطِّفَ» بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها. وقرأ أبو رجاء، والجحدري: بكسر الخاء والطاء جميعا والتّخفيف. وقال الزجاج: خََطَفَ وخَطِفَ، بفتح الطاء وكسرها، يقال: خَطَفْتُ أَخْطِفُ، وخَطِفْتُ أَخْطَفُ: إِذا أخذت الشيء بسرعة، ويجوز «إلاّ مَنْ خَطَّف» بفتح الخاء وتشديد الطاء، ويجوز «خِطَفَ» بكسر الخاء وفتح الطاء والمعنى:
اختطف، فأدغمت التاء في الطاء، وسقطت الألف لحركة الخاء فمن فتح الخاء ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في «اختطف» ، ومن كسر الخاء، فلِسكونها وسُكون الطاء. فأما من روى «خِطِف» بكسر الخاء والطاء، فلا وجه لها إلا وجهاً ضعيفاً جداً، وهو أن يكون على إِتباع الطاء كسرة الخاء. قال المفسّرون: والمعنى: إلّا من اختلس الكلمة من كلام الملائكة مُسارَقةً فَأَتْبَعَهُ أي: لَحِقَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ قال ابن قتيبة: أي كوكبٌ مُضيءُ، يقال: أثْقِِبْ نارَك، أي: أضِئْها، والثّقوب: ما تذكى به النّار.
[سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 26]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
__________
(1) النساء: 117.
(2) الشعراء: 200، 201.(3/536)
قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أي: فَسَْلهُمْ سؤالَ تقرير أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي: أَحْكَمُ صَنْعةً أَمْ مَنْ خَلَقْنا فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: أَمْ مَنْ عدَدْنا خَلْقه من الملائكة والشياطين والسّموات والأرض، قاله ابن جير. والثاني: أَمْ مَنْ خَلَقْنا قبلهم من الأمم السالفة، والمعنى: إنهم ليسوا بأقوى من أولئك وقد أهلكناهم بالتكذيب، فما الذي يؤمن هؤلاء؟. ثم ذكر الناس فقال: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال الفراء، وابن قتيبة: أي: لاصقٍ لازمٍ، والباء تُبدَلُ من الميم لقُربِ مَخْرَجَْيهما. قال ابن عباس: هو الطيّن الحُرُّ الجيِّد اللَّزِقُ. وقال غيره: هو الطِّين الذي يَنْشَف عنه الماءُ وتبقى رطوبتُه في باطنه فيَلْصَق باليد كالشمع. وهذا إِخبار عن تساوي الأصل في خَلْقهم وخَلْق مَن قَبْلَهم فمن قدَر على إِهلاك الأقوياء، قَدرَ على إهلاك الضُّعفاء.
قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ «بل» معناه: تركُ الكلام في الأول والأخذُ في الكلام الآخر، كأنه قال: دع يا محمد ما مضى. وفي «عَجِبْتَ» قراءتان قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «بل عَجِبْتَ» بفتح التاء. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، وقتادة، وأبو مجلز، والنخعي، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وابن أبي ليلى، وحمزة، والكسائي في آخرين: «بل عَجِبْتُ» بضم التاء، واختارها الفراء. فمن فتح أراد: بل عَجِبْتَ يا محمد، وَيَسْخَرُونَ هم. قال ابن السائب: أنتَ تَعْجَبُ منهم، وهم يَسْخَرون منك. وفي ما عجبَ منه قولان «1» : أحدهما: من الكفار إِذ لم يؤمِنوا بالقرآن. والثاني: إذ كفروا بالبعث. ومن ضمّ، أراد الإخبار عن الله عزّ وجلّ أنه عَجِبَ، قال الفراء: وهي قراءة عليّ وعبد الله وابن عباس وهي أحبُّ إليّ، وقد أنكر هذه القراءة قوم، منهم شريح القاضي، قال: إن الله لا يَعْجَب، إِنما يَعْجَبَ مَنْ لا يَعْلَم، قال الزجاج: وإنكار هذه القراءة غلط، لأن العَجَبَ من الله خلاف العجب من الآدميين، وهذا كقوله تعالى:
وَيَمْكُرُ اللَّهُ «2» وقوله: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ «3» ، وأصل العَجَب في اللغة: أن الإِنسان إِذا رأى ما يُنْكرِهُ ويَقَلُّ مِثْلُه، قال: قد عَجَبتُ من كذا، وكذلك إِذا فَعَلَ الآدميُّون ما ينكره الله عزّ وجلّ، جاز أن يقول عَجِبْتُ. واللهُ قد عَلِم الشيءَ قبل كونه. وقال ابن الأنباري: المعنى: جازيتُُهم على عجبهم من الحق، فسمّى الجزاء على الشيء باسم الشيء الذي له الجزاء، فسمّى فعله عَجَباَ وليس بعَجَب في الحقيقة، لأن المتعَجِّب يدهش ويتحيَّر، واللهُ عزَ وجَلَّ قد جَلّ عن ذلك وكذلك سُمِّي تعظيم الثواب عجبا،
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 476: والصواب من القول أن يقال: أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب، فإن قال قائل: وكيف يكون مصيبا القارئ بهما مع اختلاف معنيهما؟
إنهما وإن اختلف معنياهما فكل واحد من معنييه صحيح، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل، وسخر منه أهل الشرك بالله، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله، وسخر المشركون بما قالوه.
(2) الأنفال: 30.
(3) التوبة: 79.(3/537)
لأنه إنما يُتعجَّب من الشيء إِذا كان في النهاية، والعرب تسمي الفعل باسم الفعل إِذا داناه من بعض وجوهه وإن كان مخالفاً له في أكثر معانيه، قال عديّ:
ثمّ أضحوا لعب الدّهر بهم «1» فجعل إهلاك الدهر وإفساده لعبا، قال ابن جرير: من ضم التاء، فالمعنى: بل عَظُم عندي وكَبُر اتِّخاذُهم لي شريكاً وتكذيبُهم بتنزيلي. وقال غيره: إضافة العجب إلى الله عزّ وجلّ على ضربين:
أحدهما: بمعنى الإِنكار والذمِّ، كهذه الآية. والثاني: بمعنى الاستحسان والإِخبار عن تمام الرّضا، كقوله عليه السلام:
(1209) «عَجِبَ ربُّكَ مِنْ شابٍ ليست له صَبوةٌ» .
قوله تعالى: وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي: إِذا وُعِظوا بالقرآن لا يَذْكُرون ولا يَتَّعظون. وقرأ سعيد بن جبير، والضحاك، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: «ذُكِروا» بتخفيف الكاف. وَإِذا رَأَوْا آيَةً قال ابن عباس: يعني انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ قال أبو عبيدة: يَسْتَسْخِرونَ ويَسْخَرونَ سواء.
قال ابن قتيبة. يقال: سَخِرَ واسْتَسْخَرَ، كما يقال: قَرَّ واسْتَقَرَّ، وعَجِبَ واسْتَعْجَبَ، ويجوز أن يكون:
يسألون غيرَهم من المشركين أن يَسْخَروا من رسول الله، كما يقال: اسْتَعْتَبْتُه، أي: سألتُه العُتْبَى، واسْتَوْهَبْتُه، أي: سألتُه الهِبَة، واسْتَعْفَيْتُه: سألتُه العَفْوَ. وَقالُوا إِنْ هذا يعنون انشقاق القمر إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: بَيْنٌ لِمَنْ تأمَّله أنه سِحْر. أَإِذا مِتْنا قد سبق بيان هذه الآية «2» . أَوَآباؤُنَا هذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف، كقوله: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى «3» . وقرأ نافع، وابن عامر: «أوْ آباؤنا الأَوَّلُونَ» بسكون الواو ها هنا وفي الواقعة «4» . قُلْ نَعَمْ أي: نَعَمْ تُبْعَثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي:
صاغِرونَ. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي: فإنّما قِصَّة البعث صيحةٌ واحدة من إسرافيل، وهي نفخة البعث، وسُمِّيتْ زجرةً، لأن مقصودها الزَّجْر فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ قال الزجاج: أي: يُحْيَوْن ويُبعَثونَ بُصَراءَ ينْظرون، فإذا عايَنوا بعثهم، ذكروا إِخبار الرُّسل عن البعث، وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي: يوم الحساب والجزاء، فتقول الملائكة: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي: يوم القضاء الذي يُفْصَل فيه بين المحسن والمسيء ويقول الله عزّ وجلّ يومئذ للملائكة: احْشُرُوا أي: اجْمَعوا الَّذِينَ ظَلَمُوا من حيث هم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: أنه عامٌّ في كل ظالم. وفي أزواجهم أربعة أقوال:
أحدها: أمثالهم وأشباههم، وهو قول عمر وابن عباس، والنعمان بن بشير، ومجاهد في أخرين. وروي عن عمر قال: يُحْشَر صاحبُ الرِّبا مع صاحب الرِّبا وصاحبُ الزِّنا مع صاحب الزِّنا وصاحب الخمر مع
__________
ضعيف. أخرجه أحمد 4/ 151 وأبو يعلى 1749 والطبراني 17/ 309 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 993 من طريق ابن لهيعة عن أبي عشانة عن عقبة بن عامر مرفوعا. وإسناده ضعيف، لضعف ابن لهيعة.
وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 270 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وإسناده حسن! كذا قال رحمه الله، ومداره على ابن لهيعة، وهو ضعيف لا يحتج به، وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» 349 موقوفا وهو أصح.
__________
(1) هو صدر بيت وعجزه: وكذاك الدهر يودي بالرجال. [.....]
(2) مريم: 66.
(3) الأعراف: 98.
(4) الواقعة: 48.(3/538)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
صاحب الخمر. والثاني: أن أزواجَهم: المشركاتُ، قاله الحسن. والثالث: أشياعهم، قاله قتادة.
والرابع: قُرَناؤهم من الشيَّاطين الذين أضلُّوهم، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى: وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: الأصنام، قاله عكرمة، وقتادة. والثاني: إبليس وحده، قاله مقاتل. والثالث:
الشياطين، ذكره الماوردي وغيره.
قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي: دُلُّوهم على طريقها والمعنى: اذهبوا بهم إِليها.
قال الزجاج: يقال: هَدَيْتُ الرَّجُل: إِذا دَلَلْتَه، وهَدَيْتُ العروس إِلى زوجها، وأهديتُ الهديَّة، فإذا جعلتَ العروس كالهدية، قلتَ: أهديتُها.
قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ أي: احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ وقرأ ابن السميفع: «أنَّهم» بفتح الهمزة.
قال المفسرون: لمَّا سِيقوا إلى النار حُبِسوا عند الصراط، لأن السؤال هناك. وفي هذا السؤال ستة أقوال: أحدها: أنهم سئلوا عن أعمالهم وأقوالهم في الدنيا. والثاني: عن «لا إِله إِلا الله» ، رويا جميعاً عن ابن عباس. والثالث: عن خطاياهم، قاله الضحاك. والرابع: سَألَهُمْ خزَنةُ جهنم أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ «1» ونحو هذا، قاله مقاتل. والخامس: أنهم يُسألون عمّا كانوا يعملون، ذكره ابن جرير. والسادس: أن سؤالهم قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ، ذكره الماوردي. قال المفسّرون: المعنى: ما لكم لا ينصُر بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدنيا؟! وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «2» ، فقيل لهم ذلك يومئذ توبيخاً. والمُسْتَسْلِم: المُنقاد الذَّليل والمعنى أنهم منقادون لا حيلة لهم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 49]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)
فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ فيهم قولان: أحدهما: الإِنس على الشياطين. والثاني:
الأتباع على الرؤساء يَتَساءَلُونَ تسآل توبيخ وتأنيب ولَومْ، فيقول الأتباع للرؤساء: لِمَ غررتمونا؟
ويقول الرؤساء: لم قبلتم منّا؟ فذلك قوله تعالى: قالُوا يعنى الأتباع للمتبوعين إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كنتم تَقْهَروننا بقُدرتكم علينا، لأنّكم كنتم أعزّ منّا، رواه الضّحّاك.
والثاني: من قِبَل الدِّين فتُضِلوُّنا عنه، قاله الضحاك، وقال الزجاج: تأتوننا من قِبَل الدِّين فتخدعونا
__________
(1) الملك: 80.
(2) القمر: 44.(3/539)
بأقوى الأسباب. والثالث: كنتم تُوثِّقون ما كنتم تقولون بَأيْمانكم، فتأتوننا من قِبَل الأيْمان التي تَحْلِفونها، حكاه عليّ بن أحمد النيسابوري. فيقول المتبوعون لهم: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي: لم تكونوا على حَقّ فنُضلِّكم عنه، إِنما الكفر من قبلكم. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ فيه قولان:
أحدهما: أنه القَهْر. والثاني: الحُجَّة. فيكون المعنى على الأول: وما كان لنا عليكم من قُوَّة نَقْهَرُكم بها ونُكْرِهِكُم على مُتابعتنا، وعلى الثاني: لم نأتكم بحُجَّة على ما دعَوْناكم إٍليه كما أتت الرُّسل.
قوله تعالى: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا أي: فوجبت علينا كلمةُ العذاب، وهي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1» إِنَّا لَذائِقُونَ العذاب جميعاً نحن وأنتم، فَأَغْوَيْناكُمْ أي: أضلَلْناكم عن الهُدى بدعائكم إلى ما نحن عليه، وهو قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا غاوِينَ.
ثم أخبر عن الأَتباع والمتبوعين بقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ، والمجرمون ها هنا: المشركون، إِنَّهُمْ كانُوا في الدُّنيا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي: قولوا هذه الكلمة يَسْتَكْبِرُونَ أي: يَتَعَظَّمُون عن قولها، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا المعنى: أَنَتْرُكُ عبادة آلهتنا لِشاعِرٍ أي: لاتباع شاعر؟! يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فردّ الله تعالى عليهم فقال: بَلْ أي: ليس الأمر على ما قالوا، بل جاءَ بِالْحَقِّ وهو التوحيد والقرآن، وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الذين كانوا قبله والمعنى أنه أتى بما أتَوْا به. ثم خاطب المشركين بما بعد هذا إلى قوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الموحِّدين.
قال أبو عبيدة: والعرب تقول: إنَّكم لَذاهبون إلاّ زيداً. وفي ما استثناهم منه قولان: أحدهما: من الجزاء على الأعمال، فالمعنى: إنّا لا نؤاخذهم بسوء أعمالهم، بل نَغْفِرُ لهم، قاله ابن زيد. والثاني:
من دون العذاب، فالمعنى: فإنهم لا يذوقون العذاب، قاله مقاتل.
قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الجنة، قاله قتادة. والثاني: أنه الرِّزق في الجنة، قاله السدي، فعلى هذا، في معنى «معلوم» قولان: أحدهما: أنه بمقدار الغداة والعشيّ، قاله ابن السّائب. والثاني: أنهم حين يشتهونهُ يؤتَون به، قاله مقاتل.
ثم بيَّن الرِّزق فقال: فَواكِهُ وهي جمع فاكهة وهي الثِّمار كلُّها، رَطْبها ويابسها وَهُمْ مُكْرَمُونَ بما أعطاهم الله. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره «2» إلى قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ قال الضحاك: كلُّ كأس ذُكِرتْ في القرآن، فإنما عُنيَ بها الخمر، قال أبو عبيدة: الكأس: الإناء بما فيه والمَعين: الماء الطَّاهر الجاري. قال الزّجّاج: الكأس: الإناء الذي فيه الخمر، وتقع الكأسُ على كل إناءٍ مع شرابه، فإن كان فارغا فليس بكأس. والمعين: الخمر يجري كما يجري الماء على وجه الأرض من العُيون.
قوله تعالى: بَيْضاءَ قال الحسن: خمر الجنة أشدُّ بياضاً من اللَّبَن، قال أبو سليمان الدمشقي:
ويدل على أنه أراد بالكأس الخمر، أنه قال: «بيضاءَ» فأنَّث ولو أراد الإناء على انفراده، أو الإِناء والخمر، لقال: أبيض. وقال ابن جرير: إنما أراد بقوله: «بيضاءَ» الكأس، ولتأنيث الكأس أنّثت البيضاء. قوله تعالى: لَذَّةٍ قال ابن قتيبة: أي: لذيذة، يقال: شراب لِذاذ: إِذا كان طَيِّباً. وقال
__________
(1) الأعراف: 18.
(2) الحجر: 47.(3/540)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
الزجاج: أي: ذات لَذَّة. لا فِيها غَوْلٌ فيه سبعة أقوال: أحدها: ليس فيها صُداع، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: ليس فيها وجع بطن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وابن زيد.
والثالث: ليس فيها وجع ولا صُداع رأس، قاله قتادة. والرابع: ليس فيها أذى ولا مكروه، قاله سعيد بن جبير. والخامس: لا تَغتال عقولهم، قاله السدي. وقال الزجاج: لا تَغْتالُ عقولَهم فتذهب بها ولا يُصيبهم منها وجع. والسادس: ليس فيها إثم، حكاه ابن جرير. والسابع: ليس فيها شيء من هذه الآفات، لأن كُلَّ مَنْ ناله شيء من هذه الآفات قيل: قد غالَتْه غُوْل، فالصواب أن يكون نفي الغَوْل عنها يَعُمُّ جميع هذه الأشياء، هذا اختيار ابن جرير. قوله تعالى: وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قرأ حمزة، والكسائي: بكسر الزاي ها هنا وفي الواقعة، وفتح عاصم الزاي ها هنا، وكسرها في الواقعة «1» . وقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، بفتح الزّاي في السُّورتين، قال الفراء: فمن فتح، فالمعنى: لا تِذهبُ عقولهم بُشربها. يقال للسكران: نَزيف ومَنزوف ومن كسر، ففيه وجهان: أحدهما: لا يُنْفِدون شرابهم، أي: هو دائم أبداً. والثاني: لا يَسْكَرون، قال الشاعر:
لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ ... لَبِئْسَ النَّدامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا «2»
قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ فيه قولان: أحدهما: أنهنّ نساء قد قصرن طَرْفهنَّ على أزواجهنَّ فلا يَنْظُرْنَ إلى غيرهم. وأصل القَصْر: الحبس، قال ابن زيد: إنَّ المرأة منهنَّ لَتقولُ لزوجها:
وعِزَّةِ ربِّي ما أرى في الجنَّة شيئاً أحسنَ منكَ، فالحمد لله الذي جعلني زوجكَ وجعلكَ زوجي.
والثاني: أنهنَّ قد قَصَرن طَرْف الأزواج عن غيرهنَّ، لكمال حُسنهنّ، سمعتُه من الشيخ أبي محمد بن الخشّاب النحوي.
وفي العِين ثلاثة أقوال: أحدها: حِسانُ العُيون، قاله مجاهد. والثاني: عِظام الأعيُن، قاله السدي. وابن زيد. والثالث: كِبار العُيون حِسانُها، وواحدتُهنَّ عَيْناء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ في المراد بالبيض ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اللؤلؤ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة. والثاني: بَيْضُ النَّعام، قاله الحسن، وابن زيد، والزجاج. قال جماعة من أهل اللغة: والعرب تُشَبِّه المرأةَ الحسناءَ في بياضها وحُسْن لونها بِبَيْضَة النَّعامة، وهو أحسن ألوان النساء، وهو أن تكون المرأة بيضاءَ مُشَرَّبَةٍ صُفْرَةً. والثالث: أنه البَيْض حين يُقْشَر قبل أن تَمَسَّه الأيدي، قاله السدي، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير، وقتادة، وابن جرير.
فأما المكنون، فهو المصون. فعلى القول الأول: هو مكنون في صَدَفِهِ، وعلى الثاني: هو مكنون بريش النَّعام، وعلى الثالث: هو مكنون بقشره.
[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 61]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
__________
(1) الواقعة: 19.
(2) البيت للأبيرد الرياحي من بني محجل كما في «اللسان» - نزف-.(3/541)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
قوله تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني أهل الجنة يَتَساءَلُونَ عن أحوال كانت في الدنيا.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الصّاحب في الدنيا. والثاني: أنه الشريك، رويا عن ابن عباس. والثالث: أنه الشيطان، قاله مجاهد. والرابع: أنه الأخ قال مقاتل: وهما الأَخوان المذكوران في سورة الكهف «1» في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ والمعنى: كان لي صاحب أو أخ ينكر البعث، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ قال الزجاج: هي مخففة الصاد، من صدَّق يصدِّق فهو مصدِّق، ولا يجوز ها هنا تشديد الصاد، قال المفسّرون: والمعنى: أإنّك لَمِن المُصَدِّقِين بالبعث؟ وقرأ بكر بن عبد الرحمن القاضي عن حمزة: «المُصَّدِقِينَ» بتشديد الصاد. قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي:
مَجْزِيُّون بأعمالنا، يقال: دِنْتُهُ بما صنع، أي: جازيته. فأحَبَّ المؤمِنُ أن يَرى قرينَه الكافر، فقال لأهل الجنَّة: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أي: هل تحبُّون الاطِّلاع إِلى النَّار لتَعْلَمُوا أين منزلتُكم من منزلة أهلها؟ وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو عمران، وابن يعمر: «هل أنتم مُطْلِعُونَ» بإسكان الطاء وتخفيفها «فأطْلِعَ» بهمزة مرفوعة وسكون الطاء. وقرأ أبو رزين وابن أبي عبلة: «مُطلِعونِ» بكسر النون، قال ابن مسعود:
اطَّلع ثم التفت إلى أصحابه فقال: لقد رأيتُ جماجم القوم تغلي قال ابن عباس: وذلك أن في الجنة كُوىً ينظُر منها أهلُها إِلى النار. قوله تعالى: فَرَآهُ يعني قرينة الكافر فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي: في وسَطها. وقيل: إِنما سمي الوسَط سَواءً، لاستواء المسافة منه إلى الجوانب. قال خُليد العَصْري: واللهِ لولا أنَّ الله عرَّفه إَيَّاه، ما عرفه، لقد تغيَّر حَبْرُه وسِبْرُه. فعند ذلك قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ قال المفسرون: معناه: واللهِ ما كِدْتَ إلاّ تُهْلِكني يقال: أرديتُ فلاناً، أي: أهلكْته. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي أي: إنعامه عليَّ بالإِسلام لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في النّار.
قوله تعالى: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا ذُبح الموت، قال أهل الجنة:
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فيقال لهم: لا فعند ذلك قالوا: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فيقول الله تعالى: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، قاله ابن السائب.
وقيل: يقول ذلك للملائكة. والثاني: أنه قول المؤمن لأصحابه، فقالوا له: إنك لا تموت، فقال: «إنْ هذا لَهُوَ الفوز العظيم» ، قاله مقاتل. وقال أبو سليمان الدمشقي: إِنما خاطب المؤمنُ أهلَ الجنة بهذا على طريق الفرح بدوام النَّعيم، لا على طريق الاستفهام، لأنه قد عَلِمَ أنَّهم ليسوا بميِّتين، ولكن أعاد الكلام ليزداد بتكراره على سمعه سروراً. والثالث: أنه قول المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ بما كان يُنْكِره، ذكره الثعلبي.
قوله تعالى: لِمِثْلِ هذا يعنى النعيم الذي ذَكَره في قوله: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ «2» ، فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، وهذا ترغيب في طلب ثواب الله عزّ وجلّ بطاعته.
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
__________
(1) الكهف: 32.
(2) الصافات: 41.(3/542)
أَذلِكَ خَيْرٌ يشير إلى ما وصف لأهل الجنة نُزُلًا قال ابن قتيبة: أي: رزقاً، ومنه: إقامةُ الأنْزال، وأنزال الجنود: أرزاقُها، وقال الزّجّاج: النّزل ها هنا: الرّيع والفضل، تقول: هذا طعام نُزْل ونُزُل، بتسكين الزاي وضمها والمعنى: أذلك خير في باب الأنزال التي تُتَقوَّت ويمكن معها الإِقامة، أم نُزُل أهل النار؟! وهو قوله تعالى: أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. واختلف العلماء هل هذه الشجرة في الدنيا، أم لا؟ فقال قطرب: هي شجرة مُرَّة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: الزَّقُّوم: ثمرة شجرة كريهة الطَّعم. وقيل: إِنها لا تُعرف في شجر الدنيا، وإنما هي في النار، يُكرَه أهلُ النار على تناولها. قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ يعني للكافرين، وفي المراد بالفتنة ثلاثة أقْوال:
أحدها: أنه لما ذكر أنها في النار، افتُتنوا وكذَّبوا، فقالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تأكل الشجر؟، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة «1» ، وقال السدي: فتنة لأبي جهل وأصحابه. والثاني: أن الفتنة بمعنى العذاب، قاله ابن قتيبة. والثالث: أن الفتنة بمعنى الاختبار، اختُبروا بها فكذَّبوا، قاله الزجاج.
قوله تعالى: تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي: في قَعْر النّار. قال الحسن: أصلُها في قَعْر النّار، وأغصانها ترتفع إلى دَرَكاتها. طَلْعُها أي: ثمرها، وسُمِّي طَلْعاً، لطلوعة كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ.
فإن قيل: كيف شبَّهها بشيءٍ لم يُشاهَد؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه قد استقرَّ في النفوس قُبح الشياطين- وإِن لم تُشاهَد- فجاز تشبيهها بما قد عُلِمَ قُبحه، قال امرؤ القيس:
أيَقْتُلُنِي والمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأَنْيَاب أغْوالِ
قال الزجاج: هو لم ير الغُول ولا أنيابها، ولكن التمثيل بما يُستقبَح أبلغ في باب المذكّر أن يُمثَّل بالشياطين، وفي باب المؤنَّث أن يشبَّه بالغُول.
والثاني: أنّ بين مكّة واليمن شجرا يسمى رؤوس الشياطين، فشبَّهها بها، قاله ابن السائب.
والثالث: أنه أراد بالشياطين: حيّات لها رؤوس ولها أعراف، فشبّه طلعها برءوس الحيّات، ذكره الزجاج. قال الفراء: والعرب تسمِّي بعض الحيّات شيطاناً، وهو حيّة ذو عُرْف قبيحُ الوجه.
قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي: من ثمرها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ وذلك أنهم يُكْرَهون على أكَلها حتى تمتلئ بطونهم. ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ قال ابن قتيبة: أي: لَخلْطاً من الماء الحارِّ يشربونه عليها. قال أبو عبيدة: تقول العرب: كلُّ شيء خَلَطْتَه بغيره فهو مشوب. قال المفسرون: إذا أَكلوا الزَّقُّوم ثم شربوا عليه الحميم، شابَ الحميمُ الزَّقُّوم في بطونهم فصار شَوْباً له. ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أي: بعد أكل الزَّقُّوم وشُرب الحميم لَإِلَى الْجَحِيمِ وذلك أنّ الحميم خارج من الجحيم، فهم يوردونه
__________
(1) مرسل. أخرجه الطبري 29398 عن قتادة مرسلا، وتقدم في سورة الإسراء: 60.(3/543)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
كما تورَد الإبلُ الماءَ، ثم يُرَدُّونَ إلى الجحيم ويدُلُّ على هذا قولُه: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «1» .
وأَلْفَوْا بمعنى وجدوا. ويُهْرَعُونَ مشروح في هود «2» ، والمعنى أنهم يتَّبعون آباءَهم في سرعة.
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي: قَبْلَ هؤلاء المشركين أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم الخالية.
قوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الموحِّدين، فإنهم نجوا من العذاب. قال ابن جرير:
وإِنما حَسُن الاستثناء، لأن المعنى: فانْظُر كيف أهلكنا المنذرين إلّا عباد الله.
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ أي: دعانا. وفي دعائه قولان: أحدهما: أنه دعا مستنصِراً على قومه.
والثاني: أن ينجيَه من الغرق فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن والمعنى: إِنَّا أَنجيناه، وأهلكنا قومه. وفي الْكَرْبِ الْعَظِيمِ قولان: أحدهما: أنه الغرق. والثاني: أذى قومه. وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وذلك أن نسل أهل السفينة انقرضوا غير نسل ولده، فالناس كلهُّم من ولد نوح، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ أي: تَرَكْنا عليه ذِكْراً جميلاً فِي الْآخِرِينَ وهم الذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة. قال الزجاج: وذلك الذّكر الجميل قوله تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ وهم الذين جاءوا من بعده، والمعنى: تَرَكْنا عليه أن يُصَلَّى عليه في الآخرين إلى يوم القيامة. قوله تعالى: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثّناء الحسن في العالمين.
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 101]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ أي: من أهل دِينه ومِلَّته. والهاء في «شِيعته» عائدة على نوح في قول الأكثرين وقال ابن السّائب: تعود إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم، واختاره الفراء. فإن قيل: كيف يكون من شيعته وهو قبله؟ فالجواب: أنه مِثل قوله تعالى: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ «3» فجعلها ذُرِيَّتهم وقد سبقَتْهم، وقد شرحنا هذا فيما مضى «4» . قوله تعالى: إِذْ جاءَ رَبَّهُ أي: صدَّقَ اللهَ وآمَنَ به بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشِّرك وكلِّ دَنَس، وفيه أقوال ذكرناها في الشعراء «5» .
__________
(1) الرحمن: 44.
(2) هود: 78. [.....]
(3) يس: 41.
(4) يس: 41.
(5) الشعراء: 89.(3/544)
قوله تعالى: ماذا تَعْبُدُونَ هذا استفهام توبيخ، كأنه وبَّخهم على عبادة غير الله. أَإِفْكاً أي:
أتأفِكون إِفْكاً وتعبُدون آلهةً سِوى الله؟! فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ إِذا لقِيتمُوه وقد عَبَدتُم غيره؟! كأنه قال: فما ظنُّكم أن يصنع بكم؟ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فيه قولان: أحدهما: أنه نظر في عِلم النجوم، وكان القومُ يتعاطَوْن عِلْم النُّجوم، فعاملهم من حيث هم، وأراهم أنِّي أَعلمُ من ذلك ما تعلَمونَ، لئلا يُنْكِروا عليه ذلك. قال ابن المسيّب: رأى نجماً طالعاً، فقال: إِنِّي مريض غداً. والثاني: أنه نظر إلى النجوم، لا في عِلْمها. فإن قيل: فما كان مقصوده؟ فالجواب أنه كان لهم عيد، فأراد التخلُّف عنهم لِيَكِيدَ أصنامَهم، فاعْتَلَّ بهذا القول.
قوله تعالى: إِنِّي سَقِيمٌ من معاريض الكلام، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: سأَسْقُمُ، قاله الضحاك. قال ابن الأنباري: أَعْلَمَه الله عزّ وجلّ أنَّه يَمْتَحِنُهُ بالسقم إِذا طلع نجمٌ يعرفه، فلما رأى النَّجم، عَلِم أنه سيَسْقُم. والثاني: إِنِّي سقيم القلب عليكم إِذ تكهَّنتم بنجوم لا تضُرُّ ولا تَنْفَع، ذكره ابن الأنباري. والثالث: أنه سَقُمَ لِعِلَّةٍ عرضتْ له، حكاه الماوردي. وذكر السديّ أنه خرج معهم إلى يوم عيدهم، فلمّا كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إِني سقيم أشتكي رجلي، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي: مال إِليها- وكانوا قد جعلوا بين يديها طعاماً لتبارك فيه على زعمهم- فَقالَ إبراهيم استهزاءً بها أَلا تَأْكُلُونَ.
وقوله تعالى: ضَرْباً بِالْيَمِينِ في اليمين ثلاثة أقوال: أحدها: أنها اليد اليمنى، قاله الضحاك.
والثاني: بالقُوَّة والقُدرة، قاله السدي، والفراء. والثالث: باليمين التي سبقت منه، وهي قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «1» . حكاه الماوردي. قال الزجاج: «ضَرْباً» مصدر والمعنى: فمال على الأصنام يضربها ضَرْباً باليمين وإِنما قال: «عليهم» ، وهي أصنام، لأنهم جعلوها بمنزلة ما يُمَيِّز. فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «يَزِفُّونَ» بفتح الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ حمزة، والمفضَّل عن عاصم: «يُزِفُّونَ» برفع الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ ابن السّميفع وأبو المتوكل والضحاك: «يَزِفُونَ» بفتح الياء وكسر الزاء وتخفيف الفاء. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو نهيك: «يَزْفُونَ» بفتح الياء وسكون الزاي وتخفيف الفاء. قال الزجاج: أَعربُ القراءات فتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النَّعام، وهو ابتداء عَدْوِ النَّعام، يقال: زَفَّ النَّعام يَزِفُّ وأمَّا ضم الياء، فمعناه: يصيرون إِلى الزَّفيف، وأنشدوا:
فأضحى حُصَيْنٌ قد أَذَلَّ وأَقْهَرَا «2» أي: صار إِلى القَهْر. وأمّا كَسْرُ الزّاي مع تخفيف الفاء، فهو من: وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى أَسْرَعَ يُسْرِع، ولم يَعْرِفه الكسائي ولا الفراء، وعَرَفه غيرهما. قال المفسِّرون: بلغهم ما صنع إبراهيم، فأسرعوا، فلمّا انتَهَوْا إِليه، قال لهم محتجّاً عليهم: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ بأيديكم وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ، قال ابن جرير: في «ما» وجهان «3» : أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر، فيكون المعنى: والله
__________
(1) الأنبياء: 57.
(2) هو عجز بيت للمخبّل السعدي كما في «اللسان» - قهر-. وصدره: تمنّى حصين أن يسود جذاعه.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 4/ 18: وكلا القولين متلازم، والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب «أفعال العباد» عن حذيفة مرفوعا: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته» .(3/545)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
خَلَقَكم وَعمَلَكم. والثاني: أن تكون بمعنى «الذي» ، فيكون المعنى: واللهُ خَلَقَكم وَخلَقَ الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام، وفي هذه الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه. فلمّا لَزِمَتْهم الحُجَّة قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً وقد شرحنا قصته في سورة الأنبياء «1» ، وبيَّنَّا معنى الجحيم في البقرة «2» ، والكّيْدُ الذي أرادوا به: إحراقه.
ومعنى قوله تعالى: فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ أن إبراهيم علاهم بالحُجَّة حيث سلَّمه الله من كيدهم وحلَّ الهلاكُ بهم. وَقالَ يعني إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي في هذا الذَّهاب قولان: أحدهما: أنه ذاهب حقيقة، ثم في وقت قوله هذا قولان: أحدهما: أنه حين أراد هِجرة قومه فالمعنى: إنِّي ذاهب إلى حيث أمرني ربّي عزّ وجلّ سَيَهْدِينِ إلى حيث أمرني، وهو الشام، قاله الأكثرون. والثاني: حين أُلقي في النّار، قاله سليمان بن صُرَد فعلى هذا، في المعنى قولان: أحدهما: ذاهب إِلى الله بالموت، سيَهدينِ إلى الجنّة. والثاني: ذاهب إلى ما قضى به ربي سيَهدين إِلى الخَلاص من النّار. والقول الثاني:
إِنِّي ذاهب إلى ربِّي بقلبي وعملي ونيَّتي، قاله قتادة.
فلما قَدِم الأرض المقدَّسة، سأل ربَّه الولدَ فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي: ولداً صالحاً من الصَّالحينِ، فاجتزأ بما ذكر عمّا ترك، ومثله: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ «3» ، فاستجاب له، وهو قوله تعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وفيه قولان «4» : أحدهما: أنه إِسحاق. والثاني: أنه إِسماعيل. قال الزجاج. هذه البِشارة تَدُلُّ على أنه مبشَّر بابنٍ ذَكَر، وأنه يبقى حتى ينتهيَ في السنّ ويوصَف بالحلم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 113]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ المراد بالسّعي ها هنا: العمل، قاله ابن عباس. والثاني: أنه المشي، والمعنى: مشى مع أبيه، قاله قتاده. قال ابن قتيبة: بلغ أن ينصرف معه
__________
(1) الأنبياء: 52- 74.
(2) البقرة: 119.
(3) يوسف: 20.
(4) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 4/ 19: يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم- عليه السلام- أنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة هاجر من بين أظهرهم وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: أولادا مطيعين عوضا عن قومه وعشيرته الذين فارقهم. قال الله تعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام وهو أكبر من إسحاق باتّفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل نصّ كتابهم أن إسماعيل ولد لإبراهيم عليه السلام وعمره ست وثمانون سنة وولد إسحاق وعمر إبراهيم تسع وتسعون سنة. وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بكره.(3/546)
ويُعِينَه. قال ابن السائب: كان ابن ثلاث عشرة سنة. والثالث: أن المراد بالسعي: العبادة، قاله ابن زيد فعلى هذا، يكون قد بلغ.
قوله تعالى: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أكثر العلماء على أنه لم ير أنه ذبحه في المنام. وإنما المعنى أنه أُمِرََ في المنام بذبحه، ويدُل عليه قوله تعالى: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. وذهب بعضهم إلى أنه رأى أنه يعالج ذبحه، ولم يَرَ إِراقة الدَّم. قال قتادة: ورؤيا الأنبياء حَقٌّ، إِذا رأَوا شيئاً، فعلوه. وذكر السدي عن أشياخه أنه لمّا بشَّر جبريلُ سارة بالولد، قال إبراهيم: هو إِذاً لله ذبيح، فلمّا فَرَغ من بُنيان البيت، أُتي في المنام، فقيل له: أَوْف بنَذْرك. واختلفوا في الذَّبيح على قولين «1» : أحدهما: أنه إِسحاق، قاله عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والعبّاس بن عبد المطلب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأنس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبّه، ومسروق، وعبيد بن عمير، والقاسم بن أَبي بَزّة، ومقاتل بن سليمان، واختاره ابن جرير. وهؤلاء يقولون: كانت هذه القصة بالشام. وقيل: طويت له الأرضُ حتى حمله إلى المَنْحَر بمِنىً في ساعة. والثاني: أنه إسماعيل، قاله ابن عمر، وعبد الله بن سلام، والحسن البصري، وسعيد بن المسيّب، والشعبي، ومجاهد، ويوسف بن مهران، وأبو صالح، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن سابط.
واختلفت الرواية عن ابن عباس، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق، وروى عنه عطاء، ومجاهد، والشعبي، وأبو الجوزاء، ويوسف بن مهران أنه إسماعيل، وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين. وعن سعيد بن جبير، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والسدي روايتان. وكذلك عن أحمد رضي الله عنه روايتان. ولكلِّ قومٍ حُجَّة ليس هذا موضعها، وأصحابنا ينصرون القول الأول.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 4/ 19- 21: نصّ في كتاب أهل الكتاب أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة: بكره، فأقحموا ها هنا كذبا وبهتانا «إسحاق» ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا «إسحاق» لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادوا ذلك وحرّفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى جنب مكة وهذا تأويل وتحريف باطل. فإنه لا يقال: وحيد إلا لمن ليس له غيره، وأيضا فإن أول ولد له معزّة ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقّي إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلّما من غير حجة. وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ وقال تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي:
يولد له في حياتهما ولد يسمّى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل. ولا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير، لأن الله وعدهما بأنه سيعقب، ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا.
وإسماعيل وصف ها هنا بالحلم، لأنه مناسب لهذا المقام. وقوله: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه. وقد كان إبراهيم عليه السلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فارن وينظر في أمرهما وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك. والله أعلم. والصحيح أنه إسماعيل، وهو المقطوع به اه.(3/547)
الإشارة إلى قصّة الذّبح
ذكر أهل السّير والتفسير «1» أن إِبراهيم لمَّا أراد ذبح ولده، قال له: انطلِق فنُقرِّب قرباناً إلى الله عزّ وجلّ، فأخذ سِكِّيناً وحَبْلاً، ثم انطلق، حتى إِذا ذهبا بين الجبال، قال له الغلام: يا أبتِ أين قُربانُك؟
قال: يا بُني إِنِّي رأيتُ في المنام أني أذبحُك، فقال له: اشْدُد رِباطي حتى لا أضطرب، واكْفُف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليك من دمي فتراه أُمِّي فتحزن، وأَسْرِع مَرَّ السِّكِّين على حَلْقِي ليكون أهون للموت عليَّ، فإذا أتيتَ أُمي فاقرأ عليها السلام منِّي فأقبل عليه إبراهيم يقبِّله ويبكي ويقول: نِعْمِ العونُ أنت يا بنيّ على أمر الله عزّ وجلّ، ثم إنه أَمَرَّ السِّكِّين على حَلْقه فلم يَحْكِ شيئاً. وقال مجاهد: لمّا أَمَرَّها على حلقه انقلبت، فقال: ما لك؟ قال: انقلبتْ، قال: اطْعَنْ بها طَعْناً. وقال السدي: ضرب اللهُ على حَلْقِِهِ صفيحة من نُحاس وهذا لا يُحتاج إِليه، بل منعُها بالقُدرة أَبلَغ. قالوا: فلمّا طَعَنَ بها، نَبَتْ، وعَلِم اللهُ منهما الصِّدق في التسليم، فنودي: يا إبراهيمُ قد صَدَّقْتَ الرُّؤيا، هذا فداءُ ابنك فنظر إِبراهيم، فإذا جبريل معه كبش أملح.
قوله تعالى: فَانْظُرْ ماذا تَرى لَمْ يَقًل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله عزّ وجلّ، ولكن أراد أن يَنْظُر ما عنده من الرَّأي. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ماذا تُرِي» بضمّ التاء وكسر الراء فيها قولان: أحدهما: ماذا تُريني من صبرك أو جَزَعك، قاله الفراء. والثاني: ماذا تُبِين، قاله الزجاج.
وقال غيره: ماذا تُشير. قوله تعالى: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ قال ابن عباس: افْعَلْ ما أُوحي إِليك من ذبحي سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على البلاء.
قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما أي: استسلمَا لأمر الله عزّ وجلّ فأطاعا ورضيا. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والأعمش وابن أبي عبلة: «فلمّا سَلَّما» بتشديد اللام من غير همز قبل السين والمعنى: سَلَّما لأمر الله عزّ وجلّ. وفي جواب قوله: «فلمّا أَسلَما» قولان: أحدهما: أن جوابه: «وناديناه» ، والواو زائدة، قاله الفراء. والثاني: أن الجواب محذوف لأن في الكلام دليلاً عليه والمعنى: فلمّا فعل ذلك، سَعِدَ وأُجْزِلَ ثوابُه، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ قال ابن قتيبة: أي: صَرَعه على جبينه فصار أحد جبينيه على الأرض، وهما جبينان، والجبهة بينهما، وهي ما أصاب الأرضَ في السجود، والناس لا يكادون يفرِّقون بين الجبين والجبهة، فالجبهة مسجد الرجل الذي يصيبه نَدَبُ السُّجود، والجبينان يكتنفانها، من كل جانب جبين.
قوله تعالى: وَنادَيْناهُ قال المفسرون: نودي من الجبل: يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وفيه قولان: أحدهما: قد عَمِلْتَ ما أَمَرْتُ، وذلك أنه قصد الذَّبح بما أمكنه، وطاوعه الابن بالتمكين من الذَّبح، إلّا أنّ الله تعالى صرف ذلك كما شاء، فصار كأنه قد ذَبَح وإِن لم يتحقَّق الذَّبح. والثاني: أنه رأى في المنام معالجة الذَّبح، ولم ير إراقة الدَّم، فلمّا فَعَلَ في اليقظة ما رأى في المنام، قيل له: «قد صدَّقْتََ الرُّؤيا» . وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، والجحدري: «قد صَدَقْتَ الرُّؤيا» بتخفيف الدال، وها هنا تم الكلام. ثم قال تعالى: إِنَّا كَذلِكَ أي: كما ذَكَرْنا من العفو من ذبح ولده
__________
(1) هو موقوف على ابن عباس، انظر «تفسير البغوي» 4/ 33.(3/548)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ فيه قولان: أحدهما: النِّعمة البيِّنة، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: الاختبار العظيم، قاله ابن زيد، وابن قتيبة. فعلى الأول، يكون قوله هذا إِشارة إلى العفو عن الَّذبح. وعلى الثاني، يكون إشارة إِلى امتحانه بذبح ولده.
قوله تعالى: وَفَدَيْناهُ يعني الذَّبيح بِذِبْحٍ وهو بكسر الذال اسم ما ذُبِحَ، وبفتح الذال مصدر ذَبَحْتُ، قاله ابن قتيبة. ومعنى الآية: خلَّصْناه من الذَّبح بأن جعلنا الذّبح فداءً له. وفي هذا الذِّبح ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه كان كبشاً أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عاماً، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقال في رواية سعيد بن جبير: هو الكبش الذي قرَّبه ابنُ آدم فتُقُبِّل منه، كان في الجنة حتى فُدي به. والثاني: أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين، رواه أبو الطفيل عن ابن عباس.
والثالث: أنه ما فُدي إِلاّ بتيس من الأَرْوَى، أهبط عليه من ثَبِير، قاله الحسن. وفي معنى عَظِيمٍ أربعة أقوال: أحدها: لأنه كان قد رعى في الجنّة، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. والثاني: لأنه ذُبح على دِين إبراهيم وسُنَّته، قاله الحسن. والثالث: لأنه مُتَقَبَّلٌ، قاله مجاهد. وقال أبو سليمان الدمشقي:
لمّا قرَّبَه ابنُ آدم رُفِع حيّاً فرعى في الجنة ثم جُعل فداء للذّبيح، فقُبِل مرتين. والرابع: لأنه عظيم الشَّخص والبَرَكة، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ ... قد فسّرناه في هذه السّورة «2» .
قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ من قال: إن إسحاق الذَّبيحُ، قال: بُشِّر إبراهيم بنبوَّة إسحاق، وأُثيب إسحاق بصبره النبوَّةَ، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة، وبه قال قتادة، والسدي. ومن قال: الذَّبيح إسماعيل، قال: بشَّر اللهُ إبراهيم بولد يكون نبيّاً بعد هذه القصة، جزاءً لطاعته وصبره، وهذا قول سعيد بن المسيب. قوله تعالى: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ يعني بكثرة ذُرِّيَّتهما، وهم الأسباط كلًّهم وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ أي: مطيع لله وَظالِمٌ وهو العاصي له. وقيل: المُحْسِنُ: المؤمِن، والظالم: الكافر.
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 132]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
قوله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أي: أنعمنا عليهما بالنبوّة. وفي الْكَرْبِ
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» 4/ 22: والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فدي بكبش. اه.
(2) الصافات: 78. [.....](3/549)
الْعَظِيمِ قولان: أحدهما: استعباد فرعون وبلاؤه، وهو معنى قول قتادة. والثاني: الغرق، قاله السدي. قوله تعالى: وَنَصَرْناهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى موسى وهارون وقومهما.
والثاني: أنه يرجع إليهما فقط، فجُمعا، لأن العرب تذهب بالرئيس إلى الجمع، لجنوده وأتباعه، ذكرهما ابن جرير. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «1» ، إلى قوله: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
فيه قولان:
أحدهما: أنه نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، قاله الأكثرون. والثاني: أنه إِدريس، قاله ابن مسعود، وقتادة، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: «وإِن إِدريس» مكان «إِلياس» . قوله تعالى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أي: ألا تخافون الله فتوحِّدونه وتعبدونه؟! أَتَدْعُونَ بَعْلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى الرّبّ، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال الضحاك:
كان ابن عباس قد أعياه هذا الحرف، فبينا هو جالس، إذ مَرَّ أعرابيّ قد ضَلَّت ناقتُه وهو يقول: من وجد ناقة أنا بعلُها؟ فتبعه الصّبيان يصيحون به: يا زوج النّاقة، يا زوج النّاقة، فدعاه ابن عباس فقال:
ويحك، ما عنيتَ ببعلها؟ قال: أنا ربُّها، فقال ابن عباس: صدق الله: «أَتَدْعون بَعْلاً» : ربّاً. وقال قتادة: هذه لغة يمانية. والثاني: أنه اسم صنم كان لهم، قاله الضحاك، وابن زيد. وحكى ابن جرير أنه به سُمِّيت «بعلبكّ» . والثالث: أنها امرأه كانوا يعبدونها، حكاه محمد بن إِسحاق. قوله تعالى: اللَّهَ رَبَّكُمْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: «اللهُ ربُّكم» بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف ويعقوب: «الله» بالنصب. قوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ النارَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين لم يكذِّبوه، فإنهم لا يُحْضَرونَ النّار.
الإشارة إلى القصة
ذكر أهل العلم بالتفسير والسِّيَر أنه لما كَثُرت الأحداث بعد قبض حزقيل، وعُبِدت الأوثانُ، بَعَثَ اللهُ تعالى إِليهم إِلياس. قال ابن إِسحاق: وهو إلياس بن تشبي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، فجعل يدعوهم فلا يسمعون منه، فدعا عليهم بحبس المطر، فجُهدوا جَهداً شديداً، واستخفى إِلياس خوفاً منهم على نفسه. ثم إنه قال لهم يوماً: إِنكم قد هَلَكْتُم جَهْداً، وهَلَكَت البهائمُ والشجر بخطاياكم، فاخرُجوا بأصنامكم وادْعُوها، فإن استجابت لكم، فالأمر كما تقولون، وإن لم تفعل، عَلِمتم أنكم على باطل فنَزَعْتُم عنه، ودعوتُ الله ففرَّج عنكم، فقالوا: أنصفتَ، فخرجوا بأوثانهم، فدعوا فلم تستجب لهم، فعرفوا ضلالهم، فقالوا: ادْعُ اللهَ لنا، فدعا لهم فأرسل المطر وعاشت بلادهم، فلم يَنْزِعوا عمّا كانوا عليه، فدعا إلياس ربَّه أن يَقْبِضه إِليه ويًريحَه منهم، فقيل له: اخْرُج يومَ كذا إِلى مكان كذا، فما جاءك من شيء فاركبْه ولا تَهَبْهُ، فخرج فأقبل فَرَسٌ من نار، فوثب عليه، فانطلق به، وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذَّة المَطْعم والمَشْرَب، فطار في الملائكة، فكان إنسيّاً مَلَكيّاً، أرضيّاً سماويّاً «2» .
قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ:
__________
(1) الأنبياء: 48.
(2) هذا من حماقات الإسرائيليين. وهو باطل.(3/550)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
«إِلياسينَ» موصولة مكسورة الألف ساكنة اللام، فجعلوها كلمة واحدة وقرأ الحسن مثلهم، إلاّ أنه فتح الهمزة، وقرأ نافع، وابن عامر، وعبد الوارث، ويعقوب إلاّ زيداً: «إِلْ ياسينَ» مقطوعة، فجعلها كلمتين. وفي قراءة الوصل قولان: أحدهما: أنه جَمْعٌ لهذا النبيّ وأمَّته المؤمنين، به، وكذلك يُجمع ما يُنْسَب إِلى الشيء بلفظ الشيء، فتقول: رأيت المهالبة، تريد: بني المهلَّب، والمسامعة، تريد: بني مسمع. والثاني: أنه اسم النبيّ وحده، وهو اسم عبرانيٌّ، والعجمي من الأسماء قد يفعل به هذا، كما يقال: ميكال وميكائيل، ذكر القولين الفراء والزجاج. فأمّا قراءة من قرأ: «إِلْ ياسينَ» مفصولة، ففيها قولان: أحدهما: أنهم آل هذا النبي المذكور، وهو يدخل فيهم، كقوله صلى الله عليه وسلّم:
(1210) «اللهم صَلِّ على آل أَبي أَوفى» ، فهو داخل فيهم، لأنه هو المراد بالدعاء.
والثاني: أنهم آل محمّد صلى الله عليه وسلّم قاله الكلبي. وكان عبد الله بن مسعود يقرأ: «سلامٌ على إِدْراسينَ» وقد بيَّنّا مذهبه في أن إلياس هو إدريس.
فإن قيل: كيف قال: «إدراسين» وإنما الواحد إدريس، والمجموع إِدريسيُّ، لا إِدراسٌ ولا إِدراسيّ؟. فالجواب: أنه يجوز أن يكون لغة، كإبراهيم وإبراهام، ومثله:
قدني من نصر الخُبَيْبَيْنِ قَدِي «1»
وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو نهيك: «سلام على ياسين» بحذف الهمزة واللام.
[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
قوله تعالى: إِذْ نَجَّيْناهُ «إذ» ها هنا لا يتعلق بما قبله، لأنه لم يُرْسَل إِذ نُجِّيَ، ولكنه يتعلق بمحذوف، تقديره: واذكرُ يا محمّد إِذ نجَّيناه. وقد تقدم تفسير ما بعد هذا «2» إلى قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
هذا خطاب لأهل مكّة، كانوا إذا ذهبوا إلى الشّام وجاءوا، مَرُّوا على قرى قوم لوط صباحاً ومساءً، أَفَلا تَعْقِلُونَ
فتعتبرون؟!
__________
صحيح. أخرجه البخاري 1497 و 4166 ومسلم 1078 وأبو داود 1590 والنسائي 5/ 31 وأبو نعيم في «الحلية» 5/ 96 والطيالسي 819 والبيهقي في «السنن» 2/ 152 و 4/ 157 وابن حبان 917 من طرق عن شعبة، به. وكلهم من حديث ابن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقة، قال: «اللهم صلّ عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» . لفظ البخاري في الرواية الثانية.
__________
(1) الرجز لحميد الأرقط كما في «اللسان» - قدد.
(2) الشعراء: 171. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 26: يخبر الله تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام أنه بعثه إلى قومه فكذّبوه، فنجاه الله تعالى من بين أظهرهم هو وأهله إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها، فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح، وجعلها بسبيل مقيم يمرّ بها المسافرون ليلا ونهارا، ولهذا قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ أي: أفلا تعتبرون بهم كيف دمّر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها؟!(3/551)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
قوله تعالى: إِذْ أَبَقَ
قال المبرّد: تأويل «أبَقَ» : تباعد وقال أبو عبيدة: فَزِعَ وقال الزجّاج:
هرب وقال بعض أهل المعاني: خرج ولم يؤذَن له، فكان بذلك كالهارب من مولاه. قال الزجاج:
والفُلْك: السفينة، والمشحون: المملوء، وساهم بمعنى قارع، مِنَ الْمُدْحَضِينَ
أي: المغلوبِين قال ابن قتيبة: يقال: أَدْحَضَ اللهُ حُجَّتَهُ، فَدَحَضَتْ، أي: أزالها فزالت، وأصل الدَّحْض: الزَّلَق.
الإِشارة إِلى قصته
قد شرحنا بعض قصته في آخر يونس وفي الأنبياء «1» على قدر ما تحتمله الآيات، ونحن نذكر ها هنا ما تحتمله. قال عبد الله بن مسعود: لمّا وعد يونس قومه العذاب بعد ثلاث، جأروا إلى الله عزّ وجلّ واستغفروا، فكفّ عنهم العذاب، فانطلق مغاضباً حتى انتهى إلى قوم في سفينة، فعرفوه فحملوه، فلمّا رَكِبَ السفينةَ وقَفَتْ، فقال: ما لسفينتكم؟ قالوا: لا ندري، قال: لكنِّي أدري، فيها عبد آبق من ربِّه، وإِنها والله لا تسير حتى تُلْقُوه، فقالوا: أمّا أنت يا نبيّ الله فو الله لا نُلْقِيك، قال: فاقترِعوا، فمن قرع فَلْيَقَع، فاقترَعوا، فقرع يونس، فأبَوا أن يَُمكِّنوه من الوُقوع، فعادوا إلى القُرعة حتى قرع يونس ثلاث مرّات. وقال طاوس: إن صاحب السفينة هو الذي قال: إنَّما يمنعُها أن تسير أنّ فيكم رجلاً مشؤوما فاقترِعوا لنَلقيَ أحدنا، فاقترعوا فقرع يونس ثلاث مرات.
قال المفسرون: وكَّل اللهُ به حوتاً، فلمّا ألقى نفسه في الماء التقمه، وأمر أن لا يضُرَّه ولا يَكْلِمَه، وسارت السفينة حينئذ. ومعنى التقمه: ابتلعه. وَهُوَ مُلِيمٌ قال ابن قتيبة: أي: مُذْنِبٌ، يقال: ألامَ الرجلُ: إِذا أتى ذَنْباًَ يُلامُ عليه، قال الشاعر:
ومَنْ يَخْذُلْ أَخَاهُ فَقَدْ ألاَمَا «2» قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ فيه ثلاثة أقوال «3» : أحدها: مِنَ المُصَليِّن، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: من العابدِين، قاله مجاهد، ووهب بن منبه. والثالث: قول لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «4» ، قاله الحسن. وروى عمران القطّان عن الحسن قال:
والله ما كانت إلاّ صلاة أَحدثَها في بطن الحوت فعلى هذا القول، يكون تسبيحه في بطن الحوت.
__________
(1) الأنبياء: 86.
(2) هو عجز بيت لأم عمير بن سلمى الحنفي كما في «اللسان» - لوم-. وصدره: تعدّ معاذرا لا عذر فيها.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 27: لولا ما تقدّم له من العمل في الرخاء وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك. واختاره ابن جرير.
(4) الأنبياء: 87.(3/552)
وجمهور العلماء على أنه أراد: لولا ما تقدَّم له قبل التقام الحوت إيّاه من التسبيح، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال قتادة: لصار بطن الحوت له قبراً إِلى يوم القيامة، ولكنه كان كثير الصلاة في الرّخاء، فنجاه الله تعالى بذلك.
وفي قَدْر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال «1» : أحدها: أربعون يوماً، قاله أنس بن مالك، وكعب، وأبو مالك، وابن جريج، والسدي. والثاني: سبعة أيام، قاله سعيد بن جبير، وعطاء.
والثالث: ثلاثة أيام، قاله مجاهد، وقتادة. والرابع: عشرون يوماً، قاله الضحاك. والخامس: بعض يوم، التقمة ضُحىً، ونبذه قبل غروب الشمس، قاله الشعبي.
قوله تعالى: فَنَبَذْناهُ قال ابن قتيبة: أي ألْقَيْناه بِالْعَراءِ وهي الأرضُ التي لا يتوارى فيها بشجر ولا غيره، فكأنّه مِنْ عَرِيَ الشَّيءُ. قوله تعالى: وَهُوَ سَقِيمٌ أي: مريض قال ابن مسعود:
كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس له ريش. وقال سعيد بن جبير: أوحى الله تعالى إلى الحوت أن ألْقهِ في البَرّ، فألقاه لا شَعْر عليه ولا جِلْد ولا ظُفر. قوله تعالى: وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ قال ابن عباس: هو القرع، وقد قال أميَّة بن أبي الصلت قبل الإِسلام:
فأنْبَتَ يَقْطِيناً عَلَيْهِ بِرَحْمَةٍ ... مِنَ اللهِ لَوْلا اللهُ أُلْفِيَ ضَاحِيا
قال الزجاج: كل شجرة لا تنبت على ساق وإنما تمتدُّ على وجه الأرض نحو القرع والبطيخ والحنظل، فهي يقطين، واشتقاقه من: قَطَنَ بالمكان: إذا أقام، فهذا الشجر ورقه كلُّه على وجه الأرض، فلذلك قيل له: يقطين. قال ابن مسعود: كان يستظلُّ بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها، فأوحى الله إليه: أتبكي على شجرة أن يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم؟
وقال يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط: قيَّض الله له أروية من الوحش تروح عليه بُكرة وعشيّاً فيشرب من لبنها حتى نبت لحمه. فإن قيل: ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟ فالجواب: أنه خرج كالفرخ على ما وصفنا، وجلده قد ذاب، فأدنى شيء يَمرُّ به يؤذيه، وفي ورق اليقطين خاصيّة، وهي أنه إِذا تُرك على شيء، لم يَقربه ذباب، فأنبته الله عليه ليغطيَه ورقُها ويمنع الذبابَ ريحه أن يسقط عليه فيؤذيَه.
قوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ اختلفوا، هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إيّاه، أم بعد ذلك؟ على قولين: أحدهما: أنها كانت بعد نبذ الحوت إيّاه، على ما ذكرنا في سورة يونس «2» ، وهو مروي عن ابن عباس. والثاني: أنها كانت قبل التقام الحوت له، وهو قول الأكثرين، منهم الحسن، ومجاهد، وهو الأصح، والمعنى: وكنَّا أرسلناه إِلى مائة ألف، فلمّا خرج من بطن الحوت، أُمِر أن يرجع إِلى قومه الذين أُرسِل إِليهم. وفي قوله: أَوْ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «بل» ، قاله ابن عباس، والفراء. والثاني: أنها بمعنى الواو، قاله ابن قتيبة، وقد قرأ أبيّ بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني: «ويزيدون» من غير ألف. والثالث: أنها على أصلها، والمعنى: أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون. وفي زيادتهم أربعة أقوال:
__________
(1) هذا الخلاف ليس بشيء لأن مرجعه كتب الإسرائيليات، والله أعلم بمقدار ذلك.
(2) يونس: 98.(3/553)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
(1211) أحدها: أنهم كانوا مائة ألف يزيدون عشرين ألفاً، رواه أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والثاني: أنهم كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا. والثالث: مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفاً، رويا عن ابن عباس. والرابع: أنهم كانوا يزيدون سبعين ألفا، قاله سعيد بن جبير، ونوف.
قوله تعالى: فَآمَنُوا في وقت إِيمانهم قولان: أحدهما: عند معاينة العذاب. والثاني: حين أُرسل إليهم يونس فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ إِلى منتهى آجالهم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 163]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أي: سل أهل مكة سؤال توبيخ وتقرير، لأنهم زعموا أن الملائكة بنات الله وَهُمْ شاهِدُونَ أي: حاضرون. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي: كذبهم لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ حين زعموا أن الملائكة بناته.
قوله تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ قال الفراء: هذا استفهام فيه توبيخ لهم، وقد تُطرح ألف الاستفهام من التّوبيخ، ومثله: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ و «أذهبتم» يُستفهم بها ولا يُستفهم، ومعناهما واحد. وقرأ أبو هريرة وابن المسيّب والزهري وابن جماز عن نافع، وأبو جعفر، وشيبة: «لكاذبون اصْطفى» بالوصل غير مهموز ولا ممدود وقال أبو علي: وهو على وجه الخير، كأنه قال: اصطفى البنات على البنين فيما يقولون كقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «1» .
قوله تعالى: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ لله بالبنات ولأنفُسكم بالبنين؟! أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي:
حُجَّة بيِّنة على ما تقولون، فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي فيه حُجَّتكم. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا: هو وإِبليس أخَوان، رواه العوفي عن ابن عباس قال الماوردي: وهو قول الزنادقة والذين يقولون: الخير مِنَ الله، والشَّرُّ من إِبليس. والثاني: أن كفار قريش قالوا: الملائكة بنات الله، والجِنَّة صِنف من الملائكة يقال لهم: الجِنَّة، قاله مجاهد. والثالث: أن اليهود قالت: إنّ الله تعالى
__________
ضعيف جدا. أخرجه الترمذي 3229 من طريق الوليد عن زهير به. وأخرجه الطبري 29635 من طريق عمرو بن أبي سلمة قال: سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية قال: حدثني أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال: يزيدون عشرين ألفا. وإسناده ضعيف جدا، وله علتان:
فيه راو لم يسم، فهذه علة، والثانية زهير روى عنه أهل الشام مناكير كثيرة، وهذا الحديث من رواية أهل الشام عنه، وحسبه الوقف، والله أعلم.
__________
(1) الدخان: 49.(3/554)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
تزوّج إِلى الجن فخرجت من بينهم الملائكة، قاله قتادة، وابن السائب. فخرج في معنى الجِنَّة قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة. والثاني: الجن. فعلى الأول، يكون معنى قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أي: عَلِمَت الملائكةُ إِنَّهُمْ أي: إِن هؤلاء المشركين لَمُحْضَرُونَ النّار. وعلى الثاني: «ولقد عَلِمت الجِنَّةُ إنهم» أي: إِن الجن أنفسها «لَمُحْضَرونَ» الحساب.
قوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الموحِّدين. وفيما استُثنوا منه قولان: أحدهما: أنهم استُثنوا من حضور النار، قاله مقاتل. والثاني: ممّا يصف أولئك، وهو معنى قول ابن السائب.
قوله تعالى: فَإِنَّكُمْ يعني المشركين وَما تَعْبُدُونَ من دون الله، ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي: على ما تعبُدونَ بِفاتِنِينَ أي: بمُضِلِّينَ أحداً، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي: مَنْ سبق له في علم الله أنه يدخل النّار.
[سورة الصافات (37) : الآيات 164 الى 182]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
ثم أخبر عن الملائكة بقوله تعالى: وَما مِنَّا والمعنى: ما مِنّا مَلَك إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي: مكان في السموات مخصوص يعبُد اللهَ فيه وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ قال قتادة: صفوف في السماء. وقال السدي:
هو الصلاة. وقال ابن السائب: صفوفهم في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض. قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ فيه قولان: أحدهما: المصلّون. والثاني: المنزّهون لله عزّ وجلّ عن السُّوءِ. وكان عمر بن الخطاب إذا أُقيمت الصلاة أقبل على الناس بوجهه وقال: يا أيها الناس استوُوا، فإنما يريد اللهُ بكم هَدْي الملائكة، وإِنّا لَنَحْنُ الصّافُّون، وإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحون.
ثم عاد إلى الإِخبار عن المشركين، فقال: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ اللام في «لَيَقُولونَ» لام توكيد والمعنى: وقد كان كفار قريش يقولون قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلّم: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أي: كتاباً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: مثل كتب الأولين، وهم اليهود والنصارى، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: لأَخلصْنا العبادة لله عزّ وجلّ. فَكَفَرُوا بِهِ فيه اختصار تقديره: فلمّا آتاهم ما طلبوا كفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم، وهذا تهديد لهم. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا أي: تقدَّم وَعْدُنا للمرسَلِين بنصرهم، والكلمة قوله تعالى:
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ بالحجّة، إِنَّ جُنْدَنا
يعني حزبنا المؤمنين هُمُ الْغالِبُونَ
بالحُجَّة أيضاً والظَّفَر. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: أعرِض عن كفار مكة حَتَّى حِينٍ أي: حتى تنقضيَ مُدَّةُ إِمهالهم. وقال مجاهد: حتى نأمرَك بالقتال فعلى هذا، الآيةُ محْكَمة. وقال في رواية: حتى
__________
(1) المجادلة: 21.(3/555)
الموت، وكذلك قال قتادة. وقال ابن زيد: حتى القيامة فعلى هذا، يتطرَّق نسخُها. وقال مقاتل بن حيّان: نسختها آية السّيف.
قوله تعالى: وَأَبْصِرْهُمْ أي: انظُر إِليهم إِذا نزل بهم العذاب. قال مقاتل بن سليمان، هو العذاب ببدر وقيل: أَبْصِر حالَهم بقلبك فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما اْنكروا، وكانوا يستعجلون بالعذاب تكذيباً به، فقيل: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ. فَإِذا نَزَلَ يعني العذاب. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر: «فإذا نُزِّل» برفع النون وكسر الزاي وتشديدها بِساحَتِهِمْ أي: بفِنائهم وناحيتهم. والساحة:
فِناء الدّار. قال الفراء: العرب تكتفي بالساحة والعَقْوة من القوم، فيقولون: نزل بك العذاب، وبساحتك. قال الزجاج: فكان عذابُ هؤلاء القتل فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي: بِئْسَ صباحُ الذين أًنذروا بالعذاب.
ثم كرَّر ما تقدم توكيداً لوعده بالعذاب، فقال: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ الآيتين.
ثم نزَّه نفسَهُ عن قولهم بقوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ قال مقاتل: يعني عِزَّةَ مَنْ يتعزَّز من ملوك الدنيا. قوله تعالى: عَمَّا يَصِفُونَ أي: من اتِّخاذ النساء والأولاد. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ فيه وجهان: أحدهما: تسليمُه عليهم إكراماً لهم. والثاني: إِخباره بسلامتهم. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاك المشركين ونصرة الأنبياء والمؤمنين. والله أعلم بالصّواب.(3/556)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
سورة ص
ويقال لها: سورة داود، وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم.
(1212) فأمّا سبب نزولها: فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قريشا شكوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: «يا عمّ، إنما أريد منهم كلمة تذلّ لهم بها العرب وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم» ، قال: كلمة؟ قال: «كلمة واحدة» ، قال: ما هي؟ قال: «لا إله إلّا الله» ، فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا، فنزلت فيهم: ص وَالْقُرْآنِ إلى قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3)
واختلفوا في معنى «ص» على سبعة أقوال «1» :. أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه بمعنى: صَدَقَ محمدٌ صلى الله عليه وسلّم، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: صَدَقَ اللهُ، قاله الضحاك، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: معناه: صادق فيما وَعََدَ. وقال الزجاج: معناه: الصادقُ اللهُ تعالى. والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، أَقسَمَ اللهُ به، قاله قتادة.
والخامس: أنه اسم حَيَّة رأسُها تحت العرش وذَنَبُها تحت الأرض السُّفلى، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وقال: أظنه عن عكرمة. والسادس: أنه بمعنى: حادِثِ القرآن، أي: انظُر فيه، قاله الحسن، وهذا على قراءة من كسروا، منهم ابن عباس، والحسن، وابن أبي عبلة، قال ابن جرير: فيكون المعنى: صاد
__________
حديث حسن بطرقه وشواهده. أخرجه أحمد 1/ 227 وأبو يعلى 2583 والترمذي 3232 والنسائي في «التفسير» 456 والحاكم 2/ 432 والبيهقي 9/ 188 والواحدي في «أسباب النزول» 722 عن ابن عباس به، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، مع أن فيه يحيى بن عمارة، وهو مقبول. وتوبع في رواية ثانية للنسائي 457 وأحمد 2/ 362. وفيه أيضا عباد بن جعفر، وهو مجهول. وورد من وجه ثالث، أخرجه الحاكم 2/ 432 وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وهو حسن لأجل ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث.
__________
(1) تقدم الكلام على الحروف التي في أوائل السور، وقد تكلم المصنف على ذلك في أول سورة البقرة. وهو مما استأثر الله تعالى بعلمه، وهو الراجح، والله تعالى أعلم.(3/557)
بِعَمَلِكَ القرآن، أي: عارِضْه. وقيل: اعْرَضْه على عملك، فانظُر أين هو منه. والسابع: أنه بمعنى:
صادَ محمدٌ قلوبَ الخَلْق واستمالها حتى آمَنوا به وأَحَبُّوه، حكاه الثعلبي، وهذا على قراءة من فتح، وهي قراءة أبي رجاء، وأبي الجوزاء، وحميد، ومحبوب عن أبي عمرو. قال الزجاج: والقراءة «صادْ» بتسكين الدال، لأنها من حروف التَّهجِّي. وقد قُرئتْ بالفتح وبالكسر، فمن فتحها، فعلى ضربين:
أحدهما: لالتقاء الساكنين. والثاني: على معنى: أتل «صاد» ، وتكون صاد اسما للسّورة لا ينصرف ومن كسر، فعلى ضربين: أحدهما: لالتقاء الساكنين أيضاً. والثاني: على معنى: صادِ القرآن بعملك، من قولك: صَادَى يُصَادِي: إِذا قابَل وعادَل، يقال: صادَيْتُه: إِذا قابَلْته.
قوله تعالى: ذِي الذِّكْرِ في المراد بالذِّكْر ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه الشَّرَف، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي. والثاني: البيان، قاله قتادة. والثالث: التذكير، قاله الضحاك.
فإن قيل: أين جواب القسم بقوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ؟ فعنه خمسة أجوبة: أحدها:
أن «ص» جواب لقوله: «والقرآن» ، ف «ص» في معناها، كقولك: وَجَبَ واللهِ، نَزَلَ واللهِ، حَقٌّ واللهِ، قاله الفراء، وثعلب. والثاني: أنّ جواب «ص» قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ومعناه: لَكَمْ، فلمّا طال الكلام، حُذفت اللامُ، ومثله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... قَدْ أَفْلَحَ «2» ، فإن المعنى: لقد أَفْلَحَ، غير أنه لمّا اعترض بينهما كلام، تبعه قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ، حكاه الفراء وثعلب أيضاً. والثالث: أنه قوله تعالى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ «3» ، حكاه الأخفش. والرابع: أنه قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ «4» قاله الكسائي، وقال الفراء: لا نجده مستقيماً في العربية، لتأخّره جدّا عن قوله تعالى: وَالْقُرْآنِ. والخامس: أن جوابه محذوف تقديره: والقرآنِ ذي الذِّكْر ما الأَمْرُ كما يقول الكُفَّار، ويدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ، ذكره جماعة من المفسرين، وإِلى نحوه ذهب قتادة. والعِزَّةُ: الحَمِيَّةُ والتكبُّر عن الحَقّ. وقرأ عمرو بن العاص وأبو رزين وابن يعمر وعاصم الجحدري ومحبوب عن أبي عمرو: «في غِرَّةٍ» بغين معجمة وراء غير معجمة.
والشِّقاق: الخِلاف والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد سبق بيان الكلمتين مشروحا «5» .
ثم خوَّفهم بقوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعنى الأُمم الخالية فَنادَوْا عند وقوع الهلاك بهم. وفي هذا النداء قولان: أحدهما: أنه الدُّعاء. والثاني: الاستغاثة.
قوله تعالى «6» : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ وقرأ الضحاك، وأبو المتوكّل، وعاصم الجحدري، وابن
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 546: الصواب قول من قال: معناه: ذي التذكير لكم، لأن الله أتبع ذلك قولُه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ فكان معلوما بذلك أنه إنما أخبر عن القرآن أنه أنزله ذكرا لعباده ذكرهم به، وأن الكفار من الإيمان به في عزة وشقاق. [.....]
(2) الشمس: 1، 9.
(3) ص: 14.
(4) ص: 64.
(5) البقرة: 206- 138.
(6) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 33: في قوله تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ وهذه الكلمة وهي «لات» هي «لا» التي للنفي، زيدت معها التاء، كما تزاد في ثمّ فيقولون: «ثمت» ، و «رب» فيقولون: «ربت» وهي مفصولة، والوقف عليها، ومنهم من حكى عن المصحف الإمام فيما ذكره ابن جرير أنها متصلة بحين: «ولا تحين مناص» والمشهور الأول. ثم قرأ الجمهور بنصب «حين» تقديره: وليس الحين حين مناص. ومنهم من جوز النصب بها، وأهل اللغة يقولون: النّوص: التأخر، والبوص: التقدم. ولهذا قال تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ، أي: ليس الحين حين فرار ولا ذهاب اه.(3/558)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
يعمر: «ولاتَ حينُ» بفتح التاء ورفع النون. قال ابن عباس: ليس حين يروه فِرار. وقال عطاء: في لغة أهل اليمن «لاتَ» بمعنى «ليس» . وقال وهب بن منبه: هي بالسّريانيّة. وقال الفرّاء: «لات» بمعنى «ليس» ، فالمعنى: ليس بحينِ فِرار. ومن القرّاء من يَخْفضُ «لاتِ» ، والوجه النَّصْب، لأنها في معنى «ليس» أنشدني المفضَّل:
تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لاتَ حِينا ... وأضْحَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ القَرِينا
قال ابن الأنباري: كان الفراء والكسائي والخليل وسيبويه والأخفش وأبو عبيدة يذهبون إلى أن التاء في قوله تعالى: «ولاتَ» منقطعة من «حين» ، قال: وقال أبو عبيدة: الوقف عندي على هذا الحرف «ولا» ، والابتداء «تحين» لثلاث حُجج: إِحداهن: أن تفسير ابن عباس يشهد لها، لأنه قال: ليس حِينَ يَرَوْه فِرار فقد عُلِمَ أنّ «ليس» هي أخت «لا» وبمعناها. والحُجة الثانية: أنّا لا نَجِدُ في شيء من كلام العرب «ولات» ، إنما المعروفة «لا» . والحجة الثالثة: أن هذه التاء، إنما وجدناها تلحق مع «حين» ومع «الآن» ومع ال «أوان» ، فيقولون: كان هذا تحين كان ذلك، وكذلك: «تأوان» ، ويقال: اذهب تَلانَ، ومنه قول أبي وجزة السعدي:
العَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ ... والمَطْعِمُونَ زَمَانَ مَا مِنْ مُطْعِمِ
وذكر ابن قتيبة عن ابن الأعرابي أن معنى هذا البيت: «العاطفونه» بالهاء، ثم تبتدئ: «حين ما من عاطِفٍ» قال ابن الأنباري: وهذا غلط، لأن الهاء إنما تُقْحَم على النُّون في مواضع القَطْعُ والسُّكون، فأمّا مع الاتصال، فإنه غير موجود، وقال عليّ بن أحمد النيسابوري: النحويُّون يقولون في قوله تعالى:
«ولاتَ» : هي «لا» زيدت فيها التاء كما قالوا: ثُمَّ وثُمَّتْ، ورُبَّ ورُبَّتْ، وأصلها هاءٌ وُصِلَتْ ب «لا» ، فقالوا: «لاه» فلمّا وَصَلُوها، جعلوها تاءً والوقف عليها بالتاء عند الزجاج وأبي عليّ، وعند الكسائي بالهاء، وعند أبي عبيد الوقف على «لا» . فأما المَناص، فهو الفرار. قال الفراء: النَّوْص في كلام العرب: التأخُّر، والبَوْصُ: التقدّم، قال إمرؤ القَيْس:
أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى إِذْ نأَتْكَ تَنُوصُ ... فتَقْصُرُ عَنْها خطوة وتبوص
وقال أبو عبيدة: المناص: مصدر ناص ينوص، وهو المنجى والفوز.
[سورة ص (38) : الآيات 4 الى 11]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)(3/559)
قوله تعالى: وَعَجِبُوا يعني الكفار أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعني رسولاً من أَنْفُسهم يُنْذِرُهم النَّارَ.
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً لأنه دعاهم إلى الله وحده وأبطل عبادة آلهتهم.
(1213) وهذا قولهم لمّا اجتمعوا عند أبي طالب، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «أتُعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، وهي «لا إِله إِلا الله» ، فقاموا يقولون: «أَجَعَلَ الآلهةَ إِلهاً واحداً» ، ونزلت هذه الآية فيهم.
إِنَّ هذا الذي يقول محمد من أن الآلهة إِله واحد لَشَيْءٌ عُجابٌ أي: لأمرٌ عَجَبٌ. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن السميفع: «عُجّابٌ» بتشديد الجيم. قال اللغويون: العجاب والعجّاب والعجيب بمعنى واحد، كما يقال: كَبِيرٌ وكُبَارٌ وكُبَّارٌ، وكَرِيمٌ وكُرامٌ وكُرَّامٌ، وطَوِيلٌ وطوال وطوّال، وأنشد الفرّاء:
جاءوا بصيد عَجَبٍ مِنَ العَجَبْ ... أُزَيْرِقِ العينينِ طُوَّالِ الذَّنَبْ
قال قتادة: عجب المشركون أن دُعي اللهُ وَحْدَه وقالوا: أَيَسْمَعُ لِحاجاتنا جميعاً إِلهٌ واحد! قوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ قال المفسرون: لمّا اجتمع أشراف قريش عند أبي طالب وشَكَوا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ما سبق بيانه، نفروا من قول: «لا إِله إِلا الله» ، وخرجوا من عند أبي طالب، فذلك قوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ. والانطلاق: الذّّهَابُ بسهولة، ومنه طَلاَقَةُ الوَجْه. والملأُ:
أشراف قريش. فخرجوا يقول بعضهم لبعض: امْشُوا. وأَنِ بمعنى «أي» فالمعنى: أي: امْشُوا.
قال الزجاج: ويجوز أن يكون المعنى: انْطَلِقوا بأن امْشُوا، أي: انْطَلَقوا بهذا القول. وقال بعضهم:
المعنى: انْطَلَقوا يقولون: امْشُوا إِلى أبي طالب فاشْكُوا إليه ابنَ أخيه، وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي: اثبُتوا على عبادتها إِنَّ هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد لَشَيْءٌ يُرادُ أي: لأمرٌ يُرادُ بِنَا.
ما سَمِعْنا بِهذا الذي جاء به محمدٌ من التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: النصرانية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وإِبراهيم بن المهاجر عن مجاهد، وبه قال محمد بن كعب القرظي، ومقاتل. والثاني: أنها مِلَّة قريش، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة. والثالث: اليهودية والنصرانية، قاله الفراء، والزجاج والمعنى أن اليهود أشركت بعُزَير، والنصارى، قالت: ثالث ثلاثة، فلهذا أنْكَرَتِ التوحيدَ.
إِنَّ هذا الذي جاء به محمّد صلى الله عليه وسلّم إِلَّا اخْتِلاقٌ أي: كذب. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ يعنون القرآن.
«عليه» يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، مِنْ بَيْنِنا أي: كيف خُصَّ بهذا دونَنَا وليس بأعلانا نَسَباَ ولا أعظمَنا شَرَفاَ؟! قال الله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي: من القرآن والمعنى أنهم ليسوا على يقين ممّا يقولون، إِنما هم شاكُّون بَلْ لَمَّا قال مقاتل: «لمّا» بمعنى «لم» كقوله تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ. وقال غيره: هذا تهديد لهم والمعنى أنه لو نزل بهم العذاب، علموا أن ما قاله محمّد حقّ.
وأثبت ياء عَذابِ في الحالين يعقوب.
قال الزجاج: ولما دَلَّ قولُهم: «أَأُنْزِلَ عليه الذِّكْرُ» على حسدهم له، أعلم الله عزّ وجلّ أنّ الملك
__________
هو الحديث المتقدم 1212.(3/560)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
والرِّسالة إِليه، فقال: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ؟! قال المفسرون: ومعنى الآية: أبأيديهم مفاتيحُ النُّبوَّة فيضعونها حيث شاؤوا؟! والمعنى: ليست بأيديهم، ولا مُلْكُ السموات والأرض لهم، فإن ادّعَوْا شيئاً من ذلك فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ قال سعيد بن جبير: أي في أبواب السماء. وقال الزجاج: فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء.
قوله تعالى: جُنْدٌ أي: هُمْ جُنْدٌ. والجُند: الأَتباع فكأنه قال: هُمْ أَتباعٌ مقلّدون ليس فيهم عالم راشد. وما زائدة، وهُنالِكَ إِشارة إِلى بدر. والأحزاب: جميع مَنْ تقدَّمهم من الكفّار الذي تحزَّبوا على الأنبياء. قال قتادة: أخبر اللهُ نبيَّه وهو بمكة أنه سيَهْزِمُ جُند المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر.
[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)
قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ قال أبو عبيدة: قَوْمٌ من العرب يؤنِّثون «القوم» ، وقوم يذكِّرون، فإن احتُجَّ عليهم بهذه الآية، قالوا: وقع المعنى على العشيرة، واحتَجُّوا بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ «1» ، قالوا: والمُضْمَر مذكَّر.
قوله تعالى: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ فيه ستة أقوال «2» : أحدها: أنه كان يعذِّب الناس بأربعة أوتاد يَشُدُّهم فيها، ثُمَّ يرفع صخرة فتُلقى على الإِنسان فتَشْدَخُه، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وكذلك قال الحسن، ومجاهد: كان يعذِّب الناسَ بأوتاد يُوتِدُها في أيديهم وأرجُلهم. والثاني: أنه ذو البِناء المُحْكَم، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضحاك، والقرظي، واختاره ابن قتيبة، قال: والعرب تقول: هُمْ في عزٍّ ثابتِ الأوتاد، ومُلكٍ ثابتِ الأوتاد، يريدون أنه دائم شديد، وأصل هذا، أن البيت من بيوتهم يثبتُ بأوتاد، قال الأسود بن يعفر:
في ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتادِ «3»
والثالث: أن المراد بالأوتاد: الجنودُ، رواه عطية عن ابن عباس، وذلك أنهم كانوا يَشُدُّونَ مُلكه ويُقَوُّون أمره كما يقوِّي الوَتِدُ الشيءَ. والرابع: أنه كان يبني مَناراً يذبح عليها الناس. والخامس: أنه كان له أربع أسطوانات، فيأخذ الرَّجُلَ فيمُدُّ كلَّ قائمة إِلى أُسْطوانة فيعذِّبه، روي القولان عن سعيد بن جبير.
والسادس: أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يُلعَب له عليها، قاله عطاء، وقتادة.
ولمّا ذكر المكذّبين، قال: أُولئِكَ الْأَحْزابُ فأعَلمنا أن مشركي قريش من هؤلاء «4» ، وقد عذّبوا
__________
(1) عبس: 11.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 556: وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك الأوتاد، إما لتعذيب الناس، وإما للعب كان يلعب له بها، وذلك أن ذلك هو المعروف من معنى الأوتاد.
(3) هو عجز بيت وصدره: ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 557: وقوله تعالى: أُولئِكَ الْأَحْزابُ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الجماعات المجتمعة، والأحزاب المتحزبة على معاصي الله والكفر به، الذين منهم يا محمد مشركو قومك وهم مسلوك بهم سبيلهم، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ يقول: ما كل هؤلاء الأمم إلا كذب لرسل الله فحق عليهم العذاب. وقال ابن كثير رحمه الله: فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر، لأن الله تعالى جعل علة هلاكهم هو تكذيبهم بالرسل.(3/561)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
وأهلكوا. فَحَقَّ عِقابِ أثبت الياء فيها في الحالين يعقوب. وَما يَنْظُرُ أي: وما يَنتظر هؤُلاءِ يعني كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وفيها قولان: أحدهما: أنها النفخة الأولى، قاله مقاتل. والثاني:
النفخة الأخيرة، قاله ابن السائب.
وفي الفَواق قراءتان. قرأ حمزة، وخلف، والكسائي: بضم الفاء. وقرأ الباقون: بفتحها. وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد، وهو معنى قول الفراء، وابن قتيبة، والزجاج. قال الفراء: والمعنى: ما لها من راحة ولا إِفاقة، وأصله من الإِفاقة في الرضاع إذا ارتضعت البهيمة أُمَّها ثم تركتْها حتى تنزل شيئاً من اللَّبَن، فتلك الإفاقة.
(1214) وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «العِيادةُ قَدْرُ فُواق ناقة» .
ومن يفتح الفاء، فهي لغة جيدة عالية. وقال ابن قتيبة: الفُواق والفَواق واحد، وهو أن تُحْلَبَ النّاقةُ وتُتركَ ساعةً حتى تُنزل شيئاً من اللَّبَن، ثم تُحْلَب، فما بين الحَلْبتين فواق. فاستعير الفواق في موضع المكث والانتظار. وقال الزجاج: الفُواق: ما بين حلبتَي النّاقة، وهو مشتق من الرُّجوع، لأنه يَعُودُ اللَّبَن إلى الضّرع بين الحَلْبتين، يقال: أفاق من مرضه، أي: رَجَع إِلى الصِّحَّة. والثاني: أن من فتحها، أراد: ما لها مِنْ راحة. ومن ضمَّها، أراد: فُواق الناقة، قاله أبو عبيدة.
وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال «1» : أحدها: ما لها من رجعة، ثم فيه قولان: أحدهما:
ما لها من ترداد، قاله ابن عباس، والمعنى أن تلك الصّيحة لا تكرّر. والثاني: ما لها من رجوع إلى الدنيا، قاله الحسن، وقتادة، والمعنى أنهم لا يعودون بعدها إلى الدنيا. والثاني: ما لهم منها من إفاقة، بل تهلكهم، قاله ابن زيد. والثالث: ما لها من فُتور ولا انقطاع، قاله ابن جرير. والرابع: ما لها من راحة، حكاه جماعة من المفسّرين.
[سورة ص (38) : الآيات 16 الى 20]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
قوله تعالى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا في سبب قولهم هذا قولان: أحدهما: أنه لمّا ذُكِر لهم ما في الجنّة، قالوا هذا، قاله سعيد بن جبير، والسدي: والثاني: أنه لمّا نزل قوله تعالى:
__________
ذكره ابن الأثير في «النهاية» 3/ 479، ولم أره مسندا، ولعله من كلام بعض السلف.
وانظر «تفسير القرطبي» 5236 بتخريجنا.
__________
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 36: ما ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بفتنة فقد جاء أشراطها، أي قد اقتربت ودنت وأزفت، وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله إسرافيل إن يطوّلها، فلا يبقى أحد من أهل السموات والأرض إلا فزع، إلا من استثنى الله- عزّ وجلّ-.(3/562)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ... الآيات «1» ، قالت قريش: زعمتَ يا محمد أنّا نُؤتَى كتبنا بشمائلنا؟! فعجِّل لنا قِطَّنا، يقولون ذلك تكذيباً له، قاله أبو العالية ومقاتل. وفي المراد بالقِطِّ أربعة أقوال «2» : أحدها: أنه الصحيفة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال الفراء: القِطُّ في كلام العرب: الصَّكّ. وقال أبو عبيدة:
القِطُّ: الكتاب، والقُطُوط: الكتب بالجوائز وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ومقاتل وابن قتيبة.
والثاني: أن القِطَّ: الحساب، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه القضاء، قاله عطاء الخراساني، والمعنى أنهم لمّا وُعِدوا بالقضاء بينهم، سألوا ذلك. الرابع: أنه النصيب، قاله سعيد بن جبير. قال الزجاج: القِطُّ: النصيب، وأصله: الصحيفة يُكْتَب للإنسان فيها شيء يصل إليه، واشتقاق القطّ من قَطَطْتُ، أي: قَطَعْتُ، فالنَّصيب: هو القطعة من الشيء. ثم في هذا القول للمفسرين قولان:
أحدهما: أنهم سألوه نصيبهم من الجنة، قاله سعيد بن جبير. والثاني: سألوه نصيبهم من العذاب، قاله قتادة. وعلى جميع الأقوال، إنما سألوا ذلك استهزاءً، لتكذيبهم بالقيامة. اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي: من تكذيبهم وأذاهم وفي هذا قولان: أحدهما: أنه أُمِر بالصبر، سلوكاً لطريق أًولي العزم، وهذا مُحْكَم.
والثاني: أنه منسوخ بآية السيف فيما زعم الكلبي.
قوله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ في وجه المناسبة بين قوله: «إِصبر» وبين قوله: «واُذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ» قولان: أحدهما: أنه أمِرَ أن يتقوّى على الصَّبر بذِكْر قُوَّة داوُد على العبادة والطاعة. والثاني: أن المعنى: عرِّفهم أن الأنبياء عليهم السلام- مع طاعتهم- كانوا خائفين منِّي، هذا داوُد مع قوَّته على العبادة، لم يزل باكياً مستغفراً، فكيف حالُهم مع أفعالهم؟! فأما قوله: ذَا الْأَيْدِ فقال ابن عباس: هي القُوَّة في العبادة. وفي «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو قال:
(1215) قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أَحَبُّ الصِّيام إلى الله صيامُ داوُدَ، كان يصومُ يوماً ويُفْطِر يوماً، وأَحَبُّ الصَّلاة إِلى الله صلاةُ داوُد، كان ينام نِصْفَ الليل ويقومُ ثُلثه وينامَ سُدسه» .
وفي الأوّاب أقوال قد ذكرناها في بني اسرائيل «3» . إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ قد ذكرنا تسبيح الجبال معه في سورة الأنبياء «4» ، وذكرنا معنى العَشِيّ في مواضع مما تقدّم «5» ، وذكرنا معنى الإشراق في الحجر «6» عند قوله تعالى مُشْرِقِينَ. قال الزجاج: الإِشراق: طلوعُ الشمس وإِضاءتُها. وروي عن ابن عباس أنه قال: طَلَبْتُ صلاةَ الضُّحى، فلم أَجِدْها إِلاّ في هذه الآية. وقد ذكرنا عنه أن صلاة الضُّحى مذكورة في النّور «7» في قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 1131 ومسلم 1159 ح 189 من طرق عن سفيان بن عيينة به.
__________
(1) الحاقة: 19- 27.
(2) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 36: قيل سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة أن يلقوا ذلك في الدنيا. وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب. وقال ابن جرير: سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا، وهذا الذي قاله جيد. ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستبعاد والاستهزاء قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلّم آمرا له بالصبر على أذاهم، ومبشّرا له على صبره بالعاقبة والنصر والظفر.
(3) الإسراء: 25.
(4) الأنبياء: 79. [.....]
(5) آل عمران: 41، الأنعام: 53.
(6) الحجر: 73.
(7) النور: 36.(3/563)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
قوله تعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً وقرأ عكرمة، وأبو الجوزاء، والضحاك، وابن أبي عبلة: «والطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ» بالرفع فيهما، أي: مجموعة إليه، تسبِّح اللهَ معه كُلٌّ لَهُ في هاء الكناية قولان: أحدهما:
ترجع إِلى داوُد، أي: كُلٌّ لداود أَوَّابٌ أي: رَجّاعٌ إِلى طاعته وأَمْره، والمعنى: كُلٌّ له مُطِيع بالتسبيح معه، هذا قول الجمهور. والثاني: أنها ترجع إلى الله تعالى، فالمعنى: كُلٌّ مسبِّحٌ لله، قاله السدي.
قوله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي: قوَّيناه. وفي ما شُدَّ به مُلْكُه قولان: أحدهما: أنه الحَرَسُ والجنود قال ابن عباس: كان يحرسُه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل. والثاني: أنه هَيْبَةٌ ألقيت له في قلوب الناس وهذا المعنى مرويٌّ عن ابن عباس أيضاً. قوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها الفَهْم، قاله ابن عباس، والحسن وابن زيد. والثاني: الصَّواب، قاله مجاهد.
والثالث: السُّنَّة، قاله قتادة. والرابع: النُّبُوَّة، قاله السدي.
وفي فصل الخطاب أربعة أقوال: أحدها: عِلْمُ القضاء والعدلُ، قاله ابن عباس والحسن.
والثاني: بيان الكلام، روي عن ابن عباس أيضاً. وذكر الماوردي أنه البيان الكافي في كل غرض مقصود. والثالث: قوله: «أما بعد» ، وهو أول من تكلَّم بها، قاله أبو موسى الأشعري والشعبي.
والرابع: تكليف المدَّعي البيِّنة، والمدَّعَى عليه اليمين، قاله شريح وقتادة وهو قولٌ حسنٌ لأن الخُصومة إنما تفصل بهذا.
[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 26]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ قال أبو سليمان: المعنى: قد أتاكَ فاسْتَمِعْ له نَقْصُصْ عليكَ. واختلف العلماء في السبب الذي امتُحِن لأجْله داوُد عليه السلام بما امتُحن به على خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه قال: يا ربّ قد أعطيتَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذِّكْر ما لو وددت أنّك
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 51: قد قدمنا لكم وأوضحنا أن الأنبياء معصومون عن الكبائر إجماعا، وفي الصغائر اختلاف وأنا أقول إنهم معصومون عن الصغائر والكبائر، لوجوه بيناها في كتاب «النبوات» من أصول الدين. وقد قال جماعة: لا صغيرة في الذنوب وهو صحيح، وتحقيقه أن الكفر معصية ليس فوقها معصية كما أن النظرة معصية ليس دونها معصية، وبينهما ذنوب إن قرنتها بالكفر والقتل والزنا والعقوق كانت صغائر، وإن أضفتها إلى ما يليها في القسم الثاني الذي بعده من جهة النظر كانت كبائر. والذي أوقع الناس في ذلك رواية المفسّرين وأهل التقصير من المسلمين في قصص الأنبياء مصائب لا قدر عند الله لم اعتقدها روايات ومذاهب، ولقد كان من حسن الأدب مع الأنبياء صلوات الله عليهم ألا تبث عثراتهم لو عثروا، ولا تبث فلتاتهم لو استفلتوا، فإن إسبال الستر على الجار والولد والأخ فضيلة أكرم فضيلة، فكيف سترت على جارك حتى لم تقص نبأه في أخبارك، وعكفت على أنبيائك وأحبارك تقول عنهم ما لم يفعلوا، وتنسب إليهم ما لم يتلبسوا به، ولا تلوّثوا به، نعوذ بالله من هذا التعدّي والجهل بحقيقة الدين في الأنبياء والمسلمين والعلماء والصالحين. وقد وصيناكم إذا كنتم لا بد آخذين في شأنهم ذاكرين قصصهم ألا تعدوا ما أخبر الله عنهم، وتقولوا ذلك بصفة التعظيم لهم والتنزيه عن غير ما نسب الله إليهم، ولا يقولن أحدكم: قد عصى الأنبياء فكيف نحن، فإن ذكر ذلك كفر.
- قلت: لو لم يذكر المصنف هذه الآثار لكان أولى، وقد أطال في ذلك رحمه الله وإنما هذه الآثار من ترّهات الإسرائيليين وأساطيرهم.(3/564)
أعطيتني مِثْلَه، فقال الله تعالى: إِنِّي ابتليتُهم بما لم أَبْتَلِكَ به، فإن شئت ابتليتُكَ بِمثْلِ ما ابتليتُهم به وأعطيتُك كما أعطيتُهم؟ قال: نعم، فبينما هو في محرابه إذ وقعتْ عليه حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت، فذهب ليأخذها، فرأى امرأة تغتسل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال السدي. والثاني:
أنه ما زال يجتهد في العبادة حتى بَرَزَ له قرناؤه من الملائكة وكانوا يصلُّون معه ويُسْعِدونه بالبُكاء، فلمّا استأنس بهم، قال: أَخْبِروني بأيِّ شيء أنتم موكّلون؟ قالوا: ما نكتب عليكَ ذَنْباً، بل نكتب صالح عملك ونثبِّتُك ونوفِّقُك ونَصْرِف عنك السُّوء، فقال في نفسه: ليت شِعري كيف أكون لو خلّوني ونفسي وتمنَّى أن يُخَلّى بينه وبين نفسه ليَعْلَم كيف يكون، فأمر اللهُ تعالى قُرَناءَه أن يعتزلوه ليَعْلَم أنه لا غَناءَ به عن الله عزّ وجلّ فلما فقدهم، جَدَّ واجتهد ضِعْفَ عبادته إلى أن ظَنَّ أنه قد غَلَب نَفْسَه، فأراد اللهُ تعالى أن يُعَرِّفَه ضَعْفَه، فأَرسَل إِليه طائراً من طيور الجنة، فسقط في محرابه، فقطع صلاته ومَدَّ يده إليه، فتنحّى عن مكانه، فأَتْبَعَه بَصَرَه، فإذا امرأة أوريا، هذا قول وهب بن منبّه. والثالث: أنه تَذاكرَ هو وبنو إسرائيل، فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذَنْباً؟ فأضمر داودُ في نفسه أنه سيُطيق ذلك، فلمّا كان يوم عبادته، أغلق أبوابه وأَمَرَ أن لا يدخُل عليه أحد وأكبَّ على قراءه الزَّبور، فإذا حمامة من ذهب، فأهوى إليها فطارت، فتَبِعها فرأى المرأة، رواه مطر عن الحسن. والرابع: أنه قال لبني إسرائيل حين ملك: واللهِ لأَعْدِلَنَّ بينكم، ولم يستثن، فابتُليَ، رواه قتادة عن الحسن. والخامس:
أنه أعجبه كثرة عمله، فابتُليَ، قاله أبو بكر الورّاق.
