وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
طرحناها في الحفيرة. وقد ذكرنا سبب قذفهم إِياها في سورة البقرة «1» .
قوله تعالى: فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فيه قولان: أحدهما: أنه ألقى حلياً كما ألقَوْا. والثاني: ألقى ما كان من تراب حافر فرس جبريل. وقد سبق شرح القصة في البقرة «2» وذكرنا في الأعراف «3» معنى قوله تعالى: عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ.
قوله تعالى: فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ هذا قول السامري ومن وافقه من الذين افتُتنوا.
قوله تعالى: فَنَسِيَ في المشار إِليه بالنسيان قولان: أحدهما: أنه موسى. ثم في المعنى ثلاثة أقوال: أحدها: هذا إِلهكم وإِله موسى فنسي موسى أن يخبركم أن هذا إِلهه، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: فنسي موسى الطريق إِلى ربه، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: فنسي موسى إِلهه عندكم، وخالفه في طريق آخر، قاله قتادة. والثاني: أنه السامري، والمعنى: فنسي السامريُّ إِيمانه وإِسلامه، قاله ابن عباس. وقال مكحول: فنسي، أي: فترك السامريُّ ما كان عليه من الدين. وقيل:
فنسي أن العجل لا يرجع إِليهم قولاً، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. فعلى هذا القول، يكون قوله تعالى: فَنَسِيَ من إخبار الله عزّ وجلّ عن السامري. وعلى ما قبله، فيمن قاله قولان: أحدهما: أنه السامريُّ. والثاني: بنو إِسرائيل. قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ قال الزجاج: المعنى: أفلا يرون أنه لا يرجع إِلَيْهِمْ قَوْلًا.
[سورة طه (20) : الآيات 90 الى 94]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
قوله تعالى: وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل أن يأتي موسى يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي: ابتليتم وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ لا العجل، قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ أي: لن نزال مقيمين على عبادة العجل حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فلما رجع موسى قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل أَلَّا تَتَّبِعَنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «ألا تتبعني» بياء في الوصل ساكنة، ويقف ابن كثير بالياء، وأبو عمرو بغير ياء. وروى إِسماعيل بن جعفر عن نافع: «ألا تتبعنيَ أفعصيت» بياء منصوبة. وروى قالون عن نافع مثل أبي عمرو سواء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة والكسائي: بغير ياء في الوصل، والوقف. والمعنى: ما منعك من اتباعي و «لا» كلمة زائدة. وفي المعنى ثلاثة أقوال: أحدها: تسير ورائي بمن معك من المؤمنين، وتفارقهم. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن تناجزهم القتال، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: في الإِنكار عليهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي وهو قوله في وصيته إِياه «اخلفني في قومي وأصلح» . قال المفسرون: ثم أخذ برأس أخيه ولحيته غضباً منه عليه «4» . وهذا وإِن لم يذكر ها هنا، فقد ذكر في
__________
(1) سورة البقرة: 52.
(2) في الآية 52 من سورة البقرة.
(3) سورة الأعراف: 148.
(4) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 7/ 255: وكان هارون أكبر من موسى- صلوات الله وسلامه عليهما بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان ليّن الغضب. وللعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربعة تأويلات: الأول- أن ذلك كان متعارفا عندهم، من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكراما وتعظيما، فلم يكن على طريق الإذلال. والثاني: أن ذلك إنما كان ليسرّ إليه نزول الألواح عليه لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوراة. فقال له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله. والثالث: إنما فعل ذلك لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل. ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء. والرابع: ضمّ إليه أخاه ليعلم ما لديه، فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه، فبين له أخوه أنهم استضعفوه، يعني عبدة العجل، وكادوا يقتلونه أي قاربوا. وقد دلت هذه الآية على أنه لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يسكت.
وقال ابن العربي: وفيها دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام كما زعم بعض الناس، فإن موسى لم يغير غضبه شيئا من أفعاله، بل اطردت على مجراها، وقال المهدوي: لأن غضبه كان لله عز وجل وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا ويتفرقوا.(3/172)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
الأعراف «1» فاكتُفي بذلك، وقد شرحنا هناك معنى «يا ابن أم» واختلاف القراء فيها.
قوله تعالى: لا بِرَأْسِي
أي: بشعر رأسي. وهذا الغضب كان لله عزّ وجلّ لا لنفسه، لأنه وقع في نفسه، أن هارون عصى الله بترك اتِّباع موسى.
قوله تعالى: نِّي خَشِيتُ
أي: إن فارقتهم واتّبعتك نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
وفيه قولان: أحدهما: باتباعي إِياك ومن معي من المؤمنين. والثاني: بقتالي لبعضهم ببعض.
وفي قوله تعالى: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
قولان: أحدهما: لم ترقب قولي لك: «اخلفني في قومي وأصلح» . والثاني: لم تنتظر أمري فيهم.
[سورة طه (20) : الآيات 95 الى 98]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)
قوله تعالى: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي: ما أمرك وشأنك الذي دعاك إِلى ما صنعت؟ قال ابن الأنباري: وبعض اللغويين يقول: الخطب مشتق من الخطاب. المعنى: ما أمرُك الذي تخاطب فيه؟! واختلفوا في اسم السامري على قولين «2» : أحدهما: موسى أيضاً، قاله وهب بن منبه، وقال: كان ابن عم موسى بن عمران. والثاني: ميخا، قاله ابن السائب.
وهل كان من بني إِسرائيل، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لم يكن منهم، قاله ابن عباس. والثاني:
كان من عظمائهم، وكان من قبيلة تسمى «سامرة» ، قاله قتادة.
وفي بلده قولان: أحدهما: كرمان، قاله سعيد بن جبير. والثاني: باجرما، قاله وهب.
__________
(1) سورة الأعراف: 150.
(2) ليس في تسميته كبير فائدة، ولو تعلقت بذلك فائدة لذكره الله عز وجل.(3/173)
قوله تعالى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ وقرأ حمزة والكسائي: «تَبصروا» بالتاء، فعلى قراءة الجمهور أشار إِلى بني إِسرائيل، وعلى هذه القراءة خاطب الجميع. قال أبو عبيدة: علمت ما لم يعلموا. قال: وقوم يقولون: بصرت، وأبصرت سواء، بمنزلة أسرعت، وسَرُعت. وقال الزجاج:
يقال: بصُر الرجل يبصُر: إِذا صار عليماً بالشيء، وأبصر يبصر: إِذا نظر. قال المفسرون: فقال له موسى: وما ذاك؟ قال: رأيت جبريل على فرس، فأُلقي في نفسي: أن اقبض من أثرها فَقَبَضْتُ قَبْضَةً، وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، ومعاذ القارئ: «قبصة» بالصاد. قال الفراء: والقبضة بالكفِّ كلِّها. والقبصة- بالصاد- بأطراف الأصابع. قال ابن قتيبه: ومثل هذا: الخضم بالفم كله، والقضم بأطراف الأسنان. والنضخ أكثر من النضح، والرجز: العذاب والرجس: النتن، والهُلاس في البدن، والسُّلاس في العقل، والغلط في الكلام، والغلت في الحساب، والخصر: الذي يجد البرد، والخرص: الذي يجد البرد والجوع، والنار الخامدة: التي قد سكن لَهَبها ولم يطفأ جمرها، والهامدة:
التي طفئت فذهبت البتَّة، والشُّكْد: العطاء ابتداءً، فإن كان جزاءً فهو شُكْم، والمائح: الذي يدخل البئر فيملأ الدلو، والماتح: الذي ينزعها.
قوله تعالى: فَنَبَذْتُها أي: فقذفتها في العجل. وقرأ أبو عمرو وحمزة، والكسائي، وخلف:
«فنبذتها» بالإِدغام وَكَذلِكَ أي: وكما حدثتك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي: زيَّنتْ لي قالَ موسى فَاذْهَبْ أي: من بيننا فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أي: ما دمت حياً أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ أي: لا أَمسُّ ولا أُمَسُّ، فصار السامريُّ يهيم في البرِّيَّة مع الوحش والسباع، لا يمسَّ أحداً، ولاَ يمَسُّه أحدٌ، عاقبه الله بذلك، وألهمه أن يقول: «لا مساس» ، فكان إِذا لقيَ أحداً يقول: لا مساس، أي: لا تقربني، ولا تمسّني، وصار بذلك عقوبة لولده، حتى بقاياهم اليوم، فيما ذكر أهل التفسير، بأرض الشام يقولون ذلك. وحكي أنه إِن مس واحدٌ من غيرهم واحداً منهم، أخذتهما الحمَّى في الحال. قوله تعالى: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً أي: لعذابك يوم القيامة لَنْ تُخْلَفَهُ أي: لن يتأخر عنك ومن كسر لام «تخلف» أراد: لن تغيب عنه.
قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ يعني: العجل الَّذِي ظَلْتَ قال ابن عباس: معناه: أقمت عليه، وقال الفراء: معنى «ظلت» : فعلته نهاراً. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وابن يعمر: «ظُلت» برفع الظاء. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، والأعمش، وابن أبي عبلة: «ظِلت» بكسر الظاء. وقال الزجاج: «ظَلت» و «ظلت» بفتح الظاء وكسرها، فمن فتح، فالأصل فيه: «ظللت» ولكن اللام حذفت لثقل التضعيف والكسر، وبقيت الظاء على فتحها، ومن قرأ: «ظِلت» بالكسر، حوَّل كسرة اللام على الظاء. ومعنى عاكِفاً مقيماً، لَنُحَرِّقَنَّهُ قرأ الجمهور لَنُحَرِّقَنَّهُ بضم النون وفتح الحاء وتشديد الراء، وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو زرين، وابن يعمر: «لنَحْرقنه» بفتح النون وسكون الحاء ورفع الراء مخففة. وقرأ أبو هريرة، والحسن، وقتادة: «لنحرقنه» برفع النون وإِسكان الحاء وكسر الراء مخففة.
قال الزجاج: إِذا شدد فالمعنى: نحرقه مرة بعد مرة وتأويل «لنحرقنَّه» : لنبردنَّه، يقال: حرقت أحرُق وأحْرِق: إِذا بردت الشيء، والنسف: التذرية. وجاء في التفسير: أن موسى أخذ العجل فذبحه، فسال منه دم، لأنه كان قد صار لحماً ودماً، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه في البحر، ثم أخبرهم موسى عن إِلههم، فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: هو الذي يستحق العبادة، لا العجل،(3/174)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: وسع علمه كلّ شيء.
[سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)
قوله تعالى: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ أي: كما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه، نقص عليك مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي: من أخبار من مضى، والذِّكْر ها هنا: القرآن مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وقرأ عكرمة وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري: «يُحَمَّل» برفع الياء وفتح الحاء وتشديد الميم، وِزْراً أي: إِثماً خالِدِينَ فِيهِ أي: في عذاب ذلك الوزر وَساءَ لَهُمْ قال الزجاج: المعنى: وساء الوزر لهم يوم القيامة حِمْلًا و «حملاً» منصوب على التمييز. قوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قرأ أبو عمرو: «ننفخ» بالنون. وقرأ الباقون من السبعة:
«ينفخ» بالياء، على ما لم يسم فاعله. وقرأ أبو عمران الجوني: «يوم ينفخ» بياء مفتوحة ورفع الفاء وقد سبق ذكر الصّور. وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ وقرأ أُبيُّ بن كعب وأبو الجوزاء وطلحة بن مصرِّف: «ويحشر» بياء مفتوحة ورفع الشين. وقرأ ابن مسعود والحسن وأبو عمران: «ويحشر» بياء مرفوعة وفتح الشين، «المجرمون» بالواو. قال المفسرون: والمراد بالمجرمين: المشركون يَوْمَئِذٍ زُرْقاً وفيه قولان:
أحدهما: عُمياً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن قتيبة: بيض العيون من العمى، قد ذهب السواد والناظر. والثاني: زُرق العيون من شدة العطش، قاله الزهري. والمراد: أنه يشوِّه خَلْقَهم بسواد الوجوه وزرق العيون.
قوله تعالى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي: يسارّ بعضهم بعضاً إِنْ لَبِثْتُمْ أي: ما لبثتم إِلا عشر ليال.
وهذا على طريق التقليل، لا على وجه التحديد. وفي مرادهم بمكان هذا اللبث قولان: أحدهما:
القبور. ثم فيه قولان. أحدهما: أنهم عَنَوا طول ما لبثوا فيها، روى أبو صالح عن ابن عباس: إِن لبثتم بعد الموت إِلا عشراً. والثاني: ما بين النفختين، وهو أربعون سنة، فإنه يخفف عنهم العذاب حينئذ، فيستقلُّون مدة لبثهم لهول ما يعاينون، حكاه علي بن أحمد النيسابوري. والقول الثاني: أنهم عَنَوا لبثهم في الدنيا، قاله الحسن: وقتادة.
قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي: أعقلهم، وأعدلهم قولاً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً فنسي القوم مقدار لبثهم لهول ما عاينوا.
[سورة طه (20) : الآيات 105 الى 114]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)(3/175)
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ.
(978) سبب نزولها أن رجالاً من ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالوا يا محمد: كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً قال المفسرون: النسف: التذرية. والمعنى: يصيِّرها رِمالاً تسيل سيلاً، ثم يصيِّرها كالصوف المنفوش، تطيِّرها الرياح فتستأصلها فَيَذَرُها أي: يدَع أماكنها من الأرض إِذا نسفها قاعاً قال ابن قتيبة القاع من الأرض: المستوي الذي يعلوه الماء، والصفصف:
المستوي أيضاً، يريد: أنه لا نبت فيها.
قوله تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بالعِوَج:
الأودية، وبالأمَتْ: الرَّوابي، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: العِوَج:
الانخفاض، والأمَتْ: الارتفاع، وهذا مذهب الحسن. وقال ابن قتيبة: الأمَتْ: النَّبَك. والثاني: أن العِوَج: المَيْل، والأَمْت: الأثَرَ مثل الشِّراك، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن العِوَج: الصدع، والأَمْت: الأَكَمة.
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ قال الفراء: أي يتَّبعون صوت الداعي للحشر، لا عِوَج لهم عن دعائه: لا يقدرون أن لا يتَّبِعوا. قوله تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ أي: سكنت وخفيت فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً وفيه ثلاثة أقوال: أَحدها: وطْء الأقدام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة ومجاهد في رواية، واختاره الفراء، والزجاج. والثاني: تحريك الشفاه بغير نطق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: الكلام الخفيّ، روي عن مجاهد. وقال أبو عبيدة:
الصوت الخفيّ.
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ يعني لا تنفع أحداً إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ أي: إِلا شفاعة من أَذِن له الرحمن، أي: أَذِن أن يُشْفَع له وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي: ورضي للمشفوع فيه قولاً، وهو الذي كان في الدنيا من أهل «لا إِله إِلا الله» . يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ الكناية راجعة إِلى الذين يتَّبعون الداعي. وقد شرحنا هذه الآية في سورة البقرة «1» وفي هاء «به» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله مقاتل. والثاني: إِلى «ما بين أيديهم وما خلفهم» ، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ قال الزجاج: «عَنَتْ» في اللغة: خضعت، يقال: عنا يعنو: إذا
__________
باطل، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي وهذا إسناد ساقط، وتفرد به المصنف عند هذه الآية دون سائر أهل التفسير، ولم أجده عند غيره، فهو شبه موضوع، بل هو باطل.
__________
(1) سورة البقرة: 255.(3/176)
خضع، ومنه قيل: أُخِذتْ البلاد عَنْوَةً: إِذا أُخذتْ غَلَبة، وأُخذتْ بخضوع من أهلها. والمفسرون: على أن هذا في يوم القيامة، إِلا ما روي عن طلق بن حبيب: هو وضع الجبهة والأنف والكفّين والرُّكبتين وأطراف القدمين على الأرض للسّجود. وقد شرحنا في آية الكرسيّ معنى «الحيّ القيّوم» «1» .
قوله تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً قال ابن عباس: خَسِر من أشرك بالله.
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ «من» ها هنا للجنس. وإِنما شرط الإِيمان، لأن غير المؤمن لا يُقبَل عملُه، ولا يكون صالحاً فَلا يَخافُ أي: فهو لا يخاف. وقرأ ابن كثير: «فلا يَخَفْ» على النهي. قوله تعالى: ظُلْماً وَلا هَضْماً فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يخاف أن يُظلَم فيُزاد في سيِّئاته، ولا أن يُهضَم من حسناته، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: لا يخاف أن يُظلَم فيزاد من ذَنْب غيره، ولا أن يُهضم من حسناته، قاله قتادة. والثالث: لا يخاف أن يؤاخَذ بما لم يعمل، ولا يُنتقص من عمله الصالح، قاله الضحاك. والرابع: لا يخاف أن لا يُجزَى بعمله، ولا أن يُنقَص من حَقِّه، قاله ابن زيد. قال اللغويون: الهَضْم: النَّقْص، تقول العرب: هضمتُ لك من حَقِّي، أي:
حَطَطْتُ، ومنه: فلان هضيم الكَشْحَيْن، أي: ضامر الجنبين، ويقال: هذا شيء يهضم الطعام، أي:
ينقص ثِقْله. وفرق بعض المفسرين بين الظُّلم والهَضْم، فقال: الظُّلم: منع الحق كلِّه، والهضم: منع البعض، وإِن كان ظُلْماً أيضاً.
قوله تعالى وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي: وكما بيَّنَّا في هذه السورة، أنزلناه، أي: أنزلنا هذا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي: بيَّنَّا فيه ضروب الوعيد. قال قتادة: يعني: وقائعه في الأمم المكذِّبة. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: ليكون سبباً لاتِّقائهم الشرك بالاتِّعاظ بِمَنْ قبلهم أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ أي: يجدِّد لهم القرآن، وقيل: الوعيد ذِكْراً أي: اعتباراً، فيتذكَّروا به عِقاب الأمم، فيعتبروا. وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري: «أو نُحْدِثُ» بنون مرفوعة. قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ أي: جَلَّ عن إِلحاد الملحِدين وقول المشركين في صفاته، الْمَلِكُ الذي بيده كلّ شيء، الْحَقُّ وقد ذكرناه في سورة يونس «2» .
قوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ في سبب نزولها قولان:
(979) أحدهما: أن جبريل كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلّم بالسورة والآي فيتلوها عليه، فلا يفرغ جبريل من
__________
أصل الحديث محفوظ، وذكر سبب النزول لهذه الآية باطل. تفرد به أبو صالح عن ابن عباس، وعن أبي صالح الكلبيّ، وهو يضع الحديث. والذي صح في هذا الباب هو ما أخرجه البخاري 5 و 4929 و 5044 و 7524 ومسلم 448 والنسائي 2/ 149 والترمذي 3329 وأحمد 1/ 343 وابن سعد 1/ 198 والحميدي 527 وابن حبان 39 والطبراني 12297 والطيالسي 2628 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 198 كلهم عن ابن عباس في قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه. فقال ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحركهما. فأنزل الله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
قال: جمعه في صدرك، ثم تقرؤه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
قال: فاستمع له وأنصت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ثم إن علينا أن تقرأه. قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه جبريل، استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه النبي صلى الله عليه وسلّم كما كان أقرأه» . وليس في الحديث سبب نزول هذه الآية وإنما الآيات التي نزلت من سورة القيامة.
__________
(1) سورة البقرة: 255.
(2) سورة يونس: 32.(3/177)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
آخرها حتى يتكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(980) والثاني: أن رجلاً لطم امرأته، فجاءت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم تطلب القصاص، فعجّل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهما القصاص، فنزلت هذه الآية، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نزل قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «1» ، قاله الحسن البصري.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وقرأ ابن مسعود، والحسن، ويعقوب، «نَقْضِيَ» بالنون وكسر الضاد وفتح الياء «وَحْيَه» بنصب الياء.
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته تخاف نسيانه، هذا على القول الأول. والثاني: لا تقرئ أصحابك حتى نبيِّن لك معانيه، قاله مجاهد، وقتادة.
والثالث: لا تسأل إِنزاله قبل أن يأتيك الوحي، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: زِدْني قرآناً، قاله مقاتل. والثاني:
فهماً. والثالث: حفظا، ذكرهما الثّعلبيّ.
[سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
قوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ أي: أمرناه وأوصيناه أن لا يأكل من الشجرة مِنْ قَبْلُ أي:
مِنْ قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا الإِيمان بي، وهم الذين ذكرهم في قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ،
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 9308 عن الحسن مرسلا، ومراسيل الحسن واهية والمتن منكر جدا، فإن السورة مكيّة.
__________
(1) سورة النساء: 34.(3/178)
والمعنى: أنهم إِن نقضوا العهد، فإن آدم قد عَهِدنا إِليه فَنَسِيَ.
وفي هذا النسيان قولان: أحدهما: أنه التَّرك، قاله ابن عباس، ومجاهد، والمعنى: ترك ما أُمِر به. والثاني: أنه من النسيان الذي يخالف الذِّكْر، حكاه الماوردي. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «فَنُسّيَ» برفع النون وتشديد السين.
قوله تعالى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً العَزْمُ في اللغة: توطينُ النفس على الفعل.
وفي المعنى أربعة أقوال «1» : أحدها: لم نجد له حفظاً، رواه العوفي عن ابن عباس، والمعنى:
لم يحفظ ما أُمِر به. والثاني: صبراً، قاله قتادة، ومقاتل، والمعنى: لم يصبر عمَّا نُهي عنه. والثالث:
حزماً، قاله ابن السائب. قال ابن الأنباري: وهذا لا يُخرج آدم من أُولي العزم، وإِنما لم يكن له عزم في الأكل فحسب. والرابع: عزماً في العَوْد إِلى الذَّنْب، ذكره الماوردي. وما بعده هذا قد تقدّم تفسيره «2» إِلى قوله تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى قال المفسرون: المراد به نَصَب الدُّنيا وتعبها من تكلُّف الحرث والزرع والعجن والخَبزْ وغير ذلك. قال سعيد بن جبير: أُهبط إِلى آدم ثور أحمر، فكان يعتمل عليه ويمسح العرق عن جبينه، فذلك شقاؤه. قال العلماء: والمعنى: فتشقَيا وإِنما لم يقل فتشقيا، لوجهين: أحدهما: أن آدم هو المخاطَب، فاكتفى به، ومثله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ «3» ، قاله الفراء. والثاني: أنه لما كان آدم هو الكاسب، كان التعب في حَقِّه أكثر، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: أَلَّا تَجُوعَ فِيها قرأ أُبيّ بن كعب: «لا تُجاع ولا تعرى» بالتاء المضمومة والألف.
وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «وأَنَّكَ» مفتوحة الألف. وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: «وإِنَّكَ» بكسر الألف. قال أبو علي: من فتح حمله على أن لك أن لا تجوع وأن لك أن لا تظمأ، ومن كسر استأنف.
قوله تعالى: لا تَظْمَؤُا فِيها أي: لا تعطش. يقال: ظمئ الرجل يظمأ ظمأ، فهو ظمآن، أي:
عطشان. ومعنى وَلا تَضْحى لا تبرز للشمس فيصيبك حَرُّها، لأنه ليس في الجنة شمس. قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي: على شجرةٍ مَنْ أكل منها لم يَمُتْ وَمُلْكٍ لا يَبْلى جديده ولا يفنى، وما بعد هذا مفسر في الأعراف «4» . وفي قوله تعالى: فَغَوى قولان: أحدهما: ضلَّ طريق الخلود حيث أراده من قِبَل المعصية. والثاني: فسد عليه عيشه، لأن معنى الغيّ: الفساد. قال ابن الأنباري: وقد غلط بعض المفسرين، فقال: معنى «غوى» : أكثر مما أكل من الشجرة حتى بشم «5» ، كما يقال: غوى الفصيل إِذا أكثر من لبن أمّه فبشم وكاد يهلك، وهذا خطأٌ من وجهين: أحدهما: أنه لا يقال من البشم: غَوَى يَغْوِي، وإِنما يقال: غَوِي يَغْوَى. والثاني: أن قوله تعالى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ «6» يدل على أنهما لم يُكثِرا، ولم تتأخر عنهما العقوبة حتى يصلا إِلى الإِكثار. قال ابن قتيبة: فنحن نقول
__________
(1) قال الطبري رحمه الله 8/ 466: وأصل العزم: اعتقاد القلب على الشيء، ومن اعتقاد القلب: حفظ الشيء ومنه الصبر على الشيء، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه، فيكون تأويله ولم نجد له عزم قلب، على الوفاء لله بعهده، ولا على حفظ ما عهد إليه.
(2) سورة البقرة: 34.
(3) سورة ق: 17.
(4) سورة الأعراف: 22. [.....]
(5) في «اللسان» : البشم: التخمة عن الدسم.
(6) سورة الأعراف: 22.(3/179)
في حق آدم: عصى وغوى كما قال الله عزّ وجلّ، ولا نقول: آدم عاصٍ وغاوٍ، كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه: قد قطعه وخاطه، ولا تقول: هذا خياط، حتى يكون معاوداً لذلك الفعل، معروفاً به.
قوله تعالى: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ قد بيَّنَّا الاجتباء في الأنعام «1» . فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى أي: هداه للتوبة. قالَ اهْبِطا في المشار إِليهما قولان: أحدهما: آدم وإِبليس، قاله مقاتل. والثاني: آدم وحواء، قاله أبو سليمان الدّمشقي. ومعنى قوله عزّ وجلّ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ آدم وذريته، وإِبليس وذريته، والحية أيضاً وقد شرحنا هذا في البقرة «2» .
قوله تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ أي: رسولي وكتابي فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتَّبَع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه سوء الحساب، ولقد ضمن الله لمن اتَّبع القرآن أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية. قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي قال عطاء: عن موعظتي. وقال ابن السائب: عن القرآن ولم يؤمن به ولم يتَّبعه. قوله تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قال أبو عبيدة: معناه: معيشة ضيِّقة، والضَّنك يوصَف به الأنثى والذكر بغير هاءٍ، وكل عيش أو مكان أو منزل ضيِّق، فهو ضَنك، وأنشد:
وإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فانْزلِ «3» وقال الزجاج: الضَّنْك أصله في اللغة: الضِّيق والشدَّة.
وللمفسرين في المراد بهذه المعيشة خمسة أقوال: أحدها: أنها عذاب القبر.
(981) رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إِنه ليسلَّط عليه تسعة وتسعون تِنِّيناً ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إِلى يوم القيامة» . وممن ذهب إِلى أنه عذاب القبر ابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، والسدي.
__________
ضعيف. أخرجه ابن حبان 3122 والطبري 24426 والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» 68 من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف، وقال الشيخ شعيب في «الإحسان» : إسناده حسن. فإن أبا السمح أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، وهو هاهنا عن ابن حجيرة وقد روى له مسلم اه.
وفيما قاله نظر. جاء في «الميزان» 2667 في ترجمة درّاج أبي السّمح ما ملخصه: قال أحمد: أحاديثه مناكير، ولينه. وقال الدوري عن يحيى: ليس به بأس، وقال الدارمي عن يحيى: ثقة. وقال فضلك الرازي: ما هو ثقة ولا كرامة وقال النسائي: منكر الحديث، وفي رواية: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: ضعيف. وساق له ابن عدي أحاديث، وقال: عامتها لا يتابع عليها. وقال الدارقطني: ضعيف. ورواية: متروك اه. فتلخص من هذا، أن الرجل ضعفه الجمهور، وهو الصواب. وحديثه هذا منكر، فمثله لا يحسن حديثه خلافا للشيخ شعيب. والله الموفق. وقال ابن كثير عقب هذا الحديث: رفعه منكر جدا. راجع «تفسيره» 3/ 213 و «تفسير الشوكاني» 1610 و 1611 بتخريجي، والله الموفق.
__________
(1) سورة الأنعام: 87.
(2) سورة البقرة: 36.
(3) هو جزء من عجز بيت لعنترة بن شداد العبسي وهو في مختار الشعر الجاهلي 1/ 388 و «اللسان» - ضنك- وتمامه:
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا ... أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل
والضنك: الضيق من كل شيء.(3/180)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
والثاني: أنه ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: شِدَّة عيشه في النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد. قال ابن السائب:
وتلك المعيشة من الضريع والزقُّوم. والرابع: أن المعيشة الضَّنْك: كسب الحرام، روى الضحاك عن ابن عباس قال: المعيشة الضَّنْك: أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدى لشيء منها، وله معيشة حرام يركض فيها. قال الضحاك: فهذه المعيشة هي الكسب الخبيث، وبه قال عكرمة. والخامس: أن المعيشة الضَّنْك: المال الذي لا يتَّقي اللهَ صاحبُه فيه، رواه العوفي عن ابن عباس.
فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال: أحدها: القبر. والثاني: الدنيا. والثالث: جهنم.
وفي قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «أعمى» «حشرتَني أعمى» بفتح الميمين، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسرهما. وقرأ نافع بين الكسر والفتح. ثم في هذا المعنى للمفسرين قولان: أحدهما: أعمى البصر، روى أبو صالح عن ابن عباس قال: إِذا أُخرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إِلى المحشر عمي.
والثاني: أعمى عن الحُجَّة، قاله مجاهد، وأبو صالح. قال الزجاج: معناه: فلا حُجَّة له يهتدي بها، لأنه ليس للناس على الله حُجَّة بعد الرسل.
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: الأمر كذلك كما ترى أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها أي: فتركتَها ولم تؤمن بها، وكما تركتَها في الدنيا تُترَك اليوم في النار وَكَذلِكَ أي: وكما ذكرناه نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ أي: أشرك وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر وَأَبْقى لأنه يدوم.
[سورة طه (20) : الآيات 128 الى 130]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)
قوله تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي: أفلم يتبيَّن لكفار مكة إِذا نظروا آثار مَنْ أهلكْنا مِنَ الأمم وكانت قريش تتَّجر وترى مساكن عاد وثمود وفيها علامات الهلاك، فذلك قوله تعالى: يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ. وروى زيد عن يعقوب: «أفلم نَهْدِ» بالنون.
قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إِلى يوم القيامة، وقيل: إِلى يوم بدر، وقيل: إِلى انقضاء آجالهم لَكانَ لِزاماً أي: لكان العذاب لزاماً، أي: لازماً لهم. واللِّزام: مصدر وُصف به العذاب. قال الفراء وابن قتيبة: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى:
ولولا كلمة وأَجَل مسمّىً لكان لزاماً.
قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أمر الله تعالى نبيَّه بالصبر على ما يسمع من أذاهم إِلى أن يحكم الله فيهم، ثم حكم فيهم بالقتل، ونسخ بآية السيف إِطلاق الصّبر.
قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: صلِّ له بالحمد له والثناء عليه قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يريد الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها يعني: العصر وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ الآناء: الساعات، وقد بيَّنَّاها في آل عمران «1» ،
__________
(1) سورة آل عمران: 113.(3/181)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
فَسَبِّحْ أي: فصلِّ.
وفي المراد بهذه الصلاة أربعة أقوال: أحدها: المغرب والعشاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: جوف الليل، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: العشاء، قاله مجاهد، وابن زيد. والرابع: أول الليل وأوسطه وآخره، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَأَطْرافَ النَّهارِ المعنى: وسبِّح أطرافَ النهاء. قال الفرّاء: إنّما هما طَرَفان، فخرجا مخرج الجمع، كقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» .
وللمفسرين في المراد بهذه الصلاة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الظُّهر، قاله قتادة فعلى هذا، إِنما قيل لصلاة الظهر: أطراف النهار، لأن وقتها عند الزوال، فهو طَرَف النِّصف الأول النِّصف الثاني.
والثاني: أنها صلاة المغرب وصلاة الصبح، قاله ابن زيد وهذا على أن الفجر في ابتداء الطّرف الأوّل، والمغرب عند انتهاء الطَّرف الثاني. والثالث: أنها الفجر والظهر والعصر فعلى هذا يكون الفجر من الطرف الأول، والظهر والعصر من الطرف الثاني، حكاه الفراء.
قوله تعالى: لَعَلَّكَ تَرْضى قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: «ترضى» بفتح التاء. وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم بضمها. فمن فتح، فالمعنى: لعلَّك ترضى ثواب الله الذي يُعطيك. ومَنْ ضمَّها، ففيه وجهان: أحدهما: لعلَّكَ ترضى بما تُعطى. والثاني:
لعلَّ الله أن يرضاك.
[سورة طه (20) : الآيات 131 الى 132]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.
(982) سبب نزولها، ما روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدعاني فأرسلني إِلى رجل من اليهود يبيع طعاماً، فقال: قل له: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «بعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إِلى هلال رجب» فأتيته فقلت له ذلك، فقال اليهودي: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلّا برهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرتُه، فقال: «والله لو باعني أو أسلفني لقضيته، وإِني لأمين في السماء أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إِليه» ، فنزلت هذه الآية تعزية له في الدنيا. قال أُبيّ بن كعب: من لم يتعزَّ بعزاء الله تقطَّعت نفسه حسراتٍ على الدنيا. وقد مضى تفسير هذه الآية في آخر سورة الحجر «2» .
__________
إسناده ضعيف، والمتن منكر. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 615 من طريق روح عن موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد عن عبد الله بن قسيط عن أبي رافع به. وفيه موسى بن عبيدة الربذي، ضعيف ليس بشيء.
وأخرجه الطبري 24455 من طريق موسى بن عبيدة بالإسناد السابق مختصرا. وأخرجه الطبري 24456 من وجه آخر من حديث أبي رافع، وفيه الحسين بن داود، وهو ضعيف. ثم إن السورة مكية كما تقدم في مطلعها، وأما الخبر فمدني. وانظر «فتح القدير» 1616.
__________
(1) سورة التحريم: 4.
(2) سورة الحجر: 88.(3/182)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
قوله تعالى: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وقرأ ابن مسعود، والحسن، والزهري، ويعقوب: «زَهَرة» بفتح الهاء. قال الزجاج: وهو منصوب بمعنى «متَّعنا» ، لأن معنى «متَّعنا» : جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنجعل ذلك فتنة لهم. وقال ابن قتيبة: لنختبرهم. قال المفسرون: زهرة الدنيا:
بهجتها وغضارتها وما يروق الناظر منها عند رؤيته، وهو من زهرة النبات وحسنه. قوله تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى فيه قولان: أحدهما: أنه ثوابه في الآخرة. والثاني: القناعة.
قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ قال المفسرون: المراد بأهله: قومه ومن كان على دينه، ويدخل في هذا أهل بيته «1» . قوله تعالى: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي: واصبر على الصلاة لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي: لا نكلِّفك رزقاً لنفسك ولا لِخَلقنا، إِنما نأمرك بالعبادة ورزقُكَ علينا، وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي:
وحُسن العاقبة لأهل التقوى. وكان بكر بن عبد الله المزني إِذا أصاب أهلَه خصاصةٌ قال: قوموا فصلُّوا، ثم يقول: بهذا أمر الله تعالى ورسوله، ويتلو هذه الآية.
[سورة طه (20) : الآيات 133 الى 135]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
قوله تعالى: وَقالُوا يعني: المشركين لَوْلا أي: هلاّ يَأْتِينا محمد بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي كآيات الأنبياء، نحو النّاقة والعصا أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ قرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: «تأتهم» بالتاء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «يأتهم» بالياء.
قوله تعالى: بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي: أولم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب من أخبار الأمم التي أهلكناها لمَّا سألوا الآيات ثم كفروا بها، فما يؤمِّنهم أن تكون حالُهم في سؤال الآيات كحال أولئك؟! وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ يعني: مشركي مكة بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ في الهاء قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الكتاب، قاله مقاتل. والثاني: إِلى الرسول، قاله الفراء.
قوله تعالى: لَقالُوا يوم القيامة رَبَّنا لَوْلا أي: هلاّ أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا إِلى طاعتك فَنَتَّبِعَ آياتِكَ أي: نعمل بمقتضاها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بالعذاب وَنَخْزى في جهنم. وقرأ ابن عباس، وابن السميفع، وأبو حاتم عن يعقوب: «نُذَلَّ» «ونُخْزَى» برفع النون فيهما، وفتح الذال.
قُلْ لهم يا محمد: كُلٌّ منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ أي: نحن نتربَّص بكم العذاب في الدنيا، وأنتم تتربصون بنا الدوائر فَتَرَبَّصُوا أي: فانتظروا فَسَتَعْلَمُونَ إِذا جاء أمر الله مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي: الدِّين المستقيم وَمَنِ اهْتَدى من الضلالة، أنحن، أم أنتم؟ وقيل: هذه منسوخة بآية السيف، وليس بشيء.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 2/ 350: ويؤدب الغلام على الطهارة والصلاة إذا تمت له عشر سنين. وهذا الأمر والتأديب في حق الصبي لتمرينه على الصلاة، كي يألفها ويعتادها والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «علّموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين واضربوه عليها ابن عشر» .(3/183)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
سورة الأنبياء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
وهي مكية باجماعهم من غير خلاف نعلمه.
قوله عز وجل: اقْتَرَبَ افتعل، من القُرْب، يقال: قَرُبَ الشيء، واقترب. وهذه الآية نزلت في كفار مكة. وقال الزّجّاج: اقترب للناس وقت حسابهم. قيل: اللام في قوله لِلنَّاسِ
بمعنى: «مِنْ» .
والمراد بالحساب: محاسبة الله لهم على أعمالهم. وفي معنى قُرْبِهِ قولان: أحدهما: أنه آتٍ، وكلُّ آتٍ قريبٌ. والثاني: لأن الزمان- لِكثرة ما مضى وقِلَّة ما بقي- قريبٌ.
قوله تعالى: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أي: عمَّا يفعل الله بهم ذلك اليوم مُعْرِضُونَ عن التأهُّب له.
وقيل: «اقترب للناس» عامٌّ، والغفلة والإِعراض خاص في الكفار، بدلالة قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، وفي هذا الذِّكْر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن عباس فعلى هذا تكون الإِشارة بقوله: مُحْدَثٍ إِلى إِنزاله له، لأنه أُنْزِل شيئاً بعد شيء. والثاني: أنه ذِكْر من الأذكار، وليس بالقرآن، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وقال النقاش: هو ذِكْر من رسول الله، وليس بالقرآن.
والثالث: أنه رسول الله، بدليل قوله في سياق الآية: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، قاله الحسن بن الفضل.
قوله تعالى: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ قال ابن عباس: يستمعون القرآن مستهزئين.(3/184)
قوله تعالى: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي: غافلةً عما يراد بهم. قال الزّجّاج: المعنى: إلّا استمعون لاعبين لاهيةً قلوبهم ويجوز أن يكون منصوباً بقوله: «يلعبون» . وقرأ عكرمة، وسعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: «لاهيةٌ» بالرفع.
قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى أي: تناجَوا فيما بينهم، يعني المشركين. ثم بيَّن مَنْ هم فقال:
الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أَشْرَكوا بالله. و «الذين» في موضع رفع على البدل من الضمير في «وأَسَرُّوا» ثم بيَّن سِرَّهم الذي تناجَوْا به فقال: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي: آدميٌّ، فليس بملك، وهذا إِنكار لنبوَّته. وبعضهم يقول: «أسرّوا» ها هنا بمعنى: أظهروا، لأنه من الأضداد.
قوله تعالى: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ أي: أفتقبلون السحر وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أنه سحر؟! يعنون أنّ متابعة محمّد صلى الله عليه وسلّم متابعة السّحر. قالَ رَبِّي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «قل ربي» . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «قال ربِّي» ، وكذلك هي في مصاحف الكوفيين، وهذا على الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: يعلم القول، أي: لا يخفى عليه شيء يقال في السماء والأرض، فهو عالم بما أسررتم. بَلْ قالُوا، قال الفراء: رَدَّ ب بَلْ على معنى تكذيبهم، وإِن لم يظهر قبله الكلام بجحودهم، لأن معناه الإِخبار عن الجاحدين، وأعلمَ أن المشركين كانوا قد تحيّروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فاختلفت أقوالهم فيه، فبعضهم يقول: هذا الذي يأتي به سِحْر، وبعضهم يقول: أضغاث أحلام، وهي الأشياء المختلطة تُرى في المنام وقد شرحناها في يوسف «1» ، وبعضهم يقول: افتراه، أي: اختلقه، وبعضهم يقول: هو شاعر فليأتنا بآية كالناقة والعصا، فاقترحوا الآيات التي لا إِمهال بعدها.
قوله تعالى: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ يعني: مشركي مكة مِنْ قَرْيَةٍ وصف القرية، والمراد أهلها، والمعنى: أن الأمم التي أهلكت بتكذيب الآيات، لم يؤمنوا بالآيات لمَّا أتتهم، فكيف يؤمن هؤلاء؟! وهذه إِشارة إِلى أن الآية لا تكون سبباً للإِيمان، إِلا أن يشاء الله.
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا هذا جواب قولهم: «هل هذا إِلاّ بَشَر مِثْلُكم» . قوله تعالى: نُوحِي إِلَيْهِمْ قرأ الأكثرون: «يوحَى» بالياء. وروى حفص عن عاصم: «نُوحي» بالنون. وقد شرحنا هذه الآية في النحل «2» .
قوله تعالى وَما جَعَلْناهُمْ يعني الرسل جَسَداً قال الفراء: لم يقل: أجساداً، لأنه اسم الجنس. قال مجاهد: وما جعلناهم جسداً ليس فيهم روح. قال ابن قتيبة: ما جعلنا الانبياء قبله أجساداً لا تأكل الطعام ولا تموت فنجعله كذلك. قال المبرد وثعلب جميعاً: العرب إِذا جاءت بين الكلام بجحدين، كان الكلام إِخباراً، فمعنى الآية: إِنما جعلناهم جسداً ليأكلوا الطعام. قال قتادة: المعنى:
وما جعلناهم جسداً إِلا ليأكلوا الطعام.
قوله تعالى: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ يعني: الأنبياء أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك مكذِّبيهم فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وهم الذين صدَّقوهم وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ يعني: أهل الشّرك وهذا
__________
(1) سورة يوسف: 44.
(2) سورة النحل: 43.(3/185)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
تخويف لأهل مكة. ثم ذكر منَّته عليهم بالقرآن فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ، وفي ثلاثة أقوال «1» : أحدها: فيه شرفكم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: فيه دِينكم، قاله الحسن، يعني:
فيه ما تحتاجون إِليه من أمر دينكم. والثالث: فيه تذكرة لكم لِمَا تلقَونه من رَجعة أو عذاب، قاله الزجاج. قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ ما فضَّلْتُكم به على غيركم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
ثم خوَّفهم فقال: وَكَمْ قَصَمْنا قال المفسرون واللغويون: معناه: وكم أهلكنا، وأصل القصم:
الكسر. قوله تعالى: كانَتْ ظالِمَةً أي: كافرة، والمراد: أهلها. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي: رأَوا عذابنا بحاسَّة البصر إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ أي: يَعْدُون، وأصل الرَّكْض: تحريكُ الرِّجلين، يقال:
رَكَضْتُ الفَرَس: إِذا أَعْدَيته بتحريك رِجليكَ فعدا.
قوله تعالى: لا تَرْكُضُوا قال المفسرون: هذا قول الملائكة لهم: وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ، أي: إِلى نعَمكم التي أترفتْكم، وهذا توبيخ لهم. وفي قوله: لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قولان: أحدهما: تُسألون من دنياكم شيئاً، استهزاءً بهم، قاله قتادة. والثاني: تُسأَلون عن قتل نبيِّكم، قاله ابن السائب. فلما أيقنوا بالعذاب قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بكفرنا، فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي: ما زالت تلك الكلمة التي هي «يا ويلنا إِنَّا كنَّا ظالمين» قولهم يردِّدونها. حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً بالعذاب، وقيل: بالسيوف خامِدِينَ، أي: ميتين كخمود النار إذا طفئت.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 الى 24]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي: لم نخلق ذلك عبثاً، إِنما خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيَّتِنا ليعتبر الناس بخَلْقه، فيعلموا أن العبادة لا تصلح إِلا لخالقه، لنجازيَ أولياءنا، ونعذِّبَ أعداءنا.
قوله تعالى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن المشركين لما قالوا:
__________
(1) قال الطبري 9/ 8: عنى بالذكر في هذا الموضع الشرف، وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه.(3/186)
الملائكة بنات الله والآلهة بناته، نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس «1» . والثاني: أن نصارى نجران قالوا: إِن عيسى ابن الله، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «2» .
وفي المراد باللهو ثلاثة أقوال «3» : أحدها: الولد، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال السدي. قال الزجاج: المعنى: لو أردنا أن نتخذ ولداً ذا لهوٍ نُلْهَى به. والثاني: المرأة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة. والثالث: اللعب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قوله تعالى: لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا قال ابن جريج: لاتّخذنا نساء وولدا من أهل السماء، لا من أهل الأرض. قال ابن قتيبة: وأصل اللهو: الجماع، فكُنِّي عنه باللهو، كما كُنِّيَ عنه بالسِّرِّ، والمعنى:
لو فعلنا ذلك لاتَّخذناه من عندنا، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده، لا عند غيره.