الإِشارة إلى قصة ابتلائه
قد ذكرنا عن وهب أنه قال: كانت الحمامة من طيور الجنة. وقال السدي تصوَّر له الشيطان في صورة حمامة. قال المفسرون: إِنه لمّا تبع الحمامة رأى امرأة من بستان على شطِّ بِرْكَة لها تغتسل، وقيل: بل على سطح لها فعجب من حسنها، فحانت منها التفاتة فرأت ظله، فنفضت شعرها، فغطىّ بدنها فزاده ذلك إِعجاباً بها، فسأل عنها فقيل: هذه امرأة أوريا، وزوجها في غزاة فكتب داود إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وكذا، وقدِّمه قبل التابوت، وكان مَنْ قُدِّم على التابوت لا يَحِلُّ له أن يرجع حتى يُفْتَح عليه أو يستشهد، ففعل ذلك، ففُتِح عليه فكتب إلى داود يخبره فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، ففُتح له، فكتب إليه أن ابعثه إِلى عدو كذا وكذا، فقُتل في المرَّة الثالثة، فلمّا انقضت عِدَّة المرأة تزوَّجها داوُد، فهي أُمُّ سليمان، فلمّا دخل بها لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله(3/565)
عز وجل مَلَكين في صورة إنسيَّين، وقيل: لم يأته المَلَكان حتى جاء منها سليمان وشَبَّ، ثم أتياه فوجداه في محراب عبادته، فمنعهما الحرس من الدخول، فتسوروا المحراب عليه، وعلى هذا الذي ذكرناه من القصة أكثر المفسرين، وقد روى نحوه العوفي عن ابن عباس، وروي عن الحسن وقتادة والسدي، ومقاتل في آخرين.
وذكر جماعة من المفسرين «1» أن داوُد لمّا نظر إلى المرأة، سأل عنها، وبعث زوجَها إلى الغَزاة مَرَّة بعد مَرَّة إلى أن قُتل، فتزوََّجَها وروي مِثْلُ هذا عن ابن عباس، ووهب، والحسن في جماعة.
وهذا لا يصح من طريق النقل، ولا يجوز من حيث المعنى، لأن الأنبياء منزَّهون عنه.
وقد اختلف المحقِّقون في ذَنْبه الذي عُوتب عليه على أربعة أقوال: أحدها: أنه لمَا هَويهَا، قال لزوجها: تحوَّل لي عنها، فعُوتب على ذلك. وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما زاد داوُد على أن قال لصاحب المرأة: أكْفِلْنِيهَا وتحوّلْ لي عنها ونحو ذلك روي عن ابن مسعود «2» . وقد حكى أبو سليمان الدمشقي أنه بعث إلى أوريا فأقدمه من غَزاته، فأدناه وأكرمه جدّاً، إلى أن قال له يوماً: أنْزِلْ لي عن امرأتك وانظُر أيَّ امرأة شئتَ في بني إسرائيل أزوِّجكها، أو أيَّ أَمَةٍ شئتَ أبتاعُها لكَ، فقال: لا أُريد بامرأتي بديلاً فلمّا لم يُجِبْه إِلى ما سأل، أمَرَه أن يَرْجِع إلى غَزاته. والثاني: أنه تمنّى تلك المرأة حلالاً، وحدَّث نفسه بذلك، فاتّفق غزو أوريا من غير أن يسعى في سبب قتله ولا في تعريضه للهلاك، فلمّا بلغة قتلُه، لم يَجْزَعْ عليه كما جَزِع على غيره مِنْ جُنْده، ثُمَّ تزوَّج امرأتَه، فعُوتب على ذلك.
وذُنوبُ الأنبياء عليهم السلام وإن صَغُرَتْ، فهي عظيمة عند الله عزّ وجلّ. والثالث: أنه لمّا وقع بصرُه عليها، أشبع النَّظر إليها حتى عَلِقَتْ بقلبه «3» . والرابع: أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة، فخطبها داودُ مع عِلْمه بأن أوريا قد خطبها، فتزوَّجَها، فاغتمَّ أوريا، وعاتب اللهُ تعالى داوَُدَ إذْ لم يترُكْها لخاطبها الأوَّل «4» واختار القاضي أبو يعلى هذا القول، واستدل عليه بقوله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ، قال:
فدلَّ هذا على أن الكلام إنما كان بينهما في الخِطْبة، ولم يكن قد تقدَّم تزوُّج الآخَر، فعُوتب داوُدُ عليه السلام لشيئين ينبغي للأنبياء التَّنَزُّه عنهما: أحدهما: خطبته على خطبة غيره. والثاني: إِظهار الحِرْص على التزويج مع كثرة نسائه، ولم يعتقد ذلك معصية، فعاتبه الله تعالى عليها قال: فأمّا ما روي أنه نظر إِلى المرأة فهَويَها وقدَّم زَوْجَها للقتل، فإنه وجهٌ لا يجوز على الأنبياء، لأن الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العِلْم بها.
قال الزجاج: إنما قال: «الخَصْمِ» بلفظ الواحد، وقال: «تسوّروا» بلفظ الجماعة، لأنّ قولك:
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 54: وأما قولهم: إنه أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله، فهذا باطل قطعا، لأن داود لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وليس في القرآن أن ذلك كان، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها، فعن من يروى هذا ويسند؟ وعلى من في نقله يعتمد، وليس يؤثره عن الثقات الأثبات أحد؟
(2) لا يصح عن ابن مسعود، وقد ذكره المصنف بصيغة التمريض وهو متلقى عن أهل الكتاب.
(3) قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 56: لا يجوز ذلك عندي بحال، لأن طموح البصر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة، فكيف بالأنبياء الذين هم الوسائط المكاشفون بالغيب.
(4) قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 57: هذا باطل يردّه القرآن والآثار التفسيرية كلها.(3/566)
خصم، يَصْلحُ للواحد والاثنين والجماعة والذكر والأنثى، تقول، هذا خصم، وهي خصم، وهما خصم، وهم خصم وإنما يصلح لجميع ذلك لأنه مصدر، تقول: خصمته أخصمه خصما. والمحراب ها هنا كالغُرفة، قال الشاعر:
ربَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها ... لَمْ ألْقَها أَوْ أرَتَقي سُلَّماً «1»
و «تسوّروا» يدل على علوّ. قال المفسرون: كانا مَلَكين، وقيل: هما جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياه لينبِّهاه على التوبة وإنما قال: «تسوَّروا» وهما اثنان، لأن معنى الجمع ضمُّ شيء إلى شيء، والاثنان فما فوقهما جماعة.
قوله تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ قال الفراء: يجوز أن يكون معنى «تسوَّرُوا» : دَخَلوا، فيكون تكراراً ويجوز أن يكون «إذ» بمعنى «لمّا» ، فيكون المعنى: إذ تسوَّروا المحراب لمّا دَخَلوا، ولمّا تسوَّروا إِذ دخلوا. قوله تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ وذلك أنهما أتيا على غير صفة مجيء الخُصوم، وفي غير وقت الحُكومة، ودخلا تَسَوُّراً من غير إذن «2» . وقال أبو الأحوص: دَخَلا عليه وكُلُّ واحد منهما آخذ برأس صاحبه. وخَصْمانِ مرفوع بإضمار «نَحْنُ» ، قال ابن الأنباري: المعنى: نحن كخصمين، ومِثْلُ خصمين، فسقطت الكاف، وقام الخصمان مقامهما، كما تقول العرب: عبد الله القمرُ حُسْناً، وهم يريدون: مِثْل القمر، قالت هند بنت عتبة ترثي أباها وعمَّها:
مَنْ حَسَّ لِي الأخوين كالغصنين ... أو من راهما
أسدين في غيل يحيد القوم ... عن عرواهما
صقرين لا يتذلّلان ... ولا يُباحُ حِماهُما
رُمْحَيْنِ خَطِّيِّيْنِ في ... كَبِدِ السَّماءِ تَراهُما
أرادت: مِثْل أسدين، ومثل صقرين، فأسقطت مِثْلاً وأقامت الذي بعده مقامه. ثم صرف الله عزّ وجلّ النون والألف في «بَعْضُنا» إلى «نحن» المضمر، كما تقول العرب: نحن قوم شَرُف أبونا، ونحن قوم شَرُف أبوهم، والمعنى واحد. والحق ها هنا: العدل. وَلا تُشْطِطْ أي: لا تَجُرْ، يقال: شَطَّ وأَشَطَّ: إذا جار. وقرأ ابن أبي عبلة: «ولا تَشْطُطْ» بفتح التاء وضم الطاء قال الفرّاء: بعض العرب يقول: شَطَطْتَ عليَّ في السَّوْم، وأكثر الكلام «أشططتَ» بالألف، وشَطَّت الدّارُ: تباعدتْ. قوله تعالى:
وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي: إلى قَصْد الطَّريق والمعنى: احْمِلْنا على الحق. فقال داوُد: تَكَلَّما، فقال أحدُهما: إِنَّ هذا أَخِي قال ابن الأنباري: المعنى: قال أحد الخصمين اللَّذين شُبِّه المَلَكان بهما:
إنَّ هذا أخي، فأضمر القول لوضوح معناه لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً قال الزجاج: كُني عن المرأة بالنَّعْجة.
__________
(1) البيت لوضاح اليمن كما في «الأغاني» 6/ 237 و «اللسان» - حرب- وقد سبق البيت في «الجزء الأول» .
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 38: وقوله: فَفَزِعَ مِنْهُمْ، إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه، وهو أشرف مكان في داره، وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم، فلم يشعر إلا بشخصين قد تسوّرا عليه المحراب، أي: احتاطا به يسألانه عن شأنهما. وقوله وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي: غلبني. يقال: عزّ يعزّ:
إذا قهر وغلب. وقوله: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي اختبرناه.
وقوله وَخَرَّ راكِعاً أي: ساجدا وَأَنابَ يحتمل أنه ركع أولا، ثم سجد بعد ذلك.(3/567)
وقال غيره: العرب تشبِّه النِّساء بالنعاج، وتورِّي عنها بالشاء والبقر. قال ابن قتيبة: ورّى عن ذِكر النساء بذِكر النعاج، كما قال عنترة:
يا شاة ما قَنْصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... حَرُمَتْ عَلَيَّ ولَيْتَها لَمْ تَحْرُمِ
يعرِّض بجارية، يقول: أيّ صيد أنتِ لِمَنْ حَلَّ له أن يَصيدَكِ! فأمّا أنا، فإنَّ حُرْمَةَ الجوار قد حرَّمْتكِ عَلَيَّ. وإِنما ذَكرَ المَلَكُ هذا العدد لأنه عدد نساء داوُد.
قوله تعالى: وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فتح الياء حفص عن عاصم، وأسكنها الباقون. فَقالَ أَكْفِلْنِيها قال ابن قتيبة: أي: ضُمَّها إِليّ واجعلْني كافِلَها. وقال الزجاج: انْزِلْ أنتَ عَنها واجعلْني أنا أَكْفُلُها. قوله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي: غَلَبني في القول. وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رزين العقيلي والضحاك وابن يعمر وابن أبي عبلة: «وعَازَّنِي» بألف، أي: غالبَنَي. قال ابن مسعود وابن عباس في قوله:
«وعَزَّني في الخطاب» : ما زاد على أن قال: انْزِلْ لي عنها. وروى العوفي عن ابن عباس قال: إن دعوتُ ودعا كان أكثر، وإن بَطَشْتُ وبَطَشَ كان أَشدَّ مني. فإن قيل: كيف قال المَلَكان هذا، وليس شيء منه موجوداً عندهما؟ فالجواب: أن العلماء قالوا: إنما هذا على سبيل المَثَل والتشبيه بقصة داوُد، وتقدير كلامهما: ما تقولُ إن جاءك خصمان فقالا كذا وكذا؟ وكان داوُد لا يرى أن عليه تَبِعَةً فيما فَعَلَ، فنبَّهه اللهُ بالمَلَكين. وقال ابن قتيبة: هذا مَثَل ضربه اللهُ له ونبًّهه على خطيئته. وقد ذكرنا آنفاً أن المعنى:
نحنُ كخَصْمَين. قوله تعالى: قالَ يعني داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ قال الفراء: أي:
بسؤاله نعجتك، فإذا ألقيتَ الهاء من السؤال، أضفتَ الفعل إِلى النَّعْجة، ومِثْلُه: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ «1» ، أي: من دعائه بالخير، فلمّا ألقى الهاء، أضاف الفعل إِلى الخير، وألقى من الخير الباء، وأنشدوا:
فَلَسْتُ مُسَلِّماً ما دُمْتُ حَيّاً ... على زَيْدٍ بتسليمِ الأميرِ
أي: بتسليم على الأمير.
قوله تعالى: إِلى نِعاجِهِ أي: لِيَضُمَّها إلى نِعاجه. قال ابن قتيبة: المعنى: بسؤال نعجتك مضمومةً إِلى نعاجه، فاختُصر. قال: ويقال «إلى» بمعنى «مع» . فإن قيل: كيف حكم داود قبل أن يَسمع كلامَ الآخر؟ فالجواب: أن الخصم الآخر اعترف، فحكم عليه باعترافه، وحذف ذِكر الاعتراف اكتفاءً بفهَم السامع، والعرب تقول: أمرتُك بالتجارة فكسبتَ الأموال، أي: فاتجَّرتَ فكسبتَ، ويدُلُّ عليه قولُ السدي: إِن داوُد قال للخصم الآخر: ما تقول؟ قال: نعم، أريد أن آخذها منه فأُكمل بها نعاجي وهو كاره، قال: إِذاً لا ندعُك، وإِن رُمْتَ هذا ضربْنا منكَ هذا- ويشير إلى أنفه وجبهته- فقال:
أنت يا داود أَحَقُّ أن يُضرب هذا منكَ حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لأوريا إِلا واحدة، فنظر داوُد فلم ير أحداً، فعَرَف ما وقع فيه «2» . قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ يعني الشركاء، واحدهم:
خليط، وهو المُخالِط في المال، وإِنما قال هذا، لأنه ظنَّهما شريكين، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أي: فإنهم لا يظلمون أحدا، وَقَلِيلٌ ما هُمْ «ما» زائدة، والمعنى: وقليل هم، وقيل: المعنى: هم قليل، يعني الصالحين الذين لا يَظلِمونَ.
__________
(1) فصلت: 49.
(2) تقدم أن هذه الآثار إسرائيلية.(3/568)
قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أي: أيقن وعَلِم أَنَّما فَتَنَّاهُ فيه قولان: أحدهما: اختبرناه. والثاني:
ابتليناه بما جرى له من نظره إلى المرأة وافتتانه بها «1» . وقرأ عمر بن الخطاب: «أنّما فتَّنَّاهُ» بتشديد التاء والنون جميعاً. وقرأ أنس بن مالك، وأبو رزين، والحسن، وقتادة، وعليّ بن نصر عن أبي عمرو:
«أنَّما فَتَنَاهُ» بتخفيف التاء والنون جميعاً، يعني المَلَكين، قال أبو علي الفارسي: يريد صَمَدا له. وفي سبب علمه وتنبيه على ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن المَلَكين أفصحا له بذلك، على ما ذكرناه عن السدي. والثاني: أنهما عَرَّجا وهما يقولان: قضى الرجلُ على نفسه، فعَلِم أنه عُني بذلك، قاله وهب.
والثالث: أنه لمَا حكم بينهما، نظر أحدُهما إِلى صاحبه وضحك، ثم صَعِدا إِلى السماء وهو ينظُر، فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ قال المفسرون: لمّا فطن داوُدُ بذَنْبه خَرّ راكعاً، قال ابن عباس:
أي: ساجداً، وعبَر عن السجود بالركوع، لأنهما بمعنى الانحناء. وقال بعضهم: المعنى: فخَرَّ بعد أن كان راكعاً.
فصل: واختلف العلماء هل هذه من عزائم السجود؟ على قولين: أحدهما: ليست من عزائم السجود، قاله الشافعي. والثاني: أنها من عزائم السجود، قاله أبو حنيفة وعن أحمد روايتان.
قال المفسرون: فبقي في سجوده أربعين ليلة، لا يرفع رأسه إلاّ لوقت صلاة مكتوبة أو حاجة لا بُدَّ منها، ولا يأكل ولا يشرب، فأكلتِ الأرضُ من جبينه، ونَبَتَ العُشْبُ من دموعه، ويقول في سجوده: ربَّ داود، زَلَّ داودُ زَلَّة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب. وقال مجاهد: نبت البقلُ من دموعه حتى غطَّى رأسَه، ثم نادى: ربِّ قَرِح الجبين وجَمَدت العينُ وداوُدُ لم يَرْجِع إِليه في خطيئته شيء، فنودي: أجائع فتُطْعَم، أم مريض فتُشْفَى، أم مظلومٌ فيُنتصَر لك؟ فنَحَبَ نَحيباً هاج كلَّ شيء نَبَتَ، فعند ذلك غفر له. وقال ثابت البناني: اتخذ داوُدُ سبع حشايا من شَعْر وحشاهُنَّ من الرَّماد، ثم بكى حتى أنفذها دموعاً، ولم يشرب شراباً إلا ممزوجاً بدموع عينيه. وقال وهب بن منبه: نودي: يا داود ارفع رأسك فإنّا قد غَفَرْنا لكَ، فرفع رأسه وقد زَمِن وصار مرعشاً «2» . فأمّا قوله: وَأَنابَ فمعناه: رَجَع مِنْ ذَنْبه تائباً إلى ربِّه، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ يعني الذَّنْب وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى قال ابن قتيبة: أي: تقدَّمُ وقُرْبة.
قوله تعالى: وَحُسْنَ مَآبٍ قال مقاتل: حُسْن مَرْجِع، وهو ما أعدَّ الله له في الجنة. قوله تعالى:
يا داوُدُ المعنى: وقلنا له يا داود إِنَّا جَعَلْناكَ أي: صيّرْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي: تُدَبِّرُ أَمْرَ العباد مِنْ قِبَلنا بأمرنا، فكأنك خليفة عنّا فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي: بالعدل وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي: لا تَمِلْ مع ما تشتهي إِذا خالف أمر الله عزّ وجلّ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: عن دينه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ وقرأ أبو نهيك، وأبو حيوة، وابن يعمر: «يُضِلُّونَ» بضم الياء. قوله تعالى: بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ فيه قولان: أحدهما: بما تَرَكُوا العمل ليوم الحساب، قاله السدي. قال الزجاج: لمّا تركوا العمل لذلك اليوم، صاروا بمنزلة الناسين. والثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: لهم عذاب شديد يوم
__________
(1) تقدم الكلام في أن مثل ذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام والصواب هو القول الأول: اختبرناه كما جاء في «تفسير» ابن كثير رحمه الله.
(2) في «اللسان» رعش: بالكسر، يرعش، وارتعش: ارتعد. [.....](3/569)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
الحساب بما نَسُوا، أي: تَرَكُوا القضاء بالعدل، وهو قول عكرمة.
[سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي: عَبَثاَ ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أن ذلك خُلِقَ لِغَيْرِ شيء، وإنما خُلِقَ للثواب والعقاب. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا قال مقاتل:
(1216) قال كفار قريش للمؤمنين: إنّا نُعْطَى في الآخرة مثل ما تُعْطَوْن، فنزلت هذه الآية.
(1217) وقال ابن السائب: نزلت في السّتة الذين تبارزوا يوم بدر، عليّ رضي الله عنه، وحمزة رضي الله عنه، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، فذكر أولئك بالفساد في الأرض لِعَمَلهم فيها بالمعاصي، وسمَّى المؤمنين بالمتَّقِين لاتِّقائهم الشِّرك، وحُكْمُ الآية عامٌّ.
قوله تعالى: كِتابٌ أي: هذا كتاب، يعني القرآن، وقد بيَّنّا معنى بَرَكَته في سورة الأنعام «1» .
لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وقرأ عاصم في رواية: «ليتدبّروا آياتِه» بالتاء خفيفة الدال، أي: ليتفكروا فيها فيتقرر عندهم صِحَّتُها وَلِيَتَذَكَّرَ بما فيه من المواعظ أُولُوا الْأَلْبابِ، وقد سبق بيان هذا.
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 44]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
قوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ يعني به سليمان. وفي الأوّاب أقوال قد تقدمت في بني إسرائيل «2» ، ألْيَقُها بهذا المكان أنه رَجّاعٌ بالتَّوبة إِلى الله تعالى ممّا يقع منه من السَّهو والغَفْلة.
قوله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ وهو ما بعد الزَّوال الصَّافِناتُ وهي الخيل، وفي معنى
__________
رواه المصنف عن مقاتل، ومقاتل متهم بالوضع.
رواه المصنف عن ابن السائب الكلبي، وكذا السيوطي في «أسباب النزول» . وابن السائب متهم بالوضع.
__________
(1) الأنعام: 92.
(2) الإسراء: 25.(3/570)
الصّافنات قولان: أحدهما: أنها القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رِجْل وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وابن زيد، واختاره الزجاج، وقال: هذا أَكثرُ قيام الخيل إذا وقفت كأنَّها تراوح بين قوائمها، قال الشاعر:
أَلِفَ الصُّفُونَ فما يَزالُ كأنَّهُ ... مِمّا يَقومُ على الثَّلاثِ كَسِيرا
والثاني: أنها القائمة، سواء كانت على ثلاث أو غير ثلاث، قال الفراء: على هذا رأيت العرب، وأشعارهم تَدُلُّ على أنه القيام خاصة. وقال ابن قتيبة: الصافن في كلام العرب: الواقفُ من الخيلِ وغيرها، (1218) ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يقوم له الرّجال صُفُوناً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّار» ، أي:
يُديمون القيام له.
فأمّا الجِيادُ، فهي السِّراعُ في الجَرْيِ. وفي سبب عرضها عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه عَرَضَها لأنه أراد جهاد عدوٍّ له، قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. والثاني: أنها كانت من دوابّ البحر.
قال الحسن: بلغني أنها كانت خيلاً خرجتْ من البحر لها أجنحة. وقال إبراهيم التيمي: كانت عشرين فرساً ذات أجنحة. وقال ابن زيد: أخرجتْها له الشياطين من البحر. والثالث: أنه وَرِثَها من أبيه داود عليه السلام، فعُرِضَتْ عليه، قاله وهب بن منبّه، ومقاتل. والرابع: أنه غزا جيشاً، فظَفِر به وغنمها، فدعا بها فعُرضَتْ عليه، قاله ابن السائب. وفي عددها أربعة أقوال: أحدها: ثلاثة عشر ألفاً، قاله وهب. والثاني: عشرون ألفاً، قاله سعيد بن مسروق. والثالث: ألف فرس، قاله ابن السائب ومقاتل.
والرابع: عشرون فرساً، وقد ذكرناه عن إبراهيم التيمي. قال المفسرون: ولم تزل تُعْرَض عليه إِلى أن غابت الشمس، ففاتته صلاة العصر، وكان مَهِيباً لا يبتدئه أحد بشيء، فلم يذكِّروه، ونسي هو، فلمّا غابت الشمسُ ذكر الصلاة، فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ فتح الياء أهل الحجاز وأبو عمرو حُبَّ الْخَيْرِ وفيه قولان: أحدهما: أنه المال، قاله سعيد بن جبير والضحاك. والثاني: حُبُّ الخيل، قاله قتادة والسدي.
والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لأنه أراد بالخير الخيلَ، وهي مال. وقال الفراء: العرب تسمِّي الخيل: الخير.
(1219) قال الزجاج: وقد سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد الخيل: زيد الخير.
__________
لا أصل له بلفظ «صفونا» وإنما هو من تصرف بعض الرواة أو أهل اللغة. فهو عند أبي داود 5229 والترمذي 5756 وأحمد 4/ 91- 94 من حديث معاوية بن أبي سفيان بلفظ «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار» هذا هو الصحيح الوارد في هذا المتن. وإسناده جيد، وصححه المنذري في «الترغيب» 3/ 431. وفي الباب من حديث أبي أمامة أخرجه أبو داود 5230 وأحمد 5/ 253 وحسنه المنذري في «ترغيبه» 3/ 431. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 91 عن الحديث المذكور: لم أجده هكذا، وفي غريب الحديث لأبي عبيد من حديث البراء رضي الله عنه «كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فرفع رأسه قمنا معه صفونا» . قلت: هو في «الغريب» 1/ 379 بدون إسناد.
ضعيف. أخرجه ابن عدي 2/ 22 وابن شاهين كما في الإصابة 2941 من حديث ابن مسعود، ومداره على بشير مولى بني هاشم، وهو منكر الحديث، وبه أعله ابن عدي، وقال الذهبي في ترجمته: أتى بخبر منكر، ومراده هذا الحديث. وانظر «تفسير القرطبي» 5271 بتخريجنا.(3/571)
ومعنى «أَحَبْبْتُ» : آثرتُ حُبَّ الخَيْر على ذِكْر ربِّي وكذلك قال غير الزجاج: «عن» بمعنى «على» . وقال بعضهم: يحتمل المعنى: فشَغَلَني عن ذكر ربّي. وقال أبو عبيدة: معنى الكلام: أَحْبَبْتُ حُبّاً، ثم أضاف الحُبَّ إلى الخير. وقال ابن قتيبة: سمَّى الخَيْل خَيْراً، لما فيها من الخَيْر. والمفسرون على أن المراد بذِكْر ربِّه: صلاةُ العصر، قاله عليّ وابن مسعود وقتادة في آخرين. وقال الزجاج: لا أدري هل كانت صلاةُ العصر مفروضةً أم لا!، إلا أنّ اعتراضه الخيل شَغَلَه عن وقتٍ كان يذكُر الله فيه حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ قال المصنف: وأهل اللغة يقولون: يعني الشمس، ولم يجر لها ذِكْر، ولا أحسبهم أعطَوا في هذا الفِكْر حَقَّه، لأن في الآية دليلاً على الشمس، وهو قوله: «بالعشيِّ» ومعناه:
عُرِضَ عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب، ولا يجوز الإِضمار إلا أن يجريَ ذِكْر أو دليل ذِكْر فيكون بمنزلة الذِّكْر وأما الحِجَاب، فهو ما يحجُبها عن الأبصار.
قوله تعالى: رُدُّوها عَلَيَّ قال المفسرون: لمّا شغله عَرْضُ الخَيْل عليه عن الصلاة، فصلاّها بعد خروج وقتها، اغتمَّ وغضب، وقال: رُدُّوها عَلَيَّ، يعني: أعيدوا الخَيْل عَلَيَّ فَطَفِقَ قال ابن قتيبة:
أي أقبل مَسْحاً قال الأخفش: أي: يَمْسَحُ مَسْحاً. فأمّا السُّوق، فجمع ساق، مثل دُور ودار. وهمز السُّؤق ابن كثير، قال أبو علي: وغيرُ الهمز أحسنُ منه. وقرأ أبو عمران الجوني، وابن محيصن:
«بالسُّؤوق» مثل الرُّؤوس. وفي المراد بالمسح ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ضربها بالسيف.
(1220) روى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله: «فطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوق والأعناق» قال:
«بالسيف» . وروى مجاهد عن ابن عباس قال: مسح أعناقها وسوقها بالسيف. وقال الحسن، وقتادة، وابن السائب: قطع أعناقها وسُوقها، وهذا اختيار السدي، ومقاتل، والفراء، وأبي عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة، وأبي سليمان الدمشقي، والجمهور.
والثاني: أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حُبّاً لها، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: مسحها بيده، وهذا اختيار ابن جرير، والقاضي أبو يعلى.
والثالث: أنه كَوَى سُوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله تعالى، حكاه الثعلبي.
والمفسِّرون على القول الأول، وقد اعترضوا على القول الثاني، وقالوا: أيّ مناسبة بين شغْلِها إيّاه عن الصلاة وبين مَسْح أعرافها حُبّاً لها؟! ولا أعلم قوله: «حُبّاً لها» يثبت عن ابن عباس. وحملوا قول مجاهد: «مَسَحها بيده» أي: تولىَّ ضَرْبَ أعناقها. فإن قيل: فالقول الأول يفسُد بأنه لا ذَنْب للحيوان، فكيف وجّه العقوبة إليه وقصد التَّشفِّي بقتله، وهذا يشبه فِعْلَ الجبّارِين، لا فِعْلَ الأنبياء؟ فالجواب: أنه لم يكن لِيَفْعَلَ ذلك إلا وقد أُبيح له، وجائز أن يُباح له ما يُمنَع منه في شرعنا، على أنه إذا ذبحها كانت قرباناً، وأكلُ لحمها جائز، فما وقع تفريط. قال وهب بن منبّه: لمّا ضَرَبَ سوقها وأعناقها، شكر اللهُ تعالى له ذلك، فسخَّر له الرِّيح مكانها، وهي أحْسَنُ في المنظر، وأَسْرَعُ في السَّيْر، وأَعْجَبُ في الأحدوثة.
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبراني في «الأوسط» 6993 من حديث أبي بن كعب، وإسناده ضعيف لضعف سعيد بن بشير وبخاصة عن قتادة، قال ابن نمير: يروي عن قتادة المنكرات، وفيه أيضا مروان بن محمد تكلم فيه لكن لا يحتمل مثل هذا بل الحمل في هذا الحديث على سعيد، فإنه منكر الحديث عن قتادة، وهذا منها.(3/572)
قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي: ابتليناه وامْتَحَنّاه بِسَلْبِ مُلْكه وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ أي: على سريره جَسَداً وفيه قولان «1» :
أحدهما: أنه شيطان، قاله ابن عباس، والجمهور. وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال: أحدها:
صخر، رواه العوفي عن ابن عباس. وذكر العلماء أنه كان شيطاناً مَرِيداً لم يُسَخَّر لسليمان. والثاني:
آصف، قاله مجاهد: إلاّ أنه ليس بالمُؤْمِن الذي عنده الاسم الأعظم، إِلاّ أنّ بعض ناقِلِي التفسير حكى أنه آصف الذي عنده عِلْمٌ من الكتاب، وأنه لمّا فُتن سليمان سقط الخاتم من يده فلم يثبُت، فقال آصف: أنا أقوم مقامَك إِلى أن يتوبَ الله عليك، فقام في مقامه، وسار بالسِّيرة الجميلة، وهذا لا يَصِحُّ، ولا ذكره مَنْ يوثَق به. والثالث: حبقيق، قاله السدي والمعنى: أجلسْنا على كرسيِّه في مُلْكه شيطاناً. ثُمَّ أَنابَ أي: رَجَع: وفيما رجع إِليه قولان: أحدهما: تاب من ذَنْبه، قاله قتادة. والثاني:
رَجَع إَلى مُلْكه، قاله الضحاك. وفي سبب ابتلاء سليمان بهذا خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه كانت له امرأة يقال لها: جرادة، فكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق، إلا أنه وَدَّ أن الحق كان لأهلها، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً، وأوحى اللهُ تعالى إِليه أنه سيُصيبك بلاءٌ، فكان لا يدري أيأتيه من السماء، أو من الأرض، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن زوجته جرادة كانت آثَرَ النِّساءِ عنده، فقالت له يوماً: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وإنِّي أُحِبُ أن تَقْضِيَ له، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتُليَ لأجل ما قال، قاله السدي. والثالث: أن زوجته جرادة كان قد سباها في غَزاةٍ له، وكانت بنتَ مَلِك فأسلمتْ، وكانت تبكي عنده بالليل والنهار، فسألها عن حالها، فقالت: أذْكُر أبي وما كنتُ فيه، فلو أنك أَمَرْتََ الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلىَّ بها، ففعل، فكانت إذا خرج سليمان، تسجد له هي وولائدها أربعين صباحاً، فلمّا عَلِم سليمان، كسر تلك الصورة، وعاقب المرأة وولائدها ثم تضرَّع إِلى الله تعالى مستغفراً ممّا كان في داره، فسُلِّط الشيطانُ على خاتمه، هذا قول وهب بن منبّه «3» . والرابع: أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيّام، فأوحى الله تعالى إليه: يا سليمان، احتجبتَ عن الناس ثلاثةَ أيّام فلم تنظرُ في أُمور عبادي ولم تُنْصِف مظلوماً من ظالم؟! فسلّط الشيطان على خاتمه، قاله سعيد بن المسيب. والخامس: أنه قارَبَ امرأةً من نسائه في الحيض أو غيره، قاله الحسن «4» .
والقول الثاني: أن المراد بالجسد الذي أُلقي على كرسيّه: أنه وُلد له ولد فاجتمعت الشياطين، فقال بعضهم لبعض: إِن عاش له ولد، لم ننفكَّ من البلاء، فسبيلُنا أن نقتُلَ ولده أو نخبله، فعلم بذلك
__________
(1) قال أبو حيان في «البحر المحيط» : نقل المفسّرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد، أقوالا يجب براءة الأنبياء منها، وهي إما من وضع اليهود، أو الزنادقة، ولم يبين الله الفتنة ولا الجسد الذي ألقاه، ويستحيل عقلا تمثل الشيطان بصورة نبي، فلو أمكن ذلك لم يوثق بإرسال نبي، وإنما هذه المقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية اه. ولو لم يذكر المصنف مثل هذا لكان أولى.
(2) هذه الأقوال جميعا من الإسرائيليات. وقال الحافظ ابن كثير 4/ 44: في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر النساء، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب.
(3) عامة روايات وهب إسرائيلية.
(4) هذا من الإسرائيليات الباطلة، وهذا القول أنكر الأقوال لما فيه من النيل من كرامة الأنبياء عليه السلام.(3/573)
سليمان، فأمر السَّحاب فحمله، وعدا ابنه في السّحاب خوفا من الشياطين، فعاتبه الحقّ تعالى على تخوُّفه من الشياطين، ومات الولد، فأُلقي على كرسيه ميتاً جسداً، قاله الشعبي «1» . والمفسرون على القول الأول. ونحن نذكُر قصة ابتلائه على قول الجمهور.
الإِشارة إلى ذلك
اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين: أحدهما: أنه كان جالساً على شاطئ البحر، فوقع منه في البحر، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أن شيطاناً أخذه، وفي كيفية ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه دخل ذات يوم الحمّام ووضع الخاتم تحت فِراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر، وجعل الشيطانُ يقول: أنا نبيّ الله، قاله سعيد بن المسيّب. والثاني: أن سليمان قال للشيطان:
كيف تَفْتِنون النّاسَ؟ قال: أَرِني خاتمك أُخْبِرْكَ، فأعطاه إيّاه فنبذه في البحر فذهب مُلك سليمان وقعد الشيطان على كرسيه، قاله مجاهد. والثالث: أنه دخل الحمّام ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه، فأتاها الشيطان فتمثَّل لها في صورة سليمان وأخذ الخاتم منها، فلمّا خرج سليمانُ طلبه منها فقالت: قد دفعتُه إِليك، فهرب سليمان وجاء الشيطان فجلس على مُلكه. قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنه دخل الحمّام وأعطى الشيطانَ خاتمه، فألقاه الشيطان في البحر فذهب مُلك سليمان وأُلقي على الشيطان شِبْهُه قاله قتادة.
فأمّا قِصَّةُ الشيطان، فذكر أكثر المفسرين أنه لمّا أخذ الخاتم رمى به في البحر، وأُلقي عليه شِبْهُ سليمان، فجلس على كرسيّه، وتحكَّم في سُلطانه. وقال السدي: لم يُلْقِه في البحر حتى فرّ من مكان سليمان. وهل كان يأتي نساءَ سليمان؟ فيه قولان «2» : أحدهما: أنه لم يَقْدِر عليهنّ، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أنه كان يأتيهنّ في زمن الحيض، فأنكرنه، قاله سعيد بن المسيب والأول أصحّ.
قالوا: وكان يقضي بقضايا فاسدة، ويحكُم بما لا يجوز، فأنكره بنو إسرائيل، فقال بعضُهم لبعض: إما أن تكونوا قد هَلَكتم أنتم، وإمّا أن يكون مَلكُكم قد هَلَكَ، فاذْهَبوا إِلى نسائه فاسألوهُنَّ، فذهبوا، فقلن: إنّا والله قد أنكرناه فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء.
وفي كيفيَّة بُعْدِ الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال: أحدها: أن سليمان وجد خاتمه فتختَّم به، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان، قاله سعيد بن المسيّب. والثاني: أن سليمان لمّا رَجَع إلى مُلْكه وجاءته الرِّيح والطَّير والشياطين، فرّ الشيطان حتى دخل البحر، قاله مجاهد. والثالث: أنه لمّا مضى أربعون
__________
(1) هذه الآثار من سخافات الإسرائيليين.
(2) هذا وأمثاله من الإسرائيليات الباطلة المزورة، قبح الله واضعه، والعجب أن بعض المفسّرين يذكر مثل هذه الأخبار دون أن يبين بطلانها.
قال الآلوسي: ومن أقبح ما في هذه الأخبار متسلط الشيطان على نساء نبيه حتى وطأهن وهنّ حيّض الله أكبر!! هذا بهتان عظيم، وخطب جسيم اه ملخصا، راجع روح المعاني 23/ 199.
- وقال ابن كثير 4/ 44: إن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة التفسير أن ذلك الجني لم يسلّط على نساء سليمان، بل عصمهن الله عز وجل منه تشريفا وتكريما لنبيه، قال: وقد رويت هذه القصة عن جماعة من السلف، ثم قال: وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب اه.(3/574)
يوماً، طار الشيطان من مجلسه، قاله وهب. والرابع: أن بني إسرائيل لمّا أنكروه، أتوه فأحدقوا به، ثم نَشَروا التَّوراة فقرؤوا فطار من بين أيديهم حتى ذهب إِلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت، قاله السدي. وفي قدر مكث الشيطان قولان: أحدهما: أربعون يوماً، قاله الأكثرون. والثاني:
أربعة عشر يوماً، حكاه الثعلبي.
وأما قصة سليمان عليه السلام، فإنه لما سُلب خاتمه، ذهب ملكه، فانطلق هارباً في الأرض، قال مجاهد: كان يَسْتَطْعِمُ فلا يُطْعَم، فيقول: لو عَرَفْتُموني أعطيتُموني، أنا سليمان، فيطردونه، حتى أعطته امرأةٌ حوتاً، فوجد خاتمه في بطن الحوت. وقال سعيد بن جبير: انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر، فوجد صيّادين قد صادوا سمكاً كثيرا وقد أنتن عليهم بعضُه، فأتاهم يَسْتَطعِم، فقالوا: اذهبْ إلى تلك الحيتان فخُذْ منها، فقال: لا، أطْعِموني من هذا، فأبَوا عليه، فقال: أّطْعِموني، فإنِّي سليمان، فوثب إِليه رجُلٌ منهم فضربه بالعصا غَضَباً لسليمان، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئاً، فشّقَّ بطنَ حوت، فإذا هو بالخاتم. وقال الحسن: ذُكِر لي أنه لم يُؤْوِه أَحدٌ من الناس، ولم يُعْرَف أربعينَ ليلةً، وكان يأوي إِلى امرأة مسكينة، فبينا هو يوما على شطّ نهر، وجد سمكة، فأتى بها المرأة فشقتَّها فإذا بالخاتم. وقال الضحاك: اشترى سمكة من امرأة فشقَّ بطنَها فوجد خاتمه. وفي المدة التي سُلب فيها الملك قولان: أحدهما: أربعون ليلة، كما ذكرنا عن الحسن. والثاني: خمسون ليلة، قاله سعيد بن جبير.
قال المفسرون: فلمّا جعل الخاتم في يده، ردَّ اللهُ عليه بهاءَه ومُلْكه، فأظلَّته الطَّير، وأقبل لا يستقبله جنيّ ولا طائر ولا حجر ولا شجر إِلا سجد له، حتى انتهى إِلى منزله، قال السدي: ثم أرسل إلى الشيطان، فجيء به، فأَمر به فجُعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وأقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فأُلقي في البحر، فهو فيه إلى أن تقوم الساعة. وقال وهب: جابَ صخرةً فأدخله فيها، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم قذفه في البحر.
قوله تعالى: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فتح الياء نافع، وأبو عمرو، وفيه قولان:
أحدهما: لا يكون لأحد بعدي، قاله مقاتل، وأبو عبيدة.
(1221) وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
«إنّ عفريتا من الجِنّ تفلَّت عليّ البارحةَ ليَقْطَعَ عَلَيَّ صلاتي، فأمكنني اللهُ منه، فأخذتُه، فأردتُ أن أَربطه إِلى سارية من سواري المسجد حتى تنظُروا إِليه كلُّكم، فذكرتُ دعوة أخي سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرددتُه خاسئاً» .
والثاني: لا ينبغي لأحد أن يسلبُه مِنِّي في حياتي، كما فعل الشيطان الذي جلس على كرسيه، قاله الحسن، وقتادة. وإنما طلب هذا المُلك، ليَعلم أنه قد غُفر له، ويعرف منزلته بإجابة دعوته، قاله الضحاك. ولم يكن في مُلْكه حين دعا بهذا الرّيحُ ولا الشياطينُ.
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو جعفر، وأبو المتوكّل: «الرّياح» على الجمع.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 461 ومسلم 541 وأحمد 2/ 298 والنسائي في «التفسير» 460 والبغوي في «شرح السنة» 747 وابن حبان 6419 والبيهقي 2/ 219 كلهم من حديث أبي هريرة.(3/575)
قوله تعالى: رُخاءً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مُطيعة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن والضحاك. والثاني: أنها الطيِّبة، قاله مجاهد. والثالث: اللَّيِّنة، مأخوذ من الرَّخاوة، قاله اللُّغويُّون. فإن قيل: كيف وصفها بهذا بعد أن وصفها في سورة الأنبياء «1» بأنها عاصفة؟ فالجواب: أن المفسرين قالوا: كان يأمُر العاصفَ تارةً ويأمُر الرُّخاءَ أُخرى. وقال ابن قتيبة: كأنَّها كانت تشتدُّ إذا أراد، وتَلَينَ إذا أراد.
قوله تعالى: حَيْثُ أَصابَ أي: حيث قصد وأراد. قال الأصمعي: تقول العرب: أصابَ فلانٌ الصَّوابَ فأَخطأَ الجوابَ، أي: أراد الصَّوابَ.
قوله تعالى: وَالشَّياطِينَ أي: وسخَّرْنا له الشياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ يبنون له ما يشاء وَغَوَّاصٍ يغوصون له في البحار فيَستخرِجون الدُّرَّ، وَآخَرِينَ أي: وسخَّرْنا له آخَرِين، وهم مَرَدَةُ الشياطين، سخَّرهم له حتى قَرَّنهم في الأصفاد لِكُفرهم، قال مقاتل: أَوثَقَهم في الحديد. وقد شرحنا معنى مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ في سورة نبي الله إبراهيم «2» عليه السلام. هذا عَطاؤُنا المعنى: قُلنا له: هذا عطاؤنا. وفي المشار إليه قولان: أحدهما: أنه جميع ما أُعطي، فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ أي: أَعْطِ مَنْ شئتَ من المال، وامْنَعْ مَنْ شئتَ. والمَنَّ: الإِحسان إِلى من لا يطلب ثوابه. والثاني: أنه إِشارة إلى الشياطين المسخَّرِين له فالمعنى: فامْنُنْ على مَنْ شئتَ بإطلاقه، وأَمْسِكْ مَنْ شئتَ منهم. وقد روي معنى القولين عن ابن عباس.
قوله تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ قال الحسن: لا تَبِعَةَ عليك في الدُّنيا ولا في الآخرة. وقال سعيد بن جبير: ليس عليك حسابٌ يومَ القيامة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: هذا عطاؤنا بغير حساب فامْنُنْ أو أمْسِكْ.
وما بعد هذا قد سبق تفسيره «3» إِلى قوله: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ وذلك أن الشيطان سُلِّط عليه، فأضاف ما أصابه إليه. قوله تعالى: بِنُصْبٍ قرأ الأكثرون بضم النون وسكون الصاد وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة، وابن السميفع، والجحدري، ويعقوب: بفتحهما، وهل بينهما فرق؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء، قال الفراء: هما كالرُّشْد والرَّشَد والعُدْم، والعَدَم، والحُزْن والحَزَن، وكذلك قال ابن قتيبة، والزّجّاج. وقال المفسرون: والمراد بالنصب: الضُّرُ الذي أصابه. والثاني: أن النُّصْب بتسكين الصاد: الشرُّ. وبتحريكها: الإِعياء، قاله أبو عبيدة. وقرأ عائشة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة عن حفص: «بنُصُب» بضم النون والصاد جميعاً. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو الجوزاء، وهبيرة بن حفص: «بنَصْب» بفتح النون وسكون الصاد. وفي المراد بالعذاب قولان: أحدهما: أنه العذاب الذي أصاب جسده. والثاني: أنه أخْذ ماله وولده وأهله.
قوله تعالى: ارْكُضْ أي: اضْرِب الأرضَ بِرِجْلِكَ، ومنه: رَكَضْتُ الفَرَس، فرَكَضَ فنبعتْ عَيْنُ ماءٍ، فذلك قوله تعالى: هذا مُغْتَسَلٌ قال ابن قتيبة: المُغْتَسَلُ: الماءُ، وهو الغسول أيضاً. قال الحسن: رَكَضَ برِجله فنبعتْ عَيْنٌ فاغتَسلَ منها، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعا، ثم ركض برجله
__________
(1) الأنبياء: 81.
(2) إبراهيم: 49.
(3) سبأ: 37، الرعد: 29، الأنبياء: 83.(3/576)
فنبعتْ عَيْنٌ فشَرِب منها وعلى هذا جمهور العلماء أنه رَكَضَ ركضتين فنبعتْ له عينان، فاغتسل من واحدة، وشرب من الأُخرى.
قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً كان قد حَلَفَ لئن شفاه الله لَيَجْلِدَنَّ زوجتَه مائةَ جَلْدة.
وفي سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أن إٍبليس جلس في طريق زوجة أيُّوبَ كأنه طبيب، فقالت له: يا عبد الله، إنّ ها هنا إِنساناً مبتلىً، فهل لكَ أن تداويَه؟ قال: نعم، إِن شاء شفيتُه، على أن يقول إٍذا بَرَأَ: أنت شفيتَني، فجاءت فأخبرتْه، فقال: ذاك الشيطان، للهِ عَلَيَّ إن شفاني أن أجْلِدَكِ مائةَ جَلْدة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس. والثاني: أن إِبليس لَقِيَها فقال: إنّي أنا الذي فعلت بأيّوب ما به، وأنا آله الأرض، وما أخذتُه منه فهو بيدي، فانطلِقي أًريكِ، فمشى بها غيرَ بعيدٍ، ثم سَحَر بَصَرَها، فأراها وادياً عميقاً فيه أهلُها وولدُها ومالُها، فأتت أيُّوبَ فأخبرتْه، فقال: ذاكَ الشيطان، ويحكِ كيفَ وعَى قولَه سَمْعُكِ، والله لئن شفاني الله عزّ وجلّ لأَجْلِدَنَّكِ مائةً، قاله وهب بن منبّه. والثالث: أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة، فقال: لِيَذْبَحْ لي هذه وقد بَرَأَ فأخبرتْه فحَلَفَ لَيَجْلِدَنَّها، وقد ذكرنا هذا القول في سورة الأنبياء عن الحسن. فأمّا الضِّغْث، فقال الفراء: هو كُلُّ ما جمعتَه من شيءٍ مثل الحِزْمة الرَّطْبة، قال: وما قام على ساق واستطال ثم جمعتَه، فهو ضِغْث. وقال ابن قتيبة: هو الحُزْمَةُ من الخِلال والعيدان. قال الزجاج: هو الحُزْمَةُ من الحشيش والرَّيْحان وما أشبهه.
قال المفسرون: جزى اللهُ زوجتَه بحُسْن صبرها أن أفتاه في ضربها فسهّل الأمر، فجمع لها مائة عود، وقيل: مائة سنبلة، وقيل: كانت أَسَلاً، وقيل: من الإِذْخرِ، وقيل: كانت شماريخ، فضربها بها ضربةً واحدةً ولم يَحْنَثْ في يمينه. وهل ذلك خاصٌّ له، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه عامٌّ، وبه قال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح وابن أبي ليلى. والثاني: أنه خاصٌّ لأيوب، قاله مجاهد.
فصل:
وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يَضْرِبَ عبده عشرة أسواط فجمعها كلَّها وضربه بها ضربة واحدة، فقال مالك، والليث بن سعد: لا يَبَرُّ، وبه قال أصحابنا. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا أصابه في الضربة الواحدة كلُّ واحدٍ منها، فقد بَرَّ واحتجوا بعموم قصّة أيّوب عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) هذه الأقوال باطلة، والخبر بطوله من الإسرائيليات. وقال ابن العربي: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين الأولى قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ الأنبياء: 83 والثانية في ص: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وأما النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: «نبيا أيوب يغتسل إذ خرّ عليه رجل من جراد من ذهب» الحديث- أخرجه البخاري 279 و 3393 وغيره من حديث أبي هريرة.
وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، واصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا. وفي «الصحيح» واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال: يا معشر المسلمين! تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله، تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدّلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب فقالوا: هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا ولا ينهاكم عما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلّم في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة.(3/577)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً أي: على البلاء الذي ابتليناه به.
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 54]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
قوله تعالى وَاذْكُرْ عِبادَنا وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد، وابن محيصن، وابن كثير:
«عبدَنا» إِشارة إِلى إِبراهيم، وجعلوا إِسحاق ويعقوب عطفاً عليه، لأنه الأصل وهما ولداه، والمعنى:
اذْكُر صبرهم، فإبراهيم أُلقي في النار، وإِسحاق أُضجع للذبح، ويعقوب صبر على ذهاب بصره وابتُلي بفقد ولده ولم يُذْكَر إِسماعيل معهم، لأنه لم يُبْتَلَ كما ابتُلوا. أُولِي الْأَيْدِي يعني القوة في الطاعة وَالْأَبْصارِ البصائر في الدِّين والعِلْم. قال ابن جرير: وذِكْر الأيدي مَثَلٌ، وذلك لأن باليد البطش، وبالبطش تُعرف قُوَّة القويِّ، فلذلك قيل للقويِّ: ذو يدٍ وعنى بالبصر: بصر القلب، وبه تُنال معرفة الأشياء. وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وابن أبي عبلة: «أُولي الأيدِ» بغير ياءٍ في الحالين. قال الفراء:
ولها وجهان: أحدهما: أن يكون القارئ لهذا أراد الأيدي، فحذف الياء، وهو صواب، مثل الجَوارِ والمناد. والثاني: أن يكون من القوّة والتأييد، من قوله تعالى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ «1» . قوله تعالى:
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي: اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين، فأفردناهم بمُفْرَدة من خصال الخير ثم أبان عنها بقوله تعالى: ذِكْرَى الدَّارِ. وفي المراد بالدّار ها هنا قولان: أحدهما: الآخرة. والثانية:
الجنة. وفي الذكرى قولان: أحدهما: أنها من الذِّكْر، فعلى هذا يكون المعنى: أَخْلَصْناهم بذِكْر الآخرة، فليس لهم ذِكْر غيرها، قاله مجاهد، وعطاء، والسّدّيّ. وكان الفضيل بن عياض يقول: هو الخوف الدائم في القلب. والثاني: أنها التذكير، فالمعنى أنهم يَدْعُون الناس إِلى الآخرة وإِلى عبادة الله تعالى، قاله قتادة. وقرأ نافع: «بخالصةِ ذِكْرَى الدَّارِ» فأضاف «خالصة» إِلى «ذِكْرَى الدار» قال أبو علي:
تحتمل قراءة من نوَّن وجهين: أحدهما: أن تكون «ذكرى» بدلاً من «خالصة» ، والتقدير: أخلصناهم بذكر الدار. والثاني: أن يكون المعنى: أخلصناهم بأن يذكُروا الدَّار بالتأهُّب للآخرة والزُّهد في الدنيا.
ومن أضاف، فالمعنى: أخْلَصْناهم بإخلاصهم ذِكْرى الدَّار بالخوف منها. وقال ابن زيد أخلصناهم بأفضل ما في الجنة. قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ أي: من الذين اتخذهم اللهُ صَفْوَةً فصفَّاهم من الأدناس الْأَخْيارِ الذين اختارهم. وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ أي: اذْكُرْهم بفضلهم وصبرهم لِتَسْلُكَ طريقَهم، والْيَسَعُ نبيُّ، واسمه أعجميّ معرّب، وقد ذكرناه في سورة الأنعام «2» ، وشرحنا في سورة الأنبياء «3» قصة ذي الكفل، وتكلّمنا في سورة البقرة «4» في اسم إِسماعيل. وزعم مقاتل أن إسماعيل هذا ليس بابن إبراهيم.
__________
(1) البقرة: 78.
(2) الأنعام: 85. [.....]
(3) الأنبياء: 85.
(4) البقرة: 125.(3/578)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
قوله تعالى: هذا ذِكْرٌ أي: شرف وثناءٌ جميل يُذْكَرون به أبداً. وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي:
حُسْنَ مَرْجِعٍ يرجعون إِليه في الآخرة. ثم بيَّن ذلك المَرْجِع، فقال: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ قال الفراء: إنما رُفعت «الأبوابُ» لأن المعنى: مفتحةً لهم أبوابُها، والعرب تجعل الألف واللام خَلَفاً من الإِضافة، فيقولون: مررت على رجل حسن العين، قبيح الأنف، والمعنى: حسنةٌ عينُه، قبيحٌ أنفُه، ومنه قوله تعالى: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى «1» والمعنى: مأواه. وقال الزجاج: المعنى: مُفتَّحة لهم الأبواب منها، فالألف واللام للتعريف، لا للبدل. قال ابن جرير: والفائدة في ذكر تفتح الأبواب، أنّ الله تعالى أخبر عنها أن أبوابها تُفتَح لهم بغير فتح سُكَّانها لها بيد، ولكن بالأمر، قال الحسن: هي أبواب تَكلّم، فتُكلّم: انفتحي، انغلقي.
قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ قد مضى بيانه في سورة الصافات «2» . قال الزجاج:
والأتراب: اللواتي أسنانُهُنَّ واحدةٌ وهُنَّ في غاية الشباب والحُسْن.
قوله تعالى: هذا ما تُوعَدُونَ قرأ أبو عمرو، وابن كثير بالياء، والباقون بالتاء.
قوله تعالى: لِيَوْمِ الْحِسابِ اللام بمعنى «في» . والنَّفاد: الانقطاع. قال السدي: كلَّما أُخِذ من رزق الجنة شيءٌ، عاد مثله.
[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 66]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
قوله تعالى: هذا المعنى: هذا الذي ذكرناه وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ يعني الكافرين لَشَرَّ مَآبٍ، ثم بيّن ذلك بقوله تعالى: جَهَنَّمَ والمِهاد: الفِراش. هذا فَلْيَذُوقُوهُ قال الفراء: في الآية تقديم وتأخير، تقديرها: هذا حميمٌ وغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقوه وإن شئتَ جعلتَ الحميم مستأنَفاً، كأنَّكَ قُلْتَ: هذا فلْيَذُوقوه، ثم قلت: منه حَميمٌ، ومنه غَسّاقٌ، كقول الشاعر:
حتَّى إِذَا مَا أَضَاءَ الصُّبْحُ في غَلَسٍ ... وغودر البقل ملويّ ومحصود «3»
فأمّا الحميم، فهو الماء الحارّ. وأما الغَسّاق، ففيه لغتان، قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: بالتشديد، وكذلك في عَمَّ يَتَساءَلُونَ، تابعهم المفضّل في عَمَّ يَتَساءَلُونَ وقرأ الباقون بالتخفيف، وفي الغَسّاق أربعة أقوال «4» : أحدها: أنه الزَّمهرير، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
__________
(1) النازعات: 39.
(2) الصافات: 48.
(3) البيت من شواهد الفرّاء، وهو في «معاني القرآن» : 193.
وفي «اللسان» : الغلس: ظلام آخر الليل، والملويّ: ما ذبل وجف من البقل.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 599: وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: هو ما يسيل من صديدهم، لأن ذلك هو الأغلب من معنى الغسوق، وإن كان للآخر وجه صحة.(3/579)
وقال مجاهد: الغَسّاق لا يستطيعون أن يذوقوه من برده. والثاني: أنه ما يجري من صديد أهل النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطيّة، وقتادة، وابن زيد. والثالث: أنّ الغسّاق: عين في جهنّم تسيل إِليها حُمَةُ كلِّ ذاتِ حُمَة من حَيَّة أو عقرب أو غيرها، فيستنقع، فيؤتى بالآدميّ فيُغْمَس فيها غَمْسةً، فيخرج وقد سقط جِلْدُه ولحمه عن العظام، ويَجُرُّ لحمَه جَرَّ الرجُل ثوبه، قاله كعب. والرابع:
أنه ما يَسيل من دموعهم، قاله السدي. قال أبو عبيدة: الغَسّاق: ما سال، يقال: غَسَقَت العين والجرح. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن قتيبة قال: لم يكن أبو عبيدة يذهب إلى أن في القرآن شيئا من غير لغة العرب، وكان يقول: هو اتفاق يقع بين اللغتين، وكان غيرُه يزعُم أن الغَسّاق:
البارد المُنْتِن بلسان الترك. وقيل: فَعّال، من غَسَقَ يَغْسِقُ فعلى هذا يكون عربيّاً، وقيل في معناه: إِنه الشديد البّرْد، يحْرِق من بَرْده. وقيل: هو ما يَسيل من جلود أهل النار من الصديد.
قوله تعالى: وَآخَرُ قرأ أبو عمرو والمفضّل: «وأَخَرُ» بضم الهمزة من غير مدٍّ، فجمعا لأجل نعته بالأزواج، وهي جمع. وقرأ الباقون بفتح الألف ومدِّه على التوحيد، واحتجُّوا بأن العرب تنعت الاسم إِذا كان فعلاً بالقليل والكثير قال الفراء: تقول: عذابُ فلانٍ ضُروبٌ شتَّى، وضَرْبان مختلفان وإِن شئتَ جعلتَ الأزواج نعتاً للحميم والغَسّاق والآخر، فهُنَّ ثلاثةٌ، والأشبه أن تجعله صفة لواحد.
وقال الزجاج: من قرأ «وآخرُ» بالمدِّ فالمعنى: وعذاب آخر مِنْ شَكْلِهِ أي: مِثْلِ الأول. ومن قرأ:
«وأُخَرُ» فالمعنى: وأنواعٌ أُخَر، لأن قوله: أَزْواجٌ بمعنى أنواع. وقال ابن قتيبة: «مِنْ شَكْلِهِ» أي مِنْ نَحوِه، «أَزْوَاجٌ» أي أصنافٌ. وقال ابن جرير: «مِنْ شَكْلِهِ» أي: مِنْ نَحوِ الحَميم: قال ابن مسعود في قوله: «وآخرُ مِنْ شَكْلِهِ» : هو الزَّمهرير. وقال الحسن: لمّا ذكر اللهُ تعالى العذابَ الذي يكون في الدنيا قال: «وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ» أي وآخرَ لم يُرَ في الدنيا.
قوله تعالى: هذا فَوْجٌ هذا قول الزّبانية للقادة المتقدّمين في الكفر إذا جاءوهم بالأتباع. وقيل:
بل هو قول الملائكة لأهل النّار كلّما جاءوهم بأمَّة بعد أُمَّة. والفوج: الجماعة من الناس وجمعه:
أفواج. والمُقْتَحِمُ: الداخل في الشيء رمياً بنفسه. قال ابن السائب: إِنهم يُضْرَبونَ بالمَقامع، فيُلْقُونَ أنفُسهم في النار ويَثِبون فيها خوفاً من تلك المقامع. فلمّا قالت الملائكة ذلك لأهل النار، قالوا: لا مَرْحَباً بِهِمْ، فاتصل الكلام كأنه قول واحد، وإنما الأول من قول الملائكة، والثاني من قول أهل النار وقد بيَّنّا مِثْلَ هذا في قوله: لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ «1» . والرّحب والرُّحْبُ: السَّعَةُ. والمعنى: لا اتَّسعت بهم مساكنُهم. قال أبو عبيدة: تقول العرب للرجل: لا مَرْحَباً بك أي: لا رَحُبَتْ عليك الأرض. وقال ابن قتيبة: معنى قولهم: «مَرْحَباً وأهْلاً» أي: أتيتَ رُحْباً أي: سَعَة، وأَهْلاً أي: أتيتَ أهلاً لا غُرباء فائنس ولا تستوحش، وسهلاً، أي: أَتيتَ سَهْلاً لا حَزْناً، وهو في مذهب الدُّعاء، كما تقول: لَقِيتَ خَيْراً. قال الزجاج: و «مَرْحَباً» منصوب بقوله: رَحُبَت بلادُك مَرْحَباً، وصادفتَ مَرْحَباً، فأُدخلت «لا» على ذلك المعنى.
قوله تعالى: إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي: داخِلُوها كما دخلْناها ومُقاسون حَرَّها. فأجابهم القوم،
__________
(1) يوسف: 52.(3/580)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
ف قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا إن قلنا: إن هذا قول الأتباع للرؤساء فالمعنى: أنتم زيَّنتم لنا الكفر، وإن قلنا: إنه قول الأمَّة المتأخرة للأمَّة المتقدِّمة، فالمعنى: أنتم شرَّعتم لنا الكفر وبدأتم به قبلنا، فدخلتم النار قبلنا فَبِئْسَ الْقَرارُ أي: بئس المُسْتَقَرّ والمنزل. قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا أي:
مَنْ سنَّه وشرعه فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ وقد شرحناه في الأعراف «1» . وفي القائلين لهذا قولان:
أحدهما: أنه قول جميع أهل النار، قاله ابن السائب. والثاني: قول الأتباع. قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَقالُوا يعني أهل النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ قال المفسرون: إذا دخلوا النار، نظروا فلم يَرَوْا مَنْ كان يخالفُهم من المؤمنين، فيقولون ذلك. قال مجاهد: يقول أبو جهل في النار: أين صُهَيب، أين عمّار، أين خبّاب، أين بلال؟! قوله تعالى: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «من الأشرار اتَّخَذْناهم» بالوصل على الخبر، أي: إِنّا اتَّخَذْناهم، وهؤلاء يبتدئون بكسر الهمزة. وقرأ الباقون بقطع الألف وفتحها على معنى الاستفهام، وهؤلاء يبتدئون بفتح الهمزة. وقال الفراء: وهذا استفهام بمعنى التعجُّب والتوبيخ، والمعنى أنهم يوبِّخون أنفسهم على ما صنعوا بالمؤمنين. و «سخريّا» يُقرأ بضم السين وكسرها. وقد شرحناها في آخر سورة المؤمنون «2» أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي: وهم مَعَنا في النار ولا نراهم؟! وقال أبو عبيدة: «أم» ها هنا بمعنى «بَلْ» .
قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ قال الزجاج: أي: إِن الذي وصفْناه عنهم لَحَقٌّ، ثم بيَّن ما هو، فقال: هو تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو الشعثاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: «تَخَاصُمَ» برفع الصاد وفتح الميم، وكسر اللام من «أَهْلِ» . وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وأبو المتوكل، وابن السميفع: «تَخَاصَمَ أَهْلَ» بفتح الصاد والميم ورفع اللام.
[سورة ص (38) : الآيات 67 الى 88]
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71)
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
قوله تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ النَّبأُ: الخَبَر. وفي المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور. والثاني: أنه البعث بعد الموت، قاله قتادة. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي:
__________
(1) الأعراف: 38.
(2) المؤمنون: 110.(3/581)
لا تتفكَّرون فيه فتعلمونَ صِدْقي في نُبوَّتي، وأن ما جئتُ به من الأخبار عن قصص الماضين لم أَعْلَمْه إِلاّ بوحي من الله تعالى. ويدلّ على هذا المعنى قوله تعالى: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأن آدمَ حين قال الله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» والمعنى: إِنِّي ما عَلِمْتُ هذا إلاّ بوحي، إِنْ يُوحى إِلَيَّ أي: ما يوحى إليَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ أي: إِلاّ أنِّي نبيٌّ أُنْذرِكم وأبيِّن لكم ما تأتونه وتجتنبونه. إِذْ قالَ رَبُّكَ هذا متصل بقوله: «يختصمونَ» وإنما اعترضت تلك الآية بينهما. قال ابن عباس: اختصَموا حين شُوورِوا في خَلْق آدم، فقال الله تعالى لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وهذه الخصومة منهم إنما كانت مُناظَرةً بينهم. وفي مُناظَرتهم قولان: أحدهما: أنه قولهم:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «2» ، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم قالوا: لن يَخْلُقَ اللهُ خَلْقاً إِلاّ كُنّا أكرمَ منه وأعلم، قاله الحسن هذا قول أكثر المفسّرين.
(1222) وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «رأيت ربّي عزّ وجلّ، فقال لي: فيم يختصم الملأ
__________
صحيح بمجموع طرقه وشواهده. رجاله ثقات معروفون، لكن عبد الرحمن بن عائش مختلف في صحبته، والراجح أنه تابعي، وقد نفى البخاري صحبته ويدل عليه كونه رواه بواسطة عن معاذ كما سيأتي، فالإسناد ضعيف لإرساله، لكن ورد موصولا، وله شواهد. أخرجه الدارمي 2/ 126 وابن خزيمة في «التوحيد» 215- 216 والحاكم 1/ 520- 521 والآجري في «الشريعة» 1055 من طرق عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر به.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأخرجه أحمد 4/ 66 من هذا الوجه عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 176- 177 وقال: رجاله ثقات اه. وجهالة الصحابي لا تضر. وأخرجه الترمذي 3235 والحاكم 1/ 21 من حديث عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ مرفوعا. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: حسن صحيح. وورد من حديث ابن عباس. وأخرجه ابن خزيمة ص 217 والآجري في «الشريعة» 1054 من طريق أيوب عن أبي قلابة عن خالد بن الجلاح عن ابن عباس، ورجاله ثقات. وورد من حديث ثوبان أخرجه البزّار 2129 وفيه أبو يحيى الراوي عن أبي أسماء الرحبي لا يعرف قال الهيثمي في «المجمع» 7/ 178 وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عمرو، وفيه سعيد بن سنان واه. وورد من حديث أبي أمامة أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 7/ 178 وفيه ليث بن أبي سليم غير قوي. وللحديث شواهد أخرى، وإن كانت ضعيفة، إلا أنها تتقوى بمجموعها، والله أعلم. الخلاصة: هو حديث حسن صحيح كما قال البخاري، والله أعلم.
واللفظ عند الترمذي، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي، عن مالك بن يخامر السككي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا فثوّب بالصلاة، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتجوّز في صلاته فلما سلّم دعا بصوته قال لنا على مصافّكم كما أنتم ثم انفتل إلينا ثم قال: «أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدّر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت:
لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، قالها ثلاثا، قال فرأيته وضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلّى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك ربي، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفّارات، قال: ما هنّ؟ قلت: مشي الأقدام إلى الحسنات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات، قال: فيم، قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام قال: سل، قال: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب-
__________
(1) البقرة: 30.
(2) البقرة: 30.(3/582)
الأعلى؟ قلت: أنتَ أَعْلَمُ يا ربّ، قال: في الكفّارات والدرجات، فأمّا الكفّارات، فإسباغ الوُضوء في السَّبَرات، ونقل الأقدام إِلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. وأمّا الدَّرَجات فإفشاء السَّلام، وإِطعامُ الطَّعام، والصَّلاةُ باللَّيل والنّاس نيام» .
قوله تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أي: أَسْتَكْبَرْتَ بنفسكَ حين أبَيْتَ السُّجودَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي: من قوم يتكبَّرونَ؟! قوله تعالى: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي: مَرْجُومٌ بالذَّمِّ واللَّعْن. قوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو وقت النَّفخة الأُولى، وهو حين موت الخلائق. وقوله: فَبِعِزَّتِكَ يمين بمعنى:
فو عزّتك. وما أخللنا به في هذه القصة فهو مذكور في الأعراف «1» والحجر «2» وغيرهما مما تقدم. قوله تعالى: قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ قرأ عاصم إِلا حَسْنون عن هبيرة، وحمزة، وخلف، وزيد عن يعقوب:
«فالحَقُّ» بالرفع في الأول ونصب الثاني، وهذا مروي عن ابن عباس. ومجاهد، قال ابن عباس في معناه: فأنا الحقُّ وأقولُ الحَقُّ وقال غيره: خبر الحقِّ محذوف، تقديره: الحَقُّ مِنِّي. وقرأ محبوب عن أبي عمرو بالرفع فيهما قال الزجّاج: من رفعهما جميعاً، كان المعنى: فأنا الحقُّ والحَقُّ أقولُ. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: بالنصب فيهما. قال الفراء: وهو على معنى قولك: حَقّاً لآتِيَنَّكَ، ووجودُ الألف واللام وطرحُهما سواءٌ، وهو بمنزلة قولك: حمداً لله، وقال مكّيّ بن أبي طالب: انتصب الحق الأول على الإِغراء، أي: اتَّبِعوا الحَقَّ واسمَعوا والزَموا الحَقَّ.
وقيل: هو نصب على القَسَم، كما تقول: اللهَ لأَفْعَلَنَّ، فتَنْصِب حين حذفتَ الجارّ، لأن تقديره وبالحقّ وأمّا الحَقُّ الثاني، فيجوز أن يكون الأولَ، وكرَّره توكيداً، ويجوز أن يكون منصوباً ب «أقولُ» كأنه قال: وأقولُ الحَقَّ. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو رجاء، ومعاذ القارئ، والأعمش:
«فالحَقِّ» بكسر القاف «والحَقَّ» بنصبها. وقرأ أبو عمران الجوني بكسر القافين. جميعاً. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو نهيك: «فالحَقَّ» بالنصب «والحَقُّ» بالرفع.
قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أي: مِنْ نَفْسِكَ وذريتك. قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي: على تبليغ الوحي وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي: لم أتكلَّف إِتيانَكم من قِبَلِ نَفْسي إنما أُمرتُ أن آتيَكم، ولم أَقُل القرآنَ من تِلْقاء نفسي إنّما أوحي إليّ. إِنْ هُوَ أي: ما هو، يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أي: موعظة لِلْعالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ يا معاشر الكُفّار نَبَأَهُ أي: خبر صِدق القرآن بَعْدَ حِينٍ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: بعد الموت. والثاني: يوم القيامة، رويا عن ابن عباس، وبالأول يقول قتادة، وبالثاني يقول عكرمة «3» . والثالث: يوم بدر، قاله السدي ومقاتل. وقال ابن السائب: من بقي إِلى أن ظَهَرَ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عَلِمَ ذلك، ومن مات عَلِمَه بعد الموت. وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بآية السّيف، ولا وجه لذلك.
__________
المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون، أسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّها حق فادرسوها ثم تعلّموها» .
__________
(1) الأعراف: 12.
(2) الحجر: 34.
(3) قال ابن كثير 4/ 53: ولا منافاة بين القولين، فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة، قال: وقال قتادة في قوله تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ قال الحسن: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين. [.....](3/583)
الجزء الرابع
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة 39- تفسير سورة الزمر 7 40- تفسير سورة غافر 29 41- تفسير سورة فصلت 45 42- تفسير سورة الشورى 58 43- تفسير سورة الزخرف 72 44- تفسير سورة الدخان 87 45- تفسير سورة الجاثية 96 46- تفسير سورة الأحقاف 102 47- تفسير سورة محمّد 115 48- تفسير سورة الفتح 125 49- تفسير سورة الحجرات 141 50- تفسير سورة ق 156 51- تفسير سورة الذاريات 167 52- تفسير سورة الطور 175 53- تفسير سورة النجم 183 54- تفسير سورة القمر 196 55- تفسير سورة الرحمن 205 56- تفسير سورة الواقعة 218 57- تفسير سورة الحديد 232 58- تفسير سورة المجادلة 241 الموضوع الصفحة 59- تفسير سورة الحشر 253 60- تفسير سورة الممتحنة 266 61- تفسير سورة الصف 276 62- تفسير سورة الجمعة 280 63- تفسير سورة المنافقون 286 64- تفسير سورة التغابن 291 65- تفسير سورة الطلاق 295 66- تفسير سورة التحريم 304 67- تفسير سورة الملك 313 68- تفسير سورة القلم 318 69- تفسير سورة الحاقة 328 70- تفسير سورة المعارج 335 71- تفسير سورة نوح 341 72- تفسير سورة الجن 346 73- تفسير سورة المزمل 352 74- تفسير سورة المدثر 358 75- تفسير سورة القيامة 368 76- تفسير سورة الإنسان 374 77- تفسير سورة المرسلات 382 78- تفسير سورة النبإ 387(4/5)
الموضوع الصفحة 79- تفسير سورة النازعات 393 80- تفسير سورة عبس 399 81- تفسير سورة التكوير 405 82- تفسير سورة الانفطار 410 83- تفسير سورة المطففين 413 84- تفسير سورة الانشقاق 419 85- تفسير سورة البروج 423 86- تفسير سورة الطارق 428 87- تفسير سورة الأعلى 431 88- تفسير سورة الغاشية 434 89- تفسير سورة الفجر 437 90- تفسير سورة البلد 446 91- تفسير سورة الشمس 450 92- تفسير سورة الليل 453 93- تفسير سورة الضحى 456 94- تفسير سورة الشرح 460 95- تفسير سورة التين 463 96- تفسير سورة العلق 466 الموضوع الصفحة 97- تفسير سورة القدر 469 98- تفسير سورة البينة 475 99- تفسير سورة الزلزلة 477 100- تفسير سورة العاديات 480 101- تفسير سورة القارعة 483 102- تفسير سورة التكاثر 485 103- تفسير سورة العصر 487 104- تفسير سورة الهمزة 488 105- تفسير سورة الفيل 490 106- تفسير سورة قريش 493 107- تفسير سورة الماعون 495 108- تفسير سورة الكوثر 497 109- تفسير سورة الكافرون 499 110- تفسير سورة النصر 501 111- تفسير سورة المسد 502 112- تفسير سورة الإخلاص 505 113- تفسير سورة الفلق 507 114- تفسير سورة الناس 510(4/6)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
سورة الزّمر
وتسمّى سورة الغرف
فصل في نزولها:
روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكِّيَّة، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وجابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنه قال: فيها آيتان نزلتا بالمدينة:
قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ «1» وقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا «2» وقال مقاتل: فيها من المدنيّ:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية، وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ «3» . وفي رواية أخرى عنه قال: فيها آيتان مدنيّتان: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا وقوله: يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ «4» . وقال بعض السّلف: فيها ثلاث آيات مدنيّات: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى قوله: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «5» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ قال الزجاج: الكتاب هاهنا القرآن، ورفع «تنزيلُ» من وجهين:
أحدهما: الابتداء، ويكون الخبر مِنَ اللَّهِ، فالمعنى: نزل من عند الله. والثاني: على إضمار: هذا تنزيل الكتاب ومُخْلِصاً منصوب على الحال فالمعنى: فاعبُدِ الله موحِّداً لا تُشْرِكْ به شيئاً. قوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ يعني: الخالص من الشِّرك، وما سِواه ليس بِدِين الله الذي أَمر به وقيل:
المعنى: لا يَستحِقُّ الدِّينَ الخالصَ إِلاّ اللُهُ «6» . وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني آلهة، ويدخل
__________
(1) الزمر: 23.
(2) الزمر: 53.
(3) الزمر: 10.
(4) الزمر: 10.
(5) الزمر: 53- 55.
(6) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» : 15/ 205: قال ابن العربي: هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان إن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطره ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية.(4/7)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
في هؤلاء اليهودُ حين قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ والنصارى لقولهم: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «1» ، وجميعُ عُبَّاد الأصنام، ويدُلُّ عليه قولُه بعد ذلك: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. قوله تعالى: ما نَعْبُدُهُمْ أي:
يقولون: ما نعبُدُهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي: إِلاّ لِيَشْفَعوا لنا إِلى الله. والزُّلْفى: القُرْبى، وهو اسم أُقيم مقامَ المصدر، فكأنه قال: إلاّ لِيُقَرِّبونا إِلى الله تقريباً. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي: بين أهل الأديان فيما كانوا يختلفون فيه من أمر الدّين. وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي: لا يُرْشِد مَنْ هُوَ كاذِبٌ في قوله: إِن الآلهه تشفع كَفَّارٌ أي: كافر باتِّخاذها آلهة، وهذا إِخبار عمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية.
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي: على ما يزعم من ينسُب ذلك إِلى الله لَاصْطَفى أي: لاختار ممّا يخلُق. قال مقاتل: أي: من الملائكة.
[سورة الزمر (39) : آية 5]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: لم يخلقهما لغير شيء. قوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ قال أبو عبيدة: يُدْخِلُ هذا على هذا. قال ابن قتيبة: وأصلُ التَّكْوِير: اللَّفُّ، ومنه كَوْرُ العِمامة. وقال غيره. التَّكْويرُ: طَرْحُ الشيء بعضه على بعض. قوله تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي: ذلَّلهما للسَّير على ما أراد كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي: إِلى الأجَلَ الذي وقَّت اللهُ للدُّنيا. وقد شرحنا معنى العزيز في البقرة «2» ومعنى الغفَّار في طه «3» .
[سورة الزمر (39) : آية 6]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي: قَبْلَ خَلْقِكم جعل منها زوجها، لأنّ حَوّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الذُّرِيَّة، ومِثْلُه في الكلام أن تقول: قد أعطيتُكَ اليوم شيئاً، ثُمَّ الذي أعطيتُكَ أمس أكثر هذا اختيار الفراء. وقال غيره: ثم أَخبركم أنه خَلَق منها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ أي: خَلَق ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ، وقد بيّنّاها في سورة الأنعام «4» .
قوله تعالى: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أي: نُطَفاً ثُمَّ عَلَقاً ثم مُضَغاً ثم عَظْماً ثم لَحْماً ثم أنبت الشَّعر، إِلى غير ذلك من تقلُّب الأحوال إِلى إِخراج الأطفال، هذا قول الجمهور. وقال ابن زيد: خَلْقاً في البُطون مِنْ بَعْدِ خَلْقِكم في ظَهْر آدم. قوله تعالى: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظُلْمة البَطْن، وظُلْمة الرّحم،
__________
(1) التوبة: 30.
(2) البقرة: 129.
(3) طه: 82.
(4) الأنعام: 143.(4/8)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
وظُلْمة المَشيمة «1» ، قاله الجمهور، وابن زيد معهم. وقال أبو عبيدة: إِنها ظُلْمة صُلْب الأب، وظُلْمة بَطْن المرأة، وظُلْمة الرَّحِم.
قوله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي: من أين تُصْرَفون عن طريق الحقّ بعد هذا البيان؟!
[سورة الزمر (39) : آية 7]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي: عن إِيمانكم وعبادتكم وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فيه قولان: أحدهما: لا يرضاه للمؤمِنين، قاله ابن عباس. والثاني: لا يرضاه لأحَد وإِن وقع بإرادته، وفرقٌ بين الإِرادة والرِّضى، وقد أشرنا إِلى هذا في البقرة عند قوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ «2» . وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي: يرضى ذلك الشُّكر لكم، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما في القلوب.
[سورة الزمر (39) : آية 8]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)
قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: في عتبة ابن ربيعة، قاله عطاء. والثاني: في أبي حذيفة بن المغيرة، قاله مقاتل. والضُرُّ: البلاء والشِّدَّة. مُنِيباً إِلَيْهِ أي: راجعاً إليه من شِركه. ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي: أعطاه وملَّكه نِعْمَةً مِنْهُ بعد البلاء الذي أصابه، كالصِّحَّة بعد المرض، والغنى بعد الفقر نَسِيَ أي: ترك ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: نسي الدُّعاء الذي كان يتضرَّع به إلى الله تعالى. والثاني: نَسِيَ الضُّرَ الذي كان يدعو الله إٍلى كَشْفه. والثالث: نَسِيَ الله الذي كان يتضرَّع إِليه. قال الزجّاج: وقد تَدُلُّ «ما» على الله عزّ وجلّ، كقوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وقال الفراء: تَرَكَ ما كان يدعو إِليه. وقد سبق معنى الأنداد «3» ومعنى لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «4» . قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ لفظُه لفظُ الأمر ومعناه التهديد، ومثله: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ «5» .
[سورة الزمر (39) : الآيات 9 الى 10]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)
__________
(1) في «اللسان» : المشيمة: هي للمرأة التي فيها الولد، والجمع مشيم، وقال ابن الأعرابي: يقال لما يكون فيه الولد المشيمة، والكيس والحوران والقميص.
(2) البقرة: 205، وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع» 15/ 208: وهذا مذهب أهل السنة أن الله تعالى لا يرضى الكفر وإن أراده، فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا.
(3) البقرة: 22.
(4) الحج: 9. [.....]
(5) النحل: 55.(4/9)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وأبو جعفر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب: «أَمَنْ» بالتخفيف وقرأ الباقون: بالتشديد. فأما المشدَّدة، فمعناها: أهذا الذي ذَكَرْنا خيرٌ، أمَّن هو قانتٌ؟ والأصل في «أمَّن» : أَمْ مَنْ، فأدغمت الميم في الميم. وأما المخفَّفة، ففي تقديرها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بمعنى النداء. قال الفراء: فسَّرها الذين قرءوا بها فقالوا: يا من هو قانتٌ، وهو وجه حسن، والعرب تدعو بالألف كما تدعو بياء، فيقولون: يا زيد أقبل، و: أزيد أَقْبِل، فيكون المعنى: أنه ذَكَر النّاسيَ الكافرَ، ثمَ قصَّ قِصِّةَ الصّالح بالنِّداء، كما تقول: فلان لا يصوم ولا يصلّي، فيا من يصوم أبْشِرْ. والثاني: أن تقديرها: أمَّن هو قانت كمن ليس بقانت؟! والثالث: أمَّن هو قانت كمن جعل لله أنداداً؟! وقد ذكرنا معنى القنوت في سورة البقرة «1» ومعنى آناءَ اللَّيْلِ في آل عمران «2» .
قوله تعالى: ساجِداً وَقائِماً يعني في الصلاة. وفيمن نزلت فيه هذه الآية خمسة أقوال «3» :
أحدها: أنه أبو بكر الصِّدِّيق، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: عثمان بن عفان، قاله ابن عمر.
والثالث: عمّار بن ياسر، قاله مقاتل. والرابع: ابن مسعود، وعمّار، وصُهَيب، وأبو ذَرّ، قاله ابن السائب. والخامس: أنه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم، حكاه يحيى بن سلام. قوله تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي:
عذاب الآخرة. وقد قرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن عباس، وعروة، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأبو عمران: «يحذر عذاب الآخرة» بزيادة «عذاب» . وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ فيها قولان: أحدهما:
أنها المغفرة، قاله ابن السائب. والثاني: الجنة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أنَّ ما وعدَ اللهُ من الثواب والعقاب حَقٌّ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. وباقي الآية قد تقدم في الرعد «4» ، وكذلك قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ قد تقدم في النحل «5» . وفي قوله: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ قولان: أحدهما: أنه حَثٌّ لهم على الهِجرة من مكَّة إِلى حيث يأمنون. والثاني: أنها أرض الجَنَّة رغَّبهم فيها. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ الذين صبروا لأجل الله تعالى على ما نالهم بِغَيْرِ حِسابٍ أي: يُعْطَون عطاءً كثيراً أوسعَ من أن يُحْسَب وأعظمَ من أن يُحاطَ به، لا على قدر أعمالهم.
[سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 18]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)
__________
(1) البقرة: 116.
(2) آل عمران: 113.
(3) الصواب أن الآية عامة.
(4) الرعد: 19.
(5) النحل: 30.(4/10)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ.
(1223) قال مقاتل: وذلك أن كُفّار قريش قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما حَمَلك على الذي أتيتَنا به؟! ألا تنظُر إِلى مِلَّة آبائك فتأخذ بها؟! فنزلت هذه الآية.
والمعنى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي: أُمِرْتُ أن أعبُدَه على التوحيد والإِخلاص السالم من الشّرك، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأُمَّة. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالرجوع إلى دين آبائي، عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وقد اختلفوا في نسخ هذه الآية كما بيَّنّا في نظيرتها في الأنعام «1» . قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي بالتوحيد، فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ، وهذا تهديد، وبعضهم يقول: هو منسوخ بآية السيف، وهذا باطل، لأنه لو كان أمراً كان منسوخاً، فأمّا أن يكون بمعنى الوعيد، فلا وجه لِنَسْخه. قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن صاروا إلى النّار وَخسروا أَهْلِيهِمْ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم خَسِروا الحُور العين اللَّواتي أُعْدِدْنَ لهم في الجنة لو أطاعوا، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: خَسِروا الأهل في النَّار، إِذ لا أهَل لهم فيها، قاله مجاهد، وابن زيد. والثالث:
خَسِروا أهليهم الذين كانوا في الدنيا، إِذ صاروا إلى النّار بكفرهم، وصار أهلوهم إِلى الجَنَّة بإيمانهم، قاله الماوردي. قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وهي الأطباق من النار. وإِنما قال: وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ لأنَّها ظُلَلٌ لِمَنْ تحتَهم ذلِكَ الذي وصف اللهُ من العذاب يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ المؤمنين.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ.
(1224) روى ابن زيد عن أبيه أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في ثلاثة نَفَرٍ كانوا في الجاهلية يوحِّدون الله تعالى: زيدِ بن عمرو بن نُفَيل، وأبي ذَرّ، وسلمان الفارسي، رضى الله عنهم قال:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ بغير كتاب ولا نبيّ.
وفي المراد بالطّاغوت هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: الشياطين، قاله مجاهد. والثاني: الكهنة، قاله ابن السائب. والثالث: الأوثان، قاله مقاتل، فعلى قول مقاتل هذا: إنما قال: «يعبُدوها» لأنها مؤنَّثة.
وقال الأخفش: إنما قال: «يعبُدوها» لأن الطّاغوت في معنى جماعة، وإن شئت جعلته واحدا مؤنّثا.
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يصنع الحديث، فخبره هذا لا شيء.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 30108 عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد، حدثني أبي ... وهذا مرسل، وابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو متروك، والمتن منكر جدا، والصحيح عموم الآية. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 724 وكذلك ابن كثير 4/ 59 بدون سند.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 59: والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن. فهؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
__________
(1) الأنعام: 15.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 58: قوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور اه.(4/11)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
قوله تعالى: وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي: رجَعوا إِليه بالطّاعة لَهُمُ الْبُشْرى بالجنة «فبَشِّر عبادي» بياء، وحرّك الياء أبو عمرو. ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ وفيه قولان: أحدها: أنه القرآن، قاله الجمهور. فعلى هذا، في معنى فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أقوال قد شرحناها في الأعراف «1» عند قوله:
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها. والثاني: أنه جميع الكلام. ثم في المعنى قولان. أحدهما: أنه الرَّجُل يَجْلِس مع القوم فيَسْمَع كلامهم، فيَعمل بالمحاسن ويحدِّث بها، ويكفّ عن المساوئ ولا يظهرها، قاله ابن السائب. والثاني: أنه لمّا ادَّعى مسيلمة أنه قد أتى بقرآن، وأتت الكهنة بالكلام المزخرَف في الأباطيل، فرَّق المؤمنون بين ذلك وبين كلام الله، فاتَّبَعوا كلامَ الله، ورفضوا أباطيل أولئك، قاله أبو سليمان الدمشقي.
[سورة الزمر (39) : الآيات 19 الى 20]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)
قوله تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ قال ابن عباس: سبق في عِلْم الله أنَّه في النّار. فإن قيل: كيف اجتمع في هذه الآية استفهامان بلا جواب؟ قيل: أمّا الفراء، فإنه يقول: هذا ممّا يُراد به استفهام واحد، فسبق الاستفهامُ إِلى غير موضعه فَرُدّ إِلى موضعه الذي هو له، فيكون المعنى: أفأنتَ تُنْقِذ مَنْ في النارِ مَنْ حَقَّت عليه كلمة العذاب؟ ومثله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «2» فردّ «أَنَّكُمْ» مرتين، والمعنى: أَيَعِدُكُم أنكم مُخْرَجون إِذا مِتُّم؟ ومثله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ثم قال: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ «3» فرَدَّ «تَحْسَبَنَّ» مرتين، والمعنى: لا تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بمفازة من العذاب. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في الكلام محذوف، تقديره: أفمن حَقَّ عليه كلمةُ العذاب فيتخلَّص منه أو ينجو، أفأنت تنقذه؟ قال المفسِّرون: أفأنت تخلّصه ممّا قُدِر له فتجعله مؤمناً؟
والمعنى: ما تقدر على ذلك. قال عطاء: يريد بهذه الآية أبا لهب وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الإِيمان.
قوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا وقرأ أبو المتوكّل، وأبو جعفر «لكِنَّ» بتشديد النون وفتحها. قال الزجاج: والغُرَف: هي المنازل الرفيعة في الجنة، مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ أي: منازل أرفع منها. وَعْدَ اللَّهِ منصوب على المصدر فالمعنى: وعَدَهم اللهُ غُرَفاً وَعْداً. ومن قرأ: «وَعْدُ الله» بالرفع فالمعنى: ذلك وعد الله.
[سورة الزمر (39) : آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً قال الشّعبي: كلّ ما في الأرض فمن السَّماء ينزل فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ قال ابن قتيبة: أي: أدَخَلَه فجعله ينابيعَ، أي: عُيوناً تَنْبُعُ، ثُمَّ يَهِيجُ أي: يَيْبَسُ. قال الأصمعي: يقال للنَّبت إِذا تَمَّ جَفافُه: قد هاجَ يَهِيجُ هَيْجاً. فأمّا الحُطام، فقال أبو عبيد: هو ما يبس
__________
(1) الأعراف: 145.
(2) المؤمنون: 35.
(3) آل عمران: 188.(4/12)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
فتَحاتَّ من النَّبات، ومثله الرُّفات. قال مقاتل: هذا مثل ضرب للدنيا، بينا ترى النبت أخضر، إذ تغيَّر فَيبِسَ ثُمَّ هَلَكَ، وكذلك الدُّنيا وزينتُها. وقال غيره: هذا البيان للدّلالة على قدرة الله عزّ وجلّ.
[سورة الزمر (39) : آية 22]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)
قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ قال الزجاج: جوابه متروك، لأنَّ الكلام دالٌّ عليه، تقديره:
أفمن شَرَحَ اللهُ صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يَهْتَد؟ ويُدلُّ على هذا قوله: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ.
(1225) وقد روى ابن مسعود أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية، فقلنا: يا رسول الله، وما هذا الشَّرْحُ؟ فذكر حديثا قد ذكرناه في قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «1» .
قوله تعالى: فَهُوَ عَلى نُورٍ فيه أربعة أقوال. أحدها: اليقين، قاله ابن عباس. والثاني: كتاب الله يأخذ به وينتهي إليه، قاله قتادة. والثالث: البيان، قاله ابن السائب. والرابع: الهُدى، قاله مقاتل.
وفيمن نزلت هذه الآية؟ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق، وأًبيّ بن خَلَف، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: في عليّ وحمزة وأبي لهب وولده، قاله عطاء. والثالث: في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي أبي جهل، قاله مقاتل.
__________
متن منكر بأسانيد واهية، وهو شبه موضوع. إسناده ضعيف جدا، محمد بن يزيد بن سنان وأبوه ضعيفان، وفي الإسناد مجاهيل. وبهذا الإسناد أخرجه البغوي في «التفسير» 1817.
وأخرجه الحاكم 4/ 311 من طريق محمد بن بشر بن مطر، والبيهقي في «الشعب» 10552 من طريق ابن أبي الدنيا كلاهما عن محمد بن جعفر الوركاني عن عدي بن الفضل عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود به. وإسناده ضعيف، لضعف عدي بن الفضل، وقد سكت عليه الحاكم، وأعله الذهبي بوهن ابن الفضل. هذا وله علة ثانية، المسعودي صدوق إلا أنه اختلط. وأخرجه الطبري 13859 من وجه آخر عن أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود مرفوعا، وإسناده ضعيف، ففي الإسناد مجاهيل، وعلة ثانية: وهي الإرسال بين أبي عبيدة، وابن مسعود. وأخرجه الطبري أيضا 13861 من وجه آخر عن عبد الرحمن بن عتبة عن ابن مسعود به مرفوعا وهذا إسناد ضعيف، عبد الرحمن عن ابن مسعود معضل. وقد ورد من مرسل أبي جعفر، أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 852 ومن طريقه الطبري 13856 و 13857 و 13858. وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» 315 من وجه آخر عن أبي جعفر به، هذا مرسل، ومع إرساله، أبو جعفر هذا متهم بالوضع. قال أحمد: أحاديثه موضوعة. راجع «الميزان» 4608. وأخرجه الطبري 13860 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 326 من وجه آخر عن عبد الله بن المسور. وعبد الله هذا هو أبو جعفر المدائني المتقدم ذكره، وهو متروك متهم، فالحديث ضعيف، ولا يصح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحسبه أن يكون من كلام من دون ابن مسعود، والله أعلم. وأخرجه البيهقي 325 من وجه آخر عن أبي جعفر فجعله من قوله، ولم يرفعه وقال: وقد روي في هذا خبر مرفوع. وانظر الحديث المتقدم في سورة الأنعام عند آية:
125. الخلاصة: المتن منكر كونه مرفوعا، وحسبه أن يكون موقوفا، أو من كلام أبي جعفر المدني فإنه لا يشبه كلام النبوة، بل الأشبه أنه من كلام الصوفية والوعاظ، والله أعلم.
__________
(1) الأنعام: 125.
(2) لا حجة في شيء من ذلك، والآية عامة.(4/13)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ قد بيَّنّا معنى القساوة في البقرة «1» . فإن قيل: كيف يقسو القلب من ذِكْر الله عزّ وجلّ؟ فالجواب: أنه كُلَّما تُلِيَ عليهم ذِكْرُ الله الذي يكذِّبونَ به، قَسَت قلوبُهم عن الإيمان به. وذهب مقاتل في آخَرِين إِلى أنَّ «مِنْ» هاهنا بمعنى «عَنْ» قال الفراء: كما تقول: أُتْخِمْتُ عن طعام أكلتُه، ومِنْ طعام أكلتُه وإِنما قَسَت قلوبُهم مِنْ ذِكْر الله، لأنهم جعلوه كذباً فأقسى قلوبَهم ومن قال: قست قلوبهم عنه، أراد: أعرضت عنه. وقد قرأ أبيّ بن كعب، وابن أبي عبلة، وأبو عمران: «قُلوبُهم عن ذكر الله» مكان قوله: «من» .
[سورة الزمر (39) : آية 23]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)
قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن وقد ذكرنا سبب نزولها في أول يوسف «2» .
قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً فيه قولان: أحدهما: أن بَعْضهُ يشْبِه بَعْضاً في الآي والحروف، فالآية تُشْبِه الآية، والكَلِمَة تُشْبِه الكَلِمة، والحَرْفُ يُشْبِه الحَرْفَ. والثاني: أن بَعْضَه يصدِّق بَعْضاً، فليس فيه اختلاف ولا تناقض.
وإنما قيل له: مَثانِيَ لأنه كُرِّرت فيه القصص والفرائض والحدود والثَّواب والعقاب.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار القصص، والواحدة قد كانت تكفي؟
فالجواب: أن وفود العرب كانت تَرِدُ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيُقرئهم المسلمون شيئاً من القرآن، فيكون ذلك كافياً لهم، وكان يَبْعَثُ إلى القبائل المتفرِّقة بالسُّوَر المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثنّاة مكرَّرة، لوقعتْ قصةُ موسى إِلى قوم، وقصةُ عيسى إِلى قوم، وقصةُ نوح إِلى قوم، فأراد الله تعالى أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويُلْقِيَها إِلى كل سَمْع. فأمّا فائدة تكرار الكلام من جنس واحد، كقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «3» ، وقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ «4» ، وقوله تعالى:
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «5» وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ «6» فسنذكرها في سورة الرّحمن عزّ وجلّ.
قوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: تأخذُهم قشعريرة، وهو تغيُّر يحدُث في جِلْد الإِنسان من الوَجَل.
(1226) وروى العباس بن عبد المطّلب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِذا اقشعرَّ جِلْد العَبْد من
__________
ضعيف. أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 578 والبيهقي في «الشعب» 803 والبغوي في «تفسيره» 1818 من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني من حديث العباس وإسناده ضعيف جدا، يحيى الحماني متروك، متهم بسرقة الحديث، وعبد العزيز هو الدراوردي روى مناكير، وأم كلثوم مجهولة لا تعرف، وقد توبع الحماني، وعلة الحديث جهالة أم كلثوم. وأخرجه البزار 4/ 74 «كشف» والبيهقي 803 من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 310: وفيه أم كلثوم بنت العباس، ولم أعرفها، وبقية رجاله ثقات. قلت: الدراوردي، وإن وثقه غير واحد، فقد روى مناكير، راجع «الميزان» .
__________
(1) البقرة: 74. [.....]
(2) يوسف: 3.
(3) الرحمن: 13.
(4) الكافرون: 2.
(5) القيامة: 34.
(6) الانفطار: 17.(4/14)
خَشْية الله، تَحاتَّتْ ذُنوبُه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقُها» .
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال «1» : أحدها: تَقْشَعِرُّ من وَعيده، وتَلين عندَ وعْده، قاله السدي.
والثاني: تَقْشَعِرُّ من الخَوْف، وتَلِينُ من الرَّجاء. والثالث: تَقْشَعِرُّ الجُلود لإِعظامه، وتَلِينُ عند تلاوته، ذكرهما الماوردي. وقال بعض أهل المعاني: مفعول الذّكر في قوله تعالى: إِلى ذِكْرِ اللَّهِ محذوف، لأنه معلوم والمعنى: تَطْمَئنُّ قلوبُهم إِلى ذِكْر اللهِ الجنةَ والثوابَ. قال قتادة: هذا نَعْتُ أولياء الله، تقشَعِرُّ جلودُهم وتَلِينُ قلوبُهم، ولم يَنْعَتْهم بذَهاب عُقولهم والغِشْيان عليهم، إنَّما هذا في أهل البِدَع، وهذا من الشَّيطان.
(1227) وقد روى أبو حازم، قال: مَرَّ ابنُ عمر برجُل ساقط من أهل العراق، فقال: ما شأنُه؟
فقالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن يُصيبه هذا، قال: إِنّا لنَخشى اللهَ عزّ وجلّ، وما نَسْقُط.
(1228) وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: جئتُ أبي، فقال لي: أين كنتَ؟ فقلت: وجدتُ قوماً، ما رأيت خيراً منهم قَطٌّ، يذكُرون الله عزّ وجلّ فيُرعَد واحدهم حتى يُغْشَى عليه من خَشْية الله عزّ وجلّ، فقعدتُ معهم، فقال: لا تقعُد معهم بعدها أبداً، قال: فرآني كأني لم يأخذ ذلك فيّ، فقال:
رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتلو القرآن، ورأيتُ أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يُصيبُهم هذا من خَشْية الله
__________
وأخرجه أبو يعلى 6703 ومن طريقه البيهقي في «الشعب» 804 عن موسى بن محمد عن محمد بن عمر بن عبد الله الرومي قال: حدثني جابر بن يزيد بن رفاعة عن هارون بن أبي الجوزاء. هارون وبقية رجاله وثقوا، على ضعف في محمد بن عمر، وثقه ابن حبان. وأورده الحافظ في «المطالب العالية» 3/ 218 و 219 ونسبه إلى أبي يعلى، ونقل الشيخ حبيب الرحمن عن البوصيري قوله: رواه أبو يعلى والبيهقي بسند ضعيف اه.
وكذا ضعفه العراقي في «تخريج الإحياء» 4/ 163، وانظر «الضعيفة» 2342.
موقوف. أخرجه البغوي في «تفسيره» 1821، بإسناد ضعيف، فيه سعيد الجمحي لم يدرك ابن عمر.
انظر ما بعده.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 61: وقوله: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، أي هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبّار المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمونه من الوعيد والوعد، والتخويف والتهديد، تقشعر جلودهم من الخشية والخوف. ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ لما يرجون ويؤمّلون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجّار من وجوه: أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات. الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدا وبكيا بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمبانيها، فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم. الثالث:
يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس يهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، ولهذا فازوا بالقدح المعلى في الدنيا والآخرة.(4/15)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
تعالى، أفتَرَى أنهم أخشى لله من أبي بكر وعمر؟ قال: فرأيت ذلك كذلك. وقال عكرمة: سُئلتْ أسماءُ بنت أبي بكر: هل كان أحد من السَّلَف يُغشى عليه من الخوف؟ قالت: لا، ولكنهم كانوا يبكون.
(1229) وقال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجَدَّتي أسماءَ بنتِ أبي بكر، كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم اللهُ تعالى، تَدْمَعْ أعيُنُهم وتَقْشَعِرُّ جلودهم. فقلت لها: إنّا ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن، خَرَّ أحدُهم مَغْشِيّاً عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وكان جَوّاب يُرْعَدُ عند الذِّكْر، فقال له إبراهيم النخعي: إن كنت تملكه، فما أُبالي أن لا أعتدَّ بك، وإن كنتَ لا تملكه، فقد خالفتَ من كان قبلك.
قوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله مقاتل. والثاني: أنه ما يَنْزِلُ بالمؤمنين عند تلاوة القرآن من اقشعرار الجلود عند الوعيد، ولينها عند الوعد، قاله ابن الأنباري.
[سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 28]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
قوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ أي: شِدَّتَه. قال الزجاج: جوابه محذوف، تقديره: كَمَنْ يدخُل الجنة؟ وجاء في التفسير أن الكافر يُلقى في النار مغلولاً، ولا يتهيَّأ له أن يتّقيها إلّا بوجهه. ثم أخبر عمّا يقول الخَزَنة للكفار بقوله تعالى: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ يعني الكافرين ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: جزاء كَسْبِكم.
قوله تعالى: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: من قبْل كفار مكة فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي: وهم آمنون غافلون عن العذاب، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ يعني الهوان والعذاب، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ممّا أصابهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، ولكنهم لا يعلمون ذلك. وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ أي: وَصَفْنا لهم مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: من كل شبه يشبه أحوالهم.
قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا قال الزجاج: «عَرَبِيًّا» منصوب على الحال، المعنى: ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيَّته وبيانه، فذكر «قُرْآناً» توكيداً، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، وجاءني عمرو إِنساناً عاقلاً، فذكر رجلاً وإنساناً توكيداً. قوله تعالى: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: غير مخلوق. وقال غيره: مستقيم غير مختلف.
__________
موقوف. أخرجه البغوي في «التفسير» 1820 بسند فيه خلف بن سالم فمن فوقه رجال الصحيح، ومن دونه بعضهم معروف، وبعضهم لم أجد له ترجمة، لكن توبعوا عند سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» 5/ 610 فالخبر صحيح.(4/16)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
[سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 31]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ثم بيَّنه فقال: رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال ابن قتيبة: أي:
مختلِفون، يَتَنازعُون ويَتَشاحُّون فيه، يقال: رجُلٌ شَكِسٌ. وقال اليزيدي: الشَّكسِ من الرجال: الضَّيِّق الخُلُق. قال المفسِّرون: وهذا مَثَل ضربه اللهُ للمؤمِن والكافر، فإن الكافر يعبُد آلهةً شتّى، فمثّله بعبد يملكه جماعة يتنافسون في خدمته، ولا يقدر أن يبلُغ رضاهم أجمعين والمؤمن يعبُد اللهَ وحده، فمثَّله بعبدٍ لرجل واحد، قد عَلِم مقاصدَه وعَرَفَ الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاكس الخُلَطاء فيه، فذلك قوله تعالى: سَلَماً لِرَجُلٍ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو إٍِلاّ عبد الوارث في غير رواية القزَّاز، وأبان عن عاصم: «ورجُلا سالِماً» بألف وكسر اللام وبالنصب والتنوين فيهما والمعنى: ورجُلاً خالصاً لرجُل قد سَلِم له من غير مُنازِع. ورواه عبد الوارث إلاّ القزاز كذلك، إلاّ أنه رفع الاسمين، فقال: «ورجُلٌ سالِمٌ لرجُلٍ» ، وقرأ ابن أبي عبلة: «سِلْمُ لِرَجُلٍ» بكسر السين ورفع الميم. وقرأ الباقون: وَرَجُلًا سَلَماً بفتح السين واللام وبالنصب فيهما والتنوين. والسَّلَم، بفتح السين واللام، معناه الصُّلح، والسِّلم، بكسرِ السين مثله. قال الزجاج: من قرأ: «سِلْماً» و «سَلْماً» فهما مصدران وُصِفَ بهما، فالمعنى، ورجُلاً ذا سِلْمٍ لرجُل وذا سَلْمٍ لرجُل فالمعنى: ذا سِلْم والسَّلْم: الصُّلح، والسِّلْم، بكسر السين مِثْلُه. وقال ابن قتيبة: من قرأ «سَلَماً لِرَجُلٍ» أراد: سلَّم إليه فهو سِلْمٌ له. وقال أبو عبيدة: السِّلْم والسَّلم الصُّلح.
قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا هذا استفهام معناه الإِنكار، أي: لا يستويان، لأن الخالص لمالك واحدٍ يَستحقُّ من معونته وإِحسانه ما لا يستحقُّه صاحب الشُّركاء المتشاكسين. وقيل: لا يستويان في باب الرّاحة، لأنّ هذا قد عرف الطريق إِلى رضى مالكه، وذاك متحيّر بين الشُّركاء. قال ثعلب:
وإِنما قال: «هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا» ولم َيُقْل: مَثَلَيْنِ، لأنهما جميعاً ضُرِبا مَثَلاً واحداً، ومِثْلُه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «1» ، ولم يَقُلْ: آيتين، لأن شأنهما واحد. وتم الكلام هاهنا، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: له الحمد دون غيره من المعبودِين بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ والمراد بالأكثر الكُلّ. ثم أخبر نبيَّه بما بعد هذا الكلام أنه يموت، وأنّ الذين يكذّبون يموتون، وأنهم يجتمعون للخصومة عند الله عزّ وجلّ، المحقّ والمبطل، والمظلوم والظالم «2» .
__________
(1) المؤمنون: 50.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 63: وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق عند موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم حتى تحقق الناس موته، مع قوله وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ومعنى هذه الآية: ستنقلون من هذه الدار لا محالة، وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل فيفصل بينكم، ويفتح بالحقّ وهو الفتاح العليم. فينجي المؤمنين المخلصين الموحّدين، ويعذّب الكافرين الجاحدين المشركين المكذّبين، ثم إن هذه الآية، وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.(4/17)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
(1230) وقال ابن عمر: نزلتْ هذه الآية وما ندري ما تفسيرها، وما نرى أنها نزلتْ إلاّ فينا وفي أهل الكتابين، حتى قُتِل عثمان، فعرفتُ أنها فينا نزلتْ. وفي لفظ آخر: حتى وقعت الفتنة بين عليّ ومعاوية.
[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 35]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)
قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بأن دعا له ولداً وشريكاً وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ وهو التوحيد والقرآن أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي: مَقَامٌ للجاحِدِين؟! وهذا استفهام بمعنى التقرير يعني: إِنه كذلك.
قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله عليّ بن أبي طالب، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد. ثم في الصِّدق الذي جاء به قولان: أحدهما: أنه «لا إِله إِلا الله» ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد ابن جبير. والثاني: القرآن، قاله قتادة.
وفي الذي صدَّق به ثلاثة أقوال: أحدها: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضاً، هو جاء بالصِّدق، وهو صدَّق به، قاله ابن عباس، والشعبي. والثاني: أنه أبو بكر، قاله علي بن أبي طالب. والثالث: أنهم المؤمنون، قاله قتادة، والضحاك، وابن زيد.
والقول الثاني: أن الذي جاء بالصِّدق: أهل القرآن، وهو الصِّدق الذي يُجيبونَ به يوم القيامة، وقد أدّوا حَقّه، فَهُم الذين صدَّقوا به، قاله مجاهد. والثالث: أن الذي جاء بالصِّدق الأنبياء، قاله الربيع، فعلى هذا، يكون الذي صدَّق به: المؤمِنون. والرابع: أن الذي جاء بالصِّدق: جبريل، وصدَّق به: محمد، قاله السدي.
قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أي: الذين اتَّقّوْا الشرك وإِنما قيل: «هُم» ، لأن معنى «الذي» معنى الجمع، كذلك قال اللغويون، وأنشد أبو عبيدة، والزّجّاج:
__________
حسن، أخرجه النسائي في «التفسير» 467 والطبري 30139 كلاهما عن ابن عمر، وإسناده حسن، رجاله ثقات معروفون، ويشهد له خبر عن أبي سعيد الخدري مثله. عزاه الشوكاني في «فتح القدير» 4/ 532 لسعيد بن منصور، وعزاه ابن حجر في «تخريجه» 4/ 27 للثعلبي.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 11/ 5: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره عنى بقوله وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ كل من دعا إلى توحيد الله، وتصديق رسله، والعمل بما ابتعث به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من بين رسل الله وأتباعه والمؤمنين به، وأن يقال الصدق: هو القرآن، وشهادة أن لا إله إلا الله، والمصدّق به:
المؤمنون بالقرآن، من جميع خلق الله كائنا من كان من نبيّ الله وأتباعه. ووافقه ابن كثير. وقال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 65: وهذا القول الذي قاله مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحقّ ويعمل به، والرسول صلّى الله عليه وسلّم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير فإنه جاء بالصدق وصدق المرسلين وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.(4/18)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
فإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ، كُلُّ القَوْمِ، يا أُمَّ خالِدِ «1»
قوله تعالى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ المعنى: أعطاهم ما شاؤوا ليكفِّر عنهم أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، أي: لِيَسْتُر ذلك بالمغفرة وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بمحاسن أعمالهم، لا بمساوئها.
[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 38]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ.
(1231) ذكر المفسِّرون أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، ما تزال تذكرُ آلهتنا وتَعِيبُها، فاتَّق أن تصيبك بسوءٍ، فنزلت هذه الآية. والمراد بعبده هاهنا: محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ حمزة، والكسائي: «عِبَادَهُ» على الجمع، وهم الأنبياء، لأن الأمم قصدتْهم بالسُّوء فالمعنى أنه كما كفى الأنبياءَ قَبْلَكَ يكفيك، وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عمران الجوني: «بِكافي» مثبتة الياء «عَبْدِهِ» بكسر الدال والهاء من غير ألف. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو العالية، وأبو الجوزاء، والشعبي مِثْلَه، إِلاّ أنهم أثبتوا الألف في «عِبادِهِ» وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش:
«بِكافٍ» بالتنوين، «عِبادَهُ» على الجمع. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء العطاردي: «يُكافِيْ» بياء مرفوعة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء «عِبادَهُ» على الجمع.
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي: بالذين يَعْبُدون مِن دونِهِ، وهم الأصنام. ثُمَّ أَعْلَمَ بما بعد هذا أن الإِضلال والهداية إليه تعالى، وأنه منتقم ممن عصاه. ثم أخبر أنهم مع عبادتهم، يُقِرُّونَ أنه الخالق. ثم أمر أن يُحْتَج عليهم بأن ما يعبُدون لا يَمْلِكُ كَشْفَ ضُرٍّ ولا جَلْبَ خَيْرِ. وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «كاشفاتٌ ضُرَّه» و «ممسكاتٌ رحمته» منوَّناً. والباقون: «كاشفاتُ ضُرِّه» و «ممسكات رحمته» على الإضافة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 41]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
قوله تعالى: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا ذكر بعض المفسرين أنها والآية التي تليها نُسخت بآية السيف.
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن لِلنَّاسِ أي: لجميع الخَلْقِ بِالْحَقِّ ليس فيه
__________
ضعيف. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 2634 عن قتادة قال: قال لي رجل ... فذكره، وهو ضعيف لجهالة الرجل.
__________
(1) البيت للأشهب بن رميلة، وهو في «الكتاب» 1/ 96، وقد تقدم في الجزء الأول.(4/19)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
باطل. وتمام الآية مفسَّر في آخر يونس «1» ، وذكروا أنه منسوخ بآية السيف.
[سورة الزمر (39) : آية 42]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها أي: يَقْبِضُ الأرواحَ حين موت أجسادها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ أي: ويتوفَّى التي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها. فَيُمْسِكُ أي: عن الجسد والنفس الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وقرأ حمزة، والكسائي: «قُضِيَ» بضم القاف وفتح الياء، «الموتُ» بالرفع. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى الجسد إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو انقضاءُ العُمُر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في أمر البعث «2» . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تلتقي أرواح الأحياء وأرواحُ الأموات في المنام، فيتعارفون ويتساءلون، ثم تُرَدُّ أرواحُ الأَحياءِ إلى أجسادها، فلا يُخطأُ بشيء منها، فذلك قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وقال ابن عباس في رواية أخرى: في ابنِ آدم نَفْسٌ وروحٌ، فبالنَّفس العقلُ والتمييزُ، وبالرُّوح النَّفَس والتحريك، فإذا نام العبدُ، قَبَضَ اللهُ نَفْسَه ولم يَقْبِض روحه «3» . وقال ابن جريج: في الإِنسان روح ونَفْسٌ، بينهما حاجز، فهو تعالى يقبض النّفس عند النّوم ثم يَرُدُّها إِلى الجسد عند الانتباه، فإذا أراد إِماتةَ العبد في نومه، لم يَرُدَّ النَّفْسَ وقَبَض الرُّوح. وقد اختلف العلماء، هل بين النَّفْس والرُّوح فَرْقٌ «4» ؟ على قولين: قد ذكرتُهما في «الوجوه والنظائر» ، وزدتُ هذه الآية شرحاً في
__________
(1) يونس: 108.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 10: وقوله تعالى ذكره: إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعد نفس هذا ترجع إلى جسمها، وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرة وعظة لمن تفكر وتدبّر، وبيانا له أن الله يحيى من يشاء من خلقه إذا شاء، ويميت من شاء إذا شاء.
(3) أثر ابن عباس، قال عنه الحافظ في «تخريجه» 4/ 131: لم أجده.
قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 15/ 228: قال القشيري أبو النصر- رحمه الله-: وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ولهذا قال: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فإذا يقبض الله الروح في حالين: في حالة النوم وحالة الموت، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة. وقوله: وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان.
فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك. وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية.
(4) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع» 15/ 229: والأظهر أنهما شيء واحد، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب، من ذلك: حديث أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي سلمة وقد شقّ بصره فأغمضه، ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» أخرجه مسلم 920. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره» قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه» أخرجه مسلم 921. وحديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا: اخرجي أيها النفس الطيبة كانت في الجسر الطيب اخرجي حميدة وابشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء» . وإسناده صحيح. أخرجه أحمد 2/ 264- 288 وابن ماجة 4262. وفي صحيح مسلم 2872 عنه رضي الله عنه قال: «إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها» . وقال بلال في حديث الوادي الذي أخرجه مسلم 2872: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي بنفسك. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي- متفق عليه-: «يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردّها إلينا في حين غير هذا» . [.....](4/20)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
«باب التوفّي» في كتاب «النظائر» . وذهب بعض العلماء إِلى أَن التوفيّ المذكور في حق النّائم هو نَوْمُه.
وهذا اختيار الفراء وابن الأنباري فعلى هذا، يكون معنى توفّي النائم: قبضُ نَفْسِه عن التصرُّف، وإِرسالُها: إِطلاقُها باليَقَظَة للتّصرّف.
[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 44]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا يعني كُفَّارَ مكَّةَ «1» . وفي المراد بالشُّفعاءِ قولان: أحدهما: أنَّها الأصنام، زعموا أنها تشفع لهم في حاجاتهم، قاله الأكثرون. والثاني: الملائكة، قاله مقاتل.
قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من الشفاعة وَلا يَعْقِلُونَ أنَّكم تعبُدونهم؟! وجواب هذا الاستفهام محذوف، تقديره: أوَلَو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم؟!.
قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي: لا يَمْلِكُها أَحَدٌ إِلاّ بتمليكه، ولا يشفع عنده أَحَدٌ إلاّ بإذنه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 45 الى 48]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
قوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: انقبضتْ عن التوحيد، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: استكبرتْ، قاله قتادة. والثالث:
نَفَرتْ، قاله أبو عبيدة، والزجاج. قوله تعالى: إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره «2» إلى قوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. قال السدي: ظَنَّوا أنّ أعمالَهم حسناتٍ، فبدت لهم سيئات. وقال غيره: عَمِلوا أعمالاً ظنُّوا أنَّها تنفعُهم، فلم تنفع مع شِركهم. قال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنّه نازل بهم فهذا
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «جامع البيان» 11/ 10: يقول تعالى ذكره: أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم. وقوله: قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم قل يا محمد لهم: أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا ولا يعقلون شيئا، قل لهم: إن تكونوا تعبدونها لذلك، وتشفع لكم عند الله، فأخلصوا عبادتكم لله. وأفردوه بالألوهة، فإن الشفاعة جميعا له لا يشفع عنده إلا من أذن له، ورضي له قولا، وأنتم متى أخلصتم له العبادة، فدعوتموه، شفعكم لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فاعبدوا الذي له سلطان السموات والأرض وملكها ثم إلى الله مصيركم، وهو معاقبكم على إشراككم به، إن متم على شرككم.
(2) البقرة: 113، الأنعام: 14- 73، الرعد: 18.(4/21)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
القول يحمل وجهين: أحدهما: أنَّهم كانوا يرجون القُرْبَ من الله بعبادة الأصنام، فلمّا عُوقِبوا عليها، بدا لهم ما لم يكونوا يحتَسِبون. والثاني: أنَّ البعثَ والجزاءَ لم يكن في حسابهم. وروي عن محمد بن المنكدر أنه جَزِع عند الموت وقال: أخشى هذه الآية أن يبدو لي ما لا أحتَسِب. قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ أي: نزل بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: ما كانوا ينكرونه ويكذّبون به.
[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
قوله تعالى: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا قال مقاتل: هو أبو حذيفة بن المغيرة، وقد سبق في هذه السورة نظيرها «1» . وإنما كنّى عن النّعمة بقوله تعالى: أُوتِيتُهُ، لأن المراد بالنِّعمة: الإنعام.
عَلى عِلْمٍ عندي، أي: على خيرٍ عَلِمَهُ اللهُ عندي. وقيل: على عِلْمٍ مِنَ الله بأنِّي له أهلٌ، قال الله تعالى: بَلْ هِيَ يعني النِّعمة التي أنعم اللهُ عليه بها فِتْنَةٌ أي: بلوى يُبْتَلى بها العبدُ لِيَشْكُرَ أو يكفُر، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك استدراج لهم وامتحان. وقيل: «بل هي» أي: المقالة التي قالها «فتنةٌ» . قَدْ قالَهَا يعني تلك الكلمة، وهي قوله عزّ وجلّ: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وفيهم قولان: أحدهما: أنَّهم الأًمم الماضية، قاله السدي. والثاني: قارون، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ أي: ما دفع عنهم العذاب ما كانُوا يَكْسِبُونَ وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من الكفر. والثاني: من عبادة الأصنام. والثالث: من الأموال. فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي: جزاءُ سيِّئاتهم، وهو العذاب. ثم أوعد كُفَّار مكَّة، فقال: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: إِنهم لا يُعْجِزونَ الله ولا يَفوتونه. قال مقاتل: ثم وعظهم لِيَعْلَموا وحدانيتَّه حين مُطِروا بعد سبع سنين، فقال: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في بَسْطِ الرِّزق وتقتيره لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 55]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)
قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(1232) أحدها: أن ناساً من المشركين كانوا قد قَتلوا فأكثَروا، وزنَوا فأكثَروا، ثم أتَوا رسولَ
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4810 عن إبراهيم بن موسى بن عن ابن عباس وأخرجه مسلم 122 وأبو داود
__________
(1) الزمر: 8.(4/22)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إِنّ الذي تدعو إِليه لَحَسَنٌ، لو تُخبرنا أنّ لِمَا عَمِلنا كفّارةً، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(1233) والثاني: أنها نزلت في عَيّاش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونَفَرٍ من المسلمين كانوا قد أسلموا، ثم عُذِّبوا فافتُتِنوا، فكان أصحاب رسول الله يقولون: لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ هؤلاء صَرْفاً ولا عَدْلاً، قومُ تركوا دينهم بعذاب عُذِّبوه فنزلت هذه الآية، فكتبها عمر إلى عَيّاش والوليد وأولئك النَّفَر، فأسلموا وهاجروا وهذا قول ابن عمر.
والثالث: أنها نزلتْ في وحشي وهذا القول ذكرناه مشروحاٍ في آخر الفرقان «1» عن ابن عباس.
(1234) والرابع: أنَّ أهل مكَّةَ قالوا: يزعُم محمدٌ أنَّ مَنْ عَبَدَ الأوثانَ وقَتَلَ النَّفْسَ التي حرَّم اللهُ لم يُغْفَر له، فكيف نُهاجِر ونُسْلِم وقد فَعَلْنا ذلك؟! فنزلت هذه الآية وهذا مرويُّ عن ابن عباس أيضاً.
ومعنى أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ارتكَبوا الكبائر. والقنوط بمعنى اليأس. وَأَنِيبُوا بمعنى ارجِعوا إِلى الله من الشِّرك والذًّنوب، وَأَسْلِمُوا لَهُ أي: أخِلصوا له التوحيد. و «تُنْصَرون» بمعنى تُمْنَعون.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ قد بيَّنّاه في قوله عزّ وجلّ: يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها «2» .
[سورة الزمر (39) : الآيات 56 الى 59]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
قوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ قال المبرِّد: المعنى: بادِروا قَبْلَ أن تقول نَفْسٌ، وحَذَراً من أن تقول نَفْسٌ. وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول. ومعنى يا حَسْرَتى يا
__________
4274 والنسائي في «التفسير» 469 والحاكم في «المستدرك» 2/ 403 والبيهقي 9/ 98 والواحدي في «أسباب النزول» 658 كلهم من طريق يعلى بن مسلم به. وأخرجه الطبري 26512 من طريق منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير به.
حسن. أخرجه الحاكم 2/ 435 والطبري 20182 و 20183 والواحدي 730 من حديث ابن عمر عن عمر به، صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو حسن لأجل ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث فانتفت شبهة التدليس. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 5314 بتخريجنا.
أخرجه الواحدي 727 معلقا، ووصله ابن أبي حاتم كما في أسباب النزول للسيوطي 955 عن ابن عباس، وصححه السيوطي. والحديث 1232 أصح منه. وانظر «تفسير القرطبي» 5316 بتخريجنا.
قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 17: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك، لأن الله عمّ بقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ جميع المسرفين، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.
وقال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 70: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت مثل زبد البحر. ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر ما لم يتب منه.
__________
(1) الفرقان: 68.
(2) الأعراف: 145.(4/23)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
ندامتا ويا حزنا. والتحسُّر: الاغتمام على ما فات. والألِف في «يا حسرتا» هي ياء المتكلم، والمعنى:
يا حسرتي، على الإِضافة. قال الفراء: والعرب تحوِّل الياء إلى الألِف في كل كلام معناه الاستغاثة ويخرج على لفظ الدُّعاء، وربما أدخلت العربُ الهاء بعد هذه الألف، فيَخْفِضونها مَرَّةً، ويرفعونها أخرى. وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو عمران، وأبو الجوزاء: «يا حسرتي» بكسر التاء، على الإِضافة إِلى النَّفْس. وقرأ معاذ القارئ، وأبو جعفر: «يا حسرتايَ» ، بألف بعد التاء وياء مفتوحة، قال الزجاج:
وزعم الفراء أنه يجوز «يا حسرتاهَ على كذا» بفتح الهاء، و «يا حسرتاهُِ» بالضم والكسر، والنحويّون أجمعون لا يُجيزون أن تُثْبَتَ هذه الهاءُ مع الوصل.
قوله تعالى: فِي جَنْبِ اللَّهِ فيه خمسة أقوال: أحدها: في طاعة الله تعالى، قاله الحسن.
والثاني: في حق الله، قاله سعيد بن جبير. والثالث: في أمْر الله، قاله مجاهد، والزجاج. والرابع: في ذِكْر الله، قاله عكرمة، والضحاك. والخامس: في قٌرْب الله روي عن الفراء أنه قال: الجَنْب: القُرْب، أي: في قُرْب الله وجِواره، يقال: فلان يعيش في جَنْبِ فلان، أي: في قُرْبه وجواره فعلى هذا يكون المعنى: على ما فرَّطْتُ في طلب قُرْب الله تعالى، وهو الجنة.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي: وما كنتُ إِلاّ من المستهزِئين بالقرآن وبالمؤمنين في الدُّنيا. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أي: أرشَدني إِلى دينه لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الشِّرك فيقال لهذا القائل: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي قال الزجاج: و «بلى» جواب النفي، وليس في الكلام لفظ النفي، غير أن معنى «لو أن الله هداني» : ما هُديتُ، فقيل: «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي» . وروى ابن أبي سريج عن الكسائي: «جاءتكِ» ، «فكذَّبْتِ» ، «واسْتَكْبَرْتِ» ، «وكُنْتِ» ، بكسر التاء فيهنّ، مخاطَبة للنفْس. ومعنى «اسْتَكْبَرْتَ» : تكبَّرتَ عن الإِيمان بها.
[سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 61]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فزعموا أن له ولداً وشريكاً وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ. وقال الحسن: هم الذين يقولون: إن شئنا فَعَلْنا، وإِن شئنا لم نَفْعَل. وباقي الآية قد ذكرناه آنفا. قوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم:
«بِمَفازَتِهِمْ» . قال الفراء. وهو كما قد تقول: قد تبيَّن أمرُ القوم وأمورهم، وارتفع الصوت والأصوات، والمعنى واحد. وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال: أحدها: بفضائلهم، قاله السدي. والثاني: بأعمالهم، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثالث: بفوزهم من النار. قال المبرِّد: المَفازة: مَفْعَلة من الفوز، وإن جُمع فحسن، كقولك: السعادة والسعادات، والمعنى: ينجيهم الله بفوزهم، أي: بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 63]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)
قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن قتيبة: أي: مفاتيحُها وخزائنُها، لأن مالِكَ المفاتيح مالِك الخزائن، واحدها: إِقليد، وجُمع على غير واحد، كما قالوا: مَذاكير جمع ذَكَر، ويقال: هو(4/24)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
فارسيّ معرَّب. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: الإِقليد: المفتاح، فارسي معرَّب، قال الراجز:
لَمْ يُؤْذِها الدِّيكُ بصوتِ تَغْرِيدْ ... ولَمْ تُعالِجْ غَلَقاً باقْليدْ
والمِقْلِيدُ: لغةٌ في الإِقْلِيدِ، والجمع: مَقَالِيد. وللمفسرين في المقاليد قولان: أحدهما: المفاتيح، قاله ابن عباس. والثاني: الخزائن، قاله الضحاك. وقال الزجاج: تفسيره أن كل شيء في السموات والأرض، فهو خالقه وفاتح بابه. قال المفسرون: مفاتيح السموات: المطر، ومفاتيح الأرض: النبات.
[سورة الزمر (39) : الآيات 64 الى 66]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ قرأ نافع، وابن عامر: «تأمُرُونِي أعْبُدُ» مخفَّفةً، غير أن نافعاً فتح الياء، ولم يفتحها ابن عامر. وقرأ ابن كثير: «تأمرونّيَ» بتشديد النون وفتح الياء، وقرأ الباقون بسكون الياء. وذلك حين دعَوْه إلى دين آبائه أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي: فيما تأمُرون.
قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولقد أُوحِيَ إِليكَ لئن أشركتَ لَيَحْبَطَنَّ عملُكَ، وكذلك أُوحيَ إِلى الذين مِنْ قَبْلِكَ. قال أبو عبيدة: ومجازها مجاز الأمرين اللَّذَين يُخْبَرُ عن أحدهما ويُكَفُّ عن الآخر. قال ابن عباس: هذا أدبٌ من الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم وتهديد لغيره، لأنّ الله عزّ وجلّ قد عصمه من الشِّرك. وقال غيره: إِنما خاطبه بذلك، لِيَعْرِفَ مَنْ دونَه أن الشِّرك يُحبِطُ الأعمال المتقدِّمة كلَّها ولو وقع من نبيٍّ. وقرأ أبو عمران وابن السميفع ويعقوب:
«لَنُحْبِطَنَّ» بالنون، «عَمَلَكَ» ، بالنصب. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ أي: وحّد.
[سورة الزمر (39) : آية 67]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
(1235) سبب نزولها أن رجلاً من أهل الكتاب أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أبا القاسم، بلغك أن الله تعالى يَحْمِلُ الخلائقَ على إِصْبع والأَرَضِينَ على إِصْبَع والشَّجَر على إِصْبَع والثَّرى على إِصْبع؟
فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذُه، فأنزل اللهُ تعالى هذه الآية، قاله ابن مسعود. وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين نحوه عن ابن مسعود.
__________
صحيح. وليس فيه سبب نزول الآية. وورد عند الواحدي في «أسباب النزول» 731 وفيه سبب نزول الآية.
وأخرجه البخاري 4811 والبغوي في شرح السنة 4199 بإسنادهما من حديث ابن مسعود، وأحمد 1/ 457 والآجري في «الشريعة» 751 والبيهقي في «الاعتقاد» ص 334 من طريق شيبان به. وأخرجه البخاري 7513 ومسلم 2786 ح 20 والنسائي في «التفسير» 470 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 78 والآجري في «الشريعة» 750 وابن حبان 7326 وابن أبي عاصم في «السنة» 541 والبيهقي ص 335 من طرق عن جرير به. وأخرجه البخاري 7414 ومسلم 2786 ح 19 والترمذي 3238 و 3239 والنسائي في «التفسير» 471 والطبري 30217 وابن خزيمة ص 77 والآجري 753 وابن أبي عاصم 542 والبيهقي ص 335 من طرق عن منصور به. وأخرجه البخاري 7415 ومسلم 2786 ح 21 و 22 والنسائي 472 من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة به.(4/25)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
وقد فسَّرنا أول هذه الآية في الأنعام «1» . قال ابن عباس: هذه الآية في الكفار، فأمّا مَنْ آمن بأنه على كل شيء قدير، فقد قَدَرَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ. ثم ذكر عظمته بقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.
(1236) وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«يَقْبِضُ اللهُ الأرض يومَ القيامة ويَطْوي السماءَ بيمينه، ثم يقول: أنا الملِك، أين ملوكُ الأرض؟» .
(1237) وأخرجا من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يطوي الله عزّ وجلّ السموات يومَ القيامة، ثم يأخذُهُنَّ بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملِك، أين الجبّارون، أين المتكبِّرون؟» . قال ابن عباس: الأرضُ والسموات كلُّها بيمينه. وقال سعيد بن جبير: السموات قَبْضَةٌ والأرضون قبضة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 70]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «فصُعِقَ» بضم الصاد مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي: ماتوا من الفزع وشِدَّة الصَّوت. وقد بيَّنّا هذه الآية والخلاف في الذين استُثنوا في سورة النمل «2» . ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى وهي نفخة البعث فَإِذا هُمْ يعني الخلائق قِيامٌ يَنْظُرُونَ. قوله تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي: أضاءت. والمراد بالأرض:
عَرَصات القيامة. قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فيه قولان: أحدهما: كتاب الأعمال، قاله قتادة، ومقاتل. والثاني: الحساب، قاله السدي. وفي الشهداء قولان: أحدهما: أنهم الذين يَشْهَدونَ على الناس بأعمالهم، قاله الجمهور. ثم فيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم المُرْسَلون من الأنبياء. والثاني:
أمَّة محمد يَشهدونَ للرُّسل بتبليغ الرِّسالة، وتكذيبِ الأُمم إيّاهم، رويا عن ابن عباس رضي الله عنه.
والثالث: الحفظه، قاله عطاء. الرابع: النّبيّون والملائكة وأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم والجوارح، قاله ابن زيد.
والثاني: أنهم الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، قاله قتادة، والأول أصح. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي: جزاء عملها وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ أي: لا يَحتاجُ إلى كاتب ولا شاهد.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 6519 ومسلم 2787 وأبو يعلى 5850 من طريق ابن المبارك به عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري 7382 والنسائي في «التفسير» 475 وابن ماجة 192 من طريق ابن وهب عن يونس به.
وأخرجه البخاري 4812 والدارمي 2/ 325 من طريقين عن الزهري: سمعت أبا سلمة، سمعت أبا هريرة ...
صحيح. أخرجه مسلم 2788 ح 24 وأبو داود 4732 وأبو يعلى 5558 وابن أبي عاصم في «السنة» 547 والطبري 30228 وأبو الشيخ في «العظمة» 139 من طرق عن أبي أسامة به. وذكره البخاري 7413 تعليقا عن عمر بن حمزة به. وأخرجه مسلم 2788 وابن ماجة 198 و 4275 والطبري 30223 والطبراني 13327 وأبو الشيخ في «العظمة» 131 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 72- 73 وابن حبان 7324 من طرق عن أبي حازم عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر به.
__________
(1) الأنعام: 91.
(2) النمل: 87.(4/26)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 75]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً قال أبو عبيدة: الزُّمَر: جماعاتٌ في تفرقة بعضُهم على إِثر بعض، واحدها: زُمْرة. قوله تعالى: رُسُلٌ مِنْكُمْ أي: أنفسكم. وكَلِمَةُ الْعَذابِ هي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1» . قوله تعالى: فُتِحَتْ أَبْوابُها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «فتّحت» «وفتّحت» مشدَّدتين، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بالتخفيف. وفي هذه الواو ثلاثة أقوال: أحدها: أنها زائدة، روي عن جماعة من اللُّغويين منهم الفراء. والثاني: أنها واو الحال فالمعنى: جاءوها وقد فُتحتْ أبوابُها، فدخلت الواو لبيان أن الأبواب كانت مفتَّحةٍ قبل مجيئهم، وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مُغْلَقةً قبل مجيئهم، ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ أهل الجنّة جاءوها وقد فُتحت أبوابُها ليستعجلوا السُّرور والفرح إِذا رأَوا الأبواب مفتَّحةً، وأهل النار يأتونها وأبوابُها مُغلَقة ليكون أشدَّ لحرِّها، ذكره أبو إِسحاق ابن شاقْلا من أصحابنا. والثاني: أن الوقوف على الباب المغلق نوعُ ذُلٍّ، فصِينَ أهلُ الجنة عنه، وجعل في حق أهل النار، ذكره لي بعض مشايخنا والثالث: أنه لو وَجَدَ أهلُ الجنة بابها مُغلَقاً لأثَّر انتظارُ فَتْحه في كمال الكَرَم، ومن كمال الكَرَم غَلْقُ باب النّار إِلى حين مجيء أهلها، لأن الكريم يعجِّل المثوبة، ويؤخِّر العقوبة، وقد قال عزّ وجلّ: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ «2» قال المصنف: هذا وجهٌ خطر لي. والقول الثالث: أن الواو زِيدتْ، لأنَّ أبواب الجنة ثمانيةٌ، وأبواب النار سبعةٌ، والعرب تَعْطِفُ في العدد بالواو على ما فوق السبعة على ما ذكرناه في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «3» ، حكى هذا القول والذي قبله الثعلبي. واختلف العلماء أين جوابُ هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الجواب محذوف، قاله أبو عبيدة، والمبرِّد، والزجّاج في آخرين. وفي تقدير هذا المحذوف قولان: أحدهما: أن تقديره: حَتَّى إِذا جاؤُها إِلى آخر الآية ... سُعِدوا، قاله المبرِّد.
والثاني: حَتَّى إِذا جاؤُها إلى قوله تعالى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ.. دخلوها، وإِنما حُذف، لأن في الكلام دليلاًَ عليه، وهذا اختيار الزجاج. والقول الثاني: أن الجواب: قال لهم خزنتُها، والواو زائدة، ذكره الأخفش، قال: ومثله في الشِّعر.
__________
(1) الأعراف: 18.
(2) النساء: 147.
(3) الكهف: 22.(4/27)
فإذا وذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ ... إِلاَ كَلَمَّةِ حالِمٍ بخَيالِ «1»
أي: فإذا ذلك. والثالث: الجواب: حتى إذا جاءوها فُتحتْ أبوابُها، والواو زائدة، حكاه الزجاج عن قوم من أهل اللغة.
وفي قوله تعالى: طِبْتُمْ خمسة أقوال: أحدها: أنهم إذا انْتَهَوا إِلى باب الجنة وَجدوا عند بابها شجرةً يَخرج من تحت ساقها عينان، فيَشربون من إِحداهما، فلا يبقى في بطونهم أذىً ولا قذىً إِلاّ خرج، ويغتَسلون من الأُخرى، فلا تَغْبَرُّ جلودُهم ولا تَشَعَّثُ أشعارُهم أبداً. حتى إِذا انتَهَوْا إِلى باب الجنة قال لهم عند ذلك خزنتها: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ» ، رواه عاصم بن ضمرة عن علي رضى الله عنه «2» ، وقد ذكرنا في الأعراف «3» نحوه عن ابن عباس. والثاني: طاب لكم المقام، قاله ابن عباس.
والثالث: طِبْتُم بطاعة الله، قاله مجاهد. والرابع: أنهم طُيِّبوا قَبْلَ دخول الجنة بالمغفرة، واقتُصَّ من بَعْضِهم لِبَعْض، فلمّا هُذِّبوا قالت لهم الخََزَنَةُ: طِبْتُم، قاله قتادة «4» . والخامس: كنتم طيّبين في الدُّنيا، قاله الزجاج. فلمّا دخَلوها قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة نتبوَّأ منها حيثُ نشاء منها أي: نَتَّخِذُ فيها من المنازل ما نشاء. وحكى أبو سليمان الدمشقي أن أُمَّة محمد صلّى الله عليه وسلّم يدخلون الجنة قبل الأمم، فينزلون منها حيث شاؤوا، ثم تنزل الأُمم بعدهم فيها، فلذلك قالوا: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ يقول الله عزّ وجلّ: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي: نِعْمَ ثوابُ المُطِيعِينَ في الدُّنيا الجنة.
قوله تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ: أي مُحْدِقِينَ به، يُقال: حَفَّ القومُ بفلانٍ: إِذا أَحْدَقوا به ودخلتْ «مِنْ» للتوكيد، كقولك: ما جاءني من أحدٍ. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قال السدي، ومقاتل: بأَمْرِ ربِّهم. وقال بعضهم: يُسَبِّحونَ بالحمد له حيث دخل الموحِّدون الجنة. وقال ابن جرير: التَّسبيح هاهنا بمعنى الصَّلاة.
قوله تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: بينَ الخلائق بِالْحَقِّ أي: بالعَدْلِ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا قول أهل الجنة شُكْراً لله تعالى على إِنعامه. قال المفسِّرون: ابتدأ اللهُ ذِكْرَ الخَلْق بالحَمْدِ فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «5» وختم غاية الأمر- وهو استقرار الفريقين في منازلهم- بالحمد لله بهذه الآية، فنبَّه على تحميده في بداية كلّ أمر وخاتمته.
__________
(1) البيت لتميم بن مقبل، وهو في ديوانه 259.
(2) أخرجه الطبري 30254 وابن المبارك في «الزهد» ص 509- 510 والبيهقي في «البعث» 272 عن عاصم عن علي، وإسناده لا بأس به.
(3) الأعراف: 44.
(4) ورد في هذا المعنى حديث أخرجه البخاري 2440 و 6535 وابن أبي عاصم 85 وابن مندة في «الإيمان» 838 واستدركه الحاكم 2/ 354 وابن حبان 7434 كلهم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«يخلص المؤمنون من النار منحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا أذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدكم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا» لفظ البخاري. وانظر «تفسير القرطبي» 5340 بتخريجنا. [.....]
(5) الأنعام: 1.(4/28)
سورة الغافر
قال أبو سليمان الدّمشقي: ويقال لها: سورة الطّول «1» . وهي مكّيّة! قاله ابن عباس، والحسن:
ومجاهد، وعكرمة، وقتادة. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنّ فيها آيتين نزلتا بالمدينة: قوله: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ والتي بعدها «2» . قال الزّجّاج: وذكر أنّ الحواميم كلّها نزلت بمكّة.
قال ابن قتيبة: يقال: إنّ «حم» اسم من أسماء الله أضيفت هذه السّورة إليه. كأنه قيل: سورة الله، لشرفها وفضلها، فقيل: آل حاميم، وإن كان القرآن كلّه سور الله، وإنّ هذا كما يقال: بيت الله، وحرم الله، وناقة الله، قال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأوّلها منّا تقيّ ومعرب «3»
وقد تجعل «حم» اسما للسّورة، ويدخل الإعراب ولا يصرف، ومن قال هذا في الجميع:
الحواميم، كما يقال: «طس» والطّواسين. وقال محمّد بن القاسم الأنباري: العرب تقول: وقع في الحواميم، وفي آل حميم، أنشد أبو عبيدة:
حلفت بالسّبع اللّواتي طوّلت ... وبمئين بعدها قد أمئيت
وبمثان ثنّيت فكررت ... وبالطّواسين اللّواتي ثلّثت
وبالحواميم اللّواتي سبّعت
فمن قال: وقع في آل حاميم، جعل حاميم اسما لكلّهنّ ومن قال: وقع في الحواميم، جعل «حم» كأنه حرف واحد بمنزلة قابيل وهابيل.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: من الخطأ أن تقول: قرأت الحواميم، وليس من كلام العرب، والصّواب أن تقول: قرأت آل حاميم. وفي حديث ابن مسعود: «إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات» «4» ، وقال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آية
__________
(1) ويقال لها: سورة المؤمن.
(2) غافر: 35- 36.
(3) البيت في «الكتاب» 2/ 30 و «مجاز القرآن» 2/ 193 و «اللسان» - عرب-.
(4) في «اللسان» الدّمث: المكان اللين ذو رمل.(4/29)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
وفي (حم) أربعة أقوال «1» : أحدها: قَسَم أَقْسَمَ الله به وهو من أسمائه عزّ وجلّ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس: قال أبو سليمان: وقد قيل: إن جواب القسم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ «2» . والثاني: أنها حروف من أسماء الله عزّ وجلّ، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن «آلر» و «حم» و «ن» حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أن الحاء مفتاح اسمه «حميد» ، والميم مفتاح اسمه «مجيد» ، قاله أبو العالية. والثالث: أن الحاء مفتاح كل اسم لله ابتداؤه حاء، مثل «حكيم» ، و «حليم» ، و «حيّ» ، والميم مفتاح كلِّ اسمٍ له ابتداؤه ميم مثل «ملك» ، و «متكبِّر» ، و «مَجيد» ، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وروي نحوه عن عطاء الخراساني. والثالث: أن معنى «حم» :
قُضِيَ ما هو كائن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. ورُوي عن الضحاك والكسائي مثل هذا، كأنهما أرادا الإِشارة إلى حُمَّ، بضم الحاء وتشديد الميم. قال الزجاج: وقد قيل في «حم» : حُمَّ الأمر. والرابع: أن «حم» اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وقرأ ابن كثير: «حم» بفتح الحاء وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: بكسرها واختلف عن الباقين. قال الزجاج: أمّا الميم فساكنة في قراءة القُرّاء كلّهم إلّا عيسى بن عمر، فإنه فتحها وفتحها على ضربين. أحدهما: أن يجعل «حم» اسماً للسُّورة، فينصبه ولا ينوِّنه، لأنه على لفظ الأسماء الأعجمية نحو هابيل وقابيل. والثاني: على معنى: اتْلُ حم والأجود أن يكون فتح لالتقاء الساكنين حيث جعله اسماً للسُّورة، ويكون حكاية حروف الهجاء.
قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي: هذا تنزيلُ الكتاب. والتَّوْبُ: جمع تَوْبَة، وجائز أن يكون مصدراً من تاب يَتُوب تَوْبا. والطوَّل: الفَضْل. قال أبو عبيدة: يقال: فلان ذو طَوْل على قومه، أي: ذو فَضْل. وقال ابن قتيبة: يقال: طُلْ عليَّ يرحمك الله، أي: تَفَضَّلْ. قال الخطابي: ذو: حرف النِّسبة، والنّسبة في كلامهم على ثلاثة أوجه: بالياء، كقولهم: أسديّ، وبكريّ. والثاني: على الجمع، كقولهم: المَهالبة، والمسامعة، والأزارقة. والثالث: ب «ذي» و «ذات» ، كقولهم: رجُل مال، أي: ذو مال، وكبش صاف، أي: ذو صوف، وناقة ضامر، أي: ذات ضُمر، فقوله: ذو الطَّوْل، معناه: أهْل الطّول والفضل.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 38: والقول عندي في ذلك نظير القول في أخواتها، وقد بيّنا ذلك في قوله تعالى (الم) ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع، إذ كان القول في (حم) وجميع ما جاء في القرآن على هذا الوجه، أعني حروف التهجي قولا واحدا. اه.
(2) غافر: 10.(4/30)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
[سورة غافر (40) : الآيات 4 الى 6]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
قوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي: ما يُخاصم فيها بالتكذيب لها ودفعها بالباطل إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وباقي الآية في آل عمران «1» والمعنى: إنّ عاقبة أمرهم إلى العذاب كعاقبة مَنْ قَبْلَهم.
قوله تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ فيه قولان: أحدهما: ليقتُلوه، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: ليحبِسوه ويعذِّبوه، ويقال للأسير: أخيذٌ، حكاه ابن قتيبة. قال الأخفش: وإِنما قال:
«ليأخُذوه» فجمع على الكلِّ، لأن الكلَّ مذكَّر ومعناه معنى الجماعة. وما بعد هذا مفسَّر في الكهف «2» إلى قوله تعالى: فَأَخَذْتُهُمْ أي: عاقبتهم وأهلكتم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم وَكَذلِكَ أي: مِثْل الذي حَقَّ على الأُمم المكذِّبة حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بالعذاب، وهي قوله عزّ وجلّ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «3» ، عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك. وقرأ نافع، وابن عامر: «حَقَّتْ كَلِماتُ ربِّكَ» ، أَنَّهُمْ قال الأخفش: لأنهم أو بأنّهم أَصْحابُ النَّارِ.
[سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
ثم أخبر بفضل المؤمنين فقال: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهم أربعة أملاك، فإذا كان يوم القيامة جُعلوا ثمانيةً وَمَنْ حَوْلَهُ قال وهب بن منبِّه: حَوْلَ العرش سبعون ألف صفٍّ من الملائكة يطوفون به، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صفٍّ من الملائكة ليس فيِهم أحد إلاّ وهو يسبِّح بما لا يسبِّحه الآخر. وقال غيره: الذين حول العرش هم الكروبيّون وهم سادة الملائكة. وقد ذكرنا في السّورة المتقدّمة معنى قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ «4» . قوله تعالى: رَبَّنا أي يقولون: ربَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً قال الزجاج: هو منصوب على التمييز. وقال غيره: المعنى: وَسِعَتْ رحمتُك وعِلْمُك كلَّ شيء فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا من الشِّرك وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وهو دين الإِسلام. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ قال قتادة: يعني العذاب.
[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ قال المفسّرون «5» : لمّا رأوا أعمالهم
__________
(1) آل عمران: 196.
(2) الكهف: 56.
(3) الأعراف: 18.
(4) الزمر: 75.
(5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 87: يقول تعالى مخبرا عن الكفار: أنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظّون، وذلك عند ما باشروا من عذاب الله ما لا قبل لأحد به، فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة، التي كانت سبب دخولهم إلى النار: فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا نادوهم نداء بأن مقت الله لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الإيمان، فيكفرون، أشد من مقتكم، أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة.(4/31)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
وأُدخِلوا النّارِ مَقَتُوا أنفُسَهم لِسُوءِ فِعْلِهم، فناداهم مُنادٍ: لَمَقْتُ الله إيّاكم في الدُّنيا: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أكبرُ مِنْ مقتكم أنفُسكم. ثم أخبر عما يقولون في النار بقوله تعالى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ وهذا مثل قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «1» وقد فسَّرناه هنالك. قوله تعالى: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ أي: من النار إِلى الدنيا لنعملَ بالطاعة مِنْ سَبِيلٍ؟
وفي الكلام اختصار، تقديره: فَأُجيبوا أن لا سبيل إِلى ذلك وقيل لهم: ذلِكُمْ يعني العذاب الذي نزل بهم بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أي: إِذا قيل «لا إله إلا الله» أنكرَتم، وإن جُعل له شريكٌ آمنتم، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ فهو الذي حكم على المشركين بالنار، وقد بيَّنَّا في سورة البقرة «2» معنى العليّ، وفي الرّعد «3» معنى الكبير.
[سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 17]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ أي: مصنوعاته التي تَدُلُّ على وَحدانيَّته وقُدرته، والرِّزق هاهنا:
المطر، سمِّي رزقاً، لأنه سبب الأرزاق. و «يتذكَّر» بمعنى يَتَّعظ، و «يُنيب» بمعنى يَرْجِع إِلى الطاعة.
ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: موحِّدين.
قوله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ قال ابن عباس: يعني رافع السموات، وحكى الماوردي عن بعض المفسِّرين قال: معناه: عظيم الصِّفات. قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ أي: خالِقُه ومالِكُه. قوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه القرآن. والثاني: النُّبوّة. والقولان مرويّان عن ابن عباس. وبالأول قال ابن زيد، وبالثاني قال السدي. والثالث: الوحي قاله قتادة، وإِنما ُسمِّي القرآن والوحي روحاً، لأن قِوام الدِّين به كما أن قِوام البدن بالرُّوح. والرابع: جبريل، قاله الضحاك.
والخامس: الرَّحمة، حكاه إبراهيم الحربي. قوله تعالى: مِنْ أَمْرِهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مِنْ قضائه، قاله ابن عباس. والثاني: بأمره، قاله مقاتل. والثالث: من قوله تعالى، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني الأنبياء. لِيُنْذِرَ في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ. والثاني: النَّبيُّ الذي يوحى إليه. والمراد ب يَوْمَ التَّلاقِ: يوم القيامة وأثبت ياء «التلاقي» في الحالين ابن كثير ويعقوب، وأبو جعفر وافقهما في الوصل والباقون بغير ياءٍ في الحالَيْن. وفي سبب تسميته بذلك خمسة أقوال: أحدها: أنه يلتقي فيه أهل السماء والأرض، رواه يوسف بن مهران عن ابن
__________
(1) البقرة: 28.
(2) البقرة: 255. [.....]
(3) الرعد: 9.(4/32)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
عباس: والثاني: يلتقي فيه الأوَّلون والآخِرون، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: يلتقي فيه الخلق والخالق، قاله قتادة ومقاتل. والرابع: يلتقي المظلوم والظالم، قاله ميمون بن مهران. والخامس: يلتقي المرءُ بعمله، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي: ظاهِرون من قُبورهم لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ. فإن قيل:
فهل يَخْفَى عليه منهم اليوم شيء؟. فالجواب: أنْ لا، غير أن معنى الكلام التهديد بالجزاء وللمفسِّرين فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يَخْفَى عليه ممّا عَمِلوا شيءٌ، قاله ابن عباس. والثاني: لا يَستترونَ منه بجبل ولا مَدَر، قاله قتادة. والثالث: أن المعنى: أَبْرَزهم جميعاً، لأنه لا يَخْفَى عليه منهم شيء، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ اتفقوا على أن هذا يقوله الله عزّ وجلّ بعد فَناء الخلائق.
واختلفوا في وقت قوله عزّ وجلّ له على قولين: أحدهما: أنه يقوله عند فَناء الخلائق إِذا لم يبق مجيب.
فيَرُدّ هو على نفسه فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، قاله الأكثرون. والثاني: أنه يقوله يوم القيامة. وفيمن يُجيبه حينئذ قولان: أحدهما: أنه يُجيب نفسه وقد سكت الخلائق لقوله تعالى قاله عطاء. والثاني: أن الخلائق كلَّهم يُجيبونه فيقولون: «للهِ الواحدِ القهارِ» ، قاله ابن جريج.
[سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 19]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ فيه قولان: أحدهما: أنه يومُ القيامة، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة: وسميت القيامة بذلك لقُربها، يقال: أَزِفَ شُخوص فلان، أي: قَرُبَ. والثاني: أنه يومُ حُضور المنيَّة، قاله قطرب. قوله تعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ وذلك أنها ترتقي إِلى الحناجر فلا تخرُج ولا تعود، هذا على القول الأول، وعلى الثاني: القلوب هي النُّفوس تبلغ الحناجرَ عند حضور المنيَّة قال الزّجّاج: وكاظِمِينَ منصوب على الحال، والحال محمولة على المعنى لأن القلوب لا يقال لها: كاظمين، وإِنما الكاظمون أصحاب القلوب فالمعنى: إِذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كَظْمهم. قال المفسِّرون: «كاظِمِين» أي: مغمومين ممتلئين خوفاً وحزناً، والكاظم: المُمْسِك للشيء على ما فيه، وقد أشرنا إلى هذا عند قوله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «1» . ما لِلظَّالِمِينَ يعني الكافرين مِنْ حَمِيمٍ أي: قريب ينفعُهم وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فيهم فتُقْبَل شفاعتُه. يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ قال ابن قتيبة: الخائنة والخيانة واحد. وللمفسرين فيها أربعة أقوال: أحدها: أنه الرجُل يكون في القوم فتمرُّ به المرأة فيُريهم أنه يغُضُّ بصره، فإذا رأى منهم غفلةً لَحَظَ إِليها، فإن خاف أن يَفْطنُوا له غَضَّ بصره، قاله ابن عباس. والثاني: أنه نظر العين إِلى ما نُهي عنه، قاله مجاهد. والثالث: الغمز بالعين، قاله الضحاك والسدي. قال قتادة: هو الغمز بالعين فيما لا يُحِبُّه الله ولا يرضاه. والرابع: النظرة بعد النظرة، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَما تُخْفِي الصُّدُورُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما تُضْمِره من الفعل أن لو قَدَرْتَ على ما نَظَرْتَ إِليه، قاله ابن عباس. والثاني: الوسوسة، قاله السدي. والثالث: ما
__________
(1) آل عمران: 134.(4/33)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
يُسِرُّه القلب من أمانة أو خيانة، حكاه الماوردي.
[سورة غافر (40) : الآيات 20 الى 25]
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24)
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي: يحكمُ به فيَجزي بالحسنة والسَّيِّئة. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الآلهة. وقرأ نافع، وابن عامر: «تَدْعُونَ» بالتاء، على معنى: قُلْ لهم: لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ أي: لا يَحْكُمونَ بشيء ولا يجازون به وقد نبّه الله عزّ وجلّ بهذا على أنه حَيٌّ، لأنه إِنما يأمُر ويَقضي من كان حيّاً، وأيَّد ذلك بذِكْر السَّمع والبصر، لأنهما إنما يثبُتان لحيٍّ، قاله أبو سليمان الدمشقي. وما بعد هذا قد تقدّم بعضه «1» . وبعضه ظاهر إلى قوله تعالى: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وقرأ ابن عامر: «أشَدَّ مِنْكُمْ» بالكاف، وكذلك هو في مصاحفهم، وهو على الانصراف من الغَيْبَة إلى الخطاب، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ أي: من عذاب الله مِنْ واقٍ يقي العذاب عنهم. ذلِكَ أي: ذلك العذاب الذي نزل بهم بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ... إلى آخر الآية. ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا.
وأراد بقوله تعالى: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أعيدوا القتل عليهم كما كان أوّلاً، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كان فرعون قَدْ كف َّعن قتل الوِلْدانِ، فلمّا بَعَثَ اللهُ موسى، أعاد عليهم القتل لِيصُدَّهم بذلك عن متابعة موسى. قوله تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: إنه يَذْهَب باطلاً ويَحيق بهم ما يريده الله عزّ وجلّ.
[سورة غافر (40) : الآيات 26 الى 34]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)
__________
(1) يوسف: 109.(4/34)
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وإنما قال هذا، لأنه كان في خاصَّة فرعونَ مَنْ يَمْنَعُه مِنْ قَتْله خوفاً من الهلاك وَلْيَدْعُ رَبَّهُ الذي يزعُم أنه أرسله فلْيمنعه من القتل إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أي: عبادتكم إيّاي أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
«وأن» بغير ألف. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «أو أن» بألف قبل الواو، على معنى: إن لم يبدِّل دِينَكم أوْقَعَ الفسادَ، إلاّ أن نافعاً وأبا عمرو قرآ: «يُظْهِرَ» بضم الياء «الفسادَ» بالنصب. وقرأ الباقون:
«يَظْهَرَ» بفتح الياء «الفسادُ» بالرفع، والمعنى: يظهر الفساد بتغيير أحكامنا، فجعل ذلك فساداً بزعمه وقيل: يقتل أبناءَكم كما تفعلون بهم.
فلمّا قال فرعونُ هذا، استعاذ موسى بربّه فقال: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر: «عُذْتُ» مبيَّنة الذّال، وأدغمها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي: متعظّم عن الإِيمان. فقصد فرعونُ قتل موسى، فقال حينئذ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وفي الآل هاهنا قولان «1» : أحدهما: أنه بمعنى الأهل والنَّسب، قال السدي ومقاتل: كان ابنَ عمّ فرعون، وهو المراد بقوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى «2» . والثاني:
أنه بمعنى القبيلة والعشيرة، قال قتادة ومقاتل: كان قبطيّاً. وقال قوم: كان إسرائيليّاً، وإنما المعنى: قال رجل مؤمن يكتُم إيمانَه من آل فرعون. وفي اسمه خمسة أقوال: أحدها: حزبيل، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: حبيب، قاله كعب. والثالث: سمعون، بالسين المهملة، قاله شعيب الجبّائي. الرابع:
جبريل. والخامس: شمعان، بالشين المعجمة، رويا عن ابن إسحاق، وكذلك حكى الزجاج «شمعان» بالشين، وذكره ابن ماكولا بالشين المعجمة أيضاً. والأكثرون على أنه آمن بموسى لمّا جاء. وقال الحسن: كان مؤمناً قبل مجيء موسى. وكذلك امرأة فرعون، قال مقاتل: كتم إيمانه من فرعون مائة سنة.
قوله تعالى: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ أي: لأن يقولَ رَبِّيَ اللَّهُ وهذا استفهام إنكار وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بما يدُلُّ على صِدقه وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أي لا يضرُّكم ذلك وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ من العذاب. وفي «بَعْض» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «كُلّ» ، قاله أبو عبيدة، وأنشد للبيد:
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 92: المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطيا من آل فرعون قال السدي: كان ابن عم فرعون، ويقال: إنه الذي نجا مع موسى، واختاره ابن جرير، ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيليا، لأن فرعون انفعل لكلامه واستحقه، وكف عن قتل موسى عليه السلام، ولو كان إسرائيليا لأوشك أن يعاجل له بالعقوبة، لأنه منهم.
(2) القصص: 20.(4/35)
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذا لَمْ أَرْضَها ... أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
أراد: كُلَّ النفُّوس. والثاني: أنها صِلَة، والمعنى: يُصِبْكم الذي يَعِدُكم، حُكي عن الليث.
والثالث: أنها على أصلها، ثم في ذلك قولان أحدهما: أنه وعدهم النجاةَ إن آمنوا، والهلاكَ إن كفروا، فدخل ذِكْر البعض لأنهم على أحد الحالين. والثاني: أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، فصار هلاكُهم في الدنيا بعضَ الوَعْد، ذكرهما الماوردي.
قال الزجاج: هذا باب من النظر يذهب فيه المُناظِر إلى إلزام الحُجَّة بأيسر ما في الأمر، وليس في هذا نفي إصابة الكلِّ، ومثله قول الشاعر:
قَدْ يُدْرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مِنَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ «1»
وإنما ذكر البعض ليوجبَ الكلَّ، لأن البعض من الكلّ، ولكن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزَّلل، فقد أبان فَضْلَ المتأنِّي على المستعجِل، بما لا يَقْدِر الخصم أن يدفعه، فكأنَّ المؤمن قال لهم: أَقَلْ ما يكون في صِدقه أن يُصيبَكم بعضُ الذي يَعِدُكم وفي بعض ذلك هلاككم، قال: وأما بيت لبيد: فإنه أراد ببعض النفوس: نَفْسَه وحدها.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي: لا يوفِّق للصَّواب مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ وفيه قولان:
أحدهما: أنه المشرك، قاله قتادة. والثاني: أنه السَّفَّاك الدّم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي: عالِين في أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا أي: من يَمْنَعُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ أي: من عذابه والمعنى: لا تتعرَّضوا للعذاب بالتكذيب وقَتْل النَّبيِّ فقال فرعونُ عند ذلك: ما أَراكُمْ من الرّأي والنّصيحة إِلَّا ما أَرى لنفسي وَما أَهْدِيكُمْ أي: أدعوكم إلاّ إلى طريق الهُدى في تكذيب موسى والإيمان بي، وهذا يَدُلُّ على أنه انقطع عن جواب المؤمِن. وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ قال الزجّاج: أي: مِثْلَ يَوْمِ حزب حزب والمعنى:
أخاف أن تُقيموا على كفركم فينزلَ بكم من العذاب مِثْلُ ما نزل بالأُمم المكذِّبة رسلهم. قوله تعالى:
يَوْمَ التَّنادِ قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «التَّنادِ» بغير ياءٍ. وأثبت الياء في الوصل والوقف ابن كثير، ويعقوب، وافقهم أبو جعفر في الوصل. وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وأبو العالية، والضحاك: «التَّنادِّ» بتشديد الدال. قال الزجاج:
أمّا إثبات الياء فهو الأصل، وحذفها حسن جميل، لأن الكسرة تدُلُّ على الياء، وهو رأس آية، وأواخر هذه الآيات على الدَّال، ومن قرأ بالتشديد، فهو من قولهم: نَدَّ فلان، ونَدَّ البعير: إِذا هرب على وجهه، ويدل على هذا قوله: «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» وقوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ «2» قال أبو علي: معنى الكلام: إنِّي أخاف عليكم عذاب يوم التَّناد. قال الضحاك: إذا سمع الناسُ زفير جهنم وشهيقها نَدُّوا فِراراً منها في الأرض، فلا يتوجَّهونُ قطراً من أقطار الأرض إلا رأوْا ملائكة، فيرجعون من حيث جاءوا. وقال غيره: يُؤمَر بهم إلى النار فيَفِرُّون ولا عاصم لهم. فأمّا قراءة التخفيف، فهي من النّداء، وفيها للمفسرين أربعة أقوال: أحدها: أنه عند نفخة الفزع ينادي الناسُ بعضهم بعضا.
__________
(1) البيت للقطامي، واسمه عمير.
(2) عبس: 34.(4/36)
(1238) روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يأمر الله عزّ وجلّ إِسرافيلَ بالنَّفخة الأولى فيقول: انفُخْ نفخةَ الفزع، فيفزَعُ أهلُ السموات والأرض إِلاّ من شاء الله، فتُسيَّر الجبالُ، وتُرَجُّ الأرض، وتَذْهَلُ المراضعُ، وتضع الحواملُ، ويولِّي الناس مُدْبِرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو قوله:
«يَوْمَ التَّنادِ» .
والثاني: أنه نداء أهل الجنة والنار بعضهم بعضاً كما ذكر في الأعراف «1» ، وهذا قول قتادة.
والثالث: أنه قولهم: يا حسرتنا، يا ويلتنا، قاله ابن جريج. والرابع: أنه ينادى فيه كلُّ أُناس بإمامهم بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء.
قوله تعالى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ فيه قولان: أحدهما: هرباً من النار. والثاني: أنه انصرافهم إلى النّار. قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي: من مانع.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ وهو يوسف بن يعقوب، ويقال: إنه ليس به، وليس بشيء. قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قَبْلِ موسى بِالْبَيِّناتِ وهي الدّلالات على التوحيد، كقوله تعالى: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ ... الآية «2» ، وقال ابن السائب: البيِّنات: تعبير الرُّؤيا وشَقُّ القميص،
__________
هو بعض حديث الصور الطويل: أخرجه الطبراني في «الطوال» 36 وأبو الشيخ في «العظمة 388 و 389 و 390 والبيهقي في «البعث» 668 و 669 والطبري 2/ 330 و 331 و 17/ 10 و 24/ 30 و 61 و 30/ 26 31- 32. وإسحاق بن راهوية كما في «المطالب العالية» 2991 من طرق عن إسماعيل بن رافع، وهو واه، فرواه تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، وتارة عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد، وهو واه. جاء في «الميزان» 872: ضعفه أحمد ويحيى وجماعة، وقال الدارقطني وغيره: متروك وقال ابن عدي: أحاديثه كلها مما فيه نظر اه باختصار وقد اضطرب فيه فرواه عن مجهول عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، ومرة عن محمد بن كعب عن مجهول عن أبي هريرة، وتارة بدون واسطة وقد نص الحفاظ على وهن هذا الحديث بطوله. فقال الحافظ في «المطالب العالية» 2991: فيه ضعف اه وقال البوصيري في 1/ 21: تابعيه مجهول، وجاء في «الفتح» 11/ 368- 369 عقب حديث 6518 ما ملخصه: وأخرجه عبد بن حميد وأبو يعلى في «الكبير» وعلي بن معبد في «الطاعة والمعصية» ومداره على إسماعيل بن رافع، واضطرب في سنده مع ضعفه، فرواه تارة عن القرظي بلا واسطة، وتارة بذكر رجل مبهم بينهما، وتارة عن القرظي عن أبي هريرة، وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في «تفسيره» عن محمد بن عجلان عن محمد القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع، وخفي عليه أن الشامي أضعف منه، ولعله سرقه من إسماعيل، فلزقه بابن عجلان وقد قال الدارقطني: يضع الحديث. وقال الحافظ ابن كثير: جمعه إسماعيل بن رافع من عدة آثار فساقه كله مساقا واحدا. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع: القاضي: أبو بكر العربي في «سراجه» وتبعه القرطبي في «التذكرة» وقول عبد الحقّ في تضعيفه أولى، وضعفه قبله البيهقي اه كلام الحافظ.
وتكلم عليه أيضا ابن كثير رحمه الله في «نهاية البداية» 2/ 223- 224 وخلاصة القول أنه حديث ضعيف بتمامه، وبعض ألفاظه في الصحيحين، وغيرهما، وبعضه في الكتب المعتبرة. وبعضه الآخر منكر لا يتابع عليه. وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 190 بتخريجنا.
__________
(1) الأعراف: 44، 50.
(2) يوسف: 39.(4/37)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
وقيل: بل بعثه الله تعالى بعد موت ملِك مصر إلى القبط. قوله تعالى: فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ أي: من عبادة الله وحده حَتَّى إِذا هَلَكَ أي: مات قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أي: إنكم أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدِّد إِيجابَ الحجة عليكم كَذلِكَ أي: مِثْل هذا الضَّلال يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ أي: مُشْرِكٌ مُرْتابٌ أي: شاكّ في التوحيد وصدق الرّسل.
[سورة غافر (40) : الآيات 35 الى 37]
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُجادِلُونَ قال الزجاج: هذا تفسير المسرف المرتاب، والمعنى: هُمْ الذين يجادِلونَ في آيات الله. قال المفسرون: يجادِلونَ في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان، أي: بغير حُجَّة أتتهم من الله. كَبُرَ مَقْتاً أي: كَبُرَ جدالُهم مَقْتاً عند الله وعند الذين آمنوا، والمعنى: يَمْقُتهم الله ويَمْقُتهم المؤمنون بذلك الجدال. كَذلِكَ أي: كما طَبَع اللهُ على قلوبهم حتى كذَّبوا وجادلوا بالباطل، يَطْبع عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ عن عبادة الله وتوحيده. وقد سبق بيان معنى الجبّار في هود «1» . وقرأ أبو عمرو: «على كلِّ قلبٍ» بالتنوين، وغيرُه من القرّاء السبعة يُضيفه. وقال أبو علي:
المعنى: يطبع على جملة القلب من المتكبِّر. واختار قراءة الإِضافة الزجاج، قال: لأن المتكبِّر هو الإِنسان لا القلب. فإن قيل: لو كانت هذه القراءة أصوب لتقدَّم القلبُ على الكُلِّ؟ فالجواب: أن هذا جائز عند العرب، قال الفراء: تقدُّم هذا وتأخُّره واحد، سمعتُ بعض العرب يقول: هو يرجِل شعره يومَ كل جمعة، يريد: كلَّ يوم جمعة، والمعنى واحد. وقد قرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني: «على قلبِ كلِّ متكبِّر» بتقديم القلب.
قال المفسرون: فلمّا وعظ المؤمنُ فرعونَ وزجره عن قتل موسى، قال فرعونُ لوزيره: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً وقد ذكرناه في القصص «2» . قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ قال ابن عباس وقتادة: يعني أبوابها. وقال أبو صالح: طرقها. وقال غيره: المعنى: لعلِّي أبلُغُ الطُّرق من سماءٍ الى سماءٍ. وقال الزجاج: لعلِّي أبلُغ ما يؤدِّيني إلى السموات. وما بعد هذا مفسَّر في القصص «3» إلى قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومِثْلُ ما وصفْنا زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عن سبيل الهدى. قرأ عاصم، وحمزة والكسائي: «وَصُدَّ» بضم الصاد، والباقون بفتحها، وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ في إبطال آيات موسى إِلَّا فِي تَبابٍ أي: في بطلان وخسران.
[سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 40]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)
__________
(1) هود: 59.
(2) القصص: 38.
(3) القصص: 38.(4/38)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
ثم عاد الكلامُ إلى نصيحة المؤمن لقومه، وهو قوله: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أي:
طريق الهدى، يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ يعني: الحياة في هذه الدار متاع يُتمتَّع بها أياماً ثم تنقطع وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ التي لا زوال لها. مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فيها قولان: أحدهما: أنها الشِّرك، ومثلها جهنم، قاله الأكثرون. والثاني: المعاصي، ومثلُها: العقوبةُ بمقدارها، قاله أبو سليمان الدمشقي. فعلى الأول، العمل الصالح: التوحيد، وعلى الثاني، هو علىٍ الإطلاق. قوله تعالى:
فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يُدخَلونَ» بضم الياء. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالفتح، وعن عاصم كالقراءتين. وفي قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ قولان: أحدهما:
أنهم لا تَبِعَةَ عليهم فيما يُعْطَون في الجنة، قاله مقاتل. والثاني: أنه يُصَبُّ عليهم الرِّزق صَبّاً بغير تقتير، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 46]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)
قوله تعالى: وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ أي ما لكم، كما تقول: ما لي أراك حزيناً، معناه: ما لك، ومعنى الآية: أخبِروني كيف هذه الحال، أدعوكم إِلَى النَّجاةِ من النار بالإِيمان وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ أي إلى الشِّرك الذي يوجب النّار؟! ثم فسَّر الدَّعوتَين بما بعد هذا.
ومعنى لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي: لا أعلم هذا الذي ادَّعَوْه شريكاً له. وقد سبق بيان ما بعد هذا «1» إلى قوله تعالى: لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ وفيه قولان: أحدهما: ليس له استجابة دعوة، قاله السدي. والثاني:
ليس له شفاعة، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي: مَرْجِعنا والمعنى أنه يجازينا بأعمالنا. وفي المُسْرِفين قولان قد ذكرناهما عند قوله عزّ وجلّ: مُسْرِفٌ كَذَّابٌ «2» .
قوله تعالى: فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني، وأبو رجاء: «فستَذَكَّرونَ» بفتح الذال وتخفيفها وتشديد الكاف وفتحها وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأيوب السختياني بفتح الذال والكاف وتشديدهما جميعاً. أي: إَذا نزل العذاب بكم، ما أقول لكم في الدنيا من النصيحة؟! وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي: أَرُدُّه، وذلك أنهم تواعدوه لمخالَفَتِهِ دينَهم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي: بأوليائه وأعدائه. ثم خرج المؤمن عنهم، فطلبوه فلم يقدروا عليه، ونجا مع
__________
(1) البقرة: 129، طه: 82.
(2) غافر: 28. [.....](4/39)
موسى لمّا عبر البحر، فذلك قوله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا أي: ما أرادوا به من الشَّرِّ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ لما لجوا في البحر سُوءُ الْعَذابِ قال المفسِّرون: هو الغرق. قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «1» ، قال ابن مسعود وابن عباس: إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يُعْرَضُونَ على النار كُلَّ يوم مرَّتين فيقال: يا آل فرعون هذه داركم. وروى ابن جرير قال: حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: حدثنا حماد بن محمد البلخي قال: سمعت الأوزاعي، وسأله رجل، فقال:
رأينا طيوراً تخرج من البحر فتأخذ ناحية الغرب بِيْضاً، فَوْجاً فَوْجاً، لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشيّ رجع مثلها سُوداً، قال: وفَطَنْتم إلى ذلك؟ قال: نعم، قال: إن تلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يُعْرَضُونَ على النار غدوّاً وعشيّاً، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداء، فينبُت عليها من الليل رياش بِيض، وتتناثر السود، ثم تغدو ويعرضون على النار غدوّاً وعشيّا، فذلك دأبها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله عزّ وجلّ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «2» .
(1239) وقد روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقْعَدُه بالغَداة والعشيّ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك اللهُ إليه يوم القيامة» .
وهذه الآية تدل على عذاب القبر، لأنه بيَّن ما لهم في الآخرة فقال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا
__________
صحيح. أخرجه البخاري 1379 ومسلم 2866 ح 65 والنسائي 4/ 107- 108 وأحمد 2/ 113 ومالك 1/ 239 والبغوي في «شرح السنة 1518 والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» 48 من طرق عن مالك به. وأخرجه البخاري 3240 و 6515 والترمذي 1072 والنسائي 4/ 107 وابن ماجة 4270 وأحمد 2/ 16 و 51 و 123 والطيالسي 1832 من طرق عن نافع به. وأخرجه مسلم 2866 ح 66 والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» 49 من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر به.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 96: وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا. ولكن هاهنا سؤال، وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية، وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ، والجواب: أن الآية دلّت على عرض الأرواح على النار غدوا وعشيا في البرزخ، وليس فيها دلالة على اتصال تألمها في القبور، إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح، فأما حصول ذلك للجسد وتألمه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث التي تدل أنه لا يلزم من ذلك أن يتصل بالأجساد في قبورها، فلما أوحي إليه في ذلك بخصوصيته استعاذ منه، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومن الأحاديث- حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود، وهي تقول:
أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم؟ فارتاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «إنما يفتن يهود» قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟» وقالت عائشة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد يستعيذ من عذاب القبر. هكذا رواه مسلم. وفي رواية البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها، أن يهودية دخلت عليها فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عذاب القبر؟ فقال: «نعم، عذاب القبر حق» . قالت عائشة: فما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد صلّى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر. وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا.
(2) أثر باطل. أخرجه الطبري 3037 وإسناده واه، عبد الكريم، قال عنه الذهبي في «الميزان» 2/ 644: فيه جهالة اه. وشيخه لم أجد له ترجمة، والأثر باطل.(4/40)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
قرأ ابن كثير، وابن عامر وأبو عمرو، وأبو بكر وأبان عن عاصم: «الساعةُ ادْخُلوا» بالضم، وضم الخاء على معنى الأمر لهم بالدخول، والابتداءُ على قراءة هؤلاء بضم الألف. وقرأ الباقون: بالقطع مع كسر الخاء على جهة الأمر للملائكة بإدخالهم، وهؤلاء يبتدئون بفتح الألف.
[سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 52]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
قوله تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ المعنى: واذكر لقومك يا محمد إذ يختصمون، يعني أهل النّار، والآية مفسّرة في إبراهيم «1» . والذين استكبروا هم القادة. ومعنى إِنَّا كُلٌّ فِيها أي: نحن وأنتم، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي: قضى هذا علينا وعليكم. ومعنى قول الخَزَنة لهم:
فَادْعُوا أي: نحن لا نَدْعو لكم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: إن ذلك يَبْطُل ولا يَنْفَع.
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك بإثبات حُججهم.
والثاني: بإهلاك عدوِّهم. والثالث: بأن العاقبة تكون لهم. وفصلُ الخطاب: أنّ نصرهم حاصل لا بدّ منه، فتارة يكون بإعلاءِ أمرهم كما أعطى داود وسليمان من المُلك ما قهرا به كلّ كافر، وأظهر محمّدا صلّى الله عليه وسلّم على مكذِّبيه، وتارة يكون بالانتقام من مكذِّبيهم بانجاء الرسل وإهلاك أعدائهم، كما فعل بنوح وقومه وموسى وقومه، وتارة يكون بالانتقام من مكذِّبيهم بعد وفاة الرُّسل، كتسليطه بختنصر على قَتَلَة يحيى بن زكريا. وأمّا نصرهم يوم يقوم الأشهاد، فإن الله منجيهم من العذاب، وواحد الأشهاد شاهد، كما أن واحد الأصحاب صاحب. وفي الأشهاد ثلاثة أقوال: أحدها: الملائكة، شهدوا للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأُمم بالتكذيب، قاله مجاهد، والسدي. قال مقاتل: وهم الحَفَظة من الملائكة.
والثاني: الملائكة والأنبياء، قاله قتادة. والثالث: أنهم أربعة: الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «تَنْفَعُ» بالتاء، والباقون بالياء لأن المعذرة والاعتذار بمعنى الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ أي: لا يُقْبَلُ منهم إن اعتذروا وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي: البُعد من الرَّحمة. وقد بيَّنّا في الرعد «2» أن «لهم» بمعنى «عليهم» ، وسُوءُ الدَّارِ: النّار.
[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 68]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
__________
(1) إبراهيم: 21.
(2) الرعد: 25.(4/41)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى من الضلالة، يعني التوراة وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ بعد موسى، وهو التوراة أيضا في قول الأكثرين، وقال ابن السائب: التوراة والإنجيل والزَّبور، والذِّكرى بمعنى التذكير. فَاصْبِرْ على أذاهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ في نصرك، وهذه الآية في هذه السّورة في موضعين «1» ، وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف. ومعنى «سَبّح» : صَلِّ. وفي المراد بصلاة العشيّ والإبكارِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس. والثاني: صلاة الغداة وصلاة العصر، قاله قتادة. والثالث: أنها صلاة كانت قبل أن تُفرض الصلوات، ركعتان غُدوةً، وركعتان عشيَّةً، قاله الحسن.
وما بعد هذا قد تقدم آنفا «2» إلى قوله: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ الآية، نزلت في قريش والمعنى: ما يَحْمِلُهم على تكذيبك إلاّ ما في صدورهم من التكبُّر عليك، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكِبْر، لأن الله تعالى مُذِلُّهم، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرِّهم ثم نبَّه على قدرته بقوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أي: من إعادتهم، وذلك لكثرة أجزائها وعظم جِرْمها، فنبَّههم على قُدرته على إعادة الخَلْق. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني الكفار حين لا يستدلّون بذلك على
__________
(1) غافر: 55، 77.
(2) غافر: 4.(4/42)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
التوحيد. وقال مقاتل «1» . عظمَّت اليهودُ الدجّالَ وقالوا: إن صاحبنا يُبعَث في آخر الزمان وله سلطان، فقال الله: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ لأن الدجّال من آياته، بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي: بغير حجة، فاستعذ بالله من فتنة الدجّال. قال: والمراد ب «خَلْق الناس» : الدجّال، وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والأول أصح «2» .
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فيه قولان: أحدهما: وحِّدوني واعبُدوني أثِبْكم، قاله ابن عباس. والثاني: سلوني أُعْطِكم، قاله السدي. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي فيه قولان: أحدهما: عن توحيدي. والثاني: عن دعائي ومسألتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو: «سيُدْخَلونَ» بضم الياء، والباقون بفتحها، والدّاخر:
الصّاغر. وما بعد هذا قد سبق في مواضع متفرّقة «3» إلى قوله: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وهو أجل الحياة إلى الموت وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ توحيدَ الله وقدرته.
[سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 74]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يعني القرآن، يقولون: ليس من عند الله، أَنَّى يُصْرَفُونَ أي: كيف صُرِفوا عن الحق إلى الباطل؟! وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم القَدَريَّة، ذكره جماعة من المفسرين، وكان ابن سيرين يقول: إن لم تكن نزلت في القَدَريَّة فلا أدري فيمن نزلت.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة:
«والسلاسلَ يَسحبونَ» بفتح اللام والياء. وقال ابن عباس: إذا سحبوها كان أشدَّ عليهم.
قوله تعالى: يُسْجَرُونَ قال مجاهد: توقدَ بهم النار فصاروا وَقودَها.
قوله تعالى: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مفسَّر في الأعراف «4» . وفي قوله: لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً قولان: أحدهما: أنهم أرادوا أن الأصنام لم تكن شيئاً، لأنها لم تكن تضُر ولا تنفع، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنهم قالوه على وجه الجحود، قاله أبو سليمان الدمشقي، كَذلِكَ أي: كما أضلَّ الله هؤلاء يضلّ الكافرين.
__________
(1) عزاه لمقاتل، وهو متروك متهم.
(2) مراد المصنف، أنها نزلت في قريش، هو الأصح. والله أعلم. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 100:
وقال كعب وأبو العالية: نزلت هذه الآية في اليهود. وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه، والله أعلم.
(3) يونس: 67، القصص: 73، الأنعام: 95، النمل: 61، الأعراف: 29، الحج: 5.
(4) الأعراف: 190.(4/43)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
[سورة غافر (40) : الآيات 75 الى 85]
ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79)
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
ذلِكُمْ العذاب الذي نزل بكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: بالباطل وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ وقد شرحنا المَرَح في بني إسرائيل «1» ، وما بعد هذا قد تقدَّم بتمامه «2» إلى قوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وذلك لأنهم كانوا يقترِحون عليه الآيات فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وهو قضاؤه بين الأنبياء وأممهم، والْمُبْطِلُونَ: أصحاب الباطل.
قوله تعالى: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي: حوائجكم في البلاد. قوله تعالى: أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
استفهام توبيخ. قوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ في «ما» قولان: أحدهما: أنها للنفي. والثاني: أنها للاستفهام، ذكرهما ابن جرير.
قوله تعالى: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الأُمم المكذِّبة، قاله الجمهور، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنهم قالوا: نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نُحَاسَبَ، قاله مجاهد. والثاني: فرحوا بما كان عندهم أنه عِلْم، قاله السدي. والقول الثاني: أنهم الرُّسل، والمعنى: فرح الرُّسل لمّا هلك المكذِّبون ونَجَوْا بما عندهم من العِلْم بالله إذ جاء تصديقُه، حكاه أبو سليمان وغيره. قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ يعني بالمكذِّبين العذاب الذي كانوا به يستهزئون.
والبأس: العذاب. ومعنى سُنَّتَ اللَّهِ: أنه سَنَّ هذه السُّنَّة في الأُمم، أي: أن إيمانهم لا ينفعُهم إذا رأوا العذاب، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ.
فإن قيل: كأنهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك؟ فعنه جوابان. أحدهما: أن «خسر» بمعنى «هلك» ، قاله ابن عباس. والثاني: أنه إنما بيَّن لهم خُسرانهم عند نزول العذاب، قاله الزّجّاج.
__________
(1) الإسراء: 37.
(2) النحل: 29، يونس: 109، النساء: 164.(4/44)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
سورة فصّلت
مكية كلها بإجماعهم، ويقال لها: سجدة المؤمن، ويقال لها: المصابيح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
قوله تعالى: تَنْزِيلٌ قال الفراء: يجوز أن يرتفع «تنزيلٌ» ب حم، ويجوز أن يرتفع بإضمار «هذا» . وقال الزجاج: «تَنْزِيلٌ» مبتدأ، وخبره «كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ» ، هذا مذهب البصريّين، وقُرْآناً منصوب على الحال، المعنى: بُيِّنَتْ آياتُه في حال جَمْعِه، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لِمَن يَعلم. قوله تعالى:
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ يعني أهل مكة فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ تكبُّراً عنه، وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي: في أغطية فلا نفقه قولك. وقد سبق بيان «الأكنَّة» و «الوَقْر» في الأنعام «1» . ومعنى الكلام: إنّا في تَرْكِ القبول منكَ بمنزلة من لا يَسمع ولا يَفهم، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ أي: حاجزٌ في النّحلة والدّين.
قال الأخفش: «ومن» هاهنا للتوكيد.
قوله تعالى: فَاعْمَلْ فيه قولان: أحدهما: اعمل في إبطال أمرنا إنا عاملون على إبطال أمرك.
والثاني: اعْمَلْ على دِينكَ إنا عاملون على ديننا. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي: لولا الوحي لَمَا دعوتُكم. فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ أي: توجَّهوا إِليه بالطاعة. واستغفِروه من الشرك.
قوله تعالى: الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ فيه خمسة أقوال «2» : أحدها: لا يشهدون أن «لا إله إلّا
__________
(1) الأنعام: 25.
(2) قال الطبري رحمه الله في «التفسير» 11/ 86: والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: معناه: لا يؤدون زكاة أموالهم، وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة.
- وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 109: قال قتادة: يمنعون زكاة أموالهم. وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير. وفيه نظر. لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة، على ما ذكره غير واحد، وهذه الآية مكية، اللهم إلا أن يقال: لا يبعد أن يكون أصل الصدقة والزكاة مأمورا به في ابتداء البعثة، كقوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بيّن أمرها بالمدينة، ويكون هذا جمعا بين القولين، كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف فرض الله على رسوله الصلوات الخمس، وفصّل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك شيئا فشيئا، والله أعلم. [.....](4/45)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
الله» ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والمعنى: لا يطهِّرون أنفُسَهم من الشرك بالتوحيد. والثاني: لا يؤمِنون بالزكاة ولا يُقِرُّون بها، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: لا يزكُّون أعمالهم، قاله مجاهد، والربيع. والرابع: لا يتصدَّقون، ولا يُنفِقون في الطاعات، قاله الضحاك، ومقاتل. والخامس: لا يُعطُون زكاة أموالهم، قال ابن السائب: كانوا يحُجُّون ويعتمرون ولا يزكُّون.
قوله تعالى: غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع ولا منقوص.
[سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
قوله تعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ قال ابن عباس: في يوم الأحد والاثنين، وبه قال عبد الله بن سلام، والسدي، والأكثرون. وقال مقاتل: في يوم الثلاثاء والأربعاء.
(1240) وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي، فقال:
«خلق الله عزّ وجلّ التربة يومَ السبت، وخلق الجبال فيها يومَ الأحد، وخلق الشجر فيها يومَ الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النُّور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يومَ الخميس» ، وهذا الحديث يخالِف ما تقدَّم وهو أصح.
قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً قد شرحناه في البقرة «1» ، وذلِكَ الذي فعل ما ذُكر رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي: جبالاً ثوابت من فوق الأرض، وَبارَكَ فِيها بالأشجار والثمار والحبوب والأنهار، وقيل: البَرَكة فيها: أن ينميَ فيها الزرع، فتخرج الحبّة حبّات، والنواة نخلةً وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قال أبو عبيدة: هي جمعُ قوت، وهي الأرزاق وما يُحتاج إليه. وللمفسرين في هذا التقدير خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه شقَّق الأنهار وغرس الأشجار، قاله ابن عباس. والثاني: أنه قسم أرزاق العباد والبهائم، قاله الحسن. والثالث: أقواتها من المطر، قاله مجاهد. والرابع: قدّر لكلّ بلدة ما لم
__________
تقدم تخريجه في الجزء الأول، وهو أحد الأحاديث التي تكلم فيها، وهو في صحيح مسلم 2789.
__________
(1) البقرة: 22.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 90: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات أهلها، وذلك ما يقوتهم من الغذاء، ويصلحهم من المعاش، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله:
وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها، ولا قول في ذلك أصح مما قال جل ثناؤه: قدّر في الأرض أقوات أهلها لما وصفنا من العلة.(4/46)
يجعله في الأخرى كما أنَّ ثياب اليمن لا تصلح إلا ب «اليمن» والهرويَّة ب «هراة» ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة، قاله عكرمة والضحاك. والخامس: قدَّر البُرَّ لأهل قُطْرٍ، والتَّمْر لأهل قُطْرٍ، والذُّرَة لأهل قُطْرٍ، قاله ابن السائب. قوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي: في تتمة أربعة أيّام. قال الأخفش:
ومثله أن تقول: تزوجت أمس امرأة، واليومَ ثنتين، وإحداهما التي تزوجتها أمس. قال المفسرون:
يعني: الثلاثاء والأربعاء، وهما مع الأحد والإثنين أربعة أيام. قوله تعالى: سَواءً قرأ أبو جعفر:
«سواءٌ» بالرفع. وقرأ يعقوب، وعبد الوارث: «سواءٍ» بالجر. وقرأ الباقون من العشرة: بالنصب. قال الزجاج: من قرأ بالخفض، جعل «سواءٍ» من صفة الأيّام فالمعنى: في أربعة أيّامٍ مستوِياتٍ تامَّاتٍ ومن نصب، فعلى المصدر فالمعنى: استوت سواءً واستواءً ومن رفع، فعلى معنى: هي سواءٌ. وفي قوله: لِلسَّائِلِينَ وجهان: أحدهما: للسائلين القوت، لأن كلاًَ يطلُب القوت ويسألُه. والثاني: لمن يسأل: في كم خُلقت الأرضُ؟ فيقال: خُلقتْ في أربعة أيّام سواء، لا زيادة ولا نقصان. قوله تعالى:
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قد شرحناه في البقرة «1» وَهِيَ دُخانٌ وفيه قولان: أحدهما: أنه لمّا خلق الماء أرسل عليه الريح فثار منه دخان فارتفع وسما، فسمّاه سماءً. والثاني: أنه لمّا خلق الأرض أرسل عليها ناراً، فارتفع منها دخان فسما. قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ قال ابن عباس: قال للسماء: أظْهِري شمسكِ وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شقِّقي أنهاركِ، وأخْرِجي ثمارك، طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ قال الزجاج: هو منصوب على الحال، وإنما لم يقل: طائعات، لأنهنَّ جَرَيْنَ مجرى ما يَعْقِل ويميِّز، كما قال في النجوم: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «2» ، قال: وقد قيل: أتينا نحن ومَنْ فينا طائعين.
فَقَضاهُنَّ أي: خلقهنّ وصنعهنّ، قال أبو ذؤيب الهذلي:
وعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... داوُدُ أَو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ «3»
معناه: عَمِلَهما وصَنَعهما.
قوله تعالى: فِي يَوْمَيْنِ قال ابن عباس وعبد الله بن سلام: وهما يوم الخميس ويوم الجمعة.
وقال مقاتل: الأحد والإثنين، لأن مذهبه أنها خُلقتْ قبل الأرض. وقد بيَّنّا مقدار هذه الأيام في الأعراف «4» . وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فيه قولان: أحدهما: أوحى ما أراد، وأمر بما شاء، قاله مجاهد، ومقاتل. والثاني: خَلَقَ في كل سماءٍ خَلْقَها، قاله السدي.
قوله تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي: القُرْبى إلى الأرض بِمَصابِيحَ وهي النًّجوم، والمصابيح: السُّرُج، فسمِّي الكوكب مصباحاً، لإضاءته وَحِفْظاً قال الزجاج: معناه: وحفظناها من استماع الشياطين بالكواكب حِفْظاً.
__________
(1) البقرة: 29.
(2) يس: 40.
(3) في «اللسان» يقال: رجل صنع وامرأة صناع، إذا كان لهما صنعة يعملانها بأيديهما ويكسبان بها.
(4) الأعراف: 54.(4/47)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
[سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)
قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً الصاعقة: المُهلِكُ من كل شيء والمعنى: أنذرتُكم عذاباً مثلَ عذابهم. وإنما خَصَّ القبيلتين، لأن قريشاً يمُرُّون على قرى القوم في أسفارهم. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي: أتت آباءهم ومَنْ كان قبلهم وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي: من خلف الآباء، وهم الذين أُرسلوا إلى هؤلاء الُمهلَكين أَلَّا تَعْبُدُوا أي بأن لا تعبُدوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا أي لو أراد دعوة الخلْق لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً.
قوله تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا أي: تكبَّروا عن الإِيمان وعَمِلوا بغير الحقِّ. وكان هود قد تهدَّدهم بالعذاب فقالوا: نحن نقدر على دفعه بفضل قوَّتنا. والآيات هاهنا: الحُجج. وفي الرِّيح الصَّرصر أربعة أقوال: أحدها: أنها الباردة، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. وقال الفراء: هي الرِّيح الباردة تحرق كالنار، وكذلك قال الزجاج: هي الشديدة البرد جداً فالصَّرصر متكرِّر فيها البرد، كما تقول: أقللتُ الشيء وقلقلتُه، فأقللتُه بمعنى رفعتُه، وقلقلتُه: كرَّرتُ رفعه. والثاني: أنها الشديدةُ السَّموم، قاله مجاهد. والثالث: الشديدة الصَّوت، قاله السدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. والرابع: الباردة الشديدة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «نَحْساتٍ» بإسكان الحاء وقرأ الباقون: بكسرها. قال الزجاج: من كسر الحاء، فواحدُهن «نَحِس» ، ومن أسكنها، فواحدُهن «نَحْس» والمعنى: مشؤومات. وفي أوَّل هذه الأيّام ثلاثة أقوال «1» : أحدها: غداة يوم الأحد، قاله السدي.
والثاني: يوم الجمعة، قاله الربيع بن أنس. والثالث: يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام. والخِزْي:
الهوان.
قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بيَّنَّا لهم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقال قتادة: بَيَّنَّا لهم سبيل الخير والشر. والثاني: دَعَوْناهم، قاله مجاهد. والثالث: دَللْناهم على مذهب الخير، قاله الفراء. قوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى أي اختاروا الكفر على الإِيمان فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي ذي الهوان، وهو الذي يهينهم.
__________
(1) وهذا من الشؤم المنهي عنه، حيث لا دليل عليه، وإنما هي روايات إسرائيلية، ولا يصح تعيين اسم هذا اليوم، والقرآن لم يذكر ذلك. قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 112: وقوله فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أي متتابعات، سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً: أي ابتدءوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم، واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام، حتّى أبادهم عن آخرهم، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة.(4/48)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 25]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ وقرأ نافع: «نَحْشُرُ» بالنون «أعداءً» بالنصب. قوله تعالى:
فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: يُحْبَس أوَّلهم على آخرِهم ليتلاحقوا. حَتَّى إِذا ما جاؤُها يعني النار التي حُشروا إليها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، وفي المراد بالجلود ثلاثة أقوال: أحدها: الأيدي والأرجل. والثاني: الفروج، رويا عن ابن عباس. والثالث: أنه الجلود نفسها، حكاه الماوردي. وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال:
(1241) كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك فقال: «هل تدرون مِمَّ أضحك؟» قال: قلنا: اللهُ ورسولهُ أعلم. قال: «من مخاطبة العبد ربّه، يقول: يا ربّ ألم تُجِرْني من الظُّلْم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإنّي لا أُجيزُ عليَّ إلا شاهداً منِّي، قال: فيقول: كفى بنفْسك اليومَ عليكَ شهيداٍ، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيُخْتَمُ على فِيه، فيقال لأركانه: انْطِقي، قال: فتَنْطقُ بأعماله، قال: ثُمَّ يُخَلَّى بينَه وبينَ الكلام، فيقول: بُعْداً لَكُنَّ وسُحْقاً، فعنكُنَّ كنتُ أًناضِل» .
قوله تعالى: قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي: ممّا نطق. وهاهنا تم الكلام. وما بعده ليس من جواب الجلود.
قوله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ.
(1242) روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود قال: كنتُ مستتراً بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفرٍ، قرشيٌّ وخَتْناه ثقفيَّان، أو ثقفيٌّ وختَنْاه قرشيّان، كثيرٌ شّحْمُ بُطونهم، قليلٌ فِقْهُ قُلوبهم، فتكلَّموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أتُرَوْنَ اللهَ يَسْمَعُ كلامَنا هذا؟ فقال الآخران: إنّا إذا
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2969 عن أبي بكر بن أبي النضر من حديث أنس. وأخرجه أبو يعلى 3977 وابن حبان 7358 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 467 من طرق عن أبي بكر بن أبي النضر به.
صحيح. أخرجه البخاري 4817 والبغوي في «التفسير» 1864 عن الحميدي من حديث ابن مسعود.
وأخرجه البخاري 4816 و 7521 ومسلم 2775 والترمذي 3245 والطيالسي 1972 والنسائي في «التفسير» 488 والطبري 30496 والبيهقي في «الأسماء الصفات» 177 والواحدي في «أسباب النزول» 732 من طرق عن منصور به. وأخرجه مسلم 2775 وأحمد 1/ 381 و 426 و 442 و 444 وأبو يعلى 5204 والطبري 30497 والواحدي في «أسباب النزول» 733 من طريق الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود به. وأخرجه الحميدي 87 من طريق سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به.(4/49)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
رفعنا أصواتنا سَمِعَه، وإن لم نَرفع لم يَسمع، وقال الآخر: إن سمع منه شيئاً سمعه كلّه، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ إلى قوله: مِنَ الْخاسِرِينَ.
ومعنى «تستترون» : تَسْتَخْفون «أن يَشهد» أي: من أن يشهد «عليكم سَمْعُكم» لأنكم لا تَقدرون على الاستخفاء من جوارحكم، ولا تظُنُّون أنها تَشهد وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ قال ابن عباس: كان الكفار يقولون: إن الله لا يَعلم ما في أنفُسنا، ولكنه يعلم ما يَظهر، وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ أي: أن الله لا يَعلم ما تعملون، أَرْداكُمْ أهلككم. فَإِنْ يَصْبِرُوا أي: على النّار فهي مسكنهم، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي: يَسألوا أن يُرجَع لهم إلى ما يحبُّون، لم يُرْجَع لهم، لأنهم لا يستحقُّون ذلك.