وفي قوله تعالى: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ قولان: أحدهما: أن أَنْ بمعنى «ما» ، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة. والثاني: أنها بمعنى الشرط. قال الزجاج: والمعنى: إِن كنا نفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله قال: والقول الأول قول المفسرين، والثاني: قول النحويين، وهم يستجيدون القول الأول أيضاً، لأن «إِنْ» تكون في موضع النفي، إِلا أنَّ أكثر ما تأتي مع اللام، تقول: إِن كنت لَصالحاً، معناه:
ما كنت إِلاَّ صالحاً.
قوله تعالى: بَلْ أي: دع ذاك الذي قالوا، فإنه باطل نَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي: نسلّط الحق وهو القرآن عَلَى الْباطِلِ وهو كذبهم فَيَدْمَغُهُ قال ابن قتيبة: أي: يكسره، وأصل هذا إِصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي: زائل ذاهب. قال المفسرون: والمعنى: إِنا نبطل كذبهم بما نبيِّن من الحق حتى يضمحلَّ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي: من وصفكم الله بما لا يجوز وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: هم عبيده ومُلْكه وَمَنْ عِنْدَهُ يعني: الملائكة. وفي قوله: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يرجعون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: لا ينقطعون، قاله مجاهد. وقال ابن قتيبة: لا يعيَون، والحَسِر: المنقطع الواقف إِعياءً وكلالاً. والثالث: لا يملُّون، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: لا يَفْتُرُونَ قال قتادة: لا يسأَمون. وسئل كعب: أما يَشْغَلُهم شأن؟ أما تَشْغَلُهم حاجة؟ فقال للسائل: يا ابن أخي، جُعل لهم التسبيحُ كما جُعل لكم النَّفَسُ، ألستَ تأكل وتشرب وتقوم وتجلس وتجيء وتذهب وتتكلم وأنت تتنفس؟! فكذلك جُعل لهم التسبيح. ثم إِن الله تعالى عاد إِلى توبيخ المشركين فقال: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ لأن أصنامهم من الأرض هي، سواء كانت من ذهب أو فضة أو خشب أو حجارة هُمْ يعني: الآلهة يُنْشِرُونَ أي: يُحْيُون الموتى. وقرأ الحسن:
__________
(1) لا يصح عن ابن عباس، أبو صالح ضعيف، وراويته الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.
(2) باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والسورة مكية، وإنما قدم نصارى نجران في المدينة. [.....]
(3) قال الطبري رحمه الله 9/ 11: لو أردنا أن نتخذ زوجة وولدا لاتخذنا ذلك من عندنا، ولكنا لا نفعل ذلك، ولا يصلح لنا فعله، ولا ينبغي، لأنه لا يكون لله ولد ولا صاحبة. وقال ابن كثير رحمه الله 3/ 221: فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقا، لا سيما عما يقولون من الإفك والباطل، من اتخاذ عيسى، أو عزير، أو الملائكة سبحان الله عما يقولون علوا كبيرا.(3/187)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
«يَنشُرون» بفتح الياء وضم الشين. وهذا استفهام بمعنى الجحد، والمعنى: ما اتخذوا آلهة تَنْشُر ميتاً.
لَوْ كانَ فِيهِما يعني: السماء والأرض آلِهَةٌ يعني: معبودين إِلَّا اللَّهُ قال الفراء: سوى الله.
وقال الزجاج: غير الله.
قوله تعالى: لَفَسَدَتا أي: لخربتا وبطلتا وهلكَ من فيهما، لوجود التمانع بين الآلهة، فلا يجري أمر العالَم على النظام، لأن كل أمر صدر عن اثنين فصاعداً لم يَسْلَم من الخلاف.
قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي: عمَّا يَحْكُم في عباده من هدي وإِضلال، وإِعزاز وإِذلال، لأنه المالك للخلق، والخلق يُسأَلون عن أعمالهم لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم. ولمَّا أبطل عزّ وجلّ أن يكون إِله سواه من حيث العقل بقوله: لَفَسَدَتا، أبطل ذلك من حيث الأمر فقال:
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وهذا استفهام إِنكار وتوبيخ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما تقولون، هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ يعني: القرآن خبر مَن معي على ديني ممن يتّبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يعني: الكتب المنزلة، والمعنى: هذا القرآن، وهذه الكتب التي أُنزلت قبله، فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إِله سواه؟ فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود غيره من حيث الأمر به، قال الزجاج: قيل لهم: هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل أخبر أُمَّته بأن لهم إلهاً غير الله!. قوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ يعني: كفار مكة لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وفيه قولان:
أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: التوحيد، قاله مقاتل فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن التفكُّر والتأمُّل وما يجب عليهم من الإيمان.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 25 الى 29]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
قوله تعالى: مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إِلا نوحي» بالنون والباقون بالياء. قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً في القائلين لهذا قولان: أحدهما: أنهم مشركو قريش، قاله ابن عباس. وقال ابن إِسحاق: القائل لهذا النضر بن الحارث. والثاني: أنهم اليهود قالوا: إِن الله صاهر الجن فكانت منهم الملائكة، قاله قتادة. فعلى القولين، المراد بالولد: الملائكة، وكذلك المراد بقوله: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، والمعنى: بل عباد أكرمهم الله واصطفاهم، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، أي: لا يتكلَّمون إِلا بما يأمرهم به. وقال ابن قتيبة: لا يقولون حتى يقول، ثم يقولون عنه، ولا يعملون حتى يأمرهم. قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي: ما قدَّموا من الأعمال وَما خَلْفَهُمْ ما هم عاملون، ولا يشفعون يوم القيامة، وقيل: لا يستغفرون في الدنيا إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي: لِمَن رضي عنه، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ أي: من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إِلى المفعول، مُشْفِقُونَ أي: خائفون. وقال الحسن: يرتعدون. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ أي: من الملائكة. قال الضحاك(3/188)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
في آخرين: هذه خاصة لإِبليس، لم يَدْعُ أحد من الملائكة إِلى عبادة نفسه سواه قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا قول من قال: إِنه من الملائكة، فإن إِبليس قال ذلك للملائكة الذين هبطوا معه إِلى الأرض، ومن قال: إِنه ليس من الملائكة، قال: هذا على وجه التهديد، وما قال أحد من الملائكة ذلك.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: أولم يعلموا. وقرأ ابن كثير: «ألم ير الذين كفروا» بغير واو بين الألف واللام، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة، أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما قال أبو عبيدة: السموات جمع والأرض واحدة، فخرجت صفة لفظ الجمع على لفظ صفة الواحد والعرب تفعل هذا إذا أشركوا بين الجمع وبين واحد والرَّتْق مصدر يوصف به الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث سواء، ومعنى الرَّتْق: الذي ليس فيه ثقب. قال الزجاج: المعنى: كانتا ذواتي رتق، فجعلناهما ذوات فتق، وإِنما لم يقل: «رَتْقَيْنِ» لأن الرَّتق مصدر. وللمفسرين في المراد به ثلاثة أقوال: أحدها: أن السموات كانت رَتْقاً لا تُمْطِر، وكانت الأرض رَتْقاً لا تُنْبِت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة، ومجاهد في رواية، والضحاك في آخرين. والثاني: أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين، ففتقهما الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة. والثالث: أنَّه فَتق من الأرض ست أرضين فصارت سبعاً، ومن السماء ست سموات فصارت سبعاً، رواه السدي عن أشياخه، وابن أبي نجيح عن مجاهد.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وقرأ معاذ القارئ وابن أبي عبلة وحميد بن قيس:
«كلَّ شيء حيّاً» بالنصب. وفي هذا الماء قولان: أحدهما: أنه الماء المعروف، والمعنى: جعلنا الماء سبباً لحياة كل حيٍّ، قاله الأكثرون. والثاني: أنه النُّطفة، قاله أبو العالية.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ قد فسرناه في سورة النحل «1» . قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها أي: في الرواسي فِجاجاً، قال أبو عبيدة: هي المسالك. قال الزجاج: الفِجَاج جمع فَجّ، وهو كل منخَرق بين جبلين، ومعنى سُبُلًا طرقاً. قال ابن عباس: جعلنا من الجبال طُرُقاً كي تهتدوا إِلى مقاصدكم في الأسفار. قال المفسرون. وقوله: سُبُلًا تفسير للفِجَاج، وبيان أن تلك الفِجَاج نافذة مسلوكة، فقد يكون الفَجُّ غير نافذ. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً أي: هي للأرض كالسقف. وفي معنى مَحْفُوظاً قولان: أحدهما: بالنجوم من الشياطين، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: محفوظاً من الوقوع إِلا باذن الله، قاله الزّجّاج.
__________
(1) سورة النحل: 15.(3/189)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
قوله تعالى: وَهُمْ يعني: كفار مكة عَنْ آياتِها أي: شمسها وقمرها ونجومها، قال الفراء:
وقرأ مجاهد: «عن آيتها» فوحّد، فجعل السماء بما فيها آية وكلٌّ صوابٌ.
قوله تعالى: كُلٌّ يعني: الطوالع فِي فَلَكٍ قال ابن قتيبة: الفَلَك: مدار النجوم الذي يضمُّها، وسمَّاه فَلَكاً، لاستدارته، ومنه قيل: فَلْكَة المِغْزَل، وقد فَلكَ ثَدْيُ المرأة. قال أبو سليمان: وقيل: إِن الفَلَك- كهيئة الساقية من ماء- مستديرة دون السماء وتحت الأرض، فالأرض وسطها والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار يجرون في الفَلَك، وليس الفَلَك يُديرها. ومعنى «يَسْبَحون» : يَجْرُون. قال الفراء: لمَّا كانت السِّباحة من أفعال الآدميين، ذُكِرَتْ بالنون، كقوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1» لأنّ السّجود من أفعال الآدميين.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 36]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)
قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ سبب نزولها أن ناساً قالوا: إِن محمداً لا يموت، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية ما خلَّدنا قبلكَ أحداً من بني آدم والخُلْد: البقاء الدائم.
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ يعني مشركي مكة، لأنهم قالوا: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «2» . قوله تعالى:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ قال ابن زيد: نختبركم بما تحبُّون لننظر كيف شكركم، وبما تكرهون لننظر كيف صبركم. قوله تعالى: وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ قرأ ابن عامر: «تَرجعون» بتاء مفتوحة. وروى ابن عباس عن أبي عمرو: «يرجعون» بياء مضمومة. وقرأ الباقون ترجعون بتاء مضمومة. قوله تعالى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال ابن عباس: يعني المستهزئين، وقال السدي: نزلت في أبي جهل، مَرَّ به رسول الله، فضحك وقال: هذا نَبيُّ بني عبد مناف. وإِنْ بمعنى «ما» ، ومعنى هُزُواً مهزوءاً به أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي: يعيب أصنامكم، وفيه إِضمار «يقولون» ، وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ وذلك أنهم قالوا: ما نعرف الرحمن، فكفروا بالرّحمن.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 37 الى 41]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)
قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وقرأ أبو رزين العُقيلي، ومجاهد، والضحاك «خَلَقَ الإنسانَ» بفتح الخاء واللام ونصب النون. وهذه الآية نزلت حين استعجلت قريش بالعذاب.
وفي المراد بالإنسان ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: النضر بن الحارث، وهو الذي قال:
__________
(1) سورة يوسف: 4.
(2) سورة الطور: 40.(3/190)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: آدم عليه السلام، قاله سعيد بن جبير، والسدي في آخرين. والثالث: أنه اسم جنس، قاله علي بن أحمد النيسابوري فعلى هذا يدخل النّضر بن الحارث وغيره في هذا وإِن كانت الآية نزلت فيه.
فأمَّا من قال: أُرِيدَ به آدم، ففي معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه خُلق عجولاً، قاله الأكثرون.
فعلى هذا يقول: لما طُبع آدم على هذا المعنى، وُجد في أولاده، وأورثهم العَجَل. والثاني: خُلق بعَجَل، استَعجل بخَلْقه قبل غروب الشمس من يوم الجمعة، وهو آخر الأيام الستة، قاله مجاهد. فأما من قال: هو اسم جنس، ففي معنى الكلام قولان: أحدهما: خُلِقَ عَجُولاً قال الزجاج: خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر منه اللعب: إِنما خُلقتَ من لَعِب، يريدون المبالغة في وصفه بذلك. والثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: خُلقتِ العجلة في الإِنسان، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فيه قولان: أحدهما: ما أصاب الأمم المتقدِّمة والمعنى: إِنكم تسافرون فترون آثار الهلاك في الماضين، قاله ابن السائب. والثاني: أنها القتل ببدر، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أثبت الياء في الحالتين يعقوب.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون: القيامة. لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا جوابه محذوف، والمعنى: لو علموا صدق الوعد ما استعجلوا، حِينَ لا يَكُفُّونَ أي: لا يدفعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ إِذا دخلوا وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ لإِحاطتها بهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي: يُمنَعون مما نزل بهم، بَلْ تَأْتِيهِمْ يعني: الساعة بَغْتَةً فجأَةً فَتَبْهَتُهُمْ تحيِّرهم وقد شرحنا هذا عند قوله: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ «2» فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي: صرفها عنهم، ولا هم يُمْهَلون لتوبة أو معذرة. ثم عزّى نبيّه، فقال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي: كما فعل بك قومك فَحاقَ أي: نزل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي: من الرّسل ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني: العذاب الذي كانوا استهزءوا به.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 46]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ المعنى: قل لهؤلاء المستعجِلين بالعذاب: من يحفظكم من بأس الرحمن إِن أراد إِنزاله بكم؟ وهذا استفهام إِنكار، أي: لا أحد يفعل ذلك، بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي: عن كلامه ومواعظِهِ مُعْرِضُونَ لا يتفكَّرون ولا يعتبرون. أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ
__________
(1) سورة الأنفال: 32.
(2) سورة البقرة: 258.(3/191)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
دُونِنا فيه تقديم وتأخير، وتقديره: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم؟ وها هنا تم الكلام. ثم وصف آلهتهم بالضعف، فقال: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ والمعنى: من لا يقدر على نصر نفسه عمّا يُراد به، فكيف ينصُر غيره؟! قوله تعالى: وَلا هُمْ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار، وهو قول ابن عباس. والثاني: أنهم الأصنام، قاله قتادة. وفي معنى يُصْحَبُونَ أربعة أقوال: أحدها: يُجارُون، رواه العوفي عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: والمعنى: لا يجيرهم منَّا أحدٌ، لأن المجير صاحب لجاره.
والثاني: يُمنعون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: يُنصرون، قاله مجاهد. والرابع: لا يُصحبون بخير، قاله قتادة.
ثم بيّن اغترارهم بالإهمال، فقال: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ يعني أهل مكة حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فاغترُّوا بذلك، أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قد شرحناه في الرعد «1» أَفَهُمُ الْغالِبُونَ أي: مع هذه الحال، وهو نقص الأرض، والمعنى: ليسوا بغالبين، ولكنَّهم المغلوبون. قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ أي: أُخَوِّفكم بِالْوَحْيِ أي: بالقرآن، والمعنى: إنني ما جئتُ به من تلقاء نفسي، إنِما أُمِرْتُ فبلَّغتُ. وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ وقرأ ابن عامر: «ولا تُسْمِعُ» بالتاء مضمومة «الصُّمَّ» نصباً. وقرأ ابن يعمر، والحسن: «ولا يُسْمَعُ» بضم الياء وفتح الميم «الصُّمُّ» بضم الميم. شبَّه الكفار بالصُمّ الذين لا يسمعون نداء مناديهم ووجه التشبيه أن هؤلاء لم ينتفعوا بما سمعوا، كالصُمِّ لا يفيدهم صوت مناديهم. وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ أي: أصابتهم نَفْحَةٌ قال ابن عباس: طرف. وقال الزجاج: المراد أدنى شيء من العذاب، لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا والويل ينادي به كلُّ من وقع في هلكة.
[سورة الأنبياء (21) : آية 47]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)
قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ قال الزجاج: المعنى: ونضع الموازين ذوات القسط، والقسط: العدل، وهو مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. قال الفراء: القسط من صفة الموازين وإِن كان موحَّداً، كما تقول: أنتم عدل، وأنتم رضى. وقوله تعالى:
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ و «في يوم القيامة» سواء. وقد ذكرنا الكلام في الميزان في أول الأعراف «2» . فإن قيل:
إِذا كان الميزان واحداً، فما المعنى بذكر الموازين؟ فالجواب: أنه لما كانت أعمال الخلائق توزن وزنةً بعد وزنة، سمِّيت موازين.
قوله تعالى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي: لا يُنْقَص محسن من إِحسانه، ولا يُزاد مسيء على إِساءته وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ أي: وزن حبة. وقرأ نافع: «مثقالُ» برفع اللام. قال الزجاج:
ونصب «مثقالَ» على معنى: وإِن كان العمل مثقال حبة. وقال أبو علي الفارسي: وإِن كان الظُّلامة مثقال حبة، لقوله تعالى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» . قال: ومن رفع، أسند الفعل إِلى المثقال، كما أسند في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ «3» .
__________
(1) سورة الرعد: 41.
(2) سورة الأعراف: 8.
(3) سورة البقرة: 280.(3/192)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قوله تعالى: أَتَيْنا بِها أي: جئنا بها، وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد: «آتينا بها» ممدودة، أي: جازينا بها. قوله تعالى: وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قال الزجاج: هو منصوب على وجهين أحدهما: التّمييز والثاني: الحال.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ فيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: التّوراة التي فرَّق بها بين الحلال والحرام، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون، قاله ابن زيد. والثالث: النصر والنجاة لموسى، وإِهلاك فرعون، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَضِياءً روى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يرى الواو زائدة قال الزجاج: وكذلك قال بعض النّحويين أنّ المعنى: الفرقان ضياء، وعند البصريّين: أن الواو لا تُزاد ولا تأتي إِلا بمعنى العطف، فهي ها هنا مثل قوله تعالى: فِيها هُدىً وَنُورٌ «2» قال المفسّرون: والمعنى أنهم استضاءوا بالتوراة حتى اهتدَوا بها في دينهم. ومعنى قوله تعالى: وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أنهم يذكرونه ويعملون بما فيه. الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فيه أربعة أقوال: أحدها: يخافونه ولم يرَوه، قاله الجمهور.
والثاني: يخشَون عذابه ولم يروه، قاله مقاتل. والثالث: يخافونه من حيث لا يراهم أحد، قاله الزجاج.
والرابع: يخافونه إِذا غابوا عن أعين الناس كخوفهم له إِذا كانوا بين الناس، قاله أبو سليمان الدمشقي.
ثم عاد إِلى ذِكْر القرآن، فقال: وَهذا يعني: القرآن ذِكْرٌ لمن تذكَّر به، وعظة لمن اتَّعظ مُبارَكٌ أي: كثير الخير أَفَأَنْتُمْ يا أهل مكة لَهُ مُنْكِرُونَ أي: جاحدون؟! وهذا استفهام توبيخ.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 58]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي: هداه مِنْ قَبْلُ وفيه ثلاثة أقوال «3» :
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 229: وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية تشتمل على التفرقة بين الحق والباطل، والهدي والضلال، والغيّ والرشاد، والحلال والحرام وعلى ما يحصل نورا في القلوب، وهداية وخوفا وإنابة وخشية ولهذا قال: الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أي: تذكيرا لهم وعظة.
(2) سورة المائدة: 44.
(3) قال القرطبي في «تفسيره» 7/ 27: قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: نُورٌ عَلى نُورٍ قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه ازداد نورا على نور، وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربا وخالقا. وقال ابن كثير رحمه الله 3/ 229: يخبر الله تعالى عن خليله إبراهيم أنه آتاه رشده من قبل أي: من صغره ألهمه الحق والحجّة على قومه، كما قال وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وقوله: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي: وكان أهلا لذلك. والرشد الذي أوتيه من صغره، الإنكار على قومه عبادة الأصنام من دون الله عز وجل. قال الزمخشري في «الكشاف» 3/ 122: ومعنى علمه به: أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وأحمدها، حتى أهله لمخالّته ومخالصته. وفي قوله: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان، فما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل، وهم معتقدون أنهم على شيء، وجادّون في نصرة مذهبهم، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم، وكفى أهل التقليد سبة أن عبدة الأصنام منهم.(3/193)
أحدها: من قبل بلوغه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: آتيناه ذلك في العِلْم السابق، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: مِنْ قَبْل موسى وهارون، قاله الضحاك. وقد أشرنا إِلى قصة إِبراهيم في الأنعام «1» . قوله تعالى: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي: علمنا أنه موضع لإِيتاء الرُّشد. ثم بيَّن متى آتاه فقال: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ يعني: الأصنام، والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبَّهاً بِخَلْق من خَلْق الله تعالى، وأصله من مثَّلث الشيء بالشيء: إِذا شبَّهته به، وفي قوله تعالى: الَّتِي أَنْتُمْ لَها أي: على عبادتها عاكِفُونَ أي: مقيمون، فأجابوه أنهم رأوا آباءهم يعبدونها فاقتدَوا بهم فأجابهم بأنهم فيما فعلوا وآباءَهم في ضلال مبين، قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ. ينون: أجادٌّ أنتَ، أم لاعب؟! قوله تعالى: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ الكيد: احتيال الكائد في ضرّ المكيد. والمفسرون يقولون: لأكيدنها بالكسر بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا أي: تذهبوا عنها، وكان لهم عيد في كل سنة يخرجون إِليه ولا يخلِّفون بالمدينة أحداً، فقالوا لإِبراهيم: لو خرجتَ معنا إِلى عيدنا أعجبكَ دِيننا، فخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق، قال: إِني سقيم، وألقى نفسه، وقال سِرّاً منهم: «وتالله لأكيدنَّ أصنامكم» ، فسمعه رجل منهم، فأفشاه عليه، فرجع إِلى بيت الأصنام، وكانت- فيما ذكره مقاتل بن سليمان- اثنين وسبعين صنماً من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب، فكسرها، ثم وضع الفأس في عنق الصنم الكبير، فذلك قوله: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قرأ الأكثرون: «جُذاذاً» بضم الجيم. وقرأ أبو بكر الصدّيق، وابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، والأعمش، والكسائي: «جِذاذاً» بكسر الجيم. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وأيوب السختياني، وعاصم الجحدري: «جَذاذاً» بفتح الجيم. وقرأ الضحاك، وابن يعمر: «جذاذا» بفتح الجيم من غير ألف. وقرأ معاذ القارئ، وأبو حيوة، وابن وثَّاب: «جُذذاً» بضم الجيم منن غير ألف. قال أبو عبيدة: أي: مستأصَلين، قال جرير:
بَني المهلَّب جَذَّ اللهُ دَابِرَهُم ... أَمْسَوْا رَمَاداً فلا أصلٌ ولا طَرَفُ «2»
أي: لم يَبْقَ منهم شيء، ولفظ «جُذاذ» يقع على الواحد والاثنين والجميع من المذكَّر والمؤنَّث.
وقال ابن قتيبة: «جُذاذاً» أي: فُتاتاً، وكلُّ شيء كسرتَه فقد جَذَذْتَه، ومنه قيل للسَّويق: الجذيذ. وقرأ الكسائي: «جِذاذاً» بكسر الجيم على أنه جمع جَذيذ، مثل ثَقيل وثِقال، وخَفيف وخِفاف. والجذيذ بمعنى: المجذوذ، وهو المكسور. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي: كسر الأصنامَ إِلا أكبرها. قال الزّجّاج:
__________
(1) سورة الأنعام: 75.
(2) البيت في ديوانه: 390 و «الكامل» : 510. وفي «اللسان» : طرف القوم: رئيسهم. [.....](3/194)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
جائز أن يكون أكبرها في ذاته، وجائز أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم إِياه، لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الصنم، ثم فيه قولان: أحدهما: لعلهم يرجعون إِليه فيشاهدونه، هذا قول مقاتل. والثاني: لعلهم يرجعون إِليه بالتهمة، حكاه أبو سليمان الدمشقي. والثاني: أنها ترجع إِلى إِبراهيم. والمعنى: لعلهم يرجعون إِلى دين إبراهيم بوجوب الحجّة عليهم، قاله الزّجّاج.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 الى 63]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)
فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إِلى آلهتهم قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي: قد فعل ما لم يكن له فِعْلُه، فقال الذي سمع إِبراهيم يقول: «لأكيدن أصنامكم» : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ قال الفراء: أي يعيبهم تقول للرجل: لئن ذكرتَني لتندمنَّ، تريد: بسوء.
قوله تعالى: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي: بمرأىً منهم «1» ، لا تأتُوا به خفْيةً. قال أبو عبيدة:
تقول العرب إِذا أُظهر الأمر وشُهر: كان ذلك على أعين الناس.
قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة. والثاني: يشهدون أنه فعل ذلك، قاله السدي.
والثالث: يشهدون عقابه وما يُصنَع به، قاله محمد بن إِسحاق.
قال المفسرون: فانطلَقوا به إِلى نمرود، فقال له: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب أن تُعبَد معه الصّغار، فكسرها، فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ من فَعَلَه بهم؟! وهذا إِلزام للحُجَّة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النُّطق.
واختلف العلماء في وجه هذا القول من إِبراهيم عليه السلام على قولين: أحدهما: أنه وإِن كان في صورة الكذب، إِلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له، لا يصلح أن يكون إِلهاً، ومثله قول الملَكين لداود: إِنَّ هذا أَخِي ولم يكن أخاه لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً «3» ، ولم يكن له شيء، فجرى هذا مجرى التّنبيه لداود على ما فعل، أنه هو المراد بالفعل والمَثَل المضروب ومِثْل هذا لا تسمِّيه العرب كذباً. والثاني: أنه من معاريض الكلام فروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله تعالى: بَلْ فَعَلَهُ ويقول: معناه: فعله من فعله، ثم يبتدئ كَبِيرُهُمْ هذا. قال الفراء: وقرأ بعضهم: «بل فعله»
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله 3/ 231: وقوله: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي: على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلهم، وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقولهم في عبادة هذه الأصنام، التي لا تدفع عن نفسها ضرا.
(2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 11/ 262: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ طعنه على آلهتهم ليعلموا أنه يستحق العقاب. قلت: وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد.
(3) سورة ص: 23.(3/195)
بتشديد اللام، يريد: بل فلعلَّه كبيرهم هذا. وقال ابن قتيبة: هذا من المعاريض، ومعناه: إِن كانوا ينطقون، فقد فعله كبيرهم، وكذلك قوله: إِنِّي سَقِيمٌ «1» أي سأسقم، ومثله: إِنَّكَ مَيِّتٌ «2» أي:
ستموت، وقوله: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ «3» قال ابن عباس: لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، والمعنى: لا تؤاخذني بنسياني، ومن هذا قصة الخصمين إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ»
، ومثله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً «5» ، والعرب تستعمل التعريض في كلامها كثيراً، فتبلغ إِرادتها بوجهٍ هو ألطف من الكشف وأحسن من التصريح. وروي أن قوماً من الأعراب خرجوا يمتارون، فلما صدروا، خالف رجل في بعض الليل إِلى عكْم «6» صاحبه، فأخذ منه بُرّاً وجعله في عِكْمه، فلما أراد الرحلة وقاما يتعاكمان، رأى عِكْمه يشول، وعِكْم صاحبه يثقل، فأنشأ يقول:
عِكْم تغشَّى بعضَ أعكام القوم ... لَمْ أَرَ عِكْماً سَارقاً قبل اليوم
فخوَّن صاحبه بوجهٍ هو ألطف من التصريح. قال ابن الأنباري: كلام إِبراهيم كان صدقاً عند البحث، ومعنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم:
(983) «كذب إِبراهيم ثلاث كذبات» : قال قولاً يشبه الكذب في الظاهر، وليس بكذب، قال المصنف: وقد ذهب جماعة من العلماء إِلى هذا الوجه، وأنه من المعاريض، والمعاريض لا تُذم، خصوصاً إِذا احتيج إِليها.
(984) روى عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ في المعاريض لمندوحة عن
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3357 ومسلم 2371 وأبو داود 2212 وأحمد 2/ 403- 404 والترمذي 3166 وابن حبان 5737 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات. ثنتين في ذات الله. قوله: إني سقيم. وقوله: بل فعله كبيرهم هذا. وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة. وكانت أحسن الناس. فقال لها: إن هذا الجبار، إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي. فإنك أختي في الإسلام. فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار. فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها فأتي بها. فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة. فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها. فقبضت يده قبضة شديدة. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرّك. ففعلت. فعاد.
فقبضت أشد من القبضة الأولى. فقال لها مثل ذلك. ففعلت. فعاد. فقبضت أشدّ من القبضتين الأوليين.
فقال: ادعي الله أن يطلق يدي. فلك الله أن لا أضرك. ففعلت. وأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها فقال له:
إنك إنما أتيتني بشيطان. ولم تأتني بإنسان. فأخرجها من أرضي. وأعطها هاجر. قال: فأقبلت تمشي. فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف. فقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا. كفّ الله يد الفاجر. وأخدم خادما. قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء. لفظ مسلم. وأخرجه البخاري 3358 و 5084 والبيهقي 7/ 366 عن أبي هريرة موقوفا.
أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» 1011 وأبو الشيخ في «الأمثال» 230 والحافظ في «الفتح» 10/ 594 وابن عدي في «الكامل» 3/ 96 والديلمي من حديث عمران بن حصين، وفيه داود بن الزبرقان قال عنه ابن عدي: هو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، وقال في موضع آخر: لا أعلم أحدا رفعه غير داود اه وقال الذهبي في «المغني» : هو متروك. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» 884 عن عمران موقوفا، وعن عمر مثله، فالمرفوع وإن كان ضعيفا إلا أنه يتقوى بالموقوف، والله أعلم، وانظر «المقاصد الحسنة» 227.
و «تفسير القرطبي» 3699.
__________
(1) سورة الصافات: 89.
(2) سورة الزمر: 30.
(3) سورة الكهف: 74.
(4) سورة ص: 21.
(5) سورة سبأ: 24.
(6) في «اللسان» : العكم: العدل ما دام فيه المتاع، وعكم المتاع: شدّه بثوب وهو أن يبسطه ويجعل فيه المتاع ويشدّه، ويسمّى حينئذ عكما.(3/196)
الكذب» ، وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: ما يسرُّني أنّ لي بما أعلم من معاريض القول مِثْل أهلي ومالي، وقال النخعي، لهم كلام يتكلَّمون به إِذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم. وقال ابن سيرين: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف.
(985) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعجوز: «إنّ الجنّة لا يدخلها العجائز» ، أراد قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً «1» .
(986) وروي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه كان يمازح بلالاً، فيقول: «ما أُخت خالك منك» ؟
(987) وقال لامرأة: «مَنْ زوجُك» ؟ فسمَّته له، فقال: «الذي في عينيه بياض» ؟
(988) وقال لرجل: «إِنا حاملوك على ولد ناقة» .
(989) وقال العباس: ما ترجو لأبي طالب؟ فقال: «كل خير أرجوه من ربّي» .
__________
ضعيف. بهذا اللفظ وذكر الآية. ورد من مرسل الحسن. وله ثلاث علل: الأولى: الإرسال، والثانية:
المبارك بن فضالة غير قوي، والثالثة: مراسيل الحسن واهية لأنه كان يحدث عن كل أحد. أخرجه الترمذي في «الشمائل» 240 والبغوي في «الأنوار» 320 والبيهقي في «البعث» 382 عن ابن فضالة عن الحسن.
- وله شاهد من حديث عائشة: أخرجه الطبراني في «الأوسط» 5541 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 391. من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن ابن طارق عن مسعدة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة. واسم طارق عند الطبراني «أحمد» أما عند أبي نعيم «محمد» . قال الهيثمي في «المجمع» 10/ 419 وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف. قلت: بل هو ضعيف جدا. قال الذهبي في «الميزان» 4/ 98: هالك، كذبه أبو داود، وقال أحمد: خرقنا حديثه منذ دهر.
وأخرجه أبو نعيم في «أخبار أصبهان» 2/ 142 والبيهقي في «379» وأبو الشيخ في «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلّم» 186 من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة. وليث ضعيف. وذكر ابن حجر في «تخريج الكشاف» 4/ 462 هذه الطرق وقال: كلها ضعيفة. وله شاهد من حديث أنس. أخرجه ابن الجوزي في «الوفاء» كما في «تخريج الإحياء» 3/ 129. قال العراقي: وأسنده ابن الجوزي من حديث أنس بسند ضعيف. الخلاصة: لا يصح هذا الحديث بهذا اللفظ مع ذكر الآية الكريمة على أنه مرفوع، والله أعلم.
لم أره مسندا بعد، فلينظر.
ضعيف، عزاه الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» 3/ 129 للزبير بن بكر في كتاب «الفكاهة والمزاح» عن زيد بن أسلم به، وهذا مرسل، فهو ضعيف.
صحيح، أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» 268 وأبو داود 4998 والترمذي 1992 والبغوي في «الأنوار» 316 من حديث أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يستحمله. فقال: «إنا حاملوك على ولد الناقة» قال: يا رسول الله! وما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وهل تلد الإبل إلا النوق» . وإسناده صحيح.
ضعيف. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 1/ 100 بسند حسن عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث به مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
__________
(1) سورة الواقعة: 35.(3/197)
(990) وكان أبو بكر حين خرج من الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا سأله أحد: مَنْ هذا بين يديك؟
يقول: هادٍ يهديني.
(991) وكانت امرأة ابن رواحة قد رأته مع جارية له، فقالت له: وعلى فراشي أيضا؟! فجحد، فقالت له: فاقرأ القرآن، فقال:
وفينا رَسُولُ الله يَتْلُو كتابَه ... إِذا انشقَّ مشهورٌ مِنَ الصُّبْح طالِع
يَبِيتُ يُجَافي جنْبَهُ عن فِراشه ... إِذا استثقلتْ بالكافرين المَضاجعُ
فقالت: آمنتُ بالله وكذبت بصري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره، فضحك وأعجبه ما صنع.
وعرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري: كيف لبنها؟ قال: احلبْ في أيِّ إِناءٍ شئتَ، قال:
كيف الوِطاء؟ قال: افرش ونم، قال: كيف نجاؤها «1» ؟ قال: إِذا رأيتَها في الإِبل عرفتَ مكانها، علّق سوطك وسر، قال: كيف قوّتها؟ قال: احمل على الحائط ما شئت فاشتراها فلم يَرَ شيئاً مما وصف، فرجع إِليه، فقال: لم أرَ فيها شيئاً مما وصفتَها به، قال: ما كذبتك، قال: أَقِلْني، قال: نعم. وخرج شريح من عند زياد وهو مريض، فقيل له: كيف وجدت الأمير؟ قال: تركتُه يأمر ويَنهى، فقيل له: ما معنى يأمر وينهى؟ قال: يأمر بالوصية، وينهى عن النّوح. وأخذ محمد بن يوسف حجرا المداريّ فقال:
العن علياً، فقال: إِن الأمير أمرني أن ألعن علياً محمد بن يوسف، فالعنوه، لعنه الله. وأمر بعض الأمراء صعصعة بن صوحان بلعن عليّ، فقال: لعن اللهُ من لعن اللهُ ولعن عليٌّ، ثم قال: إِن هذا الأمير قد أبى إِلا أن ألعن علياً، فالعنوه، لعنه الله. وامتحنت الخوارج رجلاً من الشيعة، فجعل يقول: أنا مِنْ عليّ ومِنْ عثمان بريء. وخطب رجل امرأةً وتحته أخرى، فقالوا: لا نزوِّجك حتى تطلِّق امرأتك! فقال: اشهدوا أني قد طلقت ثلاثاً، فزوَّجوه، فأقام مع المرأة الأولى، فادَّعوا أنه قد طلّق، فقال: أما تعلمون أنه كان تحتي فلانة فطلَّقتُها، ثم فلانة فطلَّقتُها. ثم فلانة فطلَّقتُها؟ قالوا: بلى، قال: فقد طلَّقتُ ثلاثاً «2» . وحكي أن رجلاً عثر به الطائف ليلة، فقال له: من أنت؟ فقال:
__________
ضعيف. أخرجه البيهقي في «الدلائل» 2/ 489 من طريق أبي معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة به مرفوعا، وهو طرف حديث. وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر، واسمه نجيح السندي.
لم أره مسندا بهذا اللفظ.
__________
(1) في «اللسان» : نجأ الشيء: أصابه بالعين. والنّجأة: شدة النظر.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 378: مسألة: ولو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا. وأراد به الكذب، لم يلزمه شيء. ولو قال: قد طلقتها. وأراد به الكذب، لزمه الطلاق. وقد طلقت. لأن لفظ الطلاق صريح، يقع به الطلاق من غير نية. وإن قال خليتها أو أبنتها افتقر إلى النية لأنه كناية لا يقع به الطلاق من غير نية. وإن قيل له: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم. أو قيل له: امرأتك طالق؟ فقال: نعم. طلقت امرأته، وإن لم ينو. وهذا الصحيح من مذهب الشافعي، واختيار المزني لأن نعم صريح الجواب. والجواب الصريح للفظ الصريح صريح. وإن قيل له: طلّقت امرأتك؟ فقال: قد كان بعض ذلك. ثم قال: إنما أردت أنّي طلقتها في نكاح آخر. دين فيما بينه وبين الله تعالى، فأما في الحكم، فإن لم يكن ذلك وجد منه، لم يقبل، لأنه لا يحتمل ما قاله. وإن كان وجد، فعلى وجهين.(3/198)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
أنا ابنُ الذي لا يُنْزَل الدهرَ قِدرُه ... وإِن نزلتْ يوماً فسَوف تعود
ترى الناسَ أفواجاً إِلى ضوءِ ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود
فظنّ الطّائف أنه ابن بعض أشراف البصرة، فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو ابن باقلّائي. ومثل هذا كثير.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 64 الى 67]
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)
قوله تعالى: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فيه قولان: أحدهما: رجع بعضهم إِلى بعض. والثاني:
رجع كلٌّ منهم إِلى نفسه متفكِّراً.
قوله تعالى: فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ فيه خمسة أقوال: أحدها: حين عبدتم من لا يتكلم، قاله ابن عباس. والثاني: حين تتركون آلهتكم وحدها، وتذهبون، قاله وهب بن منبه. والثالث: في عبادة هذه الأصاغر مع هذا الكبير، روي عن وهب أيضاً. والرابع: لإِبراهيم حين اتهمتموه والفأس في يد كبير الأصنام، قاله ابن إِسحاق، ومقاتل. والخامس: أنتم ظالمون لإِبراهيم حين سألتموه، وهذه أصنامكم حاضرة، فاسألوها، ذكره ابن جرير.
قوله تعالى: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة:
«نُكِّسوا» برفع النون وكسر الكاف مشددة. وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر، وعاصم الجحدري:
«نَكَسوا» بفتح النون والكاف مخفَّفة. قال أبو عبيدة: «نُكِسوا» : قُلِبوا، تقول: نكستُ فلاناً على رأسه إِذا قهرته وعلوته.
ثم في المراد بهذا الانقلاب ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أدركتْهم حيرةٌ، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، قاله قتادة. والثاني: رجعوا إِلى أول ما كانوا يعرفونها به من أنها لا تنطق، قاله ابن قتيبة.
والثالث: انقلبوا على إبراهيم يحتجّون عليه بعد أن أقرّوا به ولاموا أنفسهم في تهمته، قاله أبو سليمان.
وفي قوله: لَقَدْ عَلِمْتَ إِضمار «قالوا» ، وفي هذا إِقرار منهم بعجز ما يعبدونه عن النُّطق، فحينئذ توجهت لإِبراهيم الحُجَّة، فقال موبّخاً لهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ أي: لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئاً وَلا يَضُرُّكُمْ إِذا لم تعبدوه، وفي هذا حثٌّ لهم على عبادة من يملك النفع والضُّر، أُفٍّ لَكُمْ قال الزجاج: معناه: النتن لكم فلمّا لزمتهم الحجة غضبوا، فقالوا: حَرِّقُوهُ. وذُكر في التفسير أن نمرود استشارهم، بأيِّ عذاب أعذِّبه، فقال رجل: حرِّقوه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله 9/ 41: وقال بعض أهل العربية: معنى ذلك: ثم رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. وإنما اخترنا القول الذي قلنا في معنى ذلك، لأن نكس الشيء على رأسه: قلبه على رأسه، وتصير أعلاه أسفله، ومعلوم أن القوم لم يقلبوا على رؤوسهم، وأنهم إنما نكست حجتهم، فأقيم الخبر عنهم، مقام الخبر عن حجتهم. فنكس الحجة لا شك، إنما هو احتجاج المحتجّ على خصمه بما هو حجة لخصمه.(3/199)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 68 الى 73]
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)
قوله تعالى: وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ أي: بتحريقه، لأنه يَعيبها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي: ناصريها.
الإِشارة إِلى القصة
ذكر أهل التفسير أنهم حبسوا إِبراهيم عليه السلام في بيت ثم بنَوا له حَيْراً طول جداره ستون ذراعاً إِلى سفح جبل منيف، ونادى منادي الملك: أيها الناس احتطبوا لإِبراهيم، ولا يتخلفنَّ عن ذلك صغير ولا كبير، فمن تخلَّف أُلقي في تلك النار، ففعلوا ذلك أربعين ليلة، حتى إِن كانت المرأة لتقول: إِن ظفرتُ بكذا لأحتطبنّ لنار إبراهيم، حتى إذا كاد الحطب يساوي رأس الجدار سدوا أبواب الحَيْر وقذفوا فيه النار، فارتفع لهبا، حتى إن الطائر ليمرُّ بها فيحترق من شدة حرِّها، ثم بنَوا بنياناً شامخاً، وبنَوا فوقه منجنيقاً، ثم رفعوا إِبراهيم على رأس البنيان، فرفع إِبراهيم رأسه إِلى السماء، فقال: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربَّنا إِبراهيمُ يُحرَق فيكَ، فائذن لنا في نصرته فقال: أنا أعلمُ به، وإِن دعاكم فأغيثوه فقذفوه في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وقيل: ست وعشرين، فقال:
«حسبي الله ونعم الوكيل» . فاستقبله جبريل، فقال: يا إِبراهيم ألكَ حاجة؟ قال: أمّا إِليك، فلا، قال جبريل: فسل ربَّك، فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» «1» ، فقال الله عزّ وجلّ: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، فلم تبق نار على وجه الأرض يومئذ إِلا طُفئت وظنَّت أنها عُنيت. وزعم السدي أن جبريل هو الذي ناداها. وقال ابن عباس: لو لم يُتبع بردها سلاماً لمات إِبراهيم من بردها، قال السدي:
فأخذت الملائكة بضَبْعَي «2» إِبراهيم فأجلسوه على الأرض، فإذا عين من ماءٍ عذْب، وورد أحمر، ونرجس، قال كعب ووهب: فما أحرقت النار من إِبراهيم إِلا وَثاقه، وأقام في ذلك الموضع سبعة أيام، وقال غيرهما: أربعين أو خمسين يوماً، فنزل جبريل بقميص من الجنة وطنفسة «3» من الجنة، فألبسه القميص، وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه. وإِن آزر أتى نمرود فقال: أئذن لي أن أُخرِج عظام إِبراهيم فأدفنها، فانطلق نمرود ومعه الناس، فأمر بالحائط فنُقب، فإذا إبراهيم في روضة يهتزّ وثيابه تندى، وعليه القميص وتحته الطنفسة والملَك إِلى جنبه، فناداه نمرود: يا إِبراهيم إِن إلهك الذي بلغتْ قُدرته هذا لكبيرٌ، هل تستطيع أن تخرج؟ قال: نعم، فقام إِبراهيم يمشي حتى خرج، فقال: مَن الذي رأيتُ معك؟ قال: ملَك أرسله إِليَّ ربِّي ليؤنسني، فقال نمرود: إِني مقرِّب لإِلهك قرباناً لِما رأيت من
__________
(1) هذا من الإسرائيليات، وهو معارض بكتاب الله فإن الله أمر عباده أن يسألوه في السراء والضراء. [.....]
(2) في «اللسان» : الضّبع: وسط العضد بلحمه يكون للإنسان وغيره.
(3) في «اللسان» الطّنفسة: النّمرقة فوق الرجل، وقيل: البساط الذي له خمل رقيق.(3/200)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
قدرته، فقال: إِذن لا يقبل الله منكَ ما كنتَ على دينك، فقال: يا إِبراهيم، لا أستطيع ترك ملكي، ولكن سوف أذبح له، فذبح القربان وكفَّ عن إِبراهيم.