يقال: أعتبني فلان، أي: أرضاني بعد إسخاطه إيّاي. واستعتبتُه، أي: طلبتُ منه أن يُعْتِب، أي:
يَرضى. قوله تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي: سبَّبنا لهم قرناء من الشياطين فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا جنَّة ولا نار ولا بعث ولا حساب، وما خَلْفَهم من أمر الدنيا، فزيَّنوا لهم اللذّات وجمع الأموال وترك الإنفاق في الخير. والثاني:
ما بين أيديهم من أمر الدنيا، وما خلفهم من أمر الآخرة، على عكس الأول. والثالث: ما بين أيديهم:
ما فعلوه، وما خلفهم: ما عزموا على فعله. وباقي الآية قد تقدم تفسيره «1» .
[سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 28]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ أي: لا تسمعوه وَالْغَوْا فِيهِ أي: عارِضوه باللَّغو، وهو الكلام الخالي عن فائدة. وكان الكفَّار يوصي بعضُهم بعضاً: إذا سمعتم القرآن من محمد وأصحابه فارفعوا أصواتكم حتى تُلبِّسوا عليهم قولهم. وقال مجاهد: والغَوْا فيه بالمكاء والصفير والتخليط من القول على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فيسكُتون.
قوله تعالى: ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ يعني العذاب المذكور. وقوله: النَّارُ بدل من الجزاء لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي: دار الإقامة. قال الزجاج: النار هي الدّار، ولكنه كما تقول: لك في هذه الدّار دار السُّرور، وأنت تعني الدّار بعينها، قال الشاعر:
أخو رغائبَ يُعطيها ويسألها ... يأبى الظُّلامَةَ منه النَّوْفَلُ الزّفر «2»
__________
(1) الأعراف: 38، الإسراء: 16.
(2) البيت لأعشى باهلة كما في «الأصمعيات» 89 و «خزانة الأدب» 1/ 89. والرغائب: العطايا الواسعة. والنّوفل:
السيد المعطاء. والزفر: السيد. وقال في «اللسان» لأنه يزدفر بالأموال في الحمالات مطيقا له، والمعنى: يأبى الظلامة لأنه النوفل الزفر.(4/50)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
[سورة فصلت (41) : الآيات 29 الى 32]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لمّا دخلوا النّار رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «أَرْنا» بسكون الراء. قال المفسرون: يعنون إبليس وقابيل، لأنهما سنّا المعصية، نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ أي: في الدَّرْك الأسفل، وهو أشدُّ عذاباً من غيره. ثم ذكر المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي: وحَّدوه ثُمَّ اسْتَقامُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
استقاموا على التوحيد، قاله أبو بكر الصِّدِّيق، ومجاهد. والثاني: على طاعة الله وأداء فرائضه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة. والثالث: على الإِخلاص والعمل إِلى الموت، قاله أبو العالية، والسدي.
(1243) وروى عطاء عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصِّدِّيق، وذلك أن المشركين قالوا: ربُّنا الله، والملائكة بناتُه، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا، وقالت اليهود:
ربُّنا الله، وعزيرٌ ابنُه، ومحمد ليس بنبيّ، فلم يستقيموا، وقالت النصارى: ربُّنا الله، والمسيح ابنه، ومحمد ليس بنبيّ، فلم يستقيموا، وقال أبو بكر: ربنا الله وحده، ومحمدٌ عبدُه ورسولُه، فاستقام.
قوله تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا أي: بأن لا تخافوا. وفي وقت نزولها عليهم قولان «1» : أحدهما: عند الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد فعلى هذا في معنى «أَلَّا تَخافُوا» قولان:
أحدهما: لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم، قاله مجاهد. والثاني: لا تخافوا ما أمَامكم، ولا تحزنوا على ما خَلْفكم، قاله عكرمة، والسدي. والقول الثاني: تتنزَّل عليهم إذا قاموا من القبور، قاله قتادة فيكون معنى «أَلَّا تَخافُوا» : أنهم يبشِّرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة. قوله تعالى:
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
قال المفسرون: هذا قول الملائكة لهم، والمعنى: نحن الذين كنّا نتوّلاكم في الدُّنيا، لأن الملائكة تتولَّى المؤمنين وتحبُّهم لِما ترى من أعمالهم المرفوعة إلى السماء، وَفِي الْآخِرَةِ
أي:
ونحن معكم في الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. وقال السدي: هم الحَفظة على ابن آدم، فلذلك قالوا: «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ»
وقيل: هم الملائكة الذين يأتون لقبض الأرواح.
قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها
أي: في الجنة. نُزُلًا قال الزجاج: معناه: أبشروا بالجنة تنزلونها نُزُلاً. وقال الأخفش: لكم فيها ما تشتهي أنفسكم أنزلناه نزلا.
[سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 36]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
__________
ذكره الواحدي بدون إسناد في «أسباب النزول» 734، ولم أره مسندا، فهو لا شيء، لخلوه عن الإسناد، والصحيح عموم الآية، وذكر اليهود والنصارى في هذا الخبر منكر جدا.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 117: قال زيد بن أسلم: يبشرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث.
وهذا القول يجمع الأقوال كلها. وهو حس جدا، وهو الواقع.(4/51)
قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ فيمن أُريد بهذا ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم المؤذِّنون. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(1244) «نزلت في المؤذنين» ، وهذا قول عائشة، ومجاهد، وعكرمة.
(1245) والثاني: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد. والثالث: أنه المؤمن أجابَ اللهَ إلى ما دعاه، ودعا الناسَ إلى ذلك وَعَمِلَ صالِحاً في إجابته، قاله الحسن.
وفي قوله تعالى: وَعَمِلَ صالِحاً ثلاثة أقوال: أحدها: صلّى ركعتين بعد الأذان، وهو قول عائشة، ومجاهد، وروى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ» قال: الأذان «وَعَمِلَ صالِحاً» قال: الصلاة بين الأذان والإِقامة. والثاني: أدَّى الفرائض وقام لله بالحقوق، قاله عطاء. والثالث: صام وصلَّى، قاله عكرمة.
قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ قال الزجاج: «لا» زائدة مؤكِّدة والمعنى: ولا تستوي الحسنة والسَّيِّئة، وللمفسرين فيهما ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحسنة: الإِيمان، والسَّيِّئة: الشِّرك، قاله ابن عباس.. والثاني: الحِلْم والفُحْش، قاله الضحاك. والثالث: النُّفور والصَّبر، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وذلك كدفع الغضب بالصبر، والإِساءة بالعفو، فإذا فعلتَ ذلك صار الذي بينك وبينه عداوة كالصَّديق القريب «2» . وقال عطاء. هو السَّلام على من تعاديه إذا
__________
لم أره في شيء من كتب التفسير والأثر، والأشبه أن المصنف أخذه من تفسير الكلبي أو مقاتل أو نحوهما، فإن المتن باطل. والصحيح العموم في كل داع يدعو إلى الله تعالى.
أثر واه. أخرجه الطبري 30542 عن ابن زيد، واسمه عبد الرحمن، وهو متروك، ليس بشيء.
وأخرجه 30541 عن السدي به، ولم أره عن ابن عباس. ولا يصح، وانظر التعليق المتقدم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 118- 119: وهذه عامة في كل من دعا إلى خير، وهو في نفسه مهتد، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أولى الناس بذلك. وقال بعد أن ذكر الأقوال فيمن نزلت: والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية، لأنها مكية، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة، حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه، فقصه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمره أن يلقيه على بلال فإنه أندى صوتا.
(2) قال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 119: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي: من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وقوله فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وهو الصديق، أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم، أي: قريب إليك. من الشفقة عليك والإحسان إليك وقال في 2/ 349: وقال بعض العلماء: الناس رجلان: فرجل محسن، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلّفه فوق طاقته ولا ما يحرجه، وإما مسيء فمره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله، فأعرض عنه، فلعل ذلك أن يردّ كيده.(4/52)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
لَقِيتَه. قال المفسرون: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. قوله تعالى: وَما يُلَقَّاها أي: ما يُعْطاها.
قال الزجاج: ما يُلَقَّى هذه الفَعْلَة: وهي دفع السَّيَّئة بالحسنة إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على كظم الغيظ وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الخير. وقال السدي: إلاّ ذو جَدٍّ. وقال قتادة: الحظُّ العظيم: الجنة فالمعنى: ما يُلَقَّاها إلاّ مَنْ وجبت له الجنة.
قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ قد فسّرناه في الأعراف «1» .
[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 39]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قوله تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أي: تكبَّروا عن التوحيد والعبادة فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة يُسَبِّحُونَ أي: يصلُّون. و «يَسأمون» بمعنى يَمَلُّون. وفي موضع السجدة قولان «2» :
أحدهما: أنه عند قوله: «يَسأمون» ، قاله ابن عباس، ومسروق، وقتادة، واختاره القاضي أبو يعلى، لأنه تمام الكلام. والثاني: أنه عند قوله: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، روي عن أصحاب عبد الله، والحسن، وأبي عبد الرحمن.
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً قال قتادة: غبراء متهشّمة، قال الأزهري: إذا يَبِست الأرضُ ولم تُمْطَر، قيل: خَشَعَتْ. قوله تعالى: اهْتَزَّتْ أي: تحرَّكَتْ بالنَّبات وَرَبَتْ أي عَلَتْ، لأن النبت إذا أراد أن يَظْهَر ارتفعت له الأرضُ وقد سبق بيان هذا «3» .
[سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وقد شرحنا معنى الإِلحاد في النحل «4» وفي المراد به هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه وَضْع الكلام على غير موضعه،
__________
(1) الأعراف: 200.
(2) قال القرطبي في «تفسيره» 15/ 317: وقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... الآية، هذه الآية آية سجدة بلا خلاف، واختلفوا في موضع السجود منها فقال مالك: موضعه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لأنه متصل بالأمر وكان علي وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهم يسجدون عند قوله: تَعْبُدُونَ. وقال ابن وهب والشافعي: موضعه وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال وبه قال أبو حنيفة، وكان ابن عباس يسجد عند قوله: «يَسْأَمُونَ» . وقال ابن عمر: اسجدوا بالآخرة منهما. وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي قال ابن العربي: والأمر قريب. [.....]
(3) الحج: 5.
(4) النحل: 103.(4/53)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه المُكاء والصفير عند تلاوة القرآن، قاله مجاهد. والثالث: أنه التكذيب بالآيات، قاله قتادة. والرابع: أنه المُعانَدة، قاله السدي. والخامس: أنه المَيْل عن الإِيمان بالآيات، قاله مقاتل.
قوله تعالى: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا هذا وعيد بالجزاء أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ وهذا عامّ، غير أن المفسرين ذكَروا فيمن أُريدَ به سبعةَ أقوال: أحدها: أنه أبو جهل وأبو بكر الصِّدِّيق، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أبو جهل وعمّار بن ياسر، قاله عكرمة. والثالث: أبو جهل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن السائب، ومقاتل. والرابع: أبو جهل وعثمان بن عفّان، حكاه الثّعلبي.
والخامس: أبو جهل وحمزة، حكاه الواحدي. والسادس: أبو جهل وعمر بن الخطاب. والسابع:
الكافر والمؤمن، حكاهما الماوردي.
قوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد والتهديد. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ يعني القرآن ثم أخذ في وصف الذِّكر وتَرَكَ جواب «إِنَّ» ، وفي جوابها هاهنا قولان: أحدهما: أنه «أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» ، ذكره الفراء. والثاني: أنه متروك، وفي تقديره قولان: أحدهما: إن الذين كفروا بالذِّكْر لمّا جاءهم كفروا به. والثاني: إن الذين كفروا يجازَون بكفرهم.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: مَنيعٌ من الشيطان لا يجد إِليه سبيلاً، قاله السدي. والثاني: كريمُ على الله، قاله ابن السائب. والثالث: مَنيعٌ من الباطل، قاله مقاتل.
والرابع: يمتنع على الناس أن يقولوا مِثْلَه، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ فيه ثلاثة أقوال. أحدها: التكذيب، قاله سعيد بن جبير. والثاني:
الشيطان. والثالث: التبديل، رويا عن مجاهد. قال قتادة: لا يستطيع إبليس أن ينقص منه حقاً ولا يَزيد فيه باطلاً، وقال مجاهد: لا يدخل فيه ما ليس منه. وفي قوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ثلاثة اقوال: أحدها: بين يَدَي تنزيله وبعد نزوله. والثاني: أنه ليس قَبْلَه كتاب يُبْطِله ولا يأتي بعده كتاب يُبْطِله. والثالث: لا يأتيه الباطل في إخباره عمّا تقدّم ولا في إخباره عمّا تأخّر.
[سورة فصلت (41) : الآيات 43 الى 44]
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)
قوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فيه قولان: أحدهما: أنه قد قيل فيمن أًرْسِلَ قَبْلَكَ: ساحر وكاهن ومجنون. وكُذِّبوا كما كًذِّبتَ، هذا قول الحسن، وقتادة، والجمهور.
والثاني: ما تُخْبَر إلاّ بما أًخْبِر الأنبياءُ قَبْلَك من أن الله غفور، وأنه ذو عقاب، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ يعني الكتاب الذي أُنزلَ عليه قُرْآناً أَعْجَمِيًّا أي: بغير لغة العرب لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي: هلاّ بيّنت آياته بالعربية حتى نفهمه؟! ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «آعجمي» بهمزة ممدودة، وقرأ حمزة، والكسائي وأبو بكر(4/54)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
عن عاصم: «أأعجمي» بهمزتين، والمعنى: أكِتابٌ أعجميٌّ ونبيٌّ عربي؟! وهذا استفهام إنكار أي: لو كان كذلك لكان أشدَّ لتكذيبهم. قُلْ هُوَ يعني القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً
من الضلالة وَشِفاءٌ للشُّكوك والأوجاع. و «الوَقْر» : الصَّمم فهُم في ترك القبول بمنزلة مَنْ في أُذنه صمم. وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أي: ذو عمىً. قال قتادة: صَمُّوا عن القرآن وعَمُوا عنه، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي: إِنهم لا يسمعون ولا يفهمون كالذي يُنادي من بعيد.
[سورة فصلت (41) : الآيات 45 الى 46]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ هذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمعنى: كما آمن بكتابك قومٌ وكذَّب به قومٌ. فكذلك كتاب موسى، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب إلى أجل مسمّىً وهو القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالعذاب الواقع بالمكذِّبين وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْ صِدقك وكتابك، مُرِيبٍ أي: موقع لهم الرّيبة.
[سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 48]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
قوله تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ سبب نزولها أنّ اليهود قالوا للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أَخْبِرنا عن السّاعة إن كنتَ رسولاً كما تزعم، قاله مقاتل «1» . ومعنى الآية: لا يَعْلَم قيامَها إلا هو، فإذا سُئل عنها فِعلْمُها مردود إليه. وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم:
«من ثمرةٍ» . وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «من ثمراتٍ» على الجمع مِنْ أَكْمامِها أي:
أوعيتها. قال ابن قتيبة: أي: من المواضع التي كانت فيها مستترةً، وغلاف كل شيء: كُمُّه، وإِنما قيل:
كُمُّ القميص، من هذا. قال الزجاج: الأكمام: ما غَطَّى، وكلُّ شجرة تُخْرِج ما هو مُكَمَّم فهي ذات أكمام، وأكمامُ النخلة: ما غطَّى جُمَّارَها من السَّعَفِ والليف والجِذْع، وكلُّ ما أخرجتْه النخلة فهو ذو أكمام، فالطَّلْعة كُمُّها قشرها، ومن هذا قيل للقَلَنْسُوة: كُمَّة، لأنها تُغَطِّي الرأْس، ومن هذا كُمّا القميص، لأنهما يغطِّيان اليدين.
قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي: ينادي اللهُ تعالى المشركين أَيْنَ شُرَكائِي الذين كنتم تزعُمون قالُوا آذَنَّاكَ قال الفراء، وابن قتيبة: أعلمناكَ، وقال مقاتل: أسمعناكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ فيه قولان: أحدهما: أنه من قول المشركين والمعنى: ما مِنّا مِنْ شهيد بأنَّ لكَ شريكاً، فيتبرَّؤون يومئذ ممّا كانوا يقولون، هذا قول مقاتل. والثاني: أنه من قول الآلهة التي كانت تُعبد والمعنى: ما مِنّا من شهيد لهم بما قالوا، قاله الفرّاء، وابن قتيبة.
__________
(1) باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والمتن باطل فإن السورة مكية بإجماع، وأخبار يهود وسؤالاتهم كانت في المدينة.(4/55)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ أي بََطَلَ عنهم في الآخرة ما كانُوا يَدْعُونَ أي يعبُدون في الدنيا وَظَنُّوا أي أيقنوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ وقد شرحنا المحيص في سورة النّساء «1» .
[سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 52]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)
قوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ قال المفسرون: المراد به الكافر فالمعنى: لا يَمَلُّ الكافرُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ أي: من دعائه بالخير، وهو المال والعافية. وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ وهو الفقر والشِّدة، والمعنى: إذا اختُبر بذلك يئس من روح الله وقَنْط من رحمته. وقال أبو عبيدة: اليؤوس، فَعُول من يأس، والقَنُوط، فَعُول من قَنَط.
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا أي: خيراً وعافية وغِنىً، لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي: هذا واجب لي بعملي وأنا محقوق به، ثم يشُكُّ في البعث فيقول: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي: لست على يقين من البعث وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى يعني الجنة، أي: كما أعطاني في الدنيا يعطيني في الآخرة فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: لَنُخْبِرَنَّهم بمساوئ أعمالهم. وما بعده قد سبق «2» إلى قوله تعالى: وَنَأى بِجانِبِهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، «ونأى» مثل «نعى» ، وقرأ ابن عامر: «وناء» مفتوحة النون، ممدودة والهمزة بعد الألف. وقرأ حمزة: «نئى» مكسورة النون والهمزة. فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ قال الفراء، وابن قتيبة: معنى العريض: الكثير، وإن وصفته بالطول أو بالعَرْض جاز في الكلام. قُلْ يا محمّد لأهل مكة أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ أي خلاف للحق بَعِيدٍ عنه؟ وهو اسم والمعنى: فلا أحدٌ أَضَلّ منكم. وقال ابن جرير: معنى الآية: ثُمَّ كفرتم به، ألستُم في شقاقٍ للحق وبُعد عن الصواب؟! فجعل مكان هذا باقي الآية.
[سورة فصلت (41) : الآيات 53 الى 54]
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ فيه خمسة أقوال «3» : أحدها: في الآفاق:
__________
(1) النساء: 121.
(2) إبراهيم: 17، الإسراء: 83.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 125: إن الله وعد نبيه أن يري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذبين آيات في الآفاق، وغير معقول أن يكون تهديدهم بأن يريهم ما هم راؤوه، بل الواجب أن يكون ذلك وعدا منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا أراءوه قبل من ظهور نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» 4/ 123 وقال: ويحتمل أيضا أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركّب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة. كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع- تبارك وتعالى- وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة. من حسن وقبيح وبين ذلك. وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يحوزها ولا يتعدّاها.(4/56)
فتح أقطار الأرض، وفي أنفسهم: فتح مكة، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنها في الآفاق: وقائع الله في الأمم الخالية، وفي أنفسهم: يوم بدر، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: أنها في الآفاق: إمساك القَطْر عن الأرض كلِّها، وفي أنفسهم: البلايا التي تكون في أجسادهم، قاله ابن جريج.
والرابع: أنها في الآفاق: آيات السماء كالشمس والقمر والنجوم، وفي أنفسهم: حوادث الأرض، قاله ابن زيد. وحكي عن ابن زيد أن التي في أنفُسهم: سبيل الغائط والبول، فإن الإنسان يأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج من مكانين. والخامس: أنها في الآفاق: آثار مَنْ مضى قَبْلَهم من المكذِّبين، وفي أنفسهم: كونهم خُلِقوا نُطَفاً ثم عَلَقاَ ثم مُضَغاً ثم عظاماً إلى أن نُقِلوا إلى العقل والتمييز، قاله الزجاج.
قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن.
والثاني: إلى جميع ما دعاهم إِليه الرسول. وقال ابن جرير: معنى الآية: حتى يعلموا حقيقة ما أَنزلْنا على محمد وأوحينا إليه من الوعد له بأنّا مظهر ودينه على الأديان كلِّها. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: أو لم يكفِ به أنه شاهدٌ على كل شيء؟! قال الزجاج: المعنى: أو لم يكفِهم شهادةُ ربِّك؟! ومعنى الكفاية هاهنا: أنه قد بيَّن لهم ما فيه كفاية في الدّلالة على توحيده وتثبيت رسله.(4/57)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
سورة الشّورى
وتسمى: سورة حم، عسق. وهي مكّيّة، رواه العوفي وغيره عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة قالا: إلّا أربع آيات نزلن بالمدينة، أوّلها: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً «1» وقال مقاتل: فيها من المدنيّ قوله: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله: بِذاتِ الصُّدُورِ «2» وقوله: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ إلى قوله: مِنْ سَبِيلٍ «3» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
قوله تعالى: حم قد سبق تفسيره. قوله تعالى: عسق فيه ثلاثة أقوال «4» . أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه حروف من أسماء ثم فيه خمسة أقوال: أحدها: أن العين عِلْم الله، والسين سناؤه، والقاف قُدرته، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثاني: أن العين فيها عذاب، والسين فيها مسخ، والقاف فيها قذف، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثالث: أن الحاء من حرب، والميم من تحويل مُلك، والعين من عدوّ مقهور، والسين استئصال بسِنين كسِنيّ يوسف، والقاف من قُدرة الله في ملوك الأرض، قاله عطاء.
والرابع: أن العين من عالم، والسين من قُدُّوس، والقاف من قاهر، قاله سعيد بن جبير. والخامس: أن العين من العزيز، والسين من السلام، والقاف من القادر، قاله السدي. والثالث: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.
__________
(1) الشورى: 23.
(2) الشورى: 23- 24.
(3) الشورى: 39- 41.
(4) قال الشوكاني رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602: قد تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح، واختلفوا في (حم عسق) وقيل فيها، مما هو متكلف متعسف لم يدل عليه دليل ولا جاءت به حجة ولا شبهة حجة، وقد ذكرنا قبل ذلك ما روي من ذلك مما لا أصل له.(4/58)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
قوله تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ فيه أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه كما أوحيتُ «حم عسق» إلى كلِّ نبيّ، كذلك نوحيها إليك، قاله أبو صالح عن ابن عباس «2» . والثاني: كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى مَنْ قَبْلَكَ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أن «حم عسق» نزلت في أمر العذاب، فقيل: كذلك نُوحِي إليكَ أن العذاب نازلٌ بمن كذَّبك كما أوحينا ذلك إلى مَنْ كان قَبْلَكَ، قاله مقاتل.
والرابع: أن المعنى: هكذا نوحي إليكَ، قاله ابن جرير.
وقرأ ابن كثير: «يُوحَى» بضم الياء وفتح الحاء كأنه إذا قيل: مَن يوحي؟ قيل: الله. وروى أبان عن عاصم: «نوحي» بالنون وكسر الحاء.
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة: «تكاد» بالتاء «يَتَفَطَّرْنَ» بياء وتاء مفتوحة وفتح الطاء وتشديدها. وقرأ نافع، والكسائي، «يكاد» بالياء «يَتَفَطِّرْنَ» مثل قراءة ابن كثير. وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «تكاد» بالتاء «يَنْفَطِرْنَ» بالنون وكسر الطاء وتخفيفها، أي: يَتَشَقَّقْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي: من فوق الأَرضِين من عَظَمة الرحمن وقيل: من قول المشركين: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» .
ونظيرها التي في مريم «3» . وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قال بعضهم: يصلُّون بأمر ربِّهم وقال بعضهم: ينزِّهونه عمّا لا يجوز في صفته وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فيه قولان: أحدهما: أنه أراد المؤمنين، قاله قتادة، والسدي. والثاني: أنهم كانوا يستغفرون للمؤمنين، فلمّا ابتُليَ هاروت وماروت استغفروا لِمَن في الأرض. ومعنى استغفارهم: سؤالهم الرِّزق لهم، قاله ابن السائب. وقد زعم قوم منهم مقاتل أن هذه الآية منسوخة بقوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا «4» ، وليس بشيءٍ، لأنهم إنَّما يَستغفرون للمؤمنين دون الكفار، فلفظ هذه الآية عامّ، ومعناها خاصّ، ويدل على التخصيص قوله:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا لأن الكافر لا يستحق أن يُستغفَر له.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني كفار مكة اتَّخَذوا آلهة فعبدوها من دونه اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي: حافِظٌ لأعمالهم ليجازيَهم بها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي: لم نوكِّلْكَ بهم فتؤخَذَ بهم. وهذه الآية عند جمهور المفسرين منسوخة بآية السيف، ولا يصحّ.
[سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 9]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
__________
(1) قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» 4/ 213: (كذلك يوحى إليك) أي مثل ذلك الوحي. أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك وإلى الرسل (من قبلك) يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور، وأوحاه من قبلك إلى رسله، على معنى: أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده في الأولين والآخرين، ولم يقل:
أوحي إليك، ولكن على لفظ المضارع، ليدل على أن إيحاء مثله عادته.
(2) أبو صالح غير ثقة وبخاصة في ابن عباس، وروايته الكلبي، وهو وضاع.
(3) مريم: 90.
(4) غافر: 7. [.....](4/59)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومثل ما ذكرنا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا ليفهموا ما فيه لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى يعني مكة، والمراد: أهلها، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي: وتُنذِرهم يوم الجمع، وهو يوم القيامة، يَجمع اللهُ فيه الأوَّلِين والآخرِين وأهل السموات والأرضِين لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شكَّ في هذا الجمع أنه كائن، ثم بعد الجمع يتفرَّقون، وهو قوله: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. ثم ذكر سبب افتراقهم فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي على دين واحد، كقوله: لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «1» وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي في دينه وَالظَّالِمُونَ وهم الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ يدفع عنهم العذاب وَلا نَصِيرٍ يمنعهم منه. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي بل اتخذ الكافرون من دون الله أَوْلِياءَ يعني آلهة يتولَّونهم فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ أي وليُّ أوليائه، فليتَّخذوه وليّاً دون الآلهة وقال ابن عباس: وليُّك يا محمد ووليُّ من اتّبعك.
[سورة الشورى (42) : الآيات 10 الى 14]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ أي: من أمر الدِّين وقيل: بل هو عامّ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: علمه عند الله. والثاني: هو يحكُم فيه. قال مقاتل: وذلك أن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن بعضهم، فقال الله: أنا الذي أحكُم فيه ذلِكُمُ اللَّهُ الذي يحكُم بين المختلفين هو رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في مهمّاتي وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجِع في المَعاد. فاطِرُ السَّماواتِ قد سبق بيانه «2» ، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من مِثل خَلْقكم أَزْواجاً نساءً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أصنافاً ذكوراً وإناثاً، والمعنى أنه خلق لكم الذَّكر والأنثى من الحيوان كلِّه يَذْرَؤُكُمْ فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: يخلُقكم، قاله السدي. والثاني: يُعيِّشكم، قاله مقاتل. والثالث: يكثّركم، قاله الفرّاء. وفي قوله فِيهِ قولان: أحدهما: أنها على أصلها، قاله الأكثرون. فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدم ذكر الأزواج، قاله زيد بن أسلم. فعلى هذا يكون المعنى: يخلُقكم في بطون النساء، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة، فقال: يخلُقكم في الرَّحِم أو في الزَّوج وقال ابن جرير: يخلُقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ويعيِّشكم فيما جعل لكم من الأنعام.
__________
(1) الأنعام: 35.
(2) الأنعام: 14.(4/60)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
والثاني: أنها ترجع إلى الأرض، قاله ابن زيد فعلى هذا يكون المعنى: يذرؤكم فيما خلق من السموات والأرض. والثالث: أنها ترجع إلى الجَعْل المذكور، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما:
يعيِّشكم فيما جعل من الأنعام، قاله مقاتل، والثاني: يخلُقكم في هذا الوجه الذي ذكر مِنْ جَعْلِ الأزواج، قاله الواحدي. والقول الثاني: أن «فيه» بمعنى «به» والمعنى: يكثرِّكم بما جعل لكم، قاله الفراء والزجاج. قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ قال ابن قتيبة: أي: ليس كَهُوَ شيء، والعرب تُقيم المِثْلَ مُقام النَّفْس، فتقول: مِثْلي لا يُقال له هذا، أي: أنا لا يُقال لي هذا. وقال الزجاج: الكاف مؤكِّدة والمعنى: ليس مِثْلَه شيءٌ، وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله: شَرَعَ لَكُمْ أي: بيَّن وأوضح مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام، قاله قتادة. والثاني: تحريم الأخوات والأُمَّهات، قاله الحكم. والثالث: التوحيد وترك الشِّرك. قوله تعالى:
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي: من القرآن وشرائع الإِسلام. قال الزجاج: المعنى: وشرع الذي أوحينا إليك وشرع لكم ما وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى. وقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ تفسير قوله: وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى وجائز أن يكون تفسيراً ل ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ولقوله: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ولقوله: وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى، فيكون المعنى: شرع لكم ولِمَن قبلكم إقامة الدِّين وترك الفُرقة، وشرع الاجتماع على اتِّباع الرُّسل. وقال مقاتل: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يعني التوحيد وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي لا تختلفوا كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أي عَظُمَ على مشركي مكة ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يا محمد من التوحيد.
قوله تعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ أي: يَصطفي من عباده لِدِينه مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلى دِينه، مَنْ يُنِيبُ أي: يَرجع إِلى طاعته. ثم ذكر افتراقهم بعد أن أوصاهم بترك الفُرقة، فقال: وَما تَفَرَّقُوا يعني أهل الكتاب إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من بعد كثرة عِلْمهم للبغي.
والثاني: من بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال. والثالث: من بعد ما جاءهم القرآن، بغياً منهم على محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير المكذِّبين من هذه الأُمَّة إلى يوم القيامة، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنزال العذاب على المكذِّبين وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد أنبيائهم لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي: من محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الشورى (42) : الآيات 15 الى 16]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)
قوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ قال الفراء: المعنى، فالى ذلك، تقول: دعوتُ إلى فلان، ودعوت
__________
(1) الرعد: 26، الزمر: 63.(4/61)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
لفلان، و «ذلك» بمعنى «هذا» ، وللمفسّرين فيه قولان «1» : أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن السائب.
والثاني: أنه التوحيد، قاله مقاتل. قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني أهل الكتاب، لأنهم دعَوه إلى دينهم. قوله تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ قال بعض النحويِّين: المعنى: أًمِرْتُ كي أَعْدِلَ. وقال غيره: المعنى: أُمِرْتُ بالعَدْل. وتقع «أُمِرْتُ» على «أن» ، وعلى «كي» ، وعلى «اللام» يقال: أُمِرْتُ أن أعدل، وكي أعدل، ولأعدل. ثم في ما أُمِرَ أن يَعْدِلَ فيه قولان: أحدهما: في الأحكام إذا ترافعوا إليه.
والثاني: في تبليغ الرسالة. قوله تعالى: اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي: هو آلهنا وإن اختلفنا، فهو يجازينا بأعمالنا، فذلك قوله: لَنا أَعْمالُنا أي: جزاؤها. لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ قال مجاهد: لا خصومة بينَنا وبينَكم.
فصل: وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنها اقتضت الاقتصار على الإنذار، وذلك قبل القتال، ثم نزلت آية السيف فنسختْها، قاله الأكثرون. والثاني: أن معناها: إن الكلام- بعد ظُهور الحُجج والبراهين- قد سقط بيننا، فعلى هذا هي مُحْكَمة، حكاه شيخنا عليّ بن عبيد الله عن طائفة من المفسرين.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي: يُخاصِمون في دِينه. قال قتادة: هم اليهود، قالوا:
كتابُنا قَبْلَ كتابكم، ونبيُّنا قبل نبيِّكم، فنحن خيرٌ منكم. وعلى قول مجاهد: هم المشركون، طمعوا أن تعود الجاهلية. قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي: من بعد إجابة الناس إلى الإسلام حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي: خصومتهم باطلة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 20]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ يعني القرآن بِالْحَقِّ أي: لم ينزله لغير شيء وَالْمِيزانَ فيه قولان: أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة، والجمهور. والثاني: أنه الذي يوزَن به، حكي عن مجاهد. ومعنى إِنزاله إلهامُ الخَلْق أن يَعملوا به، وأمرُ الله عزّ وجلّ إيّاهم بالإِنصاف.
وسمِّي العَدْلُ ميزاناً لأن الميزان آلة الإِنصاف والتسوية بين الخَلْق. وتمام الآية مشروح في الأحزاب «2» .
__________
(1) قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» 4/ 220: فلأجل ذلك التفرق ولما حدث سببه من تشعب الكفر شعبا (فَادْعُ) إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفة القديمة (وَاسْتَقِمْ) عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المختلفة الباطلة بما أنزل الله من كتاب، أي كتاب صح أن أنزله، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 129: اشتملت هذه الآية على عشر كلمات مستقلة، كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسه، قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه.
(2) الأحزاب: 63.(4/62)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
قوله تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها لأنهم لا يخافون ما فيها، إذْ لم يؤمنوا بكونها، فهم يطلبُون قيامها استبعاداً واستهزاءً وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ أي: خائفون مِنْها لأنهم يعلمون أنهم مُحاسَبون ومَجزيُّون، ولا يدرون ما يكون منهم وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي: أنها كائنة لا مَحالة أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ أي: يخاصِمون في كونها لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ حين لم يتفكَّروا، فيَعلموا قدرة الله على إقامتها. اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ قد شرحنا معنى اسمه «اللطيف» في الأنعام «1» ، وفي عباده ها هنا قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون. والثاني: أنه عامّ في الكُلّ. ولطفُه بالفاجر: أنه لا يُهلِكه. يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أي: يوسِّع له الرِّزق. قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ قال ابن قتيبة: أي عَمَلَ الآخرة، يقال: فلان يحرث للدّنيا، أي: يعمل لها ويجمع المال فالمعنى من أراد بعمله الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي: نُضاعِف له الحسنات. قال المفسرون: من أراد العمل لله بما يُرضيه، أعانه الله على عبادته، ومن أراد الدُّنيا مُؤْثِرا لها على الآخرة لأنه غير مؤمن بالآخرة، يؤته منها، وهو الذي قسم له، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ لأنه كافر بها لم يعمل لها.
فصل:
اتفق العلماء على أن أول هذه الآية إلى «حرثه» مُحْكَم، واختلفوا في باقيها على قولين:
أحدهما: أنه منسوخ بقوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ «2» ، وهذا قول جماعة منهم مقاتل.
والثاني: أن الآيتين مُحكَمتان متَّفقتان في المعنى، لأنه لم يقل في هذه الآية: نؤته مُراده، فعُلِم أنه إنما يؤتيه الله ما أراد، وهذا موافق لقوله: «لِمَنْ نُريد» ، ويحقِّق هذا أن لفظ الآيتين لفظ الخبر ومعناهما معنى الخبر، وذلك لا يدخُله النسخ، وهذا مذهب جماعة منهم قتادة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 24]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)
قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يعني كفار مكة والمعنى: ألَهُمْ آلهةٌ شَرَعُوا أي ابتدعوا لَهُمْ دِيناً لم يأذن به الله؟! وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ وهي: القضاء السابق بأن الجزاء يكون في القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا بنزول العذاب على المكذِّبين. والظالمون في هذه الآية والتي تليها:
يراد بهم المشركون. والإشفاق: الخوف. والذي كَسَبوا: هو الكفر والتكذيب، وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ يعني جزاءه. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: ذلِكَ يعني: ما تقدم ذِكْره من الجنّات الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ قال أبو سليمان الدمشقي: «ذلك» بمعنى: هذا الذي أخبرتُكم به بشرى يبشّر الله بها عباده. وقرأ
__________
(1) الأنعام: 103.
(2) الإسراء: 18.(4/63)
ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «يَبْشَرُ» بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين.
قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال:
(1246) أحدها: أن المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس.
(1247) والثاني: أنه لما قَدِم المدينةَ كانت تَنُوبه نوائبُ وليس في يده سَعَةٌ، فقال الأنصار: إن هذا الرجُل قد هداكم اللهٌ به، وليس في يده سَعَةٌ، فاجْمَعوا له من أموالكم ما لا يضرُّكم، ففعلوا ثم أتَوْه به، فنزلت هذه الآية، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا.
(1248) والثالث: أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أتُرَون محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والهاء في «عليه» كناية عمّا جاء به من الهُدى. وفي الاستثناء هاهنا قولان: أحدهما: أنه من الجنس، فعلى هذا يكون سائلاً أجراً. وقد أشار ابن عباس في رواية الضحاك إلى هذا المعنى، ثم قال:
نُسخت هذه بقوله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ الآية «1» ، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل. والثاني:
أنه استثناء من غير الأول، لأن الأنبياء لا يَسألون على تبليغهم أجراً، وإنما المعنى: لكنِّي أُذكّرُكم المَوَدَّةَ في القُرْبى، وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس، منهم العوفي، وهذا اختيار المحقِّقين، وهو الصحيح، فلا يتوجَّه النسخ أصلاً.
وفي المراد بالقُربى خمسة أقوال: أحدها: أن معنى الكلام: إلاّ أن تَوَدُّوني لقرابتي منكم، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد في الأكثرين. قال ابن عباس: ولم يكن بطنٌ من بطون قريش إلاّ ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم قرابة. والثاني: إلاّ أن تَوَدُّوا قرابتي، قاله عليّ بن الحسين، وسعيد بن جبير، والسدي. ثم في المراد بقرابته قولان:
(1249) أحدهما: عليّ وفاطمة وولدها، وقد رووه مرفوعاً إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أنهم الذين تَحْرُم عليهم الصدقة ويُقْسَم فيهم الخُمُس وهم بنو هاشم وبنو المطَّلِب.
__________
أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر» 5/ 700 عن الضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس.
ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «الأسباب» 735 عن ابن عباس بدون إسناد، وقال الحافظ في «تخريجه» 4/ 221 ذكره الثعلبي والواحدي في «الأسباب» عن ابن عباس بغير سند، ويشبه أن يكون عن الكلبي وعن أبي صالح اه. وهذا هو الراجح فإن الواحدي إذا وجد الكلبي في إسناد ما. فإنه يحذف الإسناد فيذكره تعليقا ليبين أنه حديث واه.
واه، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 736 عن قتادة مرسلا، ولم أره عن غيره، فهو واه.
تقدم في سورة آل عمران.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 145: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، وأشبههما بظاهر التنزيل قول من قال: معناه: قل لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش إلّا أن تودوني في قرابتي منكم، وتصلوا الرحم التي بينكم وبيني.(4/64)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
والثالث: أن المعنى: إلاّ أن تَوَدَّدوا إلى الله تعالى فيما يقرِّبكم إليه من العمل الصالح، قاله الحسن، وقتادة. والرابع: إلاّ أن تَوَدُّوني، كما تَوَدُّون قرابتَكم، قاله ابن زيد. والخامس: إلاّ أن تَوَدُّوا قرابتَكم وتصِلوا أرحامَكم، حكاه الماوردي. والأول: أصح.
قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ أي: مَنْ يَكْتَسِبْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي: نُضاعفْها بالواحدة عشراً فصاعداً. وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «يَزِدْ له» بالياء إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذُّنوب شَكُورٌ للقليل حتى يضاعفَه. أَمْ يَقُولُونَ أي: بل يقول كفار مكة افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً حين زعم أن القرآن من عند الله! فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فيه قولان: أحدهما: يَخْتِم على قلبك فيُنسيك القرآن، قاله قتادة. والثاني: يَرْبِط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يَشُقّ عليك قولهم: إنك مفترٍ، قاله مقاتل، والزجاج. قوله تعالى: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ قال الفراء: ليس بمردود على «يَخْتِمْ» فيكونَ جزماً، وإنما هو مستأنَف، ومثله ممّا حُذفتْ منه الواو وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ «1» . وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير.
تقديره: والله يمحو الباطل. وقال الزجاج: الوقف عليها «ويمحوا» بواو وألف والمعنى: واللهُ يمحو الباطل على كل حالٍ، غير أنها كُتبتْ في المصاحف بغير واو، لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين، فكُتبتْ على الوصل، ولفظ الواو ثابت والمعنى: ويمحو اللهُ الشِّرك ويُحِقُّ الحق بما أنزله من كتابه على لسان نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الشورى (42) : الآيات 25 الى 27]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ قد ذكرناه في براءة «2» .
قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي: من خير وشرّ. قرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم بالتاء، وقرأ الباقون بالياء، على الإِخبار عن المشركين والتهديد لهم. و «يَسْتَجِيبُ» بمعنى يُجيب، وفيه قولان: أحدهما: أن الفعل فيه لله، والمعنى: يُجيبهم إذا سألوه وقد روى قتادة عن أبي إبراهيم اللخمي وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا قال: يُشَفَّعون في إِخوانهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال: يُشَفَّعون في إِخوان إِخوانهم. والثاني: أنه للمؤمنين فالمعنى: يجيبونه. والأول أصح. قوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ.
(1250) قال خبّاب بن الأرتّ: فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنّا نَظَرْنا إلى أموال بني قريظة والنَّضير فتمنَّيناها، فنزلت هذه الآية.
__________
ذكره الواحدي في «الأسباب» 737 عن خباب بدون إسناد فلا يحتج به، ولا يصح فالسورة مكية، والخبر مدني. وانظر «تفسير القرطبي» 5400 بتخريجنا.
__________
(1) الإسراء: 11.
(2) التوبة: 104.(4/65)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
ومعنى الآية: لو أوسَع اللهُ الرِّزق لعباده لبَطِروا وعَصَوْا وبغى بعضُهم على بعض، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ أي: ينزل أمره بتقدير ما يشاء مما يُصلح أمورَهم ولا يُطغيهم إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ فمنهم من لا يُصلحه إلا الغنى، ومنهم من لا يصلحه إلّا الفقر.
[سورة الشورى (42) : الآيات 28 الى 31]
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ يعني المطر وقت الحاجة مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أي: يئسوا، وذلك أدعى لهم إلى شكر مُنزله وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ في الرحمة هاهنا قولان: أحدهما: المطر، قاله مقاتل. والثاني:
الشمس بعد المطر، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وقد ذكرنا «الوليَ» في سورة النساء «1» و «الحميد» في البقرة «2» . قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ وهو ما يلحق المؤمن من مكروهٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ من المعاصي. وقرأ نافع، وابن عامر: «بما كسَبَتْ أيديكم» بغير فاء، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من السَّيّئات فلا يُعاقِبُ بها. وقيل لأبي سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللَّوم عمَّن أساء إليهم؟ قال: إنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، وقرأ هذه الآية. وقوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ إن أراد الله عقوبتكم، وهذا يدخل فيه الكفار والعصاة كلّهم.
[سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 36]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ والمراد بالجوارِ: السفن. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو:
«الجواري» بياء في الوصل، إِلاّ أن ابن كثير يقف أيضاً بياءٍ، وأبو عمرو بغير ياء، ويعقوب يوافق ابن كثير، والباقون بغير ياءٍ في الوصل والوقف قال أبو علي: والقياس ما ذهب إليه ابن كثير، ومن حذف فقد كَثُر حذف مثل هذا في كلامهم. كَالْأَعْلامِ قال ابن قتيبة: كالجبال، واحدها: عَلَم. وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال: كل شيء مرتفع عند العرب فهو عَلَم.
قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ التي تُجريها فَيَظْلَلْنَ يعني الجواري رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي: سواكن على ظهر البحر لا يَجْرِينْ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي: يُهْلِكْهُنَّ ويُغْرِقْهُنَّ، والمراد أهل السّفن،
__________
(1) النساء: 45.
(2) البقرة: 267.(4/66)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
ولذلك قال: بِما كَسَبُوا أي: من الذُّنوب وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ من ذنوبهم، فيُنجيهم من الهلاك.
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ قرأ نافع، وابن عامر: «وَيَعْلَمَ» بالرفع على الاستئناف وقطعه من الأول: وقرأ الباقون بالنصب، قال الفراء: هو مردود على الجزم إِلاّ أنه صُرف، والجزم إِذا صُرف عنه معطوفه نُصب. وللمفسرين في معنى الآية قولان: أحدهما: ويعلم الذين يخاصِمون في آيات الله حين يؤخَذون بالغرق أنه لا ملجأَ لهم. والثاني: أنهم يعلمون بعد البعث أنه لا مهرب لهم من العذاب. قوله تعالى:
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أُعطيتم من الدنيا فهو متاع تتمتَّعون به، ثم يزول سريعاً، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا لا للكافرين، لأنه إنما أعدّ لهم في الآخرة العذاب.
[سورة الشورى (42) : الآيات 37 الى 43]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وقرأ حمزة، والكسائي: «كبيرَ الإِثم» على التوحيد من غير ألف، والباقون بألف. وقد شرحنا الكبائر في سورة النساء «1» . وفي المراد بالفواحش هاهنا قولان:
أحدهما: الزنا. والثاني: موجبات الحدود.
قوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أي: يَعْفُون عمَّن ظَلَمهم طلباً لثواب الله تعالى. وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أي: أجابوه فيما دعاهم إليه. وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ قال ابن قتيبة: أي يتشاورون فيه بينهم، وقال الزجاج: المعنى أنهم لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ اختلفوا في هذا البَغْي على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بَغْيُ الكفار على المسلمين، قال عطاء: هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبَغَوْا عليهم، ثم مَكنَّهم الله منهم فانتصروا. وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرقتين بمكة، فرقة كانت تُؤذَى فتَعفو عن المشركين، وفرقة كانت تُؤذَى فتنتصر، فأثنى اللهُ عزّ وجلّ عليهم جميعاً، فقال في الذين لم ينتصروا: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وقال في المنتصرين: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي: من المشركين. وقال ابن زيد: ذكر المهاجرين، وكانوا صنفين، صنفاً عفا، وصنفاً انتصر، فقال:
وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، فبدأ بهم، وقال في المنتصرين: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي: من المشركين وقال: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ إلى قوله: «يُنْفِقُونَ» وهم الأنصار: ثم ذكر الصِّنف الثالث فقال: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ من المشركين. والثاني: أنه بَغْيُ المسلمين على المسلمين خاصة. والثالث: أنه عامّ في جميع البُغاة، سواء كانوا مسلمين أو كافرين.
فصل:
واختلف في هذه الآية علماء الناسخ والمنسوخ، فذهب بعض القائلين بأنها في المشركين
__________
(1) النساء: 31.(4/67)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
إلى أنها منسوخة بآية السيف، فكأنهم يشيرون إلى أنها أثبتت الانتصار بعد بَغْي المشركين، فلمّا جاز لنا أن نبدأَهم بالقتال، دَلَّ على أنها منسوخة. وللقائلين بأنها في المسلمين قولان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ «1» فكأنها نبَّهتْ على مدح المنتصِر، ثم أعلمنا أن الصبر والغفران أمدح، فبان وجه النسخ. والثاني: أنها محكَمة، لأن الصبر والغفران فضيلة، والانتصار مباح، فعلى هذا تكون محكمة، وهو الأصح.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية- وظاهرُها مدح المنتصِر- وبين آيات الحَثِّ على العفو؟
فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه انتصار المسلمين من الكافرين، وتلك رتبة الجهاد كما ذكرنا عن عطاء.
والثاني: أن المنتصِر لم يَخرج عن فعل أُبيح له، وإن كان العفو أفضل، ومَنْ لم يَخرج من الشرع بفعله، حَسُنَ مدحُه. قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين! صنفٌ يعفو، فبدأ بذكره، وصنفٌ ينتصر.
والثالث: أنه إذا بغي على المؤمن فاسقٌ، فلأنَّ له اجتراءَ الفُسَّاق عليه، وليس للمؤمن أن يُذِلَّ نَفْسه، فينبغي له أن يَكْسِر شوكة العُصاة لتكون العِزَّة لأهل الدِّين. قال إبراهيم النخعي: كانوا يَكرهون للمؤمنين أن يُذِلًّوا أنفُسَهم فيجترئَ عليهم الفُسّاق، فإذا قَدَروا عَفَوْا، وقال القاضي أبو يعلى: هذه الآية محمولة على من تعدَّى وأصرَّ على ذلك، وآيات العفو محمولة على أن يكون الجاني نادماً.
قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها قال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح، إذا قال له كلمة إجابة بمثْلها من غير أن يعتديَ. وقال مقاتل: هذا في القصاص في الجراحات والدماء. فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فلم يقتصّ وَأَصْلَحَ العمل فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ يعني من بدأَ بالظُّلم. وإنما سمَّى المجازاةَ سيِّئةً، لما بيَّنَّا عند قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ «2» قال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مُنادٍ: لِيَقُم مَنْ كان أجْرُه على الله، فلا يقوم إلاّ من عفا. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي: بعد ظُلم الظّالم إيَّاه والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول، ونظيره: مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ «3» وبِسُؤالِ نَعْجَتِكَ «4» ، فَأُولئِكَ يعني المنتصرين ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي: من طريق إلى لَوْم ولا حَدِّ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي: يبتدئون بالظُّلم وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: يعملون فيها بالمعاصي. قوله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ فلم ينتصرِ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وقد شرحناه في آل عمران «5» .
[سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ أي: من أحدٍ يلي هدايته بعد إضلال الله إيّاه. وَتَرَى الظَّالِمِينَ يعني المشركين لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ في الآخرة يسألون الرّجعة إلى الدنيا
__________
(1) الشورى: 43. [.....]
(2) البقرة: 194.
(3) فصلت: 49.
(4) ص: 24.
(5) آل عمران: 186.(4/68)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي: على النار خاشِعِينَ أي: خاضعين متواضعين مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وفيه أربعة أقوال: أحدها: من طَرْفٍ ذليل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقال الأخفش: ينظُرون من عين ضعيفة. وقال غيره: «مِنْ» بمعنى «الباء» . والثاني:
يسارِقون النظر، قاله قتادة، والسدي. والثالث: ينظُرون ببعض العَيْن، قاله أبو عبيدة. والرابع: أنهم ينظُرون إلى النار بقلوبهم، لأنهم قد حُشروا عُمْياً، فلم يَرَوها بأعيُنهم، حكاه الفراء، والزجاج، وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله: يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: يمنعونهم من عذاب الله.
[سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 50]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
قوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أي: أجيبوه، فقد دعاكم برسوله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ وهو يوم القيامة لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي: لا يَقدر أحد على رَدِّه ودفعه ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ تلجؤون إليه، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ قال مجاهد: من ناصر ينصُركم، وقال غيره: من قُدرة على تغيير ما نزل بكم. فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإِجابة فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً لحفظ أعمالهم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أي: ما عليك إلاّ أن تبلِّغهم. وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف. قوله تعالى: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها قال المفسرون: المراد به: الكافر والرحمة: الغنى والصحة والمطر ونحو ذلك، والسَّيِّئة:
المرض والفقر والقحط ونحو ذلك، والإنسان هاهنا: اسم جنس، فلذلك قال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي: بما سلف من مخالفتهم فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ بما سلف من النّعم. لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: له التصرُّف فيها بما يريد، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني البنات ليس فيهنّ ذكر، كما وهب للوط صلّى الله عليه وسلّم، فلم يولَد له إلاَ البنات وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ يعني البنين ليس معهم أُنثى، كما وهب لإبراهيم عليه الصّلاة والسلام، فلم يولد له إِلا الذًّكور. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ يعني الإناث والذُّكور، قال الزجاج: ومعنى «يُزَوِّجُهُمْ» : يَقْرُنُهم، وكل شيئين يقترن أحدهما بالآخر، فهما زوجان، ويقال لكل واحد منهما: زوج، تقول: عندي زوجان من الخِفاف، يعني اثنين. وفي معنى الكلام للمفسرين قولان: أحدهما: أنه وضْعُ المرأة غلاماً ثم جارية ثم غلاماً ثم جارية، قاله مجاهد، والجمهور. والثاني: أنه وضْعُ المرأة جاريةً وغلاماً توأمين، قاله ابن الحنفية. قالوا: وذلك كما جمع لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم فإنه وهب له بنين وبنات، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً لا يولد له، كيحيى بن زكريا عليهما السلام. وهذه الأقسام موجودة في سائر الناس، وإنما ذكروا الأنبياء تمثيلا.
__________
(1) الأنعام: 12، هود: 39.(4/69)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
[سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً. قال المفسرون:
(1251) سبب نزولها أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألا تكلِّم الله وتنظرُ إليه إن كنتَ نبيّاً صادقاً كما كلَّمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم: «لم ينظرُ موسى إِلى الله» ، ونزلت هذه الآية.
والمراد بالوحي هاهنا: الوحي في المنام. أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ كما كلَّم موسى. أَوْ يُرْسِلَ قرأ نافع، وابن عامر: «يُرْسِلُ» بالرفع فَيُوحِيَ بسكون الياء. وقرأ الباقون: «يُرْسِلْ» بنصب اللام «فيوحيَ» بتحريك الياء، والمعنى: «أو يرسِل رسولاً» كجبرائيل «فيوحي» ذلك الرسول إلى المرسَل إليه بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ. قال مكي بن أبي طالب: من قرأ «أو يرسِلَ» بالنصب، عطفه على معنى قوله: «إِلَّا وَحْياً» لأنه بمعنى: إلاّ أن يوحيَ. ومن قرأ بالرفع، فعلى الابتداء، كأنه قال: أو هو يرسِل. قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلِّم بشراً إلاّ من وراء حجاب في دار الدنيا. قوله تعالى:
وَكَذلِكَ أي: وكما أوحينا إلى الرُّسل أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وقيل: الواو عطف على أول السورة، فالمعنى: كذلك نوحي إِليك وإلى الذين مِنْ قبلك. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا قال ابن عباس:
هو القرآن، وقال مقاتل: وَحْياً بأمرنا.
قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وذلك أنه لم يكن يَعرف القرآن قبل الوحي وَلَا الْإِيمانُ فيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه بمعنى الدعوة إلى الإِيمان، قاله أبو العالية. والثاني: أن المراد به:
شرائع الإيمان ومعالمه، وهي كلُّها إيمان، وقد سمَّى الصلاة إيماناً بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «2» هذا اختيار ابن قتيبة، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة. والثالث: أنه ما كان يَعرف الإِيمان حين كان في المهد وإذْ كان طفلاً قبل البلوغ، حكاه الواحدي. والقول ما اختاره ابن قتيبة، وابن خزيمة، وقد اشتُهر في الحديث عنه عليه السلام أنه كان قبل النبوَّة يوحِّد الله، ويُبْغِض اللاّتَ والعُزَّى، وَيحُجُّ ويعتمر، ويتَّبع شريعةَ إِبراهيم عليه السلام «3» . قال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله: من زعم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان على دين قومه، فهو قول سوءٍ، أليس كان لا يأكل ما ذُبح على النّصب؟ وقال ابن قتيبة:
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 739 بدون إسناد، ومن غير عزو لأحد، فهو ساقط. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 234: لم أجده. وانظر «تفسير القرطبي» 5420 بتخريجنا.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 16/ 53: اختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ قلت: الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مؤمنا بالله عز وجل من حين نشأ إلى حين بلوغه وقيل: - في معنى الآية- أي كنت في قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم، وهو كقوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ.
(2) البقرة: 143.
(3) انظر «السيرة النبوية» للذهبي ص 41- 43.(4/70)
قد جاء في الحديث أنه كان على دين قومه أربعينَ سنةً «1» . ومعناه: أن العرب لم يزالوا على بقايا مِنْ دين إسماعيل، من ذلك حِجُّ البيت، والختانُ، وِإيقاعُ الطلاق إذا كان ثلاثاً، وأن للزوج الرَّجعة في الواحدة والاثنتين، ودِيَة النَّفْس مائة من الإبل، والغُسل من الجنابة، وتحريمُ ذوات المحارم بالقرابة والصّهر، وكان عليه الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإِيمان بالله والعمل بشرائعهم في الختان والغُسل والحج، وكان لا يقرب الأوثان، ويَعيبُها. وكان لا يَعرف شرائعَ الله التي شَرَعها لعباده على لسانه، فذلك قوله: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ يعني القرآن وَلَا الْإِيمانُ يعني شرائع الإِيمان ولم يُرِدِ الإِيمانَ الذي هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشِّرك كانوا يؤمِنون بالله ويحجُّون له البيت مع شِركهم. قوله تعالى: وَلكِنْ جَعَلْناهُ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن. والثاني:
إلى الإِيمان. نُوراً أي: ضياءً ودليلاً على التوحيد نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا إلى دِين الحق.
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي أي: لَتَدعو إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام.
__________
(1) ليس بحديث، وإنما هو رأي لبعض أهل العلم، وهو مرجوح، بل الصواب أنه على دين إبراهيم عليه السلام، لأن قومه كانوا على الشرك كما نطق القرآن بذلك في آيات كثيرة فمن ذلك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ... والمراد بالمشركين هنا قريش وما والاها، فتنبه، والله أعلم.(4/71)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
سورة الزّخرف
وهي مكية بإجماعهم. وقال مقاتل: هي مكّيّة، إلّا آية، وهي قوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
قوله تعالى: حم قد تقدّم بيانه. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قسمٌ بالقرآن. إِنَّا جَعَلْناهُ قال سعيد بن جبير: أنزَلْناه. وما بعد هذا قد تقدّم بيانه «2» إلى قوله: وَإِنَّهُ يعني القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ قال الزجاج: أي: في أصل الكتاب، وأصل كلِّ شيء: أُمُّه، والقرآن مُثْبَتٌ عند الله عزّ وجلّ في اللوح المحفوظ. قوله تعالى: لَدَيْنا أي: عندنا لَعَلِيٌّ أي: رفيع. وفي معنى الحكيم قولان: أحدهما:
مُحْكَم، أي: ممنوعٌ من الباطل، قاله مقاتل. والثاني: حاكمٌ لأهل الإِيمان بالجنة ولأهل الكفر بالنار، ذكره أبو سليمان الدمشقي، والمعنى: إن كذَّبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريفٌ عظيمُ المَحَلِّ. قوله تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً قال ابن قتيبة: أي: نُمْسِكُ عنكم فلا نذكُركم صفحاً، أي:
إِعراضاً، يقال: صَفَحْتُ عن فلان: إذا أعرضت عنه، والأصل في ذلك أن تُولِّيه صَفْحةَ عنقك، قال كُثَيِّر يصف امرأة:
صَفُوحاَ فما تَلْقاكَ إلاّ بَخِيلَةً ... فمَنْ مَلَّ منها ذلك الوَصْلَ مَلَّتِ «3»
أي: مُعْرِضَة بوجهها، يقال ضَرَبْتُ عن فلان كذا: إِذا أمسكتَه، وأضربتَ عنه. أَنْ كُنْتُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «أن كنتم» بالنصب، أي: لأِن كنتم قوماً مسرفين.
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: «إِن كنتم» بكسر الهمزة. قال الزجاج: وهذا على معنى الاستقبال،
__________
(1) الزخرف: 45.
(2) النساء: 82، يوسف: 2.
(3) البيت لكثير عزة كما في «اللسان» - صفح-(4/72)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
أي: إِن تكونوا مسرفين نَضْرِبْ عنكم الذِّكْر. وفي المراد بالذِّكْر قولان «1» : أحدهما: أنه ذِكْر العذاب، فالمعنى: أفنُمْسِكُ عن عذابكم ونترُكُكم على كفركم؟! وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنه القرآن، فالمعنى: أفنُمْسِكُ عن إنزال القرآن من أجل أنكم لا تؤمِنون به؟! وهو معنى قول قتادة، وابن زيد. وقال قتادة: «مُسْرِفِينَ» بمعنى مشركين. ثم أعلم نبيَّه أنِّي قد بعَثتُ رُسُلاً فكُذِّبوا فأهلكتُ المكذِّبين بالآيات التي تلي هذه.
قوله تعالى: أَشَدَّ مِنْهُمْ أي: من قريش بَطْشاً أي: قُوَّةً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي: سبق وصفُ عِقابهم فيما أُنزل عليك. وقيل: سبق تشبيه حال أولئك بهؤلاء في التكذيب، فستقع المشابهة بينهم في الإِهلاك. ثم أخبر عن جهلهم حين أقَرُّوا بأنه خالق السموات والأرض ثم عبدوا غيره بالآية التي تلي هذه ثم التي تليها مفسَّرة في طه «2» إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لكي تهتدوا في أسفاركم إلى مقاصدكم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 11 الى 14]
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
قوله تعالى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ قال ابن عباس: يريد أنه ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قَدَرٍ فأغرقهم، بل هو بقَدَرٍ ليكون نافعاً. ومعنى «أنشَرْنا» أحيَيْنا.
قوله تعالى: كَذلِكَ تُخْرَجُونَ قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر: «تَخْرُجُونَ» بفتح التاء وضم الراء، والباقون بضم التاء وفتح الراء. وما بعد هذا قد سبق «3» إلى قوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ قال أبو عبيدة: هاء التذكير ل «ما» . ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذ سخَّر لكم ذلك المَركب في البَرِّ والبحر، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال ابن عباس ومجاهد: أي: مُطيقين، قال ابن قتيبة: يقال: أنا مُقْرن لك، أي:
مُطيق لك، ويقال: هو من قولهم: أنا قِرْنٌ لفلان: إذا كنتَ مثله في الشِّدة، فإن قلتَ: أنا قَرْنٌ لفلان- بفتح القاف- فمعناه: أن تكون مثله بالسِّنّ. وقال أبو عبيدة: «مُقْرِنِينَ» أي: ضابِطِين، يقال: فلان مُقْرِنٌ لفلان: أي: ضابط له.
قوله تعالى: وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي: راجعون في الآخرة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 18]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
قوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أمّا الجَعْل هاهنا، فمعناه: الحُكم بالشيء، وهم الذين
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 167: وأولى التأولين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله: أفنضرب عنكم العذاب فنترككم ونعرض عنكم، لأن كنتم قوما مسرفين لا تؤمنون بربكم.
(2) طه: 53. [.....]
(3) يس: 36، 42.(4/73)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
زعموا أن الملائكةَ بناتُ الله والمعنى: جَعلوا له نصيباً من الولد، قال الزجاج: وأنشدني بعض أهل اللغة بيتاً يدل على أن معنى «جزءٍ» معنى الإِناث- ولا أدري البيت قديم أو مصنوع:
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ، يَوْماً، فلا عجب ... قد تجزئ الحُرَّةُ المِذْكارُ أَحْيانا
أي: آنثت، ولدت أُنثى.
قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ يعني الكافر لَكَفُورٌ أي: جحود لنعم الله عزّ وجلّ مُبِينٌ أي: ظاهرُ الكُفر. ثم أنكر عليهم فقال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وهذا استفهام توبيخ وإِنكار وَأَصْفاكُمْ أي: أخلَصَكم بِالْبَنِينَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي: بما جعل لله شبها، وذلك أن ولد كلِّ شيء شبهه وجنسه. والآية مفسرة في النّحل «1» .
قوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: «يُنَشَّأُ» بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين وقرأ الباقون: بفتح الياء وسكون النون. قال المبرِّد: تقديره: أو يَجَعلون من ينشأ فِي الْحِلْيَةِ قال أبو عبيدة: الحِلْية: الحِلَى. قال المفسرون: والمراد بذلك: البنات، فإنهنُ ربِّين في الحُلِيِّ. والخصام بمعنى المُخاصَمة، غَيْرُ مُبِينٍ حُجَّةً. قال قتادة: قلَّما تتكلَّم امرأة بحُجَّتها إلاّ تكلَّمتْ بالحُجَّة عليها. وقال بعضهم: هي الأصنام.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 19 الى 25]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ قال الزجاج: الجَعْل هاهنا بمعنى القول والحكم على الشيء، تقول: قد جعلتُ زيداً أعلَم الناسِ، أي: قد وصفته بذلك وحكمت به. قال المفسرون: وجَعْلُهم الملائكة إِناثاً قولُهم: هُنَّ بناتُ الله. قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب، وأبان عن عاصم، والشيزري عن الكسائي: «عِنْدَ الرحمن» بنون من غير ألف، وقرأ الباقون: «عِبادُ الرحمن» ومعنى هذه القراءة: جعلوا له من عباده بنات. والقراءة الأُولى موافقة لقوله:
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «2» ، وإِذا كانوا في السماء كان أَبْعَدَ للعِلْم بحالهم. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ قرأ نافع، والمفضل عن عاصم: «أَأُشْهِدوا» بهمزتين، الأولى مفتوحة والثانية مضمومة. وروى المسيّبي عن نافع:
«أَوُ شْهِدوا» ممدودة من أشْهدْتُ، والباقون لا يُمدُّون. «أشَهِدوا» من شَهِدْتُ، أي: أحَضَروه فعرَفوا أنهم إِناث؟! وهذا توبيخ لهم إِذ قالوا فيما يُعْلَم بالمشاهَدة من غير مشاهَدة. سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ على الملائكة أنها بنات الله.
__________
(1) النحل: 58.
(2) الأعراف: 206.(4/74)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
(1252) وقال مقاتل: لمّا قال الله عزّ وجلّ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ، سُئلوا عن ذلك فقالوا: لا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فما يُدريكم أنها إِناث؟» فقالوا: سمعنا من آبائنا، ونحن نَشهد أنهم لم يَكذبوا، فقال الله: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ عنها في الآخرة.
وقرأ أبو رزين، ومجاهد: «سنَكْتُبُ» بنون مفتوحة «شهادتَهم» بنصب التاء، ووافقهم ابن أبي عبلة في «سنَكْتُبُ» وقرأ: «شهاداتِهم» بألف.
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ في المكنيِّ عنهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، قاله قتادة، ومقاتل في آخرين. والثاني: الأوثان، قاله مجاهد. وإِنما عَنَوْا بهذا أنه لو لم يَرْضَ عبادتَنا لها لعجَّل عقوبتنا، فردَّ عليهم قولهم بقوله: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ. وبعض المفسرين يقول: إِنما أشار بقوله: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» إلى ادِّعائهم أنَّ الملائكة إِناث، قال: ولم يتعرَّض لقولهم: «لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ» لأنه قول صحيح والذي اعتمدنا عليه أصح، لأن هذه الآية كقوله: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا «1» ، وقوله: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «2» ، وقد كشفنا عن هذا المعنى هنالك.
و «يَخْرُصُونَ» بمعنى: يكذبون. وإنما كذَّبهم، لأنهم اعتقدوا أنه رضي منهم الكفر ديناً. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي: مِنْ قَبْلِ هذا القرآن، أي: بأن يعبدوا غير الله فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يأخذون بما فيه. بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي: على سُنَّة ومِلَّة ودِين وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ فجعلوا أنفُسهم مهتدين بمجرد تقليد الآباء من غير حُجَّة ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذا القول، فقال:
وَكَذلِكَ أي: وكما قالوا قال مُتْرَفو القُرى مِنْ قَبْلهم، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ بهم. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: «قال أَوَلَوْ جِئتُكم» بألف. قال أبو علي: فاعل «قالَ» النذير، المعنى: فقال لهم النذير. وقرأ أبو جعفر: «أَوَلَوْ جئناكم» بألف ونون بِأَهْدى أي: بأصوب وأرشد. قال الزجاج: ومعنى الكلام: قُلْ: أتَّتبعونَ ما وجدتم عليه آباءكم وإِن جئتكم بأهدى منه؟! وفي هذه الآية إِبطال القول بالتقليد. قال مقاتل: فرَدُّوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ثم رجع إِلى الأُمم الخالية، فقال: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ الآية.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 30]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
قوله تعالى: إِنَّنِي بَراءٌ قال الزجاج: البَراء بمعنى البَريء، والعرب تقول للواحد: أنا البَراء منك، وكذلك للإثنين والجماعة، وللذكر والأنثى، يقولون: نحن البَراء منك والخلاء منك، لا يقولون: نحن البَراءان منك، ولا البَراءون منك، وإِنما المعنى: أنا ذو البَراء منك، ونحن ذو البراء
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث. وعزاه الواحدي في «الوسيط» 4/ 68 للكلبي ومقاتل، والكلبي كذاب أيضا، فهذا الخبر لا شيء.
__________
(1) الأنعام: 148.
(2) يس: 47.(4/75)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
منك، كما يقال: رجل عَدْل، وامرأة عَدْل. وقد بيّنّا استثناء إبراهيم ربّه عزّ وجلّ مما يعبدون عند قوله:
إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ «1» . قوله تعالى: وَجَعَلَها يعني كلمة التوحيد، وهي: «لا إِله إِلا الله» ، كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي: فيمن يأتي بعده من ولده، فلا يزال فيهم موحِّد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إَلى التوحيد كلُّهم إِذا سمعوا أن أباهم تبرَّأ من الأصنام ووحّد الله عزّ وجلّ.
ثم ذكر نعمته على قريش فقال: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ والمعنى: إِنِّي أجزلتُ لهم النِّعَم ولم أُعاجلهم بالعقوبة حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وهو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ وهو محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فكان ينبغي لهم أن يقابِلوا النِّعَم بالطاعة للرسول، فخالفوا. وَلَمَّا جاءَهُمُ يعني قريشاً في قول الأكثرين. وقال قتادة: هم اليهود. والْحَقُّ القرآن.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 الى 35]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أي: هلاّ نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أمّا القريتان، فمكَّة والطائف، قاله ابن عباس، والجماعة وأمّا عظيم مكَّة، ففيه قولان «2» : أحدهما: الوليد بن المغيرة القرشي، رواه العوفي وغيره عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسدي. والثاني: عُتبة بن ربيعة، قاله مجاهد. وفي عظيم الطائف خمسة أقوال: أحدها: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: مسعود بن عمرو بن عبيد الله، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال قتادة. والرابع: أنه ابن عَبْد ياليل، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس: كنانة بن عبد بن عمرو بن عمير الطائفي، قاله السّدّيّ.
فقال الله عزّ وجلّ ردّا عليهم وإنكارا: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني النُّبوَّة، فيضعونها حيث شاؤوا، لأنهم اعترضوا على الله بما قالوا. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ المعنى أنه إِذا كانت الأرزاق بقَدَر الله، لا بحول المحتال- وهو دون النُّبوَّة- فكيف تكون النًّبوَّة؟! قال قتادة: إِنك لَتَلْقَى ضعيفَ الحِيلة عَييَّ اللِّسان قد بُسِطَ له الرِّزْقُ، وتَلْقَى شديدَ الحِيلة بسيط اللسان وهو مقتور عليه. قوله تعالى: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فيه قولان: أحدهما: بالغنى والفقر. والثاني: بالحرية والرق لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا
وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن: «سِخْرِيّاً» بكسر السين. ثم فيه قولان: أحدهما:
يستخدم الأغنياء الفقراء بأموالهم، فَيَلْتَئِمُ قِوامَ العالَم، وهذا على القول الأول. والثاني: ليملك بعضُهم بعضاً بالأموال فيتَّخذونهم عبيداً، وهذا على الثاني. قوله تعالى: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ فيها قولان: أحدهما:
__________
(1) الشعراء: 77.
(2) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 150: والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان. وبه قال الطبري.(4/76)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
النًّبوَّة خير من أموالهم التي يجمعونها، قاله ابن عباس. والثاني: الجنة خير ممّا يجمعون في الدنيا، قاله السدي.
قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فيه قولان: أحدهما: لولا أن يجتمعوا على الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: على إِيثار الدنيا على الدِّين، قاله ابن زيد. قوله تعالى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ لهوان الدنيا عندنا. قال الفراء: إن شئتَ جعلت اللّام في «لبيوتهم» مكرّرة، كقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ «1» وإِن شئتَ جعلتَها بمعنى «على» ، كأنه قال: جَعَلْنا لهم على بُيوتهم، تقول للرجل: جعلتُ لك لقومك الأُعطية، أي: جعلتُها من أجلك لهم.
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «سَقْفاً» على التوحيد. وقرأ الباقون: «سُقُفاً» بضم السين والقاف جميعاً «2» . قال الزجاج: والسَّقف واحد يدلُّ على الجمع فالمعنى: جعلْنا لبيتِ كلِّ واحد منهم سقفاً من فِضَّة وَمَعارِجَ وهي الدَّرَج والمعنى: وجعلْنا معارج من فِضَّة، وكذلك «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً» أي من فِضَّة وَسُرُراً أي من فِضَّة. قوله تعالى: عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال ابن قتيبة: أي: يَعْلُون، يقال: ظَهَرْتُ على البيت: إذا علَوْت سطحه. قوله تعالى: وَزُخْرُفاً وهو الذهب والمعنى: ويجعل لهم مع ذلك ذهباً وغنىً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا المعنى: لَمَتاع الحياة الدنيا، و «ما» زائدة. وقرأ عاصم، وحمزة: «لَمّا» بالتشديد، فجعلاه بمعنى «إِلاّ» والمعنى: إِنّ ذلك يُتمتَّع به قليلاً ثم يزول وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ خاصّة لهم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 40]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
__________
(1) البقرة: 217.
(2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 16/ 74: استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن السقف لاحق لرب العلو، لأن الله تعالى جعل السقوف للبيوت كما جعل الأبواب لها. وهذا مذهب مالك رحمه الله.
قال ابن العربي: وذلك لأن البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب. فمن له البيت فله أركانه ولا خلاف أن العلو له إلى السماء. واختلفوا في السفل، فمنهم من قال: هو له ومنهم من قال: ليس له في باطن الأرض شيء. وفي مذهبنا القولان. ومن أحكام العلو والسفل: إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه فذكر سحنون عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة. ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو، لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لربّ العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل. وحجة مالك وأشهب، حديث النعمان بن بشير عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» . أخرجه البخاري 2493 وغيره. وفيه دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(4/77)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يُعْرَضْ، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والفراء، والزجاج. والثاني: يَعْمَ، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال عطاء، وابن زيد.
والثالث: أنه البَصَر الضعيف، حكاه الماوردي. وقال أبو عبيدة: تُظْلِمْ عينه عنه. وقال الفراء: من قرأ:
«يَعْشُ» ، فمعناه: يُعْرِضْ، ومن نصب الشين، أراد: يَعْمَ عنه قال ابن قتيبة: لا أرى القول إلاّ قولَ أبي عبيدة، ولم نر أحداً يجيز «عَشَوْتُ عن الشيء» : أعرضتُ عنه، إِنما يقال: «تَعاشَيْتُ عن كذا» ، أي:
تغافلتُ عنه، كأنِّي لم أره، ومثلُه: تعامَيْتُ، والعرب تقول: «عَشَوْتُ إِلى النار» : إِذا استدللتَ إِليها ببصر ضعيف، قال الحطيئة:
متَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ
ومنه حديث ابن المسّيب: «أن إحدى عينَيْه ذهبتْ، وهو يَعْشُو بالأًخرى» ، أي: يُبْصِر بها بصراً ضعيفاً. قال المفسرون: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ فلم يَخَف عِقابه ولم يلتفت إِلى كلامه نقيِّضْ له أي: نسبب له شيطاناً فنجعل ذلك جزاءَه فهو له قرين لا يفارقه. وَإِنَّهُمْ يعني الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ يعني الكافرين، أي: يمنعونهم عن سبيل الهدى وإِنما جمع، لأن «مَنْ» في موضع جمع، وَيَحْسَبُونَ يعني كفار بني آدم إِنَّهُمْ على هدىً. حَتَّى إِذا جاءَنا وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «جاءنا» واحد، يعني الكافر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «جاءانا» بألفين على التثنية، يعنون الكافر وشيطانه. وجاء في التفسير أنهما يُجعلان يومَ البعث في سلسلة، فلا يفترقان حتى يًصَيِّرَهما الله إِلى النار، قال الكافر للشيطان: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي: بُعْدَ ما بين المَشْرِقَيْن وفيهما قولان: أحدهما: أنهما مَشْرِقُ الشمس في أقصر يوم في السنة، ومَشْرِقُها في أطول يوم، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: أنه أراد المَشْرِق والمَغْرِب، فغلَّب ذِكْر المَشْرِق، كما قالوا: سُنَّة العُمَرَيْن، يريدون: أبا بكر وعمر، وأنشدوا من ذلك:
أَخَذْنا بِآفاقِ السَّماءِ عَلَيْكُمُ ... لَنا قَمراها والنُّجُومُ الطَّوالِعُ «1»
يريد: الشمس والقمر وأنشدوا:
فَبَصْرَةُ الأزّدِ مِنَّا والعِراقُ لَنا ... والمَوْصِلانِ ومِنَّا مِصْرُ والحَرَمُ
يريد: الجزيرة والموصل، وهذا اختيار الفراء، والزجاج.
قوله تعالى: فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي: أنتَ أيُّها الشَّيطان. ويقول الله عزّ وجلّ يومئذ للكفار: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أي: أشركتم في الدنيا أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي: لن ينفعكم الشِّركة في العذاب، لأن لكل واحد منه الحظَّ الأوفر. قال المبرِّد: مُنِعوا روح التَّأسِّي، لأن التَّأسِّيَ يُسهِّل المُصيبة، وأنشد للخنساء أخت صخر بن مالك في هذا المعنى:
ولَوْلا كَثْرَةُ الباكينَ حَوْلِي ... على إِخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخي ولكِنْ ... أُعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي
وقرأ ابن عامر: «إِنَّكم» بكسر الألف. ثم أخبر عنهم بما سبق لهم من الشَّقاوة بقوله: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ... الآية.
__________
(1) البيت للفرزدق، ديوانه: 519، و «الكامل» 124.(4/78)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 41 الى 44]
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
قوله تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ قال أبو عبيدة: معناها: فإن نَذْهَبَنَّ وقال الزجاج: دخلت «ما» توكيداً للشرط، ودخلت النون الثقيلة في «نَذْهَبَنَّ» توكيداً أيضاً والمعنى: إنّا ننتقِم منهم إِن تُوفيِّتَ َأوْ نُرِيَنَّكَ ما وَعَدْناهم ووعَدْناك فيهم من النَّصر. قال ابن عباس: ذلك يومَ بدر. وذهب بعض المفسرين إِلى أن قوله: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ منسوخ بآية السيف، ولا وجه له.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ يعني القرآن لَذِكْرٌ لَكَ أي شَرَفٌ لَكَ بما أعطاكَ اللهُ وَلِقَوْمِكَ في قومه ثلاثة أقوال: أحدها: العرب قاطبة. والثاني: قريش. والثالث: جميع من آمن به.
(1253) وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إِذا سئل: لِمَنْ هذا الأمرُ من بعدك؟
لم يُخْبِر بشيء، حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: «لقريش» وهذا يدلّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَهِم من هذا أنه يَلِي على المسلمين بحُكْم النًّبوَّة وشَرَفِ القرآن، وأن قومه يَخْلُفونه من بعده في الوِلاية لشرف القرآن الذي أُنزلَ على رجُلٍ منهم. ومذهب مجاهد أن القوم هاهنا: العرب، والقرآن شَرَفٌ لهم إِذْ أُنزلَ بلُغتهم.
قال ابن قتيبة: إنما وُضع الذِّكر موضعَ الشَّرَف لأن الشَّريف يُذْكَر. وفي قوله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ قولان. أحدهما: عن شُكر ما أُعطيتم من ذلك. والثاني: عمّا لزمكم فيه من الحقوق.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 45 الى 56]
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49)
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54)
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)
قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إن قيل: كيف يسأل الرُّسل وقد ماتوا قبله؟ فعنه ثلاثة أجوبة «1» : أحدها: أنه لمّا أُسري به جُمع له الأنبياءُ فصلَّى بهم، ثم قال له جبريل: سل من أرسلنا
__________
لا أصل له ذكره المصنف تعليقا، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، حيث روى تفسيرا كاملا عن الضحاك عن ابن عباس، وهو مصنوع، والضحاك لم يلق ابن عباس.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 192: وأولى القولين بالصوال في تأويل ذلك قول من قال: عني به:
سل مؤمني أهل الكتابين. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 152: قوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا: أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد.(4/79)
قَبْلَك ... الآية. فقال: لا أَسألُ، قد اكتَفَيْتُ، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا قول سعيد بن جبير، والزهري، وابن زيد، قالوا: جُمع له الرُّسل ليلةَ أُسري به، فلقَيهم، وأُمر أن يسألَهم، فما شَكّ ولا سأل. والثاني: أن المراد: اسأل مؤمني أهل الكتاب من الذين أرسلت إِليهم الأنبياء، روي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. قال ابن الأنباري: والمعنى سَلْ أتباع مَنْ أرسَلْنا قَبْلَكَ، كما تقول: السخاء حاِتم، أي: سخاء حاتِم، والشِّعر زهير، أي: شِعر زهير.
وعند المفسرين أنه لم يسأل على القولين. وقال الزجاج: هذا سؤال تقرير، فإذا سأل جميع الأمم، لم يأتوا بأن في كتبهم: أن اعبدوا غيري. والثالث: أن المراد بخطاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: خطابُ أُمَّته، فيكون المعنى سَلُوا، قاله الزجاج. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ استهزاءً بها وتكذيباً.
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها يعني ما ترادف عليهم من الطُّوفان والجراد والقُمَّل والضَّفادع والدَّم والطَّمْس «1» ، فكانت كُلُّ آية أكبرَ من التي قَبْلَها، وهي العذاب المذكور في قوله:
وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، فكانت عذاباً لهم، ومعجزات لموسى عليه السلام. قوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ، في خطابهم له بهذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا: يا أيها العالِم، وكان الساحر فيهم عظيماً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم قالوه على جهة الاستهزاء، قاله الحسن.
والثالث: أنهم خاطبوه بما تقدَّم له عندهم من التَّسمية بالسّاحر، قاله الزجّاج. قوله تعالى: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي: مؤمنون بك. فدعا موسى، فكُشف عنهم، فلم يؤمِنوا. وقد ذكرنا ما تركناه هاهنا في الأعراف «2» . قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي: من تحت قصوري أَفَلا تُبْصِرُونَ عظَمتي وشِدَّةَ مُلكي؟! أَمْ أَنَا خَيْرٌ قال أبو عبيدة: أراد: بل أنا خَيْرٌ. وحكى الزجاج عن سيبويه والخليل أنهما قالا: عطف «أنا» ب «أمْ» على «أَفَلا تُبْصِرُونَ» فكأنه قال: أفلا تُبْصِرون أم أنتم بُصَراء؟! لأنهم إِذا قالوا:
أنتَ خيرٌ منه، فقد صاروا عنده بُصَراءَ. قال الزجاج: والمَهينِ: القليل يقال: شيء مَهِين، أي: قليل.
وقال مقاتل: «مَهِين» بمعنى ذليل ضعيف. قوله تعالى: وَلا يَكادُ يُبِينُ أشار إِلى عُقدة لسانه التي كانت به ثم أذهبها الله عنه، فكأنه عيَّره بشيءٍ قد كان وزال، ويدل على زواله قوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «3» ، وكان في سؤاله وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي «4» . وقال بعض العلماء: ولا يكاد يُبِين الحُجَّة ولا يأتي ببيان يُفْهم. فَلَوْلا أي: فهلاّ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وقرأ حفص عن عاصم: «أسْوِرةٌ» بغير ألف. قال الفراء: واحد الأساوِرة إِسْوار، وقد تكون الأساوِرة جمع أسْوِرة، كما يقال في جمع الأسْقِية: الأساقي، وفي جمع الأكْرُع: الأكارِع. وقال الزجاج: يصلُح أن تكون الأساوِرة جمع الجمع، تقول: أسْوِرَة وأساوِرة، كما تقول: أقوال وأقاويل، ويجوز أن تكون جمع إسْوار، وإنما صرفتَ أساوِرة، لأنك ضممتَ الهاء إِلى أساوِر، فصار اسماً واحداً، وصار له مثال في الواحد، نحو «علانية» .
__________
(1) في «اللسان» : الطموس: الدّروس والانمحاء، وطموس البصر: ذهاب نوره وضوئه.
(2) الأعراف: 135.
(3) طه: 36. [.....]
(4) طه: 27.(4/80)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
قال المفسرون: إِنما قال فرعون هذا، لأنهم كانوا إذا سوَّدوا الرجل منهم سوَّروه بِسِوار. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فيه قولان: أحدهما: متتابعين، قاله قتادة: والثاني: يمشون معه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ قال الفراء: استفزَّهم وقال غيره: استخَفَّ أحلامَهم وحملهم على خِفَّة الحِلْم بكيده وغُروره فَأَطاعُوهُ في تكذيب موسى. فَلَمَّا آسَفُونا قال ابن عباس:
أغضبونا. قال ابن قتيبة: الأسَف: الغَضَب، يقال: أسِفْتُ آسَفُ أسَفاً، أي: غَضِبْتُ. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي: قوماً تقدَّموا. وقرأها أبو هريرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وحميد الأعرج: «سُلَفاً» بضم السين وفتح اللام، كأن واحدته سُلْفَةٌ من الناس، مثل القِطعة، يقال: تقدمتْ سُلْفَةٌ من الناس، أي: قِطعة منهم. وقرأ حمزة، والكسائي: «سُلُفاً» بضم السين واللام، وهو جمع «سَلَف» ، كما قالوا: خَشَب وخُشُب، وثَمَر وثُمُر، ويقال: هو جمع سَلِِيفٍ، وكلُّه من التقدُّم. وقال الزجاج: السَّلِيف جمعٌ قد مضى والمعنى: جعلْناهم سَلَفاً متقدِّمين ليتعظ بهم الآخرون. قوله تعالى: وَمَثَلًا أي: عبرة وعظة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 66]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)
قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزّبعرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين نزل قوله: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية «1» . وقد شرحنا القصة في سورة الأنبياء «2» . والمشركون هم الذين ضربوا عيسى مَثَلاً لآلهتهم وشبَّههوه بها، لأن تلك الآية إنما تضمنت ذِكْر الأصنام، لأنها عُبِدَتْ مِنْ دون الله، فألزموه عيسى، وضربوه مَثلاً لأصنامهم، لأنه معبود النصارى، والمراد بقومه: المشركون. فأمّا يَصِدُّونَ فقرأ ابن عامر، ونافع، والكسائي: بضم الصاد، وكسرها الباقون قال الزجاج: ومعناهما جميعاً: يَضِجُّون، ويجوز أن يكون معنى المضمومة: يُعْرِضون. وقال أبو عبيدة: من كسر الصاد، فمجازها: يَضِجُّون، ومن ضمَّها، فمجازها: يَعْدِلون.
قوله تعالى: وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ المعنى: ليست خيراً منه، فإن كان في النار لأنه عُبِدَ مِنْ دون الله، فقد رضينا أن تكون آلهتُنا بمنزلته. ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي: ما ذَكَروا عيسى إَلاّ ليجادلوك به، لأنهم قد عَلِموا أن المراد ب حَصَبُ جَهَنَّمَ «3» ما اتخذوه من الموات بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي: أصحاب خصومات.
__________
(1) الأنبياء: 98.
(2) الأنبياء: 101.
(3) الأنبياء: 101.(4/81)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
قوله تعالى: وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أي: آية وعبرة لِبَنِي إِسْرائِيلَ يعرِفون به قُدرة الله على ما يريد، إِذ خلَقه من غير أب. ثم خاطب كفار مكة، فقال: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: لَجَعَلْنا بدلاً منكم ملائكةً ثم في معنى «يَخْلُفُونَ» ثلاثة أقوال: أحدها:
يخلُف بعضُهم بعضاً، قاله ابن عباس. والثاني: يخلُفونكم ليكونوا بدلاً منكم، قاله مجاهد. والثالث:
يخلُفون الرُّسل فيكونون رسلاً إِليكم بدلاً منهم، حكاه الماوردي.
والقول الثاني: أن المعنى: «ولو نشاء لجَعَلْنا منكم ملائكة» أي: قَلَبْنَا الخِلقة فجَعَلْنا بعضَكم ملائكةً يخلُفون مَنْ ذهب منكم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها تَرْجِع إِلى عيسى عليه السلام. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: نزولُ عيسى من أشراط الساعة يُعْلَم به قُربها، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي. والثاني: أن إحياءَ عيسى الموتى دليلٌ على الساعة وبعث الموتى، قاله ابن إِسحاق. والقول الثاني: أنها تَرْجِع إلى القرآن، قاله الحسن وسعيد بن جبير. وقرأ الجمهور: «لَعِلْمٌ» بكسر العين وتسكين اللام وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن وقتادة وحميد وابن محيصن بفتحهما. قال ابن قتيبة: من قرأ بكسر العين فالمعنى أنه يُعْلَم به قُرْبُ الساعة، ومن فتح العين واللام فإنه بمعنى العلامة والدليل.
قوله تعالى: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أي: فلا تَشُكُّنًّ فيها وَاتَّبِعُونِ على التوحيد هذا الذي أنا عليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قد شرحنا هذا في سورة البقرة «1» . قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وفيها قولان: أحدهما: النُّبوَّة، قاله عطاء، والسدي. والثاني: الإِنجيل، قاله مقاتل.
وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي: من أمر دينكم وقال مجاهد: «بعضَ الذي تختلفون فيه» من تبديل التوراة وقال ابن جرير: من أحكام التوراة. وقد ذهب قوم إِلى أن البعض هاهنا بمعنى الكُلّ.
وقد شرحنا ذلك في حم المؤمن «2» قال الزجاج: والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكُلّ، وإِنما بيَّن لهم عيسى بعض الذي اختلَفوا فيه ممّا احتاجوا إِليه وقد قال ابن جرير: كان بينهم اختلاف في أمر دينهم ودنياهم، فبيَّن لهم أمر دينهم فقط. وما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إلى قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ يعني كفار مكة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 73]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ أي في الدنيا يَوْمَئِذٍ أي في القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأن الخُلَّة إِذا كانت في الكفر والمعصية صارت عداوةً يومَ القيامة وقال مقاتل: نزلت في أميّة بن خلف وعقبة بن
__________
(1) البقرة: 87.
(2) غافر: 28.
(3) النساء: 175- مريم: 37.(4/82)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
أبي معيط إِلَّا الْمُتَّقِينَ يعني الموحِّدين. فإذا وقع الخوف يومَ القيامة نادى منادٍ يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، فيرفع الخلائق رؤوسهم، فيقول: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ، فينكِّس الكفار رؤوسهم. قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «يا عبادي» بإثبات الياء في الحالين وإِسكانها، وحذفها في الحالين ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص، والمفضل عن عاصم، وخلف. وفي أزواجهم قولان: أحدهما: زوجاتهم. والثاني:
قرناؤهم. وقد سبق معنى تُحْبَرُونَ «1» .
قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ قال الزجاج: واحدها صَحْفة، وهي القَصْعة. والأكواب، واحدها: كُوب، وهو إٍناء مستدير لا عُرْوَةَ له قال الفراء: الكُوب: الكوز المستدير الرأس الذي لا أُذُن له، وقال عديّ:
مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أبوابُه ... يَسْعَى عليه العَبْدُ بالكُوبِ «2»
وقال ابن قتيبة: الأكواب: الأباريق التي لا عُرى لها. وقال شيخنا أبو منصور اللغوي: وإنما كانت بغير عُرىً لِيَشرب الشارب من أين شاء، لأن العُروة تَرُدُّ الشارب من بعض الجهات.
قوله تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «تشتهيه» بزيادة هاءٍ. وحذفُ الهاء كإثباتها في المعنى. قوله تعالى: وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ يقال: لَذِذْتُ الشيءَ، واستلذذتُه، والمعنى: ما من شيء اشتهتْه نَفْس أو استلذَّتْه عين إِلاّ وهو في الجنة، وقد جمع الله تعالى جميع نعيم الجنة في هذين الوصفين، فإنه ما من نِعمة إِلاّ وهي نصيب النَّفْس أو العين، وتمام النَّعيم الخلود، لأنه لو انقطع لم تَطِب. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ يعني التي ذكرها في قوله: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ» الَّتِي أُورِثْتُمُوها قد شرحنا هذا في الأعراف «3» عند قوله: أُورِثْتُمُوها.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 83]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني الكافرين، لا يُفَتَّرُ أي: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ يعني في العذاب مُبْلِسُونَ قال ابن قتيبة: آيسون من رحمة الله. وقد شرحنا هذا في الأنعام «4» . وَما ظَلَمْناهُمْ أي: ما عذَّبْناهم على غير ذَنْبٍ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لأنفسهم بما جَنَوْا عليها. قال الزجاج:
والبصريُّون يقولون: «هُم» هاهنا فصل، كذلك يسمُّونها، ويسمِّيها الكوفيّون: العماد. قوله تعالى:
__________
(1) الروم: 15.
(2) البيت لعدي بن زيد وهو في «مجاز القرآن» : 2/ 206 و «تفسير القرطبي» 16/ 99.
(3) الأعراف: 43.
(4) الأنعام: 44.(4/83)
وَنادَوْا يا مالِكُ وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود، وابن يعمر: «يا مالِ» بغير كاف مع كسر اللام. قال الزجاج: وهذا يسميه النحويون: الترخيم، ولكني أكرهها لمخالفة المصحف. قال المفسرون: يَدْعُون مالكاً خازنَ النار فيقولون: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي: لِيُمِتْنا والمعنى: أنهم توسَّلوا به ليَسأل الله تعالى لهم الموتَ فيستريحوا من العذاب فيسكُت عن جوابهم مُدَّةً، فيها أربعة أقوال:
أحدها: أربعون عاماً، قاله عبد الله بن عمرو، ومقاتل. والثاني: ثلاثون سنة، قاله أنس. والثالث: ألف سنة، قاله ابن عباس. والرابع: مائة سنة، قاله كعب. وفي سكوته عن جوابهم هذه المدة قولان.
أحدهما: أنه سكت حتى أوحى الله إِليه أَن أَجِبْهم، قاله مقاتل. والثاني: لأن بُعْدَ ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذَلُّ. قال الماوردي: فردَّ عليهم مالك فقال: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي: مقيمون في العذاب. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ أي: أرسَلْنا رسلنا بالتوحيد وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ قال ابن عباس: يريد: كُلّكم كارِهُونَ لِما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً في «أَمْ» قولان: أحدهما: أنها للاستفهام. والثاني: بمعنى «بل» .
والإِبرام: الإِحكام. وفي هذا الأمر ثلاثة أقوال: أحدها: المكر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليقتُلوه أو يُخْرِجوه حين اجتمعوا في دار النّدوة وقد سبق بيان القصة «1» ، قاله الأكثرون. والثاني: أنه إِحكام أمرهم في تكذيبهم، قاله قتادة. والثالث: أنه: إِبرامُ أمرهم يُنجيهم من العذاب، قاله الفراء. فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي:
مُحْكِمون أمراً في مجازاتهم. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وهو ما يُسِرُّونه من غيرهم وَنَجْواهُمْ ما يتناجَوْن به بينهم بَلى والمعنى: إنّا نَسمع ذلك وَرُسُلُنا يعني من الحَفَظة لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ في «إِنْ» قولان «2» : أحدهما: أنها بمعنى الشرط، والمعنى: إِن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم، فعلى هذا في قوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أربعة أقوال: أحدها: فأنا أول الجاحدين، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن أعرابيَّين اختصما إليه، فقال أحدهما: إِن هذا كانت لي في يده أرض، فعبدنيها، فقال ابن عباس: الله أكبر، فأنا أوّل
__________
(1) الأنفال: 30.
(2) قال الطبري في «تفسيره» 11/ 216: وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معنى (إن) الشرط الذي يقتضي الجزاء وذلك أن «إن» لا تعدو في هذا الموضع أحد معنيين: إما أن يكون الحرف الذي هو بمعنى الشرط الذي يطلب الجزاء، أو تكون بمعنى الجحد، وهب إذا وجهت إلى الجحد لم يكن للكلام كبير معنى لأنه يصير بمعنى: قل ما كان للرحمن ولد، مع أنه لو كان ذلك معناه لقدر الذين أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أن يقولوا له: صدقت، وهو كما قلت ونحن لم نزعم أنه لم يزل له ولد، ولم يكن الله تعالى ذكره ليحتج لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وعلى مكذبيه من الحجة بما يقدرون على الطعن فيه، ذلك إذ كان في توجيهنا «إن» إلى معنى الجحد على ما ذكرنا، فالذي هو أشبه المعنيين بها الشرط، ومعنى الكلام: قل يا محمد لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات الله: إن كان للرحمن ولد فأنا أول عابديه بذلك منكم، ولكنه لا ولد له، فأنا أعبده بأنه لا ولد له، ولا ينبغي أن يكون له، وهذا لم يكن على وجه الشك، ولكن على وجه الإلطاف في الكلام وحسن الخطاب. ووافقه ابن كثير وقال في «تفسيره» 4/ 160:
أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأني عبد من عبيده، مطيع لجميع ما يأمرني به، ليس عندي إباء عن عبادته، فلو فرض كان هذا، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا، كما قال تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.(4/84)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
العابدين الجاحدين أن لله ولداً. والثاني: فأنا أوَّل مَنْ عَبَدَ اللهَ مخالفاً لقولكم، هذا قول مجاهد. وقال الزجاج: معناه: إن كنتم تزعُمون للرحمن وَلَداً، فأنا أوَّل الموحِّدين. والثالث: فأنا أول الآنفين لله مما قُلتم، قاله ابن السائب، وأبو عبيدة «1» . قال ابن قتيبة: يقال: عَبِدْتُ من كذا، أَعبَدُ عَبَداً، فأنا عبد وعابد، قال الفرزدق:
وأَعْبَدُ أنْ تُهْجَى تَمِيمٌ بِدارِمِ «2»
أي: آنَفُ. وأنشد أبو عبيدة:
وأَعْبَدُ أن أسُبَّهُمُ بقَوْمِي ... وأُوثِرُ دارِماً وبَنِي رَزاحِ
والرابع: أن معنى الآية: كما أنِّي لستُ أول عابدٍ لله، فكذلك ليس له ولد وهذا كما تقول: إن كنتَ كاتباً فأنا حاسبٌ، أي: لستَ كاتباً ولا أنا حاسبٌ حكى هذا القول الواحدي عن سفيان بن عيينة. والقول الثاني: أنّ «إِنْ» بمعنى «ما» ، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد فيكون المعنى:
ما كان للرحمن ولد، فأنا أولُ من عَبَدَ اللهَ على يقين أنه لا وَلَدَ له. وقال أبو عبيدة: الفاء على هذا القول بمعنى الواو.
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ يعني كفار مكة يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وابن محيصن وأبو جعفر: «حتَّى يَلْقَوا» بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف. والمراد: يلاقوا يوم القيامة، وهذه الآية عند الجمهور منسوخة بآية السّيف.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 89]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ قال مجاهد، وقتادة: يُعْبَد في السماء ويُعْبَد في الأرض. وقال الزجاج: هو الموحَّد في السماء وفي الأرض. وقرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، وابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «في السماء اللهُ وفي الأرض الله» بألف ولام من غير تنوين ولا همز فيهما. وما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إِلى قوله: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ.
(1254) سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفراً معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث.
__________
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 161: وهذا القول فيه نظر، لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره: إن كان هذا فأنا ممتنع منه؟ هذا فيه نظر فليتأمل. اللهم إلا أن يقال: إن (إن) ليست شرطا، وإنما هي نافية. [.....]
(2) هو عجز بيت وصدره: أولئك قوم إن هجوني هجوتهم.
(3) الأعراف: 54، لقمان: 34.(4/85)
نتولّى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمدٍ، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
وفي معنى الآية قولان «1» : أحدهما: أنه أراد بالذين يَدْعَون مِنْ دونه: آلهتهم، ثم استثنى عيسى وعزيرَ والملائكةَ، فقال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله وَهُمْ يَعْلَمُونَ بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم، وهذا مذهب الأكثرين، منهم قتادة. والثاني: أن المراد بالذين يَدْعُون:
عيسى وعزيرُ والملائكةُ الذين عبدهم المشركون بالله لا يَمْلِك هؤلاء الشفاعةَ لأحد إِلَّا مَنْ شَهِدَ أي:
إلاَ لِمَنْ شَهِد بِالْحَقِّ وهي كلمة الإِخلاص وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنّ الله عزّ وجلّ خلق عيسى وعزير والملائكة، وهذا مذهب قوم، منهم مجاهد. وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به.
قوله تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ قال قتادة: هذا نبيُّكم يشكو قومَه إِلى ربِّه. وقال ابن عباس: شكا إلى الله تخلُّف قومه عن الإِيمان. قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو: «وقِيلَه» بنصب اللام وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أضمر معها قولاً، كأنه قال: وقال قيلَه، وشكا شكواه إِلى ربِّه. والثاني:
أنه عطف على قوله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وقِيلَه فالمعنى: ونَسمع قِيلَه، ذكر القولين الفراء، والأخفش. والثالث: أنه منصوب على معنى: وعنده عِلْم الساعة ويَعْلَم قِيلَه، لأن معنى «وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» : يَعْلَم الساعة ويَعْلَم قِيلَه، هذا اختيار الزجاج. وقرأ عاصم وحمزة: «وقِيلهِ» بكسر اللام والهاء حتى تبلغ إِلى الياء والمعنى: وعنده عِلْم الساعة وعِلْمُ قِيلِه. وقرأ أبو هريرة وأبو رزين وسعيد بن جبير وأبو رجاء والجحدري وقتادة وحميد برفع اللام والمعنى: ونداؤه هذه الكلمة: يا ربّ ذكر عِلَّة الخفض والرفع الفراء والزجاج.
قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي: فأعْرِض عنهم وَقُلْ سَلامٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: قُلْ خيراً بدلاً من شرِّهم، قاله السدي. والثاني: ارْدُد عليهم معروفاً، قاله مقاتل. والثالث: قُلْ ما تَسْلَم به من شرِّهم، حكاه الماوردي. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يَعْلَمون عاقبة كفرهم. والثاني:
أنك صادق. والثالث: حلول العذاب بهم، وهذا تهديد لهم: «فسوف يعلمون» . وقرأ نافع، وابن عامر: «تعلمون» بالتاء. ومن قرأ بالياء، فعلى الأمر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن يخاطبهم بهذا، قاله مقاتل فنَسختْ آيةُ السيف الإعراض والسّلام.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 161: قوله تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي من الأصنام، والأوثان (الشفاعة) أي لا يقدرون على الشفاعة لهم، إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، هذا استثناء منقطع، أي: لكن من شهد بالحقّ على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. وقال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 219: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد، إلا من شهد بالحق، وشهادته بالحق: هو إقراره بتوحيد الله، يعني بذلك: إلا من آمن بالله، وهم يعلمون حقيقة توحيده، فأثبت جل ثناؤه للملائكة وعيسى وعزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الآلهة والأوثان باستثنائه الذي استثناه. ووافقهما القرطبي في «تفسيره» 16/ 106 وقال: وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يدل على معنيين: أحدهما- أن الشفاعة بالحقّ غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني- أي شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها.(4/86)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
سورة الدّخان
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
قوله عزّ وجلّ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قد تقدّم بيانه، وجواب القسم إِنَّا أَنْزَلْناهُ والهاء كناية عن الكتاب، وهو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وفيها قولان «1» . أحدهما: أنها ليلة القدر، وهو قول الأكثرين. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: أُنزلَ القرآنُ من عند الرحمن ليلة القدر جُملةً واحدةً، فوُضع في السماء الدنيا، ثم أُنزِلَ نجوماً. وقال مقاتل: نزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إِلى السماء الدنيا. والثاني: أنها ليلة النصف من شعبان، قاله عكرمة. قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي: مخوِّفين عقابنا. فِيها أي: في تلك الليلة يُفْرَقُ كُلُّ أي: يُفْصَل. وقرأ أبو المتوكّل، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: «يْفِرقُ» بفتح الياء وكسر الراء «كُلَّ» بنصب اللام أَمْرٍ حَكِيمٍ أي: مُحْكَم. قال ابن عباس: يُكتَب من أُمِّ الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشرِّ والأرزاق والآجال، حتى الحاج، وإِنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وعلى ما روي عن عكرمة أن ذلك في ليلة النصف من شعبان، والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي لها، فروي عن عكرمة أنه قال: في ليلة القَدْر، وعلى هذا المفسرون.
قوله تعالى: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا قال الأخفش: «أمراً» و «رحمةً» منصوبان على الحال المعنى: إِنّا أنزِلْناه آمرِين أمراً وراحمين رحمة. قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوباً ب «يُفْرَقُ» بمنزلة يُفْرَقُ فَرْقاً، لأن «أمراً» بمعنى «فَرْقاً» . قال الفراء: ويجوز أن تُنصب الرحمة بوقوع «مرسلين» عليها، فتكون الرحمة هي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال مقاتل: «مرسِلِين» بمعنى منزِلِين هذا القرآن، أنزلناه رحمة لمن آمن به. وقال
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 223: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر. وهذا اختيار ابن كثير والقرطبي.(4/87)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
غيره: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا» أي: إِنا نأمر بنَسخ ما يُنسخ من اللوح إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ الأنبياء، رَحْمَةً منّا بخلقنا. رَبِّ السَّماواتِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «ربُّ» بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ربِّ» بكسر الباء. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: بَلْ هُمْ يعني الكفار فِي شَكٍّ مما جئناهم به يَلْعَبُونَ يهزئون به.
[سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 16]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
فَارْتَقِبْ أي: فانتطر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ اختلفوا في هذا الدخان ووقته على ثلاثة أقوال «1» أحدها: أنه دخان يجيء قبل قيام الساعة.
(1255) فروي عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الدُّخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزّكام. وروى عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوتُ على ابن عباس ذاتَ يوم، فقال: ما نمتُ الليلة حتى أصبحتُ، قلت: لم؟ قال: طلع الكوكب ذو الذَّنَب، فخشيتُ أن يطرق الدخان، وهذا المعنى مروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن.
والثاني: أن قريشاً أصابهم جوع، فكانوا يرون بينهم وبين السماء دخانا من الجوع.
__________
لم أره عن ابن عباس سواء مرفوعا أو موقوفا، ولعله سبق قلم. وورد من حديث جماعة من الصحابة فمن ذلك: حديث حذيفة بن اليمان: أخرجه الطبري 31061 وفيه رواد بن الجراح واه. وورد من حديث أبي مالك الأشعري، أخرجه الطبري 31062 وإسناده حسن في الشواهد. وله شواهد متعددة تراجع في كتب أشراط الساعة.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 228: وأولى القولين بالصواب في ذلك ما روي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرتقبه، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم، على ما وصفه ابن مسعود لأن الله جل ثناؤه توعّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ثم أتبع قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أمرا منه بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديدا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم.
قلت: وحديث ابن مسعود صحيح كالشمس كما سيأتي. لكنه رأي له. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 165 بعد أن ساق أحاديث مرفوعة في أن الدخان هو عند قيام الساعة وعقب ذلك بآثار موقوفة ومنها أثر عن ابن عباس- وهو الآتي برواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس موقوفا. فقال: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان التي أوردناها مما فيه دلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن، قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي بين واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسره ابن مسعود إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع، وهكذا قوله يَغْشَى النَّاسَ أي يتفشاهم ويعمهم، ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل: يَغْشَى النَّاسَ. اه.(4/88)
(1256) فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث مسروق، قال: كنا عند عبد الله، فدخل علينا رجل، فقال: جئتُكَ من المسجد وتركتُ رجلاً يقول في هذه الآية يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ: يغشاهم يومَ القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبَهم منه كهيئة الزكام فقال عبد الله: من عَلِم عِلْماً فلْيَقُل به، ومن لم يَعْلَم فلْيَقُل: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشاً لمّا استعصت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم بسنين كسنيِّ يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة، وجعل الرجلُ ينظُر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فقالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، فقال الله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، فكشف عنهم، ثم عادوا إِلى الكفر، فأخذوا يومَ بدر، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، وإِلى نحو هذا ذهب مجاهد وأبو العالية والضحاك وابن السائب ومقاتل.
والثالث: أنه يوم فتح مكة لمّا حُجبت السماءُ بالغبرة، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: هذا عَذابٌ أي: يقولون: هذا عذابٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ فيه قولان:
أحدهما: الجوع. والثاني: الدّخان إِنَّا مُؤْمِنُونَ بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: من أين لهم التذكُّر والاتِّعاظ بعد نزول هذا البلاء، وحالهم أنه قد جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي: ظاهر الصِّدق؟! ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: أعرضوا ولم يقبلوا قوله وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: هو معلَّم يعلِّمه بشر، مجنون بادعائه النُّبوَّة قال الله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: زماناً يسيراً «1» . وفي العذاب قولان: أحدهما:
الضُّرُّ الذي نزل بهم كُشف بالخِصب، هذا على قول ابن مسعود. قال مقاتل: كشفه إِلى يوم بدر.
والثاني: أنه الدخان، قاله قتادة. قوله تعالى: إِنَّكُمْ عائِدُونَ فيه قولان: أحدهما: إلى الشّرك، قاله ابن
__________
صحيح الإسناد. أخرجه البخاري 4774 عن محمد بن كثير عن سفيان ثنا منصور والأعمش عن أبي الضحى عن مسروق به. وأخرجه ابن حبان 6585 والطبراني 9048 وأبو نعيم في «الدلائل» 369 من طريق محمد بن كثير به. وأخرجه البخاري 4693 والحميدي 116 من طريق سفيان به. وأخرجه البخاري 4824 والترمذي 3254 وأحمد 1/ 441 من طريق شعبه عن الأعمش ومنصور به. وأخرجه البخاري 1007 و 4821 و 4822 و 4823 ومسلم 2798 ح 40 والطبري 31043 والطبراني 9046 و 9047 وأحمد 1/ 380 و 431 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 324 و 325 و 326 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه مسلم 2798 والطبري 31045 والبيهقي 2/ 326 من طرق عن جرير عن منصور به.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 166: وقوله إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يحتمل معنيين أحدهما: أنه يقول تعالى: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وكقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ والثاني: أن يكون المراد: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد سببه ووصوله كقوله تعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ. ولم يكن العذاب، باشرهم واتصل بهم، بل كان قد انعقد سببه عليهم، ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخبارا عن شعيب أنه قال لقومه حين قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ. قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقهم. اه.(4/89)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
مسعود. والثاني: إلى عذاب الله، قاله قتادة. قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى وقرأ الحسن، وابن يعمر، وأبو عمران: «يومَ تُبْطَشُ» بتاء مرفوعة وفتح الطاء «البَطْشَةُ» بالرفع. قال الزجاج: المعنى:
واذكر يومَ نَبْطِش، ولا يجوز أن يكون منصوباً بقوله: «مُنْتَقِمُونَ» ، لأن ما بعد «إنّا» لا يجوز أن يعمل فيما قبلها. وفي هذا اليوم قولان: أحدهما: يوم بدر، قاله ابن مسعود وأُبيُّ بن كعب وأبو هريرة وأبو العالية ومجاهد والضحاك. والثاني: يوم القيامة، قاله ابن عباس والحسن. والبَطْش: الأخذ بقوّة.
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 29]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا أي: ابتَلَينا قَبْلَهُمْ أي: قَبْلَ قومك قَوْمَ فِرْعَوْنَ بارسال موسى إِليهم وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ وهو موسى بن عمران. وفي معنى «كريم» ثلاثة أقوال: أحدها: حسن الخُلُق، قاله مقاتل. والثاني: كريم على ربِّه، قاله الفراء. والثالث: شريفٌ وسيطُ النسب، قاله أبو سليمان. قوله تعالى: أَنْ أَدُّوا أي: بان أدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ وفيه قولان: أحدهما: أدُّوا إلى ما أدعوكم إليه من الحق باتِّباعي، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. فعلى هذا ينتصب «عبادَ الله» بالنداء. قال الزجاج: ويكون المعنى: أن أدُّوا إِليَّ ما آمُركم به يا عباد الله. والثاني: أرسِلوا معي بني إِسرائيل، قاله مجاهد، وقتادة، والمعنى: أطلِقوهم من تسخيركم، وسلِّموهم إِليَّ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تفتروا عليه، قاله ابن عباس. والثاني: لا تعتوا عليه، قاله قتادة.
والثالث: لا تعظَّموا عليه، قاله ابن جريج إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: بحجة تدل على صدقي. فلمّا قال هذا تواعدوه بالقتل فقال: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وفيه قولان: أحدهما: أنه رجم القول، قاله ابن عباس فيكون المعنى: أن يقولوا: شاعر أو مجنون. والثاني: القتل، قاله السدي. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي: فاتركوني لا معي ولا علَيَّ، فكفروا ولم يؤمنوا، فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قال الزجاج: من فتح «أنَّ» ، فالمعنى: بأن هؤلاء ومن كسر، فالمعنى: قال: إنّ هؤلاء، و «إنّ» بعد القول مكسورة. وقال المفسرون: المجرمون هاهنا: المشركون. فأجاب اللهُ دعاءه، وقال: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا يعني بالمؤمنين «1» إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وقومه فأعلمهم أنهم يتبعونهم، وأنه سيكون
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 118: السرى: سير الليل. والإدلاج: سير السحر والإسآد: سيره كله. والتأويب: سير النهار. وقوله تعالى: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أمر بالخروج بالليل، وسير الليل يكون من الخوف، والخوف يكون من وجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا، فهو من أستار الله تعالى، وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بحرّ أو جدب. فيتخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسري ويدلج ويترقق ويستعجل قدر الحاجة وحسب العجلة، وما تقتضيه المصلحة. وفي «جامع الموطأ» : « «إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدّوابّ العجم فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض جدبة فانجوا عليها بنقيها، وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق فإنه طرق الدّوابّ ومأوى الحيّات» . قلت: حديث صحيح. أخرجه مالك 2/ 979 عن خالد بن معدان مرسلا. وورد من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا، أخرجه مسلم 1926.(4/90)
سبباً لغرقهم. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي: ساكناً على حاله بعد أن انفرق لك، ولا تأمره أن يرجع كما كان حتى يدخُلَه فرعون وجنوده. والرَّهْو: مشيٌ في سُكون. قال قتادة: لمّا قطع موسى عليه السلام البحر، عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي كما هو طريقاً يابساً. قوله تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أخبره الله عزّ وجلّ بغرقهم لِيَطْمَئِنَّ قلبُه في ترك البحر على حاله. كَمْ تَرَكُوا أي: بعد غرقهم مِنْ جَنَّاتٍ وقد فسرنا الآية في الشعراء «1» . فأما «النَّعمة» فهو العيش اللَّيِّن الرغد. وما بعد هذا قد سبق بيانه «2» إِلى قوله: وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني بني إسرائيل. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ أي على آل فرعون، وفي معناه ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنه على الحقيقة.
(1257) روى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما مِنْ مُسْلِمٍ إٍلاّ وله في السماء بابان، باب يصعَدُ فيه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه» وتلا صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية. وقال عليّ رضي الله عنه: إِن المؤمن إذا مات بكى عليه مُصَلاّه من الأرض ومَصْعَد عمله من السماء، وإِن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مُصَلّى ولا في السماء مَصْعَد عمل، فقال الله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، وإِلى نحو هذا ذهب ابن عباس والضحاك ومقاتل. وقال ابن عباس: الحُمرة التي في السماء
__________
ضعيف جدا. أخرجه الترمذي 3255 وأبو يعلى 4133 وأبو نعيم 3/ 53 من طريق موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عن أنس به مرفوعا، وهذا إسناد ضعيف جدا، موسى بن عبيدة ضعيف ليس بشيء، وشيخه يزيد ضعيف روى مناكير كثيرة عن أنس، وهذا منها. وضعفه الترمذي بقوله: موسى ويزيد يضعفان، وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع» 7/ 104 والحافظ في «المطالب العالية» 3/ 369. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» 3/ 53 من طريق صفوان بن سليم عن يزيد بن أبان به والراوي عن صفوان هو إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، وهو ضعيف. ولعجزه شاهد مرسل، أخرجه الطبري 31129 ومع ذلك المتن منكر، وحسبه الوقف، وانظر «تفسير القرطبي» 5469 بتخريجنا.
__________
(1) الشعراء: 57.
(2) يس: 55.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 168: وقوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم، وعتوهم وعنادهم. وقال القرطبي في «تفسيره» 16/ 121: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أي لكفرهم. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمّت مصيبته الأشياء، وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وتقدير الآية: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا موضع عبادتهم من الأرض وفي بكاء السماء والأرض أنه كالمعروف من بكاء الحيوان، ولا استحالة في ذلك. وإذا كانت السماوات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم فكذلك تبكي مع ما جاء من الخبر في ذلك، والله أعلم بصواب هذه الأقوال.(4/91)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
بكاؤها. وقال مجاهد: ما مات مؤمن إِلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فقيل له:
أو تَبكي؟ قال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دَويّ كَدَويَّ النحل؟!.
والثاني: أن المراد: أهل السماء وأهل الأرض، قاله الحسن، ونظير هذا قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «1» ، أي: أهل الحرب. والثالث: أن العرب تقول إِذا أرادت تعظيمَ مَهِلكِ عظيمٍ: أظلمت الشمسُ له، وكَسَفَ القمرُ لفقده، وبكتْه الرّيحُ والبرقُ والسماءُ والأرضُ، يريدون المبالغة في وصف المصيبة، وليس ذلك بكذب منهم، لأنهم جميعاً متواطئون عليه، والسّامِعُ له يَعرف مذهبَ القائل فيه ونيَّتُهم في قولهم: أظلمت الشمسُ كادت تُظْلِم، وكَسَفَ القمرُ: كاد يَكْسِف، ومعنى «كاد» : هَمَّ أن يَفعَل ولم يفعل قال ابن مُفَرِّغ يرثي رجلاً:
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ ... والبَرْقُ يَلْمَعُ في غَمامَهْ «2»
وقال الآخر:
الشَّمْسُ طالِعَةٌ لَيْسَتْ بكاسِفةٍ ... تَبْكِي عَلَيْكَ- نُجُومَ اللَّيْلِ والْقَمَرا «3»
أراد: الشمسُ طالعةٌ تبكي عليه، وليست مع طلوعها كاسِفةً النجومَ والقمرََ، لأنها مُظْلِمةٌ، وإِنما تَكْسٍفُ بضوئها، فنجُومُ الليل باديةٌ بالنهار، فيكون معنى الكلام: إن الله لمّا أهلك قوم فرعون لم يبك عليهم باكٍ، ولم يَجْزَعْ جازعٌ، ولم يوجد لهم فَقْدٌ، هذا كلُّه كلامُ ابن قتيبة.
[سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 42]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)
إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
قوله تعالى: مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والتعب في أعمال فرعون، إِنَّهُ كانَ عالِياً أي: جبَّاراً. وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ يعني بني إِسرائيل عَلى عِلْمٍ عَلِمه اللهُ فيهم على عالَمي زمانهم، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كانفراق البحر، وتظليل الغمام، وإِنزال المَنِّ والسَّلْوى، إلى غير ذلك ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي: نِعمة ظاهرة.
ثم رجع إلى ذِكْر كفار مكة، فقال إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يعنون التي تكون في الدنيا وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي: بمبعوثين، فَأْتُوا بِآبائِنا أي: ابعثوهم لنا
__________
(1) محمد: 4.
(2) البيت ليزيد بن مفرّغ الحميري، وهو في «الأغاني» 18/ 187 و «الأضداد» 424 للأنباري.
(3) البيت لجرير يرثي عمر بن عبد العزيز، ديوانه: 304 و «اللسان» - بكى-(4/92)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في البعث. وهذا جهل منهم من وجهين: أحدهما: أنهم قد رأوا من الآيات ما يكفي في الدلالة فليس لهم أن يتنطّعوا «1» . والثاني: أن الإِعادة للجزاء وذلك في الآخرة، لا في الدنيا. ثم خوَّفهم عذابَ الأُمَم قَبْلَهم، فقال: أَهُمْ خَيْرٌ أي: أشَدُّ وأقوى أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟! أي: ليسوا خيراً منهم.
(1258) روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أدري تُبَّعاً، نبيّ، أو غير نبيّ» .
وقالت عائشة: لا تسُبُّوا تُبَّعاً فإنه كان رجلاً صالحاً، ألا ترى أن الله تعالى ذَمَّ قومَه ولم يذُمَّه.
وقال وهب: أسلَم تُبَّع ولم يُسْلِم قومُه، فلذلك ذُكر قومه ولم يُذكر. وذكر بعض المفسرين أنه كان يعبدُ النار، فأسلم ودعا قومَه- وهم حِمْيَر- إِلى الإِسلام، فكذَّبوه. فأمّا تسميته ب «تُبَّع» فقال أبو عبيدة: كل ملِك من ملوك اليمن كان يسمّى: تُبَّعاً، لأنه يَتْبَع صاحبَه، فموضعُ «تُبَّع» في الجاهلية موضعُ الخليفة في الإِسلام، وقال مقاتل: إنما سمِّي تُبَّعاً لكثرة أتباعه، واسمه: مَلْكَيْكَرِب. وإِنما ذكر قوم تُبَّع، لأنهم كانوا أقربَ في الهلاك إِلى كفار مكة من غيرهم.
وما بعد هذا قد تقدّم «2» إِلى قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ وهو يوم يفصل الله عزّ وجلّ بين العباد مِيقاتُهُمْ أي: ميعادهم أَجْمَعِينَ يأتيه الأوّلون والآخرون. يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً فيه قولان: أحدهما: لا يَنْفَع قريبٌ قريباً، قاله مقاتل. وقال ابن قتيبة: لا يُغْنِي وليٌّ عن وليِّه بالقرابة أو غيرها. والثاني: لا يَنْفَع ابنُ عمٍّ ابنَ عمِّه، قاله أبو عبيدة. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي، لا يُمْنَعون من عذاب الله، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ وهم المؤمنون، فإنه يشفع بعضهم في بعض.
[سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 59]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
__________
صحيح. أخرجه أبو داود 4674 والبيهقي 8/ 329 من طريق عبد الرزاق ثنا معمر عن ابن أبي ذئب المقبري عن أبي هريرة. لكن بلفظ. «ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبيّ هو أم لا؟» . وأخرجه الحاكم 2/ 450 من طريق آخر عن ابن أبي ذئب به، بلفظ أبي داود لكن عنده «ذو القرنين» بدل «عزير» . وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في «الصحيحة» 2217 على شرط البخاري فقط، فإن في إسناده آدم بن أبي إياس لم يرو له مسلم.
__________
(1) في «اللسان» : التّنطّع في الكلام: التعمق فيه مأخوذ منه، وفي الحديث «هلك المتنطعون» المتعمقون المغالون في الكلام، الذين يتكلمون بأقصى حلوقهم تكبرا. [.....]
(2) الأنبياء: 16- الحجر: 85.(4/93)
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ قد ذكرناها في الصافات «1» . و «الْأَثِيمِ» : الفاجر وقال مقاتل: هو أبو جهل. وقد ذكرنا معنى «المُهْل» في الكهف «2» .
قوله تعالى: يَغْلِي فِي الْبُطُونِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «يغلي» بالياء والباقون: بالتاء. فمن قرأ «تغلي» بالتاء، فلتأنيث الشجرة ومن قرأ بالياء، حمله على الطعام، قال أبو علي الفارسي: ولا يجوز أن يُحْمَل الغَلْيُ على المُهْل، لأن المهْل ذُكِر للتشبيه في الذَّوْب، وإٍنما يغلي ما شُبِّه به كَغَلْيِ الْحَمِيمِ وهو الماء الحارُّ إِذا اشْتَدَّ غَلَيانُه.
قوله تعالى: خُذُوهُ أي: يقال للزبانية: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب: بضم التاء وكسرها الباقون قال ابن قتيبة: ومعناه: قُودوه بالعُنف، يقال: جيء بفلان يُعْتَلُ إِلى السلطان، و «سواء الجحيم» : وسط النار. قال مقاتل: الآيات في أبي جهل يضربه الملَك من خُزّان جهنم على رأسه بمقمعة من حديد فتنقُب عن دماغه، فيجري دماغُه على جسده، ثم يصُبُّ الملَك في النَّقْب ماءً حميماً قد انتهى حَرُّه، فيقع في بطنه، ثم يقول له الملَك: ذُقْ العذاب إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ هذا توبيخ له بذلك وكان أبو جهل يقول: أنا أعَزًّ قريش وأكرمُها. وقرأ الكسائي: «ذُقْ أنَّكَ» بفتح الهمزة والباقون: بكسرها. قال أبو علي: من كسرها، فالمعنى: أنت العزيز في زعمك، ومن فتح، فالمعنى: بأنَّكَ.
فإن قيل: كيف سُمِّي بالعزيز وليس به؟! فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قيل ذلك استهزاءً به، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والثاني: أنت العزيز الكريم عند نَفْسك، قاله قتادة. والثالث: أنت العزيز في قومك، الكريم على أهلك، حكاه الماوردي.
ويقول الخزّان لأهل النار: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي: تَشُكُّون في كونه. ثم ذكر مستقَرَّ المُتَّقِين فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ قرأ نافع وابن عامر: «في مُقام» بضم الميم والباقون:
بفتحها. قال الفراء: المَقام، بفتح الميم: المكان، وبضمها: الإِقامة. قوله تعالى: أَمِينٍ أي: أمِنوا فيه الغِيَر والحوادث. وقد ذكرنا «الجنّات» في البقرة «3» ، وذكرنا معنى «العُيون» ومعنى «متقابِلين» في الحجر «4» ، وذكرنا «السُّندُس والإِستبرق» في الكهف «5» .
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: الأمر كما وَصَفْنا وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ قال المفسرون: المعنى:
قَرَنّاهم بِهِنّ، وليس من عقد التزويج. قال أبو عبيدة: المعنى: جَعَلْنا ذكور أهل الجنة أزواجاً بِحُورٍ عِينٍ من النساء، تقول للرجل: زوِّج هذه النَّعل الفرد بالنَّعل الفرد، أي: اجعلهما زَوْجاً، والمعنى:
جَعَلْناهم اثنين اثنين. وقال يونس: العرب لا تقول: تزوَّج بها، إِنما يقولون: تزوجَّها. ومعنى وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ: قَرَنّاهم. وقال ابن قتيبة: يقال: زوّجته امرأة، وزوّجته بامرأة. وقال أبو عليّ الفارسي: والتنزيل على ما قال يونس، وهو قوله تعالى: زَوَّجْناكَها «6» ، وما قال: زَوَّجْناك بها. فأمّا الحُور، فقال مجاهد: الحُور: النساء النقيّات البياض. وقال الفراء: الحَوْراء: البيضاء من الإِبل قال:
وفي «الحُور العِين» لغتان: حُور عِين، وحِير عين، وأنشد:
__________
(1) الصافات: 62.
(2) الكهف: 29.
(3) البقرة: 25.
(4) الحجر: 45- 47.
(5) الكهف: 31.
(6) الأحزاب: 37.(4/94)
أزمانَ عيناء سرور المسير ... وحَوْراء عيناء مِنَ العِين الحِير
وقال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض بياض العَيْن، الشديدة سواد سوادها. وقد بيَّنّا معنى «العِين» في الصافات «1» .
قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ فيه قولان: أحدهما: آمنين من انقطاعها في بعض الأزمنة. والثاني: آمنين من التُّخَم والأسقام والآفات. قوله تعالى: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «سوى» ، فتقدير الكلام: لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا ومثله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «2» ، وقوله:
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «3» أي: سوى ما شاء لهم ربُّك من الزيادة على مقدار الدنيا، هذا قول الفراء، والزجاج. والثاني: أن السُّعداء حين يموتون يصيرون إِلى الرَّوح والرَّيحان وأسباب من الجنة يَرَوْنَ منازلهم منها، وإِذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنّة، لاتّصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إيّاها، قاله ابن قتيبة. والثالث: أن «إلاّ» بمعنى «بَعْد» ، كما ذكرنا في أحد الوجوه في قوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «4» ، وهذا قول ابن جرير. قوله تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي: فعل اللهُ ذلك بهم فَضْلاً منه. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي: سهَّلْناه، والكناية عن القرآن بِلِسانِكَ أي: بِلُغة العرب لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: لكي يتَّعِظوا فيُؤْمِنوا، فَارْتَقِبْ أي: انْتَظِرْ بهم العذاب إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ هلاكك وهذه عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح.
__________
(1) الصافات: 48.
(2) النساء: 22.
(3) هود: 107.
(4) النساء: 22.(4/95)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
سورة الجاثية
وتسمّى: سورة الشريعة. روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكّيّة، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور. وقال مقاتل: هي مكّيّة كلّها. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: هي مكّيّة إلّا آية، وهي قوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9)
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
قوله تعالى: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ قد شرحناه في أول المؤمن.
قوله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ أي: من تراب ثم من نُطْفة إِلى أن يتكامل خَلْق الإِِنسان وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ أي: وما يُفرِّق في الأرض من جميع ما خلق على اختلاف ذلك في الخَلْق والصُّوَر آياتٌ تدُلُّ على وحدانيَّته. قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «آياتٌ» رفعاً «وتصريفِ الرِّياحِ آياتٌ» رفعاً أيضاً. وقرأ حمزة، والكسائي: بالكسر فيهما. والرِّزق هاهنا بمعنى المطر. قوله تعالى:
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أي: هذه حُجج الله نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ أي: بعد حديثه وَآياتِهِ يؤمن هؤلاء المشركون؟!
__________
(1) الجاثية: 14.(4/96)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ روى أبو صالح عن ابن عباس أنها نزلت في النضر بن الحارث.
وقد بيَّنّا معناها في الشعراء «1» ، والآية التي تليها مفسَّرة في لقمان «2» .
قوله تعالى: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً قال مقاتل: معناه: إِذا سمع. وقرأ ابن مسعود: «وِإذا عُلِّمَ» برفع العين وكسر اللام وتشديدها. قوله تعالى: اتَّخَذَها هُزُواً أي: سَخِر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ «3» فدعا بتمر وزُبْد، وقال: تَزَقَّموا فما يَعِدُكم محمد إِلاَّ هذا، وإِنما قال: أُولئِكَ لأنه ردَّ الكلام إلى معنى «كُلّ» . مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ قد فسَّرناه في إبراهيم «4» وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً من الأموال، ولا ما عبدوا من الآلهة. قوله تعالى: هذا هُدىً يعني القرآن وَالَّذِينَ كَفَرُوا به، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم:
«أليمٌ» بالرفع على نعت العذاب. وقرأ الباقون: بالكسر على نعت الرِّجز. والرِّجز بمعنى العذاب، وقد شرحناه في الأعراف «5» . قوله تعالى: جَمِيعاً مِنْهُ أي: ذلك التسخير منه لا مِنْ غيره، فهو مِنْ فضله.
وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: «جميعاً مِنَّةً» بفتح النون وتشديدها وتاء منصوبة منوَّنة. وقرأ سعيد بن جبير: «مَنُّهُ» بفتح الميم ورفع النون والهاء مشددة النون.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 14 الى 22]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)
قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ... الآية، في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أنهم نزلوا في غَزاة بني المصطلق على بئر يقال لها: «المريسيع» ، فأرسل عبدُ الله بن أُبيّ غلامَة ليستقيَ الماء، فأبطأ عليه، فلمّا أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر، ما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقُرَبَ أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مَثَلُنا ومَثَلُ هؤلاء إِلاّ كما قيل: سمِّن كلبك يأكلك، فبلغ قولُه عمر، فاشتمل سيفَه يريد التوجُّه إِليه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء
__________
(1) الشعراء: 222.
(2) لقمان: 7. [.....]
(3) الدخان: 43- 44.
(4) إبراهيم: 16.
(5) الأعراف: 134.(4/97)
عن ابن عباس «1» .
(1259) والثاني: أنها لمّا نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «2» قال يهوديُّ بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج ربُّ محمد. فلما سمع بذلك عمر، اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في طلب عمر، فلمّا جاء، قال: «يا عمر، ضَعْ سيفَك» وتلا عليه الآية، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس.
(1260) والثالث: أنّ ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة كانوا في أذىً شديدٍ من المشركين قبل أن يؤمَروا بالقتال، فشكَوْا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله القرظي، والسدي.
والرابع: أن رجلاً من كفار قريش شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ عمر أن يبطش به، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «3» .
ومعنى الآية: قُلْ للذين آمنوا: اغْفِروا، ولكن شبِّه بالشرط والجزاء، كقوله: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ «4» ، وقد مضى بيان هذا. وقوله: لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أي: لا يَخافون وقائع الله في الأُمم الخالية، لأنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه. وقيل: لا يَدْرُون أنْعَمَ اللهُ عليهم، أم لا.
وقد سبق بيان معنى «أيّام الله» في سورة إبراهيم «5» .
فصل:
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية منسوخة، لأنها تضمَّنت الأمر بالإِعراض عن المشركين. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «6» ، رواه معمر عن قتادة. والثاني: أنه قوله في الأنفال: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ «7» ، وقوله في براءة: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «8» ، رواه سعيد عن قتادة. والثالث: أنه قوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «9» ، قاله أبو صالح.
قوله تعالى: لِيَجْزِيَ قَوْماً وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لِنَجْزِيَ» بالنون «قوماً» يعني الكفار، فكأنه قال: لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن. وما بعد هذا قد سبق «10» إلى قوله:
__________
ضعيف جدا، أخرجه الواحدي 743 م في «أسباب النزول» عن ميمون عن ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا محمد بن زياد اليشكري متروك متهم.
عزاه المصنف للقرظي وهو محمد بن كعب، وللسدي، ولم أقف على إسناده، وكلاهما مرسل.
وأخرج الطبري 31185 بسند فيه مجاهيل عن ابن عباس نحوه. وهذا القول أقرب للصواب، وإن لم يصح بوجه من الوجوه. وكون السورة نزلت في عمر، واه بمرة.
__________
(1) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 743 بدون إسناد، فهو لا شيء.
(2) البقرة: 245.
(3) عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم بالكذب، فالخبر لا شيء.
(4) إبراهيم: 31.
(5) إبراهيم: 5.
(6) التوبة: 5.
(7) الأنفال: 57.
(8) التوبة: 36.
(9) الحج: 39.
(10) الإسراء: 7.(4/98)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ يعني التوراة وَالْحُكْمَ وهو الفَهْم في الكتاب، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني المَنَّ والسَّلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي: عالَمي زمانهم. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فيه قولان:
أحدهما: بيان الحلال والحرام، قاله السّدّيّ. والثاني: العلم بمبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وشواهد نبوَّته، ذكره الماوردي. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «1» إِلى قوله: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ «2» سبب نزولها أن رؤساء قريش دعَوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلى مِلَّة آبائه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
فأمّا قوله: عَلى شَرِيعَةٍ فقال ابن قتيبة: أي على مِلَّة ومذهب، ومنه يقال: شَرَعَ فلان في كذا: إِذا أخَذ فيه، ومنه «مَشارِعُ الماء» وهي الفُرَض التي شرع فيها الوارد. قال المفسرون: ثم جعلناك بعد موسى على طريقة من الأمر، أي: من الدّين فَاتَّبِعْها. والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كفار قريش. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ أي: لن يَدْفَعوا عنك عذاب الله إِن اتبَّعتَهم، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يعني المشركين. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الشرك. والآية التي بعدها مفَّسرة في آخر الأعراف «3» . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للمؤمنين: إنّا نُعطى في الآخرة مثلما تُعْطَون من الأجر، قاله مقاتل «4» .
والاستفهام هاهنا استفهام إِنكار. و «اجترحوا» بمعنى اكتسبوا. سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وزيد عن يعقوب: «سواءً» نصباً وقرأ الباقون: بالرفع. فمن رفع، فعلى الابتداء ومن نصب، جعله مفعولاً ثانياً، على تقدير: أن نجعل مَحياهم ومماتَهم سواءً والمعنى: إِن هؤلاء يَحْيَون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وهؤلاء يَحْيَون كافرين ويموتون كافرين وشتّان ما هم في الحال والمآل ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي: بئس ما يَقْضُون. ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السموات والأرض بالحق، أي: للحق والجزاء بالعدل، لئلاّ يظُن الكافرُ أنه لا يجزى بكفره.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 31]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)
__________
(1) آل عمران: 19. [.....]
(2) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 123: ظن بعض من تكلم في العلم أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، ولا ننكر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء والعظة هل يلزم اتباعه أم لا؟ ولا إشكال في لزوم ذلك، ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع بحسب ما علمه سبحانه.
(3) الأعراف: 203.
(4) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، لا حجة فيه البتة.(4/99)
قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قد شرحناه في الفرقان «1» . وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السهمي. قوله تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي: على عِلْمه السابق فيه أنه لا يَهتدي وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ أي: طَبَع عليه فلم يسمع الهدى وَعلى قَلْبِهِ فلم يَعْقِل الهُدى، وقد ذكرنا الغِشاوة والخَتْم في (البقرة) «2» . فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي: مِنْ بَعْدِ إِضلاله إِيّاه أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتَعْرِفوا قُدرته على ما يشاء؟!. وما بعد هذا مفسَّر في سورة المؤمنون «3» إلى قوله: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي:
اختلاف الليل والنهار وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي: ما قالوه عن عِلْم، إِنَّما قالوه شاكِّين فيه. ومن أجل هذا قال نبيُّنا عليه الصلاة والسلام:
(1261) «لا تَسُبُّوا الدَّهْر فإنَّ الله هو الدَّهْر» ، أي: هو الذي يهلككم، لا ما تتوهّمونه من مرور الزمان.
وما بعد هذا ظاهر، وقد تقدّم بيانه «4» إِلى قوله: يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ يعني المكذِّبين الكافرين أصحابَ الأباطيل والمعنى: يظهر خسرانُهم يومئذ. وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ قال الفراء ترى أهل كل دين جاثِيَةً قال الزجاج: أي: جالسة على الرُّكَب، يقال: قد جثا فلان جُثُواً: إِذا جلس على ركبتيه، ومِثْلُه: جَذا يَجْذو. والجُذُوُّ أشد استيفازاً من الجُثُوِّ، لأن الجُذُوَّ: أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه. قال ابن قتيبة: والمعنى أنها غير مطمئنَّة.
قوله تعالى: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كتابها الذي فيه حسناتها وسيِّئاتها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه حسابها، قاله الشعبي، والفراء، وابن قتيبة.
والثالث: كتابها الذي أنزل على رسوله، حكاه الماوردي. ويقال لهم: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كتاب الأعمال الذي تكتبه الحَفَظة، قاله ابن السائب. والثاني:
اللوح المحفوظ، قاله مقاتل. والثالث: القرآن، والمعنى أنهم يقرءونه فيَدُلُّهم ويُذكِّرُهم، فكأنه يَنْطِق عليهم، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي بكَتْبها وإِثباتها. وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ، من اللوح المحفوظ، تَسْتَنْسِخُ الملائكةُ كلّ عام ما
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4826 و 7491 ومسلم 2246 والحميدي 1096 وأبو داود 5274 وأحمد 2/ 238 وابن حبان 5715 والبغوي 3389 والبيهقي في «السنن 3/ 365 والطبري 31207 كلهم من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم ورواه البخاري بمعناه. قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 179: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة، قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله فكأنهم إنما سبّوا الله عز وجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال. هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدّهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذا من هذا الحديث.
__________
(1) الفرقان: 43.
(2) البقرة: 7.
(3) المؤمنون: 37.
(4) البقرة: 28، الشورى: 7.(4/100)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقاً ما يعملونه. قالوا: والاستنساخ لا يكون إِلاّ مِنْ أصلٍ.
قال الفراء: يرفع الملَكان العملَ كلَّه، فيُثْبِتُ اللهُ منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللَّغو. وقال الزجاج: نستنسخ ما تكتبه الحَفَظة، ويثبت عند الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى: فِي رَحْمَتِهِ قال مقاتل: في جنَتَّه.
قوله تعالى: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي فيه إضمار، تقديره: فيقال لهم ألم تكن آياتي، يعني آيات القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإِيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ قال ابن عباس: كافرين.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 32 الى 37]
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36)
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ أي: كائن وَالسَّاعَةُ قرأ حمزة: «والساعةَ» بالنصب لا رَيْبَ فِيها أي: كائنة بلا شك قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي أنكرتموها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أي:
ما نعلم ذلك إلا ظنّاً وحَدْساً، ولا نَسْتْيِقنُ كونَها.
وما بعد هذا قد تقدم «1» إِلى قوله: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ أي: نتركُكم في النار كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: كما تَركتُم الإِيمانَ والعملَ للقاء هذا اليوم. ذلِكُمْ الذي فَعَلْنا بكم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً أي: مهزوءاً بها وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا حتى قلتم: إِنه لا بَعْثَ ولا حساب فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ وقرأ حمزة، والكسائي: «لا يَخْرُجُونَ» بفتح الياء وضم الراء. وقرأ الباقون: «لا يُخْرَجُونَ» بضم الياء وفتح الراء مِنْها أي: من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يُطلب منهم أن يَرْجِعوا إلى طاعة الله عزّ وجلّ، لأنه ليس بحين توبة ولا اعتذار.
قوله تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: السُّلطان، قاله مجاهد. والثاني: الشَّرَف، قاله ابن زيد. والثالث: العَظَمة، قاله يحيى بن سلام، والزّجّاج.
__________
(1) الزمر: 48.(4/101)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
سورة الأحقاف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
فصل في نزولها «1» : روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكِّيَّة، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: فيها آية مدنيّة، وهي قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «2» . وقال مقاتل: نزلت بمكة غير آيتين: قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وقوله: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «3» . نزلتا بالمدينة.
وقد تقدّم تفسير فاتحتها «4» إلى قوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى وهو أجَل فَناء السموات والأرض، وهو يوم القيامة. قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مفسَّر في فاطر «5» إلى قوله: ائْتُونِي بِكِتابٍ «6» ، وفي الآية اختصار، تقديره: فإن ادَّعَواْ أن شيئاً من المخلوقات صنعةُ آلهتهم، فقل لهم: ائتوني بكتاب مِنْ قَبْلِ هذا أي: مِنْ قَبْلِ القرآن فيه برهانُ ما تدَّعون من أن الأصنام شركاءُ الله، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ وفيه ثلاثة أقوال «7» : أحدها: أنه الشيء يثيره مستخرجه، قاله الحسن. والثاني: بقيَّة مِنْ عِلْمٍ تؤثر عن
__________
(1) سورة الأحقاف مكية في قول جميعهم، كما في «تفسير القرطبي» 16/ 154 و «تفسير ابن كثير» 4/ 182، و «تفسير الشوكاني» 5/ 16.
(2) الأحقاف: 10.
(3) الأحقاف: 35.
(4) المؤمن: 1- 2.
(5) فاطر: 40.
(6) قال ابن العربي في «أحكام القرآن» 4/ 124: وهي أشرف آية في القرآن، فإنها استوفت أدلة الشرع عقليها وسمعيّها، لقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ فهذه بيان لأدلة العقل المتعلقة بالتوحيد، وحدوث العالم، وانفراد الباري سبحانه بالقدرة والعلم والوجود والخلق، ثم قال: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا على ما تقولون وهذه بيان لأدلة السمع فإن مدرك الحقّ إنما يكون بدليل العقل أو بدليل الشرع حسبما بيناه من مراتب الأدلة في كتب الأصول. [.....]
(7) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 273: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأثارة: البقية من علم، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب. وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأه «أو أثرة» بسكون الثاء، وإذا وجه ذلك إلى ما قلنا فيه من أنه بقية من علم، جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط، ومن علم استثير من كتب الأولين ومن خاصة علم أوثروا به.(4/102)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
الأوَّلِين، قاله ابن قتيبة، وإِلى نحوه ذهب الفراء، وأبو عبيدة. والثالث: علامة مِنْ عِلْم، قاله الزجاج.
وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأيوب السختياني، ويعقوب: «أثَرَةٍ» بفتح الثاء، مثل شجرة. ثم ذكروا في معناها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الخَطُّ، قاله ابن عباس وقال: هو خَط كانت العرب تخُطُّه في الأرض، قال أبو بكر بن عيّاش: الخَطُّ هو العِيافة. والثاني: أو عِلْم تأثُرونه عن غيركم، قاله مجاهد.
والثالث: خاصَّة مِنْ عِلْم، قاله قتادة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والضحاك، وابن يعمر: «أثْرَةٍ» بسكون الثاء من غير ألف بوزن نَظْرَةٍ. وقال الفراء: قرئت «أثارةٍ» و «أثَرَةٍ» ، وهي لغات، ومعنى الكل: بقيَّة مِنْ عِلْم، ويقال: أو شيء مأثور من كتب الأولين، فمن قرأ «أثارةٍ» فهو المصدر، مثل قولك: السماحة والشجاعة، ومن قرأ «أثَرَةٍ» فإنه بناه على الأثَر، كما قيل:
قَتَرة، ومن قرأ «أثرة» فكأنه أراد قوله: «الخطفة» «1» و «الرّجفة» «2» . وقال اليزيدي: الأثارة: البقيَّة والأثَرَة، مصدر أثَرَه يأثُرُه، أي: يذكُره ويَرويه، ومنه: حديثٌ مأثور.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 5 الى 8]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
قوله تعالى: مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ يعني الأصنام وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ لأنها جماد لا تَسمع، فإذا قامت القيامة صارت الآلهة أعداءً لعابديها في الدنيا. ثم ذكر بما بعد هذا أنهم يسمُّون القرآن سِحْراً وأن محمداً افتراه. قوله تعالى: فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا تقدِرون على أن ترُدُّوا عني عذابَه، أي: فكيف أفتري مِنْ أجِلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عذابه عنِّي؟! هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي: بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب والقول بأنه سِحْر كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أن القرآن جاء مِنْ عندِ الله وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ في تأخير العذاب عنكم. وقال الزجاج: إنما ذكر هاهنا الغُفران والرَّحمة ليُعْلِمَهم أنَّ من أتى ما أَتَيْتُم ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 9 الى 10]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قوله تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي: ما أنا بأوَّل رسولٍ. والبِدْع والبديع من كل شيء:
المبتدأ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة: «ما يَفْعَلُ» بفتح الياء ثم فيه
__________
(1) الصافات: 10.
(2) الأعراف: 78.(4/103)
قولان: أحدهما: أنه أراد بذلك ما يكون في الدنيا. ثم فيه قولان «1» :
(1262) أحدهما: أنه لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رأى في المنام أنه هاجر إلى أرضٍ ذاتِ نخلٍ وشجرٍ وماءٍ، فقصَّها على أصحابه، فاستبشَروا بذلك لما يلقَون من أذى المشركين. ثم إِنهم مكثوا بُرهة لا يرَوْن ذلك، فقالوا: يا رسول الله متى تُهاجِر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ يعني لا أدري، أخرُجُ إِلى الموضع الذي رأيتُه في منامي أم لا؟ ثم قال: إِنما هو شيء رأيتُه في منامي، وما أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكذلك قال عطية: ما أدري هل يتركني بمكة أو يُخرجني منها.
والثاني: ما أدري هل أُخْرَج كما أُخْرج الأنبياءُ قَبْلي، أو أُقْتَل كما قُتِلوا، ولا أدري ما يُفْعَل بكم، أتعذَّبونَ أم تؤخَّرونَ؟ أتُصدَّقونَ أم تُكذَّبونَ؟ قاله الحسن.
والقول الثاني: أنه أراد ما يكون في الآخرة.
(1263) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لمّا نزلتْ هذه الآية، نزل بعدها لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2» وقال: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ... الآية «3» ، فأُعلم ما يُفْعَل به وبالمؤمنين. وقيل: إن المشركين فرحوا عند نزول هذه الآية وقالوا: ما أمْرُنا وأمْرُ محمد إلاّ واحد، ولولا أنه ابتدع ما يقوله لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزل قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ... الآية، فقال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، فماذا يُفْعَل بنا؟ فنزلت: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ... الآية وممن ذهب إِلى هذا القول أنس وعكرمة وقتادة. وروي عن الحسن ذلك.
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني القرآن وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وفيه قولان «4» : أحدهما: أنه عبد الله بن سلام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال
__________
واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 744 معلقا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا ساقط، الكلبي متروك كذاب، والخبر واه بمرة ليس بشيء.
أخرجه الطبري 31239 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مختصرا، وفيه إرسال بينهما.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 11/ 277: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دل عليه التنزيل، القول الذي قاله الحسن البصري. ومحال أن يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قل للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وآيات كتاب الله عز وجل في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون، والمؤمنون في الجنان منعمون، وبذلك يرهبهم مرة، ويرغبهم أخرى، ولو قال لهم ذلك، لقالوا له: فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أي حال تصير غدا في القيامة. وقال ابن كثير في «تفسره» 4/ 184: وهذا القول الذي عوّل عليه ابن جرير وأنه لا يجوز غيره، ولا شك في أن هذا هو اللائق به صلوات الله وسلامه عليه فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره، وأمر مشركي قريش إلى ماذا؟ أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم؟
(2) الفتح: 2.
(3) الفتح: 5.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 281: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق: هو موسى والتوراة، لا ابن سلام، لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية، في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل، لأن الآية في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش، واحتجاجا عليهم لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الآية نظير سائر الآيات قبلها ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه الآية إلى أنها فيهم نزلت، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن ذلك عني به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به.
- وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 16/ 162: ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وتوضع في سورة مكية، فإن الآية كانت تنزل فيقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ضعوها في سورة كذا، والآية في محاجة المشركين، ووجه الحجة أنهم كانوا يراجعون اليهود في أشياء، أي شهادتهم لهم وشهادة نبيهم هي من أوضح الحجج، ولا يبعد أن تكون السورة في محاجة اليهود.(4/104)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
الحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. والثاني: أنه موسى بن عمران عليه السلام، قاله الشعبي، ومسروق. فعلى القول الأول يكون ذكر المثل صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد من بني إِسرائيل عليه، أي: على أنه من عند الله، فَآمَنَ الشاهد، وهو ابن سلام وَاسْتَكْبَرْتُمْ يا معشر اليهود. وعلى الثاني يكون المعنى: وشَهِد موسى على التوراة التي هي مِثْل القرآن أنها من عند الله، كما شهد محمد على القرآن أنه كلام الله، «فآمن» مَنْ آمن بموسى والتوراة «واستَكْبرتُم» أنتم يا معشر العرب أن تؤمِنوا بمحمد والقرآن.
فإن قيل: أين جواب «إِنْ» قيل: هو مُضْمَر وفي تقديره ستة أقوال: أحدها: أن جوابه: فَمنْ أَضَلُّ منكم، قاله الحسن. والثاني: أن تقدير الكلام: وشَهِدَ شاهدٌ من بني إِسرائيل على مثله فآمن، أتؤمِنون؟ قاله الزجاج. والثالث: أن تقديره: أتأمنون عقوبة الله؟ قاله أبو علي الفارسي. والرابع: أن تقديره: أفما تهلكون؟ ذكره الماوردي. والخامس: مَن المُحِقُّ مِنّا ومِنكم ومَن المُبْطِل؟ ذكره الثعلبي.
والسادس: أن تقديره: أليس قد ظَلَمْتُمْ؟ ويدُلُّ على هذا المحذوف قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، ذكره الواحدي.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 16]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا الآية، في سبب نزولها خمسة أقوال «1» : أحدها:
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 185: وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي: قالوا عن المؤمنين بالقرآن: لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه، يعنون المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، وأخطئوا خطأ بينا، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي: يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة، لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.(4/105)
أن الكفار قالوا: لو كان دين محمد خيراً ما سبقَنا إِليه اليهودُ، فنزلت هذه الآية، قاله مسروق «1» .
والثاني: أن امرأة ضعيفة البصر أسلمت، وكان الأشراف من قريش يهزئون بها ويقولون: واللهِ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتْنا هذه إِليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الزناد «2» . والثالث: أن أبا ذر الغفاري أسلم واستجاب به قومه إِلى الإِسلام، فقالت قريش: لو كان خيراً ما سبقونا إِليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو المتوكل «3» . والرابع: أنه لمّا اهتدت مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةُ وأسلمتْ، قالت أسَد وغَطَفان: لو كان خيراً ما سبقنا إِليه رِعاءُ الشَّاء، يعنون مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب «4» .
والخامس: أن اليهود قالوا: لو كان دين محمد خيراً ما سبقتْمونا إِليه، لأنه لا عِلْمَ لكم بذلك، ولو كان حَقّاً لدخَلْنا فيه، ذكره أبو سليمان الدمشقي وقال: هو قول مَنْ يقول: إِن الآية نزلت بالمدينة ومن قال: هي مكية، قال: هو قول المشركين. فقد خرج في «الذين كفروا» قولان: أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: اليهود.
وقوله: لَوْ كانَ خَيْراً أي: لو كان دين محمد خيراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ. فمن قال: هم المشركون، قال: أرادوا: إنّا أعَزُّ وأفضل ومن قال: هم اليهود، قال: أرادوا: لأنّا أعلم.
قوله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بالقرآن فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي: كذب متقدِّم، يعنون أساطير الأولين. وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي: من قَبْلِ القرآن التوراةُ. وفي الكلام محذوف، تقديره: فلَمْ يهتدوا، لأن المشركين لم يهتدوا بالتوراة. إِماماً قال الزجاج: هو منصوب على الحال وَرَحْمَةً عطف عليه وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ المعنى: مصدِّقُ للتوراة لِساناً عَرَبِيًّا منصوب على الحال المعنى: مصدِّقُ لما بين يديه عربيّاً وذكر «لساناً» توكيداً، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، تريد: جاءني زيدٌ صالحاً.
قوله تعالى: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: «لِيُنْذِرَ» بالياء. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب: «لِتُنْذِرَ» بالتاء. وعن ابن كثير كالقراءتين. «والذين ظلموا» المشركون وَبُشْرى أي وهو بُشرى لِلْمُحْسِنِينَ وهم الموحِّدون يبشِّرهم بالجنة.
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره «5» إلى قوله: بِوالِدَيْهِ حُسْناً وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ:
__________
(1) عزاه المصنف لمسروق: ولم أقف على إسناده، وهو مرسل.
- وأخرج الطبري 31261 عن قتادة نحوه وليس فيه ذكر اليهود وإنما بنو فلان.
(2) قال السيوطي في «الدر» 6/ 8: أخرج ابن المنذر عن عون بن شداد قال كان لعمر أمة أسلمت قبله، يقال لها زيزة ... فذكره بنحوه وعزاه المصنف لأبي الزناد، ولم أقف عليه.
(3) عزاه المصنف لأبي المتوكل، واسمه علي بن دؤاد، وهو في عداد التابعين، فالخبر مرسل، ولم أقف على إسناده.
(4) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم بالكذب.
(5) فصلت: 30.(4/106)
إِحْساناً بألف. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «كَرْهاً» بفتح الكاف، وقرأ الباقون بضمها. قال الفراء: والنحويُّون يستحبُّون الضَّمَّ هاهنا، ويكرهون الفتح، للعلَّة التي بيَّنّاها عند قوله: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ «1» ، قال الزجاج: والمعنى: حملته على مشقَّة وَوَضَعَتْهُ على مشقَّة.
وَفِصالُهُ أي: فِطامُه. وقرأ يعقوب: «وفصله» بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف ثَلاثُونَ شَهْراً. قال ابن عباس: «ووضعتْه كُرْهاً» يريد به شِدَّةَ الطَّلْق. واعلم أن هذه المُدَّة قُدِّرتْ لأقلِّ الحَمْل وأكثرِ الرَّضاع فأمّا الأشُدّ، ففيه أقوال قد تقدَّمت واختار الزجاج أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، لأنه وقت كمال الإِنسان في بدنه وقوَّته واستحكام شأنه وتمييزه. وقال ابن قتيبة: أشُدُّ الرجُل غير أشُدِّ اليتيم، لأن أشُدَّ الرجُل: الاكتهال والحُنْكَةُ وأن يشتدَّ رأيُه وعقلُه، وذلك ثلاثون سنة، ويقال: ثمان وثلاثون سنة، وأشُدُّ الغُلام: أن يشتدَّ خَلْقُه ويتناهى نَبَاتُه. وقد ذكرنا بيان الأَشُد في الانعام «2» وفي يوسف «3» وهذا تحقيقه. واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال:
(1264) أحدها: أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وذلك أنه صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة، فنزلوا منزلاً فيه سِدْرَة، فقعد رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم في ظِلِّها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له: مَن الرَّجُل الذي في ظِلِّ السِّدْرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال: هذا واللهِ نبيٌّ، وما استَظَلَّ تحتَها أحدٌ بعد عيسى إِلاّ محمدٌ نبيُّ الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أسفاره وحضره، فلمّا نبّئ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة- صدّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا بلغ أربعين سنة قال: رب أَوْزِعْني أن أشكُرََ نِعمتَكَ التي أنعمت عليَّ، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون: قالوا: فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة، دعا الله عزّ وجلّ بما ذكره في هذه الآية، فأجابه الله، فأسلم والداه وأولاده ذكورُهم وإناثُهم، ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة.
والقول الثاني: أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد شرحنا قصته في العنكبوت «4» ، وهذا مذهب الضحاك، والسدي. والثالث: أنها نزلت على العموم، قاله الحسن.
وقد شرحنا في سورة النمل «5» معنى قوله: أَوْزِعْنِي.
قوله تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ قال ابن عباس: أجابه الله- يعني أبا بكر- فأعتق تسعةً من المؤمنين كانوا يُعذَّبون في الله عزّ وجلّ، ولم يُرِدْ شيئاً من الخير إِلاّ أعانه اللهُ عليه، واستجاب له في ذُرِّيته فآمنوا، إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ أي: رَجَعْتَ إِلى كل ما تحبّ.
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 745 عن ابن عباس من رواية عطاء بدون إسناد، ولم أقف عليه، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد، وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 10 لابن مردويه لكن ساقه مختصرا، وتفرد ابن مردويه به دليل وهنه.
__________
(1) البقرة: 216. [.....]
(2) الأنعام: 153.
(3) يوسف: 22.
(4) العنكبوت: 8.
(5) النمل: 19.(4/107)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «يُتَقَبَّلُ» «ويُتَجَاوَزُ» بالياء المضمومة فيهما. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف: «نَتَقَبَّلُ» و «نَتَجَاوَزُ» بالنون فيهما، وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو عمران الجوني: «يتقبّل» «ويتجاوز» بياء مفتوحة فيهما، يعني أهل هذا القول، والأحسن بمعنى الحَسَن. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي: في جملة من يُتجاوز عنهم، وهم أصحاب الجنة. وقيل: «في» بمعنى «مع» . وَعْدَ الصِّدْقِ قال الزجاج: هو منصوب، لأنه مصدر مؤكِّد لِمَا قَبْله، لأن قوله: «أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عنهم» بمعنى الوعد، لأنه وعدهم القبول بقوله: «وعد الصّدق» ، يؤكّد ذلك قوله: الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي: على ألسنة الرُّسل في الدنيا.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما «1» قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي. وأبو بكر عن عاصم: «أُفِّ لكما» بالخفض من غير تنوين. وقرأ ابن كثير، وابن عامر: بفتح الفاء. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: «أُفٍّ» بالخفض والتنوين. وقرأ ابن يعمر: «أُفٌّ» بتشديد الفاء مرفوعة منوَّنة. وقرأ حميد، والجحدري: «أُفّاً» بتشديد الفاء وبالنصب والتنوين. وقرأ عمرو بن دينار: «أُفُّ» بتشديد الفاء وبالرفع من غير تنوين. وقرأ أبو المتوكل، وعكرمة، وأبو رجاء: «أُفْ لكما» باسكان الفاء خفيفة. وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: «أُفِّيْ» بتشديد الفاء وياءٍ ساكنة مُمالة.
(1265) وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قَبْلَ إِسلامه، كان أبواه يدعُوانه إِلى الإِسلام، وهو يأبى، وعلى هذا جمهور المفسرين.
(1266) وقد روي عن عائشة أنها كانت تُنْكِر أن تكون الآية نزلت في عبد الرّحمن، وتخلف
__________
أخرجه الطبري 31275 عن ابن عباس برواية عطية العوفي، قال: هذا ابن لأبي بكر. ولا يصح هذا، فإن رواية عطية العوفي ضعيف، وعنه من لا يعرف.
أخرجه النسائي في «التفسير» 511 والحاكم 4/ 481 والخطابي في «غريب الحديث» 2/ 517 عن محمد بن زياد عن عائشة، وهذا منقطع، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: محمد لم يسمع من عائشة. وللقصة طريق أخرى عند البزار 1624 «كشف» وفيه عبد الله البهي، وثقه قوم، وضعفه أبو حاتم الرازي، وقال الهيثمي في «المجمع» 5/ 241 إسناد البزار حسن. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» 8/ 89:
لا يصح هذا عن عائشة. قلت: الذي صح في ذلك هو ما أخرجه البخاري 4827 عن يوسف بن ماهيك.
قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي فقالت عائشة من وراء الحجاب: «ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري» .
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «جامع البيان» 11/ 287: وهذا نعت من الله تعالى ذكره، نعت ضال به كافر، وبوالديه عاق، وهما مجتهدان في نصيحته ودعائه إلى الله، فلا يزيده دعاؤهما إياه إلى الحقّ ونصيحتهما له إلا عتوا وتمردا على الله، وتماديا في جهله.(4/108)
على ذلك وتقول: لو شئت لسمَّيتُ الذي نزلتْ فيه.
قال الزجاج: وقول من قال: إِنها نزلت في عبد الرحمن، باطل بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فأعلَمَ اللهُ أن هؤلاء لا يؤمِنون، وعبد الرحمن مؤمن، والتفسير الصّحيح أنها نزلت في الكافر العاقِّ. وروي عن مجاهد أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر، وعن الحسن أنها نزلت في جماعة من كفار قريش قالوا ذلك لآبائهم.
قوله تعالى: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فيه قولان: أحدهما: مضت القُرون فلم يرجع منهم أحد، قاله مقاتل. والثاني: مضت القُرون مكذِّبة بهذا، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي: يَدعُوَان اللهَ له بالهدى ويقولان له: وَيْلَكَ آمِنْ أي:
صدِّق بالبعث، فَيَقُولُ ما هذا الذي تقولان إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وقد سبق شرحها.
قوله تعالى: أُولئِكَ يعني الكفار الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: وجب عليهم قضاء الله أنهم من أهل النار فِي أُمَمٍ أي: مع أُمم. فذكر الله تعالى في الآيتين قَبْلَ هذه مَنْ بَرَّ والدَيْه وعَمِل بوصيَّة الله عزّ وجلّ، ثم ذكر مَنْ لم يَعْمَل بالوصيَّة ولم يُطِعْ ربَّه ولا والدَيْه، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: «أنَّهم» بفتح الهمزة. ثم قال: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إِيمان وكفر، فيتفاضل أهلُ الجنة في الكرامة، وأهل النار في العذاب وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: «ولِيُوَفِّيَهُمْ» بالياء، وقرأ الباقون: بالنون أي:
جزاء أعمالهم.
قوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ المعنى: واذكُرْ لهم يومَ يُعْرَض الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ أي:
ويقال لهم: أذهبتم، قرأ ابن كثير: «آذْهَبْتُمْ» بهمزة مطوَّلة. وقرأ ابن عامر: «أأذْهَبْتُمْ» بهمزتين. وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «أذْهَبْتُمْ» على الخبر، وهو توبيخ لهم. قال الفراء والزجاج: العرب توبِّخ بالألف وبغير الألف، فتقول: أذَهَبْتَ وفعلت كذا؟! وذهبتَ ففعلت؟! قال المفسرون: والمراد بطيِّباتهم: ما كانوا فيه من اللذَّات مشتغلين بها عن الآخرة مُعرِضين عن شُكرها.
ولمّا وبَّخهم اللهُ بذلك، آثر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتنابَ نعيم العيش ولذَّته ليتكامل أجرُهم ولئلا يُلهيَهم عن مَعادهم.
(1267) وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مضطجع على خَصَفة وبعضُه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوَّة ليفاً، فقال: يا رسول الله، أنتَ نبيُّ الله وصفوتُه، وكسرى وقيصر على سُرُر الذَّهب وفُرُش الدِّيباج والحرير؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر، إنّ أولئك قوم عجّلت
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2468 ومسلم 1479 والترمذي 3318 وابن حبان 4268 من حديث ابن عباس في خبر مطوّل. وانظر «تفسير القرطبي» 5497.(4/109)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
لهم طيِّباتُهم، وهي وشيكة الانقطاع، وإِنّا أُخِّرتْ لنا طيِّباتُنا» .
وروى جابر بن عبد الله قال: رأى عمر بن الخطاب لحماُ معلَّقاً في يدي، فقال: ما هذا يا جابر؟
فقلت: اشتهيت لحماً فاشتريتُه، فقال: أوَ كلمَّا اشتّهيت اشتريت يا جابر؟! أما تخاف هذه الآية:
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا. وروي عن عمر أنه قيل له: لو أمرتَ أن نصنع لك طعاما ألين من هذا، فقال: إني سمعت الله عيَّر أقواما فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا.
قوله تعالى: تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ أي: تتكبَّرون عن عبادة الله والإيمان به.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 25]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هوداً إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال الخليل: الأحقاف: الرِّمال العِظام، وقال ابن قتيبة: واحد الأحقاف: حِقْف، وهو من الرَّمْل: ما أشرَفَ من كُثبانه واستطال وانحنى. وقال ابن جرير: هو ما استطال من الرَّمْل ولم يبلُغ أن يكون جَبَلاً. واختلفوا في المكان الذي سمَّي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جبل بالشام، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: أنه وادٍ، ذكره عطية. وقال مجاهد: هي أرض. وحكى ابن جرير أنه وادٍ بين عُمان ومَهْرة. وقال ابن إِسحاق: كانوا ينزِلون ما بين عمان وحضر موت، واليمن كلُّه. والثالث: أن الأحقاف: رمال مشرِفة على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي: قد مضت الُّرُّسل مِنْ قَبْلِ هود ومِنْ بَعده بإنذار أُممها أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ والمعنى: لم يُبعَث رسولٌ قَبْلَ هود ولا بعده إِلاّ بالأمر بعبادة الله وحده. وهذا كلام اعترض بين إِنذار هود وكلامه لقومه، ثم عاد إِلى كلام هود فقال إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ.
قوله تعالى: لِتَأْفِكَنا أي: لِتَصْرِفَنا عن عبادة آلهتنا بالإِفك.
قوله تعالى: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو يَعْلَم متى يأتيكم العذاب. فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني ما يوعَدون في قوله: «بما تَعِدُنا» عارِضاً أي: سحاب يعرُض من ناحية السماء. قال ابن قتيبة:
العارض: السحاب. قال المفسرون: كان المطر قد حُبِس عن عاد، فساق اللهُ إِليهم سحابةً سوداء، فلمّا رأوها فرحوا وقالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا فقال لهم هود: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، ثم بيَّن ما هو فقال:
رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، فنشأت الرِّيح من تلك السحابة، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أي: تُهٍلِك كلَّ شيءٍ مَرَّت به من الناس والدوابّ والأموال. قال عمرو بن ميمون: لقد كانت الرِّيح تحتمل الظّعينة فترفعُها حتى تُرى كأنها جرادة، فَأَصْبَحُوا يعني عاداً لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ قرأ عاصم، وحمزة: «لا يُرَى» برفع الياء «إِلاَّ مَسَاكِنُهم» برفع النون. وقرأ علي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والجحدري: «لا(4/110)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
تُرَى» بتاء مضمومة. وقرأ أبو عمران، وابن السميفع: «لا تَرَى» بتاء مفتوحة «إلاّ مسكنهم» على التوحيد. وهذا لأن السُّكّان هلكوا، فقيل: أصبحوا وقد غطتَّهم الرِّيح بالرَّمْل فلا يُرَوْن.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 الى 28]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
ثم خوّف كفّار مكّة، فقال عزّ وجلّ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ في «إِنْ» قولان:
أحدهما: أنها بمعنى «لَمْ» فتقديره: فيما لم نمكِّنْكم فيه، قاله ابن عباس، وابن قتيبة. وقال الفراء: هي بمنزلة «ما» في الجحد، فتقدير الكلام: في الذي لم نمكِّنْكم فيه. والثاني: أنها زائدة والمعنى: فيما مكَّنّاكم فيه، وحكاه ابن قتيبة أيضاً.
ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم، فلم يتدبَّروا بها، ولم يتفكّروا فيما يدلُّهم على التوحيد، قال المفسرون: والمراد بالأفئدة: القلوب وهذه الآلات لم ترُدَّ عنهم عذابَ الله.
ثم زاد كفَّارَ مكة في التخويف، فقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى كديار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من الأُمم المُهْلَكة وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي: بيَّنّاها لَعَلَّهُمْ يعني أهل القُرى يَرْجِعُونَ عن كفرهم. وهاهنا محذوف، تقديره: فما رَجَعوا عن كفرهم. فَلَوْلا أي: فهلاّ نَصَرَهُمُ أي: منعهم من عذاب الله الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً يعني الأصنام التي تقرَّبوا بعبادتها إِلى الله على زعمهم وهذا استفهام إِنكار، معناه: لم ينصروهم بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي: لم ينفعوهم عند نزول العذاب وَذلِكَ يعني دعاءَهم الآلهةَ إِفْكُهُمْ أي: كذبهم، وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن يعمر وأبو عمران: «وذلك أفَّكَهم» بفتح الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف. وقرأ أًبيُّ بن كعب وابن عباس وأبو رزين والشعبي وأبو العالية والجحدري: «أفَكَهم» بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء وتخفيفها. قال ابن جرير: أي: أضلَّهم. وقال الزجاج: معناها: صَرَفهم عن الحق فجعلهم ضُلاّلاً. وقرأ ابن مسعود وأبو المتوكل: «آفِكُهم» بفتح الهمزة ومدِّها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف، أي: مضلّهم.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وبّخ الله عزّ وجلّ بهذه الآية كُفّارَ قريش بما آمنتْ به(4/111)
الجنّ. وفي سبب صرفهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم صُرِفوا إِليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشُّهُب. روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس قال:
(1268) انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلتْ عليهم الشُّهُب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء وأُرسلْت علينا الشُّهُب، قالوا: ما ذاك إِلاّ من شيءٍ حدث، فاضرِبوا مشارق الأرض ومغاربَها فانظروا ما هذا الأمر، فمرَّ النَّفرُ الذين توجّهوا نحو تهامة بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو ب «نَخْلةَ» وهو يصلِّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمَّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجَعوا إِلى قومهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ «1» ، فأنزل اللهُ على نبيِّه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ «2» .
(1269) وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجن، ولا رآهم، وإِنما أتَوْه وهو ب «نخلة» فسمعوا القرآن.
والثاني: أنهم صُرِفوا إِليه لِيُنْذِرهم وأمر أن يقرأ عليهم القرآن هذا مذهب جماعة، منهم قتادة.
(1270) وفي أفراد مسلم من حديث علقمة قال: قلت لعبد الله: من كان منكم مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلةَ الجن؟ فقال: ما كان منَّا معه أحد، فقدْناه ذاتَ ليلة ونحن بمكة، فقلنا: اغتيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو استُطير، فانطلقْنا نطلبه في الشِّعاب، فلقِيناهُ مُقْبِلاً من نحو حِراء، فقلنا: يا رسول الله، أين كنتَ؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بِتْنا الليلةَ بِشَرِّ ليلةٍ بات بها قوم حين فَقَدْناكَ، فقال: «إِنه أتاني داعي الجن، فذهبت أُقْرِئهم القرآن» ، فذهبَ بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.
(1271) وقال قتادة: ذُكِر لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنِّي أُمِرْتُ أن أقرأ على الجن، فأيُّكم يَتبعُني؟» فاطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثةَ فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل
__________
صحيح. أخرجه البخاري 773 عن مسدد ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وأخرجه البخاري 3320 ومسلم 449 والترمذي 3320 وأحمد 1/ 252 و 270 وأبو يعلى 2369 من طرق عن أبي عوانة به. وأخرجه أحمد 1/ 274 وأبو يعلى 2502 من طريق أبي إسحاق عن سعيد به.
هو صدر الحديث المتقدم.
صحيح. أخرجه مسلم 450 عن محمد بن المثنى ثنا عبد الأعلى ثنا داود قال سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود.
وأخرجه أبو داود 85 مختصرا والترمذي 18 و 4258 وابن أبي شيبة 1/ 155 وابن خزيمة 82 وأبو عوانة 1/ 219 وابن حبان 1432 والبيهقي 1/ 108- 109 وفي «دلائل النبوة» 2/ 229 والبغوي في «شرح السنة» 178 مختصرا من طرق عن داود بن أبي هند به.
هذا الخبر هو عند الطبري منجما 31315 من طريق سعيد عن قتادة مرسلا. و 31316 من طريق معمر عن قتادة و 31317 من طريق عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود و 31318 من طريق عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي عن ابن مسعود. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها من جهة الإسناد، لكن هي معارضة بالحديث الصحيح المتقدم.
__________
(1) الجن: 1- 2.
(2) الجن: 1.(4/112)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شِعْباً يقال له: «شِعْبُ الحَجون» ، وخطَّ على عبد الله خطّاً ليُثبته به، قال: فسمعت لغطاً شديداً حتى خِفْتُ على نبيِّ الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رجَع قلت: يا نبي الله، ما اللغط الذي سمعتُ؟ قال:
«اجتَمعوا إِليَّ في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحق» .
والثالث: أنهم مَرُّوا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن.
(1272) فذكر بعض المفسرين أنه لمّا يئس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إِلى الطائف ليدعوَهم إِلى الإِسلام- وقيل: ليلتمس نصرهم- وذلك بعد موت أبي طالب، فلمّا كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمرَّ به نفرٌ من أشراف جِنِّ نصيبين، فاستمعوا القرآن.
فعلى هذا القول والقول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى وعلى القول الثاني:
عَلِمَ بهم حين جاءوا. وفي المكان الذي سمِعوا فيه تلاوةَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قولان: أحدهما: الحَجون، وقد ذكرناه عن ابن مسعود، وبه قال قتادة. والثاني: بطن نخلة، وقد ذكرناه عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. وأما النَّفَر، فقال ابن قتيبة: يقال: إِنَّ النَّفَر ما بين الثلاثة إِلى العشرة. وللمفسرين في عدد هؤلاء النَّفَر ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن مسعود وزِرُّ بن حبيش ومجاهد، ورواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: تسعةً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: اثني عشر ألفاً، روي عن عكرمة، ولا يصح، لأن النَّفَر لا يُطلَق على الكثير.
قوله تعالى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي: حضروا استماعه، وقُضِيَ يعني: فُرِغَ من تلاوته وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي: محذّرين عذاب الله عزّ وجلّ إن لم يؤمِنوا. وهل أنذَروا قومَهم مِنْ قبل أنفسهم، أم جعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسُلاً إِلى قومهم؟ فيه قولان.
قال عطاء: كان دِينُ أولئك الجِنِّ اليهوديةَ، فلذلك قالوا: مِنْ بَعْدِ مُوسى.
قوله تعالى: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ يعنون محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. وهذا يدُلُّ على أنه أُرسِلَ إِلى الجن والإِنس.
قوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ «مِنْ» هاهنا صلة.
قوله تعالى: فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي لا يُعْجِزُ اللهَ تعالى وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أي أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى أُولئِكَ الذين لا يجيبون الرّسل فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
ثم احتج على إحياء الموتى بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا ... إِلى آخر الآية. والرُّؤية هاهنا بمعنى العِلْم.
وَلَمْ يَعْيَ أي: لم يَعْجَزْ عن ذلك يقال: عَيَّ فلانٌ بأمره، إِذا لم يَهتد له ولم يَقدر عليه. قال الزجاج: يقال: عَيِيتُ بالأمر، إِذا لم تعرف وجهه، وأعييت، إذا تعبت.
__________
ضعيف. رواه ابن هشام في «السيرة» 2/ 21- 23 من طريق ابن إسحاق حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي ... فذكره. وهذا مرسل، فهو ضعيف، ويزيد غير قوي.(4/113)
قوله تعالى: بِقادِرٍ قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة مؤكِّدة. وقال الفراء: العرب تُدخل الباءَ مع الجحد، مثل قولك: ما أظُنُّك بقائم، وهذا قول الكسائي، والزجاج: وقرأ يعقوب: «يَقْدْرُ» بياء مفتوحة مكان الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ أي: ذَوو الحَزْم والصَّبْر وفيهم عشرة أقوال «1» :
أحدها: أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد صلّى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن السائب. والثاني: نوح، وهود، وإبراهيم، ومحمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية الرياحي. والثالث: أنهم الذين لم تُصِبْهم فتنةٌ من الأنبياء، قاله الحسن.
والرابع: أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد، والشعبي. والخامس: أنهم إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله السدي. والسادس: أن منهم إِسماعيل، ويعقوب وأيُّوب، وليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان، قاله ابن جريج. والسابع: أنهم الذين أُمروا بالجهاد والقتال، قاله ابن السائب، وحكي عن السدي. والثامن: أنهم جميع الرُّسل، فإن الله لم يَبْعَثْ رسولاً إِلاّ كان من أُولي العزم، قاله ابن زيد، واختاره ابن الأنباري، وقال: «مِنْ» دخلتْ للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: قد رأيتُ الثياب من الخَزِّ والجِباب من القَزِّ. والتاسع: أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في سورة (الأنعام) ، قاله الحسين بن الفضل. العاشر: أنهم جميع الأنبياء إِلاّ يونس، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ يعني العذاب، قال بعض المفسّرين: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضَجِر بعض الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأُمر بالصَّبر.
قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ أي: من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلاً. وقيل: لأن مقدار مَكْثهم في الدُّنيا قليلٌ في جَنْبِ مَكْثهم في عذاب الآخرة. وهاهنا تم الكلام. ثم قال: بَلاغٌ أي: هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغٌ عن الله إِليكم. وفي معنى وَصْفِ القرآنِ بالبلاغ قولان: أحدهما: أن البلاغ بمعنى التبليغ. والثاني: أن معناه: الكفاية، فيكون المعنى: ما أخبرناهم به لهم فيه كفايةٌ وغِنىً.
وذكر ابن جرير وجهاً آخر، وهو أن المعنى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعةً من نهار، ذلك لُبْث بلاغ، أي:
ذلك بلاغ لهم في الدنيا إِلى آجالهم، ثُمَّ حُذفتْ «ذلك لُبْث» اكتفاءً بدلالة ما ذُكِر في الكلام عليها. وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: «بَلِّغْ» بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير ألف.
قوله تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ وقرأ أبو رزين وأبو المتوكل وابن محيصن: «يَهْلِكُ» بفتح الياء وكسر اللام، أي عند رؤية العذاب إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن أمر الله عزّ وجلّ؟!.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 302: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم مثبته على المضي لما قلّده من عبء الرسالة، وثقل أحمال النبوة صلّى الله عليه وسلّم، وآمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لقوا من قومهم من المكاره، ونالهم فيه من الأذى والشدائد (فاصبر) يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم بالإنذار (كما صبر أولو العزم) على القيام بأمر الله والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره ما نالهم فيه من شدة. وقيل: إن أولي العزم منهم، كانوا الذين امتحنوا في ذات الله في الدنيا بالمحن، فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر الله، كنوح وإبراهيم وموسى ومن أشبههم.(4/114)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الأكثرون، منهم مجاهد، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس وقتادة أنها مدنيّة، إلّا آية منها نزلت عليه بعد حجّه حين خرج من مكّة وجعل ينظر إلى البيت، وهي قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ «1» . والثاني: أنّها مكّيّة، قاله الضّحّاك، والسّدّيّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)
قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا أي: بتوحيد الله وَصَدُّوا الناس عن الإِيمان به، وهم مشركو قريش، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: أبطلها، ولم يجعل لها ثواباً، فكأنَّها لم تكن، وقد كانوا يُطْعِمُون الطَّعامَ، ويَصِلون الأرحام، ويتصدّقون، ويفعلون ما يعتقدونه قُرْبَةً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني أصحاب محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وقرأ ابن مسعود: «نَزَّلَ» بفتح النون والزَّاي وتشديدها. وقرأ أبيّ بن كعب ومعاذ القارئ: «أُنْزِلَ» بهمزة مضمومة مكسورة الزَّاي. وقرأ أبو رزين وأبو الجوزاء وأبو عمران: «نَزَلَ» بفتح النون والزاي وتخفيفها، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي غفرها لهم وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالَهم، قاله قتادة، والمبرِّد.
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: معناه: الأمرُ ذلك، وجائز أن يكون: ذلك الإِضلال، لاتِّباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفّارات باتِّباع المؤمنين الحقَّ، كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي:
كذلك يبيِّن أمثال حسنات المؤمنين وسيِّئات الكافرين كهذا البيان. قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إغراء،
__________
(1) محمد: 13.(4/115)
والمعنى: فاقتُلوهم «1» ، لأن الأغلب في موضع القتل ضربُ العُنق حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي: أكثرتُم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ يعني في الأسر وإِنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل. و «الوَثاق» اسم من الإِيثاق تقول: أوثقتُه إِيثاقاً ووَثاقاً، إِذا شددتَ أسره لئلا يُفْلِت فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ قال أبو عبيدة: إِمّا أن تُمنُّوا، وإِمّا أن تفادوا، ومثلُه: سَقْياً، ورَعْياً، وإِنما هو سُقِيتَ ورُعِيتَ. وقال الزجاج: إِمَّا منَنَتُم عليهم بعد أن تأسِروهم مَنّاً، وإِمّا أطلقتُموهم بِفِداء.
فصل:
وهذه الآية محكَمة عند عامَّة العلماء. وممَّن ذهب إِلى أنَّ حُكم المَنِّ والفداء باقٍ لم يُنْسَخ ابنُ عمر، ومجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ سيرين، وأحمدُ، والشافعيُّ. وذهب قوم إلى نسخ المَنِّ والفداء بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» ، وممن ذهب إلى هذا ابن جريح، والسدي، وأبو حنيفة وقد أشرنا إِلى القولين في براءة.
قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين. وقال مجاهد: حتى لا يكون دِينُ إِلاّ دين الإِسلام. وقال سعيد بن جبير: حتى يخرُج المسيح. وقال الفراء:
حتى لا يبقى إلاّ مُسْلِم أو مُسالِم. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: حتى يضعَ أهلُ الحرب سلاحَهم قال الأعشى:
وَأًَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا: ... رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراَ
وأصل «الوِزْرِ» ما حملته، فسمّى السلاح «أوزاراً» لأنه يُحْمل، هذا قول ابن قتيبة.
والثاني: حتى تضعَ حربُكم وقتالكم أوزارَ المشركين وقبائح أعمالهم بأن يُسْلِموا ولا يعبُدوا إِلاَّ الله، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذَكَرْنا وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ بإهلاكهم أو تعذيبهم بما شاء وَلكِنْ أمركم بالحرب لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فيُثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب. قوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم: «قٌتِلُوا» بضم القاف وكسر التاء والباقون: «قاتَلُوا» بألف. قوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها:
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 131: اعلموا وفقكم الله أن هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها، أمر الله سبحانه فيها بالقتال، وبين كيفيته كما في قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ فإذا تمكّن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه، وإذا تمكن من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه ويتناول قتال غيره فعل ذلك به، فإن لم يتمكن إلا ضرب فرسه التي يتوصل بها إلى مراده فيصير حينئذ راجلا مثله أو دونه، والمآل إعلاء كلمة الله تعالى، وذلك لأن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولا، وعلم أن ستبلغ إلى الإثخان والغلبة بيّن سبحانه حكم الغلبة بشدّ الوثاق، فيتخير حينئذ المسلمون بين المن والفداء وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إنما لهم القتل والاسترقاق، وهذه الآية عنده منسوخة. والصحيح إحكامها، فإن شروط النسخ معدومة فيها من المعارضة، وتحصيل المتقدم من المتأخر. وقد عضدت السنة ذلك كله، فروى مسلم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها ناسا من المسلمين، وقد هبط على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة قوم، فأخذهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومنّ عليهم. وقال الحسن وعطاء: المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وليس للإمام أن يقتل الأسير.
(2) التوبة: 5.(4/116)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
يَهديهم إِلى أرشد الأمور، قاله ابن عباس. والثاني: يحقق لهم الهداية، قاله الحسن. والثالث: إِلى مُحاجَّة منكَر ونكير. والرابع: إِلى طريق الجنة، حكاهما الماوردي. وفي قوله: عَرَّفَها لَهُمْ قولان:
أحدهما: عرَّفهم منازلهم فيها فلا يستدِلُّون عليها ولا يُخطِئونها، هذا قول الجمهور، منهم مجاهد وقتادة واختاره الفراء، وأبو عبيدة. والثاني: طيَّبها لهم، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: وهو قول أصحاب اللغة، يقال: طعامٌ معرَّف، أي مطيَّب. وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء وابن محيصن: «عَرَفَها لهم» بتخفيف الراء.
[سورة محمد (47) : الآيات 7 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
قوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي: تنصُروا دينه ورسوله يَنْصُرْكُمْ على عدوِّكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ عند القتال. وروى المفضل عن عاصم: «ويُثْبِتْ» بالتخفيف. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ قال الفراء:
المعنى: فأتْعَسَهم اللهُ، والدُّعاء قد يجري مَجرى الأمر والنهي. قال ابن قتيبة: هو من قولك: تَعَسْتُ، أي: عَثَرْتُ وسَقَطْتُ. وقال الزجاج: التَّعْسُ في اللغة: الانحطاط والعُثُور. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: أهلكهم اللهُ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها أي: أمثالُ تلك العاقبة. ذلِكَ الذي فعله بالمؤمنين من النصر، وبالكافرين من الدَّمار بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي: ولِيُّهم. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ أي: إِن الأنعام تأكُل وتشرب، ولا تَدري ما في غدٍ، فكذلك الكفار لا يلتفتون إِلى الآخرة. و «المثوى» : المَنْزِل. وَكَأَيِّنْ مشروح في آل عمران «2» .
والمراد بقريته: مكة وأضاف القوة والإخراج إِليها، والمراد أهلُها ولذلك قال: أَهْلَكْناهُمْ. قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فيه قولان: أحدهما: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله أبو العالية.
والثاني: أنه المؤمن، قاله الحسن. وفي «البيِّنة» قولان: أحدهما: القرآن، قاله ابن زيد. والثاني:
الدِّين، قاله ابن السائب. كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ يعني عبادة الأوثان، وهو الكافر وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بعبادتها.
__________
(1) الكهف: 105، يوسف: 109.
(2) آل عمران: 146.(4/117)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
[سورة محمد (47) : آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي: صِفَتُها، وقد شرحناه في الرعد «1» . و «المتَّقون» عند المفسرين: الذين يَتَّقون الشِّرك. و «الآسِن» المتغيِّر الرِّيح، قاله أبو عبيدة، والزجاج. وقال ابن قتيبة:
هو المتغير الرِّيح والطَّعم، و «الآجِن» نحوه. وقرأ ابن كثير: «غيرِ أسِنٍ» بغير مد. وقد شرحنا قوله:
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ في الصافات «2» : قوله تعالى: مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى أي: من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا. قوله تعالى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ قال الفراء: أراد: مَنْ كان في هذا النعيم، كمن هو خالد في النار؟!. قوله تعالى: ماءً حَمِيماً أي: حارا شديد الحرارة. و «الأمعاء» جميع ما في البطن من الحوايا.
[سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 18]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني المنافقين. وفيما يستمعون قولان: أحدهما: أنه سماع خطبة رسول صلّى الله عليه وسلّم يومَ الجمعة. والثاني: سماع قوله على عموم الأوقات. فأمّا الذين أُوتُوا الْعِلْمَ، فالمراد بهم: علماء الصحابة.
قوله تعالى: ماذا قالَ آنِفاً قال الزجاج: أي: ماذا قال الساعة، وهو من قولك: استأنفتُ الشيء: إذا ابتدأتَه، وروضة أنف: لم تُرْعَ، أي: لها أوَّل يُرْعى فالمعنى: ماذا قال في أوَّل وقت يَقْرُبُ مِنّا. وحُدِّثْنا عن أبي عمر غلامِ ثعلب أنه قال: «آنفاً» مُذْ ساعة. وقرأ ابن كثير، في بعض الروايات عنه:
«أَنِفاً» بالقصر، وهذه قراءة عكرمة، وحميد، وابن محيصن. قال أبو علي: يجوز أن يكون ابن كثير توهَّم، مثل حاذِر وحَذِر، وفاكِه وفَكِه. وفي استفهامهم قولان: أحدهما: لأنهم لم يَعْقِلوا ما يقول، ويدُلُّ عليه باقي الآية. والثاني: أنهم قالوه استهزاءً.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا فيهم قولان: أحدهما: أنهم المسلمون، قاله الجمهور. والثاني:
قومٌ من أهل الكتاب كانوا على الإِيمان بأنبيائهم وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا بعث محمّد صلّى الله عليه وسلّم آمَنوا به، قاله عكرمة. وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله عزّ وجلّ. والثاني: قول الرسول. والثالث:
استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هُدىً، ذكرهن الزجاج. وفي معنى الهُدى قولان: أحدهما: أنه العِلْم.
والثاني: البصيرة. وفي قوله: وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي. والثاني: اتِّقاء المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. والثالث: أعطاهم التقوى مع الهُدى، فاتَّقَوْا معصيته خوفاً من عقوبته، قاله أبو سليمان الدّمشقي. ويَنْظُرُونَ بمعنى ينتظِرون، أَنْ تَأْتِيَهُمْ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الأشهب، وحميد: «إِنْ تَأْتِهم» بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء. والأشراط:
العلامات قال أبو عبيدة: الأشراط: الأعلام، وإِنما سمِّي الشُّرط- فيما تَرى- لأنهم أعلموا أنفُسهم.
قال المفسّرون: ظهور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أشراط الساعة، وانشقاقُ القمر والدخانُ وغير ذلك. فَأَنَّى لَهُمْ
__________
(1) الرعد: 35. [.....]
(2) الصافات: 46.(4/118)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
أي: فمِن أين لهم إِذا جاءَتْهُمْ الساعة ذِكْراهُمْ؟! قال قتادة: أنَّى لهم أن يَذَّكَّروا ويتوبوا إذا جاءت؟!
[سورة محمد (47) : الآيات 19 الى 21]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21)
قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ قال بعضهم: اثْبُتْ على عِلْمك، وقال قوم: المراد بهذا الخطاب غيره وقد شرحنا هذا في فاتحة الأحزاب. وقيل: إِنه كان يَضيق صدرُه بما يقولون، فقيل له:
اعْلَمْ أنه لا كاشفِ لما بِكَ إِلاّ اللهُ.
فأمّا قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فإنه كان يَستغفر في اليوم مائة مرة، وأُمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات إِكراماً لهم لأنه شفيعٌ مُجابٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
مُتقلَّبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني: مُتقلَّبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء، ومقامكم في القبور، قاله عكرمة. والثالث: «مُتقلَّبكم» بالنهار و «مثواكم» أي: مأواكم بالليل، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ قال المفسرون: سألوا ربَّهم أن يُنزل سُورةً فيها ثواب القتال في سبيل الله، اشتياقاً منهم إلى الوحي وحِرصاً على الجهاد، فقالوا: «لولا» أي: هلا وكان أبو مالك الأشجعي يقول: «لا» هاهنا صلة، فالمعنى: لو أُنزلتْ سورة، شوقاً منهم إِلى الزيادة في العِلْم، ورغبةً في الثواب والأجر بالاستكثار من الفرائض. وفي معنى «مُحكَمة» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها التي يُذْكَر فيها القتال، قاله قتادة. والثاني: أنها التي يُذْكَر فيها الحلال والحرام. والثالث:
التي لا منسوخ فيها، حكاهما أبو سليمان الدمشقي. ومعنى قوله: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي: فُرِضَ فيها الجهاد. وفي المراد بالمرض قولان: أحدهما: النفاق، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور. والثاني: الشكّ، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي: يَشْخَصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظراً شديداً كما ينظُر الشاخص ببصره عند الموت، لأنهم يكرهون القتال، ويخافون إِن قعدوا أن يتبيَّن نفاقُهم.
فَأَوْلى لَهُمْ قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد: «أَوْلَى لكَ» أي: وَلِيَكَ وقارَبَك ما تَكْره.
وقال ابن قتيبة: هذا وَعِيدُ وتهديد، تقولُ للرجُل- إذا أردتَ به سوءاً، فَفَاتَكَ- أوْلَى لكَ، ثم ابتدأ، فقال: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ.... وقال سيبويه والخليل: المعنى: طاعةُ وقولٌ معروفٌ أمثل. وقال الفراء: الطاعةُ معروفةٌ في كلام العرب، إِذا قيل لهم: افعلوا كذلك، قالوا: سَمعٌ وطاعةٌ، فوصف اللهُ قولَهم قبل أن تنزل السُّورة أنهم يقولون: سمعٌ وطاعة، فإذا نزل الأمر كرهوا. وأخبرني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: فَأَوْلى، ثم قال: لَهُمْ أي: للذين آمنوا منهم (طاعةٌ) ، فصارت «أَوْلَى» وعيداً لِمَن كَرِهها، واستأنف الطاعة ب «لهم» والأول عندنا كلام(4/119)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
العرب، وهذا غير مردود، يعني حديث أبي صالح. وذكر بعض المفسرين أن الكلام متصل بما قبله والمعنى: فأَوْلَى لهم أن يُطيعوا وأن يقولوا معروفاً بالإِجابة. قوله تعالى: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ قال الحسن: جَدَّ الأمْرُ. وقال غيره: جدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابُه في الجهاد، ولَزِمَ فرضُ القتال، وصار الأمر معروفاً عليه. وجواب «إذا» محذوف، تقديره: فإذا عَزَمَ الأمْرُ نَكَلُوا يدُلُّ على المحذوف فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ أي: في إِيمانهم وجهادهم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من المعصية والكراهة.
[سورة محمد (47) : الآيات 22 الى 28]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)
قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ في المخاطَب بهذا أربعة أقوال: أحدها: المنافقون، وهو الظاهر. والثاني: منافقو اليهود، قاله مقاتل. والثالث: الخوارج، قاله بكر بن عبد الله المزني. والرابع:
قريش، حكاه جماعة منهم الماوردي. وفي قوله: تَوَلَّيْتُمْ قولان «1» : أحدهما: أنه بمعنى الإِعراض. فالمعنى: إِن أعرضتم عن الإِسلام أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بأن تعودوا إِلى الجاهلية يقتل بعضكم بعضاً، ويُغِير بعضكم على بعض، ذكره جماعة من المفسرين. والثاني: أنه من الوِلاية لأُمور الناس، قاله القرظي. فعلى هذا يكون معنى «أن تُفْسِدوا في الأرض» : بالجَوْر والظُّلم. وقرأ يعقوب:
«وتَقْطَعوا» بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف، ثم ذَمَّ من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه. وما بعد هذا قد سبق «2» إِلى قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «أَمْ» بمعنى «بَلْ» ، وذِكْر الأقفال استعارة، والمراد أن القَلْب يكون كالبيت المُقفَل لا يَصِلُ إِليه الهُدى. قال مجاهد: الرّان أيسرُ من الطَّبْع، والطَّبْع أيسرُ من الإِقفال، والإِقفال أشَدُّ ذلك كلّه. وقال خالد بن معدان: ما من آدميٍّ إِلاّ وله أربعُ أعيُنٍ، عَيْنان في رأسه لدُنياه وما يُصْلِحه من معيشته، وعَيْنان في قَلْبه لِدِينه وما وَعَد اللهُ من الغَيْب، فإذا أراد اللهُ بعبد خيراً أبصرتْ عيناه اللتان في قلبه، وإِذا أراد به غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله: «أَمْ على قُلوب أقفالُها» .
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي: رجَعوا كُفّاراً وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المنافقون، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة، ومقاتل مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى أي: مِنْ بَعْدِ ما وَضَحَ لهم الحقُّ. ومن قال: هم اليهود، قال: مِنْ بعد أن تبيّن لهم
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 211: وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قل أمر تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام.
(2) النساء: 82.(4/120)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونعته في كتابهم. وسَوَّلَ بمعنى زيَّن. وَأَمْلى لَهُمْ قرأ أبو عمرو، وزيد عن يعقوب: «وأُمْلِيَ لهم» بضم الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء مفتوحة. وقرأ يعقوب إِلاّ زيداً، وأبان عن عاصم كذلك، إِلاّ أنهما أسكنا الياء. وقرأ الباقون بفتح الهمزة واللام. وقد سبق معنى الإملاء «1» .
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: المعنى: الأَمْرُ ذلك، أي: ذلك الإِضلال بقولهم: لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ وفي الكارهِين قولان: أحدهما: أنهم المنافقون، فعلى هذا في معنى قوله:
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ثلاثة أقوال: أحدها: في القعود عن نصرة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله السدي.