قال المفسرون: ومعنى: «كُوني بَرْداً» أى: ذات برد، «وسلاماً» أي: سلامة. وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً وهو التحريق بالنار فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وهو أن الله تعالى سلَّط البعوض عليهم حتى أكل لحومهم وشرب دماءهم، ودخلت واحدة في دماغ نمرود حتى أهلكته، والمعنى: أنهم كادوه بسوء. فانقلب السوء عليهم. قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ أي: من نمرود وكيده وَلُوطاً وهو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وكان قد آمن به، فهاجرا من أرض العراق إِلى الشام. وكانت سارة مع ابراهيم في قول وهب. وقال السدي: إِنما هي إبنة ملك حرَّان، لقيها إِبراهيم فتزوجها على أن لا يغيرها، وكانت قد طعنت على قومها في دينهم.
فأما قوله تعالى: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها، ففيها قولان: أحدهما: أنها أرض الشام، وهذا قول الأكثرين. وبَرَكتها: أنّ الله تعالى بعث أكثر الأنبياء منها، وأكثر فيها الخصب والثمار والأنهار.
والثاني: أنها مكة، رواه العوفي عن ابن عباس. والأول أصح.
قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ يعني: إِبراهيم إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً. وفي معنى النافلة قولان:
أحدهما: أنها بمعنى الزيادة، والمراد بها: يعقوب خاصة، فكأنه سأل واحداً، فأُعطي اثنين، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والفراء. والثاني: أن النافلة بمعنى العطية، والمراد بها: إِسحاق ويعقوب، وهذا مذهب مجاهد، وعطاء. قوله تعالى: وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ يعني: إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب، قال أبو عبيدة: «كُلٌّ» يقع خبره على لفظ الواحد، لأن لفظه لفظ الواحد، ويقع خبره على لفظ الجميع، لأن معناه معنى الجميع.
قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً أي: رؤوساً يُقتدى بهم في الخير يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي: يَدْعون الناس إِلى ديننا بأمرنا إِيَّاهم بذلك وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ قال ابن عباس: شرائع النبوَّة. وقال مقاتل: الأعمال الصالحة، وَإِقامَ الصَّلاةِ قال الزجاج: حذفُ الهاء من إِقامة الصلاة قليلٌ في اللغة، تقول: أقام إِقامة، والحذف جائز، لأنّ الإضافة عوض من الهاء.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 75]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
قوله تعالى: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً قال الزجاج: انتصب «لوط» بفعل مضمر، لأن قبله فعلاً، فالمعنى: وأوحينا إِليهم وآتينا لوطاً. وذكر بعض النحويين أنه منصوب على «واذكر لوطاً» ، وهذا جائز لأن ذِكْر إِبراهيم قد جرى، فحُمل لوط على معنى: واذكر. قال المفسرون: لمَّا هاجر لوط مع إِبراهيم، نزل إِبراهيم أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة أو نحو ذلك من إِبراهيم، فبعثه الله نبيّاً. فأما «الحُكم» ففيه قولان: أحدهما: أنه النبوَّة، قاله ابن عباس. والثاني: الفهم والعقل، قاله مقاتل، وقد ذكرنا فيه أقوالاً في سورة يوسف «1» . وأمّا «القرية» ها هنا، فهي سدوم، والمراد أهلها،
__________
(1) سورة يوسف: 22.(3/201)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
والخبائث: أفعالهم المنكَرة، فمنها إِتيان الذكور، وقطع السبيل، إِلى غير ذلك مما قد ذكره الله عزّ وجلّ عنهم في مواضع «1» . قوله تعالى: وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي: بانجائه من بينهم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
قوله تعالى: وَنُوحاً المعنى: واذكر نوحاً، وكذلك ما يأتيك من ذِكْر الأنبياء إِذْ نادى أي:
دعا على قومه مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قبل إِبراهيمَ ولوطٍ. فأما الكرب العظيم! فقال ابن عباس: هو الغرق وتكذيب قومه. قوله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ أي: منعناه منهم أن يصلوا إِليه بسوءٍ، وقيل:
«من» بمعنى «على» .
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
قوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ وفيه قولان: أحدهما: أنه كان عنباً، قاله ابن مسعود، ومسروق، وشريح. والثاني: كان زرعاً، قاله قتادة. إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ قال ابن قتيبة:
أي: رَعَتْ ليلاً، يقال: نَفَشَت الغنمُ بالليل، وهي إِبل نَفَشٌ ونُفَّاشٌ ونِفَاشٌ، والواحد: نَافِشٌ، وَسَرَحَتْ وسَرَبَتْ بالنهار. قال قتادة: النَّفَش بالليل، والهَمَل بالنهار. وقال ابن السكِّيت: النَّفَش: أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راعٍ.
الإِشارة إِلى القصة
ذكر أهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فتفلَّتت الغنم فوقعت في الحرث فلم تُبق منه شيئاً، فاختصما إِلى داود، فقال لصاحب الحرث: لك رقاب الغنم، فقال سليمان: أوَ غير ذلك؟ قال: ما هو؟ قال: ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها، ويُقبل أصحاب الغَنَم على الكَرْم، حتى إِذا كان كليلة نفشت فيه الغَنَم، دفع هؤلاء إِلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إِلى هؤلاء كَرْمهم، فقال داود: قد أصبتَ القضاءَ، ثم حكم بذلك، فذلك قوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: داود وسليمان، فذكرهما بلفظ الجمع، لأن الاثنين جمع، هذا قول الفراء. والثاني: أنهم داود وسليمان والخصوم، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن أبي عبلة: «وكنا لحكمهما» على التثنية.
ومعنى «شاهدِين» : أنه لم يَغِب عنّا من أمرهم شيء. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ يعني: القضيّة والحكومة.
__________
(1) في سورة هود: 78، والحجر: 69.(3/202)
وإِنما كنى عنها، لأنه قد سبق ما يدل عليها من ذِكْر الحُكم، وَكُلًّا منهما آتَيْنا حُكْماً وقد سبق بيانه. قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه، وعَذَر داود باجتهاده.
فصل:
قال أبو سليمان الدمشقي: كان قضاء داود وسليمان جميعاً من طريق الاجتهاد، ولم يكن نصّاً، إِذ لو كان نصاً ما اختلفا. قال القاضي أبو يعلى: وقد اختلف الناس في الغنم إِذا نفشت ليلاً في زرع رجل فأفسدتْه، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان «1» ، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ضمان عليه ليلاً ونهاراً، إِلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها، فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا، لأن داود حكم بالضمان، وشرع مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لنا ما لم يَثْبُت نَسْخُه. فإن قيل: فقد ثبت نسخ هذا الحكم، لأن داود حكم بدفع الغَنَم إِلى صاحب الحرث، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشتْ غنمه في حرث رجل شيءٌ من ذلك قيل: الآية تضمنت أحكاماً، منها وجوب الضمان وكيفيته، فالنسخ حصل على كيفيَّته، ولم يحصل على أصله، فوجب التعلُّق به.
(992) وقد روى حرام بن محيِّصة عن أبيه: أن ناقةً للبراء دخلت حائط رجل فأفسدتْ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
__________
صحيح. أخرجه أحمد 5/ 436 وابن أبي شيبة 9/ 435- 436 وابن الجارود 796 والبيهقي 8/ 342 من طريق ابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب وحرام بن محيصة به. وأخرجه مالك 2/ 747 والشافعي 2/ 107 والطحاوي 3/ 203 والدارقطني 3/ 156 وابن ماجة 2332 كلهم عن الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة به. وهو مرسل صحيح. وأخرجه الشافعي 2/ 107 وأحمد 4/ 295 وأبو داود 3570 والطحاوي 3/ 203 والحاكم 2/ 47 والدارقطني 3/ 155 والبيهقي 8/ 341 من طرق عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء، وفيه إرسال لكن يشهد لمرسل ابن المسيب المتقدم، ويرقى به إلى درجة الحسن. وورد موصولا، أخرجه عبد الرزاق 18437 وأحمد 5/ 436 وأبو داود 3569 والدارقطني 3/ 154 والبيهقي 8/ 342 كلهم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه به. ورجاله ثقات، لكن أعله ابن عبد البر كما نقل ابن التركماني في «الجوهر النقي» 8/ 342 بأنه أنكر على عبد الرزاق ذكره- عن أبيه- ونقل ابن عبد البر عن أبي داود قوله: لم يتابع عبد الرزاق على قوله: عن أبيه. والصحيح أنه توبع، فقد أخرجه الدارقطني 3/ 155 من طريق الشافعي عن أيوب بن سويد عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام عن أبيه.
الخلاصة: ورد موصولا ومرسلا، ومرسل ابن المسيب وحده يحتج به الأئمة الأربعة. كيف وقد توبع، تابعه حرام بن محيصة، وورد أيضا موصولا، فهو صحيح إن شاء الله تعالى، وقد صححه ابن العربي.
- وانظر ما ذكره الشيخ شعيب في «الإحسان» 13/ 354- 357. وانظر «أحكام القرآن» 1497 بتخريجنا.
__________
(1) جاء في «المغني» مسألة: «وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها، وما أفسدت من ذلك نهارا، لم يضمنوه» . قال العلامة الموفق في شرحه: يعني إذا لم تكن يد أحد عليها، فإن كان صاحبها معها أو غيره فعليه ضمان ما أتلفته من نفس أو مال، وإن لم تكن يد أحد عليها، فعلى مالكها ضمان ما أفسدته من الزرع ليلا دون النهار. وهذا قول مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز، وقال الليث يضمن مالكها ما أفسدته ليلا أو نهارا بأقل الأمرين من قيمتها أو قدر ما أتلفته. وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه بحال اه ملخصا.(3/203)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
قوله تعالى: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ تقدير الكلام: وسخَّرْنا الجبال يسبِّحن مع داود.
قال أبو هريرة: كان إِذا سبَّح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذِّكْر، وقال غيره: كان إِذا وجد فترةً، أمر الجبال فسبَّحت حتى يشتاق هو فيسبِّح. قوله تعالى: وَكُنَّا فاعِلِينَ أي: لذلك. قال الزجاج:
المعنى: وكنّا نقدر على ما نريده.
قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ في المراد باللَّبوس قولان: أحدهما: الدُّروع، وكانت قبل ذلك صفائح، وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد، قاله قتادة. والثاني: أن اللَّبوس:
السلاح كلُّه من درع إِلى رمح، قاله أبو عبيدة. وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «لُبوس» بضم اللام.
قوله تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «لِيُحْصِنَكُمْ» بالياء.
وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: «لِتُحْصِنَكُمْ» بالتاء. وروى أبو بكر عن عاصم: «لِنُحْصِنَكُمْ» بالنون خفيفة. وقرأ أبو الدرداء، وأبو عمران الجوني، وأبو حيوة: «لِتُحَصِّنَكُمْ» بتاء مرفوعة وفتح الحاء وتشديد الصاد. وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس: «لِتَحَصُّنِكُمْ» بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو المتوكل، ومجاهد: «لِنُحَصِّنَكُمْ» بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها. وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وابن يعمر، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «لِيُحْصِنَّكُمْ» بياء مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون. فمن قرأ بالياء، ففيه أربعة أوجه: قال أبو علي الفارسي: أن يكون الفاعل اسم الله، لتقدُّم معناه ويجوز أن يكون اللباس، لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضرباً منه، ويجوز أن يكون داود، ويجوز أن يكون التعليم، وقد دل عليه «علَّمْناه» . ومن قرأ بالتاء، حمله على المعنى، لأنه الدرع. ومن قرأ بالنون، فلتقدمُّ قوله: «وعلَّمناه» . ومعنى لِتُحْصِنَكُمْ: لِتُحْرِزَكم وتمنعكم (مِنْ بأسكم) يعني: الحرب.
قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران الجوني، وأبو حيوة الحضرمي: «الرِّياحُ» بألف مع رفع الحاء. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: بالألف ونصب الحاء، والمعنى: وسخَّرْنا لسليمان الريح عاصِفَةً أي: شديدة الهبوب تَجْرِي بِأَمْرِهِ يعني: بأمر سليمان إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي أرض الشام، وقد مَرَّ بيان بركتها في هذه السّورة «1» والمعنى:
أنها كانت تسير به إِلى حيث شاء، ثم تعود به إِلى منزله بالشام.
قوله تعالى: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ علمنا أن ما نُعطي سليمان يدعوه إِلى الخضوع لربِّه. قوله تعالى: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ قال أبو عبيدة: «مَنْ» تقع على الواحد والاثنين والجميع من المذكَّر والمؤنَّث. قال المفسرون: كانوا يغوصون في البحر، فيستخرجون الجواهر، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ قال الزجاج: معناه: سوى ذلك: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يُفسدوا ما عملوا. وقال غيره:
أن يخرجوا عن أمره.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 86]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
__________
(1) سورة الأنبياء: 72.(3/204)
قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أي: دعا ربَّه أَنِّي وقرأ أبو عمران الجوني: «إِني» بكسر الهمزة، مَسَّنِيَ الضُّرُّ وقرأ حمزة: «مَسَّنِيْ» بتسكين الياء، أي: أصابني الجَهْد، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي: أكثرهم رحمة، وهذا تعريض منه بسؤال الرحمة إِذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت.
الإِشارة إِلى قصته
ذكر أهل التفسير «1» أن أيوب عليه السلام كان أغنى أهل زمانه، وكان كثير الإِحسان. فقال إِبليس: يا رب سلِّطني على ماله وولده- وكان له ثلاثة عشر ولداً- فإن فعلتَ رأيتَه كيف يُطيعني ويَعصيكَ، فقيل له: قد سلَّطْتُكَ على ماله وولده، فرجع إِبليس فجمع شياطينه ومردته، فبعث بعضهم إِلى دوابِّه ورعاته، فاحتملوها حتى قذفوها في البحر، وجاء إِبليس في صورة قيِّمه، فقال: يا أيوب ألا أراك تصلِّي وقد أقبلتْ ريح عاصف فاحتملت دوابَّك ورعاتها حتى قذفَتْها في البحر؟ فلم يردَّ عليه شيئاً حتى فرغ من صلاته، ثم قال: الحمد لله الذي رزقني ثم قبله مِنِّي، فانصرف خائباً، ثم أرسل بعض الشياطين إِلى جنانه وزروعه، فأحرقوها، وجاء فأخبره، فقال مثل ذلك، فأرسل بعض الشياطين فزلزلوا منازل أيوب وفيها ولده وخدمه، فأهلكوهم، وجاء فأخبره، فحمد الله، وقال لإِبليس وهو يظنه قيِّمه في ماله: لو كان فيكَ خير لقبضكَ معهم، فانصرف خائباً، فقيل له: كيف رأيتَ عبدي أيوب؟ قال: يا ربِّ سلِّطني على جسده فسوف ترى، قيل له قد سلَّطْتُكَ على جسده فجاء فنفخ في إِبهام قدميه، فاشتعل فيه مثل النار، ولم يكن في زمانه أكثر بكاءً منه خوفاً من الله تعالى، فلما نزل به البلاء لم يبكِ مخافة الجزع، وبقي لسانُه للذِّكر، وقلبه للمعرفة والشُّكر، وكان يرى أمعاءه وعروقه وعظامه، وكان مرضه أنه خرج في جميع جسده ثآليل كأليات الغنم ووقعت به حكّة لا يملكها، فحكَّ بأظفاره حتى سقطت، ثم بالمسوح، ثم بالحجارة، فأنتن جسمه وتقطَّع، وأخرجه أهل القرية فجعلوا له عريشاً على كُناسة، ورفضه الخلق سوى زوجته، واسمها رحمة بنت إِفراييم بن يوسف بن يعقوب، فكانت تختلف إِليه بما يصلحه. وروى أبو بكر القرشي عن الليث بن سعد، قال: كان ملك يظلم الناس، فكلَّمه في ذلك جماعة من الأنبياء، وسكت عنه أيوب لأجل خيل كانت له في سلطانه، فأوحى الله إِليه: تركتَ كلامَه من أجل خيلك؟! لأطيلنَّ بلاءك. واختلفوا في مدة لبثه في البلاء على أربعة أقوال:
(993) أحدها: ثماني عشرة سنة، رواه أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم.
__________
غريب. أخرجه البزار 2357 «كشف» وأبو يعلى 3617 وابن حبان 2898 والحاكم 2/ 581 والطبراني «الطوال» 40 وأبو نعيم 3/ 374- 375 من حديث أنس، ورجاله رجال البخاري ومسلم، وقال الحاكم على شرطهما!، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي 13800: رجال البزار رجال الصحيح اه. وقال أبو نعيم: غريب من حديث الزهري لم يروه إلا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم. ومع ذلك استغربه ابن كثير في «تفسيره» 3/ 239.
وانظر «البداية والنهاية» 1/ 222- 223 و «الإحسان» 2898. وانظر «تفسير الشوكاني» 1636 بتخريجنا، والراجح وقفه، والله أعلم.
__________
(1) هذا الخبر بطوله، من أساطير الإسرائيليين وترّهاتهم وافتراءاتهم، وكل ذلك باطل، وليعلم أن علماء العقيدة قد نصوا على أن الأنبياء لا يمرضون أمراضا منفرة تحطّ من قدرهم، فهذه أخبار لو لم يذكرها المفسرون لكان أولى، فتنبه والله أعلم.(3/205)
والثاني: سبع سنين، قاله ابن عباس، وكعب، ويحيى بن أبي كثير. والثالث: سبع سنين وأشهر، قاله الحسن. والرابع: ثلاث سنين، قاله وهب.
وفي سبب سؤاله العافية ستة أقوال: أحدها: أنه اشتهى إِداماً، فلم تُصبه امرأته حتى باعت قرونا من شعرها، فلما علم ذلك قال: «مسَّني الضُّر» ، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أن الله تعالى أنساه الدعاء مع كثرة ذكره الله، فلما انتهى أجل البلاء، يسّر الله له الدعاء، فاستجاب له، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن نفراً من بني إِسرائيل مرُّوا به، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه هذا إِلا بذنْب عظيم، فعند ذلك قال: «مسّني الضّر» ، قاله نوف البكاليّ. فقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان له أخوان، فأتياه يوماً فوجدا ريحاً «1» ، فقالا: لو كان الله علم منه خيراً ما بلغ به كلّ هذا، فما سمع شيئاً أشدَّ عليه من ذلك، فقال: اللهم إِن كنتَ تعلم أنِّي لم أَبِت ليلةً شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدِّقني، فصُدِّق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إِن كنتَ تعلم أنِّي لم ألبس قميصاً وأنا أعلم مكان عارٍ فصدِّقني، فصُدِّق وهما يسمعان، فخرَّ ساجداً، ثم قال: اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي، فكشف الله عزّ وجلّ ما به. والرابع: أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة، فقال: ليذبح أيوب هذه لي وقد برأ، فجاءت فأخبرته، فقال: لئن شفاني الله لأجلدنَّك مائة جلدة، أمرتني أن أذبح لغير الله؟! ثم طردها عنه، فذهبتْ، فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا صديق، خرَّ ساجداً وقال: «مسَّني الضُّر» ، قاله الحسن. والخامس: أن الله تعالى أوحى إِليه وهو في عنفوان شبابه: إِني مبتليك، قال: يا رب، وأين يكون قلبي؟ قال: عندي، فصبَّ عليه من البلاء ما سمعتم، حتى إِذا بلغ البلاء منتهاه، أوحى إِليه أني معافيكَ، قال: يا رب، وأين يكون قلبي؟ قال: عندك، قال: «مسَّني الضُّر» ، قاله إِبراهيم بن شيبان القرميسي فيما حدّثنا به عنه. والسادس: أن الوحي انقطع عنه أربعين يوماً، فخاف هجران ربِّه، فقال:
«مسَّني الضُّر» ، ذكره الماوردي.
فإن قيل: أين الصبر، وهذا لفظ الشكوى؟ فالجواب: أن الشكوى إِلى الله لا تنافي الصبر، وإِنما المذموم الشكوى إلى الخلق، ألم تسمع قول يعقوب: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
«2» . قال سفيان بن عيينة: وكذلك من شكا إِلى الناس، وهو في شكواه راضٍ بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعاً، ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم لجبريل في مرضه:
(994) «أجدني مغموماً» و «أجدني مكروبا» .
__________
ضعيف. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 2/ 198- 199 والبيهقي في «الدلائل» 7/ 267- 268 من طريقين عن جعفر بن محمد عن أبيه، وفي إسناد ابن سعد من لم يسمّ، وهو مرسل. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 7/ 210- 211 من طريق الحسن بن علي عن محمد بن علي مرسلا. وأخرجه الطبراني في «الكبير» 2890 من طريق علي بن الحسن عن أبيه. وذكره الهيثمي في «المجمع» 9/ 34 ح 14261 وقال: وفيه عبد الله بن ميمون القداح، وهو ذاهب الحديث.
__________
(1) هذا مفترى، قبح الله من وضعه، وهو من افتراءات اليهود.
(2) سورة يوسف: 86.(3/206)
(995) وقوله: «بل أنا وا رأساه» .
قوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ يعني: أولاده وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أحيا له أهله بأعيانهم، وآتاه مثلهم معهم في الدنيا، قاله ابن مسعود، والحسن، وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: كانت امرأته ولدت له سبعة بنين وسبع بنات، فنُشِروا له، وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات. والثاني: أنهم كانوا قد غُيِّبوا عنه ولم يموتوا، فآتاه إِياهم في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة، رواه هشام عن الحسن. والثالث: آتاه الله أجور أهله في الآخرة، وآتاه مثلهم في الدنيا، قاله نوف، ومجاهد. والرابع: آتاه أهله ومثلهم معهم في الآخرة، حكاه الزجاج.
قوله تعالى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي: فعلنا ذلك به رحمةً مِنْ عندنا، وَذِكْرى أي: عِظةً لِلْعابِدِينَ قال محمد بن كعب: من أصابه بلاء فليذكر ما أصاب أيوب، فليقل: إِنه قد أصاب من هو خيرٌ مني.
قوله تعالى: وَذَا الْكِفْلِ اختلفوا هل كان نبيّاً، أم لا؟ على قولين «1» : أحدهما: أنه لم يكن نبيّاً، ولكنه كان عبداً صالحاً، قاله أبو موسى الأشعري، ومجاهد. ثم اختلف أرباب هذا القول في علَّه تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال: أحدها: أن رجلاً كان يصلِّي كلَّ يوم مائة صلاة فتوفي، فكفل بصلاته، فسمِّي: ذا الكفل، قاله أبو موسى الأشعري. والثاني: أنه تكفل للنبيّ بقومه أن يكفيه أمرهم ويقيمه ويقضي بينهم بالعدل ففعل، فسمِّي: ذا الكفل، قاله مجاهد. والثالث: أن ملِكاً قَتل في يوم ثلاثمائة نبيٍّ، وفرَّ منه مائة نبيٍّ، فكفلهم ذو الكفل يطعمهم ويسقيهم حتى أُفلتوا، فسمِّي ذا الكفل، قاله ابن السائب. والقول الثاني: أنه كان نبيّاً، قاله الحسن، وعطاء. قال عطاء: أوحى الله تعالى إِلى نبيّ من الأنبياء: إِني أُريد قبض روحك، فاعرض مُلكك على بني إِسرائيل، فمن تكفَّل لك بأنه يصلِّي الليل
__________
صحيح. أخرجه البخاري 5666 والبيهقي في «الدلائل» 7/ 168 من حديث عائشة. وأخرجه ابن ماجة 1465 وأحمد 6/ 228 وعبد الرزاق 9754 وابن حبان 6586 والبيهقي 3/ 396 وفي «الدلائل» 7/ 168 من وجه آخر من حديث عائشة أيضا. وقال البوصيري في «الزوائد» إسناده رجال ثقات.
وتمامه في البخاري: قال القاسم بن محمد: قالت عائشة وا رأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك» فقالت عائشة: وا ثكلاه والله إني لأظنك تحبّ موتي ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرّسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنا وا رأساه لقد هممت- أو أردت- أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون، أو يتمنّى المتمنّون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون- أو يدفع الله ويأبى المؤمنون-» .
__________
(1) قال الطبري رحمه الله 9/ 74: وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبي الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه به بما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبا لقومه، لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم، وقد أمره الله تعالى بالمقام بين أظهرهم، ليبلغهم رسالته، ويحذّرهم بأسه وعقوبته، على تركهم الإيمان به، والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه، ولولا أنه قد كان أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه، ويصفه بالصفة التي وصفه بها، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلّم وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ.(3/207)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
لا يفتر، ويصوم النهار لا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب، فادفع مُلككَ إِليه، ففعل ذلك، فقام شابّ فقال: أنا أتكفَّل لك بهذا، فتكفَّل به، فوفى، فشكر اللهُ له ذلك، ونبَّأه، وسمِّي: ذا الكفل.
(996) وقد ذكر الثعلبي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الكفل: «أنه كان رجلاً لا ينزع عن ذنب، وأنه خلا بامرأة ليفجر بها، فبكت، وقالت: ما فعلتُ هذا قطّ، فقام عنها تائباً، ومات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: قد غفر الله للكفل» والحديث معروف، وقد ذكرتُه في «الحدائق» ، فجعله الثعلبي أحد الوجوه في بيان ذي الكفل، وهذا غلط، لأن ذلك اسمه الكفل، والمذكور في القرآن: ذو الكفل، ولأن الكفل مات في ليلته التي تاب فيها، فلم يمض عليه زمان طويل يعالج فيه الصبر عن الخطايا، وإِذا قلنا: إِنه نبيّ، فإن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الحال. وذكرت هذا لشيخنا أبي الفضل بن ناصر، فوافقني، وقال: ليس هذا بذاك.
قوله تعالى: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي: على طاعة الله وترك معصيته، وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا في هذه الرّحمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الجنة، وقاله ابن عباس. والثاني: النبوَّة، قاله مقاتل. والثالث: النّعمة والموالاة، حكاه أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
قوله تعالى: وَذَا النُّونِ يعني: يونس بن متّى. والنون: السمكة أُضيف إِليها لابتلاعها إِياه.
قوله تعالى: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً قال ابن قتيبة: المُغاضَبة: مُفاعَلة، وأكثر المفاعَلة من اثنين، كالمناظرة
__________
ضعيف. أخرجه الترمذي 2496 وأحمد 2/ 23 والحاكم 4/ 254 ح 7651 من حديث ابن عمر. صححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وكذا صححه أحمد شاكر في «المسند» ! مع أن مداره على سعد مولى طلحة، وهو مجهول كما في «التقريب» .
وأخرجه ابن حبان 387 عن عبد الله الرازي عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، وهذا إسناد ظاهره الحسن، لكنه معلول. وقال الترمذي عقب روايته: حديث حسن، ورواه غير واحد عن الأعمش فرفعوه.
ورواه بعضهم فلم يرفعه، ورواه أبو بكر بن عياش فأخطأ فيه، فقال: عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، وهو غير محفوظ اه. وهو كما قال الترمذي رحمه الله. وهذا الحديث إنما يعرف بسعد مولى طلحة، وهو مجهول. وهناك علة أخرى، وهي الاضطراب في المتن. ففي «مسند أحمد» و «سنن الترمذي» و «المستدرك» ، «كان الكفل» ، وعند ابن حبان «كان ذو الكفل» وعند ابن حبان «سمعته أكثر من عشرين مرة» وعند غيره «سبع مرات» وهذه الرواية تدل على وهنه. فلو كرره النبي صلى الله عليه وسلّم عشرين مرة أو سبع مرات لرواه عدد من الصحابة. ولحمله جماعة من التابعين. كيف ولم يروه سوى رجل مجهول. فالخبر واه، وقد استغربه ابن كثير في «تفسيره» 3/ 241 لكنه ذكر أنه لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة، والصواب أن الترمذي قد رواه كما تقدم. وقال الحافظ ابن كثير في «تاريخه» 1/ 226: غريب جدا. وفي إسناده نظر، فإن سعدا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد. ووثقه ابن حبان ولم يرو عنه سوى عبد الله الرازي اه. وقد ورد نحو هذه القصة في خبر الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار. ومما يدل على وهن هذا الحديث أن الكفل هذا أو «ذا الكفل» مات في الليلة التي تاب فيها، فكيف ذلك والآية وصفت إياه بالصبر؟! فتنبه والله أعلم. وانظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية بتخريجي، وانظر «تفسير الشوكاني» 1637 بتخريجنا. والله الموفق.(3/208)
والمجادَلة والمخاصَمة، وربما تكون من واحد، كقولك: سافرت، وشارفت الأمر، وهي ها هنا من هذا الباب. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «مُغْضَباً» باسكان الغين وفتح الضاد من غير ألف.
واختلفوا في مغاضبته لمن كانت؟ على قولين «1» : أحدهما: أنه غضب على قومه، قاله ابن عباس، والضحاك. وفي سبب غضبه عليهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله تعالى أوحى إِلى نبي يقال له:
شعيا: أن ائت فلاناً الملك، فقل له يبعث نبيّاً أميناً إِلى بني إِسرائيل، وكان قد غزا بني إِسرائيل ملك، وسبا منهم الكثير، فأراد النبي والملك أن يبعثا يونس إِلى ذلك الملك ليكلِّمه حتى يرسلَهم، فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله باخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سماني لك؟ قال: لا، قال: فهاهنا غيري من الأنبياء، فألَحُّوا عليه، فخرج مغاضباً للنبيّ والملك ولقومه، هذا مروي عن ابن عباس وقد زدناه شرحا في سورة يونس «2» . والثاني: أنه عانى من قومه أمراً صعباً من الأذى والتكذيب، فخرج عنهم قبل أن يؤمنوا ضجراً، وما ظنَّ أن هذا الفعل يوجب عليه ما جرى من العقوبة، ذكره ابن الأنباري. وقد روي عن وهب بن منبه، قال: لما حُملت عليه أثقالُ النبوَّة، ضاق بها ذرعاً ولم يصبر، فقذفها من يده وخرج هارباً. والثالث: أنه لمَّا أوعدهم العذاب، فتابوا ورُفع عنهم، قيل له: ارجع إِليهم، فقال: كيف أرجع فيجدوني كاذباً؟ فانصرف مغاضباً لقومه، عاتباً على ربِّه. وقد ذكرنا هذا في سورة يونس.
والثاني: أنه خرج مغاضباً لربِّه، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، والشعبي، وعروة، وقال: المعنى:
مغاضباً من أجل ربِّه، وإِنما غضب لأجل تمرُّدهم وعصيانهم. وقال ابن قتيبة: كان مَغِيظاً عليهم لطول ما عاناه من تكذيبهم، مشتهيا أن ينزل العذاب لهم فعاقبه الله على كراهيته العفو عن قومه.
قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وقرأ يعقوب: «يقدّر عليه» بضم الياء وتشديد الدال وفتحها. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وابن أبي ليلى: «يُقْدَرَ» بياء مرفوعة مع سكون القاف وتخفيف الدال وفتحها. وقرأ أبو عمران الجوني: «يَقْدِرَ» بياء مفتوحة وسكون القاف وكسر الدال خفيفة. وقرأ الزهري، وابن يعمر، وحميد بن قيس: «نُقَدِّرَ» بنون مرفوعة وفتح القاف وكسر الدال وتشديدها. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن لن نقضي عليه بالعقوبة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك. قال الفراء: معنى الآية: فظن أن لن نقدر عليه ما قدرنا من العقوبة، والعرب تقول: قَدَر، بمعنى: قَدَّر، قال أبو صخر:
ولا عَائداً ذاكَ الزمانُ الذي مضى ... تباركتَ مَا تَقْدِرْ يَكُنْ ولكَ الشُّكرُ «3»
أراد: ما تقدّر، وهذا مذهب الزّجّاج.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 76: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي، قول من قال: عني به:
فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيّق عليه عقوبة له على مغاضبة ربه وذلك من قولهم قدرت على فلان: إذا ضيقت عليه، كما قال الله جل ثناؤه وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ.
ووافقه ابن كثير في «تفسيره» 3/ 242.
(2) سورة يونس: 98.
(3) البيت في «شرح أشعار الهذليين» 2/ 958.(3/209)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
والثاني: فظن أن لن نضيِّق عليه، قاله عطاء. قال ابن قتيبة: يقال فلان مُقَدَّر عليه، ومُقَتَّر عليه، ومنه قوله تعالى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ «1» أي ضيَّق عليه فيه. قال النقاش: والمعنى فظن أن يضيقه عليه الخروج، فكأنّه ظنّ أنّ الله تعالى قد وسّع عليه إِن شاء أن يقيم وإِن شاء أن يخرج، ولم يؤذّن له في الخروج. والثالث: أنّ المعنى: أفظنّ أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه، رواه عوف عن الحسن. وقال ابن زيد وسليمان التيمي: المعنى أفظنَّ أن لن نَقْدِر عليه فعلى هذا الوجه يكون استفهاماً قد حُذفت ألفه وهذا الوجه يدل على أنه من القدرة، ولا يتصوّر إِلا مع تقدير الاستفهام، ولا أعلم له وجهاً إِلا أن يكون استفهام إِنكار تقديره: ما ظنّ عجزنا فأين يهرب منا؟! قوله تعالى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ فيها ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل، قاله سعيد بن جبير وقتادة والأكثرون. والثاني: أن حوتاً جاء فابتلع الحوت الذي هو في بطنه فنادى في ظلمة حوت ثم في ظلمة حوت ثم في ظلمة البحر، قاله سالم بن أبي الجعد.
والثالث: أنها ظلمة الماء وظلمة مِعى السمكة وظلمة بطنها، قاله ابن السائب.
(997) وقد روى سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إِلا فرج الله عنه، كلمة أخي يونس: فنادى في الظلمات أن لا إِله إِلا أنتَ، سُبْحانَكَ إِني كُنْتُ من الظالمين» . قال الحسن: وهذا اعتراف من يونس بذنْبه وتوبة من خطيئته.
قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي: أجبناه وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي: من الظلمات وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ إِذا دعونا. وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ: «نُجّي المؤمنين» بنون واحدة مشددة الجيم قال الزجاج: وهذا لَحْنٌ لا وجه له، وقال أبو علي الفارسي: غلط الراوي عن عاصم، ويدل على هذا إِسكانه الياء من «نُجّي» ونصب «المؤمنين» ولو كان على ما لم يُسم فاعله ما سكّن الياء، ولرفع «المؤمنين» .
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 94]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94)
__________
حسن. أخرجه النسائي في «اليوم والليلة» 660 وابن السني 345 بإسناد ضعيف. وأخرجه الترمذي 3505 والحاكم 1/ 505 من حديث سعد بن أبي وقّاص، من وجه آخر، وإسناده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في صحيح سنن الترمذي، وورد من وجه آخر مطولا وله قصة أخرجه أحمد 1464 وقال الهيثمي 11176: رجاله رجال الصحيح سوى إبراهيم بن محمد، وهو ثقة. فهذه الطرق تتأيد بمجموعها. فالحديث حسن إن شاء الله. وانظر «تفسير الشوكاني» 1638 بتخريجنا.
__________
(1) سورة الفجر: 16. [.....]
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 77: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات، ولا شك أنه قد عني بإحدى الظلمات: بطن الحوت وبالأخرى: ظلمة البحر، وفي الثالثة اختلاف، ولا دليل يدلّ على أي ذلك من أي، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل.(3/210)
قوله تعالى: لا تَذَرْنِي فَرْداً أي: وحيداً بلا ولد وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أي: أفضل من بقي حياً بعد ميت. قوله تعالى: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ فيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أُصلحت للولد بعد أن كانت عقيماً، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة. والثاني: أنه كان في لسانها طول، وهو:
البذاء، فأُصلحت، قاله عطاء وقال السدي: كانت سليطة فكفَّ عنه لسانها. والثالث: أنه كان خُلُقها سيّئا، قاله محمّد بن كعب. قوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي: يبادرون في طاعة الله. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: زكريا، وامرأته، ويحيى. والثاني: جميع الأنبياء المذكورون في هذه السورة. قوله تعالى: وَيَدْعُونَنا وقرأ ابن مسعود، وابن محيصن: «ويدعونا» بنون واحدة.
قوله تعالى: رَغَباً وَرَهَباً أي: رغباً فيما عندنا، ورهباً منا وقرأ الأعمش: «رُغْباً ورُهْباً» بضم الراءين وجزم الغين والهاء، وهما لغتان مثل النُّحْل، والنَحَل، والسُّقْم، والسَّقَم وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي: متواضعين.
قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فيه قولان: أحدهما: أنه مخرج الولد، والمعنى منعته مما لا يحل. وإِنما وُصِفَتْ بالعفاف لأنها قُذفت بالزنا. والثاني: أنه جيب درعها. ومعنى الفرج في اللغة:
كل فرجة بين شيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق، فهو يسمى فرجاً. وهذا أبلغ في الثناء عليها، لأنها إِذا منعت جيب درعها، فهي لنفسها أمنع.
قوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيها أي: أمرنا جبريل، فنفخ في درعها، فأجرينا فيها روح عيسى كما تجري الريح بالنفخ. وأضاف الروح إِليه إِضافة الملك، للتشريف والتخصيص وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً قال الزجاج: لما كان شأنهما واحداً، كانت الآية فيهما آية واحدة، وهي ولادة من غير فحل.
وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: «آيتين» على التثنية.
قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ قال ابن عباس: المراد بالأمّة ها هنا: الدّين، وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم وهو معنى قول مقاتل. والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله أبو سليمان الدمشقي. ثم ذكر أهل الكتاب، فذمَّهم بالاختلاف، فقال تعالى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي: اختلفوا في الدِّين، فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي: شيئاً من الفرائض وأعمال البِرِّ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي: لا نجحد ما عمل، قاله ابن قتيبة، والمعنى: أنه يقبل منه ويثاب عليه
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 79: والصواب أن يقال: إنّ الله أصلح لزكريا زوجه بأن جعلها ولودا حسنة الخلق، لأن كل ذلك من معاني إصلاحه إياها، ولم يخصص الله جل ثناؤه بذلك في كتابه ولا على لسان رسوله، فهو على العموم. واختار ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 244 الأول وقال: وهو الأظهر من السياق.(3/211)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ ذلك بأمر الحفظة أن يكتبوه ليجازيه به.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 95 الى 100]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99)
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)
قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم:
«وحرام» بألف. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «وحِرْم» بكسر الحاء من غير ألف، وهما لغتان. يقال: حِرْم وحرام. وقرأ معاذ القارئ وأبو المتوكّل وأبو عمران الجوني: «وحرم» بفتح الحاء وسكون الراء من غير ألف والميم مرفوعة منوَّنة. وقرأ سعيد بن جبير: «وحَرْمَ» بفتح الحاء وسكون الراء وفتح الميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف. وقرأ سعيد بن المسيب وأبو مجلز وأبو رجاء: «وحَرُمَ» بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف. وفي معنى قوله تعالى: وَحَرامٌ قولان:
أحدهما: واجب، قاله ابن عباس، وأنشدوا في معناه:
فَإنَّ حَرَاماً لاَ أَرَى الدَّهْرَ بَاكِياً ... عَلَى شَجْوِه إِلاَّ بَكَيْتُ على عَمْرو «1»
أي: واجب. والثاني: أنه بمعنى العزم، قاله سعيد بن جبير. وقال عطاء: حتم من الله، والمراد بالقرية: أهلها.
ثم في معنى الآية أربعة أقوال «2» : أحدها: واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: واجب عليها أنها إِذا أُهلكت لا ترجع إِلى دنياها، هذا قول قتادة وقد روي عن ابن عباس نحوه. والثالث: أن «لا» زائدة والمعنى: حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون إِلى الدنيا، قاله ابن جريج، وابن قتيبة في آخرين. والرابع: أن الكلام متعلق بما قبله، لأنه لما قال: «فلا كفران لسعيه» أعلمنا أنه قد حرَّم قبول أعمال الكفار فمعنى الآية: وحرام على قرية أهلكناها أن يُتقبَّل منهم عمل، لأنهم لا يتوبون، هذا قول الزجاج.
فإن قيل: كيف يصح أن يحرم على الإِنسان ما ليس من فعله، ورجوعهم بعد الموت ليس إليهم؟
__________
(1) البيت لعبد الرحمن بن جمانة المحاربي الجاهلي. كما في «اللسان» - حرم-.
ونسب للخنساء في «البحر المحيط» 6/ 314 و «تفسير القرطبي» 11/ 297 ولا يوجد البيت في ديوانها.
(2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 11/ 298: قال النحاس: والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجلّه ما رواه عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها قال وجب أنهم لا يرجعون قال لا يتوبون. قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بيّن في اللغة وشرحه: أن معنى حرّم الشيء حظر ومنع منه، كما أن معنى أحل أبيح ولم يمنع منه. وقيل: في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منها عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون، قاله الزجاج وأبو علي، وهذا هو معنى قول ابن عباس.(3/212)
فالجواب: أنّ المعنى: منعوا من ذلك فلا يقدرون عليه كما يُمنع الإِنسان من الحرام وإِن قدر عليه، فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وقرأ ابن عامر: «فُتِّحت» بالتشديد، والمعنى:
فُتح الردم عنهم وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ قال ابن قتيبة: من كل نشَز من الأرض وأكَمة يَنْسِلُونَ من النَّسَلان: وهو مقاربة الخطو مع الإِسراع كمشي الذئب إِذا بادر، والعَسَلان مثله. وقال الزجاج:
الحَدَبُ: كل أَكَمَة، و «يَنْسِلون» يُسرعون. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وعاصم الجحدري: «يَنْسُلون» بضم السين. وفي قوله تعالى: وَهُمْ قولان: أحدهما: أنه إِشارة إِلى يأجوج ومأجوج، قاله الجمهور. والثاني: إِلى جميع الناس، فالمعنى: وهم يُحشَرون إِلى الموقف، قاله مجاهد. والأول أصح.
فإن قيل: أين جواب «حتى» ؟ ففيه قولان: أحدهما: أنه قوله تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ والواو في قوله تعالى: «واقترب» زائدة، قاله الفراء. قال: ومثله: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «1» وقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ «2» ، المعنى: ناديناه. وقال عبد الله بن مسعود:
الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج، كالحامل المتمّ، لا يدري أهلها متى تفجؤُهم بولدها ليلاً أو نهاراً. والثاني: أنه قول محذوف في قوله: يا وَيْلَنا، فالمعنى: حتى إِذا فُتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد، قالوا: يا ويلنا. قال الزجاج: هذا قول البصريين. فأما الْوَعْدُ الْحَقُّ فهو القيامة.
قوله تعالى: فَإِذا هِيَ في «هي» أربعة أقوال: أحدها: أن «هي» كناية عن الأبصار، والأبصار تفسير لها، كقول الشاعر:
لعمرو أبيها لا تقول ظعينتي ... ألا فرّ عنّي مَالكُ بن أبِي كَعْبِ
فذكر الظعينة، وقد كنى عنها في «لعمرو أبيها» . والثاني: أن «هي» ضمير فصل وعماد، ويصلح في موضعها «هو» ، ومثله قوله: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ «3» وقوله: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ «4» ، وأنشدوا:
بثوبٍ وَدينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ ... فهَل هو مرفوع بما ها هنا رأْس
ذكرهما الفراء. والثالث: أن يكون تمام الكلام عند قوله: «هي» على معنى: فإذا هي بارزة واقفة، يعني: من قربها، كأنها آتية حاضرة، ثم ابتدأ فقال: شاخِصَةٌ، ذكره الثعلبي. والرابع: أن «هي» كناية عن القصة، والمعنى: القصة أن أبصارهم شاخصة في ذلك اليوم، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قال المفسرون: تشخص أبصار الكفار من هول يوم القيامة، ويقولون: يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا أي:
في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي: عن هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أنفسنا بكفرنا ومعاصينا. ثم خاطب أهل مكة، فقال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام حَصَبُ جَهَنَّمَ وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو العالية، وعمر بن عبد العزيز: «حَطَب» بالطاء. وقرأ ابن عباس، وعائشة وابن
__________
(1) سورة الزمر: 73.
(2) سورة الصافات: 103 و 104.
(3) سورة النمل: 9.