والثاني: في المَيْل إِليكم والمظاهرة على محمّد صلّى الله عليه وسلّم والثالث: في الارتداد بعد الإِيمان، حكاهما الماوردي. والثاني: أنهم اليهود، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان: أحدهما: في أن لا يصدّقوا شيئا من مقالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله الضحاك. والثاني: في كَتْم ما عَلِموه من نُبوَّته، قاله ابن جريج.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، والوليد عن يعقوب: بكسر الألف على أنه مصدر أسْرَرْتُ: وقرأ الباقون: بفتحها على أنه جمع سِرٍّ، والمعنى أنه يَعْلَم ما بين اليهود والمنافقين من السِّرِّ.
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؟ أي: فكيف يكون حالُهم حينئذ؟ وقد بيَّنّا في الأنفال «2» معنى قوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ.
قوله تعالى: وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ أي: كَرِهوا ما فيه الرِّضوان، وهو الإيمان والطّاعة.
[سورة محمد (47) : الآيات 29 الى 34]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: نفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ قال الفراء: أي لن يُبْدِيَ اللهُ عداوتهم وبغضهم لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقال الزجاج: أي: لن يُبْدِيَ عداوتَهم لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ويُظْهِرَهُ على نفاقهم. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي: لعرَّفْناكهم، تقول: قد أرَيْتُكَ هذا الأمر، أي: قد عرَّفْتُك إيّاه، المعنى: لو نشاء لجَعَلْنا على المنافقين علامة، وهي السّيماء فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أي: بتلك العلامة وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي: في فحوى القَوْل، فدلَّ بهذا على أن قول القائل وفعله يدُلُّ على نِيَّته. وقولُ الناس: قد لَحَنَ فلانٌ، تأويله: قد أَخذ في ناحية عن الصواب، وَعدَلَ عن الصواب إِليها. وقول الشاعر:
مَنْطِقٌ صائِبٌ وتَلْحَنُ أحيانا ... ، وخير الحديث ما كان لحنا «3»
__________
(1) آل عمران: 178، والأعراف: 183.
(2) الأنفال: 50.
(3) البيت لمالك بن أسماء بن خارجة الفزازي وهو في «اللسان» - لحن- قال في «اللسان» : ومعنى صائب: قاصد الصواب وإن لم يصب، وتلحن أحيانا أي تصيب وتفطن قال: فصار تفسير اللحن في البيت على ثلاثة أوجه:
الفطنة والفهم، والتعرض، والخطأ في الإعراب.(4/121)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
تأويله: خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا يعرفه كلُّ أحد، إِنما يُعْرََفُ قولها في أنحاء قولها.
قال المفسرون: وَلتَعْرِفَنَّهم في فحوى الكلام ومعناه ومقْصَده، فإنهم يتعرَّضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين. قال ابن جرير: ثم عرَّفه اللهُ إيّاهم.
قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: وَلنُعامِلَنَّكم معامَلةَ المُخْتَبِر بأن نأمرَكم بالجهاد حَتَّى نَعْلَمَ العِلْم الذي هو عِلْم وجود، وبه يقع الجزاء وقد شرحنا هذا في العنكبوت «1» .
قوله تعالى: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي: نُظْهِرها وَنكْشِفها باباء من يأبى القتال ولا يَصْبِر على الجهاد.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: «وَليَبْلُوَنَّكم» بالياء «حتى يَعْلَمَ» بالياء «ويبلو» بالياء فيهنّ. وقرأ معاذ القارئ، وأيوب السختياني: «أخياركم» بالياء جمع «خير» .
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية، اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها في المُطْعِمِين يومَ بدر، قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في الحارث بن سويد، ووحوح الأنصاري، أسلما ثم ارتدّا، فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبى صاحبه أن يَرْجِع حتى مات، قاله السدي «2» . والثالث: أنها في اليهود، قاله مقاتل. والرابع: أنها في قريظة والنضير، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ اختلفوا في مُبْطِلها على أربعة أقوال: أحدها: المعاصي والكبائر، قاله الحسن. والثاني: الشَّكّ والنِّفاق، قاله عطاء. والثالث: الرِّياء والسُّمعة، قاله ابن السائب. والرابع: بالمَنّ.
(1273) وذلك أن قوماً من الأعراب قَدِموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أتيناك طائعين، فلنا عليك حق، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «3» ، هذا قول مقاتل. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدُلُّ على أن كُلُّ مَنْ دخل في قُرْبَة لم يَجُزْ له الخُروج منها قبل إِتمامها، وهذا على ظاهره في الحج، فأما في الصلاة والصيام، فهو على سبيل الاستحباب «4» .
[سورة محمد (47) : الآيات 35 الى 38]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم بالكذب.
__________
(1) العنكبوت: 3.
(2) عزاه المصنف للسدي، وهذا مرسل، فهو واه.
(3) الحجرات: 17.
(4) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 133: اختلف العلماء فيمن افتتح نافلة من صوم أو صلاة، ثم أراد تركها، قال الشافعي: له ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: ليس له ذلك لأنه إبطال لعمله الذي انعقد له، وقال الشافعي هو تطوّع فإلزامه إياه يخرجه عن الطواعية. قلنا: إنما يكون ذلك قبل الشروع في الفعل، فإذا شرع لزمه كالشروع في المعاملات. ولا تكون عبادة ببعض ركعة ولا ببعض يوم في صوم، فإذا قطع في بعض الركعة أو في بعض اليوم إن قال: إنه يعتد به فقد ناقض الإجماع، وإن قال: إنه ليس بشيء فقد نقض الإلزام.
وذلك مستقصى في مسائل الخلاف.(4/122)
قوله تعالى: فَلا تَهِنُوا أي: فلا تَضْعُفوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إِلى السَّلْم» بفتح السين وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر السين، والمعنى: لا تدعوا الكفّار إلى الصّلح ابتداء. وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصّلح من المشركين، ودلالة على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يدخل مكة صلحاً، لأنه نهاه عن الصُّلح. قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي: أنتم أعزُّ منهم، والحُجَّة لكم، وآخِرُ الأمر لكم وإِن غَلَبوكم في بعض الأوقات وَاللَّهُ مَعَكُمْ بالعَوْن والنُّصرة وَلَنْ يَتِرَكُمْ قال ابن قتيبة: أي لن يَنْقُصَكم ولن يَظْلِمَكم، يقال: وتَرْتَني حَقِّي، أي: بَخسْتَنِيه. قال المفسرون: المعنى: لن يَنْقُصَكم من ثواب أعمالكم شيئا.
قوله تعالى: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي: لن يَسألَكُموها كُلَّها.
قوله تعالى: فَيُحْفِكُمْ قال الفراء: يُجْهِدكم. وقال ابن قتيبة: يُلِحّ عليكم بما يوجبه في أموالكم تَبْخَلُوا، يقال: أحْفاني بالمسألة وألحْف: إِذا ألحَّ. وقال السدي: إِن يسألْكم جميعَ ما في أيديكم تبخلوا. وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن يعمر: «ويُخْرَج» بياء مرفوعه وفتح الراء «أضغانُكم» بالرفع. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رزين، وعكرمة، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: «وتَخْرُج» بتاء مفتوحة ورفع الراء «أضغانُكم» بالرفع. وقرأ ابن مسعود، والوليد عن يعقوب: «ونُخْرِج» بنون مرفوعة وكسر الراء «أضغانَكم» بنصب النون، أي: يُظهر بُغضَكم وعداوتَكم لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم ولكنه فرض عليكم يسيراً. وفيمن يضاف إِليه هذا الإخراج وجهان:
أحدهما: إلى الله عزّ وجلّ. والثاني: البخل، حكاهما الفراء. وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وليس بصحيح لأنّا قد بيَّنّا أن معنى الآية: إن يسألْكم جميعَ أموالكم، والزكاة لا تنافي ذلك.
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني ما فرض عليكم في أموالكم فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بما فُرض عليه من الزكاة وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي: على نفسه بما ينفعٌها في الآخرة وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عنكم وعن أموالكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إليه وإلى ما عنده من الخير والرحمة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن طاعته يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أطوعُ له منكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بل خيراً منكم. وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال:
أحدها: أنهم العجم، قاله الحسن، وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال:
(1274) لمّا نزلت: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ كان سلمان إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
__________
عجزه صحيح، وتأويل الآية بأهل فارس لا يصح، فهو حديث ضعيف، فيه مسلم بن خالد الزنجي ضعيف أخرجه البغوي في «شرح السنة» 3895. وأخرجه الطبري 31443 وابن حبان 7123 وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» 1/ 3 من طرق عن ابن وهب ثنا مسلم بن خالد به. وأخرجه الطبري 31442 و 3144 وأبو نعيم 1/ 2 و 3 من طرق عن مسلم بن خالد به. وأخرجه الترمذي 3261 وأبو نعيم 1/ 3 والواحدي 4/ 131 من(4/123)
فقالوا: يا رسول الله، مَنْ هؤلاء الذين إذا تولَّينا استُبْدِِلوا بنا؟ فضرب رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يدَه على مَنْكِب سلمان، فقال: «هذا وقومُه، والذي نفسي بيده! لو أن الدِّين معلَّق بالثُّريَّا لتناوله رجال من فارس» .
والثاني: فارس والروم، قاله عكرمة. والثالث: من يشاء من جميع الناس، قاله مجاهد. والرابع:
يأتي بخلق جديد غيركم. وهو معنى قول قتادة. والخامس: كندة والنخع، قاله ابن السائب. والسادس:
أهل اليمن، قاله راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، وشريح بن عبيد. والسابع: الأنصار، قاله مقاتل. والثامن: أنهم الملائكة، حكاه الزجاج وقال: فيه بُعْدٌ لأنه لا يقال للملائكة «قَوْمٌ» إِنما يقال ذلك للآدميين، قال: وقد قيل: إن تولَّى أهلُ مكَّة استَبْدَلَ اللهُ بهم أهلَ المدينة، وهذا معنى ما ذكَرْنا عن مقاتل.
__________
طريقين عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن جعفر بن نجيع عن العلاء به وعبد الله بن جعفر، ضعيف متروك. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 6/ 334 من طريق أبي الربيع سليمان بن داود الزهراني عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء به، والظاهر أنه منقطع بين إسماعيل وسليمان بدليل الواسطة بينهما. وأخرجه الترمذي 3260 من طريق عبد الرزاق عن شيخ من أهل المدينة عن العلاء به. قال الترمذي: هذا حديث غريب في إسناده مقال. قلت: هو ضعيف فيه من لم يسم، ولعل المراد إبراهيم المدني الآتي ذكره. وأخرجه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» 1/ 3- 4 من طريق عبد الله بن جعفر ومن طريق إبراهيم بن محمد المدني كلاهما عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وعبد الله بن جعفر ضعيف، والمدني أظنه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي ذاك المتروك المتهم. وعجزه دون ذكر الآية. أخرجه مسلم 2546 ح 230 وأحمد 2/ 309 وأبو نعيم 1/ 4 من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. ويشهد لعجزه حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري 4798 ومسلم 2546 ح 231 والنسائي في «فضائل الصحابة» 173 وأحمد 2/ 417 وابن حبان 7308 من طرق عن عبد العزيز الدارودي به. ورواية البخاري لعبد العزيز إنما هي متابعة، فقد تابعه سليمان بن بلال، وأخرجه البخاري 4897 والترمذي 3310 و 3933 من طريق ثور بن يزيد به. وأخرجه الترمذي 3261 وابن حبان 7123 والبيهقي في «الدلائل» 6/ 334 من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به.
ولفظ البخاري في الرواية 4898 «لناله رجال من هؤلاء» . ولفظ البخاري في الرواية 4897 «عن أبي هريرة رضي عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزلت عليه سورة الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهم قال:
قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال- أو رجل- من هؤلاء» . وانظر «فتح القدير» 2281 بتخريجنا.(4/124)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
سورة الفتح
وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الآية.
(1275) سبب نزولها أنه لما نزل قوله: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ «1» ، قال اليهود: كيف نتَّبع رجُلاً لا يَدري ما يُفْعَلُ به؟! فاشتدَّ ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال «2» .
أحدها: أنه كان يومَ الحديبية، قاله الأكثرون. قال البراء بن عازب: نحن نَعُدُّ الفتح بَيْعةَ الرِّضْوان. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأُطعموا نخل خيبر، وبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه، وظَهرت الرُّومَ على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. قال الزهري: لم يكن فتحٌ أعظمَ من صُلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكَّن الإِسلامُ في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خَلْقٌ كثير وكَثُر بهم سواد الإِسلامُ، قال مجاهد: يعني بالفتح ما قضى اللهُ له من نحر الهَدْي بالحديبية وحَلْق رأسه. وقال ابن قتيبة: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً أي: قَضَيْنا لك قضاءً عظيماً، ويقال للقاضي: الفتَّاح. قال الفراء: والفتح قد يكون صُلحاً، ويكون أَخْذَ الشيء عَنْوةً، ويكون بالقتال. وقال غيره: معنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصُّلْح الذي جُعل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذّرا حتى فتحه الله تعالى.
__________
ذكره الواحدي 748 في «أسباب النزول» قاله عطاء عن ابن عباس بدون إسناد، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد، والمتن باطل، فإن الآية المذكورة في الخبر مكية، عند الجمهور وسورة الفتح مدينة.
__________
(1) الأحقاف: 9.
(2) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 215: فقوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أي: بينا ظاهرا والمراد به صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه حيز جزيل، وأمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلّم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان. وهذا اختيار الطبري والشوكاني وغيرهما من المفسرين.(4/125)
الإشارة إلى قصّة الحديبية
(1276) روت عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في النَّوم كأن قائلاً يقول له: لتدخلن المسجد الحرام إِن شاء الله آمنين، فأصبح فحدَّث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج للعُمْرة فذكر أهلُ العِلْم بالسِّيَرِ أنَّه خرج واستنفر أصحابَه للعمرة، وذلك في سنة ست، ولم يخرج بسلاح إِلاّ السيوف في القُرُب «1» .
(1277) وساق هو وأصحابُه البُدْنَ، فصلَّى الظُّهر ب «ذي الحُلَيْفة» ، ثم دعا بالبُدْنِ فجُلِّلَتْ، ثم أشعرها وقلّدها، وفعل ذلك أصحابه، وأحرم ولبَّى، فبلغ المشرِكينَ خروجُه، فأجمع رأيُهم على صدِّه عن المسجد الحرام، وخرجوا حتى عسكروا ب «بَلْدَح» ، وقدَّموا مائتي فارس إِلى كُراع الغميم «2» ، وسار رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دنا من الحديبية قال الزجاج: وهي بئر، فسمِّي المكان باسم البئر قالوا: وبينها وبين مكة تسعة أميال، فوقفت يَدَا راحلته، فقال المسلمون: حَلْ حَلْ «3» ، يزجرونها، فأبَتْ، فقالوا:
خَلأَتْ القصْواءُ- والخِلاءُ في النّاقة مثل الحِران في الفَرَس- فقال: «ما خَلأَتْ، ولكن حَبَسها حابِسَ الفِيلِ، أما واللهِ لا يسألوني خُطَّةً فيها تعظيمُ حُرْمة اللهِ إِلاّ أعطيتُهم إِيّاها» ، ثم جرَّها فقامت، فولَّى راجعاً عَوْده على بَدْئه حتى نزل على ثمد «4» من أثماد الحديبية قليلِ الماء، فانتزع سهماً من كنانته فغرزه فيها، فجاشت لهم بالرَّواء، وجاءه بُدَيْل بن ورقاء في ركب فسلَّموا وقالوا: جئناك من عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، يُقْسِمون، لا يُخَلُّون بينك وبين البيت حتى تُبيد خَضْراءَهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَمْ نأتِ لقتال أحَد إِنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلْناه» . فرجعَ بديل فأخبر قريشاً، فبعثوا عروة بن مسعود، فكلَّمه بنحو ذلك، فأخبر قريشاً، فقالوا: نَرُدُّه مِن عامِنا هذا، ويَرْجِع من قابِل فيَدْخُل مكّة ويطوف بالبيت، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمانَ بن عفان، قال: «اذْهَبْ إِلى قريش فأَخْبِرْهم أنّا لَمْ نأتِ لقتالِ أحَدٍ، وإِنما جئنا زُوّاراً لهذا البيت، معنا الهدي ننحره وننصرف، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا: لا كان هذا أبداً، ولا يَدخُلها العامَ، وبَلَغَ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم أنَّ عثمان قد قُتل، فقال: «لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَهم» «5» ، فذاك حين دعا المسلمين إِلى بيعة الرّضوان، فبايعهم تحت
__________
لم أره عن عائشة، وهو غريب هكذا، وقد نبه الحافظ على ذلك في تخريج «الكشاف» 4/ 345، وقد ورد منجما وبمعناه عند الطبري 31601 و 31602 و 31603 و 31604 وعامة هذه الروايات مراسيل.
خبر الحديبية. صحيح. أخرجه البخاري 2731 و 2732 و 4178 و 4179 وأبو داود 2765 مختصرا وأحمد 4/ 328 والطبري 31566 وابن حبان 4872 والبيهقي في «دلائل النبوة» 4/ 99- 108.
__________
(1) أخرجه الطبري 31484 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 165 عن مجاهد مرسلا بنحوه.
(2) كراع الغميم: موضع بين مكة والمدينة. [.....]
(3) حل حل: كلمة تقال للناقة إذا توقفت عن السير.
(4) في «اللسان» : الثّمد: قال أبو مالك: أن يعمد إلى موضع يلزم ماء السماء يجعله صنعا وهو المكان يجتمع فيه الماء، وله مسايل من الماء، ويحفر في نواحيه ركايا فيملأها من ذلك الماء فيشرب الناس الماء الظاهر حتى يجف، وتبقى تلك الركايا، وهي الثماد. والثمد: الماء القليل الذي لا مادّتها له.
(5) ورد هذا القول «فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا نبرح حتى ... » عند الطبري 31516 عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر.(4/126)
الشجرة. وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال:
(1278) أحدها: ألف وأربعمائة، قاله البراء، وسلمة بن الأكوع، وجابر، ومعقل بن يسار.
(1279) والثاني: ألف وخمسمائة، روي عن جابر أيضاً، وبه قال قتادة.
(1280) والثالث: ألف وخمسمائة وخمس وعشرون، رواه العوفي عن ابن عباس.
(1281) والرابع: ألف وثلاثمائة، قاله عبد الله بن أبي أوفى.
(1282) قال: وضَرَبَ يومئذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشماله على يمينه لعثمان، وقال: إِنه ذهب في حاجة الله ورسوله. وَجعَلَت الرُّسُل تختلف بينهم، فأجمعوا على الصُّلح، فبعثوا سهيل بن عمرو في عِدَّة رجال فصالحه كما ذكرنا في براءة «1» فأقام بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال: عشرين ليلة، ثم انصرف.
(1283) فلمّا كان ب «ضَجَنَان» نزل عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، فقال جبريل: يَهنيك يا رسول الله، وهنّأه المسلمون.
والقول الثاني: أن هذا الفتح فتح مكة، رواه مسروق عن عائشة، وبه قال السدي. وقال بعض مَن ذَهَب إِلى هذا: إِنما وُعِد بفتح مكة بهذه الآية. والثالث: أنه فتح خيبر، قاله مجاهد، والعوفي، وعن أنس بن مالك كالقولين. والرابع: أنه القضاء له بالإِسلام، قاله مقاتل. وقال غيره: حَكَمْنا لك بإظهار دِينك والنُّصرة على عدوِّك.
قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ قال ثعلب: اللام لام «كي» ، والمعنى «2» : لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النِّعمة في الفتح، فلمّا انضمَّ إلى المغفرة شيءٌ حادِثٌ، حَسُنَ معنى «كي» ، وغلط من قال:
__________
أخرجه البخاري 4150 و 4151 من حديث البراء بن عازب. وورد أيضا من حديث جابر، أخرجه البخاري 4154 ومسلم 1856 ح 71 و 72 و 74، ومن حديث سلمة بن الأكوع، أخرجه مسلم 1807.
أخرجه الطبري 31524 عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قيل له «إن جابر بن عبد الله يقول: إن أصحاب الشجرة كانوا ألفا وخمس مائة، قال سعيد: نسي جابر، هو قال لي: كانوا ألفا وأربع مائة» .
أخرجه الطبري 31526 عن ابن عباس بسند واه.
أخرجه البخاري 4155 ومسلم 1857 عن عبد الله بن أبي أوفى.
لم أره بهذا اللفظ، وخبر البيعة عن عثمان، أخرجه الترمذي 3702 من حديث أنس، وفيه الحكم بن عبد الملك، وهو ضعيف.
لم أره بهذا اللفظ، وذكر جبريل غريب جدا. وانظر الآتي برقم 1285.
__________
(1) التوبة: 7.
(2) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 217: وقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، هذا من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم التي لا يشاركه فيها غيره. وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله لله، وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه. فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله له: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ.(4/127)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
ليس الفتح سببَ المغفرة. قوله تعالى: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال ابن عباس: والمعنى: «ما تقدَّم» في الجاهلية و «ما تأخَّر» ما لم تعلمه، وهذا على سبيل التأكيد، كما تقول: فلان يَضْرِب من يلقاه ومن لا يلقاه. قوله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك في الجنة. والثاني: أنه بالنُبُوَّة والمغفرة، رويا عن ابن عباس. والثالث: بفتح مكة والطائف وخيبر، حكاه الماوردي. والرابع:
بإظهار دِينك على سائر الأديان، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي:
ويُثبِّتك عليه وقيل: ويَهدي بك، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ على عدوِّك نَصْراً عَزِيزاً قال الزجاج: أي: نَصْراً ذا عزّ لا يقع معه ذلّ.
[سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 10]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ أي: السُّكون والطمُّأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لئلاّ تنزعج قلوبُهم لِمَا يَرِد عليهم، فسلَّموا لقضاء الله، وكانوا قد اشتد عليهم صَدُّ المشركين لهم عن البيت، حتى قال عمر: علامَ نُعطي الدّنيّة في ديننا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(1284) «أنا عَبْدُ الله ورسوله، لن أُخالِف أمره ولن يُضَيِّعني» .
ثم أَوْقَعَ اللهُ الرِّضى بما جرى في قلوب المسلمين، فسلَّموا وأطاعوا. لِيَزْدادُوا إِيماناً وذلك أنه كلَّما نزلت فريضة زاد إيمانهم. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يريد أن جميع أهل السموات والأرض مُلْكٌ له، لو أراد نُصرة نبيِّه بغيركم لَفَعَل، ولكنه اختاركم لذلك، فاشكُروه.
قوله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ ... الآية.
(1285) سبب نزولها أنه لمّا نزل قوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ قال أصحابُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هنيئا لك يا
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3182 ومسلم 1785 والنسائي في الكبرى 11504 من حديث أبي وائل عن سهل بن حنيف. وانظر «تفسير الشوكاني» 2302.
صحيح. أخرجه البخاري 4172 و 4834 وأحمد 3/ 173 من طريق شعبة. وأخرجه مسلم 1786 وأحمد 3/ 122 و 134 والطبري 31454 من طريقين عن همام به. وأخرجه مسلم 1786 والبيهقي 5/ 217 من طريق شيبان. وأخرجه أحمد 3/ 252 عن عفان ثنا همام ثنا قتادة ثنا أنس رضي الله عنه. وهو في «شرح السنة» 3914 بهذا الإسناد. وأخرجه الترمذي 3263 وأحمد 3/ 197 عن طريق معمر. وأخرجه مسلم 1786 والطبري 31452 والواحدي في «الوسيط» 4/ 132- 133 من طريق سليمان بن طرخان. وأخرجه الطبري 31453 من طريق سعيد بن أبي عروبة. كلهم عن قتادة به. وأخرجه ابن حبان 371 من طريق سفيان عن الحسن عن أنس به.(4/128)
رسول الله بما أعطاك الله، فما لَنا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك.
(1286) قال مقاتل: فلمّا سمع عبد الله بن أُبيّ بذلك، انطلق في نَفَرٍ إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ما لَنا عند الله؟ فنزلت: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ ... الآية.
قال ابن جرير كُرِّرت اللاّمُ في «لِيُدْخِلَ» على اللام في «لِيَغْفِرَ» ، فالمعنى: إَِنّا فَتَحْنا لك لِيَغْفِرَ لك اللهُ لِيُدْخِلَ المؤمنين، ولذلك لم يُدخِل بينهما واو العطف، والمعنى: لِيُدْخِل ولِيُعَذِّب.
قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بفتحها.
قوله تعالى: وَكانَ ذلِكَ أي: ذلك الوَعْد بإدخالهم الجنة وتكفير سيِّئاتهم عِنْدَ اللَّهِ أي في حُكمه فَوْزاً عَظِيماً لهم والمعنى: أنه حكم لهم بالفَوْز، فلذلك وعدهم إِدخال الجنة.
قوله تعالى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنهم ظنُّوا أن لله شريكاً.
والثاني: أن الله لا ينصُر محمداً وأصحابه. والثالث: أنهم ظنُّوا به حين خرج إِلى الحديبية أنه سيُقْتَل أو يهزم ولا يعود ظافراً. والرابع: أنهم ظنُّوا أنهم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة واحدة عند الله. والخامس: ظنُّوا أن الله لا يبعث الموتى. وقد بيَّنّا معنى «دائرة السّوء» في براءة «1» . وما بعد هذا قد سبق بيانه «2» إلى قوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «لِيُؤْمِنوا» بالياء «ويُعزِّروه ويُوقِّروه ويُسبِّحوه» كلُّهن بالياء، والباقون: بالتاء، على معنى: قل لهم: إِنّا أرسلناك، لتؤمنوا، وقرأ علي بن أبي طالب وابن السميفع: «ويُعَزٍّزوه» بزاءين. وقد ذكرنا في الأعراف «3» معنى «ويُعَزِّروه» عند قوله: «وعزَّروه ونصروه» . قوله تعالى: وَتُوَقِّرُوهُ أي: تعظّموه وتبجّلوه. واختار كثير من القرَّاء الوقف هاهنا، لاختلاف الكناية فيه وفيما بعده. قوله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ هذه الهاء ترجع إلى الله عزّ وجلّ. والمراد بتسبيحه هاهنا: الصلاةُ له. قال المفسرون: والمراد بصلاة البُكرة: الفجر، وبصلاة الأصيل: باقي الصلوات الخمس. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يعني بَيْعة الرّضوان بالحديبية. وعلى ماذا بايعوه؟ فيه قولان:
(1287) أحدهما: أنهم بايعوه على الموت، قاله عبادة بن الصامت.
(1288) والثاني: على أن لا يفِرًّوا، قاله جابر بن عبد الله. ومعناهما متقارب، لأنه أراد: على أن لا تفرّوا ولو متّم.
__________
واه بمرة. مقاتل هو ابن سليمان كذبه غير واحد، والصحيح في هذا ما رواه البخاري ومسلم، وتقدم.
انظر الحديث الآتي.
هو عند مسلم 1856 عن جابر قال: «كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وقال: بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت» وفي رواية: فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره» فلم يبايع أصلا. وقد نبه على هذا الحافظ في تخريجه 4/ 335. وأما لفظ فبايعوه على
__________
(1) التوبة: 98.
(2) الفتح: 4، الأحزاب: 45.
(3) الأعراف: 157.(4/129)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
وسمِّيتْ بَيْعة، لأنهم باعوا أنفُسهم من الله بالجنّة، وكان العقد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكأنّهم بايعوا الله عزّ وجلّ، لأنه ضَمِن لهم الجنة بوفائهم. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم. والثاني: يد الله في الثواب فوق أيديهم. والثالث: يد الله عليهم في المنّة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة، ذكر هذه الأقوال الزجاج. والرابع: قُوَّة الله ونُصرته فوق قُوَّتهم ونُصرتهم، ذكره ابن جرير، وابن كيسان.
قوله تعالى: فَمَنْ نَكَثَ أي: نقض ما عقده من هذه البَيْعة فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أي: يَرْجِع ذلك النَّقْضُ عليه وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ من البيعة فَسَيُؤْتِيهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر وأبان عن عاصم: «فسنُؤتيه» بالنون. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بالياء أَجْراً عَظِيماً وهو الجنة. قال ابن السائب: فلم ينكُث العهد منهم غير رجل واحد يقال له: الجدّ بن قيس، وكان منافقا.
[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 14]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
قوله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ (1289) قال ابن إِسحاق: لما أراد العمرة استنفرَ مَنْ حَوْلَ المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه، خوفاً من قومه أن يَعْرِضوا له بحرب أو بصَدٍّ، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عنى الله بقوله: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ، (1290) قال أبو صالح، عن ابن عباس: وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والدِّيل وأسلم. قال يونس النحوي: الدِّيل في عبد القيس ساكن الياء. والدُّول من حنيفة ساكن الواو، والدُّئِل في كنانة رهط أبي الأسود الدُّؤَلي.
فأمّا المخلَّفون، فإنهم تخلَّفوا مخافة القتل. شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا أي: خِفْنا عليهم الضّيعة
__________
الموت فقد ورد في خبر مرسل أخرجه الطبري 31516 عن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر وفيه «فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بايعهم على الموت، فكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يبايعنا على الموت ولكنه بايعنا على ألا نفرّ» . وورد من حديث معقل بن يسار عند مسلم 1858 ولفظه «لقد رأيتني يوم الشجرة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشر مائة. قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر» فهذا كله يرد ما ذكر من أنهم بايعوه على الموت.
أخرجه البيهقي في «الدلائل» 4/ 165 عن مجاهد بنحوه، وهذا مرسل، وقد أخرجه الطبري 31484 عن مجاهد أيضا.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح ساقط الرواية وبخاصة عن ابن عباس.(4/130)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
فَاسْتَغْفِرْ لَنا أي: ادْعُ اللهَ أنْ يَغْفِر لنا تخلُّفنا عنك يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي: ما يبالون استغفرتَ لهم أم لم تستغفر لهم. قوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ضُراً» بضم الضاد والباقون: بالفتح. قال أبو علي: «الضَّرُّ» بالفتح:
خلاف النفع، وبالضم: سوء الحال، ويجوز أن يكونا لغتين كالفَقْر والفُقْر، وذلك أنهم ظنُّوا أن تخلَّفهم يدفع عنهم الضَّرَّ. ويعجِّل لهم النفع بسلامة أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم الله تعالى أنه إِن أراد بهم شيئاً، لم يَقْدِر أحد على دفعه عنهم، بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً من تخلُّفهم وقولهم عن المسلمين أنهم سيهلكون، وذلك قوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أي: توهَّمتم أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أي لا يَرْجِعون إِلى المدينة، لاستئصال العدوِّ إِيّاهم، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وذلك من تزيين الشيطان. قوله تعالى: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً قد ذكرناه في الفرقان «1» .
[سورة الفتح (48) : آية 15]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ الذين تخلَّفُوا عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ وذلك أنهم لمّا انصرفوا عن الحديبية بالصُّلح وعَدَهم اللهُ فَتْحَ خيبر، وخصَّ بها من شَهد الحديبية فانطلقوا إِليها، فقال هؤلاء المخلَّفون: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ، قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «أن يبدِّلوا كَلِمَ الله» بكسر اللام. وفي المعنى قولان:
أحدهما: أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة، قاله ابن عباس. والثاني: أمْرُ الله نبيَّه أن لا يسير معه منهم أحد، وذلك أن الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر، ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلِّفين، قاله مقاتل. وعلى القولين: قصدوا أن يجيز لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يخالِف أمْرَ الله، فيكون تبديلاً لأمره.
قوله تعالى: كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فيه قولان: أحدهما: قال: إِن غنائم خيبر لِمَن شَهِد الحديبية، وهذا على القول الأول. والثاني: قال: لن تتَّبعونا، وهذا قول مقاتل.
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أي: يمنعُكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم.
[سورة الفتح (48) : الآيات 16 الى 17]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)
قوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ المعنى: إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستُدْعََون إِلى جهاد قوم أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. وفي هؤلاء القوم ستة أقوال «2» : أحدها: أنهم فارس، رواه ابن أبي طلحة عن ابن
__________
(1) الفرقان: 18.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 346: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المخلفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال، ونجدة في الحروب، ولم يوضح لنا الدليل على أن المعني بذلك أعيان بأعيانهم.
- وقال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 135: وقوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ وهذا يدل على أنهم باليمامة لا بفارس ولا بالروم، لأن الذي تعين عليه القتال حتى يسلم من غير قبول جزية هم العرب في أصح الأقوال والمرتدون. وأما فارس والروم فلا يقاتلون حتى يسلموا، بل إن بذلوا الجزية قبلت منهم، وجاءت الآية معجزة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإخبارا بالغيب الآتي.(4/131)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
عباس، وبه قال عطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى، وابن جريج في آخرين.
والثاني: فارس والروم، قاله الحسن، ورواه ابن أبي نجيج عن مجاهد. والثالث: أنهم أهل الأوثان، رواه ليث عن مجاهد. والرابع: أنهم الروم، قاله كعب. والخامس: أنهم هوازن وغطفان، وذلك يوم حنين، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. والسادس: بنو حنيفة يوم اليمامة، وهم أصحاب مسيلمة الكذَّاب، قاله الزهري، وابن السائب، ومقاتل. قال مقاتل: خِلافةُ أبي بكر في هذه بيِّنةٌ مؤكدة. وقال رافع بن خديج: كنّا نقرأ هذه الآية ولا نَعْلَم مَنْ هُمْ حتى دُعِيَ أبو بكر إِلى قتال بني حنيفة، فعَلِمنا أنهم هُمْ.
وقال بعض أهل العِلْم: لا يجوز أن تكون هذه الآية إِلاّ في العرب، لقوله: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ، وفارس والروم إِنما يقاتَلون حتى يُسْلِموا أو يؤدُّوا الجزية. وقد استدلَّ جماعةٌ من العلماء على صِحَّة إِمامة أبي بكر وعمر بهذه الآية، لأنه إِن أُريدَ بها بنو حنيفة، فأبو بكر دعا إِلى قتالهم، وإِن أُريدَ بها فارس والروم، فعمر دعا إِلى قتالهم، والآية تُلْزِمهم اتباع طاعة من يدعوهم، وتتوعَّدهم على التخلُّف بالعقاب. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدلّ على صحّة إمامتهما إِذا كان المتولِّي عن طاعتهما مستحقاً للعقاب. قوله تعالى: فَإِنْ تُطِيعُوا قال ابن جريج: فإن تُطيعوا أبا بكر وعمر، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن طاعتهما كَما تَوَلَّيْتُمْ عن طاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم في المسير إِلى الحديبية. وقال الزجاج: المعنى: إِن تُبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم، يؤتكم اللهُ أجْراً حسناً، وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد كما تولَّيتم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعذِّبكم عذاباً أليماً. قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ قال المفسرون: عَذَرَ اللهُ أهل الزَّمانة الذين تخلَّفوا عن المسير إِلى الحديبية بهذه الآية. قوله تعالى: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ قرأ نافع، وابن عامر: «نُدْخِلْه» و «نُعْذِّبْه» بالنون فيهما والباقون: بالياء.
[سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 24]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
ثم ذكر الذين أخلصوا نِيَّتهم وشَهِدوا بَيْعة الرّضوان بقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وقد(4/132)
ذكرنا سبب هذه البَيْعة آنفاً. وإِنما سمِّيتْ بَيْعةَ الرّضوان، لقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال:
(1291) بينما نحن قائلون زمن الحديبية، نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيها الناس، البَيْعةَ، البَيْعةَ، نَزَل روح القُدُس، قال: فثرنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو تحت شجرة سَمُرة، فبايَعْناه.
(1292) وقال عبد الله بن مغفّل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة يبايع الناس، وإِنِّي لأرفع أغصانَها عن رأسه. وقال بكير بن الأشج: كانت الشجرة بفجٍّ نحو مكة. قال نافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلُّون عندها، فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب، فأوعدهم فيها، وأمر بها فقُطِعتْ.
قوله تعالى: فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي: من الصِّدق والوفاء، والمعنى: علم أنهم مُخْلِصون فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يعني الطُّمأنينة والرِّضى حتى بايَعوا على أن يقاتِلوا ولا يَفِرُّوا وَأَثابَهُمْ أي: عوَّضهم على الرِّضى بقضائه والصَّبر على أمره فَتْحاً قَرِيباً وهو خيبر، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها أي: من خيبر، لأنها كانت ذا عَقار وأموال. فأمّا قوله بعد هذا: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فقال المفسرون: هي الفُتوح التي تُفْتَح على المسلمين إِلى يوم القيامة. فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ فيها قولان:
أحدهما: أنها غنيمة خيبر، قاله مجاهد وقتادة والجمهور. والثاني: أنه الصُّلح الذي كان بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين قريش، رواه العوفي عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ فيهم ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم اليهود همُّوا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلّفوهم في المدينة، فكفَّهم اللهُ عن ذلك، قاله قتادة. والثاني: أنهم أسد وغطفان جاءوا لينصروا أهل خيبر، فقَذَفَ اللهُ في قلوبهم الرُّعب فانصرفوا عنهم، قاله مقاتل. وقال الفراء:
كانت أسد وغطفان مع أهل خيبر، فقصدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصالحوه، وخلَّوا بينه وبين خيبر. وقال غيرهما: بل همَّت أسد وغطفان باغتيال أهل المدينة، فكفَّهم اللهُ عن ذلك. والثالث: أنهم أهل مكة كفَّهم اللهُ بالصلح، حكاهما الثعلبي وغيره. ففي قوله: «عنكم» قولان: أحدهما: أنه على أصله، قاله الأكثرون. والثاني: عن عيالكم، قاله ابن قتيبة، وهو مقتضى قول قتادة. وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ في المشار إليها قولان: أحدهما: أنها الفَعْلة التي فَعَلها بكم من كَفِّ أيديهم عنكم كانت آيةً للمؤمنين، فعَلِموا أن الله تعالى متولَّي حراستهم في مَشهدهم ومَغيبهم. والثاني: أنها خيبر كان فتحها علامةً للمؤمنين في تصديق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما وعدهم به.
__________
ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 225 وفيه موسى بن عبيدة وهو الربذي ضعيف الحديث، والمتن غريب. وانظر «تفسير ابن كثير» 4/ 225 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه النسائي 531 في «التفسير» والطبري 31554 من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح على شرط مسلم. وورد من حديث معقل بن يسار عند مسلم 1858 كما سبق في الحديث 1288.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 11/ 352: والذي قاله قتادة في ذلك عندي أشبه بتأويل الآية، وذلك أن كف الله أيدي المشركين من أهل مكة عن أهل الحديبية قد ذكره الله بعد هذه الآية في قوله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ فعلم بذلك أن الكفّ الذي ذكره الله تعالى في قوله: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ غير الكف الذي ذكره الله بعد هذه الآية في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ.(4/133)
قوله تعالى: وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً فيه قولان: أحدهما: طريق التوكُّل عليه والتفويض إِليه، وهذا على القول الأول. والثاني: يَزيدكم هُدىً بالتصديق بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة.
قوله تعالى: وَأُخْرى المعنى: وعدكم الله مَغانمَ أُخرى وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها ما فُتح للمسلمين بعد ذلك. روى سماك الحنفي عن ابن عباس: «وأُخرى لَمْ تَقْدِروا عليها» قال: ما فتح لكم من هذه الفتوح، وبه قال مجاهد. والثاني: أنها خيبر، رواه عطية، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد. والثالث: فارس والروم، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الحسن، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. والرابع: مكة، ذكره قتادة، وابن قتيبة. قوله تعالى: قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها فيه قولان:
أحدهما: أحاط بها عِلْماً أنها ستكون من فُتوحكم. والثاني: حَفِظها لكم ومَنَعها من غيركم حتى فتحتموها. قوله تعالى: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا هذا خطاب لأهل الحديبية، قاله قتادة والذين كفروا مشركو قريش. فعلى هذا يكون المعنى: لو قاتلوكم يومَ الحديبية لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ لِما في قلوبهم من الرُّعب ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا لأنّ الله قد خذلهم. قال الزجاج: المعنى: لو قاتلك من لم يقاتِلْك لنُصِرْتَ عليه، لأن سُنَّة الله النُّصرةُ لأوليائه. و «سُنَّةَ الله» منصوبة على المصدر، لأن قوله: «لولَّوُا الأدبار» معناه: سنّ الله عزّ وجلّ خِذلانهم سُنَّةً. وقد مَرَّ مِثْلُ هذا في قوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «1» ، وقوله: صُنْعَ اللَّهِ «2» . قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ.
(1293) روى أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهل مكّة هبطوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم متسلِّحين يريدون غِرَّة «3» النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابِه، فأخذهم سِلْماً، فاستحياهم، وأنزل الله هذه الآية.
(1294) وروى عبد الله بن مغفَّل قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية في أصل الشجرة، فبينا نحن كذلك إِذ خرج علينا ثلاثون شابّاً، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل جئتم في عهد؟» أو «هل جعل لكم أحد أماناً؟» قالوا: اللهم لا، فخلَّى سبيلهم، ونزلت هذه الآية.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1808 عن عمر بن محمد الناقد ثنا يزيد بن هارون أنا حماد بن أبي سلمة عن ثابت- وهو ابن أسلم البناني- عن أنس بن مالك به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 142 من طريق إبراهيم بن محمد بهذا الإسناد. وأخرجه أبو داود 2688 والترمذي 3264 والنسائي في «التفسير» 530 والطبري 31558 وأحمد 3/ 124 و 290 والطحاوي في «المشكل» 60 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 41 من طرق عن حمّاد بن سلمة به. وورد بنحوه في أثناء حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم 1807 وأحمد 4/ 49 والطحاوي 62.
صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» 531 وأحمد 4/ 86- 87 والحاكم 2/ 460- والطبري 31554 والواحدي في «الوسيط» 4/ 142 والبيهقي 6/ 319 من طرق عن الحسين بن واقد عن ثابت عن عبد الله بن المغفل به. وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» 6/ 145: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وهو كما قالوا. وقال ابن حجر في «فتح الباري» 5/ 351: أخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بسند صحيح.
__________
(1) النساء: 24.
(2) النمل: 88.
(3) في «اللسان» الغرة: الغفلة. [.....](4/134)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
(1295) وذكر قتادة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث خَيْلاً، فأتَوه باثني عشر فارساً من الكفار، فأرسلهم.
(1296) وقال مقاتل: خرجوا يقاتِلون رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، فهزمهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالطَّعن والنَّبل حتى أدخلهم بيوت مكة.
قال المفسرون: ومعنى الآية: إِن الله تعالى ذكر مِنَّته إِذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تم الصلح بينهم. وفي بطن مكة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحديبية، قاله أنس. والثاني: وادي مكة، قاله السدي. والثالث: التنعيم، حكاه أبو سليمان الدمشقي. فأمّا «مكة» فقال الزجاج: «مكة» لا تنصرف لأنها مؤنَّثة، وهي معرفة، ويصلُح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق «بكة» ، والميم تُبدل من الباء، يُقال:
ضَرْبة لازم، ولازب، ويصلُح أن يكون اشتقاقها من قولهم: امتكّ الفصيل ما في ضرع النّاقة: إِذا مَصَّ مَصّاً شديداً حتى لا يُبْقي فيه شيئاً، فيكون سمِّيتْ بذلك لشِدَّة الازدحام فيها، قال: والقول الأول أحسن. وقال قطرب: مكة من تَمَكَّكْتُ المُخَّ: إذا أكلتَه. وقال ابن فارس: تَمَكَّكْتُ العظم: إِذا أخرجتَ مُخَّه والتمكُّكُ: الاستقصاء.
(1297) وفي الحديث: «لا تُمَكِّكوا على غُرَمائكم» . وفي تسمية «مكة» أربعة أقوال:
أحدها: لأنها مَثَاَبَةٌ يؤمُّها الخَلْقُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وكأنها هي التي تجذِبُهم إِليها، وذلك من قول العرب: امْتَكَّ الفَصيلُ ما في ضَرْع النّاقة. والثاني: أنها سمِّيتْ (مكة) من قولك: بَكَكْتُ الرجُل: إِذا وضَعْتَ منه وَرَدَدْتَ نَخْوتَه، فكأنها تَمُكُّ مَنْ ظلم فيها، أي: تُهلكه وتُنْقِصه، وأنشدوا:
يا مَكَّةُ، الفاجِرَ مُكِّي مَكَّا ... ولا تَمُكِّي مَذْحِجاً وعَكَّا «1»
والثالث: أنها سمِّيتْ بذلك لجَهْد أهلها. والرابع: لِقلَّة الماء بها.
وهل مكة وبكة واحد؟ قد ذكرناه في آل عمران «2» .
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي: بهم يقال: ظَفِرْتُ بفلان، وظَفِرْتُ عليه. قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً قرأ أبو عمرو: «يعملون» بالياء والباقون: بالتاء.
[سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 26]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
__________
أخرجه الطبري 31559 عن قتادة مرسلا.
تقدم أن هذا الخبر غير صحيح، ومقاتل متروك متهم بالكذب.
لم أقف عليه، والظاهر أنه لا أصل له لخلوه عن كتب الحديث والأثر.
__________
(1) الرجز غير منسوب في «اللسان» - مكة-
(2) آل عمران: 96.(4/135)
قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أهل مكة وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن تطوفوا به وتحلّوا من عُمرتكم وَالْهَدْيَ قال الزَّجاج: أي: وصدُّوا الهدي مَعْكُوفاً أي: محبوساً أَنْ يَبْلُغَ أي: عن أن يبلُغَ مَحِلَّهُ قال المفسرون: «مَحِلّه» مَنْحَره، وهو حيث يَحِلُّ نَحْرُه وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ وهم المستَضعفون بمكة لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أي: لم تعرفوهم أَنْ تَطَؤُهُمْ بالقتل. ومعنى الآية: لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساءٌ مؤمنات بالقتل، وُتوقِعوا بهم ولا تعرفونهم، فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ وفيها أربعة أقوال: أحدها: إِثم، قاله ابن زيد. والثاني: غُرم الدِّيَة، قاله ابن إِسحاق. والثالث:
كفّارة قتل الخطأ، قاله ابن السائب. والرابع: عيب بقتل مَنْ هو على دينكم، حكاه جماعة من المفسرين. وفي الآية محذوف، تقديره: لأدخلتُكم من عامكم هذا وإنما حُلْتُ بينكم وبينهم لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ أي: في دينه مَنْ يَشاءُ من أهل مكة، وهم الذين أسلموا بعد الصُّلح لَوْ تَزَيَّلُوا قال ابن عباس: لو تفرَّقوا. وقال ابن قتيبة، والزجاج: لو تميَّزوا. قال المفسرون: لو انماز المؤمنون من المشركين لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والسَّبْي بأيديكم. وقال قوم: لو تزيَّل المؤمنون من أصلاب الكُفّار لعذَّبْنا الكفار. وقال بعضهم: قوله: «لعذَّبْنا» جواب لكلامين، أحدهما: «لولا رجال» ، والثاني:
«لو تزيَّلوا» وقوله: إِذْ جَعَلَ من صلة قوله: لَعَذَّبْنَا. والحميَّة: الأنَفَة والجَبَريَّة.
(1298) قال المفسرون: وإنما أخذتهم الحميّة حين أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخول مكة، فقالوا:
يدخلون علينا، وقد قتلوا أبناءنا وإِخواننا فتتحدَّث العربُ بذلك! واللهِ لا يكون ذلك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلم يَدخُلْهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم.
(1299) وقيل: الحميَّةُ ما تداخل سهيلَ بن عمرو من الأنَفَة أن يكتُب في كتاب الصُّلح ذِكْر «الرحمن الرحيم» وذكر «رسول الله» صلّى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى فيه خمسة أقوال:
(1300) أحدها: «لا إله إلا الله» ، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة
__________
عزاه المصنف للمفسرين. وذكره البغوي 4/ 204 وعزاه لمقاتل، وهو متروك متهم.
أخرجه البيهقي في «الدلائل» 4/ 134 عن عروة أثناء خبر مطول، وهذا مرسل ومرسلات عروة جياد، وأصله في الصحيح من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وقد تقدم.
المرفوع ضعيف، والصحيح موقوف. أخرجه الترمذي 3265 والطبري 31579 وعبد الله في «زوائد المسند» 5/ 138 والطبراني في «الكبير» 536 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 200 من طريق الحسن بن قزعة عن سفيان بن حبيب عن شعبة عن ثوير عن أبيه عن الطفيل عن أبيّ عن أبيه، وإسناده ضعيف جدا، ثوير بن أبي فاختة متروك الحديث بل قال الثوري: هو ركن من أركان الكذب. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا، إلا من حديث الحسن بن قزعة. قال الترمذي: وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث، فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه اه.
تنبيه: وقد وهم الألباني في هذا الحديث حيث حكم بصحته في «صحيح الترمذي» 2603.
وأخرجه الطبراني في «الدعاء» 1530 من حديث سلمة بن الأكوع، وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، ليس بشيء. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 6/ 80 من حديث أبي هريرة، وابن مردويه يروي الموضوعات، لا يحتج بما ينفرد، وقد تفرد به عن أبي هريرة، فهو لا شيء، وقد ورد موقوفا عن غير واحد من الصحابة والتابعين، وهو الصواب، وقد وهم ثوير وموسى الربذي فروياه مرفوعا.(4/136)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
والضحاك والسدي وابن زيد في آخرين، وقد روي مرفوعا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فعلى هذا يكون معنى:
«ألزَمَهم» : حَكَمَ لهم بها، وهي التي تَنفي الشِّرك.
والثاني: «لا إِله إلا الله والله أكبر» ، قاله ابن عمر. وعن علي بن أبي طالب كالقولين.
والثالث: «لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» ، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع: «لا ِإله إِلا الله محمد رسول الله» ، قاله عطاء الخراساني. والخامس: «بسم الله الرحمن الرحيم» ، قاله الزهري. فعلى هذا يكون المعنى أنه لمّا أبى المشركون أن يكتُبوا هذا في كتاب الصُّلح، ألزمه اللهُ المؤمنين وَكانُوا أَحَقَّ بِها
من المشركين وَكانوا أَهْلَها في علم الله تعالى.
[سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 28]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)
قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ.
(1301) قال المفسرون. سبب نزولها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أُري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلاً يقول له: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِلى قوله: لا تَخافُونَ ورأى كأنه هو وأصحابه يدخُلون مكة وقد حَلَقوا وقصَّروا، فأخبر بذلك أصحابَه ففرِحوا، فلمّا خرجوا إِلى الحديبية حَسِبوا أنهم يدخُلون مكة في عامهم ذلك، فلمّا رجعوا ولم يدخُلوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟ فنزلت هذه الآية، فدخلوا في العام المقبل.
وفي قوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ ستة أقوال «1» : أحدها: أن «إن» بمعنى «إذ» ، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: أنه استثناء من الله، وقد عَلِمه، والخَلْق يستثنون فيما لا يَعْلَمون، قاله ثعلب فعلى هذا يكون المعنى أنه عَلِم أنهم سيدخُلونه، ولكن استثنى على ما أُمر الخَلْق به من الاستثناء. والثالث: أن المعنى: لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إن أمركم الله به، قال الزجاج. والرابع: أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم، لأنه عَلِم أن بعضهم يموت، حكاه الماوردي. والخامس: أنه على وجه الحكاية.
لما رآه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام أن قائلاً يقول: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» ، حكاه القاضي أبو يعلى. والسادس: أنه يعود إِلى الأمن والخوف، فأمّا الدُّخول، فلا شَكَّ فيه، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: آمِنِينَ من العَدُوِّ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ من الشّعر لا تَخافُونَ عدوّا.
__________
غريب هكذا، وقد نبه الحافظ على ذلك في تخريجه 4/ 345 وقد ورد منجما وبمعناه عند الطبري 31601 و 31602 و 31603 و 31604 وعامة هذه الروايات مراسيل.
__________
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 236: هذا لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيء. وقال الزمخشري في «الكشاف» 4/ 347: قلت فيه وجوه: أن يعلق عدته بالمشيئة تعليما لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك، متأدبين بأدب الله ومقتدين بسنته.(4/137)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عَلِم أن الصَّلاح في الصُّلح. والثاني: أن في تأخير الدُّخول صلاحاً. والثالث: فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك.
قوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً فيه قولان «1» : أحدهما: فتح خيبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: صلح الحديبية، قاله مجاهد والزهري وابن إِسحاق. وقد بيَّنّا كيف كان فتحاً في أول السورة. وما بعد هذا مفسر في براءة «2» : إِلى قوله وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وفيه قولان: أحدهما: أنه شَهِدَ على نَفْسه أنه يُظْهِره على الدِّين كُلِّه، قاله الحسن. والثاني: كفى به شهيداً أن محمّدا رسوله، قاله مقاتل.
[سورة الفتح (48) : آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وقرأ الشعبي، وأبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري: «محمداً رسولُ الله» بالنصب فيهما. قال ابن عباس: شَهِد له بالرِّسالة. قوله تعالى: وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني أصحابه، والأشدّاء: جمع شديد. قال الزجاج: والأصل: أَشْدِدَاءُ، نحو نصيب وأنصباء، ولكن الدّالَين تحركتا، فأُدغمت الأولى في الثانية، ومثله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ «3» . قوله تعالى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ الرُّحَماء جمع رحيم، والمعنى أنهم يُغْلِظون على الكفار، وَيتوادُّون بينَهم تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَصِفُ كثرة صَلاتهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وهو الجنة وَرِضْواناً وهو رضى الله عنهم. وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجُمهور.
(1302) وروى مبارك بن فضاله عن الحسن البصري أنه قال: «والذين معه» أبو بكر «أشداء على الكفار» عمر «رحماء بينهم» عثمان «تراهم رُكَّعاً سُجَّداً» عليّ بن أبي طالب «يبتغون فضلاً من الله ورضواناً» طلحة والزّبير وعبد الرّحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة.
قوله تعالى: سِيماهُمْ أي: علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ، وهل هذه العلامة في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان «4» : أحدهما: في الدنيا. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها السّمت الحسن، قاله ابن
__________
لا يصح هذا عن الحسن، مبارك غير قوي، والأثر من بدع التأويل.
__________
(1) انظر كلام على أرجح الأقوال في المراد بالفتح في أول السورة.
(2) التوبة: 33.
(3) المائدة: 54.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 372: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم في وجوههم من أثر السجود، وذلك في كل الأوقات، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته، وآثار أداء فرائضه وتطوعه. وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون، وذلك الغرة في الوجه، والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء، وبياض الوجوه من أثر السجود.(4/138)
عباس في رواية ابن أبي طلحة وقال في رواية مجاهد: أما إِنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإِسلام وسَمْتُه وخُشوعُه، وكذلك قال مجاهد: ليس بِنَدَبِ التراب في الوجه، ولكنه الخُشوع والوَقار والتواضع. والثاني: أنه نَدَى الطّهور وثرى الأرض، قاله سعيد بن جبير. وقال أبو العالية: لأنهم يسجُدون على التراب لا على الأثواب. وقال الأوزاعي: بلغني أنه ما حمَلَتْ جباهُهم من الأرض.
والثالث: أنه السُّهوم، فإذا سهم وجه الرجُل من الليل أصبح مُصفارّاً. قال الحسن البصري: «سيماهم في وجوههم» : الصُّفرة وقال سعيد بن جبير: أثر السهر وقال شمر بن عطية: هو تهيُّج في الوجه من سهر الليل.
والقول الثاني: أنها في الآخرة. ثم فيه قولان: أحدهما: أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشدَّ وجوههم بياضاً يوم القيامة، قاله عطية العوفي، وإِلى نحو هذا ذهب الحسن، والزهري. وروى العوفي عن ابن عباس قال: صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة. والثاني: أنهم يُبْعَثون غُراً محجَّلين من أثر الطَّهور، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُهُمْ أي: صِفَتُهم، والمعنى أن صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فِي التَّوْراةِ هذا. فأما قوله: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ففيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أن هذا المَثَل المذكور أنه في التوراة هو مَثَلُهم في الإِنجيل. قال مجاهد: مَثَلُهم في التوراة والإِنجيل واحد. والثاني: أن المتقدِّم مَثَلُهم في التوراة. فأمّا مَثَلُهم في الإِنجيل فهو قوله: كَزَرْعٍ، وهذا قول الضحاك وابن زيد. والثالث: أن مَثَلَهُم في التوراة والإِنجيل كزرع، ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: أَخْرَجَ شَطْأَهُ وقرأ ابن كثير، وابن عامر: «شَطَأَهُ» بفتح الطاء والهمزة. وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «شطْأه» بسكون الطاء. وكلهم يقرأ بهمزة مفتوحة. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: «شَطاءَهُ» بفتح الطاء وبالمد والهمزة وبألف. قال أبو عبيدة: أي: فِراخه، يقال: أشطأ الزَّرعُ فهو مشطئ: إِذا أفرخ فَآزَرَهُ أي: ساواه وصار مثل الأُمّ. وقرأ ابن عامر: «فأَزَرَهُ» مقصورة الهمزة مثل فَعَلَهُ. وقال ابن قتيبة: آزره: أعانه وقوّاه فَاسْتَغْلَظَ أي: غَلُظ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ وهي جمع «ساق» ، وهذا مَثَلٌ ضربه اللهُ عزّ وجلّ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم إِذ خرج وحده، فأيَّده بأصحابه، كما قوَّى الطَّاقة من الزَّرع بما نبت منها حتى كَبُرتْ وغَلُظت واستحكمت. وقرأ ابن كثير: «على سُؤْقه» مهموزة، والباقون:
بلا همزة. وقال قتادة: في الإِنجيل: سيَخْرج قومٌ ينبتون نبات الزَّرع، وفيمن أُريدَ بهذا المثَل قولان «2» :
أحدهما: أن أصل الزَّرع: عبد المطلب «أخرج شطأه» أخرج محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فَآزَرَهُ: بأبي بكر فَاسْتَغْلَظَ: بعمر فَاسْتَوى: بعثمان عَلى سُوقِهِ: عليّ بن أبي طالب، رواه سعيد بن جبير عن
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 373: الصواب قول من قال: مثلهم في التوراة غير مثلهم في الإنجيل وأن الخبر عن مثلهم في التوراة متناه عند قوله: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وذلك لو كان القول: أن مثلهم في التوراة والإنجيل واحد، لكان التنزيل، ومثلهم في الإنجيل وكزرع أخرج شطأه، فكان تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ وفي مجيء الكلام بغير واو في قوله: (كزرع) دليل بيّن على صحة ما قلنا.
(2) لا يصح مثل هذا عن ابن عباس ولا عن سعيد بن جبير، بل هو من بدع التأويل.(4/139)
ابن عباس. والثاني: أن المراد بالزَّرع: محمد صلّى الله عليه وسلّم «أخرج شطأه» : أبو بكر «فآزره» : بعمر «فاستغلظ» :
بعثمان «فاستوى على سوقه» : بعليّ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ: يعني المؤمنين «لِيَغيظَ بهم الكُفّار» وهو قول عمر لأهل مكة: لا يُعْبَدُ اللهُ سِرَاً بعد اليوم، رواه الضحاك عن ابن عباس، ومبارك عن الحسن. قوله تعالى:
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أي: إِنَّما كثَّرهم وقوَّاهم لِيَغيظ بهم الكُفّار، وقال مالك بن أنس «1» : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية. وقال ابن إِدريس لا آمَنُ أن يكونوا قد ضارعوا الكُفّار، يعني الرّافضة، لأن الله تعالى يقول: «لِيَغيظَ بهم الكُفّار» . قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً قال الزجاج: في «مِنْ» قولان: أحدهما: أن يكون تخليصاً للجنس من غيره، كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «2» ، ومثله أن تقول: أَنْفِقْ من الدَّراهم، أي: اجعل نفقتك من هذا الجنس، قال ابن الأنباري: معنى الآية: وَعَدَ اللهُ الذين آمَنوا من هذا الجنس، أي: من جنس الصحابة. والثاني: أن يكون هذا الوعْدُ لِمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصّالح.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسير» 4/ 241: ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم ثم قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ من هذه لبيان الجنس مَغْفِرَةً أي لذنوبهم، وَأَجْراً عَظِيماً أي ثوابا جزيلا ورزقا كريما. ووعد الله حقّ وصدق، لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مثواهم، وقد فعل.
- وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 16/ 254: الصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله، وهذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر. وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلائهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم.
وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة. وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخبارهم لهم بذلك، وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب قال صلّى الله عليه وسلّم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» متفق عليه.
(2) الحج: 30.(4/140)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
سورة الحجرات
وهي مدنيّة بإجماعهم (1303) روى ثوبان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّ الله أعطاني السّبع الطّول مكان التّوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزّبور المثاني، وفضّلني ربّي بالمفصّل» .
أمّا السّبع الطّول فقد ذكرناها «عند قوله» : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «1» . وأمّا المئون، فقال ابن قتيبة: هي ما ولي الطّول، وإنّما سمّيت بالمئين، لأنّ كلّ سورة تزيد على مائة آية أو تقاربها، والمثاني:
ما ولي المئين من السّور التي دون المائة، كأنّ المئين مباد، وهذه مثان. وأمّا المفصّل فهو ما يلي المثاني من قصار السّور، وإنما سمّيت مفصّلا لقصرها وكثرة الفصول فيها بسطر: بسم الله الرّحمن الرّحيم. وقد ذكر الماوردي في أول «تفسيره» في المفصّل ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه من أول سورة (محمّد) إلى آخر القرآن، قاله الأكثرون. والثاني: من سورة (قاف) إلى آخره، حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة. والثالث: من (الضّحى) إلى آخره، قاله ابن عباس.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(1304) أحدها: أن رَكْباً من بني تميم قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن
__________
جيد. أخرجه الطيالسي 1074 وأحمد 4/ 107 والطبري 126 والطحاوي في «المشكل» 1379 من حديث واثلة بن الأسقع، وإسناده حسن. وله طرق وشواهد ذكرتها في «معالم التنزيل» للبغوي برقم (11) والله الموفق.
صحيح. أخرجه البخاري 4367 عن إبراهيم بن موسى به. وأخرجه أبو يعلى 6816 من طريق هشام بن-
__________
(1) الحجر: 87.
(2) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 258: سورة ق هي أول الحزب المفصّل على الصحيح، وقيل: من الحجرات، وأما ما يقوله العامة: إنه من (عمّ) ، فلا أصل له، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين فيما نعلم.(4/141)
معبد، وقال عمر: أَمِّرِ الأقرعَ بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردتَ إِلا خِلافي، وقال عمر: ما أردتُ خلافَك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا، فما كان عمرُ يسْمِع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، رواه عبد الله بن الزبير.
(1305) والثاني: أن قوماً ذَبحوا قبل أن يصلّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النّحر، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعيدوا الذّبح، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن.
(1306) والثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يقولون: لو أنزَلَ اللهُ فِيَّ كذا وكذا! فكَرِه اللهُ ذلك، وقدَّم فيه، قاله قتادة.
(1307) والرابع: أنها نزلت في عمرو بن أميّة الضّمْري، وكان قد قتل رجُلين من بني سليم قبل أن يستأذن رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن السائب.
وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسّنّة. وروى العوفيّ عنه قال: نهوا أن يتكلمَّوا بين يَدَيْ كلامه، وروي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت: لا تصوموا قبل أن يصومَ نبيُّكم. ومعنى الآية على جميع الأقوال «1» : لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول
__________
يوسف به. وأخرجه البخاري 4847 والنسائي 8/ 226 وفي «التفسير» 534 والواحدي في «أسباب النزول» 752 من طريق الحسن بن محمد عن حجاج بن محمد عن ابن جريج به. وأخرجه الترمذي 3262 والطبري 31673 من طريق مؤمن بن إسماعيل عن نافع عن عمر بن جميل عن ابن أبي مليكه به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب حسن، وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة- مرسلا، ولم يذكر عن عبد الله بن الزبير.
ضعيف جدا. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 2923 عن الحسن مرسلا، وفيه انقطاع بين معمر والحسن، ومع ذلك مراسيل الحسن واهية كما هو مقرر عند علماء هذا الفن. وأخرجه الطبري 31660 و 31661 عن الحسن أيضا والصحيح في ذلك ما رواه البخاري وقد تقدم. فائدة: قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» 4/ 353: وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، إلا أن تزول الشمس. وعند الشافعي يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة. وقد تقدم الكلام عليه في سورة الحج.
أخرجه الطبري 31661 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم بالوضع. والقول الأول هو الراجح.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 242: هذه آداب أدّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية، أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه أي قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور. وقال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 144: إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه، كالصلاة والصوم والحج، وذلك بين، إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة لما كانت عبادة مالية، وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم، وهو سد خلّة الفقير، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم استعجل من العباس صدقة عامين، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقها يوم الوجوب، وهو يوم الفطر، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها. وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز تقديمها لعام ولاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها، وإن جاء رأس الحول وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع. وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة، كالصلاة، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام، فوفّاها حقّها في النظام وحسن الترتيب. ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز، لأنه معفو عنه في الشرع، بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير، فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر والشهر كالسنة، فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي، وإما حفظ العبادة وقصرها على ميقاتها كما قال أشهب وغيره، وذلك يقوى في النظر، والله أعلم. [.....](4/142)
الله صلّى الله عليه وسلم أو يفعل. قال ابن قتيبة: يقال فلانٌ يُقَدِّم بين يَدَيِ الإِمام وبين يَدَي أبيه، أي: يُعجِّل بالأمر والنهي دونه. فأمّا «تُقدِّموا» فقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو رزين، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والضحاك وابن سيرين، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب: بفتح التاء والدال وقرأ الباقون: بضم التاء وكسر الدال. قال الفراء: كلاهما صواب، يقال: قَدَّمْتُ، وتَقَدَّمْتُ وقال الزجاج:
كلاهما واحد فأمّا «بينَ يَدَيِ اللهِ ورسولِهِ» فهو عبارة عن الأمام، لأن ما بين يَدَيِ الإِنسان أمامَه فالمعنى: لا تَقَدَّموا قُدّام الأمير.
قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ في سبب نزولها قولان:
(1308) أحدهما: أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفاً في حديث ابن الزبير، وهذا قول ابن أبي مليكة.
(1309) والثاني: أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس، وكان جَهْوَرِيَّ الصَّوت، فربما كان إِذا تكلَّم تأذَّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصوته. قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ فيه قولان. أحدهما: أن الجهر بالصَّوت في المخاطبة، قاله الأكثرون. والثاني: لا تَدْعوه باسمه يا محمد كما يدعو بعضُكم بعضاً ولكن قولوا: يا رسول الله، ويا نبيَّ الله، وهو معنى قول سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل. قوله تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ قال ابن قتيبة: لئلا تَحْبَطَ. وقال الأخفش: مَخافة أن تَحْبَطَ، قال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل معنى الإحباط هاهنا: نقص المَنْزِلة، لا إِسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ.
(1310) قال ابن عباس: لمّا نزل قوله: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ تألَّى أبو بكر أن لا يكلّم رسول
__________
انظر الحديث المتقدم 1304.
غريب. قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 353: لم أجده اه. قلت: ويغني عنه حديث أنس. أخرجه البخاري 3613 و 4846 ومسلم 188 والنسائي في «التفسير» 533 والواحدي في «أسبابه» 753 والبغوي في «التفسير» 4/ 89. وله شواهد كثيرة راجع الطبري 31669- 31679- 3171. ولفظ البخاري في الرواية الأولى عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل يا رسول الله أنا أعلم لك علمه.
فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال: «ما شأنك» فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا فقال موسى بن أنس فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه فقل له: «إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة» .
ذكره الواحدي في «الأسباب» 755 بدون إسناد عن ابن عباس. وأخرجه البزار 2257 «كشف» وابن عدي 2/ 396 والحاكم 3/ 74 من حديث أبي بكر، وإسناده ضعيف لضعف حصين بن عمر الأحمسي، فإنه(4/143)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
الله صلّى الله عليه وسلّم إِلاّ كأخي السّرار، فأنزل اللهُ في أبي بكر: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ» .
والغَضُّ: النَّقْص كما بيَّنّا عند قوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا «1» . أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ قال ابن عباس: أخلصها لِلتَّقْوى من المعصية. وقال الزجاج: اختبر قلوبهم فوجدهم مُخلصين، كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب والفضة، أي: اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خَلَصا، فعلمت حقيقة كل واحد منهما. وقال ابن جرير: اختبرها بامتحانه إيّاها، فاصطفاها وأخلصها للتّقوى.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(1311) أحدها: أن بني تميم جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنادَوْا على الباب: يا محمد اخرُج إِلينا، فإنَّ مَدْحَنا زَيْن وإِن ذَمَّنا شَيْن، فخرج وهو يقول: «إنما ذلكم الله» فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال: «ما بالشعر بُعِثْتُ ولا بالفخَار أُمِرْتُ، ولكن هاتوا» ، فقال الزبرقان بن بدر لشابً منهم: قمُ ْفاذكُر فَضْلك وفَضْل قومك، فقام فذكر ذلك، فأمر رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ثابتَ بن قيس، فأجابه، وقام شاعرُهم، فأجابه حسان، فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر؟! تكلَّم خطيبُنا فكان خطيبُهم أحسنَ قولاَ، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعَر، ثم دنا فأسلم، فأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكساهم، وارتفعت الأصوات وكثر اللَّغَط عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين.
(1312) وقال ابن اسحاق: نزلت في جُفاة بني تميم، وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن
__________
متروك، وبه أعله ابن عدي، وأما الحاكم فقد صححه! وتعقبه الذهبي فقال: حصين بن عمر واه.
وورد من حديث أبي هريرة، أخرجه الحاكم 2/ 462 وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقد ذهب ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 242 إلى أن هذا الحديث يتأيد بشواهده والله أعلم.
أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 759 من حديث جابر مطوّلا وفيه معلى بن عبد الرحمن ضعيف.
وهذا الخبر أخرجه ابن سعد في «الطبقات 1/ 224- 225 من طريق الواقدي عن محمد بن عبد الله عن الزهري، وعن عبد الله بن يزيد عن سعيد بن عمرو مرسلا بنحوه، والواقدي متروك. وأخرجه ابن إسحاق وابن مردويه كما في «الدر» 6/ 90 من حديث ابن عباس بنحوه. وصدر الحديث ورد مسندا عند الترمذي 3267 والنسائي في «التفسير» 535 والطبري 31676 من طريق الحسين بن واقد عن أبي إسحاق عن البراء:
«إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ فقال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن حمدي زين، وإن ذمي شين فقال: ذاك الله تبارك وتعالى» . قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال ابن كثير في «السيرة» بعد أن ذكر هذا الحديث 4/ 86: وهذا إسناد جيد متصل. وله شاهد من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس. أخرجه أحمد 3/ 488 و 6/ 393 و 394 والطبري 31679 والطبراني 878. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 108: وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، إن كان أبو سلمة سمع من الأقرع، وإلا فهو مرسل. وأخرجه الطبري 31681 عن قتادة مرسلا و 31684 عن الحسن مرسلا.
عزاه المصنف لابن إسحاق، وهذا معضل انظر «الدرّ» 6/ 90.
__________
(1) النور: 30.(4/144)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
حصن، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم المنقري، وخالد بن مالك، وسويد بن هشام، وهما نهشليّان، والقعقاع بن معبد، وعطاء ابن حابس، ووكيع بن وكيع.
(1313) والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سريَّة إِلى بني العنبر، وأمَّر عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما عَلِموا بذلك هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، فجاء رجالُهم يَفْدون الذَّراري، فقَدِموا وقت الظهيرة ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلم قائل، فجعلوا ينادون: يا محمد اخْرُج إِلينا، حتى أيقظوه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(1314) والثالث: أن ناساً من العرب قال بعضهم لبعض: انطلِقوا بنا إِلى هذا الرجُل، فإن يكن نبيّاً نكن أسعد الناس به، وإِن يكن ملِكاً نعش في جناحه، فجاؤوا، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فنزلت هذه الآية، قاله زيد بن أرقم.
فأمّا «الحجرات» فقرأ أُبيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومجاهد وأبو العالية، وابن يعمر، وأبو جعفر، وشيبة: بفتح الجيم وأسكنها أبو رزين، وسعيد بن المسيب، وابن أبي عبلة وضمها الباقون. قال الفراء: وجه الكلام أن تُضمَّ الحاء والجيم، وبعض العرب يقول: الحُجُرات والرُّكبات، وربما خفَّفوا فقالوا: «الحُجْرات» والتخفيف في تميم، والتثقيل في أهل الحجاز. وقال ابن قتيبة: واحد الحُجُرات حُجرة، مثل ظُلْمة وظُلُمات، قال المفسرون: وإنما نادَوا من وراء الحُجرات، لأنهم لم يعلموا في أيّ الحُجَر رسولُ الله.
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ قال الزجاج: أي: لكان الصَّبر خيراً لهم، وفي وجه كونه خيراً لهم قولان: أحدهما: لكان خيراً لهم فيما قَدِموا له من فداء ذراريهم، فلو صَبَروا خلَّى سبيلهم بغير فداءٍ، قاله مقاتل. والثاني: لكان أحسنَ لآدابهم في طاعة الله ورسوله، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: لمن تاب منهم.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
__________
غريب: لم أقف عليه بهذا السياق. وهذا الخبر قد ورد في السّير. فقد أخرجه الواقدي في «المغازي» ص 973- 979 عن سعيد بن عمرو، والزهري مطولا. والواقدي متروك. وانظر «دلائل النبوة» للبيهقي 5/ 313- 315 و «سيرة ابن هشام» 4/ 203 و «سيرة ابن كثير» 4/ 79- 85.
أخرجه الطبري 31678 من طريق داود الطفاوي عن أبي مسلم البجلي عن زيد بن أرقم به، وإسناده ضعيف، أبو مسلم مجهول، وداود ضعفه ابن معين، ووثقه ابن حبان، ومع ذلك يشهد له حديث جابر.
الخلاصة: أكثر هذه الروايات يذكر فيها الأقرع بن حابس، والظاهر أنه قدم معه وفد فتارة يذكر الرواة الوفد، وتارة يذكرون الأقرع ويسمونه لأنه أمير الوفد من بني تميم، فالحديث أصله محفوظ، وقد جوّد ابن كثير أحد طرقه كما تقدم، وتقدم أيضا أسبابا أخرى لنزول هذه الآيات، والظاهر تعدد الأسباب، والله أعلم.(4/145)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
قوله عزّ وجلّ: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا.
(1315) نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلى بني المصطلق ليِقَبْضِ صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهليّة، فلما سمع به القوم تلقّوه تعظيما لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنه رجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنّ بني المصطلق قد منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فصرف رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم البَعْثَ إِليهم، فنزلت هذه الآية.
وقد ذكرتُ القصد في كتاب «المُغني» وفي «الحدائق» مستوفاة، وذكرتُ معنى «فتبيَّنوا» في سورة النساء «1» ، والنَّبأ: الخبر، و «أنْ» بمعنى «لئلاً» ، والجهالة هاهنا: أن يجهل حال القوم، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ من إِصابتهم بالخطأِ نادِمِينَ. ثم خوَّفهم فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي إِن كَذَبتموه أَخبره اللهُ فافتُضِحْتُم، ثم قال: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أي ممّا تخبرونه فيه بالباطل لَعَنِتُّمْ أي لَوَقَعْتُم في عَنََتٍ. قال ابن قتيبة: وهو الضَّرر والفساد. وقال غيره: هو الإِثم والهلاك. وذلك أن المسلمين لمّا سَمِعوا أن أولئك القوم قد كَفَروا قالوا:
(1316) ابْعَثْ إِليهم يا رسولَ الله واغْزُهم واقْتُلهم.
ثم خاطب المؤمنين فقال: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ إِلى قوله: وَالْعِصْيانَ، ثم عاد إِلى الخبر عنهم فقال: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي: المهتدون إِلى محاسن الأُمور، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ قال الزجاج: المعنى: ففعل بكم ذلك فضلاً، أي: للفضل والنّعمة.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
__________
جيد. أخرجه أحمد 4/ 279 والطبراني في «الكبير» 3395 والواحدي في «أسباب النزول» من حديث الحارث بن ضرار. قال الهيثمي في «المجمع» 7/ 11352: رجال أحمد ثقات. وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 4/ 209 هذا الحديث أحسن ما روي في هذه القصة اه. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 3809 من حديث جابر، وإسناده ضعيف، لضعف عبد الله بن عبد القدوس وبه أعله الهيثمي في «المجمع» 7/ 11355.
وورد من حديث علقمة بن ناجية: أخرجه الطبراني 17/ 6- 8 وإسناده ضعيف، لضعف يعقوب بن كاسب، لكن توبع كما ذكر الهيثمي في «المجمع» 11354. وورد من حديث أم سلمة: أخرجه الطبراني في «الكبير» 23/ 401 وقال الهيثمي 11357: فيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف. وورد عن قتادة مرسلا. أخرجه الطبري 31688. وورد من مرسل يزيد بن رومان: أخرجه الطبري 31692. وورد من مرسل ابن أبي ليلى. أخرجه الطبري 31690 و 31691. فالحديث بهذه الشواهد الموصولة والمرسلة يتقوى ويرقى إلى درجة الحسن الصحيح والله أعلم. وانظر مزيد الكلام عليه في «أحكام القرآن» لابن العربي 1986 و «تفسير القرطبي» 5561 بتخريجنا ولله الحمد والمنة.
لم أجده بهذا اللفظ. وأخرجه الطبري 31692 عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان بنحوه.
__________
(1) النساء: 94.(4/146)
قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ ... الآية، في سبب نزولها قولان:
(1317) أحدهما: ما روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو أتيت عبد الله بن أُبيٍّ، فركب حماراً وانطلق معه المسلمون يمشون، فلمّا أتاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: إليك عني، فو الله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: واللهِ لحمارُ رسولِ الله أطيبُ ريحاُ منك، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابُه، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال، فبلغَنا أنه أُنزلت فيهم «وإِن طائفتان ... » الآية.
(1318) وقد أخرجا جميعاً من حديث أسامة بن زيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج يعود سعد بن عبادة، فمرَّ بمجلس فيهم عبدُ الله بن أُبيّ، وعبدُ الله بن رواحة، فخمَّر ابنُ أُبيّ وجهه بردائه، وقال: لا تغبِّروا علينا، فذكر الحديث، وأن المسلمين والمشركين واليهود استَبُّوا. وقد ذكرت الحديث بطوله في «المغني» و «الحدائق» .
(1319) وقال مقاتل: وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأنصار وهو على حمار له، فبال الحمار، فقال عبد الله بن أُبيٍّ: أف، وأمسك على أنفه، فقال عبد الله بن رواحة: واللهِ لَهُوَ أطيبُ ريحاً منك، فكان بين قوم ابن أُبيُّ وابن رواحة ضرب بالنِّعال والأيدي والسَّعَف، ونزلت هذه الآية.
(1320) والقول الثاني: أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مُماراة في حقِّ بينهما، فقال أحدهما: لآخذنَّ حقي عَنوة، وذلك لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل الأمر بينهما حتى تناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال، قاله قتادة.
وقال مجاهد: المراد بالطائفتين: الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصي بينهم. وقرأ أبي بن كعب، وابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «اقتتلا» على فعل اثنين مذكَّرين. وقرأ أبو المتوكل الناجي، وأبو الجون، وابن أبي عبلة: «اقتتلتا» بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنين مؤنثتين. وقال الحسن وقتادة والسدي فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما «1» بالدعاء إِلى حكم كتاب الله عزّ وجلّ والرضى بما فيه لهما وعليهما
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2691 عن مسدد ثنا معمر قال سمعت أبي يقول، وأخرجه مسلم 1799 وأحمد 3/ 157 و 219 وأبو يعلى 4083 والطبري 31699 والبيهقي 8/ 172 والواحدي في «أسباب النزول» 761 و «الوسيط» 4/ 153 من طرق عن المعتمر بن سليمان به. فالحديث صحيح، ولكن ذكر نزول الآية الظاهر أنه من كلام سليمان، وأنه مدرج في الحديث، والله أعلم.
صحيح. أخرجه البخاري 4566 و 5663 و 6254 ومسلم 1798 وأحمد 5/ 203 وابن حبان 6581 من حديث أسامة بن زيد، وهو حديث مطول.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو واه، لكن ورد أيضا عن الزهري، أخرجه الطبري 31710 مع اختلاف يسير فيه ولأصله شواهد، لكن ذكر نزول الآية لا يصح.
ضعيف. أخرجه الطبري 31707 و 31708 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 149: هذه الآية هي الأصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين وعليها عول الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة. ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. وقوله تعالى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أمر الله تعالى بالقتال، وهو فرض على الكفاية وإنّ الله سبحانه أمر بالصلح قبل القتال، وعين القتال عند البغي وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه البغاة والمرتدين، فأما البغاة فهم الذين منعوا الزكاة بتأويل ظنا منهم أنها سقطت بموت النبي صلّى الله عليه وسلّم- وفي قتال المسلمين للفئة الباغية قال: ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع منهزمهم، لأن المقصود دفعهم لا قتلهم.(4/147)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما طلبت ما ليس لها ولم ترجع إَلى الصلح فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ أي تَرْجِع إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي إِلى طاعته في الصلح الذي أمر به. قوله تعالى: وَأَقْسِطُوا أي: اعدلوا في الإِصلاح بينهما.
قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ قال الزجاج: إِذا كانوا متفقين في دينهم رجَعوا باتفاقهم إِلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواءَ، فإذا اختلفت أديانهم افترقوا في النسب.
قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ قرأ الأكثرون: «بين أخويكم» بياء على التثنية. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وقتادة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «بين إِخوتكم» بتاء مع كسر الهمزة على الجمع. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وابن سيرين: «بين إخوانكم» بالنون وألف قبلها. قال قتادة:
ويعني بذلك الأوس والخزرج.
[سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ هذه الآية نزلت على ثلاثة أسباب فأما أولها إلى قوله تعالى: خَيْراً مِنْهُمْ فنزلت على سبب، وفيه قولان:
(1321) أحدهما: أن ثابت بن قيس بن شمَّاس جاء يوماً يريد الدّنوّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان به صمم، فقال لرجل بين يديه: افسح، فقال له الرجل: قد أصبتَ مجلساً، فجلس مُغْضَباً، ثم قال للرجل: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقال ثابت: أنت ابن فلانة!! فذكر أمّاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية، فأغضى الرجل ونَكَسَ رأسَه، ونزل قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(1322) والثاني: أن وفد تميم استهزءوا بفقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِما رأَوا من رثاثة حالهم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك ومقاتل.
وأما قوله تعالى: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:
__________
لا أصل له، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 762 بدون إسناد. وقال الحافظ في «الكشاف» 4/ 370 ذكره الثعلبي ومن تبعه عن ابن عباس بدون إسناد. وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس.
عزاه المصنف للضحاك ومقاتل، أما الضحاك فقد روى مناكير كثيرة، وأما مقاتل، فهو ممن يضع الحديث، فهذا الخبر لا شيء.(4/148)
(1323) أحدها: أنّ نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيَّرن أًمَّ سَلَمة بالقِصَر، فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك. وزعم مقاتل أن عائشة استهزأت من قِصَر أًمِّ سَلَمة.
(1324) والثاني: أنّ امرأتين من أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَخِرتا من أم سلمة زوجِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت أم سلمة قد خرجت ذات يوم وقد ربطت أحد طرفي جلبابها على حَقْوها، وأرخت الطرف الآخر خلفها، ولا تعلم، فقالت إِحداهما للأخرى: انظُري ما خَلْفَ أم سلمة كأنه لسان كلب، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(1325) والثالث: أن صفيَّة بنت حُيَيّ بن أخطب أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إِن النساء يعيِّرنني ويقُلن: يا يهودية بنت يهوديّين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلاّ قُلْتِ: إِن أبي هارون، وإِن عمِّي موسى، وإن زوجي محمد» ، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
وأما قوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:
(1326) أحدها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَدِمَ المدينة ولهم ألقاب يُدْعَون بها، فجعل الرجل يدعو الرجل بلقَبه، فقيل له: يا رسول الله، إِنهم يكرهون هذا، فنزل قوله تعالى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ، قاله أبو جبيرة بن الضحاك.
(1327) والثاني: أن أبا ذر كان بينه وبين رجل منازعة، فقال له الرجل: يا ابن اليهودية، فنزلت:
«ولا تَنابزوا بالألقاب» ، قاله الحسن.
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 763 م عن أنس بدون إسناد، فهو لا شيء. وقول مقاتل واه فهو يضع الحديث.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وقد رويا عن ابن عباس تفسير موضوعا. وذكره الواحدي في «الأسباب» 763 بدون إسناد، ومن غير عزو لقائل، وذلك دليل أنه من رواية الكلبي، والأئمة ينأون عن ذكره، فإن وجد في إسناد أسقطوا الإسناد.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 764 عن عكرمة عن ابن عباس به معلقا بدون إسناد، وأخرج الترمذي 3894 وابن حبان 7211 وعبد الرزاق في «المصنف» 20921 وأحمد 6/ 135- 136 عن أنس قال: «بلغ صفية أن حفصة قالت لها: ابنة يهودي، فدخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تبكي، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: وما يبكيك؟
قالت: قالت لي حفصة. إني بنت يهودي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي فبم تفخر عليك، ثم قال: اتق الله يا حفصة. وإسناده على شرط الشيخين، لكن ليس فيه ذكر نزول الآية كما ترى. فهذا الذي صح في شأن صفية، وذكر نزول الآية لا يصح.
جيد. أخرجه أبو داود 4962 والترمذي 3268 والنسائي في «التفسير» 536 وابن ماجة 3741 وأحمد 4/ 260 والبخاري في «الأدب المفرد» 330 والحاكم 2/ 463 و 4/ 281- 282 والطبري 31717 و 31718 و 31719 و 31720 من حديث أبي جبيرة بن الضحاك، ورجاله رجال مسلم، لكن اختلف في صحبة أبي جبيرة وصححه الحاكم في الموضع الأول على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وأخرجه أحمد 4/ 69 و 5/ 380 بإسناد جيد عن أبي جبيرة عن عمومة له، وهذا موصول قوي الإسناد. وانظر «فتح القدير» 2320 و «أحكام القرآن» 1999 بتخريجنا.
عزاه المصنف للحسن، ولم أقف عليه، وهو مرسل، ومراسيل الحسن واهية. وورد بنحوه دون ذكر نزول الآية. أخرجه أحمد 5/ 158 عن أبي ذر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى» . قال الهيثمي في «المجمع» 8/ 83: رجاله ثقات إلا أن بكر بن عبد الله المزني لم يسمع من(4/149)
(1328) والثالث: أن كعب بن مالك الأنصاري كان بينه وبين عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي كلام، فقال له: يا أعرابي، فقال له عبد الله: يا يهودي، فنزلت فيهما: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ، قاله مقاتل.
وأمّا التفسير، فقوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ أي: لا يستهزئ غنيٌّ بفقير، ولا مستور عليه ذنْبُه بمن لم يُستَر عليه، ولا ذو حَسَب بلئيم الحَسَب، وأشباه ذلك ممّا يتنقَّصه به، عسى أن يكون عند الله خيراً منه. وقد بيَّنّا في البقرة «1» أن القوم اسم الرجال دون النساء، ولذلك قال: «ولا نساءٌ من نساء» و «تَلْمِزوا» بمعنى تَعيبوا، وقد سبق بيانه «2» . والمراد بالأنفُس هاهنا: الإِخوان. والمعنى: لا تَعيبوا إِخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم. والتنابز: التفاعل من النَّبْز، وهو مصدر، والنَّبَز الاسم.
والألقاب جمع لقب، وهو اسم يُدعى به الإنسان سوى الاسم الذي سمِّي به. قال ابن قتيبة: «ولا تَنابزوا بالألقابَ» أي لا تتداعَوْا بها. والألقاب والأنباز واحد.
(1329) ومنه الحديث: «نَبْزُهم الرافضة» أي: لقبُهم.
وللمفسرين في المراد بهذه الألقاب أربعة أقوال «3» : أحدها: تعيير التائب بسيِّئات قد كان عملها، رواه عطية العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإِسلام، كقوله لليهودي إِذا أسلم: يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، والقرظي. والثالث: أنه قول الرجل للرجل: يا كافر، يا منافق، قاله عكرمة. والرابع: أنه تسميته بالأعمال السيئة، كقوله: يا زاني يا سارق، يا فاسق، قاله ابن زيد. قال أهل العلم: والمراد بهذه الألقاب: ما يكرهه المنادَى به، أو يُعَدُّ ذمَاً له. فأمّا الألقاب التي تكسب حمداً وتكون صدقاً، فلا تُكره، كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: فاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعليّ: أبو تراب: ولخالد:
__________
أبي ذر. فالإسناد ضعيف. وذكر نزول الآية لم أره أصلا، وكذا قوله: «يا ابن اليهودية» . والذي صح في هذا الباب هو ما أخرجه البخاري 6050 ومسلم 1661 وأبو داود 157 والترمذي 1945 من حديث أبي ذر « ...
كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية فنلت منها، فذكرني إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال لي: أساببت فلانا؟
قلت: نعم، قال: أفنلت من أمه؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية» . وانظر «أحكام القرآن» 2000 بتخريجنا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، كذبة غير واحدة فهذا خبر ليس له أصل.
وأصح هذه الأقوال هو الحديث 1326.
باطل. أخرجه البغوي في «معالم التنزيل» 1988 من حديث علي، وإسناده ساقط، فيه فضيل بن مرزوق ضعيف، ومن فوقه مجاهيل. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه ابن عدي 5/ 153 وأعله بعمر بن المخرم، وقال: يروي عن ابن عيينة وغيره البواطيل.
__________
(1) البقرة: 54.
(2) التوبة: 58.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 392: والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهي المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب، والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمّ الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها.(4/150)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
سيف الله، ونحو ذلك. وقوله: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ أي: تسميتُه فاسقاً أو كافراً وقد آمن، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ من التَّنابُز فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وفيه قولان: أحدهما: الضارُّون لأنْفُسهم بمعصيتهم، قاله ابن عباس. والثاني: هم أظلم من الذين قالوا لهم ذلك، قاله ابن زيد.
[سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
قوله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ قال ابن عباس: نهى اللهُ تعالى المؤمنَ أن يظُنَّ بالمؤمن شرّاً.
وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يسمع من أخيه كلاماً لا يريد به سوءاً، أو يدخُل مَدخلاً لا يريد به سوءاً، فيراه أخوه المسلم فيظُن به سوءاً. وقال الزجاج: هو أن يظُن بأهل الخير سوءاً. فأمّا أهل السوء والفسق، فلنا أن نظُنَّ بهم مِثْل الذي ظهر منهم. قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية تدل على أنه لم يُنْه عن جميع الظَّنّ والظَّنُّ على أربعة أضرب. محظور، ومأمور به، ومباح، ومندوب إِليه، فأمّا المحظور، فهو سوء الظن بالله تعالى، والواجب: حُسْنُ الظن بالله، وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرُهم العدالةُ محظور، وأما الظن المأمور به، فهو ما لم ينصب عليه دليل يوصل إِلى العِلْم به، وقد تُعُبِّدنا بتنفيذ الحُكم فيه، والاقتصار على غالب الظن، وإجراء الحُكم عليه واجب، وذلك نحو ما تُعُبِّدنا به من قبول شهادة العُدول، وتحرِّي القِبلة، وتقويم المستهلَكات، وأروش الجنايات التي لم يَرِدْ بمقاديرها توقيف، فهذا وما كان من نظائره قد تُعُبِّدنا فيه بأحكام غالب الظنُّون. فأمّا الظن المباح، فكالشّاكِّ في الصلاة إِذا كان إماماً، أمره النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالتحرِّي والعملِ على ما يَغْلِب في ظنِّه، وإن فعله كان مباحاً، وإِن عَدَلَ عنه إِلى البناء على اليقين كان جائزاً.
(1330) وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إِذا ظَنَنْتُم فلا تحقّقوا» ، وهذا من الظن الذي يَعْرِض في قلب الإِنسان في أخيه فيما يوجب الرِّيبة، فلا ينبغي له أن يحقِّقه.
وأما الظن المندوب إِليه، فهو إِحسان الظن بالأخ المسلم يُنْدَب إِليه ويُثاب عليه.
(1331) فأمّا ما روي في الحديث: «احترِسوا من الناس بسوء الظن» ، فالمراد: الإحتراس بحفظ المال، مثل أن يقول: إن تركت بابي مفتوحاً خشيت السُّرّاق.
قوله تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ قال المفسرون: هو ما تكلم به مما ظنَّه من السُّوءِ بأخيه المسلم، فإن لم يتكلَّم به فلا بأس، وذهب بعضهم إِلى أنه يأثم بنفس ذلك الظن وإِن لم يَنْطِق به. قوله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا وقرأ أبو رزين والحسن والضحاك وابن سيرين وأبو رجاء وابن يعمر: بالحاء.
قال أبو عبيدة: التجسس والتحسس واحد، وهو التَّبحُّث، ومنه الجاسوس. وروي عن يحيى بن أبي
__________
لم أره من حديث أبي هريرة. وورد من حديث حارثة بن النعمان، أخرجه الطبراني 3227 وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو ضعيف، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» 8/ 77. وورد من مرسل إسماعيل بن أمية، أخرجه عبد الرزاق 19504 فهو شاهد له.
ضعيف جدا، أخرجه تمام في «فوائده» 1167 من حديث أنس، وفيه أبان بن أبي عياش متروك، وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 602 من وجه آخر، وفيه معاوية الصدفي واه.(4/151)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
كثير أنه قال: التجسس، بالجيم: البحث عن عورات الناس، وبالحاء: الاستماع لحديث القوم. قال المفسرون: التجسس: البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم فالمعنى: لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطَّلع عليه إِذ ستره الله. وقيل لابن مسعود: هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً، فقال: إِنا نُهينا عن التجسس، فإن يَظهرْ لنا شيء نأخذْه به.
قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي: لا يتناول بعضُكم بعضاً بظهَر الغَيْب بما يَسوؤُه.
(1332) وقد روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ قال: «ذِكْرُكَ أخاك بما يََكره. قال:
أرأيتََ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إِن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإِن لم يكن فقد بهتَّه» .
ثم ضَرَبَ اللهُ للغِيبة مثلاً، فقال: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً وقرأ نافع «ميّتاً» بالتشديد. قال الزجاج: وبيانه أن ذِكرك بسوءٍ مَنْ لم يَحْضُر، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يُحِسُّ بذلك. قال القاضي أبو يعلى: وهذا تأكيد لتحريم الغيبة، لأن أكل لحم المسلم محظور، ولأن النُّفوس تَعافُه من طريق الطَّبع، فينبغي أن تكون الغِيبة بمنزلته في الكراهة.
قوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: «فكُرّهتموه» برفع الكاف وتشديد الراء. قال الفراء: أي وقد كرهتموه فلا تفعلوه، ومن قرأ «فكُرّهتموه» أي: فقد بُغِّض إِليكم، والمعنى واحد. قال الزجاج: والمعنى: كما تكرهون أكل لحمه ميتاً فكذلك تجنَّبوا ذِكْره بالسُّوء غائباً. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في الغِيبة إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ على من تاب رَحِيمٌ به.
[سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(1333) أحدها: نزلت في ثابت بن قيس وقولِه في الرجل الذي لم يفسح له: أنت ابن فلانة، وقد ذكرناه عن ابن عباس في قوله: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ.
(1334) والثاني: أنه لمّا كان يوم الفتح أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذّن،
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2589 عن يحيى بن أيوب، وقتيبة، وعلي بن حجر عن إسماعيل بن العلاء به.
وأخرجه البغوي في «شرح السنة» 3454 عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه ابن حبان 5759 والبيهقي 10/ 247 وفي «الآداب» 154 من طريق إسماعيل بن جعفر به.
وأخرجه أبو داود 4874 والترمذي 1934 وأحمد 2/ 320 و 384 و 458 والدارمي 2/ 297 والواحدي في «الوسيط» 4/ 156 والأصبهاني في «الترغيب» 2229. وابن حبان 5758 من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
لم أقف له على إسناد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 765 عن ابن عباس بدون إسناد، والظاهر أنه من رواية الكلبي الكذاب، وتقدم أن الذي صح في ثابت هو حديث أنس المتفق عليه، انظر تخريج الحديث 1309.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، يضع الحديث. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 765 م عن مقاتل بدون إسناد.(4/152)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
وأراد أن يُذِلَّ المشركين بذلك، فلما أذَّن، قال عتاب بن أَسِيد: الحمدُ لله الذي قبض أسيداً قبل اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسودِ مؤذِّناً؟! وقال سهيل بن عمرو: إن يَكْرَهِ اللهُ شيئاً يغيِّره، وقال أبو سفيان: أمّا أنا فلا أقول شيئاً، فإنِّي إن قُلتُ شيئاً لَتْشْهَدَنَّ عليَّ السماءُ، ولَتُخْبِرَنَّ عنِّي الأرض، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
(1335) والثالث: أن عبداً أسود مرض فعاده رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم، ثم قُبض فتولَّى غسله وتكفينه ودفنه، فأثَّر ذلك عند الصحابة، فنزلت هذه الآية، قاله يزيد بن شجرة.
فأمّا المراد بالذَّكَر والأُنثى، فآدم وحوَّاء. والمعنى: إِنكم تتساوَوْن في النسب وهذا زجر عن التفاخر بالأنساب. فأمّا الشُّعوب، فهي جمع شَعب. وهو الحيُّ العظيم، مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها، كبَكر من ربيعة، وتميم من مضر، هذا قول الجمهور من المفسرين وأهل اللغة. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالشعوب الموالي، وبالقبائل العرب. وقال أبو رزين: الشعوب: أهل الجبال الذين لا يَعْتَزُون لأحد، والقبائل: قبائل العرب. وقال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل إِن القبائل هي الأصول، والشُّعوب هي البُطون التي تتشعَّب منها، وهذا ضد القول الأول.
قوله تعالى: لِتَعارَفُوا أي: ليَعْرِفَ بعضُكم بعضاً في قُرب النسب وبُعده. قال الزجاج:
المعنى: جعلْناكم كذلك لتَعارفوا، لا لتَفاخروا. ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلةً أتقاهم، وقرأ أًبيُّ بن كعب، وابن عباس، والضحاك، وابن يعمر، وأبان عن عاصم: «لِتَعْرِفوا» بإسكان العين وكسر الراء من غير ألف. وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل، وابن محيصن: «لِتَّعارَفوا» بتاء واحدة مشددة وبألف مفتوحة الراء مخففة. وقرأ أبو نهيك، والأعمش: «لِتتعرَّفوا» بتاءين مفتوحة الراء وبتشديدها من غيرَ ألف.
قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي، ومجاهد، وأبو الجوزاء: «أنَّ» بفتح الهمزة. قال الفراء: من فتح «أنَّ» فكأنه قال: لتعارفوا أنَّ الكريمَ التَّقيُّ، ولو كان كذلك لكانت «لِتَعْرِفوا» ، غير أنه يجوز «لِتَعارفوا» على معنى: ليعرِّف بعضُكم بعضاً أن أكرمكم عند الله أتقاكم.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا.
__________
ذكره الواحدي في «الأسباب» 766 م هكذا بدون إسناد، وكذا الثعلبي كما في «تخريج الكشاف» 4/ 375، فهو خبر ساقط، ليس بشيء.(4/153)
(1336) قال مجاهد: نزلت في أعراب بني أسد بن خزيمة. ووصف غيره حالهم، فقال: قَدِموا المدينةَ في سنة مُجْدِبة، فأظهروا الإِسلام ولم يكونوا مؤمنين، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلَوا أسعارهم، وكانوا يمنّون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيقولون: أتيناك بالأثقال والعيال، ولَمْ نُقاتِلْك، فنزلت فيهم هذه الآية.
(1337) وقال السدي: نزلت في أعراب مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الفتح، وكانوا يقولون: آمنا بالله، ليأمنوا على أنفُسهم، فلما استُنفروا إِلى الحديبية تخلَّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية.
(1338) وقال مقاتل: كانت منازلهم بين مكة والمدينة، فكانوا إِذا مرَّت بهم سريَّة من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالوا: آمنا، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فلمّا سار رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِلى الحديبية استنفرهم فلم يَنْفِروا معه.
قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي: لَمْ تصدّقوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا قال ابن قتيبة: اسْتَسلمنا من خوف السيف، وانْقَدْنا. قال الزجاج: الإِسلام: إِظهار الخُضوع والقَبول لِما أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبذلك يُحْقَن الدَّم، فإن كان معه اعتقاد وتصديق بالقلب، فذلك الإِيمان، فأخْرَجَ اللهُ هؤلاء من الإِيمان بقوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي: لَمْ تُصَدِّقوا، إِنما أسلمتم تعوُّذاً من القتل، وقال مقاتل:
«ولمّا» بمعنى «ولم» يدخُل التصديقُ في قلوبكم.
قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن عباس: إِن تخلصوا الإيمان لا يَلِتْكُمْ قرأ أبو عمرو: «يَألِتْكُم» بألف وهمز وروي عنه بألف ساكنة مع ترك الهمزة. وقرأ الباقون: «يَلِتْكُم» بغير ألف ولا همز. فقراءة أبي عمرو من ألَتَ يألِتُ، وقراءة الباقين من لاتَ يَلِيتُ، قال الفراء: وهما لغتان، قال الزجاج: معناهما واحد. والمعنى: لا يَنْقُصكم. وقال أبو عبيدة: فيها ثلاث لغات: ألَتَ يألِتُ، تقديرها: أفَكَ يأفِكُ، وألاتَ يُلِيتُ، تقديرها: أقال يُقِيلُ، ولاتَ يَلِيتُ، قال رؤبة:
وليلةٍ ذاتِ نَدىً سَرَيْتُ ... ولم يَلِتْنِي عن سُراها لَيْتُ
قوله تعالى: مِنْ أَعْمالِكُمْ أي: من ثوابها. ثم نعت الصادقين في إِيمانهم بالآية التي تلي هذه، ومعنى: يَرْتابُوا يَشُكُّوا. وإِنما ذكر الجهاد، لأن الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان فرضا في ذلك
__________
أخرجه الطبري 31775 عن مجاهد مختصرا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 767 بدون إسناد، وذكره البغوي في «تفسيره» 2017 تعليقا، ومن غير عزو لقائل. وورد بنحوه من حديث ابن عباس عند النسائي في «التفسير» 539 والبزار كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 258 من طريقين ضعيفين عن سعيد بن جبير به. وورد من حديث أبي قلابة مرسلا، أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 39. وورد عن قتادة مرسلا، أخرجه الطبري 31781. وورد عن عبد الله بن أبي أوفى، أخرجه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» كما في «المجمع» 7/ 112. قال الهيثمي: وفيه الحجاج بن أرطاة، وهو ثقة، ولكنه مدلس، وبقية رجاله رجال الصحيح. رووه بألفاظ متقاربة، والمعنى واحد، فالحديث حسن إن شاء الله. وانظر «فتح القدير» 2324 للشوكاني بتخريجنا.
عزاه المصنف للسدي، ولم أقف عليه، وهو مرسل.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، لكن هو موافق لما قبله في أكثر الخبر.(4/154)
الوقت، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إِيمانهم، فلمّا نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحلفون أنهم مؤمنون صادقون، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ و «علَّم» بمعنى «أعلم» ولذلك دخلت الباء في قوله:
«بدينكم» والمعنى: أتُخبرون اللهَ بالدِّين الذي أنتم عليه؟!، أي: هو عالِمٌ بذلك لا يحتاج إِلى أخباركم وفيهم نزل قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قالوا: أَسْلَمْنا ولم نقاتلك، والله تعالى أعلم.(4/155)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
سورة ق
ويقال لها: سورة الباسقات. روى العوفيّ وغيره عن ابن عباس أنها مكّيّة، وكذلك قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنّ فيها آية مدنيّة، وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... الآية «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
قوله تعالى: ق قرأ الجمهور بإسكان الفاء. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «قافَ» بنصب الفاء. وقرأ أبو رزين، وقتادة: «قافُ» برفع الفاء. وقرأ الحسن، وأبو عمران: «قافِ» بكسر الفاء. وفي «ق» خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه قسم أقسم اللهُ به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه جبل من زَبَرْجَدة خضراء، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: خلق الله جبلا يقال له: «ق» محيط بالعالم،
__________
(1) ق: 38.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 260: «ق» : حرف من حروف الهجاء التي تقدم ذكرها في أوائل السور بما أغنى عن إعادته. وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق: جبل محيط بجميع الأرض يقال له قاف وكأن هذا. والله أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما لا يصدّق ولا يكذّب. وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم كما افترى على هذه الأمة- مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها- أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم- وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى، وقلّة الحفّاظ النقّاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله:
«وحدّثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج» فيما قد يجوزه العقل. فأما ما تحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل، والله أعلم.
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة.(4/156)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد الله عزّ وجلّ أن يزلزل قرية، أمر ذلك الجبل فحرَّك العرق الذي يلي تلك القرية. وقال مجاهد: هو جبل محيط بالأرض. وروي عن الضحاك أنه من زمردة خضراء، وعليه كَنَفَا السماء، وخُضرة السماء منه. والثالث: أنه جبل من نار في النار، قاله الضحاك في رواية عنه عن ابن عباس. والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. والخامس: أنه حرف من كلمة. ثم فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه افتتاح اسمه «قدير» ، قاله أبو العالية. والثاني: أنه افتتاح أسمائه: القدير والقاهر والقريب ونحو ذلك، قاله القرظي. والثالث: أنه افتتاح «قُضي الأمرُ» وأنشدوا:
قُلنا لها قِفِي فقالتْ قافْ
معناه: أقف، فاكتفت بالقاف من «أقف» ، حكاه جماعة منهم الزجاج. والرابع: قف عند أمرنا ونهينا، ولا تَعْدُهُما، قاله أبو بكر الورّاق. والخامس: قُلْ يا محمد، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قال ابن عباس، وابن جبير: المَجيد: الكريم. وفي جواب هذا القسم أربعة أقوال: أحدها: أنه مُضمر، تقديره: لَيُبْعَثُنَّ بَعْدَ الموت. قاله الفراء، وابن قتيبة، ويدُلُّ عليه قولُ الكفار: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ. والثاني: أنه قوله: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، فيكون المعنى:
قاف والقرآنِ المجيدِ لقد عَلِمْنا، فحُذفت اللاّمُ لأنّ ما قبْلَها عِوَضٌ منها، كقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ...
قَدْ أَفْلَحَ «1» أي: لقد أفلح، أجاز هذا القول الزجاج. والثالث: أنه قوله: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ «2» ، حكي عن الأخفش. والرابع: أنه في سورة أُخرى، حكاه أبو سليمان الدمشقي، ولم يبيِّن في أي سورة.
قوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا مفسَّر في «ص» «3» إلى قوله: شَيْءٌ عَجِيبٌ أي: معجب. أَإِذا مِتْنا قال الأخفش: هذا الكلام على جواب، كأنه قيل لهم: إنّكم ترجعون، فقالوا: أإذا متنا وكنا ترابا؟ وقال غيره: تقدير الكلام: ق والقرآن ليبعثنّ، فقال: أإذا متنا وكنا تراباً والمعنى: أنُبْعَث إذا كنا كذلك؟! وقال ابن جرير: لمّا تعجَّبوا من وعيد الله على تكذيبهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلم فقالوا: هذا شيء عجيب، كان كأنه قال لهم: ستعلمون إذا بُعثتم ما يكون حالُكم في تكذيبكم محمّدا، فقالوا: أإذا متنا وكنا ترابا؟! قوله تعالى: ذلِكَ رَجْعٌ أي: ردٌّ إلى الحياة بَعِيدٌ قال ابن قتيبة: أيْ لا يكون. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل من لحومهم ودمائهم وأشعارهم إذا ماتوا، يعني أن ذلك لا يَعْزُب عن عِلْمه وَعِنْدَنا مع عِلْمنا بذلك كِتابٌ حَفِيظٌ أي حافظ لعددهم وأسمائهم ولِما تَنْقُص الأرضُ منهم، وهو اللوح المحفوظ قد أُثبت فيه ما يكون. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ وهو القرآن. والمَريج: المختلِط، قال ابن قتيبة: يقال مَرِج أمرُ الناس، ومَرِج الدِّينُ، وأصل هذا أن يَقْلَق الشيء ولا يستقر، يقال: مَرِج الخاتم في يدي: إذا قلق للهُزَال. قال المفسرون: ومعنى اختلاط أمرهم: أنهم كانوا يقولون للنبيّ صلّى الله عليه وسلم مَرَّة ساحر، ومرة شاعر، ومرة مُعَلمَّ، ويقولون للقرآن مرة سحر، ومرة مُفْتَرى، ومرة رَجَز، فكان أمرهم ملتبسا مختلطا عليهم.
[سورة ق (50) : الآيات 6 الى 15]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
__________
(1) الشمس: 1- 9.
(2) ق: 18.
(3) ص: 4.(4/157)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
ثم دلَّهم على قُدرته على البعث بقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها بالكواكب وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي: من صُدوع وشُقوق، والزَّوج: الجنس. والبهيج:
الحَسَن، قاله أبو عبيدة. وقال ابن قتيبة: البهيج: الذي يُبْتَهَج به.
قوله تعالى: تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ قال الزجاج: أي: فَعَلنا ذلك لِنُبَصِّر ونَدُلَّ على القُدرة. والمُنيب: الذي يَرْجِع إلى الله ويفكِّر في قُدرته.
قوله تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماء وهو المطر مُبارَكاً أي: كثير الخير، فيه حياة كل شيء فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وهي البساتين وَحَبَّ الْحَصِيدِ أراد: الحَبَّ الحَصيدَ، فأضافه إلى نفسه، كقوله:
لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «1» وقوله: مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «2» فالحَبْلُ هو الوَريد، وكما يقال: صلاةُ الأُولى، يراد:
الصلاةُ الأُولى، ويقال: مسجدُ الجامع، يراد: المسجدُ الجامعُ، وإنما تضاف هذه الأشياء إلى أنفسها لاختلاف لفظ اسمها، وهذا قول الفراء، وابن قتيبة. وقال غيرهما: أراد حَبَّ النّبتِ الحَصيدِ.
وَالنَّخْلَ أي: وأنْبَتْنا النخل باسِقاتٍ و «بُسوقها» : طُولها قال ابن قتيبة: يقال: بَسقَ الشيءُ يَبْسُقُ بُسوقاً: إذا طال، والنَّضيد: المنضود بعضُه فوق بعض، وذلك قبل أن يتفتَّح، فاذا انشقَّ جُفُّ طلْعه وتفرَّق فليس بنضيدٍ. قوله تعالى: رِزْقاً لِلْعِبادِ أي: أنْبَتْنا هذه الأشياء للرِّزق وَأَحْيَيْنا بِهِ أي:
بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ من القُبور.
ثم ذكر الأُمم المكذِّبة بما بعد هذا، وقد سبق بيانه إلى قوله: فَحَقَّ وَعِيدِ أي: وجب عليهم عذابي. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ هذا جواب لقولهم: ذلك رَجْعٌ بَعيدٌ. والمعنى: أعَجَزْنا عن ابتداء الخَلْق، وهو الخَلْق الأَوَّل، فنعيا بالبعث وهو الخلق الثاني؟! وهذا تقرير لهم، لأنهم اعترفوا أنه الخالق وأنكروا البعث بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ أي في شَكٍّ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو البعث.
[سورة ق (50) : الآيات 16 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
__________
(1) الواقعة: 95.
(2) ق: 16.(4/158)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ابن آدم وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما تحدِّثه به نفسه. وقال الزجاج: نعلم ما يُكِنُّه في نَفْسه. قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أي بالعِلْم مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الحَبْل هو الوريد، وإنما أضافه إلى نفسه لِما شرحناه آنفا في قوله: «وحبّ الحصيد» «1» . قال الفراء: والوريد:
عِرْقٌ بين الحُلْقوم والعِلْباوَيْن. وعنه أيضاً قال: عرق بين اللَّبَّة والعِلْباوَيْن. وقال الزجاج: الوريد: عِرْق في باطن العُنُق، وهما وريدان، والعِلْباوَان: العَصَبتان الصَّفراوان في مَتْن العُنُق، واللَّبَّتان: مَجرى القُرط في العُنُق. وقال ابن الأنباري: اللَّبَّة حيث يتذبذب القُرْط مِمّا يَقْرُبُ من شحمة الأُذن. وحكى بعض العلماء أن الوريد: عِرْقٌ متفرِّق في البدن مُخالِط لجميع الأعضاء، فلمّا كانت أبعاض الإِنسان يحجب بعضُها بعضاً، أَعْلَمَ أن عِلْمه لا يحجُبه شيءٌ. والمعنى: ونحن أقربُ إليه حين يَتلقَّى المتُلقِّيان، وهما الملَكان الموكَّلان بابن آدم يتلقيَّانِ عمله. وقوله: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ أي: يأخُذان ذلك ويُثْبِتانه عَنِ الْيَمِينِ كاتب الحسنات وَعَنِ الشِّمالِ كاتب السَّيِّئات. قال الزجاج: والمعنى: عن اليمين قَعيد، وعن الشِّمال قَعيد، فدلَّ أحدُهما على الآخر، فحذف المدلولُ عليه، قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنت بما عندك ... رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقال آخر:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوالِدِي ... بَريئاً، ومِنْ أَجْلِ الطَّوِىِّ رَمَانِي «2»
المعنى: كنتُ منه بريئاً. وقال ابن قتيبة: القَعيد بمعنى قاعد، كما يقال: «قدير» بمعنى «قادر» ، ويكون القعيد بمعنى مُقاعِد، كالأكيل والشَّريب بمنزلة: المُؤاكِل والمُشارِب.
قوله تعالى: ما يَلْفِظُ يعني الانسان، أي: ما يتكلَّم من كلام فيَلْفِظُه، أي يَرميه من فمه، إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ أي: حافظ، وهو الملَك الموكَّل به، إِمّا صاحب اليمين، وإِمّا صاحب الشمال عَتِيدٌ قال الزجاج: العَتيد: الثّابِت اللاّزم. وقال غيره: العَتيد: الحاضر معه أينما كان.
(1339) وروى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كاتب الحسنات على يمين الرّجل، وكاتب
__________
حديث ضعيف. في إسناده جعفر بن الزبير متروك متهم، والقاسم وإن وثقه ابن معين والترمذي، فقد ضعفه ابن حيان، وقال أحمد: روى عنه علي بن زيد أعاجيب، ولا أراها إلا من قبل القاسم، وقال ابن معين بعد أن وثقه: والثقات يروون عنه الأحاديث. أي الواهية- ولا يرفعونها ثم قال: يجيء من المشايخ الضعفاء ما يدل حديثهم على ضعفه. وأخرجه الطبراني في «الكبيرة» 7971 من طريق عبد القاهر بن شعيب، والبيهقي في «الشعب» 7049 من طريق مروان بن معاوية كلاهما عن جعفر بن الزبير عن القاسم بن محمد عن أبي أمامة.
وأخرجه البيهقي في «الشعب» 7050 والواحدي في «الوسيط» 4/ 165- 166 من طريقين عن إسماعيل بن عيسى العطار عن المسيب بن شريك عن بشر بن نمير عن القاسم به دون صدره، وإسماعيل ضعيف ومثله القاسم. وورد بلفظ «إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتب واحدة» . أخرجه البيهقي 7051 وأبو نعيم 6/ 124 والواحدي 4/ 165 والطبراني 7765 من طريق إسماعيل بن عياش عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن عروة بن رويم عن القاسم به.
وإسناده ضعيف، وعلته القاسم، وكذا إسماعيل ضعفه غير واحد مطلقا. وضعفه بعضهم في روايته خاصة عن-
__________
(1) ق: 9. [.....]
(2) البيت لعمرو بن أحمر، أو للأزرق بن طرفة وهو في «الكتاب» 1/ 380 و «اللسان» - حول.(4/159)
السَّيِّئات على يساره، فكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة، وأراد صاحب الشمال أن يكتبها، قال صاحب اليمين: أَمْسِكْ، فيُمْسِك عنه سَبْعَ ساعات، فإن استغفر منها لم يُكتَب عليه شيءٌ، وإن لم يستغفر كُتِب عليه سيِّئة واحدة» . وقال ابن عباس: جَعَل اللهُ على ابن آدم حافظين في الليل، وحافظين في النهار. واختلفوا هل يكتُبان جميع أفعاله وأقواله على قولين «1» : أحدهما: أنهما يكتُبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، قاله مجاهد.
والثاني: أنهما لا يكتبان إلاّ ما يؤجَر عليه أو يُوزَر، قاله عكرمة. فأمّا مجلسهما فقد نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشمال، وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة.
(1340) وقد روى عليّ كرّم الله وجهه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إن مقعد ملَكَيك على ثنيَّتيك، ولسانُك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك» ، وروي عن الحسن والضحاك قالا:
مجلسهما تحت الشعر على الحنك.
قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وهي غَمرتُه وشِدَّتُه التي تَغشى الإِنسان وتَغْلِب على عقله وتدُلُّه على أنه ميت بِالْحَقِّ وفيه وجهان: أحدهما: أن معناه: جاءت بحقيقة الموت. والثاني: بالحق من أمر الآخرة، فأبانت للانسان ما لم يكن بيَّنّا له من أمر الآخرة. ذكر الوجهين الفراء، وابن جرير.
وقرأ أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه: «وجاءت سَكْرةُ الحق بالموت» ، قال ابن جرير: ولهذه القراءة وجهان. أحدهما: أن يكون الحق هو الله تعالى، فيكون المعنى: وجاءت سَكْرة الله بالموت. والثاني:
أن تكون السَّكْرة هي الموت، أضيفت إلى نفسها، كقوله: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «2» ، فيكون المعنى:
وجاءت السَّكْرة الحَقُّ بالموت، بتقديم «الحَقّ» . وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: «وجاءت سكرات»
__________
غير الشاميين. قال الهيثمي في «المجمع» 10/ 208: وفيه جعفر بن الزبير، وهو كذاب، ولكن ورد من وجه آخر رواه الطبراني بأسانيد رجال أحدها وثقوا! قلت: فيه القاسم كما تقدم، ولا يحتج بما ينفرد به، وتعيين ست ساعات أو سبع ساعات غريب جدا. وله شاهد من حديث أم عصمة فيه «ثلاث ساعات» وفي الإسناد سعيد بن سنان وهو متروك، أخرجه الطبراني في «الأوسط» 17، فهذا شاهد لا يفرح به، وهو يعارض الأول في تعيين الزمن. الخلاصة: لفظ المصنف ضعيف جدا، واللفظ المختصر عن إسماعيل بن عياش الذي أوردته ضعيف فقط، وشاهده ليس بشيء، وقد أورده الألباني في «الصحيحة» 1209 وحسنه وليس كما قال بل الإسناد ضعيف والمتن غريب، ولا يتدين بحديث ينفرد به القاسم، وفي الطريق إليه جعفر وهو متروك أو ابن عياش، وهو غير حجة.
ضعيف جدا. أخرجه الثعلبي من رواية جميل بن الحسن عن أرطأة بن الأشعث العدوي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «مقعد مليكك ... » فذكره. كذا قاله الحافظ في تخريج الكشاف 4/ 384 وسكت عليه. وإسناده ضعيف جدا فيه جميل بن الحسن جرحه عبدان، ووثقه ابن حبان، وفيه أرطأة بن أشعث قال عنه في «الميزان» هالك. وهاه ابن حبان. ثم ذكر الذهبي له خبرا غير هذا وقال: هو المتهم به، ثم هو منقطع بين علي ومحمد الباقر. وانظر «تفسير القرطبي» 5631 بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 263: وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام؟ أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب؟ وظاهر الآية الأول، لعموم قوله: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
(2) الواقعة: 95.(4/160)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
على الجمع «الحَقِّ بالموتِ» بتقديم «الحَقّ» . وقرأ أبيّ بن كعب، وسعيد بن جبير: «وجاءت سَكَراتُ الموت» على الجمع «بالحق» بتأخير «الحق» . قوله تعالى: ذلِكَ أي فيقال للانسان حينئذ: «ذلك» :
أي ذلك الموت ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تهرُب وتفِرّ. وقال ابن عباس: تَكره. قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني نفخة البعث ذلِكَ اليوم يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم وقوع الوعيد. قوله تعالى: مَعَها سائِقٌ فيه قولان: أحدهما: أن السائق ملَك يسوقها إلى مَحْشَرها، قاله أبو هريرة: والثاني: أنه قرينها من الشياطين، سمِّي سائقا لأنه يتبَعها وإِن لم يَحثَّها. وفي (الشهيد) ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ملَك يَشهد عليها بعملها، قاله عثمان بن عفان والحسن. وقال مجاهد: الملَكان سائق وشهيد. وقال ابن السائب:
السائق الذي كان يكتب عليه السَّيَِئات، والشهيد الذي كان يكتب الحسنات. والثاني: أنه العمل يَشهد على الإنسان، قاله أبو هريرة. والثالث: الأيدي والأرجل تَشهد عليه بعمله، قاله الضحاك. وهل هذه الآيات عامّة، أم خاصَّة؟ فيها قولان: أحدهما: أنها عامة، قاله الجمهور. والثاني: خاصة في الكافر، قاله الضحاك ومقاتل.
قوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ أي: ويقال له: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم، وفي المخاطَب بهذه الآيات ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكافر، قاله ابن عباس، وصالح بن كيسان في آخرين. والثاني: أنه عامّ في البَرِّ والفاجر، قاله حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، واختاره ابن جرير. والثالث: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن زيد. فعلى القول الأول يكون المعنى: لقد كنتَ في غفلة من هذا اليوم في الدنيا بكفرك به وعلى الثاني: كنتَ غافلاً عن أهوال القيامة فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك. وقيل معناه: أريناك ما كان مستوراً عنك وعلى الثالث: لقد كنتَ قبل الوحي في غفلة عمّا أُوحي إِليك، فكشفنا عنك غطاءك بالوحي فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وفي المراد بالبصر قولان: أحدهما: البصر المعروف، قاله الضحاك. والثاني: العِلمْ، قاله الزجاج. وفي قوله: «اليومَ» قولان: أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله الأكثرون. والثاني: أنه في الدنيا، وهذا على قول ابن زيد. فأمّا قوله: «حديدٌ» فقال ابن قتيبة: الحديد بمعنى الحادّ. أي: فأنت ثاقب البصر. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: فبصرك حديدٌ إلى لسان الميزان حين تُوزَن حسناتُك وسيِّئاتُك، قاله مجاهد. والثاني: أنه شاخص لا يطرف لمعاينة الأخرة، قاله مقاتل. والثالث: أنه العلم النّافذ، قاله الزّجّاج.
[سورة ق (50) : الآيات 23 الى 29]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)
قوله تعالى: وَقالَ قَرِينُهُ قال مقاتل: هو ملكه الذي كان يكتب عمله السّيئ في دار الدنيا، يقول لربِّه: قد كتبتُ ما وكَّلْتَني به، فهذا عندي مُعَدٌّ حاضرٌ من عمله الخبيث، فقد أتيتُك به وبعمله. وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «من» قاله مجاهد. والثاني: أنها بمعنى الشيء، فتقديره: هذا شيء لديَّ عتيدٌ، قاله الزجاج. وقد ذكرنا معنى العتيد في هذه السّورة «1» ، فيقول الله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ.
__________
(1) ق: 18.(4/161)
وفي معنى هذا الخطاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مخاطبة للواحد بلفظ الخطاب للاثنين، قال الفراء:
والعرب تأمر الواحد والقوم بأمر الاثنين، فيقولون للرجُل: ويلك ارحلاها وازجُراها، سمعتها من العرب، وأنشدني بعضهم:
فقُلْتُ لِصَاحِبِي لا تَحْبِسانا ... بِنَزْعِ أُصُولِهِ واجْتَزَّ شِيحا «1»
وأنشدني أبو ثَرْوان:
فإن تزجراني يا ابن عَفَّان أَنْزَجِرْ ... وإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّّعا
ونرى أن ذلك منهم، لأن أدنى أعوان الرجُل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرُّفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى الكلام على صاحبيه، ألا ترى الشعر أكثر شيء قِيلاً: يا صَاحِبَيَّ ويا خليليَّ. قال امرؤ القيس:
خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي على أُمِّ جُنْدَبٍ ... نُقَضِّي لبانات الفؤاد المعذّب «2»
ثم قال:
ألم تر أنّي كُلمَّا جِئْتُ طارِقاً ... وَجَدْتُ بها طِيباً وإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ
فرجع إلى الواحد، وأول كلامه اثنان، وإِلى هذا المعنى ذهب مقاتل، وقال: «ألقيا» خطاب للخازن، يعني خازن النار. والثاني: أنه فِعل ثُنِّي توكيداً، كأنه لمّا قال: «ألقيا» ، ناب عن أَلْقِ أَلْقِ، وكذلك: قِفا نَبْكِ، معناه: قِفْ قِفْ، فلمّا ناب عن فعلين، ثُنِّي، قاله المبرد. والثالث: أنه أمر للملكين، يعني السائق والشهيد، وهذا اختيار الزجاج. فأمّا «الكَفّارُ» ، فهو أشَدُّ مُبالَغةً من الكافر.
و «العنيد» قد فسرناه في هود «3» .
قوله تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ في المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: الزكاة المفروضة، قاله قتادة. والثاني: أنه الإسلام، يمنع الناس من الدُّخول فيه، قاله الضحاك، ومقاتل، وذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، منع بني أخيه عن الإسلام. والثالث: أنه عامٌّ في كل خير من قول أو فعل، حكاه الماوردي. قوله تعالى: مُعْتَدٍ أي: ظالم لا يُقِرُّ بالتوحيد مُرِيبٍ أي: شاكّ في الحق، من قولهم:
أرابَ الرجُلُ: إذا صار ذا رَيْب. قوله تعالى: قالَ قَرِينُهُ فيه قولان: أحدهما: شيطانه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور. وفي الكلام اختصار تقديره: إن الإنسان ادّعى على قرينه من الشياطين أنه أضلَّه فقال: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي لم يكن لي قُوَّة على إضلاله بالإكراه، وإنما طغى هو بضلاله. والثاني:
أنه الملَك الذي كان يكتُب السَّيِّئات. ثم فيما يدَّعيه الكافرُ على الملَك قولان: أحدهما: أنه يقول: زاد عليَّ فيما كتب، فيقول الملَك: ما أطغيتُه، أي ما زدتُ عليه، قاله سعيد بن جبير. والثاني: أنه يقول:
كان يُعْجِلني عن التَّوبة، فيقول: ربَّنا ما أطغيتُه، هذا قول الفراء.
قوله تعالى: وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: بعيد من الهدى، فيقول الله تعالى:
__________
(1) البيت لمضرس بن ربعي الأسدي وهو في «مشكل القرآن» 224 و «اللسان» جزز.
واجتزّ: قطع، والشيح: نبت سهلي من الفصيلة المركبة وهو كثير الأنواع ترعاه الماشية.
(2) في «المعجم الوسيط» اللبان: جمع اللبانة: الحاجة من غير فاقة ولكن من نهمة.
(3) هود: 59.(4/162)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ. في هذا الخصام قولان: أحدهما: أنه اعتذارهم بغير عذر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه خصامهم مع قرنائهم الذين أغوَوْهم، قاله أبو العالية. فأما اختصامهم فيما كان بينهم من المظالم في الدنيا، فلا يجوز أن يُهمَل، لأنه يوم التناصف.
قوله تعالى: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي: قد أخبرتُكم على ألسُن الرُّسل بعذابي في الآخرة لمن كفر. ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فيه قولان: أحدهما: ما يبدَّل القول فيما وعدتُه من ثواب وعقاب، قاله الأكثرون. والثاني: ما يُكذَّب عندي ولا يغيَّر القول عن جهته، لأنِّي أعْلَمُ الغيب وأعْلَمُ كيف ضلُّوا وكيف أضللتموهم، هذا قول ابن السائب واختيار الفراء وابن قتيبة، ويدل عليه أنه قال تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ولم يقل: ما يُبَدَّل قولي وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأَزيدَ على إساءة المُسيء، أو أنقص من إحسان المحسن.
[سورة ق (50) : الآيات 30 الى 40]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر وحمزة، والكسائي: «يومَ نقول» بالنون المفتوحة وضم القاف. وقرأ نافع، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: «يومَ يقول» بالياء المفتوحة وضم القاف. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وعبد الوارث عن أبي عمرو: «يومَ يُقال» بياء مضمومة وفتح القاف وإثبات ألف. قال الزجاج: وانتصاب «يومَ» على وجهين، أحدهما: على معنى: ما يُبدَّل القولُ لديَّ في ذلك اليوم. والثاني: على معنى: وأَنْذِرْهم يومَ نقولُ لجهنم.
فأمّا فائدة سؤاله إيّاها، وقد عَلِم هل امتلأتْ أم لا، فإنه توبيخ لمن أُدْخِلها، وزيادة في مكروهه، ودليل على تصديق قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1» .
وفي قولها: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قولان عند أهل اللغة: أحدهما: أنها تقول ذلك بعد امتلائها، فالمعنى: هل بقي فيَّ موضعٌ لم يمتلئ؟ أي: قد امتلأتُ. والثاني: أنها تقول تغيُّظاً على من عصى اللهَ تعالى، وجَعَلَ اللهُ فيها أن تميِّز وتخاطِب، كما جَعَلَ في النّملة أن قالت: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «2» ، وفي المخلوقات أن تسبِّح بحمده.
قوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ اي قًُرِّبَتْ للمُتَّقين الشركَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي جُعلتْ عن يمين العرش حيث يراها أهلُ الموقف، ويقال لهم: هذا الذي ترونه ما تُوعَدُونَ، وقرأ عثمان بن
__________
(1) الأعراف: 18.
(2) النمل: 18.(4/163)
عفان، وابن عمر، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن: «يُوعَدونَ» بالياء لِكُلِّ أَوَّابٍ وفيه أقوال قد ذكرناها في بني إسرائيل «1» . وفي حَفِيظٍ قولان: أحدهما: الحافظ لذنوبه حتى يرجع عنها قاله ابن عباس. والثاني: الحافظ لأمر الله تعالى، قاله مقاتل.
قوله تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ قد بيَّنّاه في (الأنبياء) «2» وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي: راجع إلى طاعة الله عن معصيته. ادْخُلُوها أي: يقال لهم: أُدخلوا الجنة بِسَلامٍ وذلك أنهم سَلِموا من عذاب الله، وسلموا فيها من الغُموم والتغيُّر والزَّوال، وسلَّم اللهُ وملائكتُه عليهم ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ في الجنة، لأنه لا موت فيها ولا زوال. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وذلك أنهم يَسألون الله حتى تنتهي مسائلُهم، فيُعْطَوْن ما شاؤوا، ثم يَزيدُهم ما لم يَسألوا، فذلك قوله: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ. وللمفسرين في المراد بهذا المزيد ثلاثة أقوال:
(1341) أحدها: أنه النّظر إلى الله عزّ وجلّ روى عليّ رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في قوله: «ولدينا مَزيدٌ» قال: «يتجلَّى لهم» . وقال أنس بن مالك في قوله: «ولدينا مزيد» : يتجلَّى لهم الرب تعالى في كل جمعة.
(1342) والثاني: أن السحاب يَمُرَّ بأهل الجنة، فيمطرهم الحورَ، فتقول الحور: نحن اللواتي قال الله عزّ وجل: «ولدينا مزيد» ، حكاه الزجاج.
والثالث: أن الزِّيادة على ما تمنَّوه وسألوا ممّا لم تسمع به أذن ولم يخطُر على قلب بشر، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
ثم خوَّف كفار مكة بما بعد هذا إلى قوله: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ قرأ الجمهور «فنَقَّبوا» بفتح النون والقاف مع تشديدها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن عباس، والحسن، وابن السميفع، ويحيى بن يعمر كذلك، إلا أنهم كسروا القاف على جهة الأمر تهدُّداً. وقرأ عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وابن أبي عبلة، وعبيد عن أبي عمرو: «فنَقَبوا» بفتح القاف وتخفيفها. قال الفراء: ومعنى «فنقَّبوا» : ساروا في البلاد، فهل كان لهم من الموت مِنْ مَحِيصٍ فأُضمرت «كان» هاهنا، كقوله:
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ «3» أي: فلم يكن لهم ناصر. ومن قرأ «فنَقِّبوا» بكسر القاف، فإنه كالوعيد والمعنى: اذهبوا في البلاد وجيئوا فهل من الموت مِن مَحيص؟! وقال الزجاج: «نَقِّبوا» : طوِّقوا وفتِّشوا، فلم تَرَوا مَحيصاً من الموت. قال امرؤ القيس:
لقَدْ نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الغنيمة بالإياب
__________
لم أقف عليه، وهو غريب جدا.
لم أره بهذا اللفظ، وصدره ليس له أصل، وأما عجزه فقد ورد مرفوعا بسند ضعيف. أخرجه أبو يعلى 1386 وأحمد 3/ 75 كلاهما عن أبي سعيد مرفوعا: «إن الرجل ليتكئ في الجنة مسيرة سبعين سنة قبل أن يتحول ثم تأتيه امرأة فتضرب على منكبيه ويسألها: من أنت؟ فتقول: أنا من المزيد ... » حسنه الهيثمي في «المجمع» 10/ 419 والسيوطي في «الدر» 6/ 127 مع أنّ فيه ابن لهيعة ضعيف، وشيخه درّاج في روايته عن أبي الهيثم ضعيف وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» 5645 بتخريجنا.
__________
(1) الإسراء: 25.
(2) الأنبياء: 49.
(3) محمد: 13.(4/164)
فأمّا المَحيص فهو الَمعْدلِ وقد استوفينا شرحه في سور النساء «1» .
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكره من إهلاك القرى لَذِكْرى أي: تذكرة وعِظَة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ قال ابن عباس: أي: عقل. قال الفراء: وهذا جائز في اللغة أن تقول: ما لَكَ قلب، وما معك قَلبُك، تريد العقل. وقال ابن قتيبة: لما كان القلب موضعاً للعقل كنى به عنه. وقال الزجاج:
المعنى: لمن صرف قلبه إلى التفهُّم أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي: استَمَع مِنِّي وَهُوَ شَهِيدٌ أي: وقَلْبُه فيما يسمع. وقال الفراء: «وهو شهيد» أي: شاهد ليس بغائب.
قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
(1343) ذكر المفسرون أن اليهود قالت: خَلَقَ اللهُ السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، آخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فلذلك لا نعمل فيه شيئا، فنزلت هذه الآيات، فأكذبهم الله عزّ وجلّ بقوله: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. قال الزجاج: واللُّغوب: التَّعب والإعياء.
قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي: من بَهتهم وكذبهم. قال المفسرون: ونسخ معنى قوله:
«فاصْبِر» بآية السيف وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: صَلِّ بالثَّناء على ربِّك والتنزيه له ممَّا يقول المُبْطِلون قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وهي صلاة الفجر. وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فيها قولان:
أحدهما: صلاة الظهر والعصر، قاله ابن عباس. والثاني: صلاة العصر، قاله قتادة.
(1344) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جرير بن عبد الله، قال: كُنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة البدر، فقال: «إنَّكم سَترُونَ ربَّكم عِيانا كما ترون هذا القمر، لا تُضَامُّونَ في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قَبْلَ طُلوع الشمس وقبل الغُروب فافعلوا» وقرأ: «فسبِّح بحمد ربِّك قبل طُلوع الشمس وقبل الغروب» .
قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة الليل كلِّه، أيَّ وقت صلّى منه، قاله مجاهد. والثاني: صلاة العشاء، قاله ابن زيد. والثالث: صلاة المغرب والعشاء، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وخلف: بكسر الهمزة وقرأ الباقون بفتحها. قال الزجاج: من فتح ألف «أدبار» فهو جمع دُبُر، ومن كسرها فهو مصدر: أدبر يُدْبِر إدباراً.
وللمفسرين في هذا التسبيح ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الرَّكعتان بعد صلاة المغرب، روي عن عمر، وعليّ، والحسن بن عليّ، رضي الله عنهم، وأبي هريرة، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنّخعيّ،
__________
ضعيف جدا. أخرجه الواحدي في «أسباب النّزول» 769 من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس: أن اليهود أتت النّبي صلّى الله عليه وسلم ... فذكره. وإسناده ضعيف جدا لضعف أبي سعد، بل هو متروك. وأخرجه الطبري 31960 من طريق أبي سنان عن أبي بكر قال: جاءت اليهود النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: ... فذكره. وهذا معضل، وهو أصح من الموصول، والمتن منكر جدا بذكر نزول الآية، فإن السّورة مكية وسؤالات اليهود كانت في المدينة، وقد ورد نحو هذا الخبر بدون ذكر هذه الآية، وهو أصح.
صحيح. أخرجه البخاريّ 4851 ومسلم 633 وأبو داود 4729 والتّرمذي 2551 وابن ماجة 177 والنسائي في «التفسير» 350 من حديث جرير، ولفظ «عيانا» ليس في «الصحيحين» .
__________
(1) النساء: 121.(4/165)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
وقتادة في آخرين، وهو رواية العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه النوافل بعد المفروضات، قاله ابن زيد. والثالث: أنه التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات، رواه مجاهد عن ابن عباس. وروي عن أبي الأحوص أنه قال في جميع التسبيح المذكور في هاتين الآيتين كذلك.
[سورة ق (50) : الآيات 41 الى 45]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «ينادي المُنادي» بياء في الوصل. ووقف ابن كثير بياءٍ، ووقف نافع وأبو عمرو بغير ياءٍ. ووقف الباقون ووصلوا بياءٍ. قال أبو سليمان الدمشقي: المعنى: واستمع حديث يوم ينادي المنادي. قال المفسرون: والمنادي:
إسرافيل، يقف على صخرة بيت المقدس فينادي: يا أيها الناس هلُمُّوا إلى الحساب، إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء وهذه هي النفخة الأخيرة. والمكان القريب: صخرة بيت المقدس. قال كعب ومقاتل: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً. وقال ابن السائب باثني عشر ميلاً. قال الزجاج: ويقال: إن تلك الصخرة في وسط الأرض.
قوله تعالى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ وهي هذه النَّفخة الثانية بِالْحَقِّ أي: بالبعث الذي لا شكَّ فيه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي: نُميت في الدنيا ونُحيي للبعث وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ بعد البعث، وهو قوله: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «تَشَّقَّقُ» بتشديد الشين وقرأ الباقون بتخفيفها سِراعاً أي: فيخرجون منها سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي: هَيِّنٌ. ثم عزَّى نبيَّه فقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ في تكذيبك، يعني كفار مكة وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ قال ابن عباس: لم تبعث لتجبرَهم على الاسلام إنما بُعثتَ مذكِّراً، وذلك قبل أن يؤمَر بقتالهم وأنكر الفراء هذا القول فقال: العرب لا تقول: «فَعَّال من أفْعَلتُ» ، لا يقولون: «خَرَّاج» يريدون «مُخْرِج» ولا «دخَّال» يريدون «مُدْخِل» ، إنما يقولون: «فَعَّال» من «فَعَلْتُ» ، وإنما الجَبَّار هنا في موضع السلطان من الجبرية، وقد قالت العرب في حرف واحد: «دَرَّاك» من «أدْرَكْتُ» وهو شاذ، فإن جعل هذا على هذه الكلمة فهو وجه. وقال ابن قتيبة: بِجَبَّارٍ أي: بمسلَّط. والجبَّار: الملِك، سمِّي بذلك لِتَجَبُّره، يقول: لستَ عليهم بملِك مُسَلَّط. قال اليزيدي: لستَ بمسلَّط فتَقْهَرهم على الإسلام. وقال مقاتل:
لِتَقْتُلَهم. وذكر المفسرون أن قوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ منسوخ بآية السيف.
قوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ أي: فَعِظْ به مَنْ يَخافُ وَعِيدِ وقرأ يعقوب: «وعيدي» بياءٍ في الحالين، أي: ما أَوعدتُ مَنْ عصاني من العذاب.(4/166)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
سورة الذّاريات
مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 23]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً يعني الرِّياح، يقال: ذَرَت الرِّيحُ الترابَ تَذْرُوه ذَرْواً: إذا فرَّقَتْه. قال الزجاج: يقال: ذَرَت فهي ذارية، وأذْرَت فهي مُذْرية، بمعنى واحد. وَالذَّارِياتِ، مجرورة على القَسَم، المعنى: أحْلفِ بالذّارياتِ وهذه الأشياء، والجواب إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، قال قوم: المعنى:
وربِّ الذاريات، وربِّ الجاريات. قوله تعالى: فَالْحامِلاتِ وِقْراً يعني السحاب التي تحمل وِقْرها من الماء. فَالْجارِياتِ يُسْراً يعني السُّفن تجري ميسَّرة في الماء جَرياً سهلاً. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً يعني الملائكة تقسم الأمور على ما أمَر اللهُ به. قال ابن السائب: والمقسِّمات أربعة، جبريل، وهو صاحب الوحي والغِلظة، وميكائيل، وهو صاحب الرِّزق والرَّحمة، وإسرافيل، وهو صاحب الصُّور واللَّوح، وعزرائيل، وهو قابض الأرواح. وإنما أقسَم بهذه الأشياء لِما فيها من الدلالة على صُنعه وقُدرته. ثم ذكر المُقسَم عليه فقال: إِنَّما تُوعَدُونَ أي: من الثواب والعقاب يومَ القيامة لَصادِقٌ أي: لَحَقّ. وَإِنَّ الدِّينَ فيه قولان: أحدهما: الحساب. والثاني: الجزاء لَواقِعٌ أي: لَكائن.
ثم ذكر قَسَماً آخر فقال: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين: «الحِبِكِ» بكسر الحاء والباء جميعاً. وقرأ عثمان بن عفان، والشعبي، وأبو العالية، وأبو حيوة: «الحِبْكِ» بكسر الحاء وإسكان الباء. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو رجاء، وابن أبي عبلة: «الحُبْكِ» برفع الحاء وإسكان الباء. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة: «الحَبَكِ» بفتح الحاء والباء جميعاً. وقرأ أبو الدرداء، وأبو الجوزاء، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «الحَبِكِ» بفتح الحاء وكسر الباء.(4/167)
ثم في معنى «الحبك» أربعة أقوال: أحدها: ذات الخَلْق الحَسَن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: البُنيان المُتْقَن، قاله مجاهد. والثالث: ذات الزِّينة، قاله سعيد بن جبير. وقال الحسن: حُبُكها: نُجومها. والرابع: ذات الطرائق، قاله الضحاك واللغويون. وقال الفراء: الحُبُك:
تَكَسُّر كلِّ شيء كالرَّمْل إذا مَرَّت به الرِّيح السّاكنة، والماء القائم إذا مَرّت به الرِّيح، والشَّعرةُ الجَعْدَة تكسُّرُها حُبُك، وواحد الحُبُك: حِباك وحَبِيكة. وقال الزجاج: أهل اللغة يقولون: الحُبُك: الطرَّائق الحَسَنة، والمَحْبُوك في اللغة: ما أُجيد عملُه، وكل ما تراه من الطَّرائق في الماء وفي الرَّمْل إذا أصابته الرِّيح فهو حُبُك. وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: هذه هي السماء السابعة.
ثم ذكر جواب القَسَم الثاني، قال: إِنَّكُمْ يعني أهل مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم، بعضُكم يقول: شاعر، وبعضكم يقول: مجنون. وفي القرآن، بعضكم يقول: سِحْر، وبعضكم يقول:
كَهانة ورَجَز، إلى غير ذلك. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: يُصْرَف عن الإيمان به مَن صُرِف فحُرِمَه. والهاء في «عنه» عائدة إلى القرآن، وقيل: يُصْرَف عن هذا القول، أي: من أجْله وسببه، عن الإيمان من صُرِف. وقرأ قتادة: «مَنْ أَفَكَ» بفتح الألف والفاء. وقرأ عمرو بن دينار: «مَنْ أَفِكَ» بفتح الألف وكسر الفاء. قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ قال الفراء: يعني: لُعن الكذّابون الذين قالوا: إن النبي صلّى الله عليه وسلم ساحر وكذَّاب وشاعر، خَرَصوا ما لا علم لهم به. وفي رواية العوفي عن ابن عباس: أنهم الكهنة. وقال ابن الأنباري:
والقتل إذا أُخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك.
قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي في عمىً وجهالة بأمر الآخرة ساهُونَ أي غافلون.
والسَّهو: الغَفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه. يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء؟! تكذيبا منهم واستهزاء. ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ قال الزجاج: «اليومَ» منصوب على معنى: يقع الجزاء يومَ هُم على النّار يُفْتَنُونَ أي يُحرَقون ويعذَّبون، ومن ذلك يقال للحجارة السُّود التي كأنها قد أُحرقت بالنار: الفَتِين. قوله تعالى: ذُوقُوا المعنى: يقال لهم: ذوقوا فِتْنَتَكُمْ وفيها قولان: أحدهما: تكذيبكم، قاله ابن عباس. والثاني: حريقكم، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة: هاهنا تم الكلام، ثم ائتنف، فقال: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ قال المفسرون: يعني الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاء.
ثم ذكر ما وعَد اللهُ لأهل الجنة فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وقد سبق شرح هذا «1» .
قوله تعالى: آخِذِينَ قال الزجاج: هو منصوب على الحال، فالمعنى: في جنّات وعيون في حال أخذ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قال المفسرون: أي ما أعطاهم اللهُ من الكرامة إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ في أعمالهم.
وفي الآية وجه آخر: «آخذين ما آتاهم ربُّهم» أي: عاملين بما أمرهم به من الفرائض «إنهم كانوا قبلَ» أن تفرض الفرائض عليهم، «محسِنين» أي: مطيعين، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مسلم البطين.
ثم ذكر إحسانهم فقال: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ والهُجوع: النَّوم بالليل دون النهار. وفي «ما» قولان: أحدهما: النفي. ثم في المعنى قولان: أحدهما: كانوا يسهرون قليلاً من الليل. قال أنس بن مالك، وأبو العالية: هو ما بين المغرب والعشاء. والثاني: كانوا ما ينامون قليلا من اللّيل.
__________
(1) البقرة: 25، الحجر: 45. [.....](4/168)
واختار قوم الوقف على قوله: «قليلاً» على معنى: كانوا من الناس قليلاً، ثم ابتدأ فقال: «من الليل ما يهجعون» على معنى نفي النوم عنهم البتَّة، وهذا مذهب الضحاك، ومقاتل. والقول الثاني: أن «ما» بمعنى الذي، فالمعنى: كانوا قليلاً من الليل الذي يهجعونه، وهذا مذهب الحسن، والأحنف بن قيس، والزهري. وعلى هذا يحتمل أن تكون «ما» زائدة.
قوله تعالى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وقد شرحناه في آل عمران «1» .
قوله تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي: نصيب، وفيه قولان: أحدهما: أنه ما يَصِلون به رَحِمًا، أو يَقْرون به ضيفاً، أو يحملون به كلاًّ، أو يُعينون به محروماً، وليس بالزَّكاة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الزكاة، قاله قتادة، وابن سيرين. قوله تعالى: لِلسَّائِلِ وهو الطالب. وفي «المحروم» ثمانية أقوال:
أحدها: أنه الذي ليس له سهم في فيء المسلمين، وهو المُحارَف «2» ، قاله ابن عباس. وقال إبراهيم:
هو الذي لا سهم له في الغنيمة. والثاني: أنه الذي لا ينمى له شيء، قاله مجاهد، وكذلك قال عطاء:
هو المحروم في الرِّزق والتجارة. والثالث: أنه المسلم الفقير، قاله محمد بن علي. والرابع: أنه المتعفِّف الذي لا يَسأل شيئاً، قاله قتادة، والزهري. والخامس: أنه الذي يجيء بعد الغنيمة، وليس له فيها سهم، قاله الحسن بن محمّد ابن الحنفية. والسادس: أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته، قاله ابن زيد. والسابع: أنه المملوك، حكاه الماوردي. والثامن: أنه الكَلْب، روي عن عمر بن عبد العزيز، وكان الشعبي يقول: أعياني أن أعلَم ما المحروم. وأظهر الأقوال قول قتادة والزهري، لأنه قرنه بالسائل، والمتعفِّف لا يَسأل- ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل- ثم يتحفظ بالتعفُّف من ظُهور أثر الفاقة عليه، فيكون محروما من قِبَل نفسه حين لم يَسأل، ومن قِبَل الناس حين لا يُعطونه، وإنما يفطن له متيقِّظ. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، ولا يصح.
قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ كالجبال والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك لِلْمُوقِنِينَ بالله عزّ وجلّ الذين يعرفونه بصنعه. وَفِي أَنْفُسِكُمْ آياتٌ إذ كنتم نُطَفاً ثم عظاماً، ثم عَلَقاً، ثم مُضَغاً إلى غير ذلك من أحوال الاختلاف ثم اختلاف الصُّوَر والألوان والطبائع، وتقويم الأدوات، والسمع والبصر والعقل، وتسهيل سبيل الحدث، إلى غير ذلك من العجائب المودَعة في ابن آدم. وتمَّ الكلام عند قوله:
وَفِي أَنْفُسِكُمْ، ثم قال: أَفَلا تُبْصِرُونَ قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خَلَقكم فتعرِفوا قُدرته على البعث.
قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وحميد، وأبو حصين الأسدي: «أرْزاقُكم» براءٍ ساكنة، وبألف بين الزاي والقاف. وقرأ ابن مسعود، والضحاك، وأبو نهيك: «رازِقُكم» بفتح الراء وكسر الزّاي وبألف بينهما. وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين. وفيه قولان: أحدهما: أنه المطر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وليث عن مجاهد، وهو قول الجمهور. والثاني: الجنّة، رواه ابن نجيح عن مجاهد. وفي قوله: وَما تُوعَدُونَ قولان: أحدهما: أنه الخير والشر كلاهما يأتي من السماء، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني: الجنة، رواه ليث عن مجاهد. قال أبو
__________
(1) آل عمران: 17.
(2) في «القاموس» المحارف: المحدود والمحروم.(4/169)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
عبيدة: في هذه الآية مضمر مجازه: عند مَنْ في السماء رزقُكم، وعنده ما توعدون، والعرب تُضْمِر، قال نابغة ذبيان:
كأنكَ مِنْ جِمالِ بَني أُقَيش ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ «1»
أراد: كأنك جملٌ من جِمال بني أُقَيش.
قوله تعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ قال الزجاج: يعني ما ذكره من أمر الآيات والرِّزق وما توعدون وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «مِثْلُ» برفع اللام. وقرأ الباقون بنصب اللام. قال الزجاج: فمن رفع «مِثْلُ» فهي من صفة الحق، والمعنى: إنه لَحَقٌ مِثْلُ نُطْقكم ومن نصب فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون في موضع رفع، إلا أنه لمّا أُضيف إلى «أنَّ» فُتح. والثاني: أن يكون منصوبا على التأكيد، على معنى: إنه لَحَقٌ حَقّاً مِثْلَ نُطقكم، وهذا الكلام كما تقول: إنه لَحَقٌ كما أنَّك تتكلّم.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 37]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ «هل» بمعنى «قد» في قول ابن عباس، ومقاتل، فيكون المعنى: قد أتاك فاستمع نقصصه عليك، وضيفه: هم الّذين جاءوا بالبشرى. وقد ذكرنا عددهم في هود «2» ، وذكرنا هناك معنى الضَّيف. وفي معنى «المُكْرَمِينَ» أربعة أقوال: أحدهما:
لأنه أكرمهم بالعِجْل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: بأن خدمهم هو وامرأته بأنفُسهما، قاله السدي. والثالث: أنهم مُكْرَمون عند الله، قاله عبد العزيز بن يحيى. والرابع: لأنهم أضياف، والأضياف مُكْرَمون، قاله أبو بكر الورَّاق.
قوله تعالى: فَقالُوا سَلاماً قد ذكرناه في هود «3» .
قوله تعالى: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قال الزجاج: ارتفع على معنى: أنتم قومٌ مُنْكَرونَ. وللمفسرين في سبب إنكارهم أربعة أقوال: أحدها: لأنه لم يعرفهم، قاله ابن عباس. والثاني: لأنهم سلَّموا عليه، فأنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض، قاله أبو العالية. والثالث: لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. والرابع: لأنه رأى فيهم صورة البشر وصورة الملائكة.
__________
(1) في «القاموس» الشنّ: وبهاء القربة الخلق.
(2) هود: 70.
(3) هود: 70.(4/170)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
قوله تعالى: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ قال ابن قتيبة: أي: عَدَل إليهم في خُفْية، ولا يكون الرَّواغُ إلاَّ أن تُخْفِيَ ذهابَك ومَجيئك. قوله تعالى: فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ وكان مشويّاً فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قال الزجاج:
والمعنى: فقرَّبه إليهم ليأكلوا منه، فلم يأكلوا، فقال: أَلا تَأْكُلُونَ؟! على النَّكير، أي: أمرُكم في ترك الأكل ممّا أُنْكِرُه. قوله تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قد شرحناه في هود «1» . وذكرنا معنى: «غلامٍ عليمٍ» في (الحجر) «2» . فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ وهي: سارة. قال الفراء وابن قتيبة: لم تُقْبِل مِن مَوضع إلى مَوضع، وإنما هو كقولك: أقبلَ يَشتُمني، وأقبل يَصيح ويتكلَّم أي: أخذ في ذلك، والصَّرَّة: الصَّيحة. وقال أبو عبيدة: الصَّرَّة: شِدة الصَّوت. وفيما قالت في صَيحتها قولان: أحدهما: أنها تأوّهت، قاله قتادة.
والثاني: أنها قالت: يا ويلتا، ذكره الفراء. قوله تعالى: فَصَكَّتْ وَجْهَها فيه قولان: أحدهما: لطمتْ وجهها، قاله ابن عباس. والثاني: ضربتْ جبينها تعجُّباً، قاله مجاهد، ومعنى الصَّكِّ، ضَرْبُ الشيء بالشيء العريض. وَقالَتْ عَجُوزٌ قال الفراء: هذا مرفوع بإضمار «أتَلِدُ عجوزٌ» . وقال الزجاج: المعنى:
أنا عجوز عقيمٌ، فكيف ألِدُ؟! وقد ذكرنا معنى «العقيم» في هود «3» . قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أنك ستَلِدين غُلاماً والمعنى: إنّما نخبرك عن الله عزّ وجلّ، وهو حكيم عليم يَقْدِر أن يَجعل العقيم وَلُوداً، فعَلِم حينئذ إبراهيمُ أنهم ملائكة. قالَ فَما خَطْبُكُمْ مفسر في الحجر «4» .
قوله تعالى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ قال ابن عباس: هو الآجُرُّ. قوله تعالى: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ قد شرحناه في هود «5» . قوله تعالى: لِلْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس: للمشركين. قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها، أي: من قُرى لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وذلك قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ الآية «6» . فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وهو لوط وابنتاه، وصفهم الله عزّ وجلّ بالإيمان والإسلام، لأنه ما من مؤمِن إلا وهو مُسْلِم. وَتَرَكْنا فِيها آيَةً أي: علامة للخائفين من عذاب الله تَدُلُّهم على أن الله أهلكهم. وقد شرحنا هذا في العنكبوت «7» وبيّنّا المكني عنها.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 51]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
قوله تعالى: وَفِي مُوسى اي وفيه ايضاً آية إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجّة ظاهرة
__________
(1) هود: 70.
(2) الحجر: 54.
(3) هود: 72.
(4) الحجر: 57.
(5) هود: 83.
(6) هود: 81.
(7) العنكبوت: 35.(4/171)
فَتَوَلَّى اي أعرَضَ بِرُكْنِهِ قال مجاهد: بأصحابه. وقال ابو عبيدة: «بِرُكْنه» و «بجانبه» سواء، إنما هي ناحيته وَقالَ ساحِرٌ اي وقال لموسى: هذا ساحر أَوْ مَجْنُونٌ وكان أبو عبيدة يقول: «أو» بمعنى الواو. فأمّا «الَيمُّ» فقد ذكرناه في الأعراف «1» و «مُليم» في الصافات «2» .
قوله تعالى: وَفِي عادٍ اي في إهلاكهم آية ايضاً إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وهي التي لا خَير فيها ولا بَرَكة، لا تُلْقِح شجراً ولا تَحْمِل مطراً، وإنما هي للإهلاك. وقال سعيد بن المسيّب: هي الجَنُوب. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي من أنفُسهم وأموالهم إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ اي كالشيء الهالك البالي، قال الفراء: الرَّميم: نبات الأرض إذا يَبِس وَدِيس. وقال الزجاج: الرَّميم: الورَق الجافّ المتحطِّم مثل الهشيم. وَفِي ثَمُودَ آيةٌ ايضاً إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فيه قولان: أحدهما: أنه قيل لهم: تَمتَّعوا في الدُّنيا إلى وقت انقضاء آجالكم تهدُّداً لهم. والثاني: أن صالحاً قال لهم بعد عَقْر النّاقة:
تَمتَّعوا ثلاثة أيام: فكان الحِين وقتَ فناء آجالهم، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ قال مقاتل: عصوا أَمْره فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ يعني العذاب، وهو الموت من صيحة جبريل. وقرأ الكسائي وحده: «الصَّعْقةُ» بسكون العين من غير الف وهي الصَّوت الذي يكون عن الصاعقة. قوله تعالى: وَهُمْ يَنْظُرُونَ فيه قولان: أحدهما: يَرَوْن ذلك عِياناً، والثاني: وهم ينتظرون العذاب فأتاهم صبيحة يومَ السبت. قوله تعالى: فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ فيه قولان: أحدهما: ما استطاعوا نُهوضاً من تلك الصَّرعة. والثاني: ما أطاقوا ثُبوتاً لعذاب الله وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين من العذاب.
قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ قرأ أبو عمرو إلاّ عبد الوارث، وحمزة، والكسائي: بخفض الميم، وروى عبد الوارث رفع الميم. والباقون بنصبها. وقال الزجاج: من خفض (القوم) فالمعنى:
وفي قومِ نوحٍ آيةٌ، ومن نصب فهو عطف على معنى قوله: «فأخذتْهم الصّاعقةُ» فإن معناه: أهلكْناهم، فيكون المعنى: وأهلَكْنا قومَ نوح، والأحسن- والله أعلم- أن يكون محمولاً على قوله: «فأخذْناه وجنوده فنبذنْاهم في اليمِّ» لأن المعنى: أغرقناه، وأغرقْنا قومَ نوح.
وَالسَّماءَ بَنَيْناها المعنى: وبنينا السماء بنيناها بِأَيْدٍ أي بقْوَّة، وكذلك قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وسائر المفسرين واللغويين: «بأيد» اي: بقُوَّة. وفي قوله: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ خمسة أقوال: أحدها: لموسِعون الرِّزق بالمطر، قاله الحسن. والثاني: لموسِعون السماء، قاله ابن زيد.
والثالث: لقادرون، قاله ابن قتيبة. والرابع: لموسِعون ما بين السماء والأرض، قاله الزجاج.
والخامس: لذو سعة لا يضيق عمّا يريد، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ قال الزجاج: هذا عطفٌ على ما قبله منصوبٌ بفعل مُضْمر محذوف يدلُّ عليه قوله: «فرشْناها» فالمعنى فرشْنا الأرض فرشْناها «فنِعْم الماهدون» أي: فنِعْم الماهدون نحن. قال مقاتل: «فرشْناها» أي: بسطْناها مسيرة خمسمائة عام، وهذا بعيد، وقد قال قتادة:
الأرضُ عشرون ألف فرسخ، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ اي: صِنفين ونَوعَين كالذكر والأنثى، والبرّ والبحر،
__________
(1) الأعراف: 136.
(2) الصافات: 142. [.....](4/172)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
والليِّل والنَّهار، والحُلو والمُرِّ، والنُّور والظُّلمة، وأشباه ذلك لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلْموا أن خالق الأزواج واحد. فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بالتَّوبة من ذنوبكم والمعنى: اهْرُبوا ممّا يوجِب العِقاب من الكُفر والعِصيان إلى ما يوجِب الثَّواب من الطَّاعة والإيمان.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 60]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: كما كذَّبك قومُك وقالوا: ساحر أو مجنون كانوا من قبلك يقولون للأنبياء. قوله تعالى: أَتَواصَوْا بِهِ أي: أوْصى أوَّلُهم آخرَهم بالتكذيب؟، وهذا استفهام توبيخ. وقال أبو عبيدة: أتواطئوا عليه فأخذه بعضُهم من بعض؟!. قوله تعالى: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ اي: يحملُهم الطُّغيان فيا أُعطوا من الدُّنيا على التكذيب والمشار إِليهم اهل مكة. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فقد بلَّغْتَهم فَما أَنْتَ عليهم بِمَلُومٍ لأنَّك قد أدَّيت الرِّسالة. ومذهب أكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة ولهم في ناسخها قولان: أحدهما: أنه قوله: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. والثاني: آية السيف. وفي قوله:
«وذكِّر» قولان: أحدهما: عِظْ، قاله مقاتل. والثاني: ذكِّرهم بأيّام الله وعذابه ورحمته، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أثبت الياء في «يعْبُدون» و «يُطْعِمون» و «لا يستعجِلون» في الحالين يعقوب. واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال: أحدها: إلاّ لآمُرهم أن يعبدوني، قاله عليُّ بن أبي طالب، واختاره الزجاج. والثاني: إلا لِيُقِرُّوا بالعُبودية طوْعاً وكرْهاً، قاله ابن عباس وبيان هذا قوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» . والثالث: أنه خاصّ في حقِّ المؤمنين.
قال سعيد بن المسيّب: ما خلقتُ منْ يعبُدني إلا ليعبُدَني. وقال الضحاك والفراء وابن قتيبة: هذا خاصّ لأهل طاعته، وهذا اختيار القاضي ابي يعلى فإنه قال: معنى هذا الخصوصُ لا العمومُ، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخُلون تحت الخطاب وإن كانوا من الإنس فكذلك الكُفَّار يخرُجون من هذا بدليل قوله: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «2» ، فمن خُلق للشَّقاء ولجهنَّم لم يخلق للعبادة. والرابع: إلا ليخضعوا إليَّ ويتذللَّوا، ومعنى العبادة في اللغة: الذُّلُّ والانقياد. وكُلُّ الخلْق خاضعٌ ذليل لقضاء الله عزّ وجلّ، لا يملك خروجا عمّا قضاه الله عزّ وجلّ، هذا مذهب جماعة من أهل المعاني.
قوله تعالى: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي: ما أُريدُ أن يرزُقوا أنفسهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي أن يُطْعِموا أحداً من خَلْقي، لأنِّي أنا الرَّزّاق. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيالُ الله، ومن أطعمَ عِيالَ أحد فقد أطعمه.
__________
(1) الزخرف: 87.
(2) الأعراف: 179.(4/173)
(1345) وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عزّ وجلّ يوم القيامة. يا ابن آدم: استطعمتُكَ فلم تُطْعِمْني» ، اي: لم تُطْعِم عبدي.
فأما الرَّزَّاقُ فقرأ الضحاك، وابن محيصن: «الرّازق» بوزن «العالِم» . قال الخطابي: هو المتكفِّل بالرِّزق القائمُ على كل نَفْس بما يُقيمها من قُوتها. والْمَتِينُ الشديد القُوَّة الذي لا تنقطع قُوَّته ولا يَلحقه في أفعاله مَشقَّة. وقد روى قتيبة عن الكسائي أنه قرأ: «المتينِ» بكسر النون. وكذا قرأ أبو رزين، وقتادة، وأبو العالية، والأعمش. قال الزجاج: ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ أي: ذو الاقتدار الشديد، ومن رفع «المتين» فهو صفة الله عزّ وجل، ومن خفضه جعله صفة للقُوة، لأن تأنيث القُوَّة كتأنيث المُوعظة، فهو كقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «1» .
قوله تعالى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يعني مشركي مكة ذَنُوباً أي: نصيباً من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ الذين أُهلكوا، كقوم نوح وعاد وثمود. قال الفراء: الذَّنوب في كلام العرب: الدَّلْوُ العظيمة، ولكن العرب تذهب بها إلى النَّصيب والحظِّ، قال الشاعر:
لَنا ذَنُوبٌ وَلكُمْ ذَنُوبُ ... فإِنْ أَبَيْتُم فَلَنا الْقَلِيبُ «2»
والذَّنوب، يُذَكَّر ويؤنَّث. وقال ابن قتيبة، أصل الذَّنوب: الدَّلو العظيمة، وكانوا يَستقون، فيكون لكل واحدٍ ذَنوبٌ، فجُعل «الذَّنوب» مكان «الحظّ والنصيب» .
قوله تعالى: فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي: بالعذاب إن أُخِّروا إلى يوم القيامة، وهو يومهم الذي يوعدون، ويقال: هو يوم بدر.
__________
صحيح. وهذا اللفظ جزء من حديث طويل أخرجه مسلم 2569.
__________
(1) البقرة: 275.
(2) في «القاموس» القليب: البئر.(4/174)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
سورة الطّور
وهي مكّيّة كلها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
قوله تعالى: وَالطُّورِ هذا قَسم بالجبل الذي كلّم الله عزّ وجلّ عليه موسى عليه السلام، وهو بأرض مَدْين واسمه زَبير. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ أي: مكتوب، وفيه أربعة أقوال: أحدها: أنه اللوح المحفوظ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: كتب أعمال بني آدم، قاله مقاتل والزجاج.
والثالث: التوراة. والرابع: القرآن، حكاهما الماوردي. قوله تعالى: فِي رَقٍّ قال أبو عبيدة: الرَّقُّ:
الوَرَق. فأما المنشور فهو المبسوط. قوله تعالى: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فيه قولان:
أحدهما: أنه بيت في السماء. وفي أي سماء هو؟ فيه ثلاثة أقوال:
(1346) أحدها: أنه في السماء السابعة، رواه أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
(1347) وحديث مالك بن صعصعة الذي أُخرج في «الصحيحين» يدل عليه.
والثاني: أنه في السماء السادسة، قاله عليّ رضي الله عنه.
(1348) والثالث: أنه في السماء الدنيا، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: هو
__________
أخرجه الحاكم 2/ 117 والبيهقي في «الشعب» 3993 والطبري 32301 من حديث أنس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، ويشهد له ما بعده.
صحيح. أخرجه البخاري 3207 ومسلم 1/ 149 والطبري 32287 عن أنس عن مالك بن صعصعة مرفوعا، في أثناء حديث الإسراء المطوّل، وتقدّم في أوائل سورة الإسراء.
لا أصل له في المرفوع. أخرجه العقيلي 2/ 59- 60 وابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» 4/ 282، وابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 147 من حديث أبي هريرة، ساقه العقيلي في ترجمة روح بن جناح، وقال: لا يتابع عليه، وقال ابن حبان في ترجمته: يروي عن الثقات ما إذا سمعها الإنسان الذي ليس(4/175)
حيال الكعبة يحُجُّه كُلَّ يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون فيه حتى تقوم الساعة، يسمى الضُّراح.
وقال الربيع بن أنس: كان البيت المعمور مكان الكعبة في زمان آدم، فلمّا كان زمن نوح أمر الناس بحجِّه، فعصوه فلمّا طغى الماءُ رُفع فجُعل بحذاء البيت في السماء الدنيا.
والثاني: أنه البيت الحرام، قاله الحسن، وقال أبو عبيدة: ومعنى «المعمور» : الكثير الغاشية.
قوله تعالى: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ فيه قولان: أحدهما: أنه السماء، قاله عليّ رضي الله عنه والجمهور. والثاني: العرش، قاله الربيع. قوله تعالى: وَالْبَحْرِ فيه قولان. أحدهما: أنه بحر تحت العرش ماؤه غليظ يُمْطَر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتُون في قبورهم، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أنه بحر الأرض، ذكره الماوردي. وفي الْمَسْجُورِ أربعة أقوال: أحدها: المملوء، قاله الحسن وأبو صالح وابن السائب وجميع اللغويين. والثاني: أنه المُوقد، قاله مجاهد، وابن زيد.
وقال شمر بن عطية: هو بمنزلة التنور المسجور. والثالث: أنه اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب، قاله أبو العالية. وروي عن الحسن، قال: تسجر، يعني البحار، حتى يذهب ماؤها فلا يبقى فيها قطرة.
وقول هذين يرجع إلى معنى قول مجاهد.
(1349) وقد نقل في الحديث أن الله تعالى يجعل البحار كلَّها ناراً، فتزاد في نار جهنم.
والرابع: أن «المسجور» المختلط عذْبه بمِلحه، قاله الربيع بن أنس. فأقسم اللهُ تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن تعذيب المشركين حق، فقال: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ أي:
لكائن في الآخرة. ثم بيَّن متى يقع، فقال: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: تدور دَوْراً رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وهو اختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج. والثاني: تحرَّكُ تحرُّكاً، رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال أبو عبيدة «تمور» أي: تَكفّأُ، وقال الأعشى.
كأنَّ مِشْيتَها مِنْ بيْتِ جارَتِها ... مَوْرُ السَّحابةِ لا ريْثٌ ولا عَجَلُ
والثالث: يموج بعضها في بعض لأمر الله تعالى، قاله الضحاك.
وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله: الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) أي: يخوضون في حديث محمّد صلّى الله عليه وسلم بالتّكذيب والاستهزاء، ويلهون بذكره، فالويل لهم يَوْمَ يُدَعُّونَ قال ابن قتيبة: أي:
يُدْفعون، يقال: دععْتُه أدُعُّه أي: دفعته، ومنه قوله يَدُعُّ الْيَتِيمَ «2» ، قال ابن عباس: يدفع في
__________
بالمتبحر في صناعة الحديث شهد لها بالوضع. وقال ابن الجوزي رحمه الله: هذا حديث لا يتهم به إلا روح بن جناح، قال الحافظ عبد الغني: هذا حديث منكر، ليس له أصل عن الزهري، ولا عن سعيد ولا عن أبي هريرة، ولا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من هذه الطريق ولا من غيرها اه. ونقل الذهبي في «الميزان» 2799 عن أبي أحمد الحاكم قوله: حديث في البيت المعمور لا أصل له.
غريب مرفوعا. وقد ذكره البغوي في «تفسيره» 237 بقوله وروي من غير عزو لأحد. وذكره الزمخشري في «الكشاف» 4/ 411 أيضا بقوله روي من غير عزو لأحد ولم يخرجه الحافظ، وهذا دليل على أنه غير مرفوع.
والله أعلم.
__________
(1) النمل: 88.
(2) الماعون: 2.(4/176)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
أعناقهم حتى يردوا النّار. وقال مقاتل: تُغلُّ أيديهم إلى أعناقهم وتُجْمعُ نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يُدفعون إلى جهنم على وجوههم، حتى إذا دَنوا منها قالت لهم خزنتُها: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) في الدنيا أَفَسِحْرٌ هذا العذاب الذي ترون؟ فإنكم زعمتم أن الرُّسل سحرةٌ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ النار؟ فلمّا أُلقوا فيها قال لهم خزنتُها: اصْلَوْها. وقال غيره: لمّا نسبوا محمّدا صلّى الله عليه وسلم إلى أنه ساحر يغطِّي على الأبصار بالسِّحر، وُبِّخوا عند رؤية النار بهذا التوبيخ، وقيل: اصْلَوْها أي:
قاسوا شِدَّتها فَاصْبِرُوا على العذاب أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ الصَّبر والجزع إِنَّما تُجْزَوْنَ جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والتكذيب.
[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 20]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
ثم وصف ما للمؤمنين بما بعد هذا، وقوله: فَكِهِينَ قرئت بألف وبغير ألف. وقد شرحناها في يس «1» ، وَوَقاهُمْ أي: صرف عنهم، والْجَحِيمِ مذكور في البقرة «2» . كُلُوا أي يقال لهم:
كُلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً تأمنون حدوث المرض عنه. قال الزّجّاج: المعنى: لينهكم ما صِرتم إليه، وقد شرحنا هذا في سورة النساء. ثم ذكر حالهم عند أكلهم وشربهم، فقال: مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ وقال ابن جرير: فيه محذوف تقديره: على نمارق على سُرُر، وهي جمع سرير مَصْفُوفَةٍ قد وُضع بعضُها إلى جنْب بعض. وباقي الآية مفسَّر في سورة الدّخان «3» .
[سورة الطور (52) : الآيات 21 الى 28]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25)
قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
قوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي،: «واتَّبعْتهم» بالتاء «ذُرِّيَّتُهم» واحدة بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ واحدة أيضاً. وقرأ نافع: «واتَّبعتْهم ذُرِّيَّتُهم» واحدة «بهم ذُرِّيَّاتِهم» جمعاً.
وقرأ ابن عامر: «وأَتْبعْناهم ذُرِّيَّاتِهم» «بهم ذُرِّيّاتِهم» جمعاً في الموضعين. واختلفوا في تفسيرها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها: واتَّبعتهم ذريتُهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم من المؤمنين في الجنة وإن كانوا لم يبلُغوا أعمال آبائهم تكرمةً من الله تعالى لآبائهم المؤمنين باجتماع أولادهم معهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: واتَّبعتهم ذريتُهم بإيمان، أي: بلغت أن آمنتْ، ألحقنا بهم ذُرِّيَّتهم الصِّغار الذين لم يبلُغوا الإيمان. وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. ومعنى هذا القول، أن أولادهم الكبار، تبعوهم بإيمان منهم، وأولادهم الصغار تبعوهم
__________
(1) يس: 55.
(2) البقرة: 119.
(3) الدخان: 54.(4/177)
بإيمان الآباء، لأن الولد يُحكم له بالإسلام تبعاً لوالده. والثالث: «وأتبَعْناهم ذُرِّياتهم» بإيمان الآباء فأدخلناهم الجنة، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
قوله تعالى: وَما أَلَتْناهُمْ قرأ نافع: وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم وحمزة، والكسائي: «وما ألَتْناهم» بالهمزة وفتح اللام. وقرأ ابن كثير: «ما ألِتْناهم» بكسر اللام. وروى ابن شنبوذ عن قنبل عنه «وما لتناهم» بإسقاط الهمزة مع كسر اللام. وقرأ أبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بإسقاط الهمزة مع فتح اللام. وقرأ ابن السميفع «وما آلَتْناهم» بمد الهمزة وفتحها. وقرأ الضّحّاك، وعاصم الجحدري:
«وما ولتناهم» بواو مفتوحة من غير همزة وبنصب اللام. وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل: «وما أَلَتُّهُمْ» مثل: جَعلتُهم. وقد ذكرنا هذه الكلمة في الحجرات «1» ، والمعنى: ما نَقَصْنا الآباء بما أعطَيْنا الذّرّيّة.
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي: مُرْتَهَن بعمله لا يؤاخذ أحدٌ بذَنْب أحد، وقيل: هذا الكلام يختصُّ بصفة أهل النار، وذلك الكلام قد تَمَّ.
قوله تعالى: وَأَمْدَدْناهُمْ قال ابن عباس: هي الزيادة على الذي كان لهم.
قوله تعالى: يَتَنازَعُونَ قال أبو عبيدة: أي: يتعاطَون ويتداولون: وأنشد الأخطل:
نازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الْشَّمُولِ وقَدْ ... صَاحَ الدَّجاجُ وحانَتْ وَقْعَةُ الْسّاري
قال الزَّجَّاج: يتناول هذا الكأسَ من يد هذا، وهذا من يد هذا. فأمّا الكأس فقد شرحناها في الصافات «2» .
قوله تعالى: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «لا لَغْوَ فيها ولا تأثيمَ» نصباً، وقرأ الباقون: «لا لَغْوٌ فيها ولا تأثيمٌ» رفعاً منوَّناً، قال ابن قتيبة: أي لا تَذهبُ بعقولهم فيَلْغُوا ويَرْفُثوا فيأثموا كما يكون ذلك في خمر الدنيا. وقال غيره: التأثيم: تفعيل من الإثم، يقال: آثمه: إذا جعله ذا إثم.
والمعنى أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ في الحُسن والبياض لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي: مصونٌ لمْ تَمَسَّه الأيدي.
(1350) وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقيل: يا نبيَّ الله، هذا الخادم، فكيف المخدوم؟ فقال: «إنَّ فَضْل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» .
قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قال ابن عباس: يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من الخوف والتعب، وهو قوله: قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا أي: في دار الدنيا مُشْفِقِينَ أي: خائفين من العذاب، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ أي: عذاب النار. وقال الحسن:
السَّموم من أسماء جهنم. وقال غيره: سَموم جهنم، وهو ما يوجد من نَفْحها وَحرِّها، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ أي: نوحِّده ونُخْلِص له إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ وقرأ نافع والكسائي: «أنَّه» بفتح الهمزة. وفي معنى «البَرِّ» ثلاثة أقوال: أحدها: الصادق فيما وعد، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: اللطيف، رواه
__________
ضعيف جدا. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 3012 والطبري 3237 من طريق معمر عن قتادة مرسلا، وبصيغة التمريض. وعامة مراسيل قتادة في التفسير إنما هي عن الحسن، ومراسيل الحس واهية.
__________
(1) الحجرات: 140.
(2) الصافات: 45.(4/178)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عَمَّ بِبِرِّه جميع خَلْقه، قاله أبو سليمان الخطابي.
[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 34]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)
قوله تعالى: فَذَكِّرْ أي: فَعِظ بالقرآن فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي: بإنعامه عليك بالنبوَّة بِكاهِنٍ وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويُخْبِر عمّا في غد من غير وحي. والمعنى: إنما تَنْطِق بالوحي لا كما يقول فيك كفار مكة. أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ أي: هو شاعر. وقال أبو عبيدة: «أم» بمعنى «بل» ، قال الأخطل:
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلام مِنَّ الرَّبابِ خَيالاَ
لم يستفهم، إنما أوجب أنه رأى. قوله تعالى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ فيه قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس. والثاني: حوادث الدهر، قاله مجاهد، قال ابن قتيبة: حوادث الدهر وأوجاعه ومصائبه، و «المَنون» الدهر، قال أبو ذؤيب:
أمِنَ المَنُونِ ورَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... والدَّهْرُ ليْسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
هكذا أنشدنَاه أصحابُ الأصمعيّ عنه، وكان يذهب إلى أن المَنونَ الدَّهْرُ، قال: وقوله «والدَّهْرُ ليس بمُعْتِبٍ» يدُلُّ على ذلك، كأنه قال: «أمِنَ الدِّهْرُ ورَيْبِهِ تتَوَجَّعُ؟!» قال الكسائيُّ: العرب تقول: لا أكلِّمك آخِرَ المَنون، أي: آخِرَ الدَّهْر.
قوله تعالى: قُلْ تَرَبَّصُوا أي: انتظِروا بي ذلك فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي: من المُنتظِرين عذابَكم، فعُذِّبوا يومَ بدر بالسيف. وبعض المفسرين يقول: هذا منسوخ بآية السيف، ولا يصح، إِذ لا تضادّ بين الآيتين. قوله تعالى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا قال المفسرون: كانت عظماء قريش توصَف بالأحلام، وهي العُقول، فأزرى اللهُ بحُلومهم، إذ لم تُثمِر لهم معرفةَ الحق من الباطل. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومِك لم يؤمِنوا وقد وصفهم اللهُ تعالى بالعُقول؟! فقال: تلك عُقول كادها بارئُها، أي:
لمْ يَصْحَبْها التَّوفيقُ.
وفي قوله: أَمْ تَأْمُرُهُمْ وقوله أَمْ هُمْ قولان: أحدهما: أنهما بمعنى «بل» قاله أبو عبيدة.
والثاني: بمعنى ألف الاستفهام، قاله الزجاج: قال: والمعنى: أتأمُرُهم أحلامُهم بترك القَبول ممَّن يدعوهم إلى التوحيد ويأتيهم على ذلك بالدَّلائل، أم يكفُرون طُغياناً وقد ظهر لهم الحق؟! وقال ابن قتيبة: المعنى: أم تدُلُّهم عقولُهم على هذا؟! لأن الحِلم يكون بالعقل، فكني عنه به.
قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي افتَعَل القرآنَ من تِلقاء نَفْسه؟ والتَّقوُّل: تكلُّف القول، ولا يستعمل إلاّ في الكذب بَلْ أي ليس الأمر كما زعموا لا يُؤْمِنُونَ بالقرآن استكباراً. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ في نَظْمه وحُسن بيانه. وقرأ أبو رجاء وأبو نهيك ومورّق العجلي وعاصم الجحدري:
«بحديثِ مِثْلِه» بغير تنوين إِنْ كانُوا صادِقِينَ أنّ محمّدا تقوّله.(4/179)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
[سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 43]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فيه أربعة أقوال: أحدها: أَمْ خُلقوا من غير ربٍّ خالق؟
والثاني: أَمْ خُلقوا من غير آباءٍ ولا أُمَّهات، فهم كالجماد لا يعقِلون؟ والثالث: أَمْ خُلقوا من غير شيء كالسماوات والأرض؟ أي: إنهم ليسوا بأشَدَّ خَلْقاً من السماوات والأرض. لأنها خُلقت من غير شيء، وهم خُلقوا من آدم، وآدم من تراب. والرابع: أَمْ خُلقوا لغير شيء؟ فتكون «مِنْ» بمعنى اللام.
والمعنى: ما خُلقوا عَبَثاً فلا يؤمَرون ولا يُنْهَون. قوله تعالى: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ فلذلك لا يأتمرون ولا ينتهون؟ لأن الخالق لا يؤمر ولا يُنهى.
قوله تعالى: بَلْ لا يُوقِنُونَ بالحق، وهو توحيدُ الله وقدرته على البعث.
قوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: المطر والرِّزق، قاله ابن عباس.
والثاني: النُّبوَّة، قاله عكرمة. والثالث: عِلْم ما يكون من الغيب، ذكره الثعلبي، وقال الزجاج: المعنى:
أعندهم ما في خزائن ربِّك من العِلْم، وقيل: من الرِّزق، فهم مُعْرِضون عن ربِّهم لاستغنائهم؟!. قوله تعالى: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ قرأ ابن كثير: «المُسيطِرونَ» بالسين. وقال ابن عباس: المسلَّطون. قال أبو عبيدة: «المصيطرون» : الأرباب. يقال تسيطرت عليّ، اتَّخذتَني خَوَلاً، قال: ولم يأت في كلام العرب اسم على «مُفَيْعِل» إلا خمسة أسماء: مُهَيْمِن، ومُجَيْمِر ومُسَيْطِر ومُبَيْطِر ومُبَيْقِر. فالمُهيْمن: الله الناظر المُحصي الذي لا يفوته شيء. ومُجَيْمر: جبل: والمُسَيْطِر: المسلَّط ومُبَيْطِر: بَيْطار والمُبَيْقِر: الذي يخرُج من أرض إلى أرض، يقال: بَيْقَرَ: إذا خرج من بلد إلى بلد، قال امرؤ القيس:
أَلا هَلْ أَتاهَا والحوادِثُ جَمَّةٌ ... بأنَّ امْرأَ القَيْس بنَ تَمْلِك بَيْقَرا؟
قال الزجّاج: المسيطِرون: الأرباب المسلَّطون، يقال: قد تسيطر علينا وتصيطر: بالسين والصاد، والأصل السين، وكل سين بعدها طاء، فيجوز أن تُقلب صاداً، تقول: سطر وصطر، وسطا علينا وصطا. قال المفسرون: معنى الكلام: أم هم الأرباب فيفعلون ما شاؤوا ولا يكونون تحت أمر ولا نهى؟! قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ أي: مَرْقَىً ومصْعدٌ إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي: عليه الوحي، كقوله: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «1» ، فالمعنى: يستمِعونَ الوحي فيعلمون أنَّ ما هُم عليه حق فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ إِن ادَّعى ذلك بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي، بحُجَّة واضحة كما أتى محمد بحُجَّة على قوله. أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ هذا إنكار عليهم حين جَعلوا لله البنات. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي: هل سألتهم أجراً على ما جئتَ به، فأثقلهم ذلك الذي تطلبه منهم فمنعهم عن الاسلام؟ والمَغْرمَ بمعنى الغُرْم، وقد شرحناه في براءة «2» .
__________
(1) طه: 71.
(2) التوبة: 98.(4/180)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
قوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ هذا جواب لقولهم: «نَتربَّص به ريْبَ المَنون» والمعنى: أعندهم الغيب؟ وفيه قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه ويخبِرون الناس. قاله ابن عباس. والثاني: أعندهم عِلْم الغيب فيَعلمون أنّ محمّدا يموت قبلهم فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي، يحكُمون فيقولون: سَنقْهَرُك. والكتاب: الحكم.
(1351) ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «سأقضي بينكما بكتاب الله» أي: بحُكم الله عزّ وجلّ وإلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة.
قوله تعالى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً وهو ما كانوا عزموا عليه في دار النَّدوة وقد شرحنا ذلك في قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» ومعنى هُمُ الْمَكِيدُونَ هم المجزيّون بكيدهم، ولأنّ ضرر ذلك عاد عليهم فقُتلوا ببدر وغيرها. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ أي ألَهُم إله يرزقهم ويحفظهم غيرُ الله؟ والمعنى أن الأصنام ليست بآلهة لأنها لا تنفع ولا تدفع. ثم نزَّه نَفْسه عن شرِكهم بباقي الآية.
[سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
ثم ذكر عنادهم فقال: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً والمعنى: لو سقط بعضُ السماء عليهم، لَمَا انتهوا عن كفرهم، ولَقالوا: هذه قطعة من السّحاب قد ركم بعضُه على بعض. فَذَرْهُمْ أي خَلِّ عنهم حَتَّى يُلاقُوا قرأ أبو جعفر «يَلْقَوا» بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف يَوْمَهُمُ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم موتهم. والثاني: يوم القيامة. والثالث: يوم النَّفخة الأولى. قوله تعالى:
يُصْعَقُونَ قرأ عاصم، وابن عامر: «يُصْعَقُون» برفع الياء، من أصعَقَهم غيرُهم، والباقون بفتحها، من صعقوا هم. وفي قوله: يُصْعَقُونَ قولان: أحدهما: يموتون. والثاني: يغشى عليهم، كقوله: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً «2» ، وهذا يخرج على قول من قال: هو يوم القيامة، فإنهم يُغْشى عليهم من الأهوال.
وذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا يصح، لأن معنى الآية الوعيد. قوله تعالى:
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً هذا اليوم الأول: والمعنى: لا ينفعهم مكرهم، ولا يدفع عنهم العذاب وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي: يُمْنعون من العذاب: قوله تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي: قبْل ذلك اليوم وفيه أربعة أقوال «3» : أحدها: أنه عذاب القبر، قاله البراء، وابن عباس.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2724 و 6633 ومسلم 1697 ومالك 2/ 882 من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في أثناء خبر العسيف. وتقدم في سورة النساء والنور.
__________
(1) الأنفال: 30. [.....]
(2) الأعراف: 143.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 499: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال، إن الله تعالى ذكره أخبر أن للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم به عذابا دون يومهم الذي فيه يصعقون، وذلك يوم القيامة، فعذاب القبر دون عذاب يوم القيامة، لأنه في البرزخ، والجوع الذي أصاب كفار قريش، والمصائب التي تصيبهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم دون يوم القيامة. ولم يخصص الله نوعا من ذلك أنه لهم دون يوم القيامة دون نوع بل عمّ، فكل ذلك لهم عذاب.(4/181)
والثاني: عذاب القتل يوم بدر، وروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل. والثالث: مصائبهم في الدنيا، قاله الحسن، وابن زيد. والرابع: عذاب الجوع، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: لا يعلمون ما هو نازلٌ بهم. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: لما يحكُم به عليك فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا قال الزجّاج: فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، فلا يصِلون إلى مكروهك. وذكر المفسرون: أن معنى الصبر نُسخ بآية السيف، ولا يصح، لأنه لا تضادَّ. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ فيه ستة أقوال: أحدها: صلِّ لله حين تقوم من منامك، قاله ابن عباس. والثاني:
قُلْ: سبحانك اللهمَّ وبحمدك حين تقوم من مجلسك، قاله عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد في آخرين.
والثالث: قل: سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جُّدك ولا إله غيرك حين تقوم في الصلاة، قاله الضحاك. والرابع: سبِّح الله إذا قُمْت من نومك، قاله حسّان بن عطيّة. والخامس: صلِّ صلاة الظُّهر إذا قُمْت من نوم القائلة، قاله زيد بن أسلم. والسادس: اذْكُر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخُل في الصلاة، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ قال مقاتل: صلِّ المغرب وصلِّ العِشاء وَإِدْبارَ النُّجُومِ قرأ زيد عن يعقوب، وهارون عن أبي عمرو، والجعفي عن أبي بكر: «وأدبار النُّجوم» بفتح الهمزة وقرأ الباقون بكسرها وقد شرحناها في «ق» «1» والمعنى: صلِّ له في إدبار النجوم، أي: حين تُدْبِر، أي: تغيب بضَوء الصُّبح. وفي هذه الصلاة قولان:
(1352) أحدهما: أنها الرَّكعتان قَبْل صلاة الفجر، رواه عليّ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وهو قول الجمهور. والثاني: أنها صلاة الغداة، قاله الضّحّاك، وابن زيد.
__________
لم أقف عليه في شيء من كتب الحديث والتفسير، فهو لا شيء لخلوه عن كتب الأصول.
وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 152 لأبي هريرة قوله، ونسبه لابن مردويه.
__________
(1) ق: 40.(4/182)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
سورة النّجم
وهي مكّيّة بإجماعهم، إلّا أنه قد حكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إِلا آية منها، وهي الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ «1» وكذلك قال مقاتل (1353) قال: وهذه أول سورة أعلنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكّة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى هذا قسم. وفي المراد بالنجم خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه الثُّريّا، رواه العوفي عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن قتيبة: والعرب تسمي الثريا- وهي ستة أنجُم- نجماً. وقال غيره: هي سبعة، فستة ظاهرة، وواحد خفي يمتحن به الناسُ أبصارَهم.
والثاني: الرُّجوم من النُّجوم، يعني ما يرمى به الشياطين، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنه القرآن نزل نجوماً متفرِّقة، قاله عطاء عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد. وقال مجاهد: كان ينزل نجوماً ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك. والرابع: نجوم السماء كُلِّها، وهو مروي عن مجاهد أيضاً.
والخامس: أنها الزُّهَرةُ: قاله السدي.
فعلى قول من قال: النجم: الثريا، يكون «هوى» بمعنى «غاب» ومن قال: هو الرُّجوم، يكون هُوِيُّها في رمي الشياطين، ومن قال: القرآن، يكون معنى «هوى» : نزل، ومن قال: نجوم السماء كلِّها، ففيه قولان: أحدهما: أن هُوِيَّها أن تغيب. والثاني: أن تنتثر يوم القيامة.
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلَّها بفتح أواخر آياتها. وقرأ أبو عمرو ونافع بين الفتح والكسر. وقرأ حمزة والكسائي ذلك كلَّه بالإمالة.
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية. وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 153 لابن مردويه عن ابن مسعود، وابن مردويه يروي الواهيات والموضوعات.
__________
(1) النجم: 32.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 504: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن أبي نجيح عن مجاهد، من أنه عني بالنجم في هذا الموضع: الثريا، وذلك أن العرب تدعوها النجم.(4/183)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
قوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ هذا جواب القَسَم والمعنى: ما ضَلَّ عن طريق الهُدى، والمراد به: رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي: ما يتكلَّم بالباطل. وقال أبو عبيدة: «عن) بمعنى الباء.
وذلك أنهم قالوا: إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه. إِنْ هُوَ أي: ما القرآنُ إِلَّا وَحْيٌ من الله يُوحى وهذا ممّا يحتجّ به من لا يجيز للنبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يجتهد، وليس كما ظنُّوا، لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي، جاز أن ينسب إلى الوحي.
[سورة النجم (53) : الآيات 5 الى 18]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)
قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل عليه السلام علّم النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال ابن قتيبة: وأصل هذا من «قُوَى الحَبْل» وهي طاقاتُه، الواحدة: قُوَّةٌ ذُو مِرَّةٍ أي: ذو قُوَّة، وأصل المِرَّة: الفَتْلُ. قال المفسرون: وكان من قُوَّته أنه قلع قَرْيات لوط وحملها على جناحه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين. قوله تعالى: فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى فيه قولان: أحدهما: فاستوى جبريل، (وهو) يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لمّا أُسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله الفرّاء. والثاني:
فاستوى جبريل، و (هو) يعني جبريل. بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية.
(1354) لأنه كان يتمثّل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجُل، وأحبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يراه على حقيقته، فاستوى في أفق المَشْرِق، فملأ الأفق. فيكون المعنى: فاستوى جبريلُ بالأفق الأعلى في صورته، هذا قول الزجَّاج. قال مجاهد: والأفق الأعلى: هو مَطْلِع الشمس. وقال غيره: إنما قيل له: «الأعلى» لأنه فوق جانب المَغْرب في صعيد الأرض لا في الهواء.
قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى قال الفراء: المعنى: ثم تَدلَّى فدنا، ولكنه جائز أن تقدِّم أيَّ الفعلين شئتَ إذا كان المعنى فيهما واحداً، فتقول: قد دنا فقَربُ، وقَرُبَ فدنا، وشتم فأساء، وأساء فشتم، ومنه قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «1» ، المعنى- والله أعلم-: انشق القمر واقتربت الساعة. قال
__________
ساقه المصنف بمعناه. ورد من حديث مسروق عن عائشة: أخرجه البخاري 3235 ثنا أبي أسامة ثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشرع به. وأخرجه مسلم 177 ح 290 والطبري 32450 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 921 وأبو عوانة 1/ 155 من طريق أبي أسامة بهذا الإسناد. وأخرجه البخاري 4612 و 4855 و 7380 و 7531 ومسلم 177 ح 189 وأحمد 6/ 49 وأبو عوانة 1/ 154 من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي به. وأخرجه مسلم 177 ح 287 و 288 والترمذي 3068 والنسائي في «التفسير» 428 و 552 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 221- 224 وأبو يعلى 4900 وابن حبان 60 والطبري 32475 وابن مندة في «الإيمان» 763 و 766 وأبو عوانة 1/ 153 و 154 من طرق عن داود بن أبي هند عن الشعبي به. وأخرجه الترمذي 3278-
__________
(1) القمر: 1.(4/184)
ابن قتيبة، المعنى: تَدلَّى فدنا، لأنه تَدَلَّى للدُّنُوِّ، ودنا بالتَّدلِّي، وقال الزجاج: دنا بمعنى قَرُبَ، وتدلى:
زاد في القُرْب، ومعنى اللفظتين واحد. وقال غيرهم: أصل التَّدَلِّي: النُّزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوُضع موضع القُرْب. وفي المشار إليه بقوله: «ثُمَّ دنا» ثلاثة أقوال «1» : أحدها، أنه الله عزّ وجلّ.
(1355) روى البخاري ومسلم في الصحيحين. من حديث شريك بن أبي نَمِر عن أنس بن مالك قال: دنا الجبّار ربُّ العِزَّة فتدلَّى حتى كان منه قابَ قوسين أو أدنى.
(1356) وروى أبو سلمة عن ابن عباس: «ثم دنا» قال: دنا ربُّه فتدلَّى.
وهذا اختيار مقاتل. قال: دنا الرَّبُّ من محمد ليلةَ أُسْرِي به، فكان منه قابَ قوسين أو أدنى. وقد كشفتُ هذا الوجه في كتاب المُغْني وبيَّنتُ أنه ليس كما يخطُر بالبال من قُرب الأجسام وقطع المسافة، لأن ذلك يختص بالأجسام، والله منزَّه عن ذلك. والثاني: أنه محمد دنا من ربِّه، قاله ابن عباس، والقرظي. والثالث: أنه جبريل. ثم في الكلام قولان: أحدهما: دنا جبريلُ بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: دنا جبريلُ من ربّه عزّ وجلّ فكان منه قابَ قوسين أو أدنى، قاله مجاهد.
قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين: «فكان قاد قوسين» بالدال.
وقال أبو عبيدة: القابُ والقادُ: القَدْر. وقال ابن فارس: القابُ: القدر. ويقال: بل القاب: ما بين
__________
من طريق مجالد عن الشعبي به. وأخرجه البخاري 3234 من طريق ابن عون عن القاسم عن عائشة به.
وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 225 من طريق أبي معشر عن إبراهيم عن مسروق به. وأخرجه أبو عوانة 1/ 155 من طريق بيان عن قيس عن عائشة به. ولفظ البخاري برقم 3235: عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: فأين قوله: ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، قالت: ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل، وإنما أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسدّ الأفق.
شاذ، أخرجه البخاري 7517 ومسلم 162 ح 262 كلاهما من طريق شريك بن أبي نمر عن أنس، وشريك متكلم فيه، وقد تفرد في حديث الإسراء بعشرة أشياء لم يتابع عليها، ومنها هذه العبارة، وهي من منكراته.
انظر ما ذكره الحافظ في «الفتح» 13/ 480- 483.
صحيح. أخرجه مسلم 176 ح 286 والنسائي في «التفسير» 555 والطبري 32466 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه مسلم 176 ح 285 عن ابن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج به. وأخرجه الترمذي 3280 وابن خزيمة ص 200 والطبري 32489 وابن حبان 57 والطبراني 10727 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 933 من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن ابن عباس.