(4) سورة الحج: 46.(3/213)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
السميفع: «حَضَب» بالضاد المعجمة المفتوحة. وقرأ عروة، وعكرمة، وابن يعمر، وابن أبي عبلة:
«حَضْب جهنم» بإسكان الضاد المعجمة. وقرأ أبو المتوكل، وأبو حيوة، ومعاذ القارئ «حِضْب» بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محصين: «حصب» بفتح الحاء ويصاد غير معجمة ساكنة. قال الزجاج: من قرأ «حصَب جهنم» فمعناه: كلُّ ما يرمى به فيها، ومن قرأ «حطب» فمعناه: ما تُوقَد به، ومن قرأ بالضاد المعجمة، فمعناه: ما تهيج به النار وتُذْكى به، قال ابن قتيبة: الحصَب: ما أُلقي فيها، وأصله من الحَصْباء، وهو الحصى، يقال: حصبتُ فلاناً إِذا رميتَه حَصْباً، بتسكين الصاد، وما رَمَيْتَ به فهو حَصَب، بفتح الصاد.
قوله تعالى: أَنْتُمْ يعني: العابدين والمعبودين لَها وارِدُونَ أي: داخلون. لَوْ كانَ هؤُلاءِ يعني: الأصنام آلِهَةً على الحقيقة ما وَرَدُوها فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إِشارة إِلى الأصنام، والمعنى: لو كانوا آلهةً ما دخلوا النار. والثاني: أنه إِشارة إِلى عابديها، فالمعنى: لو كانت الأصنام آلهة، منعت عابديها دخول النار. والثالث: أنه إِشارة إِلى الآلهة وعابديها، بدليل قوله تعالى:
وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ يعني: العابد والمعبود.
قوله تعالى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ قد شرحنا معنى الزفير في سورة هود «1» وفي علَّة كونهم لا يسمعون ثلاثة أقوال:
(998) أحدها: أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار، ثم يُقذَفون في توابيت من نار مقفلة عليهم، رواه أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث طويل. وقال ابن مسعود: إِذا بقي في النار مَنْ يخلَّد فيها جُعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحدهم أن في النار أحداً يعذَّب غيرُه.
والثاني: أن السماع أُنْسٌ، والله لا يحب أن يؤنسَهم، قاله عون بن عمارة.
والثالث: إِنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنّم، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 107]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
__________
لم أقف عليه، وهو واه، فالمتن منكر، لا يصح مرفوعا. وورد عن سويد بن غفلة موقوفا، أخرجه البيهقي في «البعث» 592. وورد عن ابن مسعود قوله أيضا، وهو اللفظ الآتي. أخرجه الطبري 24829.
الخلاصة: المرفوع لا يصح، والصحيح موقوف.
__________
(1) سورة هود: 106.(3/214)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى (999) سبب نزولها أنه لما نزلت: «إِنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم» شَقَّ ذلك على قريش، وقالوا: شتم آلهتنا، فجاء ابن الزّبعرى، فقال: ما لكم؟ قالوا: شتم آلهتنا، قال: وما قال؟
فأخبروه، فقال: ادعوه لي، فلمّا دعي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: يا محمد، هذا شيء لآلهتنا خاصة، أو لكل من عُبد من دون الله؟ قال: «لا، بل لكل من عُبد من دون الله» ، فقال ابن الزِّبعرى: خُصمْتَ وربِّ هذا البيت، ألستَ تزعم أن الملائكة عباد صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيراً عبد صالح، فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة، وهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً، فضج أهل مكة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال الحسين بن الفضل: إِنما أراد بقوله: وَما تَعْبُدُونَ الأصنام دون غيرها، لأنه لو أراد الملائكة والناس، لقال: «ومَنْ» وقيل: «إِنَّ» بمعنى: «إِلاَّ» ، فتقديره: إِلا الذين سبقت لهم مِنّا الحسنى، وهي قراءة ابن مسعود، وأبي نهيك، فإنهما قرءا: «إِلا الذين» . وروي عن عليّ بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية، فقال: أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن.
وفي المراد «بالحسنى» قولان: أحدهما: الجنة، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: السعادة، قاله ابن زيد. قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها أي: عن جهنم، وقد تقدم ذكرها مُبْعَدُونَ والبعد: طول المسافة، والحسيس: الصوت تسمعه من الشيء إِذا مَرَّ قريباً منك، قال ابن عباس: لا يسمع أهل الجنة حسيس أهل النار إِذا نزلوا منازلهم من الجنة.
قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وقرأ أبو رزين وقتادة، وابن أبي عبلة، وابن محيصن، وأبو جعفر الشيزري عن الكسائي: «لا يُحْزِنُهُم» بضم الياء وكسر الزاي.
وفي الفزع الأكبر أربعة أقوال: أحدها: أنه النفخة الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس وبهذه النفخة يقوم الناس من قبورهم، ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ.
والثاني: أنه إِطباق النار على أهلها، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث:
أنه ذبح الموت بين الجنة والنار، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال ابن جريج. والرابع: أنه حين يؤمر بالعبد إِلى النار، قاله الحسن البصري.
وفي مكان تلقّي الملائكة لهم قولان: أحدهما: إِذا قاموا من قبورهم، قاله مقاتل. والثاني: على أبواب الجنة، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: هذا يَوْمُكُمُ فيه إِضمار: «يقولون» هذا يومكم الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فيه
__________
أخرجه الواحدي 616 والطبراني 12/ 153 عن ابن عباس، وفيه عاصم بن بهدلة، وهو صدوق يخطئ.
وأخرجه الطبري 24835 مطولا عن ابن إسحاق مرسلا. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 251: وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير، لأن الآية إنما نزلت خطابا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعا وتوبيخا لعابديها، ولهذا قال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ فكيف يورد على المسيح والعزير ونحوهما ممن له عمل صالح، ولم يرض بعبادة من عبده، وعوّل ابن جرير في «تفسيره» في الجواب على أن «ما» لما لا يعقل عند العرب. وقد أسلم ابن الزبعرى بعد ذلك.(3/215)
الجنة. قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وقرأ أبو العالية، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر: «تُطْوى» بتاء مضمومة «السماءُ» بالرفع وذلك بمحو رسومها، وتكدير نجومها، وتكوير شمسها، كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قرأ الجمهور: «السِّجِلِّ» بكسر السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، ومحبوب عن أبي عمرو: «السِّجْلِ» بكسر السين وإسكان الجيم خفيفة. وقرأ أبو السّمّال كذلك، إِلا أنه فتح الجيم. قوله تعالى: لِلْكُتُبِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
«للكتاب» . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «للكتب» على الجمع.
وفي السّجل أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه مَلك، قاله علي بن أبي طالب، وابن عمر، والسدي.
(1000) والثاني: أنه كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.
والثالث: أن السجل بمعنى: الرجل، روى أبو الجوزاء عن ابن عباس، قال: السجل: هو الرجل. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: وقد قيل: «السجل» بلغة الحبشة: الرجل.
والرابع: أنه الصحيفة. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والفراء وابن قتيبة.
وقرأت على شيخنا أبي منصور، قال: قال أبو بكر، يعني- ابن دريد-: السجل: الكتاب، والله أعلم ولا ألتفت إِلى قولهم: إِنه فارسي معرب، والمعنى: كما يُطوى السجل على ما فيه من كتاب. و «اللام» بمعنى «على» . وقال بعض العلماء: المراد بالكتاب: المكتوب، فلما كان المكتوب ينطوي بانطواء
__________
باطل، أخرجه أبو داود 2935 والنسائي 355 والطبري 24849 والبيهقي 10/ 126 كلهم عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس به. وهذا إسناد ضعيف يزيد بن كعب مجهول، قال الذهبي في «الميزان» لا يدرى من ذا أصلا. وأبو الجوزاء أوس بن عبد الله ثقة لكنه يرسل كثيرا، ولم يصرّح بسماع أو تحديث. وأخرجه ابن عدي 7/ 662 والبيهقي 10/ 126 والطبراني 2/ 170 ح 12790 من طريق يحيى بن عمرو بن مالك عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا.
لأجل يحيى بن عمرو، فقد كذبه حماد بن زيد. وأخرجه النسائي 356 عن نوح عن عمر بن مالك به، وهو منقطع بين نوح وعمرو، ولعل نوحا أسقطه عمدا. وبكل حال الخبر واه جدا وليس بشيء. أخرجه الخطيب 8/ 175 من حديث حمدان بن سعيد عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر به. وهذا خير باطل لا أصل له، والحمل فيه على حمدان بن سعيد، فقد اتهمه الذهبي بهذا الحديث، فقال: أتى بخبر كذب اه.
ومما يدل على أنه كذب هو كون من فوقه رجال البخاري ومسلم. فلو كان هذا الحديث عن نافع أو عبيد الله لرواه مالك والبخاري وغيرهم من الأئمة. لكنه إسناد مصنوع مركب. وقد حكم بوضع هذا الحديث كل من الإمام المزي والذهبي وابن كثير وسبقهم الطبري. وليس في الصحابة من اسمه «السجل» وإن أورده أبو نعيم وابن مندة فإنهما يرويان الموضوع وكتبهما مشحونة بذلك، وممن حكم بوضعه شيخ الإسلام ابن تيمية، ووافقه الإمام ابن القيم. راجع عون المعبود 8/ 154 وتفسير ابن كثير 3/ 252 و «تفسير الشوكاني» 1647 و 1648 و 1649 بتخريجنا.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 95: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب: قول من قال: السّجل في هذا الموضع: الصحيفة، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، ولا يعرف لنبينا كاتب كان اسمه السجل، ولا في الملائكة ملك ذلك اسمه. وكتّاب النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا معروفين. ووافقه ابن كثير وقال: وقد صدق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث.(3/216)
الصحيفة، جعل السجل كأنه يطوي الكتاب.
ثم استأنف، فقال تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الخلق ها هنا مصدر، وليس بمعنى المخلوق. وفي معنى الكلام أربعة أقوال:
أحدها: كما بدأناهم في بطون أُمَّهاتهم حفاةً عُراةً غُرلاً، كذلك نعيدهم يوم القيامة.
(1001) روي عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يحشر الناس يوم القيامة عراةً حفاة غرلا كما خلقوا، ثم قال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد.
والثاني: أن المعنى: إِنا نُهلك كل شيء كما كان أول مرة، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن السماء تمطر أربعين يوماً كمني الرجال، فينبتون بالمطر في قبورهم، كما ينبتون في بطون أُمَّهاتهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أن المعنى: قُدرتنا على الإِعادة كقُدرتنا على الابتداء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَعْداً قال الزجاج: هو منصوب على المصدر، لأن قوله تعالى: «نعيده» بمعنى:
وعدنا هذا وعداً، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي: قادرين على فعل ما نشاء. وقال غيره: إِنا كنا فاعلين ما وَعَدْنا.
قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ فيه أربعة أقوال «1» :
أحدها: أن الزَّبور جميع الكتب المنزَلة من السماء، و «الذِّكْر» : أُمُّ الكتاب الذي عند الله، قاله سعيد بن جبير في رواية، ومجاهد، وابن زيد، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية ابن جبير، فإنه قال: الزّبور: التّوراة والإِنجيل والقرآن، والذِّكر: الذي في السماء. والثاني: أن الزبور: الكتب، والذِّكر: التوراة، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن الزبور: القرآن، والذِّكْر: التوراة والإِنجيل، قاله سعيد بن جبير في رواية. والرابع: أن الزبور: زبور داود، والذِّكْر: ذِكْر موسى، قاله الشعبي.
وفي الأرض المذكورة ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أرض الجنة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون. والثاني: أرض الدنيا، وهو منقول عن ابن عباس أيضاً. والثالث: الأرض المقدسة، قاله ابن السّائب.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3349 و 4625 و 4626 و 4740 ومسلم 2860 ح 58 والترمذي 2425 والنسائي 4/ 114 و 117 وأحمد 1/ 223 و 229 و 235 و 253 والدارمي 2/ 326 وأبو يعلى 2578 من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا» . ثم قرأ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ
وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم. وإن أناسا من أصحابي أخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي، أصحابي. فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول لكم كما قال العبد الصالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ إلى قوله الْحَكِيمُ.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله 9/ 98: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في ذلك: ما قاله سعيد بن جبير ومجاهد، ومن قال بقولهما في أن معناه: ولقد كتبنا في الكتب من بعد أم الكتاب الذي كتب الله كل ما هو كائن فيه، قبل خلق السموات والأرض، وذلك أن الزبور هو الكتاب. يقال منه: زبرت الكتاب وزبرته: إذا كتبته، وإن كل كتاب أنزله الله إلى نبي من أنبيائه فهو ذكر.(3/217)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
وفي قوله تعالى: يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية: ترث أُمَّة محمد أرض الدنيا بالفتوح. والثاني: بنو إِسرائيل، قاله ابن السائب. والثالث: أنه عامّ في كل صالح، قاله بعض فقهاء المفسرين.
قوله تعالى: إِنَّ فِي هذا يعني: القرآن لَبَلاغاً أي: لَكِفاية والمعنى: أن من اتَّبع القرآن وعمل به، كان القرآن بلاغه إِلى الجنة. وقوله تعالى: لِقَوْمٍ عابِدِينَ قال كعب: هم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم الذين يصلُّون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قال ابن عباس: هذا عامّ للبَرِّ والفاجر، فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به صُرفت عنه العقوبة إِلى الموت والقيامة. وقال ابن زيد: هو رحمة لمن آمن به خاصّة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 الى 112]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ قال ابن عباس: فهل أنتم مخلِصون له العبادة؟ قال أهل المعاني: هذا استفهام بمعنى الأمر.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: أَعْرَضُوا ولم يؤمنوا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ في معنى الكلام قولان: أحدهما: نابذتُكم وعاديتُكم وأعلمتُكم ذلك، فصرتُ أنا وأنتم على سواءٍ قد استوينا في العلم بذلك، وهذا من الكلام المختصر، قاله ابن قتيبة. والثاني: أعلمتكم بالوحي إِليَّ لتستووا في الإِيمان به، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَإِنْ أَدْرِي أي: وما أدري أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ بنزول العذاب بكم. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وهو ما يقولونه للنبيّ صلى الله عليه وسلّم مَتى هذَا الْوَعْدُ «1» ، وما تَكْتُمُونَ إِسرارُهم أن العذاب لا يكون.
قوله تعالى: لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ في هاء «لَعَلَّه» قولان «2» : أحدهما: أنها ترجع إِلى ما آذنهم به، قاله الزجاج. والثاني: إِلى العذاب فالمعنى: لعل تأخير العذاب عنكم فتنة، قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدّمشقي. ومعنى الفتنة ها هنا: الاختبار، وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي: تستمتعون إلى انقضاء آجالكم.
وقل رَبِّ وروى حفص عن عاصم: قالَ رَبِّ احْكُمْ قرأ أبو جعفر: «ربُّ احكم» بضم الباء.
__________
(1) سورة يس: 48.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 255: وقوله: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ، أي: هو واقع لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده، وقوله وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي: وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين. قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم، ومتاع إلى أجل مسمّى.
وحكاه عن ابن عباس والله أعلم. قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق وقوله وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ على ما يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك والله المستعان عليكم في ذلك.(3/218)
وروى زيد عن يعقوب: «ربِّيَ» بفتح الياء «أَحْكَمُ» بقطع الهمزة وفتح الكاف ورفع الميم. ومعنى «احكم بالحق» أي: بعذاب كفار قومي الذي نزوله حقٌّ، فحكَم عليهم بالقتل في يوم بدر وفيما بعده من الأيام والمعنى على هذا: افصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق. ومعنى عَلى ما تَصِفُونَ أي: من كذبكم وباطلكم. وقرأ ابن عامر، والمفضل عن عاصم: «يصفون» بالياء. فإن قيل: فهل يجوز على الله أن يحكُم بغير الحق؟ فالجواب: أن المعنى: احكم بحكمك الحق، كأنه استعجل النّصر عليهم، والله أعلم بالصواب.(3/219)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
سورة الحجّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
فصل في نزولها «1» :
روى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية كلُّها، غير آيتين نزلتا بالمدينة: قوله سبحانه وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، والّتي تليها «2» وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مدنية إِلا أربع آيات نزلت بمكة، وهي قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلى آخر الأربع «3» . وقال عطاء بن السّائب: نزلت بمكة إِلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة: هذانِ خَصْمانِ واللتان بعدها «4» وقال أبو سليمان الدمشقي: أولها مدني إِلى قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ «5» وسائرها مكي. وقال الثعلبي: هي مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ إلى قوله تعالى: الْحَمِيدِ «6» . وقال هبة الله بن سلامة: هي من أعاجيب سور القرآن، لأن فيها مكياً، ومدنياً، وحضرياً، وسفرياً، وحربياً، وسلمياً، وليلياً، ونهارياً، وناسخاً، ومنسوخاً. فأما المكي، فمن رأس الثلاثين منها إِلى آخرها. وأما المدني، فمن رأس خمس وعشرين إِلى رأس ثلاثين. وأما الليليُّ، فمن أولها إِلى آخر خمس آيات. وأما النهاريُّ، فمن رأس خمس آيات. إِلى رأس تسع. وأما السفري، فمن رأس تسع إِلى اثنتي عشرة. وأما الحضريّ، فإلى رأس العشرين، نسب إِلى المدينة، لقرب مدَّته.
قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي: احذروا عقابه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ الزلزلة: الحركة على الحالة الهائلة. وفي وقت هذه الزلزلة قولان «7» : أحدهما: أنها يوم القيامة بعد النّشور.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 12/ 5: وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح، لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن «يا أيها الناس» مكي و «يا أيها الذين آمنوا» مدني. [.....]
(2) سورة الحج: 12، 13.
(3) سورة الحج: 53- 57.
(4) سورة الحج: 20- 22.
(5) سورة الحج: 24، 25.
(6) سورة الحج: 38.
(7) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 105: والصواب من القول في ذلك: ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم- وهو حديث أبي سعيد الخدري-.(3/220)
(1002) روى عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قرأ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وقال: «تدرون أي يوم ذلك؟ فإنه يوم ينادي الرّبّ عزّ وجلّ آدم عليه السلام: ابعث بعثاً إِلى النار» فذكر الحديث.
(1003) وروى أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم:
قم، فابعث بعث النار، فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إِلى النار، فحينئذ يشيب المولود، وتضع كل ذات حمل حملها» ، وقرأ الآية. وقال ابن عباس: زَلْزَلَةُ الساعة: قِيَامُها، يعني أنها تُقارِب قيام الساعة، وتكون معها. وقال الحسن، والسدي: هذه الزلزلة تكون يوم القيامة.
والثاني: أنها تكون في الدنيا قبل القيامة، وهي من أشراط الساعة، قاله علقمة، والشعبي، وابن جريج. وروى أبو العالية عن أُبَيِّ بن كعب، قال: ست آيات قبل القيامة، بينما الناس في أسواقهم إِذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إِذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إِذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت، واضطربت، ففزع الجن إِلى الإنس، والإنس إلى الجنّ، فاختلطت الدواب، والطير، والوحش، فماج بعضهم في بعض، فقالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إِلى البحور، فإذا هي نار تَأجَّج، فبينما هم كذلك إِذ تصدَّعت الأرض إِلى الأرض السابعة، والسماء إلى
__________
حسن، أخرجه الترمذي 3168 من حديث عمران بن حصين، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان. وزاد في هذا الحديث «فأنشأ المؤمنون يبكون ... » و «فإنها لم تكن نبوة قط ... » وأخرجه الطبري 24906 عن الحسن بهذا السياق. وقد رواه غير واحد بدون هذه اللفظة. وأخرجه الترمذي 3169 والنسائي في «الكبرى» 1340 والحاكم 2/ 385 و 4/ 567 والطبري 24904 عن الحسن عن عمران بن حصين، ورجاله ثقات كلهم لكن في سماع الحسن من عمران كلام.
وقد أنكره أبو حاتم في «المراسيل» ص 40 ومع ذلك قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم، وقال:
أكثر أئمة البصرة على أن الحسن سمع من عمران، ووافقه الذهبي، ولأكثره شواهد ولذا صححه الألباني في صحيح الترمذي. وورد من حديث أنس أخرجه أبو يعلى 3122 وابن حبان 7354 والحاكم 1/ 29 و 4/ 566 من حديث أنس، وصححه الحاكم على شرطهما، لكن أعله بقوله: قال محمد بن يحيى الذهلي: هذا الحديث عندنا غير محفوظ عن أنس، ولكن المحفوظ عندنا عن قتادة عن الحسن عن عمران اه وسكت الذهبي، ولأكثره شواهد ومنها الآتي، فالحديث حسن إن شاء الله. وانظر «تفسير الشوكاني» 1659 و 1660 و «تفسير القرطبي» 4367 و 4368 و 4369 بتخريجنا. ولله الحمد والمنة.
صحيح. أخرجه البخاري 3348 و 4741 و 6531 ومسلم 222 وأحمد 3/ 32 و 33 والطبري 24907 و 24908 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 471 والبغوي 4220 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. فيقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد» . قالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك الواحد؟ قال: «أبشروا فإن منكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف» . ثم قال: «والذي نفسي بيده أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. فكبّرنا. فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة. فكبّرنا. فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة. فكبّرنا فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود» . لفظ البخاري.(3/221)
السماء السابعة، فبينما هم كذلك إِذ جاءتهم الريح فماتوا. وقال مقاتل: هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى، وذلك أن منادياً ينادي من السماء: يا أيها الناس أتى أمر الله فيفزعون فزعاً شديداً فيشيب الصغير، وتضع الحوامل.
قوله تعالى: شَيْءٌ عَظِيمٌ أي: لا يوصف لعِظَمه.
قوله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها
يعني: الزّلزلة تَذْهَلُ
فيه قولان: أحدهما: تسلو عن ولدها، وتتركه، قاله ابن قتيبة. والثاني: تُشْغَل عنه، قاله قطرب، ومنه قول ابن رواحة:
ويذهل الخليل عن خليله
وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: «تُذهِل» برفع التاء وكسر الهاء «كلَّ» بنصب اللام. قال الأخفش: وإِنما قال: «مرضعة» ، لأنه أراد- والله أعلم- الفعل، ولو أراد الصفة فيما نرى، لقال:
«مرضع» . قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام، وهو يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا، لأن بعد البعث لا تكون حبلى.
قوله تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
وقرأ عكرمة، والضحاك، وابن يعمر، «وتُرى» بضم التاء.
ومعنى «سكارى» : من شدة الخوف وَما هُمْ بِسُكارى
من الشراب، والمعنى: ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم، لشدة ما يمرُّ بهم، يضطربون اضطراب السكران من الشراب. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «سَكْرى وما هم بسَكْرى» وهي قراءة ابن مسعود. قال الفراء: وهو وجه جيد، لأنه بمنزلة الهَلْكى والجَرْحى. وقرأ عكرمة، والضحاك، وابن السميفع: «سَكارى وما هم بسَكارى» بفتح السين والراء وإِثبات الألف، وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
فيه دليل على أن سكرهم من خوف عذابه.
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث. وفيما جادل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان كلَّما نزل شيء من القرآن كذَّب به، قاله ابن عباس. والثاني: أنه زعم أن الملائكة بنات الله، قاله مقاتل. والثالث: أنه قال: لا يقدر الله على إِحياء الموتى، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: إِنما يقوله بإغواءِ الشيطان، لا بعلم وَيَتَّبِعُ ما يسوِّل له كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ وقد ذكرنا معنى «المريد» في سورة النساء «1» . قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ «كُتب» بمعنى: قُضي. والهاء في «عليه» وفي «تولاه» كناية عن الشيطان. ومعنى الآية:
قضي على الشيطان أَنَّه يُضِلُّ مَن اتَّبعه. وقرأ أبو عمران الجوني: «كَتب» بفتح الكاف «أنه» بفتح الهمزة «فإنه» بكسر الهمزة وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وابن أبي ليلى، والضحاك، وابن يعمر: «إِنه» «فإِنه» بكسر الهمزة فيهما. وقد بيَّنَّا معنى «السّعير» في سورة النّساء «2» .
__________
(1) سورة النساء: 117.
(2) سورة النساء: 10.(3/222)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
[سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ يعني: أهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي: في شك من القيامة فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني: خَلْقَ آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني: خَلْقَ ولده، والمعنى: إِن شككتم في بعثكم فتدبَّروا أمر خلقكم وابتدائكم، فإنكم لا تجدون في القدرة فرقاً بين الابتداء والاعادة.
فأما النطفة، فهي المني. والعلقة: دم عبيط جامد. وقيل: سميت علقة لرطوبتها وتعلُّقها بما تمرُّ به، فإذا جفَّت فليست علقةً. والمضغة: لحمة صغيرة. قال ابن قتيبة: وسميت بذلك، لأنها بقدر ما يُمضغ، كما قيل: غرفة لقدر ما يُغرَف.
قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فيه خمسة أقوال «1» : أحدها: أن المخلَّقة: ما خُلق سويّاً، وغير المخلَّقة: ما ألقته الأرحام من النطف، وهو دم قبل أن يكون خَلْقاً، قاله ابن مسعود. والثاني: أن المخلَّقة: ما أُكمل خَلْقه بنفخ الروح فيه، وهو الذي يولَد حيّاً لتمامٍ، وغير المخلَّقة: ما سقط غير حيّ لم يكمل خلقه بنفخ الروح فيه، هذا معنى قول ابن عباس. والثالث: أن المخلَّقة: المصوَّرة، وغير المخلَّقة: غير مصوَّرة، قاله الحسن. والرابع: أن المخلَّقة وغير المخلَّقة: السقط، تارة يسقط نطفة وعلقة، وتارة قد صُوِّر بعضه، وتارة قد صُوِّر كلُّه، قاله السدي. والخامس: أن المخلَّقة: التامة، وغير المخلَّقة: السقط، قاله الفراء، وابن قتيبة.
قوله تعالى: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: خلقناكم لنبيِّن لكم ما تأتون وما تذَرون.
والثاني: لنبيِّن لكم في القرآن بُدُوَّ خَلْقِكم، وتنقُّلَ أحوالكم. والثالث: لنبيِّن لكم كمال حكمتنا وقدرتنا في تقليب أحوال خلقكم. والرابع: لنبيِّن لكم أن البعث حق.
وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: «ليبيّن لكم» بالياء.
قوله تعالى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء: «ويقرّ» بياء مرفوعة وفتح القاف ورفع الراء. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو إِسحاق السَّبيعي: «ويُقِرَّ» بياء مرفوعة وبكسر القاف ونصب الراء.
والذي يُقَرُّ في الأرحام، هو الذي لا يكون سقطاً، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أجل الولادة ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا قال أبو عبيدة: هو في موضع أطفال، والعرب قد تضع لفظ الواحد في معنى الجميع، قال الله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «2» أي: ظهراء، وأنشد:
__________
(1) قال الطبري رحمه الله 9/ 111: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: المخلّقة: المصورة خلقا تاما، وغير مخلّقة: السقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا التصوير.
(2) سورة التحريم: 4.(3/223)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
فقلنا أسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإحن الصّدور «1»
وأنشد أيضا:
في خلقكم عظمٌ وقد شَجينا
وقال غيره: إِنما قال: «طفلاً» فوحَّد، لأن الميم في قوله تعالى: نُخْرِجُكُمْ قد دلَّت على الجميع، فلم يحتج إِلى أن يقول: أطفالاً. قوله تعالى: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا فيه إِضمار، تقديره: ثم نعمِّركم لتبلغوا أشدّكم، وقد سبق معنى «الأشد» «2» ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى من قبل بلوغ الأشُدِّ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وقد شرحناه في النحل «3» .
ثم إِن الله تعالى دلَّهم على إِحيائه الموتى باحيائه الأرض، فقال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً قال ابن قتيبة: أي: ميتة يابسة، ومثله: همدت النار: إِذا طفئت فذهبت. قوله تعالى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ يعني: المطر اهْتَزَّتْ أي: تحرَّكت للنبات، وذلك أنها ترتفع عن النبات إِذا ظهر، فهو معنى قوله تعالى: وَرَبَتْ أي: ارتفعت وزادت. وقال المبرِّد: أراد: اهتزَّ نباتها وربا، فحذف المضاف. قال الفراء: وقرأ أبو جعفر المدني: «وربأَت» بهمزة مفتوحة بعد الباء. فإن كان ذهب إِلى الرَّبيئة الذي يحرس القوم، أي: أنه يرتفع، وإِلا، فهو غلط. قوله تعالى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ قال ابن قتيبة: من كل جنس حَسَنٍ يبهج، أي: يسرُّ، وهو فعيل في معنى فاعل.
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: المعنى: الأَمْرُ ذلك كما وصف لكم. والأجود أن يكون موضع «ذلك» رفعاً، ويجوز أن يكون نصباً على معنى: فعل الله ذلك بأنه هو الحق.
قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ أي: ولتعلموا أنّ الساعة آتِيَةٌ.
[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ قد سبق بيانه. وهذا مما نزل في النضر أيضاً. والهدى:
البيان والبرهان. قوله تعالى: ثانِيَ عِطْفِهِ العِطف: الجانب. وعِطفا الرجل: جانباه عن يمين وشمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإِنسان ويلويه عند إِعراضه عن المشي. قال الزجاج: «ثانيَ» منصوب على الحال، ومعناه: التنوين، معناه: ثانياً عِطفه. وجاء في التفسير: أن معناه: لاوياً عنقه، وهذا يوصف به المتكبِّر، والمعنى: ومن الناس من يجادل بغير علم متكبِّراً. قوله تعالى: لِيُضِلَّ أي: ليصير أمره إِلى الضلال، فكأنَّه وإِن لم يقدَّر أنه يضل، فإن أمره يصير إِلى ذلك، لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وهو ما أصابه يوم بدر، وذلك أنه قُتل. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «4» إِلى قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ وفي سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما: أن ناساً من العرب كان يأتون
__________
(1) البيت لعباس بن مرداس، كما في «الخزانة» 1/ 73 و «الأغاني» 1/ 73.
(2) سورة الأنعام: 153.
(3) سورة النحل: 70.
(4) سورة يونس: 70. [.....](3/224)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فيقولون: نحن على دينك، فإن أصابوا معيشةً، ونتجت خيلهم، وولدت نساؤهم الغلمان اطمأنّوا وقال: هذا دينُ حقٍّ، وإِنْ لم يَجْرِ الأمر على ذلك قالوا: هذا دين سوءٍ، فينقلبون عن دينهم، فنزلت هذه الآية، هذا معنى قول ابن عباس، وبه قال الأكثرون «1» .
(1004) والثاني: أن رجلاً من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإِسلام، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: أقلني، فقال: «إِن الإِسلام لا يقال» . فقال: إِني لم أُصِب في ديني هذا خيراً، أذهب بصري ومالي وولدي، فقال: «يا يهودي: إِن الإِسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب» ، فنزلت هذه الآية، رواه عطية عن أبي سعيد الخدري.
[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 14]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)
قوله تعالى: عَلى حَرْفٍ قال مجاهد، وقتادة: «على شكٍّ» ، قال أبو عبيدة: كل شاكٍّ في شيء فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم. وبيان هذا أن القائم على حرف الشيء غير متمكِّن منه فشبِّه به الشاكُّ، لأنه قّلِقٌ في دينه على غير ثبات، ويوضحه قوله تعالى: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي: رخاءٌ وعافية اطْمَأَنَّ بِهِ على عبادة الله وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ اختبار بجدب وقلّة مال انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي: رجع عن دينه إِلى الكفر. والمعنى: انصرف إِلى وجهه الذي توجه منه، وهو الكفر، خَسِرَ الدُّنْيا حيث لم يظفر بما أراد منها، وَخسر الْآخِرَةَ بارتداده عن الدين. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو مجلز، ومجاهد، وطلحة بن مصرف، وابن أبي عبلة، وزيد عن يعقوب: «خاسِرَ الدنيا» بألف قبل السين، وينصب الراء «والآخرة» بخفض التاء. يَدْعُوا هذا المرتدّ، أي: يعبد ما لا يَضُرُّهُ إِن لم يعبده ولا يَنْفَعُهُ إِن أطاعه ذلِكَ الذي فعل هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن الحقّ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ قال بعضهم: اللام صلة، والمعنى: يدعو مَن ضره. وحكى الزجاج عن البصريين والكوفيين أن اللام معناها التأخير، والمعنى: يدعو مَنْ لضرِّه أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، قال: وشرح هذا أنّ اللام لليمين والتّوكيد،
__________
ضعيف ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 618 عن عطية العوفي عن أبي سعيد وعطية هو ابن سعد الكوفي، وهو ضعيف واه. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 4/ 624 من طريق عطية عن أبي سعيد به. وله شاهد من حديث جابر، أخرجه العقيلي 3/ 368، وفيه عنبسة بن سعيد، وهو ضعيف متروك. ثم إن السورة مكية في قول الجمهور، وأخبار يهود مدنية. وانظر «تفسير الشوكاني» 1663 بتخريجي.
__________
(1) موقوف، صحيح. أخرجه البخاري 4742 عن ابن عباس قال: ومن الناس من يعبد الله على حرف قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء. ولم يذكر سبب نزول الآية: وذكره بنحوه الواحدي في «أسباب النزول» 617 وفيه سبب نزول الآية.(3/225)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
فحقُّها أن تكون أول الكلام، فقدِّمت لتجعل في حقِّها. قال السدي: ضره في الآخرة بعبادته إِياه أقربُ من نفعه.
فإن قيل: فهل للنفع من عبادة الصنم وجه؟ فالجواب: أنه لا نفع من قِبَلِه أصلاً، غير أنه جاء على لغة العرب، وهم يقولون في الشيء الذي لا يكون: هذا بعيد.
قوله تعالى: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ قال ابن قتيبة: المولى: الولي. والعشير: الصاحب، والخليل.
[سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 17]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ قال مقاتل: نزلت في نفر من أسد، وغطفان، قالوا: إِنا نخاف أن لا يُنْصَرَ محمدٌ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود، وإِلى نحو هذا ذهب أبو حمزة الثمالي، والسدي «1» . وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الإِشارة بهذه الآية إِلى الذين انصرفوا عن رسول الله لأن أرزاقهم ما اتَّسعت، وقد شرحنا القصة في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «2» . وفي هاء «ينصره» قولان «3» : أحدهما: أنها ترجع على «مَن» ، والنصر: بمعنى الرزق، هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر، فقال: مَنْ ينصرني نصره الله، أي: من يعطيني أعطاه الله، ويقال: نصر المطر أرض كذا، أي:
جادها، وأحياها، قال الرّاعي:
وانصري أرض عامر «4»
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فهذا الخبر لا شيء.
وذكره الطبري 9/ 20 بدون إسناد، ومن غير عزو لأحد.
(2) سورة الحج: 11.
(3) قال الطبري رحمه الله 9/ 120: وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال: الهاء من ذكر نبي الله صلى الله عليه وسلّم ودينه، وذكر هذه الآية توبيخا لمن ارتدوا عن دينهم، وشكوا فيه، استبطاء منهم السعة في العيش، أو السبوغ في الرزق، فمن كان يحسب أن لن يرزق الله محمدا صلى الله عليه وسلّم وأمته في الدنيا فيوسع عليهم من فضله فيها، ويرزقهم في الآخرة من سني عطاياه وكرامته، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم فليمدد بحبل إلى سماء فوقه:
إما سقف بيت، أو غيره، مما يعلق به السبب من فوقه ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجل قبل حينه. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 264 وقال: وهو الأولى والأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم، فإن المعنى: من ظن أن الله ليس بناصر محمدا صلى الله عليه وسلّم وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه، إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محالة، قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. ولهذا قال: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ.
(4) هو جزء من عجز بيت وتمامه:
إِذا أدبر الشهر الحرام فودعي ... بلاد تميم وانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ(3/226)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
والثاني: أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالمعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً، رواه التميمي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وقتادة. قال ابن قتيبة: وهذه كناية عن غير مذكور، وكان قوم من المسلمين لشدة حنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، وآخرون من المشركين، يريدون اتَّباعه، ويخشَوْن أن لا يتم أمره، فقال هذه الآية للفريقين. ثم في معنى هذا النصر قولان: أحدهما: أنه الغلبة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنه الرزق، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ في المراد بالسماء قولان: أحدهما: سقف بيته، والمعنى: فليشدد حبلاً في سقف بيته، فليختنق به ثُمَّ لْيَقْطَعْ الحبل ليموت مختنقاً، هذا قول الأكثرين. ومعنى الآية: ليصور هذا الأمر في نفسه لا أنه يفعله، لأنه إِذا اختنق لا يمكنه النظر والعلم.
والثاني: أنها السماء المعروفة، والمعنى: فليقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِن قدر، قاله ابن زيد. قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْطَعْ قرأ أبو عمرو، وابن عامر: «ثم ليقطع» «ثم ليقضوا» «1» بكسر اللام. زاد ابن عامر «وليوفوا» «2» «وليطوفوا» «3» بكسر اللام أيضاً. وكسر ابن كثير لام «ثم لِيقضوا» فحسب. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بسكون هذه اللامات، وكذلك في كل القرآن إِذا كان قبلها واوٌ أو فاءٌ أو ثم، قال الفراء: من سكَّن فقد خفف، وكل لام أمر وصلت بواو أو فاء، فأكثر كلام العرب تسكينها، وقد كسرها بعضهم. قال أبو علي: الأصل الكسر، لأنك إِذا ابتدأت قلت: ليقم زيد. قوله تعالى: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ قال ابن قتيبة: المعنى: هل تُذهبن حيلتُه غيظَه، والمعنى: ليجهد جهده.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك الذي تقدم من آيات القرآن أَنْزَلْناهُ يعني: القرآن.
وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي: يقضي يَوْمَ الْقِيامَةِ بينهم بادخال المؤمنين الجنة والآخرين النار إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالهم شَهِيدٌ.
[سورة الحج (22) : آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ أي: ألم تعلم. وقد بيَّنَّا في سورة النحل «4» معنى السجود «5» في حق من يعقل، ومن
__________
(1) سورة الحج: 29.
(2) سورة الحج: 29.
(3) سورة الحج: 29.
(4) سورة النحل: 49.
(5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 265: يخبر الله تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنّه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها، وسجود كل شيء مما يختص به، كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ فأخبر أن كل ماله ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال أي- بكرة وعشيا- فإنه ساجد بظله لله تعالى وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه.
وروى أحمد في حديث الكسوف: «إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله إذا تجلّى لشيء من خلقه خشع له» .(3/227)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
لا يعقل. قوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يعني: المؤمنين الذين يسجدون لله. وفي قوله تعالى:
وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ قولان: أحدهما: أنهم الكفار، وهم يسجدون، وسجودهم سجود ظلّهم، قاله مقاتل. والثاني: أنهم لا يسجدون والمعنى: وكثير من الناس أبى السجود، فحق عليه العذاب، لتركه السجود، هذا قول الفراء.
قوله تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ أي: من يُشْقِه الله فما له من مُسْعِدٍ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ في خلقه من الكرامة والإهانة.
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 22]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22)
قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال «1» :
(1005) أحدها: أنها نزلت في النفر الذين تبارزوا للقتال يوم بدر، حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنَي ربيعة، والوليد بن عتبة، هذا قول أبي ذر.
(1006) والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتاباً، ونبيُّنا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد، وآمنا بنبيِّكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون نبيَّنا ثم كفرتم به حسداً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثالث: أنها في جميع المؤمنين والكفار، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن وعطاء، ومجاهد.
والرابع: أنها نزلت في اختصام الجنة والنار، فقالت النار: خلقني الله لعقوبته، وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، قاله عكرمة.
فأما قوله تعالى: هذانِ وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعكرمة وابن كثير: «هاذانّ» بتشديد النون «خصمان» ، فمعناه: جمعان وليسا برجلين، ولهذا قال تعالى: اخْتَصَمُوا ولم يقل:
__________
صحيح. أخرجه البخاري 8/ 396 و 3969 و 3966 ومسلم 3033 والنسائي في «التفسير» 361 وابن ماجة 2835 والطبري 24979 والواحدي في «أسباب النزول» 619 والبغوي 2701 من حديث أبي ذر.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 24984 عن ابن عباس برواية العوفي عنه، وهي رواية واهية، العوفي واسمه عطية بن سعد وهو واه، وعنه مجاهيل.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله 9/ 124: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، وأشيهها بتأويل الآية: قول من قال:
عني بالخصمين: جميع الكفار من أي أصناف الكفار كانوا، وجميع المؤمنين ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 267 وقال: وهذا اختيار ابن جرير، وهو حسن ويشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل.(3/228)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
اختصما على أنه قرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «اختصما» .
وفي خصومتهم ثلاثة أقوال: أحدها: في دين ربِّهم، وهذا على القولين تبقى كما هي. والثاني:
في البعث، قاله مجاهد. والثالث: أنه خصام مفاخرة، على قول عكرمة.
قوله تعالى: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ أي: سُوِّيت وجُعلت لباساً. قال ابن عباس: قُمُص من نار، وقال سعيد بن جبير: المراد بالنار ها هنا: النحاس. فأما «الحميم» فهو الماء الحارُّ يُصْهَرُ بِهِ قال الفراء: يذاب به، يقال: صهرت الشحم بالنار. قال المفسرون: يذاب بالماء الحارِّ ما فِي بُطُونِهِمْ من شحم أو مِعىً حتى يخرج من أدبارهم، وتنضج الجلود فتتساقط من حرِّه، وَلَهُمْ مَقامِعُ قال الضحاك:
هي المطارق. وقال الحسن: إِن النار ترميهم بلهبها، حتى إِذا كانوا في أعلاها، ضُرِبوا بمقامع فَهَوَوْا فيها سبعين خريفاً، فإذا انتهوا إِلى أسفلها، ضربهم زفير لهبها، فلا يستقرُّون ساعة. قال مقاتل: إِذا جاشت جهنم، ألقتهم في أعلاها، فيريدون الخروج، فتتلقَّاهم خزنة جهنم بالمقامع، فيضربونهم، فيهوي أحدهم من تلك الضربة إِلى قعرها. وقال غيره: إِذا دفعتهم النار، ظنوا أنها ستقذفهم خارجاً منها، فتعيدهم الزبانية بمقامع الحديد.
[سورة الحج (22) : الآيات 23 الى 24]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
قوله تعالى: وَلُؤْلُؤاً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «ولؤلؤ» بالخفض. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: «ولُؤْلُؤاً» بالنصب. قال أبو عليّ: من خفض، فالمعنى: يحلَّون أساور من ذهب ومن لؤلؤٍ ومن نصب قال: ويحلّون لؤلؤا قال الزّجّاج: واللؤلؤ اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر. قوله تعالى: وَهُدُوا أي: أُرْشِدوا في الدنيا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه «لا إِله إِلا الله، والحمد لله» قاله ابن عباس. وزاد ابن زيد «والله أكبر» . والثاني: القرآن، قاله السدي. والثالث: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حكاه الماوردي. فأما «صراط الحميد» فقال ابن عباس: هو طريق الإسلام.
[سورة الحج (22) : آية 25]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)
قوله تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: يمنعون الناس من الدخول في الإِسلام. قال الزجاج: ولفظ «يصدون» لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي، لأن معنى «الذين كفروا» : الذين هم كافرون، فكأنه قال: إِن الكافرين والصَّادِّين فأما خبر «إِنَّ» فمحذوف، فيكون المعنى: إِن الذين هذه صفتهم هلكوا.
وفي «المسجد الحرام» قولان: أحدهما: جميع الحرم. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كانوا يرون الحرم كلَّه مسجداً. والثاني: نفس المسجد، حكاه الماوردي.(3/229)
قوله تعالى: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ هذا وقف التمام. وفي معناه قولان: أحدهما: جعلناه للنَّاس كلِّهم، لم نخصَّ به بعضهم دون بعض، هذا على أنه جميع الحرم. والثاني: جعلناه قبلة لصلاتهم، ومنكسا لحجِّهم، وهذا على أنه نفس المسجد. وقرأ ابراهيم النخعي، وابن أبي عبلة، وحفص عن عاصم: «سواءً» بالنصب، فيتوجه الوقف على «سواء» ، وقد وقف بعض القراء كذلك. قال أبو علي الفارسي: أبدل العاكف والبادي من الناس من حيث كانا كالشامل لهم، فصار المعنى: الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء. فأما العاكف: فهو المقيم، والبادي: الذي يأتيه من غير أهله، وهذا من قولهم:
بدا القوم: إِذا خرجوا من الحضر إِلى الصحراء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «البادي» بالياء، غير أن ابن كثير، وقف بياء، وأبو عمرو بغير ياء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، والمسيّبي عن نافع بغير ياء في الحالتين.
ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن العاكف والبادي يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما أحقَّ بالمنزل من الآخر، غير أنه لا يُخرَج أحدٌ من بيته، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة وإِلى نحو هذا ذهب أبو حنيفة، وأحمد ومذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام «1» ، هذا على أن المسجد: الحرم كلّه. والثاني: أنها يستويان في تفضيله وحرمته وإِقامة المناسك به، هذا قول الحسن، ومجاهد. ومنهم من أجاز بيع دور مكة، وإِليه يذهب الشافعي. وعلى هذا يجوز أن يراد بالمسجد الحرام، ويجوز أن يراد نفس المسجد.
قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ الإِلحاد في اللغة: العدول عن القصد، والباء زائدة، كقوله
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 6/ 364- 366: واختلفت الرواية في بيع رباع مكة، وإجارة دورها. فروي أن ذلك غير جائز. وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والثوري، وأبي عبيد.
وكرهه إسحاق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مكة حرام بيع رباعها، حرام إجارتها» رواه سعيد بن منصور، كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة، ولم يقسموها والدليل على أن مكة فتحت عنوة، قوله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» متفق عليه. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلّم، بقتل أربعة، فقتل منهم ابن خطل، ومقيس بن صبابة، وهذا يدل على أنها فتحت عنوة.
والرواية الثانية، أنه يجوز بيع رباعها، وإجارة بيوتها. روي ذلك عن طاوس وعمرو بن دينار وهذا قول الشافعي وابن المنذر. وهو أظهر في الحجة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قيل له: أين ننزل غدا؟ قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع؟» متفق عليه يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب، لأنه ورثه دون إخوته، لكونه كان على دينه دونهما، فلو كانت غير مملوكة، لما أثر بيع عقيل شيئا، ولأن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم كانت لهم دور بمكة لأبي بكر، والزبير، وحكيم، فمنهم من باع ومنهم من ترك داره، فهي في يد أعقابهم ولم يزل أهل مكة يتصرفون في دورهم تصرف الملاك بالبيع وغيره، ولم ينكره منكر، فكان إجماعا. وكونها فتحت عنوة، الصحيح الذي لا يمكن دفعه إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم أقر أهلها فيها على أملاكهم ورباعهم. وعلى القول الأول: إن سكن بأجرة فأمكنه أن لا يدفع إليهم الأجرة، جاز له ذلك وقد روي أن سفيان سكن في بعض رباع مكة، وهرب، ولم يعطهم أجرة فأدركوه فأخذوها منه. وذكر لأحمد فعل سفيان، فتبسم، فظاهر هذا، أنه أعجبه. قال ابن عقيل:
والخلاف في غير مواضع المناسك، أما بقاع المناسك كموضع السعي والرمي فحكمه حكم المساجد، بغير خلاف.(3/230)
تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1» ، وأنشدوا:
بِوَادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ صَدْرُهُ ... وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهانِ «2»
المعنى: وأسفله ينبت المرخ وقال آخر:
هُنَّ الحرائر لا ربَّاتُ أَخْمِرَةٍ ... سودُ المحاجرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ «3»
وقال آخر:
نحن بَنو جَعْدة أربابُ الفَلَج ... نَضرِب بالسَّيف ونرجو بالفَرَج «4»
هذا قول جمهور اللغويين. قال ابن قتيبة: والباء قد تزاد في الكلام، كهذه الآية، وكقوله تعالى:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «5» وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «6» بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) «7» تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ «8» عَيْناً يَشْرَبُ بِها «9» أي: يشربها وقد تزاد «من» ، كقوله تعالى: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ «10» ، وتزاد «اللام» كقوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ «11» ، والكاف، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «12» ، و «عن» ، كقوله تعالى: يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ «13» ، و «إنّ» ، كقوله تعالى فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ «14» و «إِنْ» الخفيفة، كقوله تعالى: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ «15» ، و «ما» ، كقوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «16» ، و «الواو» ، كقوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ «17» .
وفي المراد بهذا الإِلحاد خمسة أقوال «18» : أحدها: أنه الظلم، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: هو عمل سيئة فعلى هذا تدخل فيه جميع المعاصي، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال:
لا تحتكروا الطعام بمكة، فإن احتكار الطعام بمكة إِلحاد بظلم. والثاني: أنه الشرك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال الحسن، وقتادة. والثالث: الشرك والقتل، قاله عطاء. والرابع: أنه استحلال محظورات الإِحرام، وهذا المعنى محكيٌّ عن عطاء أيضاً. والخامس: استحلال الحرام تعمُّداً، قاله ابن جريج.
__________
(1) سورة المؤمنون: 20.
(2) البيت: للأحوال اليشكري واسمه يعلى كما في «اللسان» - شث- و «مجاز القرآن» 2/ 48 والشّث: شجر طيب الريح، مرّ الطعم يدبغ به. والمرخ: شجر كثير الوري سريعه، وفي المثل: في كل شجر نار، واستمجدَ المرْخُ والعَفَارُ واستمجد: استفضل، ومنه الزناد الذي يقتدح به. والشبهان: نبت يشبه الثّمام. [.....]
(3) البيت في «اللسان» - سور- و «مجاز القرآن» 1/ 4 و «الخزانة» 3/ 668.
(4) البيت لراجز من بني جعدة كما في «الخزانة» 4/ 159.
(5) سورة العلق: 1.
(6) سورة مريم: 24.
(7) سورة القلم: 6.
(8) سورة الممتحنة: 1.
(9) سورة الإنسان: 6.
(10) سورة الذاريات: 57.
(11) سورة الأعراف: 154.
(12) سورة الشورى: 11.
(13) سورة النور: 63.
(14) سورة الجمعة: 8.
(15) سورة الأحقاف: 26.
(16) سورة المؤمنون: 40. [.....]
(17) سورة الصافات: 103، 104.
(18) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 132: وأولى الأقوال بالصواب قول ابن عباس وابن مسعود: من أنه معني بالظلم في هذا الموضع كل معصية لله وذلك أن الله عمّ بقوله وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ولم يخصص، فهو على عمومه.(3/231)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
فإن قيل: هل يؤاخذ الإِنسان إِن أراد الظلم بمكة، ولم يفعله؟ فالجواب من وجهين: أحدهما:
أنه إِذا همَّ بذلك في الحرم خاصَّة، عوقب، هذا مذهب ابن مسعود، فإنه قال: لو أن رجلاً همَّ بخطيئة، لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أن رجلاً همَّ بقتل مؤمن عند البيت، وهو ب «عَدَنِ أَبْيَن» ، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم. وقال الضحاك: إِن الرجل ليهمُّ بالخطيئة بمكة وهو بأرضٍ أخرى، فتكتب عليه ولم يعملها. وقال مجاهد: تضاعف السيئات بمكة، كما تضاعف الحسنات. وسئل الإِمام أحمد: هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال: لا، إِلا بمكة لتعظيم البلد. وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها وقد جاور جابر بن عبد الله، وكان ابن عمر يقيم بها «1» . والثاني: أن معنى: «ومن يرد» : من يعمل. قال أبو سليمان الدمشقي: هذا قول سائر من حفظنا عنه.
[سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 29]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا قال ابن عباس: جعلنا. وقال مقاتل: دللناه عليه، وقال ثعلب: وإِنما أدخل اللام، على أنَّ «بوَّأْنا» في معنى: جعلنا، فيكون بمعنى «ردف لكم» «2» أي: ردفكم. وقد شرحنا كيفية بناء البيت في سورة البقرة «3» . قوله تعالى: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً المعنى: وأوحينا إِليه ذلك وَطَهِّرْ بَيْتِيَ حرَّك هذه الياء، نافع وحفص عن عاصم. وقد شرحنا الآية في البقرة «4» . وفي المراد ب «القائمين» قولان: أحدهما: القائمون في الصلاة، قاله عطاء، والجمهور. والثاني: المقيمون بمكة، حكي عن قتادة.
قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قال المفسرون: لما فرغ إِبراهيم من بناء البيت، أمره الله تعالى أن يؤذِّن في الناس بالحج، فقال إِبراهيم: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن، وعليَّ البلاغ، فعلا على جبل أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس: إِن ربكم قد بنى بيتاً، فحجُّوه، فأسمع مَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله أن يحج، فأجابوه: لبيك اللهم لبيك. والأذان بمعنى النداء والإِعلام، والمأمور بهذا الأذان، إِبراهيم في قول الجمهور، إلّا ما روي عن الحسن أنه قال: المأمور به محمد صلى الله عليه وسلّم والناس ها هنا: اسم يعم جميع بني آدم عند الجمهور، إِلا ما روى العوفي عن ابن عباس أنه
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 5/ 464: قال أحمد: كيف لنا بالجوار بمكة! قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنك لأحب البقاع إلى الله عز وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» . وإنما كره الجوار بمكة لمن هاجر منها، وجابر بن عبد الله جاور بمكة، وجميع أهل البلاد ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر. أي لا بأس به. وكان ابن عمر يقيم بها. قال: والمقام بالمدينة أحب إلي من المقام بمكة لمن قوي عليه، لأنها مهاجر المسلمين. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا يصبر أحد على لأوائها وشدّتها إلا كنت له شفيعا يوم القيامة» .
(2) سورة النمل: 72.
(3) سورة البقرة: 129.
(4) سورة البقرة: 125.(3/232)
قال: عنى بالناس أهل القبلة.
واعلم أن من أتى البيت الذي دعا إِليه إِبراهيم، فكأنه قد أتى إِبراهيم، لأنه أجاب نداءه. وواحد الرجال ها هنا: راجل، مثل صاحب، وصحاب، والمعنى: يأتوك مشاةً. وقد روي أن إِبراهيم وإِسماعيل حجّا ماشيين، وحج الحسن بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً من المدينة إِلى مكة، والنجائب تُقَاد معه. وحج الإِمام أحمد ماشياً مرتين أو ثلاثاً «1» .
قوله تعالى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي: ركباناً على ضُمَّر من طول السفر. قال الفرّاء: «ويأتين» فعل للنوق. وقال الزجاج: «يأتين» على معنى الإِبل. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «يأتون» بالواو.
قوله تعالى: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي: طريق بعيد. وقد ذكرنا تفسير الفجِّ عند قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً.
قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا أي: ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: التجارة، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: منافع الآخرة، قاله سعيد بن المسيب، والزجاج في آخرين. والثالث:
منافع الدارين جميعاً، قاله مجاهد. وهو أصح، لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإِنما الأصل قصدُ الحج والتجارة تَبَع.
وفي الأيام المعلومات ستة أقوال «2» : أحدها: أنها أيام العشر، رواه مجاهد عن ابن عمر، وسعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة ومجاهد، وقتادة والشافعي.
والثاني: تسعة أيام من العشر، قاله أبو موسى الأشعري. والثالث: يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، رواه نافع عن ابن عمر، ومقسم عن ابن عباس. والرابع: أنها أيام التشريق، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء الخراساني، والنخعي، والضحاك. والخامس: أنها خمسة أيام، أولها يوم التروية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والسادس: ثلاثة أيام، أولها يوم عرفة، قاله مالك بن أنس. وقيل: إِنما قال:
«معلومات» ، ليحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحجّ في آخرها. قال الزّجّاج: والذّكر ها هنا يدل على التسمية على ما يُنحَر، لقوله تعالى: عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ قال القاضي أبو يعلى: ويحتمل أن يكون الذّكر المذكور ها هنا: هو الذِّكر على الهدايا الواجبة، كالدم الواجب لأجل التمتع والقران، ويحتمل أن يكون الذِّكر المفعول عند رمي الجمار وتكبير التشريق، لأن الآية عامّة في ذلك.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 12/ 39: لا خلاف في جواز الركوب والمشي. واختلفوا في الأفضل منهما فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب.
(2) قال أبو جعفر رحمه الله في «تفسيره» 2/ 317: وصف الله جلّ ذكره «المعلومات» بأنها أيام يذكر اسم الله على بهائم الأنعام. فكان معلوما، إذ قال صلى الله عليه وسلّم لأيام التشريق إنها أيام أكل وشرب وذكر الله فأخرج قوله: «وذكر الله» مطلقا بغير شرط، ولا إضافة إلى أنه الذكر على بهائم الأنعام، أنه عنى بذلك الذكر الذي ذكره الله في كتابه، فأوجبه على عباده مطلقا بغير شرط، ولا إضافة إلى معنى في «الأيام المعدودات» . ويعني جل ذكره:
اذكروا الله بالتوحيد والتعظيم في أيام محصيات، وهي أيام رمي الجمار. وإنما قلنا إن «الأيام المعدودات» هي أيام منى وأيام رمي الجمار، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان يقول فيها: إنها أيام ذكر الله عز وجل.(3/233)
قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها يعني: الأنعام التي تُنحر وهذا أمر إِباحة. وكان أهل الجاهلية لا يستحلّون أكل ذبائحهم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن لذلك جائز «1» ، غير أن هذا إِنما يكون في الهدي المتطوَّع به، فأما دم التمتع والقران فعندنا أنه يجوز أن يأكل منه، وقال الشافعي: لا يجوز، وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قال: من كل الهدي يؤكل، إِلا ما كان من فداءٍ أو جزاءٍ أو نذر. فأما «البائس» فهو ذو البؤس، وهو شدة الفقر.
قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: حلق الرأس، وأخذ الشارب، ونتف الإِبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والوقوف بعرفة، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: مناسك الحج، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر.
والثالث: حلق الرأس، قاله مجاهد. والرابع: الشعر، والظفر، قاله عكرمة.
والقول الأول أصح، لأن التفث: الوسخ، والقذارة: من طول الشعر والأظفار والشعث.
وقضاؤه: نقضه، وإِذهابه، والحاج مغبَّر شعث لم يدَّهن، ولم يستحدَّ، فإذا قضى نسكه، وخرج من إِحرامه بالحلق، والقلم، وقص الأظفار، ولبس الثياب، ونحو ذلك، فهذا قضاء تفثه. قال الزجاج:
وأهل اللغة لا يعرفون التفث إِلا من التفسير، وكأنه الخروج من الإِحرام إِلى الإِحلال.
قوله تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وروى أبو بكر عن عاصم: «ولْيوفّوا» بتسكين اللام وتشديد الفاء. وقال ابن عباس: هو نحر ما نذروا من البُدن. وقال غيره: ما نذروا من أعمال البرِّ في أيام الحج، فإن الإِنسان ربما نذر أن يتصدّق إن رزقه رؤية الكعبة، وقد يكون عليه نذور مطلقة، فالأفضل أن يؤدِّيَها بمكة.
قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ هذا هو الطواف الواجب، لأنه أُمر به بعد الذبح، والذبح إِنما يكون في يوم النحر، فدل على أنه الطواف المفروض.
وفي تسمية البيت عتيقاً أربعة أقوال: أحدها: لأنّ الله تعال أعتقه من الجبابرة.
(1007) روى عبد الله بن الزّبير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إِنما سمى الله البيت: العتيق، لأن الله
__________
ضعيف. أخرجه الترمذي 3170 والحاكم 2/ 389/ 3465 والطبري 25117 من حديث عبد الله بن الزبير.
صححه الحاكم على شرط البخاري، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد روي عن الزهري مرسلا. ومرسل الزهري أخرجه الطبري 25118 والمرفوع المتصل ضعيف، لأن مداره على عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقع له مناكير بسبب جار له، كان يدس في كتبه. كما قال العلماء، راجع «الميزان» . وذكر ابن كثير الاختلاف فيه، فروي متصلا ومرسلا وموقوفا على ابن الزبير وموقوفا على مجاهد، فالحديث ضعيف، والأشبه أن يكون موقوفا، ولو صح ما اختلفوا في سبب تسميته والله أعلم. وانظر «تفسير القرطبي» 4418 بتخريجنا.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 379: والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته، ويهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها، ولو أكل أكثر جاز. والأمر للاستحباب في قوله: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ قال أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله: يأكل هو الثلث، ويطعم من أراد الثلث، ويتصدق على المساكين بالثلث. قال علقمة: بعث معي عبد الله بهدية فأمرني أن آكل ثلثا، وأن أرسل إلى أخيه بثلث، وأن أتصدق بثلث. وعن ابن عمر قال: الضحايا والهدايا ثلث لك، وثلث لأهلك، وثلث للمساكين، وهذا قول إسحاق، وأحد قولي الشافعي. وقال في آخر: يجعلها نصفين، يأكل نصفا ويتصدّق بنصف. وقال أصحاب الشافعي:
يجوز أكلها كلها. وقال أصحاب الرأي: ما كثر من الصدقة فهو أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة، وأمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فأكل هو وعليّ من لحمها، وحسيا من مرقها. ونحر خمس بدنات أو ست بدنات، وقال: «من شاء فليقتطع» . ولم يأكل منهن شيئا. لأنها ذبيحة يتقرب إلى الله تعالى بها، فلم يجب الأكل منها. والأمر للاستحباب أو للإباحة.(3/234)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبَّار قط» وهذا قول مجاهد، وقتادة.
والثاني: أن معنى العتيق: القديم، قاله الحسن، وابن زيد. والثالث: لأنه لم يملك قط، قاله مجاهد في رواية، وسفيان بن عيينة. والرابع: لأنه أُعتق من الغرق زمان الطوفان، قاله ابن السائب، وقد تكلَّمنا في هذه السورة في «ليقضوا» «وليوفوا» «وليطوفوا» .
[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 33]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك، يعني: ما ذكر من أعمال الحج وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فيجتنب ما حرم الله عليه في الإِحرام تعظيماً لأمر الله. قال الليث: الحرمة: ما لا يحلُّ انتهاكه. وقال الزجاج: الحرمة: ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه. قوله تعالى: فَهُوَ يعني: التعظيم خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ في الآخرة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ وقد سبق بيانها «1» إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ تحريمه، يعني به: ما ذكر في سورة المائدة من المنخنقة وغيرها. وقيل: وأُحلت لكم الأنعام في حال إِحرامكم، إِلا ما يتلى عليكم في الصيد، فإنه حرام. قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ أي: دعوه جانباً، قال الزجاج: و «من» ها هنا، لتخليص جنس من الأجناس، المعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن. وقد شرحنا معنى الرجس في المائدة «2» . وفي المراد بقول الزور أربعة أقوال: أحدها: شهادة الزور، قال ابن مسعود. والثاني: الكذب، قاله مجاهد. والثالث: الشرك، قاله أبو مالك. والرابع: أنه قول المشركين في الأنعام: هذا حلال، وهذا حرام، قاله الزجاج، قال: وقوله تعالى: حُنَفاءَ لِلَّهِ منصوب على الحال، وتأويله: مسلمين لا يُنسَبون إِلى دين غير الإِسلام. ثم ضرب الله مثلاً للمشرك، فقال وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ إِلى قوله تعالى: سَحِيقٍ، والسحيق: البعيد.
واختلفوا في قراءة «فتخطَفُه» فقرأ الجمهور: «فتخطَفُه» بسكون الخاء من غير تشديد الطاء. وقرأ نافع: بتشديد الطاء، وقرأ أبو المتوكّل، ومعاذ القارئ: بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء ونصب الفاء.
وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني: بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء. وقرأ
__________
(1) في سورة المائدة: 1.
(2) سورة المائدة: 90.(3/235)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
الحسن، والأعمش: بفتح التاء وكسر وتشديد الطاء ورفع الفاء. وكلُّهم فتح الطاء. وفي المراد بهذا المثَل قولان: أحدهما: أنه شبَّه المشرك بالله في بعده عن الهدى وهلاكه، بالذي يَخِرُّ من السماء، قاله قتادة. والثاني: أنه شبَّه حال المشرك في أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفع ضر يوم القيامة، بحال الهاوي من السماء، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذكرناه وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ قد شرحنا معنى الشعائر في البقرة «1» . وفي المراد بها ها هنا قولان: أحدهما: أنها البدن. وتعظيمها: استحسانها واستسمانها لَكُمْ فِيها مَنافِعُ قبل أن يُسمِّيَها صاحبها هدياً، أو يشعرها ويوجبها، فإذا فعل ذلك، لم يكن له من منافعها شيء، روى هذا المعنى مقسم عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضّحّاك.
وقال عطاء بن أبي رباح: لكم في هذه الهدايا منافع بعد إِيجابها وتسميتها هدايا إِذا احتجتم إِلى شيء من ذلك أو اضطررتم إِلى شرب ألبانها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أن تُنحَر. والثاني: أن الشعائر: المناسك ومشاهد مكة والمعنى: لكم فيها منافع بالتجارة إِلى أجلٍ مسمَّى، وهو الخروج من مكة، رواه أبو رزين عن ابن عباس. وقيل: لكم فيها منافع من الأجر، والثواب في قضاء المناسك إِلى أجل مسمى، وهو انقضاء أيام الحج.
قوله تعالى: فَإِنَّها يعني الأفعال المذكورة، من اجتناب الرجس وقول الزور، وتعظيم الشعائر. وقال الفراء: «فإنها» يعني الفعلة مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، وإِنما أضاف التقوى إِلى القلوب، لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب. قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها أي: حيث يَحِلُّ نحرها إِلَى الْبَيْتِ يعني:
عند البيت، والمراد به: الحرم كلُّه «2» ، لأنا نعلم أنها لا تذبح عند البيت، ولا في المسجد، هذا على القول الاول، وعلى الثاني، يكون المعنى: ثم مَحِلّ الناس من إِحرامهم إِلى البيت، وهو أن يطوفوا به بعد قضاء المناسك.
[سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 35]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قرأ حمزة، والكسائي، وبعض أصحاب أبي عمرو بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها: فمن أراد المصدر، من نَسَكَ يَنْسُكُ، ومن كسر أراد مكان النَّسْك كالمجلِس والمطلِع. ومعنى الآية: لكلِّ جماعة مؤمنة من الأمم السالفة جعلنا ذبح القرابين لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، وإِنما خص بهيمة الأنعام، لأنها المشروعة في القُرَب.
والمراد من الآية: أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة، وأن التسمية عليها كانت مشروعة قبل هذه الأمة. قوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ: لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم سواه فَلَهُ أَسْلِمُوا أي:
انقادوا واخضعوا. وقد ذكرنا معنى الإخبات في سورة هود «3» . وكذلك ألفاظ الآية التي تلي هذه.
__________
(1) سورة البقرة: 158.
(2) تقدم الكلام عن محل الذبح في سورة المائدة.
(3) سورة هود: 23. [.....](3/236)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
[سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
قوله تعالى: وَالْبُدْنَ وقرأ الحسن، وابن يعمر برفع الدال. قال الفراء: يقال: بُدْن وبُدُن، والتخفيف أجود وأكثر، لأن كل جمع كان واحده على «فَعَلة» ثم ضُمَّ أول جمعه، خُفِّف، مثل: أَكَمَة وأُكْم، وأَجَمَة وأُجْم، وخَشَبَة وخشب. وقال الزجاج: «البُدْنَ» منصوبة بفعل مُضمر يفسره الذي ظهر، والمعنى: وجعلنا البُدْنَ وإِن شئتَ رفعتها على الإِستئناف، والنصب أحسن ويقال: بُدْن وبُدُن وبَدَنة، مثل قولك: ثُمْر وثُمُر وَثَمرة وإِنما سمِّيت بَدَنَة، لأنها تَبْدُن، أي: تسمن.
وللمفسرين في البُدْن قولان: أحدهما: أنها الإِبل والبقر، قاله عطاء. والثاني: الإِبل خاصة، حكاه الزجاج، وقال: الأول قول أكثر فقهاء الأمصار. قال القاضي أبو يعلى: البدنة: اسم يختص الإِبل في اللغة، والبقرة تقوم مقامها في الحكم.
(1008) لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.
قوله تعالى: جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي: جعلنا لكم فيها عبادة لله، من سَوْقها إِلى البيت، وتقليدها، وإِشعارها «1» ، ونحرها، والإِطعام منها، لَكُمْ فِيها خَيْرٌ وهو النفع في الدنيا والأجر في الآخرة، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أي: على نحرها، صَوافَّ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة:
«صَوافن» بالنون. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو العالية، والضحاك، وابن يعمر: «صوافي» بالياء.
وقال الزجاج: «صَوافَّ» منصوبة على الحال، ولكنها لا تنوَّن لأنها لا تنصرف أي: قد صفَّت قوائمها «2» ، والمعنى: اذكروا اسم الله عليها في حال نحرها «3» والبعير يُنحَر قائماً، وهذه الآية تدلّ
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1318 ح 350 وأبو داود 2809 والترمذي 904 وابن ماجة 3132 والبغوي 1130 وابن حبان 4006 والبيهقي 5/ 168- 169 و 216 و 234 و 9/ 294 من حديث جابر أنه قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحديبية البقرة عن سبعة، والبدنة عن سبعة. لفظ مسلم.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 5/ 455 فصل: ويسن إشعار الإبل والبقر، وهو أن يشق صفحة سنامها الأيمن حتى يدميها في قول عامة أهل العلم، وقال أبو حنيفة: هذا مثله غير جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن تعذيب الحيوان، ولأنه إيلام، فهو كقطع عضو منه. وقال مالك: إن كانت البقرة ذات سنام، فلا بأس بإشعارها، وإلا فلا، ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلّم ثم أشعرها وقلدها.
متفق عليه، ورواه ابن عباس وغيره، وفعله الصحابة، فيجب تقديمه على عموم ما احتجوا به ... إذا ثبت هذا فالسنة الإشعار في صفحتها اليمنى، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال مالك وأبو يوسف: بل تشعر في صفحتها اليسرى وعن أحمد مثله.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 5/ 298: والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فيضربها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر. وممن استحب ذلك مالك، والشافعي وإسحاق، وابن المنذر. واستحب عطاء نحرها باركة. وجوّز الثوري وأصحاب الرأي كل ذلك. ولنا، ما روى زياد بن جبير، قال: رأيت ابن عمر أتى على رجل أناخ بدنته لينحرها، فقال: ابعثها قياما مقيّدة، سنة محمد صلى الله عليه وسلّم. متفق عليه.
وفي قوله تعالى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها دليل على أنها تنحر قائمة. وتجزئه كيفما نحر. قال أحمد: ينحر البدن معقولة على ثلاث توائم، وإن خشي عليها أن تنفر أناخها. وقال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» 9/ 69: يستحب نحر الإبل وهي قائمة معقولة اليد اليسرى. وأما البقر والغنم فيستحب أن تذبح مضطجعة على جنبها الأيسر، وتترك رجلها اليمنى، وتشد قوائمها الثلاث، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور، وقال أبو حنيفة والثوري: يستوي نحرها قائمة وباركة، وحكى القاضي- عياض- عن طاوس أن نحرها باركة أفضل، وهذا مخالف للسنة، والله أعلم.
(3) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 384: وإذا مضى من نهار يوم الأضحى مقدار صلاة العيد وخطبته، فقد حل الذبح، ولا يعتبر نفس الصلاة، ولا فرق في هذا بين أهل المصر وغيرهم. وهذا مذهب الشافعي، وابن المنذر، وظاهر كلام أحمد، وروي نحو هذا عن الحسن وقال أبو حنيفة: أما غير أهل الأمصار فأول وقتها في حقهم إذا طلع الفجر الثاني. ولنا لما روى البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة، ثم الذبح، فمن ذبح قبل الصلاة، فتلك شاة لحم قدمها لأهله، ليس من النسك في شيء» . ولنا آخر الذبح إلى آخر يومين من أيام التشريق نهارا. لأن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث. ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه. ولأن اليوم الرابع لا يجب الرمي فيه، فلم تجز التضحية فيه، كالذي بعده. وممن قال بهذا القول من الصحابة- عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة. وروي عن علي، آخره آخر أيام التشريق. وهو مذهب الشافعي، وقول عطاء، والحسن، لأنه روي عن جبير بن مطعم، أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أيام منى كلها منحر» . ولأنها أيام تكبير وإفطار، فكانت محلا للنحر كالأولين. ويجوز الذبح ليلا. وهو قول أصحابنا المتأخرين، وقول الشافعي وإسحاق، وأبي حنيفة وأصحابه. لأن الليل زمن يصح فيه الرمي، فأشبه النهار. وفي رواية عن أحمد لا يجوز الذبح في الليل وهو قول مالك، فعلى هذا إن ذبح ليلا لم يجزئه عن الواجب، ولم تكن أضحية، فإن فرقها حصلت القربة بتفريقها، دون ذبحها.
(فائدة) قال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» 11/ 134 عقب الحديث عن ثوبان قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم أضحيته ثم قال: «يا ثوبان أصلح لحم هذا» فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة:
فيه تصريح بجواز ادخار لحم الأضحية فوق ثلاث، وجواز التزود منه، وفيه أن الادخار والتزود في الأسفار لا يقدح في التوكل، ولا يخرج صاحبه عن التوكل، وفيه أن الضحية مشروعة للمسافر كما هي مشروعة للمقيم، وهذا مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء، وقال النخعي وأبو حنيفة: لا ضحية على المسافر وروي هذا عن علي، وقال مالك وجماعة: لا تشرع للمسافر بمنى ومكة.(3/237)
على ذلك. ومن قرأ: «صوافن» فالصافن: التي تقوم على ثلاث، والبعير إِذا أرادوا نحره، تُعقل إِحدى يديه، فهو الصافن، والجميع: صوافن. هذا ومن قرأ: «صوافيَ» بالياء وبالفتح بغير تنوين، فتفسيره:
خوالص، أي: خالصة لله لا تشركوا به في التسمية على نحرها أحداً. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي: إِذا سقطت إِلى الأرض، يقال: وَجَبَ الحائط وَجْبَة، إِذا سقط. ووَجَبَ القلب وَجِيباً: إِذا تحرك من فزع.
واعلم أن نحرها قياماً سُنَّة، والمراد بوقوعها على جُنوبها: موتها، والأمر بالأكل منها أمر إِباحة، وهذا في الأضاحي.
قوله تعالى: وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ وقرأ الحسن: «والمُعْتَرِ» بكسر الراء خفيفة. وفيهما ستة أقوال «1» : أحدها: أن القانع: الذي يسأل، والمعترّ السّائل الذي يتعرَّض ولا يسأل، رواه بكر بن عبد الله
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 159: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال عني بالقانع: السائل، لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال، والمعتر من الاعترار وهو الذي يتعرض لأكل اللحم، فيأتيك معترا بك لتعطيه وتطعمه. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 280.(3/238)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، واختاره الفراء. والثاني: أن القانع، المتعفّف، والمعترّ:
السائل، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والنخعي. وعن الحسن كالقولين.
والثالث: أن القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته والمعترّ: الذي يتعرَّض لك ويُلِمُّ بك ولا يسأل، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: القانع: جارك الذي يقنع بما أعطيته، والمعترّ: الذي يتعرَّض ولا يسأل، وهذا مذهب القرظي. فعلى هذا يكون معنى القانع: أن يقنع بما أُعطي. ومن قال:
هو المتعفف، قال: هو القانع بما عنده. والرابع: القانع: أهل مكة، والمعترّ: الذي يعترُّ بهم من غير أهل مكة، رواه خصيف عن مجاهد. والخامس: القانع: الجار وإِن كان غنيّاً، والمعترّ الذي يعترُّ بك، رواه ليث عن مجاهد. والسادس: القانع: المسكين السائل، والمعترّ: الصَّديق الزائر، قاله زيد بن أسلم. قال ابن قتيبة: يقال: قَنَع يَقْنَع قُنوعاً: إِذا سأل، وقَنِع يَقْنَع قَنَاعة: إِذا رضي، ويقال في المعتر:
اعترَّني واعتراني وعَرَاني. وقال الزجاج: مذهب أهل اللغة أن القانع: السائل، يقال: قَنَع يَقْنَع قُنُوعاً:
إِذا سأل، فهو قانع، قال الشماخ.
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفاقِرَهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوع «1»
أي: من السؤال ويقال: قَنِعَ قَنَاعة: إِذا رضي، فهو قَنِع، والمعترُّ والمعتري واحد.
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: مثل ما وصفنا من نحرها قائمة سَخَّرْناها لَكُمْ نِعمة مِنّا عليكم لتتمكَّنوا من نحرها على الوجه المسنون لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: لكي تَشْكُروا.
قوله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وقرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب:
«لن تنال اللهَ لحومُها» بالتاء «ولكن تنالُه التقوى» بالتاء أيضاً. سبب نزولها أن المشركين كانوا إِذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء ينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس «2» . قال المفسرون: ومعنى الآية: لن تُرفع إِلى الله لحومُها ولا دماؤها، وإِنما يُرفع إِليه التقوى وهو ما أُرِيدَ به وجهُه منكم، فمن قرأ «تناله» بالتاء فإنه أنث للفظ التقوى ومن قرأ «يناله» بالياء، فلأن التقوى والتُّقى واحد. والإِشارة بهذه الآية إِلى أنه لا يقبل اللحوم والدِّماء إِذا لم تكن صادرة عن تقوى الله، وإِنما يتقبل ما يتقونه به، وهذا تنبيه على امتناع قبول الأعمال إِذا عريت عن نيَّةٍ صحيحة.
قوله تعالى: كَذلِكَ سَخَّرَها قد سبق تفسيره لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي: على ما بيَّن لكم وأرشدكم إِلى معالم دينه ومناسك حجّه، فذلك أن تقول: الله أكبر على ما هدانا، وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: يعني: الموحّدين.
[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
__________
(1) في «اللسان» مفاقره: أي وجوه فقره، ويقال: سد الله مفاقره أي أغناه وسدّ وجوه فقره.
(2) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح الكلبيّ، وهو كذاب.
وأخرجه ابن المنذر وابن مردويه كما في «الدر» 4/ 654 عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح.(3/239)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يدفع» «ولولا دفع الله» بغير ألف وهذا على مصدر «دَفَع» وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «إِن الله يدافع» بألف «ولولا دفع» بغير ألف، وهذا على مصدر «دافعَ» والمعنى: يدفع عن الذين آمنوا غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم. قال الزجاج: والمعنى: إِذا فعلتم هذا وخالفتم الجاهلية فيما يفعلونه من نحرهم وإِشراكهم، فإن الله يدفع عن حزبه، وال «خَوَّان» فَعّال من الخيانة، والمعنى: أنَّ مَنْ ذكر غير اسم الله، وتقرَّب إِلى الأصنام بذبيحته، فهو خوَّان.
قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
«أَذِنَ» بفتح الألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص عن عاصم: «أُذِنَ» بضمها. قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر التاء. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بفتحها.
(1009) قال ابن عباس: كان مشركو أهل مكّة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيقول لهم:
«اصبروا، فإني لم أُومر بالقتال» حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأنزل الله هذه الآية، وهي أول آية أنزلت
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 621 وفي الوسيط 3/ 273 نقلا عن المفسرين. ولم أره مرفوعا صريحا.
وقال الحافظ في «تخريجه» 3/ 160: لم أجده هكذا، وعزاه الواحدي في الوسيط للمفسرين اه. فالمراد بقول ابن حجر: «لم أجده هكذا» أي مسندا. وقد ورد نحوه من مرسل قتادة أخرجه الطبري 25261. وورد نحوه من مرسل مقاتل بن حيان أخرجه ابن أبي حاتم كما قال الحافظ في «تخريجه» 3/ 160، فهذه الروايات واهية لا يحتج بشيء منها، والصواب أن الآية مدنية. والحديث الصحيح يؤيد ذلك. وهو ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الآية فقال أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون قتال. أخرجه الترمذي 3171 والنسائي في «السنن» 6/ 52 و «التفسير» 365 وأحمد 1/ 216 والحاكم 2/ 66- 946- 390 والطبري 25254 و 25255 والطبراني 17/ 123 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 294 من طرق عن الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به، وهذا إسناد على شرط البخاري ومسلم. وأخرجه الطبري 25256 من طريق قيس بن الربيع عن الأعمش به. وأخرجه الحاكم 3/ 7 من طريق شعبة عن الأعمش به. فهذه ثلاث طرق عن الأعمش فيها وصل الخبر. وورد مرسلا، أخرجه الترمذي 3172 والطبري 25253 عن الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير، وهذا مرسل، لكن القول قول من وصله لأنه زيادة جماعة الثقات. والموصول صححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي. وله شواهد مراسيل تعضده. فقد أخرجه الطبري 25259 و 25260 عن مجاهد مرسلا.
وورد من مرسل قتادة، أخرجه برقم 25262، فهذه الروايات تشهد لأصل الموصول المتقدم. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 1679 و «أحكام القرآن» لابن العربي 1513.(3/240)
في القتال. وقال مجاهد: هم ناس خرجوا من مكة مهاجرين، فأدركهم كفار قريش، فأُذن لهم في قتالهم. قال الزجاج: معنى الآية: أُذن للذين يقاتَلون أن يقاتِلوا. بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي: بسبب ما ظُلموا. ثم وعدهم النصر بقوله: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ولا يجوز أن تقرأ بفتح «إِن» هذه من غير خلاف بين أهل اللغة، لأن «إِنَّ» إِذا كانت معها اللام، لم تُفتح أبداً، وقوله: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ معناه: أُخرِجوا لتوحيدهم.
قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ قد فسّرناه في سورة البقرة «1» .
قوله تعالى: لَهُدِّمَتْ قرأ ابن كثير، ونافع: «لَهُدِمَتْ» خفيفة، والباقون بتشديد الدال.
فأما الصوامع، ففيها قولان «2» : أحدهما: أنها صوامع الرهبان، قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وابن زيد. والثاني: أنها صوامع الصابئين، قاله قتادة، وابن قتيبة.
فأما البِيَع، فهي جمع بِيعة، وهي بِيَع النصارى.
وفي المراد بالصلوات قولان: أحدهما: مواضع الصلوات. ثم فيها قولان: أحدهما: أنها كنائس اليهود، قاله قتادة، والضحاك، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: قوله تعالى: وَصَلَواتٌ هي كنائس اليهود، وهي بالعبرانية «صلوثا» . والثاني: أنها مساجد الصابئين، قاله أبو العالية. والقول الثاني: أنها الصلوات حقيقة، والمعنى: لولا دفع الله عن المسلمين بالمجاهدين لانقطعت الصلوات في المساجد، قاله ابن زيد.
فأما المساجد، فقال ابن عباس: هي مساجد المسلمين. وقال الزجاج: معنى الآية: لولا دفع بعض الناس ببعض لهدّمت في زمان موسى الكنائس، وفي زمان عيسى الصّوامع والبيع، وفي زمان محمّد المساجد.
وفي قوله تعالى: يُذْكَرُ فِيهَا قولان: أحدهما: أن الكناية ترجع إِلى جميع الأماكن المذكورات، قاله الضحاك. والثاني: إِلى المساجد خاصة، لأن جميع المواضع المذكورة، الغالب فيها الشِّرك، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي: من ينصر دينه وشرعه.
قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ قال الزجاج: هذه صفة ناصِرِيه. قال المفسّرون:
التّمكين في الأرض: نصرهم على عدوّهم، والمعروف: لا إِله إِلا الله، والمنكر: الشِّرك. قال الأكثرون: وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال القرظي: هم الولاة.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي: إِليه مرجعها، لأن كلَّ ملك يبطل سوى ملكه.
__________
(1) سورة البقرة: 25.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 166: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: معنى ذلك: لهدمت صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وصلوات اليهود وهي كنائسهم ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا. لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب.
ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 284 وقال: وقال بعض العلماء: هذا ترق من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد، وهي أكثر عمّارا وأكثر عبّادا، وهم ذوو القصد الصحيح.(3/241)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 45]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
قوله تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي: بالعذاب فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أثبت الياء في «نكير» يعقوب في الحالَيْن، ووافقه ورش في إِثباتها في الوصل، والمعنى: كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالإِهلاك؟! والمعنى: إِني أنكرتُ عليهم أبلغ إِنكار، وهذا استفهام معناه التقرير.
قوله تعالى: أَهْلَكْناها قرأ أبو عمرو: «أهلكتُها» بالتاء، والباقون: «أهلكناها» بالنون.
قوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عمر، وحمزة، والكسائي: «وبئر» مهموز، وروى ورش عن نافع بغير همز، والمعنى: وكم بئرٍ معطَّلة، أي: متروكة «1» وَقَصْرٍ مَشِيدٍ فيه قولان: أحدهما: مجصَّص، قاله ابن عباس وعكرمة. قال الزجاج: أصل الشِّيد الجصُّ والنُّورة، وكل ما بني بهما أو بأحدهما فهو مَشِيد. والثاني: طويل، قاله الضحاك ومقاتل. وفي الكلام إِضمار، تقديره: وقصر مشيد معطَّل أيضاً ليس فيه ساكن.
[سورة الحج (22) : الآيات 46 الى 48]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا قال المفسرون: أفلم يَسِر قومك في أرض اليمن والشام فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها إِذا نظروا آثار من هلك أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أخبار الأمم المكذّبة فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ قال الفراء: الهاء في قوله: «فإنها» عماد، والمعنى: أن أبصارهم لم تعم، وإِنما عميت قلوبهم «2» . فأمّا قوله تعالى: الَّتِي فِي الصُّدُورِ فهو توكيد، لأن القلب لا يكون إِلا في الصدر، ومثله:
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «3» يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «4» ، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ «5» . قوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 286: وقوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي: لا يستقى منها، ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها. وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قيل المنيف المرتفع وقيل الشديد المنيع الحصين وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها، فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه، ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله به، كما قال تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، النساء: 78.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 286: «وقال ابن أبي الدنيا: قال بعض الحكماء: أحي قلبك بالمواعظ، ونوره بالفكر، وموّته بالزهد، وقوّه باليقين وذلّله بالموت وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر، وفحش تقلب الأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسر في ديارهم وآثارهم وانظر ما فعلوا، وأين حلوا وعمّ انقلبوا» . وقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر.
(3) سورة البقرة: 196.
(4) سورة الأنعام: 38.
(5) سورة آل عمران: 167.(3/242)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
قال مقاتل: نزلت في النَّضْر بن الحارث القرشي. وقال غيره: هو قولهم له: مَتى هذَا الْوَعْدُ «1» ونحوه من استعجالهم، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ في إِنزال العذاب بهم في الدنيا، فأنزله بهم يوم بدر، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ أي: من أيام الآخرة كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ من أيام الدنيا، قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تَعُدُّون» بالتاء. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: «يَعُدُّون» بالياء.
فإن قيل: كيف انصرف الكلام من ذِكْر العذاب إِلى قوله: «وإِن يوماً عند ربِّك» ؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا، فقيل لهم: لن يخلف الله وعده في إِنزال العذاب بكم في الدنيا. وإِن يوماً من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سنيِّ الدنيا، فكيف تستعجلون بالعذاب؟! فقد تضمنت الآية وعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، هذا قول الفراء. والثاني: وإِن يوماً عند الله وألف سنة سواء في قدرته على عذابهم، فلا فرق بين وقوع ما يستعجلونه وبين تأخيره في القدرة، إِلا أن الله تفضَّل عليهم بالإمهال، هذا قول الزّجّاج.
[سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
قوله تعالى: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني به الرزق الحَسَن في الجنة.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي: عملوا في إِبطالها مُعاجِزِينَ قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «مُعجِزين» بغير ألف. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «مُعاجِزين» بألف قال الزجاج:
«مُعاجِزين» أي: ظانِّين أنهم يُعجزوننا، لأنهم ظنوا أنهم لا يُبعثون وأنه لا جنة ولا نار. قال: وقيل في التفسير: مُعاجِزين: معانِدين، وليس هو بخارج عن القول الأول و «معجزين» تأويلها: أنهم كانوا يعجزون من اتّبع النبيّ صلى الله عليه وسلّم ويثبّطونهم عنه.
[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 55]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الآية.
(1010) قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه سورة النجم قرأها حتى
__________
موضوع مفترى. بأسانيد واهية. ورد عن محمد بن كعب القرظي، أخرجه الطبري 25328 وله علل ثلاث:
الأولى الإرسال، والثانية عنعنة ابن إسحاق، والثالثة فيه يزيد بن زياد المدني، قال البخاري: لا يتابع على حديثه. وكرره الطبري 25327 من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب ومحمد بن قيس معا. وهذا مرسل-
__________
(1) سورة الملك: 25. [.....](3/243)
__________
أيضا، وأبو معشر اسمه نجيح ضعفه النسائي والدارقطني، وقال البخاري: منكر الحديث، وضعفه يحيى بن سعيد جدا. وورد من مرسل أبي العالية، أخرجه الطبري 25330. وورد من مرسل سعيد بن جبير، أخرجه الطبري 25331 و 25332. وورد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 25334. وورد من مرسل عروة بن الزبير، أخرجه الطبراني 5078، ومع إرساله فيه ابن لهيعة.
قال الهيثمي في «المجمع» 11186: فيه ابن لهيعة، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة اه. أي لنكارة المتن الذي ساقه، فإن فيه رجوع بعض من هاجر إلى الحبشة إلى المدينة بسبب هذا الخبر.
- وورد عن ابن عباس من طرق ثلاث: الأول: أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبى صالح عنه.