__________
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 293: وقوله: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد صلّى الله عليه وسلم قاب قوسين أي بقدرهما إذا مدّا. وهو قول عائشة، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة. وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربّه بفؤاده مرتين فجعل هذه إحداهما وحديث شريك عن أنس في حديث الإسراء: «ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى» تكلم الناس في متن هذه الرواية وذكروا أشياء فيها من الغرابة فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه الآية كانت ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء، ولهذا قال بعده:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى فهذه ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.(4/185)
المَقْبِض والسِّية، ولكل قوس قابان. وقال ابن قتيبة: سِيَة القَوْس: ما عُطِفَ من طَرَفيْها. وفي المراد بالقوسين قولان: أحدهما: أنها القوس التي يُرمى بها، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة، فقال: قَدْر قوسين، وقال الكسائي: أراد بالقوسين: قوساً واحداً. والثاني: أن القوس: الذراع: فالمعنى: كان بينهما قَدْر ذراعين، حكاه ابن قتيبة وهو قول ابن مسعود، وسعيد بن جبير، والسدي. قال ابن مسعود: دنا جبريل منه حتى كان قَدْرَ ذراع أو ذراعين.
قوله تعالى: أَدْنى فيه قولان: أحدهما: أنها بمعنى «بل» ، قاله مقاتل. والثاني: أنهم خوطبوا على لغتهم، والمعنى: كان على ما تقدِّرونه أنتم قَدْرَ قوسين أو أقلَّ، هذا اختيار الزجّاج.
قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أَوْحى اللهُ إلى محمد كِفاحاً بلا واسطة، وهذا على قول من يقول: إنه كان في ليلة المعراج. والثاني: أوحى جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ما أَوحى اللهُ إليه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أَوحى اللهُ إلى جبريل ما يوحيه، روي عن عائشة رضي الله عنها، والحسن، وقتادة.
قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قرأ أبو جعفر، وهشام عن ابن عامر، وأبان عن عاصم: «ما كَذَّب» بتشديد الذّال، وقرأ الباقون بالتخفيف. فمن شدَّد أراد: ما أَنكر فؤادُه ما رأته عينُه ومن خفَّف أراد: ما أوهمه فؤادُه أنه رأى، ولم ير بل صَدَّقَ الفؤاد رؤيته. وفي الذي رأى قولان «1» : أحدهما: أنه رأى ربّه عزّ وجلّ، قاله ابن عباس وأنس والحسن وعكرمة. والثاني: أنه رأى جبريلَ في صورته التي خُلق عليها، قاله ابن مسعود وعائشة. قوله تعالى: أَفَتُمارُونَهُ قرأ حمزة والكسائي والمفضل وخلف ويعقوب: «أفَتمْروُنه» . قال ابن قتيبة: معنى «أفَتُماروُنه» : أفتُجادِلونه، مِن المِراء، ومعنى «أفتَمْرُونه» :
أفَتَجْحدونه. قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قال الزجّاج: أي رآه مَرَّةً أُخرى. قال ابن عباس: رأى محمدٌ ربَّه وبيان هذا أنه تردَّد لأجل الصلوات مراراً، فرأى ربَّه في بعض تلك المرّات مَرَّةً أُخرى. قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى، فرآه محمد مرتين، وكلَّمه موسى مرتين.
(1357) وقد روي عن ابن مسعود أن هذه الرؤية لجبريل أيضاً، رآه على صورته التي خُلق عليها. فأمّا سِدْرة المُنتهى فالسِّدْرة: شجرة النَّبِق.
(1358) وقد صح في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «نَبِقُها مِثْلُ قِلال هَجَر، ووَرَقُها مثل آذان الفيلة» . وفي مكانها قولان:
__________
حديث صحيح. أخرجه البخاري 4856 ومسلم 174 ح 281 والترمذي 3277 والنسائي في «التفسير» 554 و 560 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 20 و 203 وأبو عوانة 1/ 153 من طرق عن الشيباني به. وأخرجه الترمذي 3283 وابن خزيمة ص 204 والحاكم 2/ 468- 469 وابن حبان 59 وأحمد 1/ 494 و 418 من طرق عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود به. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
صحيح. أخرجه البخاري 7517 ومسلم 162 ح 262 وقد تقدم في سورة الإسراء.
__________
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 295: رواية إطلاق الرؤية عن ابن عباس محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم.(4/186)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
(1359) أحدهما: أنها فوق السماء السابعة، وهذا مذكور في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة. قال مقاتل: وهي عن يمين العرش.
(1360) والثاني: أنها في السماء السادسة، أخرجه مسلم في أفراده عن ابن مسعود، وبه قال الضحاك.
قال المفسرون: وإنما سُمِّيتْ سِدْرة المُنتهى، لأنه إليها مُنتهى ما يُصْعَد به من الأرض، فيُقْبَض منها، وإليها ينتهي ما يُهبْطَ به من فوقها فيُقْبَض منها، وإليها ينتهي عِلْم جميع الملائكة.
قوله تعالى: عِنْدَها وقرأ معاذ القارئ وابن يعمر وأبو نهيك: «عِنْدَهُ» بهاءٍ مرفوعة على ضمير مذكَّر جَنَّةُ الْمَأْوى قال ابن عباس: هي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة. وقال الحسن: هي التي يصير إليها أهل الجنة. وقال مقاتل: هي جَنَّة إليها تأوي أرواح الشهداء. وقرأ سعيد بن المسيّب والشعبي وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو العالية: «جَنَّهُ المأوى» بهاءٍ صحيحة مرفوعة. قال ثعلب:
يريدون أَجنَّهُ، وهي شاذَّة. وقيل: معنى «عندها» : أدركه المبيت يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى.
(1361) روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: غَشِيَها فَراشٌ مِنْ ذهب.
(1362) وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لمّا غَشِيَها مِنْ أمْر الله ما غَشِيَها، تغيَّرتْ، فما أحدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يستطيع أن يَصِفها مِنْ حُسْنها» . وقال الحسن ومقاتل: تَغْشاها الملائكةُ أمثالَ الغِرْبان حين يَقَعْنَ على الشجرة. وقال الضحاك: غَشِيها نور ربِّ العالمين.
قوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما عدل بصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يميناً ولا شِمالاً وَما طَغى أي ما زاد ولا جاوز ما رأى: وهذا وصف أدبه صلّى الله عليه وسلم في ذلك المقام. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى فيه قولان «1» :
أحدهما: لقد رأى من آياتِ ربِّه العِظامِ. والثاني: لقد رأى من آيات ربِّه الآية الكُبرى. وللمفسرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سَدَّ الأفق، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات، قاله ابن زيد. والثالث:
أنه رأى من أعلام ربِّه وأدلَّته الأعلامَ والأدلةَ الكبرى، قاله ابن جرير.
[سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 26]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26)
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3207 ومسلم 1/ 149 والطبري 32287 عن أنس بن مالك بن صعصعة مرفوعا، وفي أثناء حديث الإسراء المطوّل وتقدّم في أول سورة الإسراء.
صحيح. أخرجه مسلم 173 من حديث ابن مسعود.
صحيح. أخرجه مسلم 173 من حديث ابن مسعود.
انظر الحديث المتقدم 1359.
__________
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 298 وقوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى كقوله: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا أي:
الدالة على قدرتنا وعظمتنا. وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع، لأنه قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس.(4/187)
قال الزجاج: فلمّا قَصَّ اللهُ تعالى هذه الأقاصيص قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى المعنى: أخبِرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها هل لها من القُدرة والعظمة التي وُصف بها ربُّ العِزَّة شيءٌ؟!. فأمّا «اللاّت» فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وهو اسم صنم كان لثقيف اتَّخذوه مِن دون الله، وكانوا يَشتقُّون لأصنامهم من أسماء الله تعالى فقالوا من «الله» : اللات: ومن «العزيز» : العُزَّى. قال أبو سليمان الخطابي: كان المشركون يتعاطَون «الله» اسماً لبعض أصنامهم، فصرفه الله إلى اللاّت صيانةً لهذا الاسم وذَبّاً عنه. وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك وابن السميفع ومجاهد وابن يعمر والأعمش، وورش عن يعقوب: «اللاتّ» بتشديد التاء ورد في تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد أن رجلاً كان يلُتُّ السَّويق للحاجّ، فلمّا مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقال الزجاج: زعموا أن رجلاً كان يلُتُّ السَّويق ويبيعه عند ذلك الصنم، فسمّي الصّنم: اللّات. وكان الكسائيّ يقف عليها بالهاء، فيقول: «اللّاه» وهذا قياس، والأجود الوقف بالتاء، لاتباع المصحف. وأما «العُزَّى» ففيها قولان: أحدهما: أنها شجرة لغطفان كانوا يعبدونها، قاله مجاهد. والثاني: صنم لهم، قاله الضحاك.
قال: وأمّا «مَناةَ» فهو صنم لهُذَيل وخُزاعة يعبُده أهلُ مكة. وقال قتادة: بل كانت للأنصار. وقال أبو عبيدة: كانت اللاّت والعُزَّى ومَناة أصناماً من حجارة في جوف الكعبة يعبدونها. وقرأ ابن كثير:
«ومَناءَةَ» ممدودة مهموزة. فأمّا قوله: الثَّالِثَةَ فانه نعت ل «مَناة» ، هي ثالثة الصنمين في الذِّكر، و «الأُخرى» نعت لها. قال الثعلبي: العرب لا تقول للثالثة: الأُخرى، وإنما الأُخرى نعت للثانية فيكون في المعنى وجهان: أحدهما: أن ذلك لِوِفاق رؤوس الآية، كقوله مَآرِبُ أُخْرى «1» ولم يقل، أُخَر، قاله الخليل. والثاني: أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره: أفرأيتم اللاّت والعُزَّى الأخرى ومَناة الثالثة، قاله الحسين بن الفضل.
قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ قال ابن السائب: إن مشركي قريش قالوا للأصنام والملائكة: بناتُ الله، وكان الرجُل منهم إذا بُشِّر بالأُنثى كرِه، فقال الله تعالى مُنْكِراً عليهم: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟
يعني الأصنام وهي إناث في أسمائها. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي: «ضِيزى» بكسر الضاد من غير همز وافقهم ابن كثير في كسر الضاد لكنه همز. وقرأ أُبيُّ بن كعب ومعاذ القارئ: «ضَيْزى» بفتح الضاد من غير همز. قال الزجاج: الضِّيزى في كلام العرب: الناقصةُ الجائرة، يقال: ضازه يَضِيزُه: إذا نقصه حَقَّه، ويقال: ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز. وأجمع النحويُّون أن أصل ضِيزَى: ضُوزًى، وحُجَّتُهم أنها نُقلت من «فُعْلى» من ضْوزى إلى ضِيزى، لتَسلم الياء، كما قالوا: أبيض وبِيْض، وأصله: بُوضٌ، فنُقلت الضَّمَّة إلى الكسرة. وقرأت على بعض العلماء باللُّغة: في «ضيزى» لغات يقال: ضِيزَى وضُوزَى وضُؤْزَى وضأزى على «فعلى» مفتوحة ولا يجوز
__________
(1) طه: 18.(4/188)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
في القرآن إلاّ «ضِيزى» بياءٍ غير مهموزة وإنما لم يقُل النحويُّون: إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام «فِعْلى» صفة، إنما يعرفون الصِّفات على «فَعْلَى» بالفتح، نحو سَكُرَى وغَضْبى، أو بالضم نحو حُبْلى وفُضْلى.
قوله تعالى: إِنْ هِيَ يعني الأوثان إِلَّا أَسْماءٌ والمعنى: إن هذه الأوثان التي سمَّوها بهذه الأسامي لا معنى تحتها، لأنها لا تضر ولا تنفع، فهي تسميات أُلقيت على جمادات، ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: لم يُنزل كتاباً فيه حُجّة بما يقولون: إِنها آلهة. ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد الخطاب لهم فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ في أنها آلهة إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وهو ما زيَّن لهم الشيطان، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى وهو البيان بالكتاب والرسول، وهذا تعجيب من حالهم إذ لم يتركوا عبادتها بعد وُضوح البيان. ثم أنكر عليهم تَمنِّيهم شفاعتَها فقال: أَمْ لِلْإِنْسانِ يعني الكافر ما تَمَنَّى من شفاعة الأصنام فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي لا يَملك فيهما أحد شيئاً إلاّ بإذنه، ثم أكَّد هذا بقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً فجمع في الكناية، لأن معنى الكلام الجمع إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى والمعنى أنهم لا يَشفعون إلاّ لِمن رضي الله عنهم.
[سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وذلك حين زعموا أنها بنات الله، وَما لَهُمْ بذلك مِنْ عِلْمٍ أي ما يَستيقِنون أنها إناث إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي لا يقوم مقامَ العِلْم فالحقُّ هاهنا بمعنى العِلْم. فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا يعني القرآن، وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف. قوله تعالى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قال الزجّاج: إنَّما يعلمون ما يحتاجون إليه في معايشهم، وقد نبذوا أمر الآخرة. قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الآية: والمعنى أنه عالِمٌ بالفريقين فيجازيهم.
[سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هذا إِخبار عن قُدرته وسَعَة مُلكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا لأن اللام في «ليجزي» متعلقة بمعنى الآية الأولى، لأنه إِذا كان أعلم بهما جازى كُلاًّ بما يستحقُّه، وهذه لام العاقبة، وذلك أن عِلْمه بالفريقين أدَّى إلى جزائهم باستحقاقهم، وإِنما يَقْدِر على مُجازاة الفريقين إذا كان واسع المُلك، فلذلك أخبر به في قوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. قال المفسرون: و «أساؤوا» بمعنى أشركوا، و «أحسنوا»(4/189)
بمعنى وحَّدوا. والحُسنى: الجنَّة. والكبائر مذكورة في سورة النساء «1» . وقيل: كبائر الإثم. كُلُّ ذَنْب خُتم بالنّار، والفواحش كُلُّ ذَنْب فيه الحدّ. وقرأ حمزة والكسائي والمفضل وخلف: «يَجْتَنِبون كبِيرَ الإثم» واللَّمم في كلام العرب: المُقارَبة للشيء. وفي المراد به هاهنا ستة أقوال: أحدها: ما أَلمُّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية، فإنه يُغْفَر في الإسلام، قاله زيد بن ثابت. والثاني: أن يُلِمَّ بالذَّنْب مَرَّةً ثم يتوب ولا يعود، قاله ابن عباس والحسن والسدي. والثالث: أنه صِغار الذُّنوب، كالنَّظرة والقُبلة وما كان دون الزِّنا، قاله ابن مسعود وأبو هريرة والشعبي ومسروق.
(1363) ويؤيِّد هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنا، فزِنا العينين النَّظر، وزِنا اللسان النُّطق، والنفس تشتهي وتتمنَّى، ويصدِّق ذلك ويكذِّبه الفَرْج» ، فإن تقدَّم بفَرْجه كان الزِّنا، وإلا فهو اللَّمم.
والرابع: أنه ما يَهُمُّ به الإنسان، قاله محمّد ابن الحنفية. والخامس: أنه ألَّم بالقلب، أي: خَطَر، قاله سعيد بن المسيّب. والسادس: أنه النَّظر من غير تعمُّد، قاله الحسين بن الفضل. فعلى القولين الأولين يكون الاستثناء من الجنس، وعلى باقي الأقوال ليس من الجنس..
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن عباس: لِمَن فعل ذلك ثم تاب. وهاهنا تمَّ الكلام.
ثم قال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ يعني قبل خَلْقكم إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني آدم عليه السلام وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جَنِين والمعنى أنه عَلِم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون، فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي: لا تَشهدوا لها أنَّها زكيَّة بريئة من المعاصي. وقيل: لا تمدحوها بحُسن أعمالها. وفي سبب نزول هذه الآية قولان:
(1364) أحدهما: أن اليهود كانوا إذا هلك لهم صبيّ، قالوا: صِدِّيق، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة رضي الله عنها.
والثاني: أن ناساً من المسلمين قالوا: قد صليَّنا وصُمنا وفعلنا، يُزَكُّون أنفُسَهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «2» .
قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عمل حسنة وارعوى عن معصية، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أخلص العمل لله، قاله الحسن. الثالث: اتّقى الشّرك فآمن، قاله الثّعلبي.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 6612 عن محمود بن غيلان به. وأخرجه البخاري بإثر 6243 ومسلم 2657 ح 20 وأحمد 2/ 276 وابن حبان 4420 والبيهقي 7/ 89 و 10/ 185 والواحدي 4/ 201 من طريق عبد الرزاق به.
لم أره من حديث عائشة مسندا. وورد هنا حديث ثابت بن الحارث الأنصاري، وهو ضعيف. أخرجه الواحدي 770 والطبراني 2/ 81 عن ثابت بن الحارث الأنصاري مرفوعا وفيه ابن لهيعة ضعيف الحديث، والسورة مكية ومجادلات اليهود كانت في المدينة، وانظر «تفسير الشوكاني» 2373 و «تفسير القرطبي» 5716 بتخريجنا.
__________
(1) النساء: 31.
(2) عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، فخبره لا شيء.(4/190)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 41]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(1365) أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، وكان قد تَبِع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على دينه، فعيَّره بعضُ المشركين، وقال: تركتَ دين الأشياخ وضللَّتَهم؟ قال: إنِّي خشيتُ عذابَ الله، فضَمِن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجَع إلى شِركه أن يتحمَّل عنه عذاب الله عزّ وجلّ، ففعل، فأعطاه بعضَ الذي ضَمِن له، ثم بَخِل ومنعه، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وابن زيد.
(1366) والثاني: أنه النَّضر بن الحارث أعطى بعض فقراء المسلمين خمسَ قلائص حتى ارتدَّ عن إسلامه، وضَمِن له أن يَحْمِل عنه إثمه، قاله الضحاك.
(1367) والثالث: أنه أبو جهل، وذلك أنه قال: واللهِ ما يأمُرُنا محمدٌ إلاّ بمكارم الأخلاق، قاله محمد بن كعب القرظي.
والرابع: أنه العاص بن وائل السهمي، وكان رَّبما وافق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض الأُمور، قاله السدي «1» .
ومعنى «تَولَّى» : أعرضَ عن الإيمان. وَأَعْطى قَلِيلًا فيه أربعة أقوال: أحدها: أطاع قليلاً ثم عصى. قاله ابن عباس. والثاني: أعطى قليلاً من نَفْسه بالاستماع ثم أكدى بالانقطاع. قال مجاهد.
والثالث: أعطى قليلاً من ماله ثم مَنَع، قاله الضحاك. والرابع: أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع، قاله مقاتل. قال ابن قتيبة: ومعنى «أَكْدَى» : قَطَع، وهو من كُدْية الرَّكِيَّة، وهي الصَّلابة فيها، وإذا بلغها الحافر يئس من حَفْرها، فقطع الحَفْر، فقيل لكل من طلب شيئاً فلم يبلُغ آخِرَه، أو أعطَى ولم يُتِمَّ:
أَكْدَىَ. قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى فيه قولان: أحدهما: فهو يرى حاله في الآخرة، قاله الفراء، والثاني: فهو يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وغيرها، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى يعني التوراة، وَإِبْراهِيمَ أي: وصحف إبراهيم.
(1368) وفي حديث أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أن الله تعالى أَنزل على إبراهيمَ عشر صحائف، وأنزل
__________
أخرجه الطبري 32595 عن مجاهد وبرقم 32596 عن ابن زيد، وذكره الواحدي في «الأسباب» 772 عن مجاهد وابن زيد بدون إسناد.
عزاه المصنف للضحاك، ولم أقف على إسناده، وهو مرسل، والضحاك ذو مناكير، وهذا منها، وأثر مجاهد المتقدم أصح.
عزاه المصنف للقرظي، وهذا مرسل، فهو واه.
ضعيف جدا. أخرجه ابن حبان 361 وأبو نعيم 1/ 166 من حديث أبي ذر، وإسناده ضعيف جدا، فيه-
__________
(1) عزاه المصنف للسدي، وهذا معضل، فهو واه.(4/191)
على موسى قَبْلَ التَّوراة عشر صحائف» .
قوله تعالى: الَّذِي وَفَّى قرأ سعيد بن جبير، وأبو عمران الجوني، وابن السميفع اليماني «وَفَى» بتخفيف الفاء. قال الزجاج: قوله: «وَفَّى» أبلغ من «وَفَى» لأن الذي امتُحن به مِنْ أعظمِ المِحن.
وللمفسرين في الذي وفَّى عشرة أقوال:
(1369) أحدها: أنه وفَّى عملَ يومه بأربع ركعات في أول النهار، رواه أبو أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه وفَّى في كلمات كان يقولها.
(1370) روى سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أُخْبِرُكم لِمَ سمَّى اللهُ إِبراهيمَ خليله الذي وفَّى؟ لأنه كان يقول كلمَّا أصبحَ وكلمَّا أمسى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ «1» وختم الآية.
والثالث: أنه وفَّى الطاعة فيما فعل بابنه، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال القرظي. والرابع:
أنه وفَّى ربَّه جميع شرائع الإسلام، روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس. والخامس: أنه وفَّى ما أُمر به من تبليغ الرِّسالة، روي عن ابن عباس أيضاً. والسادس: أنه عَمِل بما أُمر به، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وقال مجاهد: وفَّى ما فُرض عليه. والسابع: أنه وفَّى بتبليغ هذه الآيات، وهي: «ألاّ تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخْرى» وما بعدها، وهذا مروي عن عكرمة، ومجاهد، والنخعي. والثامن:
وفَّى شأن المناسك، قاله الضحاك. والتاسع: أنه عاهد أن لا يَسأل مخلوقاً شيئاً، فلمّا قُذف في النار قال له جبريل، ألَكَ حاجةٌ؟ فقال: أمّا إليك فلا، فوفَّى بما عاهد، ذكره عطاء بن السّائب. العاشر: أنه أدَّى الأمانة، قاله سفيان بن عيينة.
ثم بيَّن ما في صحفهما فقال: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي: لا تَحْمِل نَفْس حاملةٌ حِْملَ أُخْرى والمعنى: لا تؤخَذ بإثم غيرها. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى قال الزجّاج: هذا في صحفهما أيضاً ومعناه: ليس للإنسان إِلاّ جزاء سعيه، إِن عَمِل خيراً جُزِي عليه خيراً، وإِن عَمِل شَرّاً جزي شَرّاً.
واختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال: أحدها: أنها منسوخة بقوله:
__________
إبراهيم بن هشام الغساني، وهو متروك. وتقدم.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 32618 من طريق الحسن بن عطية عن إسرائيل. وإسناده ضعيف جدا، فيه جعفر بن الزبير متروك، والقاسم يروي مناكير عن أبي أمامة. قال الإمام أحمد: روى علي بن يزيد عن القاسم أعاجيب، ولا أراها إلا من قبل القاسم. وإسرائيل هو ابن يونس السّبيعي، والقاسم هو ابن عبد الرحمن. وقد ضعفه ابن كثير في «التفسير» 4/ 258 والسيوطي في «الدر» 186.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 32617 وأحمد 3/ 239 و 419 والطبراني في «الكبير» 20/ 192 وابن السني في «اليوم والليلة» 78 من حديث سهل بن معاذ عن أبيه مرفوعا، ومداره على زبان بن فائد، وهو ضعيف، وشيخه سهل بن معاذ روى مناكير كثيرة، وهذا منها وقال الهيثمي: في «المجمع» 10/ 107: وفيه ضعفاء وثقوا اه.
__________
(1) الروم: 17. [.....](4/192)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ «1» فأُدخل الأبناء الجَنَّة بصلاح الآباء، قاله ابن عباس، ولا يصح، لأن لفظ الآيتين لفظ خبر، والأخبار لا تُنْسَخ. والثاني: أن ذلك كان لقوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمَّة فلهم ما سَعَوا وما سعى غيرُهم، قاله عكرمة. واستدلّ بقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته:
(1371) إنَّ أبي مات ولم يحُجَّ، فقال: «حُجِّي عنه» .
والثالث: أن المراد بالإنسان هاهنا: الكافر، فأمّا المؤمن، فله ما سعى وما سُعي له، قاله الربيع بن أنس. والرابع: أنه ليس للإنسان إلاّ ما سعى من طريق العدل، فأمّا مِنْ باب الفضل، فجائز أن يزيده الله عزّ وجلّ ما يشاء، قاله الحسين بن الفضل. والخامس: أن معنى «ما سعى» : ما نوى، قاله أبو بكر الورّاق. والسادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدُّنيا، فيُثاب عليه فيها حتى لا يبقى له في الآخرة خير، ذكره الثعلبي. والسابع: أن اللام بمعنى «على» ، فتقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى. والثامن: أنه ليس له إلاّ سعيه، غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة وولد يترحم عليه وصديق، وتارة يسعى في خِدمة الدِّين والعبادة، فيكتسب محبة أهل الدِّين، فيكون ذلك سببا حصل بسعيه، حكى القولين شيخنا علي بن عبيد الله الزاغوني.
قوله تعالى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى فيه قولان: أحدهما: سوف يُعْلَم، قاله ابن قتيبة. والثاني:
سوف يرى العبدُ سعيَه يومَ القيامة، أي: يرى عمله في ميزانه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: يُجْزاهُ الهاء عائدة على السعي الْجَزاءَ الْأَوْفى أي: الأكمل الأتمّ.
[سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 55]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55)
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي: مُنتهى العباد ومَرجِعهُم. قال الزجاج: هذا كُلُّه في صحف إبراهيم وموسى. قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. قالت عائشة:
(1372) مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقوم يضحكون، فقال: «لو تَعْلَمونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكتم قليلاً، ولبَكَيتم كثيراً» ، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فرجع إليهم، فقال «ما خطَوْتُ أربعينَ خطوة حتى أتاني جبريل، فقال: إئت هؤلاء فقُل لهم: إن الله يقول: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وفي هذا تنبيه على أن جميع الأعمال بقضاء الله وقدره حتى الضحك والبُكاء. وقال مجاهد: أضْحكَ أهلَ الجَنَّة. وأبكى أهل النّار. وقال الضحاك: أضْحَك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر.
__________
هو حديث الخثعمية، خرّجه الشيخان، وتقدم.
ضعيف جدا. أخرجه الواحدي 773 من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي الإسناد مجاهيل، ودلال بنت أبي المدلّ والصهباء لم أعثر لهما على ترجمة، والله أعلم، والمتن غريب جدا.
__________
(1) الطور: 21.(4/193)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ في الدُّنيا وَأَحْيا للبعث. وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ أي: الصِّنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى من جميع الحيوانات، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى فيه قولان: أحدهما: إذا تُراق في الرَّحِم، قاله ابن السائب. والثاني: إذا تُخْلق وتُقَدَّر. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى وهي الخَلْق الثاني للبعث يوم القيامة.
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى فيه أربعة أقوال: أحدها: أغنى بالكفاية، قاله ابن عباس. والثاني: بالمعيشة، قاله الضحاك. والثالث: بالأموال، قاله أبو صالح. والرابع: بالقناعة، قاله سفيان. وفي قوله: وَأَقْنى ثلاثة أقوال: أحدها: أرْضى بما أعطى، قاله ابن عباس. والثاني: أخْدم، قاله الحسن، وقتادة. وعن مجاهد كالقولين. والثالث: جعل للإنسان قِنْيَةً، وهو أصل مال. قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى قال ابن قتيبة: هو الكوكب الذي يطْلُع بعد الجَوْزاء، وكان ناس من العرب يعبُدونها.
قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
«عاداً الأولى» منوَّنة. وقرأ نافع، وأبو عمرو: «عاداً لُولى» موصولة مدغمة. ثم فيهم قولان: أحدهما:
أنهم قوم هود، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى، هذا قول الجمهور. والثاني: أن قوم هود هم عادٌ الأخرى، وهم من أولاد عادٍ الأولى، قاله كعب الأحبار، وقال الزجاج: وفي «الأولى» لغات، أجودها سكون اللام وإثبات الهمزة، والتي تليها في الجودة ضم اللام وطرح الهمزة، ومن العرب من يقول:
لُولى، يريد: الأُولى، فتطرح الهمزة لتحرّك اللاّم.
قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي: مِن قَبْل عادٍ وثمودَ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى من غيرهم، لطول دعوة نوح إيّاهم، وعتوّهم. وَالْمُؤْتَفِكَةَ قُرى قوم لوط أَهْوى أي: أسقط، وكان الذي تولَّى ذلك جبريل بعد أن رفعها، وأتبعهم اللهُ بالحجارة، فذلك قوله: فَغَشَّاها أي: ألبسها ما غَشَّى يعني الحجارة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى هذا خطاب للإنسان، لمّا عدَّد اللهُ ما فعله ممّا يَدلُّ على وحدانيَّته قال:
فبأيِّ نِعم ربِّك التي تدُلُّ على وحدانيَّته تتشكَّك؟ وقال ابن عباس: فبأي آلاءِ ربِّك تكذِّب يا وليد، يعني الوليد ابن المغيرة.
[سورة النجم (53) : الآيات 56 الى 62]
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60)
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
قوله تعالى: هذا نَذِيرٌ فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن، نذيرٌ بما أنذرتْ الكتبُ المتقدِّمة، قاله قتادة. والثاني: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، نذيرٌ بما أنذرتْ به الأنبياءُ، قاله ابن جريج.
قوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي: دَنَت القيامة، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ فيه قولان: أحدهما:
إذا غَشِيَت الخَلْقَ شدائدُها وأهوالُها لمْ يَكْشِفها أحد ولم يرُدَّها، قاله عطاء، وقتادة، والضحاك.
والثاني: ليس لعِلْمها كاشف دونَ الله، أي: لا يَعلم عِلْمها إلاّ الله، قاله الفراء، قال: وتأنيث «كاشفة» كقوله: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ «1» يريد: مِن بقاءٍ والعافية والباقية والناهية كُلُّه في معنى المصدر.
وقال غيره: تأنيث «كاشفة» على تقدير: «نفس كاشفة» .
__________
(1) الحاقة: 8.(4/194)
قوله تعالى: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ قال مقاتل: يعني القرآن تَعْجَبُونَ تكذيباً به وَتَضْحَكُونَ استهزاءً وَلا تَبْكُونَ ممّا فيه من الوعيد؟! ويعني بهذا كفار مكة. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ فيه خمسة أقوال. أحدها:
لاهون، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الفّراء والزجّاج. قال أبو عبيدة: يقال: دَعْ عنك سُمودَك، أي: لَهْوك. والثاني: مُعْرِضون، قاله مجاهد. والثالث: أنه الغِناء، وهي لغة يمانية، يقولون: اسْمُد لنا، أي: تَغَنَّ لنا، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عكرمة: هو الغِناء بالحِمْيَريَّة. والرابع: غافلون، قاله قتادة. والخامس: أشِرون بَطِرون، قاله الضحاك.
قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ فيه قولان «1» : أحدهما: أنه سُجود التلاوة، قاله ابن مسعود. والثاني:
سُجود الفرض في الصلاة. قال مقاتل: يعني بقوله: «فاسْجُدوا» : الصلوات الخمس.
وفي قوله: وَاعْبُدُوا قولان: أحدهما: أنه التّوحيد. والثاني: العبادة.
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 172: قال علماؤنا رضي الله عنهم: لم يختلف قول مالك إن سجدة النجم ليست من عزائم القرآن، وأما ابن وهب رآها من عزائمه، وكان مالك يسجدها في خاصة نفسه.
وقال أبو حنيفة والشافعي: هي من عزائم السجود، وهو الصحيح.(4/195)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
سورة القمر
وهي مكيَّة بإجماعهم، وقال مقاتل: مكِّيَّة غير آية سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ «1» ، وحكي عنه أنه قال: إلاّ ثلاث آيات، أوّلها: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ إلى قوله: وَأَمَرُّ «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5)
(1373) قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت صادقاً فشُقَّ لنا القمر فرقتين، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن فعلتُ تؤمنون؟» قالوا: نعم، فسأل رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم ربَّه أن يُعطيَه ما قالوا، فانشقَّ القمر فرقتين، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ينادي: «يا فلان يا فلان اشْهَدوا» ، وذلك بمكة قبل الهجرة.
(1374) وقد روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث ابن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شقّتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اشْهَدوا» . وقد روى حديث الانشقاق جماعةٌ منهم: عبد الله بن عمر وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عباس وأنس بن مالك.
__________
أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 209 من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس بهذا اللفظ، وفي الطريق عن عطاء، ابن جريج، وهو مدلس، وقد عنعن، وفي الطريق عن الضحاك مقاتل. وقد ذكره السيوطي في «الدر» 6/ 177 فقال: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس بهذا اللفظ، ولم أره في «الحلية» . وضعفه الحافظ في «الفتح» 8/ 181. لكن أصل الحديث صحيح، انظر الآتي. وانظر «تفسير القرطبي» 5736 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 4864 عن مسدد به، من حديث ابن مسعود. وأخرجه البخاري 3869 و 3871 ومسلم 2800 ح 44 والترمذي 3285 وأحمد 1/ 447 والطبري 32694 وابن حبان 6495 والطبراني 9996 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 265 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه البخاري 3636 و 4865 والترمذي 3287 وأبو يعلى 4968 وأحمد 1/ 377 وأبو يعلى 4968 والبيهقي 2/ 264 والواحدي في «الوسيط» 4/ 206 من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر به. وورد من حديث جبير بن مطعم أخرجه أحمد 4/ 81- 82 وابن حبان 6497 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 268 والطبري 32705. وورد من حديث ابن عمر أخرجه مسلم
__________
(1) القمر: 45.
(2) القمر: 44- 46.(4/196)
وعلى هذا جميع المفسرين، إلاّ أن قوماً شذُّوا فقالوا: سيَنْشَقُّ يوم القيامة. وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك، وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع، ولأن قوله: وَانْشَقَّ لفظ ماض، وحَمْلُ لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل، وليس ذلك موجوداً. وفي قوله: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا» دليل على أنه قد كان ذلك. ومعنى اقْتَرَبَتِ: دنت والسَّاعَةُ القيامة. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، تقديره: انشقَّ القمر واقتربت الساعة. وقال مجاهد: انشقَّ القمر فصار فِرقتين، فثبتت فِرقة، وذهبت فِرقة وراء الجبل. وقال ابن زيد: لمّا انشقَّ القمر كان يُرى نصفُه على قُعيَقِعَانَ، والنصف الآخر على أبي قُبيس.
(1375) قال ابن مسعود: لمّا انشقَّ القمر قالت قريش: سحركم ابن أَبي كبشة، فاسألوا السُّفَّار، فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل الله عزّ وجلّ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً أي: آية تدُلُّهم على صدق الرسول، والمراد بها هاهنا: انشقاق القمر يُعْرِضُوا عن التصديق وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ فيه ثلاثة أَقوال: أحدها: ذاهبٌ، من قولهم: مَرَّ الشيءُ واستمرَّ: إذا ذهب، قاله مجاهد وقتادة والكسائي والفراء فعلى هذا يكون المعنى: هذا سِحر، والسِّحر يذهب ولا يثبت. والثاني: شديدٌ قويٌّ، قاله أبو العالية والضحاك وابن قتيبة، قال: وهو مأخوذ من المِرَّة، والمِرَّة: الفَتْل. والثالث: دائمٌ، حكاه الزجّاج.
قوله تعالى: وَكَذَّبُوا يعني كذّبوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم وما عاينوا من قُدرة الله تعالى وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ما زيَّن لهم الشيطانُ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن كُلَّ أمْر مستقِرٌّ بأهله، فالخير يستقِرُّ بأهل الخير، والشر يستقِرُّ بأهل الشر، قاله قتادة. والثاني: لكل حديثٍ مُنتهىً وحقيقةٌ، قاله مقاتل.
والثالث: أن قرار تكذيبهم مستقِرّ، وقرار تصديق المصدِّقين مستقِرّ حتى يعلموا حقيقته بالثواب والعقاب، قاله الفراء.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة مِنَ الْأَنْباءِ أي: من أخبار الأُمم المكذِّبة في القرآن ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ قال ابن قتيبة: أي: مُتَّعَظٌ ومُنتهىً.
قوله تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ قال الزجّاج: هي مرفوعة لأنها بدل من «ما» ، فالمعنى: ولقد جاءهم حكمةٌ بالغةٌ. وإن شئت رفعتهما بإضمار: هو حكمة بالغة. و «ما» في قوله فَما تُغْنِ النُّذُرُ
__________
2801 والترمذي 3288 والطيالسي 1891 وابن حبان 6498 والطبراني 13473. ومن حديث حذيفة: أخرجه الحاكم 4/ 609 والطبري 32703، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. ومن حديث ابن عباس. أخرجه البخاري 4866 ومسلم 2803 عن ابن عباس: إن القمر انشق على زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن حديث أنس بن مالك:
أخرجه البخاري 3868 عن عبد الله بن عبد الوهاب به. وأخرجه البخاري 3637 وأحمد 3/ 220 والطبري 32693 من طرق عن سعيد بن أبي عروبة به. وأخرجه مسلم 2802 والترمذي 3282 وأحمد 3/ 165 من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة به وأخرجه البخاري 4868 ومسلم 2802 ح 47 وأحمد 3/ 275 والطبري 32690 و 32692 وأبو يعلى 2929 والطيالسي 2449 من طرق عن شعبة عن قتادة به. وأخرجه البخاري 3637 و 4867 ومسلم 2802 وأحمد 3/ 207 وأبو يعلى 3113 من طرق عن شيبان عن قتادة به.
صحيح. أخرجه الطبري 32699 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 266 والواحدي في «الأسباب» 774 من طريق المغيرة عن أبي الضحى به وإسناده على شرط الصحيح.(4/197)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
جائز أن يكون استفهاماً بمعنى التوبيخ، فيكون المعنى: أيّ شيء تُغْني النُّذُر؟! وجائز أن يكون نفياً، على معنى، فليست تُغْني النُّذُر. قال المفسرون: والمعنى: جاءهم القرآن وهو حِكْمة تامَّة قد بلغت الغاية، فما تُغُني النُّذُر إذا لم يؤمنوا؟!
[سورة القمر (54) : الآيات 6 الى 8]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قال الزجّاج: هذا وقف التمام، ويَوْمَ منصوب بقوله: «يخرُجون من الأجداث» .
وقال مقاتل: فتولَّ عنهم إلى يوم يَدْعُ الدّاعي أثبت هذه الياء في الحالين يعقوب وافقه أبو جعفر، وأبو عمرو في الوصل، وحذفها الأكثرون في الحالين. و «الداعي» : إِسرافيل ينفُخ النفخة الثانية إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ وقرأ ابن كثير: «نُكْرٍ» خفيفة أي: إلى أمر فظيع. وقال مقاتل: «النُّكُر» بمعنى المُنْكَر، وهو القيامة، وإنما يُنْكِرونه إعظاماً له. والتَّولِّي المذكور في الآية منسوخ عند المفسرين بآية السيف.
قوله تعالى: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ قرأ أهل الحجاز، وابن عامر، وعاصم: «خُشَّعاً» بضم الخاء وتشديد الشين من غير ألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «خاشِعاً» بفتح الخاء وألف بعدها وتخفيف الشين. قال الزجاج: المعنى: يخرُجون خُشَّعاً، و «خاشعاً» منصوب على الحال، وقرأ ابن مسعود: «خاشعةً» ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدَّمت على الجماعة التوحيد والتأنيث والجمع تقول: مررت بشُبّانٍ حَسَنٍ أوجُههم، وحِسانٍ أوجُههم، وحَسَنةٍ أوجُههم، قال الشاعر:
وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إِياد بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ «1»
قال المفسرون: والمعنى أن أبصارهم ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب. والأجداث: القبور، وإنما شبَّههم بالجراد المنتشِر، لأن الجراد لا جِهةَ له يَقْصِدها، فهو أبداً مختلف بعضه في بعض، فهم يخرُجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يَقْصِدها. والدّاعي: إِسرافيل. وقد أثبت ياء «الدّاعي» في الحالين ابن كثير، ويعقوب تابعهما في الوصل نافع، وأبو عمرو والباقون بحذفها في الحالين. وقد بيَّنّا معنى «مُهْطِعين» في سورة إبراهيم «2» . والعَسِر: الصَّعب الشَّديد.
[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 22]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
__________
(1) البيت للحارث بن دوس الإيادي كما في «تفسير القرطبي» 17/ 115.
(2) إبراهيم: 43.(4/198)
قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحاً وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ قال أبو عبيدة: افتُعِل مِن زُجِر. قال المفسرون: زجروه عن مقالته فَدَعا عليهم نوح رَبَّهُ ب أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي: فانتَقِم لي ممَّن كذَّبني. قال الزَّجاج: وقرأ عيسى بن عمر النحوي:
«إنِّي» بكسر الألف، وفسرها سيبويه فقال: هذا على إِرادة القول، فالمعنى: قال: إني مغلوب ومن فتح، وهو الوجه، فالمعنى: دعا ربَّه ب أَنِّي مَغْلُوبٌ.
قوله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ قرأ ابن عامر «ففَتَّحْنا» بالتشديد. فأما المُنهمِر، فقال ابن قتيبة:
هو الكثير السريع الانصباب، ومنه يُقال: هَمَر الرجلُ: إذا أكثر من الكلام وأسرع. وروى عليّ رضي الله عنه أن أبواب السماء فُتحت بالماء من المَجَرَّة، وهي شَرَجُ السماء. وعلى ما ذكرنا من القصة في هود «1» أن المطر جاءهم، يكون هو المراد بقوله: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ. قال المفسرون: جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوماً، وفُجِّرت الأرض من تحتهم عيوناً أربعين يوماً. فَالْتَقَى الْماءُ وقرأ أُبيُّ بن كعب وأبو رجاء وعاصم الجحدري: «المآءان» بهمزة وألف ونون مكسورة. وقرأ ابن مسعود: «المايانِ» بياءٍ وألف ونون مكسورة من غير همز. وقرأ الحسن وأبو عمران: «الماوانِ» بواو وألف وكسر النون.
قال الزجاج: يعني بالماء: ماء السماء وماء الأرض، ويجوز الماءان، لأن اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء. قوله تعالى: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ فيه قولان: أحدهما: كان قَدْر ماء السماء كقَدْر ماء الأرض، قاله مقاتل. والثاني: قد قُدر في اللوح المحفوظ، قاله الزجاج. فيكون المعنى: على أمر قد قُضي عليهم، وهو الغرق.
قوله تعالى: وَحَمَلْناهُ يعني نوحاً عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ قال الزجاج. أي: على سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ. قال المفسرون: ألواحها: خشباتها العريضة التي منها جُمعت. وفي الدُّسُر أربعة أقوال: أحدها:
أنها المسامير، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والقرظي، وابن زيد. وقال الزجاج: الدُّسُر:
المسامير والشُّرُط التي تُشَدِّ بها الألواح، وكل شيء نحو السَّمْر أو إدخال شيء في شيءٍ بقوَّة وشِدة قَهر فهو دَسْر، يقال: دَسَرْتُ المسمار أدْسُرُه وأَدْسِرُه. والدُّسُر: واحدها دِسار، نحو حِمار، وحُمُر.
والثاني: أنه صَدْر السفينة، سُمِّي بذلك لأنه يَدْسُر الماء، أي: يدفعه، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن وعكرمة ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر، أي: دفعه. والثالث: أن الدُّسُر:
أضلاع السفينة، قاله مجاهد. والرابع: أن الدُّسُر: طرفاها وأصلها، والألواح: جانباها، قاله الضحاك.
قوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي: بمَنْظَرٍ ومرأىً مِنّا جَزاءً قال الفراء: فعَلْنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثواباً لمن كُفِر به. وفي المراد ب «مَنْ» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله عزّ وجلّ، وهو مذهب مجاهد، فيكون المعنى: عوقبوا لله ولكُفرهم به. والثاني: أنه نوحٌ كُفِر به وجُحِد أمْرُه، قاله الفراء. والثالث: أن «مَنْ» بمعنى «ما» فالمعنى: جزاءً لِما كان كُفِر من نِعم الله عند الذين أغرقهم، حكاه ابن جرير. وقرأ قتادة: «لِمَنْ كان كَفَر» بفتح الكاف والفاء.
قوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها في المشار إليها قولان: أحدهما: أَنها السفينة، قال قتادة: أبقاها الله على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة. والثاني: أنها الفَعْلة، فالمعنى: تركنا هذه الفعلة وأمر سفينة
__________
(1) هود: 44.(4/199)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
نوح «آية» ، أي: علامة ليُعتبر بها، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وأصله مُدتكِر، فأبدلت التاء دالاً على ما بيَّنّا في قوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «1» . قال ابن قتيبة: أصله: مذْتَكِر، فأْدغمت التاء في الذال ثم قُلبت دالاً مشدَّدة. قال المفسرون: والمعنى: هل من متذكِّر يعتبر بذلك؟ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وفي هذه السورة «ونُذُر» ستة مواضع، أثبت الياء فيهن في الحالين يعقوب، تابعه في الوصل ورش، والباقون بحذفها في الحالين. وقوله: «فكيف كان عذابي» استفهام عن تلك الحالة، ومعناه التعظيم لذلك العذاب. قال ابن قتيبة: والنُّذُر هاهنا جمع نذير، وهو بمعنى الإنذار، ومثله النَّكير بمعنى الإنكار. قال المفسرون: وهذا تخويف لمشركي مكة.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ أي سهَّلْناه لِلذِّكْرِ أي للحِفظ والقراءة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي من ذاكرٍ يذكره ويقرؤه والمعنى: هو الحث على قراءته وتعلُّمه، قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يُقرأ كُلُّه ظاهراً إلاّ القرآن. وأمّا الرِّيح الصَّرصر، فقد ذكرناها في حم السجدة «2» .
قوله تعالى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ قرأ الحسن: «فِي يَوْمِ» بالتنوين، على أن اليوم منعوت بالنَّحْس. والمُستمِّر: الدائم الشؤم، استمر عليهم بنُحوسه. وقال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. وقيل: إنه كان يومَ أربعاء في آخر الشهر. تَنْزِعُ النَّاسَ أي: تقلعهُم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدُقّ رقابَهم فتُبِين الرّأسَ عن الجسد، ف كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن السميفع: «أعْجُزُ نَخْلٍ» برفع الجيم من غير ألف بعد الجيم. وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وأبو عمران: «كأنَّهم عُجُز نخل» بضم العين والجيم. ومعنى الكلام: كأنهم أصول نَخلٍ مُنْقَعِرٍ أَي: مُنْقَلِع. وقال الفراء: المُنْقَعِر: المُنْصَرِع من النَّخْل. قال ابن قتيبة: يقال: قَعَرْتُه فانْقَعَر، أي قلعته فسقط. قال أبو عبيدة: والنَّخْل يُذَكَّر ويؤنَّث، فهذه الآية على لغة من ذكَّر، وقوله: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «3» على لغة من أنَّث. وقال مقاتل: شبَّههم حين وقعوا من شِدَّة العذاب بالنَّخْل الساقطة التي لا رؤوس لها، وإنما شبَّههم بالنَّخْل لِطُولهم، وكان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعا.
[سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فيه قولان: أحدهما: أنه جمع نذير. وقد بيَّنّا أن من كذَّب نبيّاً واحداً فقد كذَّب الكُلَّ. والثاني: أن النُّذُر بمعنى الإنذار كما بيَّنّا في قوله: «فكيف كان عذابي ونُذُرِ» فكأنهم كذّبوا الإنذار الذي جاءهم به صالح، فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا قال الزجاج: هو منصوب بفعل مُضْمَر والذي ظهر تفسيره، المعنى: أنتبع بَشَراً مِنّا واحِداً، قال المفسرون: قالوا: هو آدميّ مثلنا، وهو
__________
(1) يوسف: 45.
(2) فصلت: 160.
(3) الحاقة: 7.(4/200)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
واحد فلا نكون له تَبَعاً إِنَّا إِذاً إن فعلنا ذلك لَفِي ضَلالٍ أي: خطأٍ وذهاب عن الصواب وَسُعُرٍ قال ابن عباس: أي: جنون. قال ابن قتيبة: هو من تَسَعَّرتِ النّارُ: إذا التَهبتْ، يقال: ناقةٌ مَسْعُورةٌ، أي: كأنها مجنونة من النشاط. وقال غيره: لَفي شقاءٍ وعَناءٍ لأجل ما يلزمنا من طاعته.
ثم أنْكَروا أن يكون الوحي يأتيه فقالوا: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ أي: أَنَزَل الوحيُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي:
كيف خُصَّ من بيننا بالنُّبوَّة والوحي؟! بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ وفيه قولان: أحدهما: أنه المَرِح المتكبِّر، قاله ابن قتيبة. والثاني: البَطِر، قاله الزجاج.
قوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً قرأ ابن عامر وحمزة: «ستَعلمون» بالتاء «غداً» فيه قولان:
أحدهما: يوم القيامة، قاله ابن السائب. والثاني: عند نزول العذاب بهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ وذلك أنهم سألوا صالحاً أن يُظْهِر لهم ناقةً من صخرة، فقال الله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ أي: مُخرجوها كما أرادوا فِتْنَةً لَهُمْ أي: مِحنةً واختباراً فَارْتَقِبْهُمْ أي فانتظر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ على ما يُصيبُك من الأذى، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي: بين ثمود وبين الناقة، يوم لها ويوم لهم، فذلك قوله: كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ يحضُرُهُ صاحبُه ويستحقُّه. قوله تعالى:
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ واسمه قُدار بن سالف فَتَعاطى قال ابن قتيبة: تعاطى عَقْر الناقة فَعَقَرَ أي: قتل وقد بيَّنا هذا في الأعراف «1» .
قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم وقد أشرنا إلى قصتهم في هود «2» فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قال ابن عباس: هو الرجُل يجعل لغنمه حظيرة بالشَّجر والشوك دون السِّباع، فما سقط من ذلك وداسته الغنمُ، فهو الهَشيم. وقد بيَّنا معنى «الهشيم» في الكهف «3» . وقال الزجَّاج: الهَشيم: ما يَبِس من الورق وتكسَّر وتحطَّم، والمعنى: كانوا كالهَشِيم الذي يجمعه صاحبُ الحظيرة بعد أن بلغ الغاية في الجفاف، هو يُجمع لِيوقد. وقرأ الحسن: «المُحتظَرِ» بفتح الظاء، وهو اسم الحظيرة والمعنى: كهشيم المكان الذي يُحتظَر فيه الهشيم من الحطب. وقال سعيد بن جبير: هو التراب الذي يتناثر من الحيطان. وقال قتادة: كالعظام النَّخِرة المحترقة. والمراد من جميع ذلك: أنهم بادوا وهلكوا حتى صاروا كالشيء المتحطّم.
[سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً قال المفسرون: هي الحجارة التي قُذِفوا بها إِلَّا آلَ لُوطٍ يعني لوط وابنتيه نَجَّيْناهُمْ من ذلك العذاب بِسَحَرٍ قال الفراء: «سَحَرٍ» هاهنا يجري لأنه نكرة، كقوله: نجَّيناهم بِلَيْلٍ، فإذا ألقت العرب منه الباء لم يَجر، لأن لفظهم به بالألف واللام، يقولون: ما
__________
(1) الأعراف: 77.
(2) هود: 61.
(3) الكهف: 45. [.....](4/201)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
زال عندنا منذُ السَّحَرِ، لا يكادون يقولون غيره، فإذا حذفت منه الألف واللام لم يُصْرَف. وقال الزجاج: إِذا كان السَّحر نكرة يراد به سَحَرٌ من الأسحار، انصرف، فإذا أردتَ سَحَرَ يومِك، لم ينصرف. قوله تعالى: كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ قال مقاتل: من وحدَّ الله تعالى لم يُعَذَّب مع المشركين.
قوله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي: طلبوا أن يسلِّم إليهم أضيافه، وهم الملائكة فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ وهو أن جبريل ضرب أعيُنَهم بجَناحه فأذهبها. وقد ذكرنا القصة في سورة هود «1» . وتم الكلام هاهنا، ثم قال: فَذُوقُوا أي: فقلنا لقوم لوط لما جاءهم العذاب: ذوقوا عَذابِي وَنُذُرِ أي: ما أنذركم به لوط، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أي: أتاهم صباحاً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي: نازل بهم. قال مقاتل:
استقرَّ بهم العذابُ بُكْرةً. قال الفرّاء: والعرب تُجري «غُدوة» و «بُكرة» ولا تُجريهما، وأكثر الكلام في «غُدوة» ترك الإجراء، وأكثر في «بكرة» أن تُجرى، فمن لم يُجرها جعلها معرفة، لأنها اسم يكون أبداً في وقتٍ واحد بمنزلة «أمسِ» و «غدٍ» ، وأكثر ما تُجري العربُ «غُدوةً» إذا قُرنت بعشيَّةٍ، يقولون: إني لآتيهم غُدوةً وعشيَّةً، وبعضهم يقول: «غُدوة» فلا يُجريها و «عشيةً» فيُجريها، ومنهم من لا يُجري «عشيَّة» لكثرة ما صحبت «غُدوةً» . وقال الزجاج: الغُدوة والبُكرة إذا كانتا نكِرتين نُوِّنتا وصُرِفتا، فإذا أردتَ بهما بُكرة يومك وغداة يومك، لم تصرفهما، والبُكرة هاهنا نكِرة، فالصرف أجود، لأنه لم يثبُت رواية في أنه كان في يوم كذا في شهر كذا.
[سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 46]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ يعني القِبْطَ النُّذُرُ فيهم قولان: أحدهما: أنه جمع نذير، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى. والثاني: أن النُّذُر بمعنى الإنذار وقد بيَّناه آنفاً، فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب أَخْذَ عَزِيزٍ أي: غالبٍ في انتقامه مُقْتَدِرٍ قادر على هلاكهم. ثم خوَّف أهل مكة فقال:
أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ أي: أشدُّ وأقوى مِنْ أُولئِكُمْ وهذا استفهام معناه الإنكار والمعنى: ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود، وقد أهلَكْناهم أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ من العذاب أنه لا يصيبكم ما أصابهم فِي الزُّبُرِ أي: في الكُتب المتقدِّمة، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ المعنى: أيقولون:
نحن يدٌ واحدةٌ على مَنْ خالفنا فننتصر منهم؟ وإنما وحَّد المُنْتَصِر للفظ الجميع، فإنه على لفظ «واحد» وإن كان اسماً للجماعة سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وروى أبو حاتم بن يعقوب: «سنهزم» بالنون، «الجمعَ» بالنصب، «وتوّلون» بالتاء، ويعني بالجمع: جمع كفار مكة وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ولم يقل: الأدبار، وكلاهما جائز قال الفراء: مِثلُه أن يقول: إن فلانا لكثير الدِّينار والدِّرهم. وهذا مما أخبر اللهُ به نبيَّه من عِلم الغَيب، فكانت الهزيمة يومَ بدر.
قوله تعالى: وَالسَّاعَةُ أَدْهى قال مقاتل: هي أفظع وَأَمَرُّ من القتل. قال الزجاج: ومعنى الدّاهية: الأمر الشديد الذي لا يُهتدى لدوائه ومعنى «أمَرُّ» : أشَدُّ مرارةً من القَتْل والأسر.
__________
(1) هود: 81.(4/202)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
[سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 55]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ في سبب نزولها قولان:
(1376) أحدهما: أن مشركي مكّة جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يُخاصِمونَ في القدَرَ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، انفرد بإخراجه مسلم من حديث أبي هريرة.
(1377) وروى أبو أُمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الآية نزلت في القَدَريَّة» .
(1378) والثاني: أن أُسْقُف نَجران جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد تزعُم أن المعاصي بقَدر، وليس كذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنتم خُصَماءُ الله» ، فنزلت: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله: بِقَدَرٍ، قاله عطاء.
قوله تعالى: وَسُعُرٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الجنون. والثاني: العَناء، وقد ذكرناهما في صدر السورة. والثالث: أنه نار تَسْتَعِرُ عليهم، قاله الضحاك. فأمّا سَقَرَ فقال الزجّاج: هي اسم من أسماء جهنَّم لا ينصرف لأنها معرفة، وهي مؤنَّثة. وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: سَقَر: اسم لنار الأخرة أعجميّ، ويقال: بل هو عربيّ، من قولهم: سَقَرَتْه الشمس: إذا أذابته، سمِّيتْ بذلك لأنها تُذيب الأجسام. وروى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
(1379) «إذا جَمَع اللهُ الخلائق يوم القيامة أمر منادياً فنادى نداءً يسمعُه الأوَّلون والآخرون: أين خُصَماءُ اللهِ؟ فتقوم القَدريَّة، فيؤمر بهم إلى النار، يقول الله تعالى: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
وإنما قيل لهم: «خُصَماء الله» لأنهم يُخاصمون في أنه لا يجوز أن يُقَدِّر المعصية على العَبْد ثم يعذِّبه عليها. وروى هشام بن حسان عن الحسن قال: واللهِ لو أنِّ قدريّاً صام حتى يصير كالحَبْل، ثم صلَّى حتى يصير كالوتر، ثم أخذ ظلماً وزُوراً حتى ذُبح بين الرُّكْن والمقام لكَبَّه اللهُ على وجهه في سقر
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2656 والترمذي 2157 و 3290 وابن ماجة 83 والطبري 32834 والبغوي في «شرح السنة» 80 من طرق عن سفيان الثوري من حديث أبي هريرة. وأخرجه الطبري 32833 والواحدي في «الأسباب» 775 من طريقين عن سفيان الثوري به.
ضعيف جدا، أخرجه الواحدي في «الأسباب» 776 من حديث أبي أمامة، وإسناده ضعيف جدا، لأجل عفير بن معدان، فإنه متروك.
باطل، أخرجه الواحدي 777 في «أسبابه» عن بحر السقاء عن شيخ من قريش عن عطاء مرسلا، وهو ضعيف جدا. بحر السقاء واه، وفيه شيخ لم يسمّ، وهو مرسل أيضا والمتن باطل، فالسورة مكية بإجماع، وأخبار اليهود والنصارى وسؤالاتهم مدنية.
لم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه. وورد مختصرا من حديث عمر دون ذكر الآية، أخرجه ابن الجوزي في «العلل» 219 وفيه عنعنة بقية بن الوليد، فهذه علة وفي الإسناد من لم يسمّ.(4/203)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
(1380) وروى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّ شيء بقدرٍ حتى العَجْزُ والكَيْسُ» .
وقال ابن عباس: كل شيء بقدرٍ حتى وضعُ يدك على خدِّك. وقال الزجّاج: معنى «بقَدَرٍ» أي:
كل شيء خلقناه بقدرٍ مكتوبٍ في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، ونصب «كُلَّ شيءٍ» بفعل مضمر المعنى: إنّا خلقنا كلَّ شيء خلقناه بقَدرٍ.
قوله تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ قال الفراء: أي: إلاّ مرَّة واحدة، وكذلك قال مقاتل: مرَّة واحدة لا مثنوّية لها. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد: إِن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وقال ابن السائب: المعنى: وما أمرنا بمجيء الساعة في السُّرعة إلاّ كلَمْح البصر. ومعنى اللَّمْح بالبصر: النَّظر بسرعة. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي: أشباهكم ونُظَراءكم في الكُفر من الأمم الماضية فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي مُتَّعظ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ يعني الأمم. وفي الزُّبُرِ قولان: أحدهما: أنه كُتُب الحَفَظة. والثاني: اللَّوح المحفوظ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أي: من الأعمال المتقدِّمة مُسْتَطَرٌ أي:
مكتوب، قال ابن قتيبة: هو «مُفْتَعَلٍ من «سَطَرْتُ» : إذا كتبت، وهو مثل «مَسْطُور» . قوله تعالى: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ قال الزجّاج: المعنى: في جنّات وأنهار، والاسم الواحد يَدلُّ على الجميع، فيجتزأ به من الجميع. أنشد سيبويه والخليل:
بِها جِيَفُ الْحَسْرَى، فأَمّا عِظامُها ... فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
يريد: وأمّا جلودها، ومثله:
في حَلْقِكُم عَظْمٌ وقد شجينا
ومثله:
كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُمُ تَعِيشُوا
وحكى ابن قتيبة عن الفراء أنه وُحِّد لأنه رأسُ آية، فقابل بالتوحيد رؤوس الآي، قال: ويقال:
النَّهَر: الضِّياء والسَّعة، من قولك: أنْهَرْتُ الطعنة: إِذا وسَّعْتَها، قال قيس بن الخَطِيم يصف طعنة:
مَلَكْتُ بها كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قائمٌ مِنْ دُونِها ما وراءَها
أي: أوسعتُ فَتْقَها. قلت: وهذا قول الضحاك. وقرأ الأعمش «ونُهُرٍ» .
قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي: مَجلِس حسن وقد نبَّهْنا على هذا المعنى في قوله: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ «1» . فأمّا المَلِيك، فقال الخطابي: المَلِيك: هو المالك، وبناء فَعِيل للمُبالغة في الوصف، ويكون المَلِيك بمعنى المَلِك، ومنه هذه الآية. والمُقْتَدِر مشروح في الكهف «2» .
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2655 والبخاري في «خلق أفعال العباد» 73 وأحمد 2/ 110 وابن حبان 6149 من طرق عن مالك به من حديث ابن عمر. وأخرجه مالك 2/ 899 في «الموطأ» عن زياد بن سعد به. وأخرجه البغوي في «شرح السنة» 72 عن أبي مصعب عن مالك به.
__________
(1) يونس: 2.
(2) الكهف: 45.(4/204)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
سورة الرّحمن
وفي نزولها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن وعطاء ومقاتل والجمهور، إلّا أنّ ابن عباس قال: سوى آية، وهي قوله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» . والثاني: أنها مدنيّة، رواه عطية عن ابن عباس. وبه قال ابن مسعود.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
قوله عزّ وجلّ: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ. قال مقاتل:
(1381) لمّا نزل قوله: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ «2» ، قال كُفّار مكَّةَ: وما الرَّحْمنُ؟! فأَنكروه وقالوا: لا نَعرِفُ الرحْمنَ، فقال تعالى: «الرَّحْمنُ» الذي أَنكروه هو الذي «علَّم القُرآنَ» .
وفي قوله: عَلَّمَ الْقُرْآنَ قولان «3» : أحدهما: علّمه محمّدا، وعلّمه محمدٌ أُمَّته، قاله ابن السائب. والثاني: يسَّر القرآن، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: خَلَقَ الْإِنْسانَ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اسم جنس، فالمعنى: خلق الإنسان جميعاً، قاله الأكثرون. فعلى هذا، في «البيان» ستة أقوال: أحدها: النُّطق والتَّمييز، قاله الحسن. والثاني: الحلال والحرام، قاله قتادة. والثالث: ما يقول وما يُقال له، قاله محمد بن كعب. والرابع: الخير والشر، قاله الضحاك. والخامس: طرق
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والخبر منكر جدا، أمارة الوضع لائحة عليه.
__________
(1) الرحمن: 29.
(2) الفرقان: 60.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 572: يقول تعالى ذكره: الرحمن أيها الناس برحمته إياكم علمكم القرآن، فأنعم بذلك عليكم إذ بصّركم به ما فيه رضا ربكم، وعرّفكم ما فيه سخطه، لتطيعوه باتباعكم ما يرضيه عنكم، وعملكم بما أمركم به، وبتجنبكم ما يسخطه عليكم، فتستوجبوا بذلك جزيل ثوابه، وتنجوا من أليم عقابه.(4/205)
الهُدى، قاله ابن جريج. والسادس: الكتابة والخط، قاله يمان.
والثاني: أنه آدم، قاله ابن عباس، وقتادة. فعلى هذا في «البيان» ثلاثة أقوال: أحدها: أسماء كل شيء. والثاني: بيان كل شيء. والثالث: اللّغات.
والقول الثالث: أنه محمّد صلّى الله عليه وسلم، علّمه بيان كلّ شيء ما كان وما يكون، قاله ابن كيسان.
قوله عزّ وجلّ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي: بحساب ومنازل، لا يعدوانها، قاله ابن عباس وقتادة وأبو مالك وقد كشَفْنا هذا المعنى في الأنعام «1» . قال الأخفش: أضمر الخبر، وأظُنُّه- والله أعلَمُ- أراد: يَجريان بحُسبان. قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ في النَّجْم قولان: أحدهما: أنه كُلُّ نَبْتٍ ليس له ساق، وهو مذهب ابن عباس، والسدي، ومقاتل، واللُّغويين. والثاني: أنه نَجْم السَّماء، والمُراد به: جميعُ النُّجوم، قاله مجاهد. فأمّا الشّجر: فكلّ ماله ساق. قال الفراء: سُجودهما:
أنَّهما يستقبِلان الشمسَ إذا أشرقت، ثم يَميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقد أشرت في النحل «2» إلى معنى سُجود ما لا يَعْقِل. قال أبو عبيدة: وإنّما ثني فعلهما على لفظهما.
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءَ رَفَعَها وإنما فعل ذلك ليحيا الحيوان وتمتدّ الأنفاس بينها وبين الأرض، وأجرى الرِّيح بينها وبين الأرض، كيما يتروحَ الخَلق. ولولا ذلك لماتت الخلائق كَرْباً..
قوله عزّ وجلّ: وَوَضَعَ الْمِيزانَ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه العَدْل، قاله الأكثرون، منهم مجاهد والسدي واللغويون. قال الزجّاج: وهذا لأن المعادلة: مُوازَنة الأشياء. والثاني: أنه الميزان المعروف، ليتناصف الناس في الحقوق، قاله الحسن، وقتادة، والضحاك. والثالث: أنه القرآن، قاله الحسن بن الفضل.
قوله عزّ وجلّ: أَلَّا تَطْغَوْا ذكر الزجّاج في «أنْ» وجهين: أحدهما: أنها بمعنى اللام والمعنى: لئلاّ تَطْغَوْا. والثاني: أنها للتفسير، فتكون «لا» للنهي والمعنى أي لا تطغوا، أي لا تجاوزوا العدل. قوله عزّ وجلّ: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ قال ابن قتيبة، أي: لا تنقصوا الوزن.
فأمّا الأنام، ففيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الناس، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: كل ذي رُوح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي، والفراء.
والثالث: الإنس والجن، قاله الحسن، والزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فِيها فاكِهَةٌ أي: ما يُتفكَّه به من ألوان الثمار وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ والأكمام: الأوعية والغُلُف وقد استوفينا شرح هذا في حم السّجدة «3» .
قوله عزّ وجلّ وَالْحَبُّ يريد: جميع الحبوب، كالبُر والشعير وغير ذلك. وقرأ ابن عامر:
«والحَبَّ» بنصب الباء «ذا العصف» بالألف «والرَّيْحانَ» بنصب النون. وقرأ حمزة، والكسائي إلاّ ابن أبي سُريج، وخلف: «والحَبُّ ذو العَصْفِ والرَّيْحانِ» بخفض النون وقرأ الباقون بضم النون.
وفي «العَصفْ» قولان: أحدهما: أنه تِبن الزَّرع وورقه الذي تعصفه الرِّياح، قاله ابن عباس.
__________
(1) الأنعام: 96.
(2) النحل: 49.
(3) فصلت: 47.(4/206)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
وكذلك قال مجاهد: هو ورق الزَّرع. قال ابن قتيبة: العَصْف: ورق الزَّرع، ثم يصير إذا جفَّ ويبِس ودِيس تبناً. والثاني: أن العَصْف: المأكول من الحبِّ، حكاه الفراء.
وفي «الرّيحان» أربعة أقوال: أحدها: أنه الورق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي. قال الفراء: الرّيحان في كلام العرب: الرّزق، يقولون: خرجنا طلب رَيْحان الله، وأنشد الزجاج للَّنمِر بن تَوْلب:
سلامُ الإلهِ ورَيْحانُه ... ورَحْمَتُه وسَماءٌ دِرَرْ
والثاني: خُضرة الزَّرع، رواه الوالبي عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: فعلى هذا سُمِّي رَيْحاناً، لاستراحة النَّفْس بالنظر إِليه. والثالث: أنه رَيحانكم هذا الذي يُشَمُّ، روى العوفي عن ابن عباس قال: «الرَّيْحان» : ما أَنبتت الأرضُ من الرَّيْحان، وهذا مذهب الحسن والضحاك وابن زيد. والرابع: أنه ما لم يؤكل من الحَبّ، والعَصْف: المأكول منه، حكاه الفراء.
قوله عز وجل: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن قيل: كيف خاطب اثنين، وإنما ذكر الإنسان وحده؟ فعنه جوابان ذكرهما الفراء: أحدهما: أن العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين كما بيَّنّا في قوله:
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «1» . والثاني: أن الذِّكر أريد به: الإنسان والجانّ، فجرى مجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها. قال الزجاج: لمّا ذكر اللهُ تعالى في هذه السورة ما يدُلُّ على وحدانيته من خَلْق الإنسان وتعليم البيان وخَلْق الشمس والقمر والسماء والأرض، خاطب الجنّ والإنس، فقال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي: فبأيِّ نِعَم ربِّكما تُكذِّبان من هذه الأشياء المذكورة، لأنها كلَّها مُنْعَم بها عليكم في دلالتها إيّاكم على وحدانيَّته وفي رزقه إيّاكم ما به قِوامكم. وقال ابن قتيبة: الآلاء: النِّعم، واحدها: ألا، مثل: قفا، وإلا، مثل: معى.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 25]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
قوله عزّ وجلّ: خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني آدم مِنْ صَلْصالٍ قد ذكرنا في الحجر «2» الصَلْصال والجانَّ. فأمّا قوله: كَالْفَخَّارِ فقال أبو عبيدة: خُلق من طينٍ يابس لم يُطْبَخ، فله صوتٌ إذا نُقِر، فهو من يابسه كالفخّار. والفخّار: ما طبخ بالنّار. وأمّا المارِج، فقال ابن عباس: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إِذا التهبت. وقال مجاهد: هو المختلِط بعضُه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أُوقِدَتْ. وقال مقاتل: هو لهب النار الصافي من غير دخان. وقال أبو عبيدة: المارج: خَلْط من النار. وقال ابن قتيبة: المارج: لهب النار، من قولك: قد مَرِجَ الشيءُ: إذا اضطرب ولم يستقرّ. وقال الزجاج: هو اللهب المختلط بسواد النّار. وإن قيل قد أخبر الله تعالى عن
__________
(1) ق: 24.
(2) الحجر: 26- 27.(4/207)
خَلْق آدم عليه السلام بألفاظ مختلفة، فتارة يقول: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «1» ، وتارة: «مِن صَلْصالٍ» ، وتارة: «مِنْ طِينٍ لازِبٍ» «2» ، وتارة: «كالفخّار» ، وتارة: «من حمأ مسنون» «3» فالجواب: أن الأصل التراب فجُعل طيناً، ثم صار كالحمإِ المسنون، ثم صار صَلصالاً كالفَخّار، فهذه أخبار عن حالات أصله. فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله: «فبأيِّ آلاء ربِّكما تُكذِّبانِ» الجواب أن ذلك التكرير لتقرير النِّعم وتأكيد التذكير بها. قال ابن قتيبة: من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز لأن افتنان المتكلّم والخطيب في الفنون أحسن من اختصاره في المقام على فنٍّ واحدٍ، يقول القائل: واللهِ لا أفعله، ثم واللهِ لا أفعله، إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع مِنْ أنْ يفعله، كما تقول: واللهِ أفعلُه، بإضمار «لا» إذا أراد الاختصار، ويقول القائل للمستعجل: اعْجَل اعْجَل، وللرامي: ارمِ ارمِ، قال الشاعر:
كَمْ نِعْمَةٍ كانَتْ له وَكمْ وَكمْ
وقال الآخر:
هلا سألت جموع كندة ... يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنا «4»
وربَّما جاءت الصِّفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانيةً لأنها كلمة واحدةٌ، فغيَّروا منها حرفاً ثم أتبعوها الأولى، كقولهم، عَطْشَانُ نَطْشَان، وشَيطان لَيْطان، وحَسَنٌ بَسَنٌ. قال ابن دريد: ومن الإتباع: جائع نائع، ومليح قريح، وقبيح شَقِيح، وشَحيح نَحيح، وخبيث نبيث، وكثير نثير، وسيِّغ لَيِّغ، وسائغ لائغ، وحَقير نَقير، وضَئيل بئيل، وخضر مضر، وعقريب نقريب، وثِقَةٌ نِقَةٌ، وكِنٌّ إنٌّ، وواحدٌ فاحدٌ، وحائرٌ بائر، وسمج لمج. قال ابن قتيبة: فلمّا عَدَّد اللهُ تعالى في هذه السورة نعماءَه، وأذكَرَ عِبَادَه آلاءَه، ونبَّههم على قُدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل نِعمتين، ليُفَهِّمهم النِّعم ويُقَرِّرهم بها، كقولك للرجل: أَلم أُبَوِّئْكَ مَنْزِلاً وكنتَ طريداً؟ أفتُنْكِرُ هذا؟ ألم أحُجَّ بك وأنت صَرُورَةٌ؟
أفَتُنْكِرُ هذا؟.
(1382) وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا
__________
ضعيف. أخرجه الترمذي 3291 والحاكم 3766 من طريق عبد الرحمن بن واقد عن الوليد بن مسلم حدثنا زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر به. وإسناده واه، زهير منكر الحديث في رواية أهل الشام عنه، وصححه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي. وأخرجه الحاكم 3766 وابن عدي 3/ 219 وأبو الشيخ في «العظمة» 1123 والواحدي في «الوسيط» 4/ 219 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 232 من طريق هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم بالإسناد السابق. وأخرجه البيهقي 2/ 232 من طريق مروان بن محمد قال: حدثنا زهير بن محمد به. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. قال ابن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يروى عنه بالعراق كأنه رجل آخر قلبوا اسمه.
يعني لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة اه. وله شاهد من حديث ابن عمر: أخرجه البزار
__________
(1) آل عمران: 59.
(2) الصافات: 11.
(3) الحجر: 29. [.....]
(4) البيت للشاعر عبيد بن الأبرص ديوانه: ص 142 والشعر والشعراء: 1/ 224.(4/208)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم سورة الرّحمن حتى ختمها ثم قال: «ما لي أراكم سكوتاً؟! لَلْجِنُّ كانوا أحسنَ منكم ردّاً، ما قرأتُ عليهم هذه الآية من مَرَّة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إِلاّ قالوا: ولا بشيء من نِعمك ربَّنا نكذِّب فلك الحمد» .
قوله عزّ وجلّ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ قرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة: «ربِّ المشْرِقَيْن وربِّ المَغْرِبَيْن» بالخفض، وهما مَشْرِق الصَّيف ومَشْرِق الشتاء ومَغْرِب الصَّيف ومَغْرِب الشتاء للشمس والقمر جميعاً.
قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: أرسل العذبَ والمِلْحَ وخلاهما وجعلهما يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي: حاجز من قدرة الله تعالى لا يَبْغِيانِ أي: لا يختلطان. فيبغي أحدهما على الآخر. وقال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كلَّ عام. وقال الحسين: «مَرَجَ البحرين» يعني بحر فارس والروم، بينهما برزخ، يعني الجزائر وقد سبق بيان هذا في الفرقان «1» . قوله عزّ وجلّ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ قال الزجاج: إنما يخرُج من البحر المِلْحِ، وإنما جمعهما، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد أُخرج منهما، ومثله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «2» . وقال أبو علي الفارسي: أراد: يخرُج من أحدهما، فحذف المضاف. وقال ابن جرير: إنما قال «منهما» لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء. فأمّا اللُّؤلؤ والمرجان، ففيهما قولان: أحدهما: أن المرجان: ما صَغُر من اللُّؤلؤ، واللُّؤلؤ:
العظام، قاله الأكثرون، منهم ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والفراء. وقال الزجاج: اللُّؤلؤ: اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر، والمرجان: صِغاره. والثاني: أن اللُّؤلؤ: الصِّغار، والمرجان:
الكبار، قاله مجاهد، والسدي، ومقاتل. قال ابن عباس: إذا أمطرت السماء، فتحت الأصدافُ أفواهها، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ وقال ابن جريج. حيث وقعت قطرةٌ كانت لؤلؤة. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللُّغويّ قال: ذكر بعضُ أهل اللُّغة أن المَرجان أعجميّ معرَّب. قال أبو بكر،
__________
2269 من طريق عمرو بن مالك البصري عن يحيى بن سليم الطائفي عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر مرفوعا. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 4/ 301 والطبري 32928 من طريق محمد بن عباد بن موسى عن يحيى بن سليم الطائفي به. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 118: رواه البزار عن شيخه عمرو بن مالك الراسبي، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. قلت: جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه، وقال الذهبي في «الميزان» 3/ 285 ضعفه أبو يعلى، وقال ابن عدي: يسرق الحديث، وتركه أبو زرعة وذكره ابن حبان في الثقات اه والظاهر أن ابن حبان ما عرفه. وتابعه محمد بن عباد بن موسى عند الطبري والخطيب كما تقدم، ومحمد هذا ضعيف، والظاهر أنه سرقه من عمرو بن مالك. وقال ابن عدي 3/ 219: هذا حديث لا يعرف إلا بهشام بن عمار، وقد سرقه جماعة من الضعفاء ذكر منهم في كتابي هذا، فحدثوا به عن الوليد وهم سليمان بن أحمد الواسطي وعلي بن جميل السرّقي وعمرو بن مالك البصري وبركة بن محمد الحلبي، والحديث، فهشام. أي عن الوليد عن زهير بن محمد وبه يعرف.
تنبيه: ولم يتنبه الألباني إلى هذا الوارد عن ابن عدي، فجعل حديث ابن عمر شاهدا لحديث جابر فحكم بحسنه في «الصحيحة» 2150 والصواب أنه غير شاهد وإنما سرقه عمرو بن مالك وغيره وركبوا له هذا الإسناد عن ابن عمر ولو كان كذلك لرواه الأئمة الثقات، ولكن كل ذلك لم يكن، والمتن منكر فمتى كان الجن أحسن فهما من الصحابة؟!! كما هو مدلول هذا الخبر.
__________
(1) الفرقان: 53.
(2) نوح: 16.(4/209)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
يعني ابن دريد: ولم أسمع فيه بفعل منصرف، وأَحْرِ به أن يكون كذلك. قال ابن مسعود: المرجان:
الخرز الأحمر. وقال الزجاج: المَرجان أبيض شديد البياض. وحكى القاضي أبو يعلى أن المرجان:
ضرب من اللُّؤلؤ كالقضبان.
قوله عزّ وجلّ: وَلَهُ الْجَوارِ يعني السفن الْمُنْشَآتُ قال مجاهد: هو ما قد رُفع قِلْعه من السفن دون ما لم يرفع قلعه، القلع مكسور القاف. وقال ابن قتيبة: هنّ اللواتي أنشئن، أي: ابتدئ بهنَّ فِي الْبَحْرِ، وقرأ حمزة: «المُنْشِئاتُ» ، فجعلهن اللواتي ابتدأن، يقال: أنشأت السحابةُ تُمطر: إذا ابتدأتْ، وأنشأ الشاعُر يقول. والأعلام: الجبال، وقد سبق هذا «1» .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 30]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
قوله عزّ وجلّ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أي: على الأرض، وهي كناية عن غير مذكور، «فانٍ» أي هالكٌ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي: ويبقى ربُّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قال أبو سليمان الخطابي: الجلال:
مصدر الجليل، يقال: جليل بَيِّن الجلالة والجلال. والإكرام: مصدر أكرمَ يُكْرِم إكراما والمعنى أنه يكرم أهل ولايته وأنّ الله مستحقّ أن يجلّ ويكرم، ولا يجحدونه ولا يكفروا به وقد يحتمل أن يكون المعنى: أنه يُكرم أهلَ ولايته ويرفع درجاتهم وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين- وهو الجلال- مضافاً إلى الله تعالى بمعنى الصفة له، والآخر مضافاً إلى العبد بمعنى الفعل منه، كقوله تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فانصرف أحد الأمرين إلى الله تعالى وهو المغفرة، والآخر إلى العباد وهو التقوى.
قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المعنى أن الكل يحتاجون إليه فيسألونه وهو غنيٌّ عنهم كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ مثل أن يُحيي ويُميت، ويُعِزّ ويُذِلّ، ويشفي مريضاً، ويُعطي سائلاً، إلى غير ذلك من أفعاله. وقال الحسين بن الفضيل: هو سَوق المقادير إِلى المواقيت.
(1383) قال مقاتل: وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت: إن الله لا يقضي في يوم السبت شيئاً، فنزلت: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.
(1384) عن عبد الله بن منيب «2» عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لمّا سئل عن ذاك الشأن: «يغفر ذنبا
__________
باطل، عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يصنع الحديث، والمتن باطل. وانظر ما بعده.
أخرجه الطبري 3312 والبزار 2266 «كشف» وأبو الشيخ 1510 من حديث عبد الله بن منيب، وإسناده ضعيف، فيه عمرو بن بكر السكسكي وهو ضعيف متروك. وله شاهد أخرجه ابن ماجة 202 وابن أبي عاصم في «السنة» 301 وابن حبان 689 والبزار 2267 «كشف» وأبو الشيخ 150 والديلمي 4775 والبيهقي في «الصفات» ص 98 وأبو نعيم 5/ 252 من حديث أبي الدرداء. ومداره على الوزير ابن صبيح، وهو لين الحديث ومن وجه آخر أخرجه ابن الجوزي في «العلل» 24 وفيه الوليد بن مسلم وهو مدلس. وقد عنعن.
وصوب الدارقطني الوقف فيما نقل عنه ابن الجوزي. وكذا جعله البخاري من كلام أبي الدرداء. انظر «الفتح» 8/ 490، ومع ذلك صححه الألباني في «تخريج» السنة 301/ 130 فالله أعلم.
__________
(1) الشورى: 32.
(2) تصحف في الأصل «حبيب» .(4/210)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين» .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 36]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
قوله عزّ وجلّ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «سنَفْرُغُ» بنون مفتوحة. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وعبد الوارث: «سيَفْرُغُ» بياءٍ مفتوحة. وقرأ ابن السّميفع، وابن يعمر، وأبو عبيدة، وعاصم الجحدري والحلبيّ عن عبد الوارث:
«سيُفْرَغُ» بضم الياء وفتح الراء. قال الفراء: هذا وعيد من الله تعالى، لأنه لا يشغَله شيء عن شيء، تقول للرجل الذي لا شغل له: قد فرغتَ لي، قد فرغت تشتمني؟! أي: قد أخذت في هذا وأقبلت عليه؟ وقال الزجاج: الفراغ في اللغة على ضربين. أحدهما: الفراغ من شغل. والآخر: القصد للشيء، تقول: قد فرغتُ مما كنتُ فيه، أي: قد زال شغلي به، وتقول: سأتفرَّغ لفلان، أي: سأجعله قصدي، ومعنى الآية: سنَقْصُد لحسابكم. فأمّا «الثَّقَلان» فهما الجن والإنس، سُمِّيا بذلك لأنهما ثقل الأرض.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ تَنْفُذُوا أي: تخرُجوا يقال: نفذ الشيء من الشيء: إذا خَلَص منه، كالسهم ينفُذ من الرَّمِيَّة والأقطار: النواحي والجوانب وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إِن استطعتم أن تعلَموا ما في السموات والأرض فاعلَموا، قاله ابن عباس. والثاني: إن استطعتم أن تهرُبوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهرُبوا واخرُجوا منها والمراد: أنكم حيثما كنتم أدرككم الموت، هذا قول الضحاك ومقاتل في آخرين. والثالث: إن استطعتم أن تَجُوزوا أطراف السموات والأرض فتُعجِزوا ربَّكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا وإنما يقال لهم هذا يوم القيامة، ذكره ابن جرير. قوله عزّ وجلّ: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تنفذون إِلا في سلطان الله عزّ وجلّ، لأنه مالك كل شيء، قاله ابن عباس. والثاني: لا تنفذون إِلاّ بحُجَّة، قاله مجاهد.
والثالث: لا تنفُذون إِلا بمُلك، وليس لكم ملك، قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما فثنَّى على اللفظ. وقد جمع في قوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ على المعنى. فأمّا «الشُّواظ» ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لهب النار، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار. والثاني: الدُّخان، قاله سعيد بن جبير. والثالث: النار المحضة، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: هي النار التي تأجّج لا دخان فيها، ويقال: شواط وشِواظ. وقرأ ابن كثير بكسر الشين وقرأ أيضاً هو وأهل البصرة: «ونُحاسٍ» بالخفض، والباقون برفعها. وفي «النُّحاس» قولان:
أحدهما: أنه دخان النار، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير والفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج، ومنه قول الجعديّ يذكر امرأة:
تضيء كضوء سراج السّليط ... لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فيه نُحاسا
وذكر الفراء في السَّليط ثلاثة أقوال: أحدها: أنه دُهن السَّنام، وليس له دخان إِذا استُصبح به.
والثاني: أنه دهن السّمسم. والثالث: أنه الزّيت. والقول الثاني: أنه الصُّفْر المُذاب يُصَبُّ على(4/211)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
رؤوسهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة. قال مقاتل: والمراد بالآية: كفار الجن والإنس، يرسل عليهما في الآخرة لهب النار والصُّفْر الذائب، وهي خمسة أنهار تجري على رؤوس أهل النّار، ثلاثة أنهار من تحت العرش على مقدار الليل، ونهران على مقدار أنهار الدنيا، فَلا تَنْتَصِرانِ أي: فلا تمتنعان من ذلك «1» .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
قوله تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي: انفرجتْ من المجرَّة لنُزول مَنْ فيها يومَ القيامة فَكانَتْ وَرْدَةً وفيها قولان: أحدهما: كلَوْن الفرس الوردة، قاله أبو صالح، والضحاك. وقال الفراء: الفرس الوردة، تكون في الربيع وردة إِلى الصُّفرة، فإذا اشتد الحر كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة من الخيل وكذلك قال الزّجّاج: «فكانت وردة» كلون فرس وردة، والكُميت: الورد يتلوَّن، فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصيف، ولونه في الصيف خلاف لونه في الشتاء، والسماء تتلوَّن من الفزع الأكبر. وقال ابن قتيبة: المعنى: فكانت حمراء في لون الفرس الورد. والثاني: أنها وردة النبات وقد تختلف ألوانها، إلا أن الأغلب عليها الحمرة، ذكره الماوردي. وفي الدِّهان قولان: أحدهما: أنه واحد، وهو الأديم الأحمر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه جمع دُهن، والدُّهن تختلف ألوانه بخُضرة وحُمرة وصُفرة، حكاه اليزيدي، وإلى نحوه ذهب مجاهد، وقال الفراء: شبّه تلوُّن السماء بتلوُّن الوردة من الخيل، وشبّه الوردة في اختلاف ألوانها بالدّهن.
قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يسألون ليُعلم حالهم، لأن الله تعالى أعلم منهم بذلك. والثاني: لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لاشتغال كل واحد منهم بنفسه، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: لا يُسألون عن ذنوبهم لأنهم يُعرفون بسيماهم، فالكافر أسود الوجه، والمؤمن أغر الوجه محجَّل من أثر وضوئه، قاله الفراء. قال الزجاج: لا يُسأل أحد عن ذنْبه ليُستفهم، ولكنه يسأل سؤال توبيخ وتقريع.
قوله عزّ وجلّ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ قال الحسن: بسواد الوجوه، وزَرَق الأعيُن فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فيه قولان: أحدهما: أن خزنة جهنم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظُهورهم ثم يدفعونهم على وجوههم في النار، قاله مقاتل. والثاني: يؤخذ بالنَّواصي والأقدام فيُسحبون إلى النار، ذكره الثعلبي. وروى مردويه الصائغ، قال: صلّى بنا الإمام صلاة الصبح فقرأ سورة «الرحمن» ومعنا علي بن الفضيل بن عياض، فلمّا قرأ «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم» خَرَّ عليٌّ مغشيّاً عليه حتى فرغنا من الصلاة، فلمْا كان بعد ذلك قلنا له: أما سمعتَ الإمام يقرأ «حور مقصورات في الخيام» ؟ قال:
__________
(1) هذا الخبر من مناكير مقاتل وأباطيله، وإنما هو التحدي في الدنيا.(4/212)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
شغلني عنها «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم فيؤخذ بالنَّواصي والأقدام» .
قوله عزّ وجلّ: هذِهِ جَهَنَّمُ أي يقال لهم: هذه جهنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يعني المشركين يَطُوفُونَ بَيْنَها وقرأ أبو العالية وأبو عمران الجوني: «يُطَوِّفون» بياءٍ مضمومة مع تشديد الواو، وقرأ الأعمش مثله إلّا أنه بالتاء. قوله عزّ وجلّ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قال ابن قتيبة: الحميم: الماء الحارّ، والآني: الذي قد انتهت شِدَّة حَرِّه. قال المفسرون: المعنى أنهم يسعَون بين عذاب الحميم وبين عذاب الجحيم، إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 53]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53)
قوله عزّ وجلّ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فيه قولان: أحدهما: قيامه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم الجزاء. والثاني: قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسبه. وجاء في التفسير، أن العبد يهُمُّ بمعصية فيتركها خوفا من الله عزّ وجلّ فله جنَّتان، وهما بستانان ذَواتا أَفْنانٍ فيه قولان: أحدهما: أنها الأغصان، وهي جمع فَنَن، وهو الغُصن المستقيم طولاً، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعطية، والفراء، والزجاج.
والثاني: أنها الألوان والضّروب من كلّ شيء، وهي جمع فنّ، وهذا قول سعيد بن جبير. وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة. وجمع عطاء بين القولين، فقال: في كل غصن فُنون من الفاكهة.
قوله تعالى: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ قال ابن عباس: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: السلسبيل، والأخرى: التسنيم. وقال عطية: إحداهما: من ماءٍ غير آسن، والأخرى: من خمر. وقال أبو بكر الورّاق: فيهما عينان تجريان لِمَن كانت له في الدنيا عينان تَجْرِيان من البكاء.
قوله عزّ وجلّ: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي: صنفان ونوعان. قال المفسرون: فيهما من كل ما يُتفكَّه به نوعان، رطب ويابس، لا يقصر أحدهما عن الآخر في فضله.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 54 الى 61]
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
مُتَّكِئِينَ هذا حال المذكورين عَلى فُرُشٍ جمع فِراش بَطائِنُها جمع بِطانة، وهي التي تحت الظِّهارة. وقال أبو هريرة: هذه البطائن، فما ظنُّكم بالظهائر؟! وقال ابن عباس: إنما ترك وصف الظواهر، لأنه ليس أحدٌ يعلم ما هي. وقال قتادة: البطائن: هي الظواهر بلُغة قوم. وكان الفراء يقول:
قد تكون البطانة ظاهرة، والظّهارة باطنة، لأن كل واحد منهما قد يكون وجهاً، والعرب تقول: هذا ظَهْرُ السماءِ، وهذا بَطْنُ السماء، لظاهرها، وهو الذي تراه، وقال ابن الزبير يَعيب قَتَلة عثمان: خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كلّ قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب. يعني هربوا ليلاً فجعلوا ظهور الكواكب بطوناً، وذلك جائز في العربيَّة. وأنكر هذا القول ابن قتيبة جداً، وقال:(4/213)
إنما أراد الله أن يعرِّفنا- من حيث نَفهم- فضلَ هذه الفُرش وأن ما وليَ الأرض منها إستَبْرَقٌ، وإذا كانت البِطانة كذلك، فالظِّهارةُ أعلى وأشرفُ. وهل يجوز لأحد أن يقول لوجهِ مصَلٍّ: هذا بِطانتُه، ولِما وَلِيَ الأرض منه: هذا بطانته؟! وإنما يجوز هذا في ذي الوجهين المتساويين، تقول لِما وَلِيَك من الحائط:
هذا ظَهْرُ الحائط، ويقول جارك لِما وَلِيَه: هذا ظَهْرُ الحائط، وكذلك السماء ما ولينا منها: ظَهْر، وهي لِمَن فَوْقَها: بَطْن. وقد ذكرنا الإستبرق في سورة الكهف «1» .
قوله عزّ وجلّ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ قال أبو عبيدة: أي: ما يُجتنى قريبٌ لا يُعَنِّي الجانِيَ.
قوله عزّ وجلّ فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ قد شرحناه في الصافات «2» . وفي قوله: «فِيهِنَّ» قولان:
أحدهما: أنها تعود إلى الجَنَّتَين وغيرهما مما أُعدَّ لصاحب هذه القِصَّة، قاله الزجاج. والثاني: أنها تعود إلى الفُرُش، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ قرأ الكسائي بضم الميم، والباقون بكسرها، وهما لغتان: يَطْمِثُ ويَطْمُثُ، مثل يَعْكِفُ ويعكف. وفي معناه قولان: أحدهما: لم يفتضّهنّ والطَّمْثُ: النِّكاح بالتَّدمية، ومنه قيل للحائض: طامِثٌ، قاله الفراء. والثاني: لَمْ يَمْسَسْهُنَّ يقال: ما طَمَثَ هذا البعيرَ حَبْلٌ قَطٌ، أي: ما مسَّه، قاله أبو عبيدة. قال مقاتل: وذلك لأنهنَّ خُلِقْنَ من الجَنَّة فعلى قوله، هذا صفة الحُور.
وقال الشعبي: هُنَّ من نساء الدنيا لَمْ يَمْسَسْهُنَّ مذ أُنشئن خَلْقٌ. وفي الآية دليل على أن الجِنِّيَّ يَغْشَى المرأة كالإنسيّ.
قوله عزّ وجلّ: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ قال قتادة: هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان.
وذكر الزجاج أن أهل التفسير وأهل اللغة قالوا: هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان، والمَرْجان:
صِغار اللؤلؤ، وهو أشدُّ بياضاً. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: «الياقوت» فارسيٌّ معرَّب، والجمع «اليواقيت» ، وقد تكلَّمت به العربُ، قال مالكُ بن نُوَيْرَةَ اليَرْبُوعيّ:
لَنْ يُذْهِبَ اللُّؤْمَ تاجٌ قَدْ حُبِيتَ بِهِ ... مِنَ الزَّبَرْجَدِ والياقوتِ والذَّهَبِ
قوله عزّ وجلّ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ قال الزجاج، أي: ما جزاءُ مَنْ أحسنَ في الدُّنيا إلاّ أن يُحسَنَ إِليه في الآخرة. وقال ابن عباس: هل جزاءُ من قال: «لا إِله إِلاّ اللهُ» وعَمِل بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلم إلاّ الجنة. وروى أنس بن مالك قال:
(1385) قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية، وقال: «هل تدرون ما قال ربُّكم» ؟ قالوا: اللهُ ورسُوله أعلمُ، قال: «فإن ربَّكم يقول: هل جزاءُ مَنْ أنْعَمْنا عليه بالتوحيد إلّا الجنّة» ؟!
__________
ضعيف. أخرجه البغوي 2094 من حديث أنس، وفي إسناده بشر بن الحسين، وهو منكر الحديث كما قال البخاري وغيره، لكن له شاهد أمثل منه إسنادا. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 227 من طريق إسحاق بن إبراهيم بن بهرام بهذا الإسناد. وأخرجه أبو نعيم في «تاريخ أصفهان» 1/ 233 من طريق الحجاج بن يوسف به. وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه البيهقي في «الشعب» 427 وإسناده ضعيف لضعف إبراهيم بن محمد الكوفي، وبه أعلّه البيهقي حيث قال عنه: منكر.
__________
(1) الكهف: 31.
(2) الصافات: 48.(4/214)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
قوله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قال الزجاج: المعنى: ولِمَن خاف مقام ربِّه جنَّتان، وله مِن دونهما جنَّتان. وفي قوله: «ومِنْ دونِهما» قولان: أحدهما: دونهما في الدَّرج، قاله ابن عباس.
والثاني: دونهما في الفضل، كما روى أبو موسى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
(1386) «جنَّتان من ذهب وجنَّتان من فضة» وإلى نحو هذا ذهب ابن زيد، ومقاتل.
قوله تعالى: مُدْهامَّتانِ قال ابن عباس وابن الزبير: خضراوان من الرِّيّ. وقال أبو عبيدة: من خُضرتهما قد اسودَّتا. قال الزجاج: يعني أنهما خضراوان تضرب خضرتُهما إلى السَّواد، وكل نبت أخضر فتمام خُضرته ورِيِّه أن يضرب إلى السّواد. قوله تعالى: ضَّاخَتانِ
قال أبو عبيدة: فوّارتان.
وقال ابن قتيبة: تفوران، و «النَّضْخ» أكثر من «النَّضْح» . وفيما يفوران به أربعة أقوال: أحدهما: بالمسك والكافور، قاله ابن مسعود. والثاني: بالماء، قاله ابن عباس. والثالث: بالخير والبركة، قاله الحسن.
والرابع: بأنواع الفاكهة، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ قال ابن عباس: نَخْلُ الجَنَّة: جذوعها زمرُّد أخضر، وكَرَبُها: ذهبٌ أحمر، وسَعَفها: كُسوة أهل الجنة، منها مُقطَّعاتهم وحُللهم. وقال سعيد بن جبير: نخل الجنة:
جذوعها من ذهب، وعروقها من ذهب، وكرانيفها من زمرُّد، ورُطَبها كالدِّلاء أشد بياضاً من اللَّبَن، وألين من الزُّبد، وأحلى من العسل، ليس له عجم. قال أبو عبيد: الكرانيف: أصول السَّعَف الغلاظ، الواحدة: كرْنافَة. وإنما أُعاد ذِكر النَّخْل والرُّمّان- وقد دخلا في الفاكهة- لبيان فضلهما كما ذكرنا في قوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» ، هذا قول جمهور المفسرين واللُّغويِّين. وحكى الفراء والزجاج أن قوماً قالوا: ليسا من الفاكهة قال الفراء: وقد ذهبوا مذهباً، ولكن العرب تجعلهما فاكهة.
قال الأزهري: ما علمتُ أحداً من العرب قال في النخيل والكروم وثمارها: إنها ليست من الفاكهة،
__________
صحيح. أخرجه البخاري 7444 من حديث أبي موسى. وأخرجه البخاري 4878 و 4880 ومسلم 180 والترمذي 2528 وابن ماجة 186 وابن أبي عاصم في «السنة» 613 وأحمد 4/ 411 والدولابي في «الكنى» 2/ 71 وابن أبي داود في «البعث» 59 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 16 وابن حبان 7386 والبيهقي في «الاعتقاد» ص 130 والبغوي في «شرح السنة» 4275 والذهبي في «تذكرة الحفاظ» 1/ 270 من طرق عن عبد العزيز بن عبد الصمد به. وأخرجه أحمد 4/ 416 وابن أبي شيبة 3/ 148 والدارمي 2/ 333 والطيالسي 529 وابن مندة في «التوحيد» 781 من طريق أبي قدامة الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني به وأتم منه.
__________
(1) البقرة: 98.(4/215)