وهذا إسناد ساقط مصنوع، فقد روى الكلبي وأبو صالح عن ابن عباس تفسيرا موضوعا، وقد أقرّا بالوضع والكذب على ابن عباس. الثاني: أخرجه الطبري 25333 بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي، وهو ضعيف عن ابن عباس، فهذا إسناد ساقط لا يفرح به. الثالث: أخرجه البزار 2263 «كشف» والضياء في «المختارة» 1- 2/ 120 والطبراني 12450 وفيه أمية بن خالد، وهو وإن وثقه غير واحد، فقد نقل الذهبي في «الميزان» 1029 عن أحمد أنه لم يحمده، وذكره العقيلي في «الضعفاء» اه. وقد روى هذا الحديث غير واحد عن ابن جبير ليس فيه ذكر ابن عباس، وللحديث علة أخرى، وهي ما قاله البزار حيث قال عقبه: لا نعلمه يروى بإسناد متصل يجوز ذكره إلا بهذا الإسناد، وأمية بن خالد ثقة مشهور، وإنما يعرف هذا من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس اه. والكلبي متروك متهم، وأبو صالح ساقط، ولم يدرك ابن عباس، فلم يصح هذا الطريق عن ابن عباس أيضا، وعامة روايات هذا الخبر مراسيل لا يحتج بها، والظاهر أن بعضهم أخذه من بعض لغرابته، فحدثوا به واشتهر، وهو خبر باطل مصنوع، ولو صح لرواه واحد من أصحاب الكتب المعتبرة، والمسانيد المشتهرة، ولكن كل ذلك لم يكن وقد اضطربوا في ألفاظه اضطرابا كبيرا، وزادوا فيه ونقصوا، وكل ذلك دليل على بطلانه.
وقد ذهب الحافظ ابن حجر في تخريج «الكشاف» 3/ 164- 165 إلى تقوية هذا الحديث، وكذا السيوطي في «الدر» 4/ 661، وليس كما قالا، وقد خالفهما أئمة ثقات أثبات في ذلك. وإليك بيانه: قال الإمام أبو حيان في «البحر» 6/ 352: سئل ابن إسحاق- جامع السيرة النبوية- عن هذه القصة، فقال: هذا من وضع الزنادقة، وصنف في ذلك كتابا.
وقال الإمام البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ورواتها مطعون عليهم، وليس في الصحاح ولا التصانيف الحديثية شيء مما ذكروه، فوجب اطّراحه، ولذا نزهت كتابي عن ذكره فيه. اه ملخصا.
وقال الحافظ ابن كثير 3/ 288: وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.
وقال العلامة الآلوسي في «روح البيان» 17/ 182 ما ملخصه: قال أبو منصور الماتريدي: هذا الخبر من إيحاء الشيطان إلى أوليائه الزنادقة، والرسالة بريئة من هذه الرواية.
وقال القاضي عياض: يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواة ثقة يسند سليم متصل.
وقال العلامة الآلوسي: ويكفي في ردها قول الله تعالى في وصف القرآن لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ اه.
وقال الإمام الشوكاني في «فتح القدير» 3/ 546: قال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة.
وقال القاضي عياض في «الشفا» : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا.
وقد جمع الألباني رسالة في ذلك وسماها «نصب المجانيق في نسف قصة الغرانيق» .(3/244)
بلغ قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1» فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإِن شفاعتهن لترتجى فلما سمعت قريش بذلك فرحوا، فأتاه جبريل، فقال: ماذا صنعتَ؟
تلوتَ على الناس ما لم آتِكَ به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حزناً شديداً، فنزلت هذه الآية تطييباً لقلبه، وإِعلاماً له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا. قال العلماء المحققون: وهذا لا يصحّ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم معصوم عن مثل هذا، ولو صح، كان المعنى أن بعض شياطين الإِنس قال تلك الكلمات «2» ، فإنهم كانوا إِذا تلا لغطوا، كما قال الله عزّ وجلّ: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «3» .
قال: وفي معنى «تمنّى» قولان «4» :
__________
وانظر «فتح القدير» 1681 و «أحكام القرآن» 1517 وابن كثير عند هذه الآية.
أخيرا: أورد لك الوجه الصحيح في قصة سورة النجم، والسجود فيها. وقد ورد في ذلك حديثان الأول حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سجد في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
وهذا ثابت عن ابن عباس، أخرجه البخاري 1071 و 4862 والترمذي 575 وابن حبان 2763 والدارقطني 1/ 409. وحديث ابن مسعود، أخرجه البخاري 1067 و 1070 و 3853 و 3972 ومسلم 576 وأبو داود 1406 والنسائي 2/ 160 والدارمي 1/ 342 وابن حبان 2764 وحديث ابن مسعود أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ سورة النجم فسجد فما بقي أحد من القوم إلا سجد إلا رجل واحد أخذ كفا من حصى، فوضعه على جبهته، وقال:
يكفيني. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. فالوارد الصحيح عن ابن عباس هو المتقدم عنه لا ما رواه عنه الضعفاء والهلكى من ذكر الغرانيق ...
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فالصحيح في هذا المقام هو الوارد عن ابن مسعود فإنه قد أدرك الحادثة وهي مكية، بخلاف ابن عباس، فإنه ما حضرها ولا أدركها، فالصحيح في هذا ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أحد السابقين الأعلام، وأما ما رواه جماعة من التابعين، فإنما تلقّاه بعضهم عن بعض واشتهر بسبب غرابته، وكان الأصلح لهؤلاء رحمهم الله أن يأخذوا ذلك عن ابن مسعود، فتنبه والله الموفق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
__________
(1) سورة النجم: 19- 20.
(2) قلت الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلّم ما قال ذلك، ولا زاده الشيطان أيضا بل لا سلطان للشيطان في شيء في شيء من ذلك، حاشا لله أن يكون للشيطان مدخل على القرآن أو في حال تبليغه، وما هي إلا روايات عامتها مراسيل، وكأن بعض الزنادقة حدث بها في عهد التابعين، فأولع بها هؤلاء فرووها وانتشرت، والدليل على أن مصدرها رجال مجاهيل لا يعرفون، هو أنها وردت عن عشرة أو أكثر من التابعين، ولم يذكر عامتهم من حدثه بها، فهذا دليل على أن لا أصل لها، وأنه مفتعلة مصنوعة مزورة، تروج على من لا علم له ولا دراية، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(3) سورة فصلت: 26.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 178: التمني يعني التلاوة والقراءة قاله الضحاك. وهذا القول أشبه بتأويل الكلام، بدلالة قوله: فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته على ذلك، لأن الآيات التي أخبر الله جل ثناؤه أنه يحكمها، لا شك أنها آيات تنزيله، فمعلوم أن الذي ألقى فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله، ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.
فتأويل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله وقرأ، أو حدّث وتكلم، ألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه، أو في حديثه الذي حدث وتكلم فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ يقول الله تعالى: فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله.(3/245)
أحدهما: تلا، قاله الأكثرون، وأنشدوا:
تمنَّى كتابَ اللهِ أوّل ليلهِ ... وآخرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ
وقال آخر:
تمنَّى كتابَ الله آخرَ ليلِه ... تمنِّيَ داودَ الزبورَ على رِسْلِ
والثاني: أنه من الأمنية، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم تمنى يوماً أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه به قومُه، فألقى الشيطان على لسانه لِما كان قد تمناه، قاله محمد بن كعب القرظي.
قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي: يُبطله ويُذهبه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ قال مقاتل: يُحْكِمُها من الباطل. قوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللام متعلقة بقوله: أَلْقَى الشَّيْطانُ، والفتنة ها هنا بمعنى البلية والمحنة. والمرضُ: الشك والنفاق. وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ يعني: الجافية عن الإِيمان. ثم أعلمه أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم، والشقاق: غاية العداوة.
قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهو التوحيد والقرآن، وهم المؤمنون. وقال السدي:
التصديق بنسخ الله. قوله تعالى: أَنَّهُ الْحَقُّ إِشارة إِلى نسخ ما يلقي الشيطان فالمعنى: ليعلموا أن نسخ ذلك وإِبطاله حق من الله فَيُؤْمِنُوا بالنسخ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي: تخضع وتَذِلّ. ثم بيَّن بباقي الآية أن هذا الإِيمان والإِخبات إِنما هو بلطف الله وهدايته..
قوله تعالى: فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي: في شكّ. وفي هاء «منه» أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها ترجع إِلى قوله: تلك الغرانيق العلى. والثاني: أنها ترجع إِلى سجوده في سورة النجم. والقولان عن سعيد بن جبير، فيكون المعنى: إِنهم يقولون: ما بالُه ذكر آلهتنا ثم رجع عن ذكرها؟! والثالث: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله ابن جريج. والرابع: أنها ترجع إِلى الدِّين، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وفيها قولان: أحدهما: القيامة تأتي مَنْ تقوم عليه من المشركين، قاله الحسن. والثاني: ساعة موتهم، ذكره الواحدي. قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ فيه قولان «2» : أحدهما: أنه يوم بدر، روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي. والثاني: أنه يوم القيامة، قاله عكرمة، والضحاك. وأصل العقم في الولادة، يقال: امرأة عقيم لا تلد، ورجل عقيم لا يولد له وأنشدوا:
عُقْمِ النِّساءُ فلا يَلِدْنَ شَبْيَهه ... إِن النِّساءَ بمثْلِه عقم
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 180: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أقرب منه من ذكر قوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ والهاء في قوله أنه من ذكر القرآن، فإلحاق الهاء في قوله فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ بالهاء من قوله أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أولى من إلحاقها بما التي في قوله ما يُلْقِي الشَّيْطانُ مع بعد ما بينهما.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 181: والقول الأول: أنه يوم بدر أولى بتأويل الآية، لأنه لا وجه لأن يقال: لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو تأتيهم الساعة، وذلك أن الساعة هي يوم القيامة، فإن كان اليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة، فإنما معناه تكرير الساعة مرتين، باختلاف الألفاظ، وذلك لا معنى له فأولى التأولين أصحهما معنى، وهو ما ذكرنا. فتأويل الكلام: أو يأتيهم عذاب يوم عقيم لهم، فلا ينظر وافيه إلى الليل، ولا يؤخروا فيه إلى المساء لكنهم يقتلون قبل المساء.(3/246)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
وسميت الريح العقيم بهذا الاسم، لأنها لا تأتي بالسحاب الممطر، فقيل لهذا اليوم: عقيم، لأنه لم يأت بخير.
فعلى قول من قال: هو يوم بدر في تسميته بالعقيم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لم يكن فيه للكفار بركة ولا خير، قاله الضحاك. والثاني: لأنهم لم يُنْظَروا فيه إِلى الليل، بل قُتلوا قبل المساء، قاله ابن جريج. والثالث: لأنه لا مثْل له في عِظَم أمره، لقتال الملائكة فيه، قاله يحيى بن سلام. وعلى قول من قال: هو يوم القيامة، في تسميته بذلك قولان: أحدهما: لأنه لا ليلة له، قاله عكرمة. والثاني: لأنه لا يأتي المشركين بخير ولا فرج، ذكره بعض المفسّرين.
[سورة الحج (22) : الآيات 56 الى 59]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة لِلَّهِ من غير منازع ولا مدَّع يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي: بين المسلمين والمشركين وحكمه بينهم بما ذكره في تمام الآية وما بعدها. ثم ذكر فضل المهاجرين فقال: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: من مكة إِلى المدينة. وفي الرزق الحسن قولان: أحدهما: أنه الحلال، قاله ابن عباس. والثاني: رزق الجنة، قاله السّدّيّ. قوله تعالى: ثُمَّ قُتِلُوا وقرأ ابن عامر: «قُتِّلوا» بالتشديد قوله تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا وقرأ نافع بفتح الميم برضوانه يعني: الجنة. والمدخل يجوز أن يكون مصدرا، فيكون المعنى: ليدخلنهم إدخالاً يكرمون به فيرضونه ويجوز أن يكون بمعنى المكان. و «مَدخلاً» بفتح الميم على تقدير: فيدخلون مدخلاً.
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بنيّاتهم حَلِيمٌ عنهم.
[سورة الحج (22) : الآيات 60 الى 62]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: المعنى: الأَمْرُ ذلك، أي: الأمر ما قصصنا عليكم وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ والعقوبة: الجزاء والأول ليس بعقوبة، ولكنه سمي عقوبةً، لاستواء الفعلين في جنس المكروه، كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» لما كانت المجازاة إِساءة بالمفعول به سمِّيت سيّئة، ومثله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «2» قاله الحسن، ومعنى الآية: من قاتل المشركين كما قاتلوه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي: ظُلم باخراجه عن منزله. وزعم مقاتل أن سبب نزول هذه الآية أن مشركي مكة لقوا المسلمين لليلةٍ بقيت من المحرَّم، فقاتلوهم، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام، فأبوا إلّا القتال،
__________
(1) سورة الشورى: 40.
(2) سورة البقرة: 15.(3/247)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
فثبت المسلمون، ونصرهم الله على المشركين، ووقع في نفوس المسلمين من القتال في الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، وقال: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ عنهم غَفُورٌ لقتالهم في الشهر الحرام «1» .
قوله تعالى: ذلِكَ أي: ذلك النصر بِأَنَّ اللَّهَ القادر على ما يشاء، فمن قُدرته أنه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لدعاء المؤمنين بَصِيرٌ بهم حيث جعل فيهم الإِيمان والتقوى، ذلِكَ الذي فعل من نصر المؤمنين بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي: هو الإِله الحق وَأَنَّ ما يَدْعُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «يدعون» بالياء. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بالتاء، والمعنى: وأنَّ ما يعبدون مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ.
[سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 64]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً بالنبات. وحكى الزجاج عن الخليل أنه قال: معنى الكلام التنبيه، كأنه قال: أتسمع، أنزل الله من السماء ماءً فكان كذا وكذا. وقال ثعلب: معنى الآية عند الفراء خبر، كأنه قال: اعلم أن الله ينزِّل من السماء ماءً فتصبح، ولو كان استفهاماً والفاء شرطاً لنصبه.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي: باستخراج النبات من الأرض رزقاً لعباده خَبِيرٌ بما في قلوبهم عند تأخير المطر. وقد سبق معنى الغني الحميد في سورة البقرة «2» .
[سورة الحج (22) : الآيات 65 الى 66]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ يريد البهائم التي تركب وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ قال الزجاج: كراهة أن تقع. وقال غيره: لئلّا تقع إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فيما سخَّر لهم وفيما حبس عنهم من وقوع السماء عليهم. وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم نطفاً ميتة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث والحساب إِنَّ الْإِنْسانَ يعني: المشرك لَكَفُورٌ لِنعَم الله إِذ لم يوحده.
[سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 70]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
__________
(1) واه بمرة. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 4/ 665 عن مقاتل مرسلا. ومقاتل واه.
(2) سورة البقرة: 267.(3/248)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
قوله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قد سبق بيانه في هذه السّورة فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي: في الذبائح، وذلك أن كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أمر الذبيحة، فقالوا: كيف تأكلون ما قتَلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟! يعنون: الميتة.
فإن قيل: إِذا كانوا هم المنازعين له، فكيف قيل: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ؟
فقد أجاب عنه الزجاج، فقال: المراد: النهي له عن منازعتهم، فالمعنى: لا تنازعنَّهم، كما تقول للرجل: لا يخاصمنَّك فلان في هذا أبداً، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إِلا من اثنين، لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إِلا باثنين، فإذا قلت: لا يجادلنَّك فلان، فهو بمنزلة: لا تجادلنَّه، ولا يجوز هذا في قولك: لا يضربنَّك فلان وأنت تريد: لا تضربنَّه، ولكن لو قلت: لا يضاربنَّك فلان، لكان كقولك: لا تضاربنَّ، ويدل على هذا الجواب قوله: وَإِنْ جادَلُوكَ.
قوله تعالى: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي: إِلى دينه والإِيمان به. و «جادلوك» بمعنى: خاصموك في أمر الذبائح، فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من التكذيب، فهو يجازيكم به. اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: يقضي بينكم فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الدِّين، أي: تذهبون إِلى خلاف ما ذهب إِليه المؤمنون وهذا أدب حسن علَّمه الله عباده ليردُّوا به مَن جادل على سبيل التعنُّت، ولا يجيبوه، ولا يناظروه.
فصل:
قال أكثر المفسرين: هذا نزل قبل الأمر بالقتال، ثم نُسِخ بآية السيف. وقال بعضهم:
هذا نزل في حق المنافقين، كانت تظهر من أقوالهم وأفعالهم فلَتات تدل على شركهم، ثم يجادِلون على ذلك، فوكل أمرهم إِلى الله تعالى، فالآية على هذا محكمة.
قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ هذا استفهام يراد به التقرير والمعنى قد علمتَ ذلك إِنَّ ذلِكَ يعني ما يجري في السموات والأرض فِي كِتابٍ يعني: اللوح المحفوظ، إِنَّ ذلِكَ أي: عِلْم الله بجميع ذلك عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل لا يتعذَّر عليه العلم به.
[سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 72]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ يعني: كفار مكة ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي: حُجة وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أنه إِله، وَما لِلظَّالِمِينَ، يعني: المشركين مِنْ نَصِيرٍ أي: مانع من العذاب. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا يعني القرآن والمنكر ها هنا بمعنى الإِنكار، فالمعنى: أثر الإِنكار من الكراهة، وتعبيسُ الوجوه، معروف عندهم. يَكادُونَ يَسْطُونَ أي: يبطشون ويُوقِعون بمن يتلو عليهم القرآن من شدَّة الغيظ، يقال: سطا عليه، وسطا به: إِذا تناوله بالعنف والشدة. قُلْ لهم يا محمد: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ أي: بأشدَّ عليكم وأكره إِليكم من سماع القرآن، ثم ذكر ذلك فقال: النَّارُ أي: هو النار.
[سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 74]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)(3/249)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ قال الأخفش: إِن قيل: أين المَثَل؟
فالجواب: أنه ليس ها هنا مثَل، وإِنما المعنى: يا أيها الناس ضُرب مَثَل، أي: شبّهت بي الأوثان فَاسْتَمِعُوا لهذا المثل. وتأويل الآية: جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي فاستمِعوا حالها ثم بيَّن ذلك بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ أي: تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ، وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وابن أبي عبلة: «يدعون» بالياء المفتوحة. وقرأ ابن السميفع، وأبو رجاء وعاصم الجحدري: «يُدْعون» بضم الياء وفتح العين، يعني: الأصنام، لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً والذباب واحد، والجمع القليل: أذِبَّة، والكثير: الذّبّان، مثل: غُراب وأَغْرِبة وغِرْبان وقيل: إنما خصّ الذّباب لمانته واستقذاره وكثرته. وَلَوِ اجْتَمَعُوا يعني: الأصنام لَهُ أي: لخَلْقِه، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ يعني:
الأصنام. قال ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فيجفّ، فيأتي الذباب فيختلسه. وقال ابن جريج: كانوا إِذا طيَّبوا أصنامهم عجنوا طيبهم بشيء من الحلواء، كالعسل ونحوه، فيقع عليها الذباب فيسلبها إِياه، فلا تستطيع الآلهة ولا مَنْ عبَدها أن يمنعه ذلك. وقال السدي: كانوا يجعلون للآلهة طعاماً، فيقع الذباب عليه فيأكل منه قال ثعلب: وإِنما قال: لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ فجعل أفعال الآلهة كأفعال الآدميين، إذا كانوا يعظِّمونها ويذبحون لها وتُخاطَب، كقوله: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «1» لمَّا خاطبهم جعلهم كالآدميين، ومثله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «2» ، وقد بيَّنَّا هذا المعنى في (الأعراف) عند قوله تعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ «3» . قوله تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فيه ثلاثة أقوال «4» : أحدها: أن الطالب: الصنم، والمطلوب: الذباب، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني:
الطالب: الذباب يطلب ما يسلبُه من الطيِّب الذي على الصنم، والمطلوب: الصنم يطلب الذباب منه سَلْبَ ما عليه، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: الطالب: عابد الصنم يطلب التقرُّب بعبادته، والمطلوب: الصنم، هذا معنى قول الضحاك، والسدي.
قوله تعالى: ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما عظّموه حق عظمته، إِذ جعلوا هذه الأصنام شركاء له إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ لا يُقْهَر عَزِيزٌ لا يرام.
[سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 76]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
قوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا كجبريل وميكائيل وإِسرافيل ومَلَك الموت، وَمِنَ النَّاسِ الأنبياءَ المرسلين، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لمقالة العباد بَصِيرٌ بمن يتّخذه رسولا.
__________
(1) سورة النمل: 18.
(2) سورة يوسف: 4.
(3) الأعراف: 191.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 189: والصواب من القول في ذلك عندنا ما ذكرته عن ابن عباس من أن معناه: وعجز الطالب وهو الآلهة. أن تستنقذ من الذباب ما سلبها إياه، وهو الطيب وما أشبهه، والمطلوب: الذباب.
ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 296 وقال: اختاره ابن جرير وهو ظاهر السياق. [.....](3/250)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
وزعم مقاتل أن هذه الآية نزلت حين قالوا: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا «1» .
قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الإِشارة إِلى الذين اصطفاهم وقد بيَّنَّا معنى ذلك في آية الكرسي «2» .
[سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
قوله تعالى: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا قال المفسرون: المراد: صلُّوا، لأن الصلاة لا تكون إِلا بالركوع والسجود، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ أي: وحِّدوه وَافْعَلُوا الْخَيْرَ يريد: أبواب المعروف لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة.
فصل:
لم يختلف أهل العلم في السجدة الأولى من الحج واختلفوا في هذه السجدة الأخيرة فروي عن عمر، وابن عمر، وعمَّار، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وابن عباس، أنهم قالوا: في الحج سجدتان، وقالوا: فضّلت هذه السورة على غيرها بسجدتين، وبهذا قال أصحابنا، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. وروي عن ابن عباس أنه قال: في الحج سجدة، وبهذا قال الحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وإِبراهيم، وجابر بن زيد، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك ويدل على الأول.
(1011) ما روى عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال: «نعم، ومن
__________
صدره حسن، وعجزه ضعيف. أخرجه أبو داود 1402 والترمذي 578 والدارقطني 1/ 408 والحاكم 1/ 221 وأحمد 4/ 151 والواحدي في «الوسيط» 3/ 281 والبيهقي 2/ 317 والبغوي في «التفسير» 3/ 299 من طرق عن ابن لهيعة عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر به. وإسناده ضعيف، وله علتان: ضعف ابن لهيعة، وشيخه مشرح قال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول. وقال الذهبي في «الميزان» 4/ 117: صدوق لينه ابن حبان، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين: ثقة، وقال ابن حبان: يروي عن عقبة مناكير، لا يتابع عليها، فالصواب ترك ما انفرد به اه. وعجزه ضعيف، وهو قوله «فمن لم يسجدها فلا يقرأها» بل هو منكر، وهو إما من مناكير ابن لهيعة حيث اختلط، أو من شيخه مشرح، حيث إن الراوي عنه عند أبي داود ابن وهب، وهو أحد العبادلة وأيّا كان فعجز الحديث ضعيف منكر، وقد ضعفه الترمذي بقوله: هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي.
- وعارضه أحمد شاكر رحمه الله فقال: بل هو حديث صحيح، فإن ابن لهيعة ومشرح ثقتان ... ؟!
- وأما الألباني فذكر الحديث في «ضعيف أبي داود» 303، وفي ذلك نظر، فإن لصدره شواهد منها:
- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أخرجه أبو داود 1401 وابن ماجة 1057 والحاكم 1/ 223 والبيهقي 2/ 79 وإسناده ضعيف، فيه عبد الله بن منين مجهول، وعنه الحارث بن سعيد العتكي، لا يعرف. وقال الحاكم عقبه: رواته مصريون، واحتج الشيخان بأكثر الرواة! وسكت الذهبي! وقال الزيلعي في «نصب الراية» 2/ 180: قال عبد الحق: ابن منين، لا يحتج به. قال ابن القطان: وذلك لجهالته اه. ومع ذلك يصلح شاهدا لما قبله، فليس بشديد الضعف، حيث فيه الجهالة فقط، ومع ذلك فقد أدخله الألباني في «ضعيف سنن أبي داود» 301؟! وله شاهد مرسل، أخرجه أبو داود في «المراسيل» ص 113 عن خالد بن معدان، ومن طريق أبي داود، أخرجه البيهقي 2/ 317 ونقل عن أبي داود قوله: وقد أسند هذا الحديث، ولا يصح اه ومراده والله أعلم، أن هناك من وصل مرسل ابن معدان، والصواب إرساله. ومع ذلك يصلح شاهدا للموصول المتقدم، وما قبله.
وقد ورد موقوفا عن جماعة من الصحابة، أسند ذلك كله الحاكم في «المستدرك» 2/ 390- 391 والبيهقي 2/ 317- 318 وكذا الدارقطني 1/ 408- 409- 410.
فهذه الموقوفات مع المرسل مع الموصول المتقدم تشهد لصدر حديث عقبة دون عجزه، وترقى به إلى درجة الحسن والله تعالى أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 1519 بتخريجنا.
__________
(1) سورة ص: 80.
(2) سورة البقرة: 255.(3/251)
لم يسجدهما فلا يقرأهما» .
فصل «1» :
واختلف العلماء في عدد سجود القرآن، فروي عن أحمد روايتان، إِحداهما: أنها أربع عشرة سجدة. وبه قال الشافعي، والثانية: أنها خمس عشرة، فزاد سجدة (ص) . وقال أبو حنيفة:
هي أربع عشرة، فأخرج التي في آخر (الحج) وأبدل منها سجدة ص.
فصل «2» :
وسجود التلاوة سُنَّة، وقال أبو حنيفة: واجب. ولا يصح سجود التلاوة إِلا بتكبيرة الإِحرام والسلام، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشّافعيّ. ولا يجزئ الركوع عن سجود التلاوة، وقال أبو حنيفة: يجزئ. ولا يسجد المستمع إِذا لم يسجد التالي، نصّ عليه أحمد رضي الله عنه. وتكره قراءة السجدة في صلاة الإِخفات، خلافاً للشافعي.
قوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ في هذا الجهاد ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنه فِعل جميع الطاعات،
__________
(1) قال الترمذي عقب الحديث 2/ 472: واختلف أهل العلم في هذا، فروي عن عمرو وابنه أن سورة الحج فضلت بسجدتين. وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، ورأى بعضهم فيها سجدة، وهو قول الثوري ومالك وأهل الكوفة اه. والمذهب الأول هو الراجح فإن مستندهم حديثان موصولان يقوي أحدهما الآخر مع مرسل أضف إلى ذلك موقوفات عن جماعة من الصحابة، والله الموفق.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 2/ 359: سجود التلاوة سنة مؤكدة، وليس بواجب ومن ترك فلا شيء عليه وإذا سجد للتلاوة فعليه التكبير للسجود والرفع منه سواء كان في صلاة أو في غيرها وقال الشافعي:
إذا سجد خارج الصلاة كبّر واحدة للافتتاح وأخرى للسجود، ويرفع يديه عند تكبيرة الابتداء إن كان في غير صلاة وهو قول الشافعي. قال القاضي: وقياس المذهب لا يرفع ويقول في سجوده ما يقول في سجود صلاته. ويسلّم إذا رفع ورأى أحمد أنه واجب وفي رواية ثانية، لا تسليم فيه، وبه قال النخعي، والحسن، وسعيد بن جبير ويحيى بن وثاب. وروي ذلك عن أبي حنيفة. واختلف قول الشافعي فيه. ويسن السجود للتالي والمستمع، لا نعلم في هذا خلافا. ويشترط لسجود المستمع أن يكون التالي ممن يصلح أن يكون له إماما. وقال أبو حنيفة: إذا امتنع من السجود لمعارض، فإذا زال المعارض يسجد. ولا يقوم الركوع مقام السجود، وقال أبو حنيفة: يقوم مقامه استحبابا. وإذا قرأ السجدة على الراحلة في السفر أومأ بالسجود حيث كان وجهه، وإن كان ماشيا سجد على الأرض. ولا يسجد إلا وهو طاهر ويعتبر للسجود من الشروط ما يشترط لصلاة النافلة. ولا نعلم في ذلك اختلافا. ويكره اختصار السجود، وهو أن ينتزع الآيات التي فيها سجود فيقرأها ويسجد فيها أو يقرأ القرآن إلا آيات السجود.
(3) قال الطبري رحمه الله 9/ 191: والصواب من القول في ذلك: عني به الجهاد في سبيل الله لأن المعروف من الجهاد ذلك، وهو الأغلب على قول القائل: جاهدت في الله، وحق الجهاد: استفراغ الطاقة فيه.(3/252)
هذا قول الأكثرين. والثاني: أنه جهاد الكفار، قاله الضحاك. والثالث: أنه جهاد النفس والهوى، قاله عبد الله بن المبارك. فأما حق الجهاد، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه الجِدُّ في المجاهدة، واستيفاء الإِمكان فيها. والثاني: أنه إخلاص النّيّة لله عزّ وجلّ. والثالث: أنه فِعل ما فيه وفاء لحق الله عزّ وجلّ.
فصل:
وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها على قولين: أحدهما: قوله:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «1» . والثاني: قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «2» وقال آخرون: بل هي مُحْكَمَةٌ، ويؤكده القولان الأولان في تفسير حق الجهاد، وهو الأصح، لأن الله تعالى لا يكلِّف نفساً إِلا وسعها.
قوله تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ أي: اختاركم واصطفاكم لدينه. والحرج: الضِّيق، فما من شيء وقع الإِنسان فيه إِلا وجد له في الشرع مَخرجاً بتوبة أو كفارة أو انتقالٍ إِلى رخصة ونحو ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج: ما كان على بني إِسرائيل من الإِصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة. قوله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ قال الفراء: المعنى: وسّع عليكم كملَّة أبيكم، فاذا ألقيتَ الكاف نصبتَ، ويجوز النصب على معنى الأمر بها، لأن أول الكلام أمر، وهو قوله تعالى ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا والزموا ملَّة أبيكم.
فإن قيل: هذا الخطاب للمسلمين، وليس إِبراهيم أباً لكُلِّهم. فالجواب: أنه إِن كان خطاباً عامّاً للمسلمين، فهو كالأب لهم، لأنّ حرمته وحقّه عليكم كحقّ الوالد، وإن كان الخطاب للعرب خاصة، فإبراهيم أبو العرب قاطبة، هذا قول المفسرين. والذي يقع لي أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنّ إبراهيم أبوه، وأمّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم داخلة فيما خوطب به رسول الله.
قوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور فعلى هذا في قوله: مِنْ قَبْلُ قولان. أحدهما: من قبل القرآن سمَّاكم بهذا في الكتب التي أنزلها. والثاني: «مِنْ قَبْلُ» أي: في أُمّ الكتاب، وقوله تعالى: وَفِي هذا أي: في القرآن. والثاني: أنه إِبراهيم عليه السلام حين قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «3» فالمعنى: من قَبْل هذا الوقت، وذلك في زمان إِبراهيم عليه السلام وفي هذا الوقت حين قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً، هذا قول ابن زيد.
قوله تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ المعنى: اجتباكم وسمَّاكم ليكون الرسول يعني محمداً صلى الله عليه وسلّم شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة أنه قد بلَّغكم وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة «4» إِلى قوله: وَآتُوا الزَّكاةَ. قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ قال ابن عباس: سَلُوه أن يَعْصِمكم من كل ما يُسخط.
ويُكْرَه. وقال الحسن: تمسَّكوا بدين الله. وما بعد هذا مشروح في الأنفال «5» .
__________
(1) سورة البقرة: 286.
(2) سورة التغابن: 16.
(3) سورة البقرة: 128.
(4) سورة البقرة: 143.
(5) سورة الأنفال: 40.(3/253)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
سورة المؤمنون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
سورة المؤمنين مكية في قول الجميع.
(1012) روى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقد أُنزلت علينا عشر آيات من أقامهنَّ دخل الجنة، ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) إِلى عشر آيات» ، رواه الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» .
(1013) وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِن الله تعالى حاط حائط الجنّة
__________
ضعيف. أخرجه الترمذي 3173 والنسائي في «الكبرى» 1439 وأحمد 1/ 34 والحاكم 2/ 392/ 3479 والعقيلي 4/ 460- 461 والواحدي 3/ 283 من حديث عمر، ومداره على يونس بن سليم، وهو مجهول، فالإسناد ضعيف، وصوب الترمذي كونه من مرسل الزهري، وأنه الصحيح. ومع ذلك صححه الحاكم! لكن تعقبه الذهبي بقوله: سئل عبد الرزاق عن شيخه يونس هذا فقال: لا أظنه شيء، وقال الذهبي في «الميزان» في ترجمة يونس: حدث عنه عبد الرزاق، ولم يعتمده في الرواية. وأعله العقيلي به، وقال: لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به. وقال النسائي: هذا حديث منكر. انظر «أحكام القرآن» 1522 بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه البزار 3508 وأبو نعيم في «حلية الأولياء» 6/ 204 وفي «صفة الجنة» 1/ 137/ 140 والبيهقي في «البعث» 236 من حديث أبي سعيد وضعفه البزار بقوله: لا نعلم رفعه إلا عدي بن الفضل، وليس هو بالحافظ، وكذا ضعفه البيهقي. وجاء في «الميزان» : عدي بن الفضل، قال ابن معين وأبو حاتم:
متروك الحديث، وقال يحيى: لا يكتب حديثه، وقال غير واحد: ضعيف اه. فالرجل ضعيف جدا. وله شاهد: أخرجه الحاكم 2/ 392 والبيهقي في «الصفات» 2/ 47 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 17 من حديث أنس، وإسناده ضعيف لضعف علي بن عاصم الواسطي. وذكره الذهبي في «الميزان» بهذا الحديث وحديث آخر، وقال: هذان باطلان اه. والحديث صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: بل ضعيف اه. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه الطبراني في 11439 وفي «الأوسط» 476 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 16.
وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» 5468: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسنادين أحدهما جيد.
وتبعه على ذلك الهيثمي في «المجمع» 18639، وأما ابن كثير- رحمه الله- فأعلّه بضعف رواية بقية عن الحجازيين والمعروف أن إسماعيل بن عياش هو الذي بهذه الصفة، وإنما علّة الحديث هي أن بقية مدلس، وقد عنعن، قال أحمد: توهمت أن بقية، لا يحدث المناكير إلا عن المجاهيل، فإذا هو يحدث المناكير عن المشاهير. وللحديث علة أخرى ابن جريج أيضا مدلس، وقد عنعن، لكن الحمل فيه على بقية أولى. والله أعلم.
تنبيه: وقع في الأوسط تصريح بقية بالتحديث، وهو خطأ من شيخ الطبراني أو من هشام بن خالد فإنه كان يجعل ما رواه بقية ب «عن» «حدثنا» توهما، راجع ذلك في الميزان، وانظر «تفسير ابن كثير» 3/ 299 والشوكاني 1689 بتخريجنا.(3/254)
لَبِنَة من ذهب ولَبِنَة من فضة، وغرس غرسها بيده فقال لها: تكلَّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال لها: طوبى لكِ منزل الملوك» .
قال الفرّاء: «قد» ها هنا يجوز أن تكون تأكيداً لفلاح المؤمنين. ويجوز أن تكون تقريباً للماضي من الحال، لأن «قد» تقرِّب الماضي من الحال حتى تُلحقَه بحكمه، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة، قبل حال قيامها، فيكون معنى الآية: إِن الفلاح قد حصل لهم وإِنهم عليه في الحال. وقرأ أُبيّ بن كعب، وعكرمة، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرِّف: «قد أُفْلِحَ» بضم الألف وكسر اللام وفتح الحاء، على ما لم يُسمَّ فاعله. قال الزجاج: ومعنى الآية: قد نال المؤمنون البقاء الدائم في الخير. ومن قرأ: «قد أُفْلِحَ» بضم الألف، كان معناه: قد أُصيروا إِلى الفلاح. وأصل الخشوع في اللغة: الخضوع والتواضع. وفي المراد بالخشوع في الصلاة أربعة أقوال: «1» أحدها: أنه النظر إِلى موضع السجود.
(1014) روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا صلى رفع بصره إِلى السماء، فنزلت:
«الذين هم في صلاتهم خاشعون» فنكس رأسه. وإِلى هذا المعنى ذهب مسلم بن يسار، وقتادة.
والثاني: أنه تركُ الالتفات في الصلاة، وأن تُلين كنفك للرجل المسلم، قاله عليّ بن أبي طالب.
__________
ضعيف. أخرجه الحاكم 2/ 393 والواحدي في «أسباب النزول» 626 كلاهما عن ابن سيرين عن أبي هريرة، وهو حديث ضعيف. ففي الإسناد أبو شعيب الحراني عن أبيه، ولم أجد لهما ترجمة. وقال الحاكم:
صحيح على شرط الشيخين لولا خلاف فيه على محمد، فقد قيل عنه مرسلا. وصوب الذهبي الإرسال، وهو كما قال كذا رواه الثقات عند الطبري، ومع ذلك لا يصح رفعه. فقد أخرجه الطبري عن ابن سيرين قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم ... ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فالصواب موقوف. وأخرجه الطبري 25414 بسند صحيح عن ابن سيرين مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وكرره 25416 من وجه آخر عن ابن سيرين قال: نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ... وهذا ضعيف لجهالة المنبئ لابن سيرين. وانظر «أحكام القرآن» 1523، و «تفسير الشوكاني» 1693، والله الموفق.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله 9/ 198: الخشوع: التذلل والخضوع، ولم يكن الله تعالى ذكره دلّ على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خبر، فكان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم، وتأويل الكلام على ذلك أنه: والذين هم في صلاتهم متذللون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته، وإذا تذلل لله فيها العبد رؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه، وشغله بفرضه وتركه ما أمر بتركه فيها.(3/255)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
والثالث: أنه السكون في الصلاة، قاله مجاهد، وإِبراهيم، والزهري. والرابع: أنه الخوف، قاله الحسن. وفي المراد باللغو ها هنا خمسة أقوال: أحدها: الشِّرك، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: الباطل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: المعاصي، قاله الحسن. والرابع:
الكذب: قاله السدي. والخامس: الشتم والأذى الذي كانوا يسمعونه من الكفار، قاله مقاتل. قاله الزجاج: واللغو: كل لعب ولهو، وكل معصية فهي مطَّرَحة مُلغاة. فالمعنى شغلهم الجِدُّ فيما أمرهم الله به عن اللغو.
قوله تعالى: لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي: مؤدُّون «1» ، فعبَّر عن التأدية بالفعل، لأنه فعل.
قوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ قال الفراء: «على» بمعنى «مِنْ» . وقال الزجاج: المعنى: أنهم يُلامون في إِطلاق ما حُظر عليهم وأُمروا بحفظه «2» ، إِلا على أزواجهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فإنهم لا يُلامون. قوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغى أي: طَلَب وَراءَ ذلِكَ أي: سوى الأزواج والمملوكات فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ يعني الجائرين الظالمين، لأنهم قد تجاوزوا إلى ما لا يَحلُّ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ قرأ ابن كثير: «لأمانتهم» وهو اسم جنس، والمعنى: للأمانات التي ائتُمنوا عليها، فتارة تكون الأمانة بين العبد وبين ربِّه، وتارة تكون بينه وبين جنسه، فعليه مراعاة الكُلِّ. وكذلك العهد. ومعنى راعُونَ: حافظون.
قال الزجاج: وأصل الرعي في اللغة: القيام على إِصلاح ما يتولاَّه الراعي من كلّ شيء. قوله تعالى:
على صلاتهم قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «صَلَواتِهِمْ» على الجمع. وقرأ حمزة، والكسائي: «صلاتِهم» على التوحيد، وهو اسم جنس. والمحافظة على الصلوات: أداؤها في أوقاتها.
قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ذكر السدي عن أشياخه أن الله تعالى يرفع للكفار الجنة، فينظرون إِلى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا، ثم تقسم بين المؤمنين فيرِثونهم، فذلك قوله: «أولئك هم الوارثون» . وقد شرحنا هذا في الأعراف «3» عند قوله: أُورِثْتُمُوها، وشرحنا معنى الفردوس في الكهف «4» .
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 13]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13)
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 300: وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ الأكثرون على أن المراد بالزكاة ها هنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة.
والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات الأنصبة. والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة، كما قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ. وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ها هنا زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وكقوله وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ فصلت: 6 على أحد القولين في تفسيرها، وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا، وهذا، والله أعلم.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 300: والذين حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلّها الله لهم، وما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج، وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة، قال فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين وقد قال: فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ.
(3) سورة الأعراف: 43. [.....]
(4) سورة الكهف: 107.(3/256)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فيه قولان: أحدهما: أنه آدم عليه السلام. وإِنما قيل: «مِنْ سُلالة» لأنه استُلَّ من كل الأرض، هذا مذهب سلمان الفارسي، وابن عباس في رواية، وقتادة.
والثاني: أنه ابن آدم، والسُّلالة: النطفة استُلَّت من الطين، والطين: آدم عليه السلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: والسُّلالة: فُعالة، وهي القليل مما يُنْسَل، وكل مبنيٍّ على «فُعالة» يراد به القليل، من ذلك: الفُضالة، والنُّخَالة، والقُلامة.
قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ يعني: ابن آدم نُطْفَةً فِي قَرارٍ وهو الرَّحِم مَكِينٍ أي: حريز، قد هيّئ لاستقراره فيه. وقد شرحنا في سورة الحج «1» معنى النُّطفة والعَلقة والمُضغة.
قوله تعالى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «عظاماً فكسونا العظام» على الجمع. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «عظما فسكونا العَظْم» على التوحيد.
قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ هذه الحالة السّابعة. قال عليّ رضي الله عنه لا تكون موؤودة حتى تمرَّ على التارات السبع. وفي محل هذا الإِنشاء قولان: أحدهما: أنه بطن الأم. ثم في صفة الإِنشاء قولان: أحدهما: أنه نفخ الروح فيه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، والشعبي، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك في آخرين. والثاني: أنه جعْله ذكراً أو أنثى، قاله الحسن. والقول الثاني: أنه بعد خروجه من بطن أُمه. ثم في صفة هذا الإِنشاء أربعة أقوال: أحدها: أن ابتداء ذلك الإِنشاء أنه استُهلَّ، ثم دُلَّ على الثدي، وعُلِّم كيف يبسط رجليه إِلى أن قعد، إِلى أن قام على رجليه، إِلى أن مشى، إِلى أن فُطم، إِلى أن بلغ الحُلُم، إِلى أن تقلَّب في البلاد، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه استواء الشباب، قاله ابن عمر، ومجاهد. والثالث: أنه خروج الأسنان والشَّعْر، قاله الضحاك، فقيل له: أليس يولَد وعلى رأسه الشعر؟ فقال: وأين العانة والإِبط؟. والرابع: أنه إِعطاء العقل والفهم، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أي: استحق التعظيم والثناء. وقد شرحنا معنى «تبارك» في الأعراف «2» أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي: المصوِّرين والمقدِّرين. والخَلْق في اللغة: التقدير. وجاء في الحديث.
(1015) أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية وعنده عمر، إِلى قوله تعالى: خَلْقاً آخَرَ، فقال عمر: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لقد خُتمتْ بما تكلمتَ به يا ابن الخطّاب» .
__________
ضعيف. أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن صالح أبي الخليل كما في «الدر» 5/ 11، وصالح أبو الخليل في عداد تابع التابعين، فالخبر واه. وأخرجه الطيالسي 41 ومن طريقه الواحدي 627 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 304 عن أنس عن عمر به، من حديثه. «وافقت ربي في أربع ... »
فذكره منها والوهن فيه فقط في الفقرة الأخيرة وهي ما يتعلق بهذه الآية. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف روى مناكير كثيرة، ولا يحتج بما ينفرد به.
وأصل الحديث في الصحيحين دون الموافقة المذكورة في هذه الآية. وانظر «تفسير الشوكاني» 1700 و «تفسير ابن كثير» 3/ 304 و «تفسير القرطبي» 4460 جميعا بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) سورة الحج: 5.
(2) سورة الأعراف: 54.(3/257)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ وقوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ «1» .
فالجواب: أن الخلق يكون بمعنى الإِيجاد، ولا موجِد سوى الله، ويكون بمعنى التقدير، كقول زهير:
وبعض القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي «2»
فهذا المراد ها هنا، أن بني آدم قد يصوِّرون ويقدِّرون ويصنعون الشيء، فالله خير المصوِّرين والمقدِّرين. وقال الأخفش: الخالقون ها هنا هم الصانعون، فالله خير الخالقين.
قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد ما ذُكر من تمام الخَلْق لَمَيِّتُونَ عند انقضاء آجالكم.
وقرأ أبو رزين العقيلي، وعكرمة، وابن أبي عبلة: «لمائتون» بألف. قال الفراء: والعرب تقول لمن لم يمت: إِنك مائت عن قليل، وميت، ولا يقولون للميت الذي قد مات: هذا مائت، إِنما يقال في الاستقبال فقط، وكذلك يقال: هذا سيِّد قومه اليوم، فاذا أخبرتَ أنه يسودهم عن قليل، قلتَ: هذا سائد قومه عن قليل، وكذلك هذا شريف القوم، وهذا شارف عن قليل وهذا الباب كلُّه في العربية على ما وصفتُ لك.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 الى 20]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ يعني: السموات السبع، قال الزجاج: كل واحدة طريقة. وقال ابن قتيبة: إِنما سميت «طرائق» بالتَّطارق، لأن بعضها فوق بعض، يقال: طارقتُ الشيء:
إِذا جعلتَ بعضه فوق بعض.
قوله تعالى: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما غفلنا عنهم إِذ بنينا فوقهم سماءً أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب. والثاني: ما كنا تاركين لهم بغير رزق، فأنزلنا المطر.
والثالث: لم نغفُل عن حفظهم من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم. قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ يعلمه الله، وقال مقاتل: بقدر ما يكفيهم للمعيشة.
__________
(1) سورة فاطر: 3.
(2) هو جزء من بيت لزهير بن أبي سلمى وتمامه:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري
وهو في «اللسان» - خلق- و «شرح ديوان زهير» 94.(3/258)
قوله تعالى: وَشَجَرَةً هي معطوفة على قوله: جَنَّاتٍ. وقرأ أبو مجلز، وابن يعمر، وإِبراهيم النخعي: «وشجرةٌ» بالرفع. والمراد بهذه الشجرة: شجرة الزيتون.
فإن قيل: لماذا خص هذه الشجرة من بين الشجر؟ فالجواب من أربعة أوجه:
أحدها: لكثرة انتفاعهم بها، فذكَّرهم من نِعَمِه ما يعرفون، وكذلك خص النخيل والأعناب في الآية الأولى، لأنهما كانا جُلَّ ثمار الحجاز وما والاها، وكانت النخيل لأهل المدينة، والأعناب لأهل الطائف. والثاني: لأنهم لا يكادون يتعاهدونها بالسقي، وهي تُخرج الثمرة التي يكون منها الدُّهن.
والثالث: أنها تنبت بالماء الذي هو ضد النار، وفي ثمرتها حياة للنار ومادة لها. والرابع: لأن أول زيتونة نبتت بذلك المكان فيما زعم مقاتل.
قوله تعالى: طُورِ سَيْناءَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، «طور سِيناء» مكسورة السين، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، مفتوحة السين، وكلُّهم مدَّها. قال الفراء: العرب تقول:
سَيناء، بفتح السين في جميع اللغات، إِلا بني كنانة، فإنهم يكسرون السين. قال أبو علي: ولا تنصرف هذه الكلمة، لأنها جُعلت اسماً لبقعة أو أرض، وكذلك «سينين» ولو جعلت اسما للمنزل أو للمكان أو نحو ذلك من الأسماء المذكَّرة لصُرفت، لأنك كنت قد سمَّيت مذكَّراً بمذكَّر. والطُّور: الجبل. وفي معنى «سَيْناء» خمسة أقوال: أحدها: أنه بمعنى الحسن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال الضحاك:
«الطور» : الجبل بالسريانية، و «سَيْناء» : الحسن بالنبطية. وقال عطاء: يريد: الجبل الحسن. والثاني:
أنه المبارك، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه اسم حجارة بعينها، أضيف الجبل إِليها لوجودها عنده، قاله مجاهد. والرابع: أن طور سيناء: الجبل المشجَّر، قاله ابن السائب. والخامس: أن سيناء:
اسم المكان الذي به هذا الجبل، قاله الزجاج قال الواحدي: وهو أصح الأقوال «1» قال ابن زيد:
وهذا هو الجبل الذي نودي منه موسى، وهو بين مصر وأيلة.
قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «تُنْبِت» برفع التاء وكسر الباء. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وضم الباء. قال الفراء: وهما لغتان: نبتت وأنبتت، وكذلك قال الزجاج: يقال: نبت الشجر وأنبت في معنى واحد، قال زهير:
رأيتُ ذَوِي الحاجاتِ حَوْلَ بُيُوتِهم ... قَطِيناً لهم حتى إِذا أَنْبَتَ البَقْلُ «2»
قال: ومعنى «تَنْبُتُ بالدُّهْن» : تنبت ومعها دهن، كما تقول: جاءني زيد بالسيف، أي: جاءني ومعه السيف. وقال أبو عبيدة: معنى الآية: تنبت الدهنَ، والباء زائدة، كقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ «3» وقد بيَّنَّا هذا المعنى هناك.
قوله تعالى: وَصِبْغٍ وقرأ ابن مسعود، وابن مسعود، وابن يعمر، وإِبراهيم النخعي، والأعمش: «وصِبْغاً» بالنصب. وقرأ ابن السميفع: «وصِبَاغٍ» بألف مع الخفض. قال ابن قتيبة: الصِّبغ مِثْل الصِّباغ، كما يقال: دِبْغ ودِبَاغ، ولِبْس ولِبَاس. قال المفسّرون: والمراد بالصّبغ ها هنا: الزّيت، لأنه
__________
(1) وهو اختيار الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 208 وقال: إنه الجبل الذي نودي منه موسى صلى الله عليه وسلّم وهو مع ذلك مبارك، لا أن معنى سيناء معنى مبارك.
(2) في «اللسان» : القطينة، سكن الدار.
(3) سورة الحج: 25.(3/259)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
يلوِّن الخبزَ إِذا غُمس فيه، والمراد أنه إدام يصبغ به.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 الى 22]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم:
«نَسْقِيكُم» بفتح النون. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بضمها.
وقد شرحنا هذا في النحل «1» إِلى قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ يعني: في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها وَمِنْها تَأْكُلُونَ من لحومها وأولادها والكسب عليها. قوله تعالى:
عَلَيْها
يعني: الإبل خاصّة عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
فالإِبل تحمل في البَرِّ والسفن تحمل في البحر.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 44]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32)
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ قال المفسّرون: هذا تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بذكر هذا
__________
(1) سورة النحل: 66.(3/260)
الرسول الصابر ليتأسَّى به في صبره، وليعلم أن الرسل قبله قد كُذِّبوا.
قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي: يعلوكم بالفضيلة، فيصير متبوعاً، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أن لا يُعبَد شيء سواه لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً تبلّغ عنه أمره، لم يرسل بشراً ما سَمِعْنا بِهذا الذي يدعونا إِليه نوح من التوحيد فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ. فأما الجِنَّةُ فمعناها: الجنون.
وفي قوله: حَتَّى حِينٍ قولان: أحدهما: أنه الموت، فتقديره: انتظروا موته. والثاني: أنه وقت منكَّر. قوله تعالى: قالَ رَبِّ انْصُرْنِي وقرأ عكرمة، وابن محيصن: «قال ربُّ» بضم الباء، وفي القصّة الأخرى. قوله تعالى: بِما كَذَّبُونِ وقرأ يعقوب: «كذَّبوني» بياء، وفي القصة التي تليها أيضاً:
«فاتقوني» «أن يحضروني» «ربّ ارجعوني» «ولا تكلّموني» أثبتهن في الحالين يعقوب، والمعنى:
انصرني بتكذيبهم، أي: انصرني بإهلاكهم جزاءً لهم بتكذيبهم. فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ قد شرحناه في هود «1» إِلى قوله: فَاسْلُكْ فِيها أي: أدخل في سفينتك مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «من كلِّ» بكسر اللام من غير تنوين. وقرأ حفص عن عاصم: مِنْ كُلٍّ بالتنوين. قال أبو علي: قراءة الجمهور إِضافة «كلّ» إِلى «زوجين» وقراءة حفص تؤول إِلى زوجين، لأن المعنى: من كل الأزواج زوجين. قوله تعالى:
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «مُنْزَلاً» بضم الميم. وروى أبو بكر عن عاصم فتحها. والمَنزِلُ، بفتح الميم: اسم لكل ما نزلتَ به، والمُنْزَلُ، بضمها: المصدر: بمعنى الإِنزال، تقول: أنزلتُه إِنزالاً ومُنْزَلاً. وفي الوقت الذي قال فيه نوح ذاك قولان: أحدهما: عند نزوله في السفينة. والثاني: عند نزوله من السفينة.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في قصة نوح وقومه لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا أي: وما كنا لَمُبْتَلِينَ أي: لمختبرين إِياهم بإرسال نوح إِليهم. ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ يعني عاداً فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وهو هود، هذا قول الأكثرين وقال أبو سليمان الدمشقي: هم ثمود، والرسول صالح. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ قال الزجاج: موضع «أنَّكم» نصب على معنى: أَيَعِدُكُمْ أنَّكم مخرجون إِذا مِتُّم فلما طال الكلام أُعيد ذِكْر «أنَّ» كقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «2» .
قوله تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: هَيْهاتَ هَيْهاتَ بفتح التاء فيهما في الوصل، وإسكانها في الوقف. وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو مجلز، وهارون عن أبي عمرو: «هيهاتاً هيهاتاً» بالنصب والتنوين. وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري، وأبو حيوة الحضرمي، وابن السميفع: «هيهاتٌ هيهاتٌ» بالرفع والتنوين. وقرأ أبو العالية، وقتادة: «هيهاتٍ هيهاتٍ» بالخفض والتنوين. وقرأ أبو جعفر: «هيهاتِ هيهاتِ» بالخفض من غير تنوين، وكان يقف بالهاء. وقرأ أبو المتوكل الناجي، وسعيد بن جبير، وعكرمة: «هيهاتُ هيهاتُ» بالرفع من غير تنوين، وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو رجاء، وخارجة عن أبي عمرو: «هيهات هيهات»
__________
(1) سورة هود: 37.
(2) سورة التوبة: 63.(3/261)
باسكان التاء فيهما. وفي «هيهات» عشر لغات قد ذكرنا منها سبعة عن القراء، والثامنة: «إِيهات» ، والتاسعة: «إِيهان» بالنون، والعاشرة: «إِيها» بغير نون، ذكرهن ابن القاسم وأنشد الأحوص في الجمع بين لغتين منهن:
تذكَّرُ أياماً مَضَيْن من الصِّبا ... وهيهاتِ هيهاتاً إِليك رجوعُها
قال الزجاج: فأما الفتح، فالوقف فيه بالهاء، تقول: «هيهاه» إِذا فتحت ووقفت بعد الفتح، فإذا كسرتَ ووقفتَ على التاء كنتَ ممن ينوِّن في الوصل، أو كنتَ ممن لا ينوِّن. وتأويل «هيهات» : البُعد لِما توعَدون. وإِذا قلتَ: «هيهات ما قلت» فمعناه: بعيد ما قلت. وإِذا قلتَ: «هيهات لما قلت» ، فمعناه: البعد لِما قلت. ويقال: «أيهات» في معنى «هيهات» ، وأنشدوا:
وأيهاتَ أيهاتَ العقِيقُ ومَنْ بهِ ... وأيهاتَ وصلٌ بالعقيقِ نُواصله
قال أبو عمرو بن العلاء: إِذا وقفت على «هيهات» فقل: «هيهاه» وقال الفراء: الكسائي يختار الوقف بالهاء، وأنا اختار التاء.
قوله تعالى: لِما تُوعَدُونَ قرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «ما تُوعَدُون» بغير لام. قال المفسرون: استبعد القومُ بعثهم بعد الموت إِغفالاً منهم للتفكُّر في بدوِّ أمرهم وقُدرة الله على إِيجادهم، وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبداً، إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يعنون: ما الحياة إِلا ما نحن فيه، وليس بعد الموت حياة. فإن قيل: كيف قالوا: نَمُوتُ وَنَحْيا وهم لا يقرُّون بالبعث؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها الزجاج: أحدها: نموت ويحيا أولادنا، فكأنهم قالوا: يموت قوم ويحيا قوم. والثاني: نحيا ونموت، لأن الواو للجمع، لا للترتيب. والثالث: أبتداؤنا موات في أصل الخلقة، ثم نحيا، ثم نموت.
قوله تعالى: إِنْ هُوَ يعنون الرسول. وقد سبق تفسير ما بعد هذا «1» إِلى قوله: قالَ عَمَّا قَلِيلٍ قال الزجاج: معناه: عن قليل، و «ما» زائدة بمعنى التوكيد.
قوله تعالى: لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ أي: على كفرهم، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ أي: باستحقاقهم العذاب بكفرهم. قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم، فصاروا لشدَّتها غُثاءً. قال أبو عبيدة: الغُثاء: ما أشبه الزَّبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك مما لا يُنتفَع به في شيء. وقال ابن قتيبة: المعنى: فجعلناهم هَلْكَى كالغُثاء، وهو ما علا السَّيل من الزَّبد والقَمش «2» ، لأنه يذهب ويتفرَّق. وقال الزجاج: الغُثاء: الهالك والبالي من ورق الشجر الذي إِذا جرى السَّيل رأيته مخالطاً زَبَده. وما بعد هذا قد سبق شرحه «3» إلى قوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر: «تترىً كلَّما» منونة والوقف بالألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بلا تنوين، والوقف عند نافع وابن عامر، بألف. وروى هبيرة، وحفص عن عاصم، أنه
__________
(1) سورة هود: 7، والنحل: 38.
(2) في «اللسان» القمش: الرديء من كل شيء، والجمع قماش: وهو ما كان على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذالة الناس: قماش. وقماش كل شيء: فتاته.
(3) سورة الحجر: 5. [.....](3/262)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
يقف بالياء قال أبو علي: يعني بقوله: يقف بالياء، أي: بألِفٍ مُمالة. قال الفراء: أكثر العرب على ترك التنوين، ومنهم من نوَّن، قال ابن قتيبة: والمعنى: نُتَابع بفترة بين كل رسولين، وهو من التَّواتر، والأصل: وَتْرَى، فقُلبت الواو تاءً كما قلبوها في التَّقوى والتخمة. وحكى الزجاج عن الأصمعي أنه قال: معنى واتَرْتُ الخَبرَ: أتْبَعْتُ بعضه بعضاً، وبين الخبرين هُنيَّة. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: ومما تضعه العامة غير موضعه قولهم: تواترتْ كتُبي إِليك، يعنون: اتصلتْ من غير انقطاع، فيضعون التواتر في موضع الاتصال، وذلك غلط، إِنما التواتر مجيء الشيء ثم انقطاعه ثم مجيئه، وهو التفاعل من الوِتر، وهو الفرد، يقال: واترتُ الخبر، أَتْبعتُ بعضه بعضاً، وبين الخبرين هُنَيهة قال الله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أصلها «وَتْرى» من المواترة فأبدلت التاء من الواو، ومعناه:
منقطعة متفاوتة، لأن بين كل نبيَّين دهراً طويلاً، وقال أبو هريرة: لا بأس بقضاء رمضان تترى، أي:
منقطعاً، فإذا قيل: واتر فلان كتبه، فالمعنى: تابعها، وبين كل كتابين فترة.
قوله تعالى: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي: أهلكنا الأمم بعضهم في إِثر بعض وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ قال أبو عبيدة: أي يُتمثَّل بهم في الشرِّ، ولا يقال في الخير: جعلته حديثا.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 48]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
قوله تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا أي: عن الإِيمان بالله وعبادته وَكانُوا قَوْماً عالِينَ أي: قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم. قوله تعالى: وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ أي: مطيعون. قال أبو عبيدة: كل من دان لملك فهو عابد له.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 49 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: التوراة، أُعطيها جملة واحدة بعد غرق فرعون لَعَلَّهُمْ يعني: بني إِسرائيل، والمعنى: لكي يهتدوا.
قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «آيتين» على التثنية، وهذا كقوله: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً «1» وقد سبق شرحه.
قوله تعالى: وَآوَيْناهُما أي: جعلناهما يأويان إِلى رَبْوَةٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «رُبوة» بضم الراء، وقرأ عاصم، وابن عامر: بفتحها. وقد شرحنا معنى الربوة في البقرة «2» ، ذاتِ قَرارٍ أي: مستوية يستقر عليها ساكنوها، والمعنى: ذات موضع قَرار. وقال الزجاج:
أي: ذات مستقَرّ وَمَعِينٍ وهو الماء الجاري من العيون. وقال ابن قتيبة: «ذات قرار» أي: يُستقَرُّ بها للعمارة «ومَعينٍ» هو الماء الظاهر، ويقال: هو مفعول من العين، كأنّ أصله معيون، كم يقال: ثوب
__________
(1) سورة الأنبياء: 91.
(2) سورة البقرة: 265.(3/263)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
مَخِيط، وبُرٌّ مَكِيل. واختلف المفسرون في موضع هذه الربوة الموصوفة على أربعة أقوال «1» : أحدها:
أنها دمشق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عبد الله بن سلام، وسعيد بن المسيب. والثاني: أنها بيت المقدس، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وعن الحسن كالقولين. والثالث: أنها الرملة من أرض فلسطين، قاله أبو هريرة. والرابع: مصر، قاله وهب بن منبه، وابن زيد، وابن السائب. فأما السبب الذي لأجله أَوَيَا إِلى الربوة، فقال أبو صالح عن ابن عباس: فرَّت مريم بابنها عيسى من ملكهم، ثم رجعت إِلى أهلها بعد اثنتي عشرة سنة. قال وهب بن منبه: وكان الملك أراد قتل عيسى.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة في آخرين: يعني بالرّسل ها هنا محمّدا صلى الله عليه وسلّم وحده، وهو مذهب العرب في مخاطبة الواحد خطاب الجميع، ويتضمن هذا أن الرسل جميعاً كذا أُمِروا، وإِلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة، والزجاج، والمراد بالطيِّبات: الحلال.
قال عمرو بن شرحبيل: كان عيسى عليه السلام يأكل من غَزْل أُمِّه.
قوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «وأنَّ» بالفتح وتشديد النون.
وافق ابنُ عامر في فتح الألف، لكنه سكَّن النون. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «وإِنَّ» بكسر الألف وتشديد النون. قال الفراء: من فتح، عطف على قوله: «إِني بما تعملون عليم» وبأنَّ هذه أمّتكم، فموضعها خفض لأنها مردودة على «ما» ، وإِن شئتَ كانت منصوبة بفعل مضمر، كأنك قلت: واعلموا هذا ومن كسر استأنف. قال أبو علي الفارسي: وأما ابن عامر، فإنه خفف النون المشدَّدة، وإِذا خُفِّفت تعلَّق بها ما يتعلَّق بالمشدَّدة. وقد شرحنا معنى الآية والتي بعدها في الأنبياء «2» إِلى قوله: زُبُراً وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني: «زُبَراً» برفع الزاي وفتح الباء. وقرأ أبو الجوزاء، وابن السميفع:
«زُبْراً» برفع الزاي وإِسكان الباء. قال الزجاج: من قرأ «زُبُراً» بضم الباء، فتأويله: جعلوا دينهم كُتُباً مختلفة، جمع زَبُور. ومن قرأ «زُبَراً» بفتح الباء، أراد قِطَعاً. قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي: بما عندهم من الدِّين الذي ابتدعوه مُعْجَبون، يرون أنهم على الحقّ. وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنهم أهل الكتاب، قاله مجاهد. والثاني: أنهم أهل الكتاب ومشركو العرب، قاله ابن السائب.
__________
(1) الصواب أنها بيت المقدس، ولا يعني اشتهار موضع في دمشق ب «الربوة» أن يكون هو ذلك الموضع، لأن الربوة تطلق على كل ما ارتفع من الأرض، وقد وصف الله تلك الربوة بأنها ذات قرار أي صالحة للاستقرار.
و «معين» أي فيها نبع ماء صالحة للشرب، وليس بالأمر اليسير انتقال مريم عليها السّلام من بيت المقدس إلى دمشق، ومن ذا الذي يوصلها إليه. فالصحيح أن ذلك كان في بيت المقدس أو في بيت لحم، وغير ذلك بعيد غريب، والله أعلم. فالصواب أنها لم تفارق موطنها الأصلي فلسطين، وبقيت في قومها وزكريا يحوطها ويرعاها، والله أعلم.
(2) سورة الأنبياء: 92.(3/264)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب: «في غمراتهم» على الجمع.
قال الزجاج: في عَمايتهم وحَيرتهم حَتَّى حِينٍ أي: إِلى حين يأتيهم ما وُعدوا به من العذاب. قال مقاتل: يعني كفار مكة.
فصل:
وهل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ فيها قولان: أحدهما: أنها منسوخة بآية السيف.
والثاني: أن معناها التهديد، فهي محكَمة.
قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ وقرأ عكرمة، وأبو الجوزاء: «يُمِدُّهم» بالياء المرفوعة وكسر الميم. وقرأ أبو عمران الجوني: «نَمُدُّهُم» بنون مفتوحة ورفع الميم. قال الزجاج: المعنى:
أيحسبون أن الذي نمدهم به مِنْ مالٍ وَبَنِينَ مجازاة لهم؟! إِنما هو استدراج، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أي:
نسارع لهم به في الخيرات. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وأيوب السختياني: «يُسَارِعُ» بياء مرفوعة وكسر الراء. وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكّل مثله، إلّا أنهما فتح الراء وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «يُسْرَعُ» بياء مرفوعة وسكون السين ونصب الراء من غير ألف. قوله تعالى:
بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي: لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 61]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
ثم ذكر المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وقد شرحنا هذا المعنى في قوله:
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ «1» .
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقرأ عاصم الجحدري: «يأتون ما أتوا» بقصر همزة «أتوا» .
(1016) وسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن هذه الآية فقالت: يا رسول الله، أهم الذين يُذنبون وهم مشفقون؟ فقال: «لا، بل هم الذين يصلُّون وهم مشفقون، ويصومون وهم مشفقون، ويتصدّقون
__________
حسن. أخرجه الترمذي 3175 وابن ماجة 4198 وأحمد 6/ 205 والطبري 25560 و 25562، والحاكم 2/ 394 والبيهقي في «الشعب» 762 من طريق عبد الرحمن بن سعيد الهمداني عن عائشة به. وإسناده ضعيف، رجاله رجال مسلم، إلا أنه منقطع، عبد الرحمن لم يدرك عائشة. وجرى الحاكم على ظاهره، فصححه! وسكت الذهبي! ووصله الطبري، فقد أخرجه 25559 من طريق عمر بن قيس عن عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم عن أبي هريرة عن عائشة، وإسناده ضعيف لضعف عمر بن قيس. وكرره 25561 من وجه آخر عن ليث عن مغيث عن رجل من أهل مكة عن عائشة، وإسناده ضعيف، فيه راو لم يسمّ. وكرره 25563 من طريق ليث وهشيم عن العوام بن حوشب عن عائشة، وهو ضعيف لانقطاعه بين عائشة والعوام. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 293 عن ليث عن عمرة عن عائشة، وإسناده ضعيف لضعف ليث، وهو ابن أبي سليم.
الخلاصة: هو حديث حسن صحيح، بمجموع طرقه، والله أعلم.
__________
(1) سورة الأنبياء: 28.(3/265)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
وهم مشفقون أن لا يُتقبَّل منهم» . قال الزجاج: فمعنى: «يؤتون» : يُعطون ما أَعْطَوا وهم يخافون أن لا يُتقبَّل منهم، أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي: لأنهم يوقنون أنهم يرجعون. ومعنى «يَأتون» : يعملون الخيرات وقلوبهم خائفة أن يكونوا مع اجتهادهم مقصِّرين، أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «يُسْرِعون» برفع الياء وإسكان السين وكسر الراء من غير ألف. قال الزجاج: يقال: أسرعت وسارعت في معنى واحد، إِلا أن «سارعت» أبلغ من «أسرعت» ، وَهُمْ لَها أي: من أجلها، وهذا كما تقول: أنا أُكرم فلاناً لك، أي: من أجلك. وقال بعض أهل العلم: الوجل المذكور ها هنا واقع على مضمر.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 الى 67]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
قوله تعالى: وَلَدَيْنا كِتابٌ يعني: اللوح المحفوظ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ قد أُثبت فيه أعمال الخلق، فهو ينطق بما يعملون وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي: لا يُنْقَصون من ثواب أعمالهم. ثم عاد إِلى الكفار، فقال:
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا قال مقاتل: في غفلة عن الإِيمان بالقرآن. وقال ابن جرير: في عمىً عن هذا القرآن. قال الزجاج: يجوز أن يكون إِشارة إِلى ما وصف من أعمال البِرِّ في قوله: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، فيكون المعنى: بل قلوب هؤلاء في عماية من هذا ويجوز أن يكو إِشارة إِلى الكتاب، فيكون المعنى: بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطق بالحقّ وأعماُلهم مُحْصَاةٌ فيه. فخرج في المشار إِليه ب «هذا» ثلاثة أقوال: أحدها: القرآن. والثاني: أعمال البِرِّ. والثالث: اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أعمال سيِّئة دون الشِّرك، رواه عكرمة عن ابن عباس: والثاني: خطايا من دون ذلك الحق، قاله مجاهد. وقال ابن جرير: من دون أعمال المؤمنين وأهل التقوى والخشية. والثالث: أعمالٌ غير الأعمال التي ذُكِروا بها سيعملونها، قاله الزجاج. والرابع: أعمال- من قبل الحين الذي قدَّر الله تعالى أنه يعذِّبهم عند مجيئه- من المعاصي، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: هُمْ لَها عامِلُونَ إِخبار بما سيعملونه من أعمالهم الخبيثة التي كُتبت عليهم لا بدَّ لهم من عملها.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي: أغنياءهم ورؤساءهم، والإِشارة إِلى قريش. وفي المراد «بالعذاب» قولان: أحدهما: ضرب السيوف يوم بدر، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. والثاني:
الجوع الذي عُذِّبوا به سبع سنين، قاله ابن السّائب. ويَجْأَرُونَ بمعنى: يصيحون. لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أي: لا تستغيثوا من العذاب إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي: لا تُمْنَعون من عذابنا. قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: القرآن فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي: ترجعون وتتأخَّرون عن الإِيمان بها، مُسْتَكْبِرِينَ منصوب على الحال. وقوله: بِهِ الكناية عن البيت الحرام، وهي كناية عن غير مذكور والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم، لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في(3/266)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
مواطنهم. تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف أحداً، ونحن أهل بيت الله وَوُلاتُه، هذا مذهب ابن عباس وغيره. قال الزجاج: ويجوز أن تكون الهاء في «به» للكتاب، فيكون المعنى: تُحدث لكم تلاوتُه عليكم استكباراً. قوله تعالى: سامِراً قال أبو عبيدة: معناه: تَهْجُرون سُمَّاراً، والسامر بمعنى السُّمَّار، بمنزلة طفل في موضع أطفال، وهو من سَمَر الليل. وقال ابن قتيبة: «سامراً» أي: متحدِّثين ليلاً، والسَّمَر: حديث الليل. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو العالية، وابن محيصن: «سُمَّراً» بضم السين وتشديد الميم وفتحها، جمع سامر. قرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري: «سُمَّاراً» برفع السين وتشديد الميم وألف بعدها. قوله تعالى: تَهْجُرُونَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تَهجُرون» بفتح التاء وضم الجيم. وفي معناها أربعة أقوال: أحدها: تهجرون ذِكْرَ الله والحقَّ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: تهجرون كتاب الله تعالى ونبيّه صلى الله عليه وسلّم، قاله الحسن.
والثالث: تهجرون البيت، قاله أبو صالح. وقال سعيد بن جبير: كانت قريش تَسْمُر حول البيت، وتفتخر به ولا تطوف به. والرابع: تقولون هُجْراً من القول، وهو اللغو والهَذَيان، قاله ابن قتيبة. قال الفراء: يقال: قد هَجَر الرجل في منامه: إِذا هذى، والمعنى: إِنكم تقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما ليس فيه وما لا يَضُرُّه. وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن محيصن، ونافع: «تُهْجِرُون» بضم التاء وكسر الجيم. قال ابن قتيبة: وهذا من الهُجْر، وهو السَّبُّ والإِفحاش من المنطق، يريد سبّهم للنبيّ صلى الله عليه وسلّم ومن اتَّبعه. وقرأ أبو العالية، وعكرمة، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: «تُهَجِّرُون» بتشديد الجيم ورفع التاء قال ابن الأنباري: ومعناها معنى قراءة ابن عباس.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 الى 70]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)
قوله تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ يعني: القرآن، فيعرفوا ما فيه من الدلالات والعِبَر على صدق رسولهم أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ المعنى: أليس قد أُرسل الأنبياء إلى أممهم كما أرسل محمّد صلى الله عليه وسلّم؟! أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ هذا توبيخ لهم، لأنهم عرفوا نسبه وصدقه وأمانته صغيراً وكبيراً ثم أعرضوا عنه. والجِنَّة: الجنون، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ يعني القرآن.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 71 الى 73]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
قوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ في المراد بالحقّ قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ، قاله مجاهد، وابن جريج، والسدي في آخرين. والثاني: أنه القرآن، ذكره الفراء، والزجاج. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو جعل الله لنفسه شريكاً كما يحبُّون. وعلى الثاني: لو نزَّل القرآن بما يحبُّون من جعل شريك لله لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي: فما فيه شرفهم وفخرهم وهو القرآن فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أي: قد تولَّوا عما جاءهم من شرف الدنيا والآخرة. وقرأ ابن(3/267)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
مسعود، وأُبيّ بن كعب، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «بل أتيناهم بذكراهم فهم عن ذكراهم مُعْرِضون» بألف فيهما. أَمْ تَسْأَلُهُمْ عمّا جئتَهم به خَرْجاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: «خَرْجاً» بغير ألف «فخراج» بألف. وقرأ ابن عامر: «خَرْجاً» «فخَرْج» بغير ألف في الحرفين. وقرأ حمزة والكسائي «خراجاً» بألف «فخراج» بألف في الحرفين. ومعنى «خَرْجاً» : أجراً ومالاً، فَخَراجُ رَبِّكَ أي فما يُعطيك ربُّك من أجره وثوابه خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي: أفضل من أعطى وهذا على سبيل التنبيه لهم أنه لم يسألهم أجراً، لا أنه قد سألهم. والناكب: العادل يقال: نَكَبَ عن الطريق، أي:
عدل عنه.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 74 الى 77]
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
قوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ.
(1017) قال ابن عباس: الضّرّ ها هنا: الجوع الذي نزل بأهل مكة حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «اللهم أَعِنِّي على قريش بسنين كَسِنِيِّ يوسف» ، فجاء أبو سفيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فشكا إِليه الضُّرَّ، وأنهم قد أكلوا القِدَّ «1» والعظام، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، وهو العذاب المذكور في قوله:
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم بدر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنَّهُ الجوع الذي أصابهم، قاله مقاتل. والثالث: بابٌ من عذاب جهنم في الآخرة، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: «مبلَسون» بفتح اللام. وقد شرحنا معنى المُبلس في سورة الأنعام.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 85]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85)
__________
أخرجه الطبري 25633 عن ابن عباس به، وفيه يحيى بن واضح، وفيه كلام، وعبد المؤمن بن عثمان غير قوي. وورد من وجه آخر بنحوه عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا العلهز- يعني الوبر، والدم- فأنزل الله وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ....
أخرجه النسائي في «الكبرى» 11352 وفي «التفسير» 372 والطبري 25632 والواحدي 629 والطبراني 11/ 370 ح 12038 والحاكم 2/ 394 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 90 من وجوه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس به، وهو حديث حسن بطرقه. ويشهد لأصله ما أخرجه البخاري 4824 ومسلم 2798 والترمذي 3254 وأحمد 1/ 380 من حديث ابن مسعود وفيه « ... اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ... » .
__________
(1) في «اللسان» : القدّ: السير الذي يقدّ من الجلد.(3/268)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ قال المفسرون: يريد أنهم لا يشكرون أصلاً.
قوله تعالى: ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: خلقكم من الأرض.
قوله تعالى: وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: هو الذي جعلهما مختلفَين يتعاقبان ويختلفان في السّواد والبياض أَفَلا تَعْقِلُونَ مال ترون مِنْ صُنعه؟! وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ أي: قل لأهل مكة المكذِّبين بالبعث: لِمَن الأرض وَمَنْ فِيها مِن الخَلْق إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بحالها، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قرأ أبو عمرو: «لله» بغير ألف ها هنا، وفي اللَّذَين بعدها بألف. وقرأ الباقون:
«لله» في المواضع الثلاثة. وقراءة أبي عمرو على القياس. قال الزجاج: ومن قرأ: «سيقولون الله» فهو جواب السؤال، ومن قرأ «لله» فجيّد أيضاً، لأنك إِذا قلتَ مَنْ صاحبُ هذه الدار؟ فقيل: لزيد، جاز، لأن معنى «مَن صاحب هذه الدار؟» : لمن هي؟ وقال أبو علي الفارسي: من قرأ «لله» في الموضعين الآخَرين، فقد أجاب على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «سيقولون الله» «الله» «الله» بألف فيهن كلِّهن. قال أبو علي الأهوازي: وهو في مصاحف أهل البصرة بألف فيهن. قوله تعالى: قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء، أقدر على إحياء الأموات؟!
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 86 الى 89]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
قوله تعالى: أَفَلا تَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: تتقون عبادة غيره. والثاني: تخشَون عذابه. فأما الملكوت، فقد شرحناه في سورة الأنعام «1» .
قوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي: يمنع من السوء من شاء، ولا يمنع منه من أراده بسوء، يقال: أَجَرْتُ فلاناً: أي: حميته، وأجرتُ عليه: أي: حميت عنه.
قوله تعالى: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ قال ابن قتيبة: أنَّى تُخْدَعون وتُصْرَفون عن هذا؟!.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 90 الى 92]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
__________
(1) سورة الأنعام: 75.(3/269)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
قوله تعالى: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ أي: بالتوحيد والقرآن وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يُضِيفون إِلى الله من الولد والشريك ثم نفاهما عنه بما بعد هذا إِلى قوله: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي: لانفرد بخَلْقِه ولم يرض أن يُضاف خَلْقُه وإِنعامه إِلى غيره، ولمنع الإِله الآخر عن الاستيلاء على ما خَلَق وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي: غلب بعضهم بعضاً. قوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «عالمِ» بالخفض. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «عالمُ» بالرفع. قال الأخفش: الجرُّ أجود ليكون الكلام من وجه واحد، والرفع على أن يكون خبر ابتداء محذوف. ويقوِّيه أن الكلام الأول قد انقطع.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 98]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
قوله تعالى: إِمَّا تُرِيَنِّي وقرأ أبو عمران الجوني، والضحاك: «تُرئَنِّي» بالهمز بين الراء والنون من غير ياء. والمعنى: إِن أريتني ما يوعَدون من القتل والعذاب، فاجعلني خارجاً عنهم ولا تهلكني بهلاكهم فأراهم الله تعالى ما وعدهم ببدر وغيرها، ونجّاه ومن معه.
قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فيه أربعة أقوال: أحدها: ادفع إِساءة المسيءِ بالصفح، قاله الحسن. والثاني: ادفع الفُحش بالسلام، قاله عطاء، والضحاك. والثالث: ادفع الشِّرك بالتوحيد، قاله ابن السائب. والرابع: ادفع المنكَر بالموعظة، حكاه الماوردي. وذكر بعض المفسرين أن هذا منسوخ بآية السيف «1» .
قوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي: بما يقولون من الشِّرك والتكذيب والمعنى: إِنَّا نجازيهم على ذلك. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ أي: ألجأ وأمتنع بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ قال ابن قتيبة: هو نَخْسُها وطَعْنُها، ومنه قيل للعائب: هُمَزَةٌ، كأنه يطعن ويَنْخَس إِذا عاب. وقال ابن فارس: الهَمْزُ كالعَصْر، يقال: همزتُ الشيء في كفِّي، ومنه الهَمْز في الكلام، لأنه كأنه يضغط الحرف، وقال غيره:
الهَمْز في اللغة: الدَّفع، وهَمَزات الشياطين: دَفْعُهم بالإِغواء إِلى المعاصي.
قوله تعالى: أَنْ يَحْضُرُونِ أي: أن يَشْهَدُون والمعنى: أن يصيبوني بسوءٍ، لأن الشيطان لا يحضر ابن آدم إِلا بسوءٍ. ثم أخبر أن هؤلاء الكفار المنكِرين للبعث يسألون الرجعة إِلى الدنيا عند الموت بالآية التي تلي هذه، وقيل: هذا السؤال منهم للملائكة الذين يقبضون أرواحهم.
فإن قيل: كيف قال: «ارجعون» وهو يريد: «ارجعني» ؟
فالجواب: أن هذا اللفظ تعرفه العرب للعظيم الشأن، وذلك أنه يخبر عن نفسه فيه بما تخبر به الجماعة، كقوله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ «2» ، فجاء خطابه عن نفسه، هذا قول الزّجّاج.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 104]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104)
__________
(1) وهي مطلع سورة براءة- التوبة.
(2) سورة ق: 43.(3/270)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
قوله تعالى: لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ قال ابن عباس: فيما مضى من عُمُري وقال مقاتل:
فيما تركت من العمل الصالح. قوله تعالى: كَلَّا أي: لا يرجع إِلى الدنيا إِنَّها يعني: مسألته الرجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي: هو كلام لا فائدة له فيه وَمِنْ وَرائِهِمْ أي: أمامهم وبين أيديهم بَرْزَخٌ قال ابن قتيبة: البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة، وكل شيء بين شيئين فهو برزخ. وقال الزجاج:
البرزخ في اللغة: الحاجز، وهو ها هنا: ما بين موت الميت وبعثه.
قوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ في هذه النفخة قولان: أحدهما: أنها النفخة الأولى، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنها الثانية، رواه عطاء عن ابن عباس.
قوله تعالى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ في الكلام محذوف، تقديره: لا أنساب بينهم يومئذ يتفاخرون بها أو يتقاطعون بها، لأن الأنساب لا تنقطع يومئذ، إنما يرفع التّواصل والتّفاخر بها.
وفي قوله: وَلا يَتَساءَلُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يتساءلون بالأنساب أن يترك بعضهم لبعض حَقَّه. والثاني: لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه، لاشتغال كل واحد بنفسه. والثالث: لا يسأل بعضهم بعضاً من أي قبيل أنت، كما تفعل العرب لتعرف النسب فتعرف قدر الرجل. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إِلى قوله: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قال الزجاج: تلفح وتنفح بمعنىً واحد، إِلا أن اللفح أعظم تأثيراً، والكالح: الذي قد تشمَّرت شفته عن أسنانه، نحو ما ترى من رؤوس الغنم إِذا برزت الأسنان وتشمَّرت الشفاه. وقال ابن مسعود: قد بدت أسنانهم وتقلّصت شفاهم كالرأس المشيط بالنار.
(1018) وروى أبو عبد الله الحاكم في ( «صحيحه» ) من حديث أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال في هذه الآية: «تشويه النار فتقلِّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته الشّفلى حتى تبلغ سرّته» .
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 111]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)
__________
ضعيف. أخرجه الترمذي 3176 والحاكم 2/ 395 من حديث أبي سعيد، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه الحاكم! واعترضه الذهبي على أن الكلام على إسناده تقدم اه. وإسناده ضعيف لأجل دراج، فإنه روى عن أبي الهيثم أحاديث مناكير، كما ذكر العلماء وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» 4480 بتخريجنا.(3/271)
قوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ المعنى: ويقال لهم: ألم تكن آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: القرآن. قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «شِقوتُنا» بكسر الشين من غير ألف، وقرأ عمرو بن العاص، وأبو رزين العقيلي، وأبو رجاء العطاردي كذلك، إِلا أنه بفتح الشين. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والأعمش، وحمزة، والكسائي: «شَقَاوتُنا» بألف مع فتح الشين والقاف وعن الحسن، وقتادة كذلك، إِلا أن الشين مكسورة. قال المفسرون: أقرَّ القوم بأنَّ ما كُتب عليهم من الشقاء منعهم الهدى. قوله تعالى: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها أي: من النار. قال ابن عباس: طلبوا الرجوع إِلى الدنيا فَإِنْ عُدْنا أي: إلى الكفر والمعاصي.
قوله تعالى: اخْسَؤُا قال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط، يقال: خَسَأْتُ الكلب أَخْسَؤه: إِذا زجرتَه ليتباعد. قوله تعالى: وَلا تُكَلِّمُونِ أي: في رفع العذاب عنكم. قال عبد الله بن عمرو: إِن أهل جهنم يدعون مالكاً أربعين عاماً، فلا يجيبهم، ثم يقول: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ «1» ، ثم ينادون ربَّهم:
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فيدعهم مثل عمر الدنيا، ثم يقول: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ثم ينادون ربَّهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فيدعهم مثل عمر الدنيا، ثم يردّ عليهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ فما ينبس القومُ بعد ذلك بكلمة إِن كان، إِلا الزفير والشهيق.
ثم بيَّن الذي لأجله أخسأهم بقوله: إِنَّهُ وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «أنَّه» بفتح الهمزة كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي قال ابن عباس: يريد المهاجرين.
قوله تعالى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ قال الزجاج: الأجود إِدغام الذال في التاء لقرب المخرجين، وإِن شئتَ أظهرتَ، لأن الذال من كلمة والتاء من كلمة والتاء، من كلمة، وبين الذال والتاء في المخرج شيء من التباعد. قوله تعالى: سِخْرِيًّا قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو حاتم عن يعقوب: «سخريّا» بضمّ السين ها هنا وفي سورة ص «2» ، تابعهم المفضل في ص. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: بكسر السين في السورتين. ولم يختلف في ضم السين في الحرف الذي في الزخرف. واختار الفراء الضم، والزجاج الكسر. وهل هما بمعنىً؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما لغتان ومعناهما واحد، قاله الخليل، وسيبويه، ومثله قول العرب: بحر لُجِّيٌّ ولِجِيٌّ، وكوكبٌ دُرِيٌّ ودِرِّيٌّ. والثاني: أن الكسر بمعنى الهمز، والضمّ بمعنى السّخرة والاستبعاد، قاله أبو عبيدة، وحكاه الفراء، وهو مروي عن الحسن، وقتادة. قال أبو علي: قراءة من كسر أرجح من قراءة من ضمّ، لأنه من الهزء، والأكثر في الهزء كسر السين.
(1019) قال مقاتل: كان رؤوس كفار قريش كأبي جهل وعقبة والوليد قد اتخذوا فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كعمَّار وبلال وخبَّاب وصهيب سِخْرِيّاً يستهزئون بهم ويضحكون منهم.
قوله تعالى: حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي: أنساكم الاشتغال بالاستهزاء بهم ذِكْري، فنسب الفعل إلى
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.
__________
(1) سورة الزخرف: 77.
(2) سورة ص: 63.(3/272)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
المؤمنين وإِن لم يفعلوه، لأنهم كانوا السبب في وجوده، كقوله: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» .
قوله تعالى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي: على أذاكم واستهزائكم أَنَّهُمْ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: «أنَّهم» بفتح الألف. وقرأ حمزة والكسائي: «إِنَّهم» بكسرها. فمن فتح «أنَّهم» فالمعنى: جزيتُهم بصبرهم الفور، ومن كسر «إنهم» ، استأنف.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «قال كم لبثتم» وهذا سؤال الله تعالى للكافرين. وفي وقته قولان: أحدهما: أنه يسألهم يوم البعث. والثاني: بعد حصولهم في النار. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: «قل كم لبثتم» وفيها قولان: أحدهما: أنه خطاب لكل واحد منهم، والمعنى: قل يا أيها الكافر. والثاني: أن المعنى: قولوا، فأخرجه مخرج الأمر للواحد، والمراد الجماعة، لأن المعنى مفهوم. وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي يدغمون ثاء «لبثتم» ، والباقون لا يدغمونها فمن أدغم، فلتقارب مخرج الثاء والتاء، ومن لم يدغم، فلتباين المخرجين.
وفي المراد بالأرض قولان: أحدهما: أنها القبور. والثاني: الدنيا. فاحتقر القوم ما لبثوا لِما عاينوا من الأهوال والعذاب فقالوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال الفراء: والمعنى: لا ندري كم لبثنا.
وفي المراد بالعادِّين قولان: أحدهما: الملائكة، قاله مجاهد. والثاني: الحُسَّاب، قاله قتادة. وقرأ الحسن، والزهري، وأبو عمران الجوني، وابن يعمر: «العادِين» بتخفيف الدال.
قوله تعالى: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «قال إِن لبثتم» . وقرأ حمزة، والكسائي: «قل إِن لبثتم» على معنى: قل أيها السائل عن لبثهم. وزعموا أن في مصحف أهل الكوفة «قل» في الموضعين، فقرأهما حمزة، والكسائي على ما في مصاحفهم، أي: ما لبثتم في الأرض إِلَّا قَلِيلًا لأن مكثهم في الأرض وإِن طال، فإنه مُتَنَاهٍ ومكثهم في النار لا يتناهى.
وفي قوله: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: لو علمتم قدر لبثكم في الأرض. والثاني: لو علمتم أنكم إِلى الله ترجعون، فعملتم لذلك.
قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أي: أفظننتم أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي: للعبث والعبث في اللغة:
اللعب، وقيل: هو الفعل لا لغرض صحيح، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: «لا تُرْجَعون» بضم التاء. وقرأ حمزة، والكسائي بفتحها. فَتَعالَى اللَّهُ عمَّا يَصِفُه به الجاهلون من الشِّرك والولد، الْمَلِكُ قال الخطّابي: هو التامّ المُلك الجامع لأصناف المملوكات.
__________
(1) سورة إبراهيم: 36.(3/273)
وأما المالك: فهو الخالص المُلك. وقد ذكرنا معنى «الحقّ» في سورة يونس «1» .
قوله تعالى: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ والكريم في صفة الجماد بمعنى: الحسن. وقرأ ابن محيصن: «الكريم» برفع الميم، يعني الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى: لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي: لا حُجَّة له به ولا دليل وقال بعضهم: معناه: فلا برهان له به. قوله تعالى: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي: جزاؤه عند ربّه.
__________
(1) سورة يونس: 32.(3/274)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
سورة النّور
وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
(1020) روى أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تُنْزِلُوهُنَّ الغُرَف ولا تُعَلمِّوهُنَّ الكتابة، وعلّموهنّ الغزل وسورة النّور» ، يعني: النّساء.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: سُورَةٌ قرأ الجمهور بالرفع. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة، ومحبوب عن أبي عمرو: «سورةً» بالنصب. قال أبو عبيدة: من رفع، فعلى الابتداء. وقال الزجاج: هذا قبيح، لأنها نكرة، وأَنْزَلْناها صفة لها، وإِنما الرفع على إِضمار: هذه سُورةٌ، والنصب على وجهين: أحدهما على معنى: أنزلنا سورة والثاني على معنى: أُتلُ سُورةً.
قوله تعالى: وَفَرَضْناها قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد. وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وعكرمة والضحاك والزهري ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وابن يعمر والأعمش وابن أبي عبلة بالتخفيف. قال الزجاج: من قرأ بالتشديد فعلى وجهين: أحدهما:
على معنى التكثير، أي إِننا فرضنا فيها فروضاً. والثاني: على معنى: بيَّنَّا وفصَّلنا ما فيها من الحلال والحرام ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه: ألزمناكم العمل بما فُرض فيها. وقال غيره: مَنْ شدَّد، أراد:
فصَّلنا فرائضها، ومَنْ خفَّف، فمعناه: فرضنا ما فيها.
قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي القراءة المشهورة بالرفع. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو الجوزاء، وابن
__________
موضوع. أخرجه الحاكم 2/ 396 والبيهقي في «الشعب» 2453 من حديث عائشة وفيه عبد الوهّاب بن الضحاك، وهو متروك متهم، ومع ذلك، صححه الحاكم! لكن تعقّبه الذهبي بقوله: بل موضوع، وآفته عبد الوهّاب. قال أبو حاتم: كذاب اه. وأخرجه الخطيب 13/ 224 ومن طريقه ابن الجوزي والواحدي في «الوسيط» 3/ 302 والبغوي في «التفسير» 3/ 360 من طريقين عن محمد بن إبراهيم الشامي، وإسناده ساقط، فيه محمد بن إبراهيم الشامي، قال عنه الذهبي في «الميزان» 3/ 445- 446: قال الدارقطني: كذاب، وقال ابن حبان: يضع الحديث، ثم ذكر الذهبي أحاديث ومنها حديث الباب هذا، وقال: صدق الدارقطني. وورد من حديث ابن عباس أخرجه ابن عدي 2/ 153 ومن طريقه ابن الجوزي 2/ 268 وفيه جعفر بن نصر أعله ابن عدي به، وقال: حدّث عن الثقات بالبواطل، وله موضوعات. وانظر «تفسير الشوكاني» 1724 بتخريجنا.(3/275)
أبي عبلة، وعيسى بن عمر: «الزانيةَ» بالنصب. واختاره الخليل وسيبويه والرّفع اختيار الأكثرين. قال الزجاج: والرفع أقوى في العربية، لأن معناه: من زنى فاجلدوه، فتأويله الابتداء، ويجوز النصب على معنى: اجلدوا الزانية. فأما الجَلْد، فهو ضرب الجِلْد، يقال: جَلَدَه: إِذا ضرب جِلْده، كما يقال:
بَطَنَه: إِذا ضَرَب بَطْنه. قال المفسرون: ومعنى الآية: الزانية والزاني إِذا كانا حُرّين بالغَين بِكْرَيْن، فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.
فصل:
قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية تقتضي وجوب الجَلْدِ على البِكْر والثَّيّب «1» .
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حق البِكْر زيادة على الجَلْد بتغريب عام، وفي حق الثَّيِّب زيادة على الجلد بالرجم بالحجارة.
(1021) فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «البِكْر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتغريب عامٍ، والثَّيِّب بالثَّيِّب جلد مائة ورجم بالحجارة» . وممن قال بوجوب النَّفي في حق البِكْر: أبو بكر،
__________
تقدم في سورة النساء: عند الآية 15 و 16 وقد خرجه مسلم وغيره.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 370: الزنى حرام، وهو من الكبائر العظام وقد كان حد الزاني في صدر الإسلام الحبس للثيب، والأذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبكر. ثم نسخ بما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد ذهب بعض أصحابنا بجواز نسخ القرآن بالسنة ومن منع ذلك قال: ليس هذا نسخا، وإنما هو تفسير للقرآن وتبيين له. ويمكن أن يقال إن نسخه حصل بالقرآن، فإن الجلد في كتاب الله تعالى، والرجم كان فيه، فنسخ رسمه، وبقي حكمه. وإذا زنى الحر المحصن، أو الحرة المحصنة، جلدا ورجما حتى يموتا، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله، والرواية الأخرى، يرجمان ولا يجلدان.
وفي وجوب الرجم على الزاني المحصن، رجلا كان أو امرأة قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ولا نعلم فيه مخالفا إلا الخوارج، فإنهم قالوا: الجلد للبكر والثيب، ولا يجوز ترك كتاب الله تعالى الثابت بطريق القطع واليقين بخبر الآحاد.
والرد عليهم- لقد ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقوله وفعله، في أخبار تشبه التواتر وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها وعقلتها ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان، أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو الاعتراف وقد قرأتها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» متفق عليه.
وأما الجلد فنقول بها، إن الزاني يجب جلده، فإن كان ثيبا رجم مع الجلد والآية لم تتعرض لنفيه. في إحدى الروايتين، فعل ذلك علي رضي الله عنه، وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب وأبو ذر وفي الرواية الثانية، يرجم ولا يجلد. روي عن عمر وعثمان وابن مسعود، والنخعي، والزهري والأوزاعي ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
وإذا زنى الحر البكر، جلد مائة، وغرّب عاما. ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني ويجب مع الجلد تغريبه عاما في قول جمهور العلماء. وقال مالك والأوزاعي: يغرّب الرجل دون المرأة، لأنها إن غرّبت بمحرم، أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفي من لا ذنب له، وإن كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به، ويلزم منه الزيادة على ذلك. وفوات حكمته. وفي تغريبها إغراء به، وتمكين منه. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: لا يجب التغريب وقول مالك فيما يقع لي، أصح الأقوال وأعدلها. [.....](3/276)
وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وممن بعدهم عطاء، وطاوس، وسفيان، ومالك، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإِسحاق، وممن قال بالجمع بين الجلد والرجم في حق الثَّيِّب عليُّ بن أبي طالب، والحسن البصري، والحسن بن صالح، وأحمد، وإِسحاق. قال: وذهب قوم من العلماء إِلى أن المراد بالجَلْد المذكور في هذه الآية: البِكْر، فأما الثَّيِّب، فلا يجب عليه الجَلْد، وإِنما يجب الرجم، روي عن عمر، وبه قال النخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك، وروي عن أحمد رواية مثل قول هؤلاء.
قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رزين والضحاك وابن يعمر والأعمش: «يَأْخُذْكُمْ» بالياء بِهِما رَأْفَةٌ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي:
«رَأْفَةٌ» باسكان الهمزة. وقرأ أبو المتوكل ومجاهد وأبو عمران الجوني وابن كثير: بفتح الهمزة وقصرها على وزن رَعَفَة. وقرأ سعيد بن جبير والضحاك وأبو رجاء العطاردي: «رآفَةٌ» مثل سآمة وكآبة، وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: لا تأخذكم بهما رأفة، فتخفِّفوا الضرب، ولكن أوجعوهما، قاله سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة. والثاني: لا تأخذكم بهما رأفة فتعطِّلوا الحدود ولا تقيموها، قاله مجاهد والشعبي وابن زيد في آخرين.
فصل:
واختلف العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري: ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشُّرب، ويضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب أصحابنا، وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال مالك: الضرب في الحدود كلِّها سواءٌ غير مبرِّح.
فصل:
فأما ما يُضرَب من الأعضاء، فنقل الميموني عن أحمد في جَلْد الزاني، قال: يجرَّد، ويعطى كل عضو حقَّه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه. ونقل يعقوب بن بختان: لا يُضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: لا يُضرب إِلا في الظَّهر. وقال الشافعي: يُتَّقى الفرج والوجه.
قوله تعالى: فِي دِينِ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: في حُكمه، قاله ابن عباس. والثاني: في طاعة الله، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما قال الزجاج: القراءة باسكان اللام، ويجوز كسرها، والمراد بعذابهما ضربهما، وفي المراد بالطّائفة ها هنا خمسة أقوال «1» : أحدها: الرجل فما فوقه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. وقال النخعي: الواحد طائفة. والثاني: الاثنان فصاعدا، قاله
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 260: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قول: أقل ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين: الواحد فصاعدا، وذلك أن الله عمّ بقوله وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ والطائفة:
قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا، غير أنّي وإن كان الأمر على ما وصفت أستحب أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس، عدد من تقبل شهادته على الزنا لأن ذلك إذا كان كذلك، فلا خلاف بين الجميع أنه قد أدى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك وهم فيما دون ذلك مختلفون.(3/277)
سعيد بن جبير، وعطاء وعن عكرمة كالقولين. قال الزجاج: والقول الأول على غير ما عند أهل اللغة، لأن الطائفة في معنى جماعة، وأقل الجماعة اثنان. والثالث: ثلاثة فصاعداً، قاله الزهري.
والرابع: أربعة، قاله ابن زيد. والخامس: عشرة، قاله الحسن البصري.
قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً.
(1022) قال عبد الله بن عمرو: كانت امرأة تسافح، وتشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية.
(1023) وقال عكرمة: نزلت في بغايا، كُنَّ بمكة، ومنهن تسع صواحب رايات، وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية: المواخير، ولا يدخل عليهن إِلا زانٍ من أهل القِبلة، أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فنزلت هذه الآية. قال المفسرون: ومعنى الآية: الزاني من المسلمين لا يتزوج من أولئك البغايا إِلا زانية أَوْ مُشْرِكَةً لأنهن كذلك كن وَالزَّانِيَةُ منهن لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، ومذهب أصحابنا «1» أنه إِذا زنى بامرأة، لم يجز له أن يتزوّجها إلّا بعد التّوبة منهما.
__________
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 379 وأحمد 2/ 159- 225 والحاكم 2/ 193 والطبري 25742 والواحدي في «الأسباب» 632 والبيهقي 7/ 153 كلهم من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص به مع اختلاف يسير في ألفاظهم. وإسناده ضعيف لجهالة الحضرمي هذا، وقد وثقه ابن حبان وحده. واعتمده الهيثمي، فقال في «المجمع» 7/ 74: رجال أحمد ثقات! وكذا صححه الحاكم! ووافقه الذهبي. وأخرجه الحاكم 2/ 391 من طريق هشيم عن سليمان التيمي عن القاسم عن عبد الله بن عمرو به، وإسناده ضعيف، فقد سقط منه الحضرمي، ولعل ذلك بسبب عنعنة هشيم، فإنه مدلس، وقد جرى الحاكم على ظاهره، فصححه على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! وليس كما قالا. وله شاهد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري 25749 ومع إرساله فيه راو لم يسم، ومع ذلك هذه الروايات تشهد للحديث الآتي وليست مخالفة له، والله أعلم فقد تكون الحادثة مكررة والسبب واحد. وانظر «أحكام القرآن» 1549.
مرسل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 631 عن عكرمة بدون إسناد. وانظر ما قبله.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 9/ 561: إذا زنت المرأة، لم يحل ذلك نكاحها إلا بشرطين:
أحدهما: انقضاء عدتها ولا يحل نكاحها قبل وضع حملها. وبهذا قال مالك وأبو يوسف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وفي الأخرى قال: يحل نكاحها ويصح. وهو مذهب الشافعي لأنه وطء لا يلحق به النسب فلم يحرّم النكاح، كما لو لم تحمل. والثاني: أن تتوب من الزنى. وبه قال قتادة، وأبو عبيد، وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يشترط ذلك. وإذا وجد الشرطان حل نكاحها للزاني وغيره في قول أكثر العلم. وروي عن ابن مسعود وعائشة والبراء: أنها لا تحل للزاني بحال، قالوا: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، ويحتمل أنهم أرادوا بذلك ما كان قبل التوبة. أو قبل استبرائها فيكون كقولنا. أما تحريمها على الإطلاق فلا يصح. هذا وإن عدة الزانية كعدة المطلقة، لأنه استبراء لحرة، فأشبه عدة الموطوءة بشبهة. وحكى ابن أبي موسى، أنها تستبرأ بحيضة. وأما التوبة، فهي الاستغفار والندم والإقلاع عن الذنب، كالتوبة من سائر الذنوب.
وهو الصحيح. وروي عن ابن عمر، أنه قيل له: كيف تعرف توبتها؟ قال يريدها على ذلك، فإن طاوعته لم تتب وإن أبت فقد تابت. فصار أحمد إلى قول ابن عمر اتباعا له. والصحيح الأول، فإنه لا ينبغي لمسلم أن يدعو امرأة إلى الزنا، ويطلبه منها، ولا تحل الخلوة بأجنبية ولو كان في تعليمها القرآن. فلا يحل التعرض لمثل هذا. قال الطبري رحمه الله 9/ 264: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عني بالنكاح في هذا الموضع: الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات وإنه لم يعن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات، ولا ينكح إلا بزانية أو مشركة. وإذا كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية لا تستحل الزنا، أو بمشركة تستحله. وقوله وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يقول: وحرّم الزنا على المؤمنين بالله ورسوله، وذلك هو النكاح الذي قال جل ثناؤه الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً. ووافقه ابن كثير رحمه الله 3/ 329 وقال: وهذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة، لا ترى حرمة ذلك وكذلك:
الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أي: عاص بزناه أَوْ مُشْرِكٌ لا يعتقد تحريمه.(3/278)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قوله تعالى: وَحُرِّمَ ذلِكَ وقرأ أُبيّ بن كعب وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: «وحَرَّمَ اللهُ ذلك» بزيادة اسم الله تعالى مع فتح حروف «حَرَّمَ» . وقرأ زيد بن علي: «وحَرُمَ ذلك» بفتح الحاء وضم الراء مخففة. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه نكاح الزواني، قاله مقاتل. والثاني: الزنا، قاله الفراء.
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ شرائط الإِحصان في الزنا الموجب للرجم عندنا أربعة:
البلوغ، والحرية، والعقل، والوطء في نكاح صحيح. فأما الإِسلام، فليس بشرط في الإِحصان، خلافا لأبي حنيفة، ومالك. ومعنى الآية: يرمون المحصنات بالزنا، فاكتفى بذكره المتقدِّم عن إِعادته ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا على ما رمَوْهُنَّ به بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون أنهم رأوهنَّ يفعلْنَ ذلك فَاجْلِدُوهُمْ يعني القاذفين.
فصل:
وقد أفادت هذه الآية أنَّ على القاذف إِذا لم يُقم البيِّنة، الحدَّ، وردَّ الشهادة وثبوتَ الفِسْق، واختلفوا هل يُحكَم بفسقه وردِّ شهادته بنفس القذف، أم بالحدِّ؟ فعلى قول أصحابنا: إِنه يُحكم بفسقه وردِّ شهادته إِذا لم يُقم البيِّنة، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يُحكم بفسقه، وتقبل شهادته ما لم يُقَم الحدُّ عليه.
فصل:
والتعريض بالقذف- كقوله لمن يخاصمه: ما أنت بزانٍ، ولا أُمُّك زانية- يوجب الحدَّ في المشهور من مذهبنا. وقال أبو حنيفة: لا يوجب الحدَّ. وحدٌّ العبد في القذف نصف حدِّ الحُرِّ، وهو أربعون، قاله الجماعة، إِلا الأوزاعي فانه قال: ثمانون. فأما قاذف المجنون، فقال الجماعة: لا يُحَدُّ.
وقال الليث: يُحَدُّ. فأما الصبيّ، فان كان مثله يجامِع أو كانت صبيِّة مثلُها يجامَع، فعلى القاذف الحدُّ.
وقال مالك: يُحدُّ قاذف الصبيَّة التي يجامَع مثلُها، ولا يُحَدُّ قاذف الصبيّ. وقال أبو حنيفه، والشافعي:
لا يُحَدُّ قاذفهما. فان قذف رجلٌ جماعةً بكلمة واحدة، فعليه حدٌّ واحد، وإِن أفرد كلَّ واحد بكلمة، فعليه لكل واحد حدّ، وهو قول الشعبي، وابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه حدّ واحد، سواء قذفهم بكلمة أو بكلمات.
فصل:
وحدُّ القذف حقٌّ لآدميّ، يصحّ أن يبرئ منه، ويعفو عنه، وقال أبو حنيفة: هو حقّ الله عزّ وجلّ وعندنا أنه لا يستوفى إِلا بمطالبة المقذوف، وهو قول الأكثرين. وقال ابن أبي ليلى: يحدّه(3/279)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
الإِمام وإِن لم يطالِب المقذوف.
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي: من القذف وَأَصْلَحُوا قال ابن عباس: أظهروا التوبة وقال غيره: لم يعودوا إِلى قذف المُحْصنَات، وفي هذا الإِستثناء قولان: أحدهما: أنه نسخ حدِّ القذف وإِسقاط الشهادة معاً، وهذا قول عكرمة، والشعبي، وطاوس، ومجاهد، والقاسم بن محمد، والزهري، والشافعي، وأحمد. والثاني: أنه يعود إِلى الفسق فقط، وأما الشهادة، فلا تُقْبَل أبداً، قاله الحسن، وشريح، وإِبراهيم، وقتادة. فعلى هذا القول انقطع الكلام عند قوله: «أبداً» وعلى القول الأول وقع الاستثناء على جميع الكلام، وهذا أصح، لأن المتكلّم بالفاحشة لا يكون جرماً من راكبها، فإذا قُبلت شهادةُ المقذوف بعد ثبوته، فالرامي أيسر جرماً، وليس القاذف بأشدَّ جرماً من الكافر، فإنه إِذا أسلم قبلت شهادته.
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ.
(1024) سبب نزولها أن هلال بن أُمية وجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يُهجْه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله: إِنِّي جئت أهلي، فوجدت عندها رجلاً، فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما جاء به، واشتد عليه، فقال سعد بن عبادة: الآن يَضْرِبُ رسولُ الله هلالاً ويُبطل شهادته، فقال هلال: والله إِنِّي لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فو الله إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أن يأمر بضربه إِذ نزل عليه الوحي، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(1025) وفي حديث آخر، أن الرجل الذي قذفها به شريك بن سحماء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال
__________
أخرجه أحمد 1/ 238 والطبري 25828 من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لأجل عباد بن منصور، لكن أصله محفوظ، أخرجه البخاري وغيره. وانظر ما بعده وانظر «أحكام القرآن» 1555.
صحيح. أخرجه البخاري 2671 و 4747 وأبو داود 2254 والترمذي 3179 وابن ماجة 2067 والبيهقي 7/ 393 والبغوي 2370 كلهم من حديث ابن عباس، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «البينة وإلا حد في ظهرك» . فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد. فنزل جبريل وأنزل عليه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فقرأ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلّم فأرسل إليها. فجاء هلال فشهد. والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقّفوها وقالوا: إنها موجبة.
قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سمحاء» فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» . لفظ البخاري. وانظر «أحكام القرآن» 1553 بتخريجنا.(3/280)
لهلال حين قذفها: «ائتني بأربعة شهداء، وإِلا فحدٌّ في ظهرك» ، فنزلت هذه الآية، فنُسخ حكم الجلد في حق الزوج القاذف.
فصل في بيان حكم الآية:
إِذا قذف الرجل زوجته بالزنا، لزمه الحدُّ، وله التخلُّص منه باقامة البيِّنة، أو باللِّعان، فإن أقام البيِّنة لزمها الحدّ، وإِن لاعنها، فقد حقَّق عليها الزّنا، ولها التّخليص منه باللّعان، فإن نكل الزوج عن اللعان، فعليه حدُّ القذف، وإِن نكلت الزوجة، لم تحدّ، وحُبست حتى تُلاعِن أو تُقِرَّ بالزنا في إِحدى الروايتين، وفي الأخرى: يُخلَّى سبيلُها، وقال أبو حنيفة: لا يُحَدُّ واحد منهما، ويُحبس حتى يُلاعِن. وقال مالك، والشافعي: يجب الحدُّ على الناكل منهما.
فصل:
ولا تصح الملاعنة إِلا بحضرة الحاكم. فان كانت المرأة خَفِرة، بعث الحاكم من يُلاعِن بينهما. وصفة اللعان أن يبدأ الزوج فيقول: أشهد بالله إِني لمن الصادقين فيما رميتُها به من الزنا، أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: ولعنة الله عليه إِن كان من الكاذبين، ثم تقول الزوجة أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم تقول: وغضب الله عليها إِن كان من الصادقين. والسُّنة أن يتلاعنا قياماً، ويقال للزوج إِذا بلغ اللعنة: اتق الله فانها المُوجِبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكذلك يقال للزوجة إِذا بلغت إِلى الغضب. فإن كان بينهما ولد، افتقر نفيه عن الأب إِلى ذِكْره في اللعان، فيزيد في الشهادة: وما هذا الولد ولدي، وتزيد هي: وإِن هذا الولد ولده.
فصل:
واختلف الفقهاء في الزوجين اللَّذين يجري بينهما اللعان، فالمشهور عن أحمد أن كل زوج صح قذفه صح لعانه، فيدخل تحت هذا المسلمُ والكافر والحرُّ والعبد، وكذلك المرأة، وهذا قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجوز اللعان بين الحرِّ والأمَةَ، ولا بين العبد والحرة، ولا بين الذميَّين، أو إِذا كان أحدهما ذميّاً ونقل حرب عن أحمد نحو هذا، والمذهب هو الأول. ولا تختلف الرواية عن أحمد أن فُرقة اللعان لا تقع بلعان الزوج وحده. واختلفت هل تقع بلعانهما من غير فُرقة الحاكم على روايتين. وتحريم اللعان مؤبَّد، فان أكذب الملاعنُ نفسه لم تحلَّ له زوجته أيضاً، وبه قال عمر، وعلي، وابن مسعود، وعن أحمد روايتان، أصحهما: هذا، والثانية: يجتمعان بعد التكذيب، وهو قول أبي حنيفة.
قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ وقرأ أبو حنيفة وأبو المتوكل. وابن يعمر، والنخعي: «تكن» بالتاء. قوله تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «أربعَ» بفتح العين. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: برفع العين. قال الزجاج: من رفع «أربعُ» فالمعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأُ حَدَّ القذف أربعُ ومن نصب، فالمعنى:
فعليهم أن يشهد أحدهم أربعَ. قوله تعالى: وَالْخامِسَةُ قرأ حفص عن عاصم: «والخامسةَ» نصباً، حملاً على نصب «أربعَ شهادات» . قوله تعالى: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ قرأ نافع، ويعقوب، والمفضل:(3/281)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
«أنْ لعنةُ الله» و «أنْ غضبُ الله» بتخفيف النون فيهما وسكونهما ورفع الهاء من «لعنةُ» والباء من «غضبُ» ، إِلا أن نافعاً كسر الضاد من «غَضِبَ» وفتح الباء. قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا أي: ويَدفع عنها الْعَذابَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحَدُّ. والثاني: الحبس ذكرهما ابن جرير. والثالث: العار.
قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: ستره ونعمته. قال الزجاج: وجواب «لولا» ها هنا متروك، والمعنى: لولا ذلك لنال الكاذبَ منكم عذابٌ عظيم، وقال غيره: لولا فضل الله لبيّن الكاذب من الزوجين فأُقيم عليه الحدّ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ يعود على من رجع عن المعاصي بالرحمة حَكِيمٌ فيما فرض من الحدود.
[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 20]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أجمع المفسرون أن هذه الآية وما يتعلق بها بعدها نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها، وفي حديث الإِفك أن هذه الآية إِلى عشر آيات نزلت في قصة عائشة. وقد ذكرنا حديث الإِفك في كتاب «الحدائق» وفي كتاب «المغني في التفسير» فلم نطل بذكره، لأن غرضنا اختصار هذا الكتاب ليحفظ. فأما الإِفك، فهو الكذب، والعصبة: الجماعة. ومعنى قوله تعالى:
مِنْكُمْ أي: من المؤمنين.
(1026) وروى عروة عن عائشة أنها قالت: هم أربعة: حسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي بن سلول ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، وكذلك عدهم مقاتل.
قوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ قال المفسرون: هذا خطاب لعائشة وصفوان بن المعطّل،
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2770 ح 58 والترمذي 3180 من طريق أبي أسامة عن هشام عن عروة عن عائشة، وهو طرف حديث. وانظر «أحكام القرآن» 1566 بتخريجنا. وحديث الإفك، حديث صحيح مشهور. أخرجه البخاري 2661 و 4141 و 4750، و 6679 ومسلم 2770 وأبو داود 4735 والترمذي 3180 والنسائي في «عشرة النساء» 45 وعبد الرزاق 9748 وأحمد 6/ 197 وأبو يعلى 4927 و 4933 وابن حبان 4212 والطبراني 23/ 134 والبيهقي 7/ 302 من طرق كلهم من حديث عائشة.(3/282)
وقيل: لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعائشة والمعنى: إٍنكم تؤجرون فيه، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يعني: من العصبة الكاذبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي: جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، ومجاهد وابن أبي عبلة، والحسن، ومحبوب عن أبي عمرو ويعقوب: «كُبْره» بضم الكاف. قال الكسائي: وهما لغتان. وقال ابن قتيبة: كِبْر الشيء: معظمه، ومنه هذه الآية. قال قيس بن الخطيم يذكر امرأة:
تنام عن كبر شأنها فإذا ... قامت رويدا تكاد تنغرف «1»
وفي المتولي لذلك قولان: «2» أحدهما: أنه عبد الله بن أبي، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وعروة عن عائشة، وبه قال مجاهد، والسدي، ومقاتل. قال المفسرون: هو الذي أشاع الحديث، فله عذاب عظيم بالنار. وقال الضحاك: هو الذي بدأ بذلك. والثاني: أنه حسان.
(1027) روى الشعبي أن عائشة قالت: ما سمعت أحسن من شعر حسان، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة فقيل: يا أم المؤمنين، أليس الله يقول: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ، فقالت: أليس قد ذهب بصره؟
(1028) وروى عنها مسروق أنها قالت: وأي عذاب أشد من العمى، ولعل الله أن يجعل ذلك العذاب العظيم، ذهاب بصره، تعني: حسان بن ثابت.
ثم إنّ الله عزّ وجلّ أنكر على الخائضين في الإفك بقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أي: هلا إذ سمعتم أيتها العصبة الكاذبة قذف عائشة ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ من العصبة الكاذبة، وهم حسّان ومسطح
__________
أخرجه الطبري 25843 عن الشعبي عن عائشة، وهذا منقطع، وانظر ما بعده.
صحيح. أخرجه البخاري 4146 و 4755 و 4756 ومسلم 2488 والطبري 25845 من طريق مسروق به.
قال مسروق، دخلنا على عائشة رضي الله عنها وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا يشبب بأبيات له وقال:
حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك. قال مسروق: فقلت لها: لم تأذني له أن يدخل عليك وقد قال الله:
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فقالت: وأي عذاب أشد من العمى؟ قالت له: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ومعنى: حصان: عفيفة، رزان: ذات ثبات ووقار وعفة، ما تزن: ما تتهم، غرثى:
جائعة.
__________
(1) في «اللسان» : الغرف: التثني والانقصاف، وقال يعقوب: معناه تتثنى وقيل: معناه: تنقصف من دقة خصرها.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 340: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي ابن سلول- قبّحه الله ولعنه- وقولهم: حسان بن ثابت. وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك لما كان لإيراده فائدة، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن محاسنه أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بشعره، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هاجم وجبريل معك- ولقد وافقه الطبري-.
وقال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 278: وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: الذي تولى كبره من عصبة الإفك، كان عبد الله بن أبي، وذلك لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير الذي بدأ بذكر الإفك، وكان يجمع أهله ويحدثهم عبد الله بن أبي ابن سلول وفعله ذلك كان توليه كبر ذلك الأمر.(3/283)
وَالْمُؤْمِناتُ وهي: حمنة بنت جحش بِأَنْفُسِهِمْ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: بأمهاتهم. والثاني:
بأخواتهم. والثالث: بأهل دينهم، لان المؤمنين كنفس واحدة، وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي: كذب بيِّن. وجاء في التفسير أن أبا أيوب الأنصاري قالت له أمه:
(1029) ألا تسمع ما يقول الناس في أمر عائشة؟! فقال: هذا إفك مبين، أكنت يا أمّاه فاعلته؟
فقالت: معاذ الله، قال: فعائشة والله خير منك فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: لَوْلا جاؤُ أي: هلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: «بأربعة» منونة والمعنى: يشهدون بأنهم عاينوا ما رموها به فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ أي: في حكمه هُمُ الْكاذِبُونَ. ثم ذكر القاذفين فقال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: لولا ما منَّ الله به عليكم، لَمَسَّكُمْ أي: لأصابكم فِيما أَفَضْتُمْ أي: أخذتم وخضتم فِيهِ من الكذب والقذف عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة. ثم ذكر الوقت الذي لولا فضله لأصابهم فيه العذاب فقال إِذْ تَلَقَّوْنَهُ وكان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا، فيتلقاه بعضهم من بعض. وقرأ عمر بن الخطاب: «إذ تُلْقونه» بتاء واحدة خفيفة مرفوعة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مرفوعة خفيفة وقرأ معاوية، وابن السميفع مثله، إلا أنهما فتحا التاء والقاف. وقرأ ابن مسعود: «تَتَلَقَّونه» بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام وتشديد القاف. وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، ومجاهد، وأبو حيوة: «تَلِقُونه» بتاء واحدة خفيفة مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف. وقال الزجاج:
«تُلْقونه» : يلقيه بعضكم إلى بعض وتلقونه معناه: إذ تسرعون بالكذب، يقال: قد ولق يلق: إذا أسرع في الكذب وغيره، قال الشاعر:
جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّامْ تلق
أي: تسرع. وقال ابن قتيبة: «تَلَقَّوْنَهُ» أي: تقبلونه، ومن قرأ: «تَلِقونَهُ» أخذه من الولق، وهو الكذب.
قوله تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي: من غير أن تعلموا أنه حق وَتَحْسَبُونَهُ يعني: ذلك القذف هَيِّناً أي: سهلا لا إثم فيه وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ في الوزر. ثم زاد عليهم في الإنكار فقال: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أي: ما يحل وما ينبغي لنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ وهو يحتمل التنزيه والتعجب. وروت عائشة أن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له: ألم تسمع ما يتحدث الناس؟! فقال: «ما يكونُ لنا ان نَتَكَلَم بهذا ... » الآية، فنزلت الآية، وقد روينا آنفا أن أمه ذكرت له ذلك، فنزلت الآية المتقدمة، وروي عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ذلك قال سبحانك هذا بهتان عظيم، فقيل للناس: هلا قلتم كما قال سعد؟! قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أي: ينهاكم الله أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أي: إلى مثله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
__________
أخرجه الطبري 25859 من طريق محمد بن إسحاق به، عن بعض رجال بني النجار، فهذا إسناد ضعيف.
وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 636 عن عروة عن عائشة رضي الله عنها حدثته بحديث الإفك وقالت فيه: وكان أبو أيوب الأنصاري حين أخبرته امرأته ... وذكر الحديث وفي إسناده عطاء الخراساني، وهو ضعيف.(3/284)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
لأن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ في الأمر والنهى.
ثم هدّد القاذفين بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي: يحبون أن يفشو القذف بالفاحشة، وهي الزنا فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا يعني: الجلد وَالْآخِرَةِ عذاب النار.
(1030) وروت عمرة عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة، فضربوا حدهم.
(1031) وروى أبو صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جلد عبد الله بن أبيّ، ومسطح ابن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة، فأما الثلاثة فتابوا، وأما عبد الله فمات منافقا وبعض العلماء ينكر صحة هذا، ويقول: لم يضرب أحدا.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ شر ما خضتم فيه وما يتضمن من سخط الله وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ جوابه محذوف، تقديره: لعاقبكم فيما قلتم لعائشة. قال ابن عباس: يريد:
مسطحا، وحسّانا، وحمنة.
[سورة النور (24) : آية 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
قوله تعالى: لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي: تزيينه لكم قذف عائشة. وقد سبق شرح «خطوات الشيطان» وبيان «الفحشاء والمنكر» «1» . قوله تعالى: ما زَكى مِنْكُمْ وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة: «ما زكَّى» بتشديد الكاف. وفيمن خوطب بهذا قولان: أحدهما: أنه عام في الخلق. والثاني: أن خاص للمتكلمين في الإفك. ثم في معناه أربعة أقوال: أحدها: ما اهتدى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: ما أسلم، قاله ابن زيد. والثالث: ما صلح، قاله مقاتل. والرابع: ما ظهر، قاله ابن قتيبة.
__________
غير قوي. أخرجه أبو داود 4474 والترمذي 3181 وابن ماجة 2567 وأحمد 6/ 35 والطحاوي في «المشكل» 2963 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 74 وفي «السنن» 8/ 250 من طرق عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: «لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلّم على المنبر فذكر ذاك، وتلا- تعني القرآن- فلما نزل المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم» .
وفي رواية الطحاوي «فأمر برجلين وامرأة، فضربوا حدهم ثمانين ثمانين» . وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، لكن صرّح بالتحديث في رواية الطحاوي والبيهقي. وأخرجه أبو يعلى 4932 عن عروة مرسلا.
وأخرجه عبد الرزاق 9750 عن الزهري مرسلا. وأخرجه أبو داود 4475 عن محمد بن إسحاق مرسلا.
وأخرجه عبد الرزاق 9749 من طريق ابن أبي يحيى عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة. وإسناده ضعيف جدا، فيه ابن أبي يحيى، وهو إبراهيم بن محمد، وهو متروك. فلا يقطع بصحة هذا الخبر بمثل هذه الروايات، والله أعلم.
لم يثبت أن ابن سلول، قد حدّ البتة، وأصح شيء ورد في ذلك هو ما تقدم. وهذا الطريق عن أبي صالح عن ابن عباس، ليس بشيء. لأن أبا صالح واه في ابن عباس، وراويته الكلبيّ، وهو ممن يضع الحديث.
__________
(1) في سورة البقرة عند الآيتان: 168 و 169.(3/285)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي: يطهّر من يشار من الإثم بالتوبة والغفران فالمعنى:
وقد شئت ان أتوب عليكم وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ علم ما في نفوسكم من التّوبة والنّدامة.
[سورة النور (24) : آية 22]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة: «لا يتألَّ» بهمزة مفتوحة بين التاء واللام وتشديد اللام على وزن يَتَعلَّ.
(1032) قال المفسرون: سبب نزولها أن أبا بكر الصديق كان ينفق على مسطح لقرابته وفقره، فلما خاض في أمر عائشة قال أبو بكر: والله لا أنفق عليه شيئا أبداً، فنزلت هذه الآية، فأما الفضل، فقال أبو عبيدة: هو التفضل والسعة. الجِدةْ. قال المفسرون: والمراد به: أبو بكر.
قوله تعالى: أَنْ يُؤْتُوا قال ابن قتيبة: معناه: أن لا يؤتوا، فحذف «لا» . فأمّا قوله تعالى: أُولِي الْقُرْبى فانه يعنى مسطحا، وكان ابن خالة أبي بكر، وكان مسكيناً، وكان مهاجراً. قال المفسرون: فلما سمع أبو بكر أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال: بلى يا ربّ، وأعاد نفقته على مسطح.
[سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يعني: العفائف الْغافِلاتِ عن الفواحش، لُعِنُوا فِي الدُّنْيا أي: عذبوا بالجلد، وفي الآخرة بالنار.
واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها نزلت في عائشة خاصة.
قال خصيف: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية، فقلت: من قذف محصنة لعنه الله؟ قال: لا، إنما أنزلت هذه الآية في عائشة خاصة. والثاني: أنها في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم خاصة، قاله الضحاك. والثالث:
أنها في المهاجرات. قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أن المرأة كانت إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة، قذفها المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنما خرجت تفجر، فنزلت هذه الآية. والرابع: أنها عامة في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم وغيرهن، وبه قال قتادة، وابن زيد.
فان قيل: لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرّجال؟
__________
هو طرف حديث الإفك المتقدم برقم 1045، وهو عند الطبري 25875 من طريق ابن إسحاق عن الزهري، وقد عنعن. لكن الحجة بما تقدم، ذكره البخاري 4757 من وجه آخر تعليقا، ووصله أحمد 6/ 59 والطبري 25257. وانظر «أحكام القرآن» 1571 بتخريجنا.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 292: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في شأن عائشة، والحكم بها عام في كل من كان بالصفة التي وصفه بها فيها.(3/286)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
فالجواب: أن من رمى مؤمنة فلا بد أن يرمي معها مؤمناً، فاستغني عن ذكر المؤمنين، ومثله:
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» أراد: والبرد، قاله الزجاج.
قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «يشهد» بالياء وهو إقرارها بما تكلموا به من الفرية. قال ابو سليمان الدمشقي: وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم.
وقال ابن جرير: المعنى: ان ألسنة بعضهم تشهد على بعض.
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أي: حسابهم العدل، وقيل: جزاءهم الواجب. وقرأ مجاهد، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس، والأعمش: «دينهم الحقُ» برفع القاف وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ قال ابن عباس: وذلك ان عبد الله بن ابي كان يشك في الدين، فإذا كانت القيامة علم حيث لا ينفعه.
[سورة النور (24) : آية 26]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: الكلمات الخبيثات لا يتكلم بها إلا الخبيث من الرجال والنساء، والكلمات الطيبات لا يتكلم بها إلا الطيبون من الرجال والنساء. والثاني:
الكلمات الخبيثات إنما تلصق بالخبيثين من الرجال والنساء، فأما الطيبات والطيبون، فلا يصلح أن يقال في حقهم إلا الطيبات. والثالث: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال. والرابع: الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال، وكذلك الطيبات وقوله تعالى: أُولئِكَ يعني: عائشة وصفوان مُبَرَّؤُنَ: منزهون مِمَّا يَقُولُونَ من الفرية لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنّة.
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ.
__________
(1) سورة النحل: 81.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 295: وأولى هذه الأقوال في تأويل الآية: قول من قال: عنى بالخبيثات: الخبيثات من القول، وذلك قبيحه وسيئه، للخبيثين من الرجال والنساء والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، هم بها أولى، لأنهم أهلها.
والطيبات من القول وذلك حسنه وجميله، للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول، لأنهم أهلها، وأحق بها.(3/287)
(1033) ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها أن امرأة من الانصار جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إني اكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل علي رجل من أهلي، فنزلت هذه الآية فقال ابو بكر بعد نزولها: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن، فنزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ الآية.
ومعنى قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أي: بيوتاً ليست لكم.
واختلف القراء في باء البيوت، فقرأ بعضهم بضمها، وبعضهم بكسرها. وقد بيّنّا ذلك في سورة البقرة «1» .
قوله تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: حتى تسلموا وتستأنسوا. قال الزّجّاج: و «تستأنسوا» في اللغة، بمعنى تستأذنوا، وكذلك هو في التفسير، والاستئذان:
الاستعلام، تقول: آذنته بكذا، أي: أعلمته، وآنست منه كذا، أي: علمت منه، ومثله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً «2» أي: علمتم. فمعنى الآية: حتى تستعلموا، يريد أهلها ان تدخلوا، ام لا؟ قال المفسرون: وصفة الاستعلام أن تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ولا يجوز أن تدخل بيت غيرك إلا بالاستئذان، لهذه الآية، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من أن تدخلوا بغير إذن لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أن الاستئذان خير فتأخذون به، قال عطاء: قلت لابن عباس: أستأذن على أمي وأختي ونحن في بيت واحد؟ قال: أيسرُّكَ أن ترى منهنّ عورة؟ قال: لا،. قال: فاستأذن.
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً أي: إن وجدتموها خالية فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي: إن ردوكم فلا تقفوا على أبوابهم وتلازموها، هُوَ أَزْكى لَكُمْ يعني:
الرجوع خير لكم وأفضل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول باذن وغير إذن عَلِيمٌ.
فصل «3» : وهل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ فيها قولان: أحدهما: أن حكمها عام في جميع
__________
ضعيف. أخرجه الواحدي 638 من طريق الفريابي، والطبري 25921 كلاهما عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت، وإسناده ضعيف لضعف أشعث بن سوار، ثم هو مرسل، عدي تابعي. وهو عند الطبري دون آخره، - وعند الواحدي قال: قال المفسّرون: فلما نزلت قال أبو بكر.. وانظر «تفسير الشوكاني» 1740 و «تفسير القرطبي» 4513 كلاهما بتخريجنا.
__________
(1) عند الآية: 189.
(2) سورة النساء: 6.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 347: هذه آداب شرعية، أدب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان، أمر الله المؤمنين ألا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأنسوا، أي: يستأذنوا قبل الدخول، ويسلّموا بعده. وينبغي أن يستأذن ثلاثا، فإن أذن له وإلا انصرف، كما ثبت في الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له، فلينصرف» ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لو أن امرءا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح» . وقال مقاتل بن حيان في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها: كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلّم عليه، ويقول: حييت صباحا وحييت مساء وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول: «قد دخلت» فيشق ذلك على الرجل، فغير الله ذلك كله، في ستر وعفة، وجعله نقيا نزها من الدنس والقذر والدرن، وهذا الذي قاله مقاتل حسن. ولهذا قال: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني الاستئذان خير لكم، بمعنى هو خير للطرفين:
للمستأذن ولأهل البيت لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.(3/288)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
البيوت، ثم نسخت منها البيوت التي ليس لها أهل يستأذنون بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ، هذا مروي عن الحسن، وعكرمة. والثاني: أن الآيتين محكمتان، فالاستئذان شرط في الأولى إذا كان للدار أهل، والثانية وردت في بيوت لا ساكن لها، والإذن لا يتصور من غير آذن، فاذا بطل الاستئذان، لم تكن البيوت الخالية داخلة في الأولى، وهذا أصح.
قوله تعالى: أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فيها خمسة اقوال «1» : أحدها: أنها الخانات والبيوت المبنية للسابلة ليأووا إليها، ويؤووا أمتعتهم، قاله قتادة. والثاني: أنها البيوت الخربة، والمتاع: قضاء الحاجة فيها من الغائط والبول، قاله عطاء. والثالث: أنها بيوت مكة، قاله محمد بن الحنفية. والرابع:
حوانيت التجار التي بالأسواق، قاله ابن زيد. والخامس: أنها جميع البيوت التي لا ساكن لها، لأن الاستئذان إنما جعل لأجل الساكن، قاله ابن جريج. فيخرّج في معنى «المتاع» ثلاثة أقوال: أحدها:
الأمتعة التي تباع وتشترى. والثاني: إلقاء الأذى من الغائط والبول. والثالث: الانتفاع بالبيوت لاتقاء الحرّ والبرد.
[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ في «من» قولان: أحدهما: أنها صلة. والثاني:
أنها أصل، لأنهم لم يؤمروا بالغض مطلقاً، وإنما أمروا بالغض عما لا يحلُّ.
وفي قوله تعالى: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ قولان: أحدهما: عما لا يحل لهم، قاله الجمهور.
والثاني: عن أن تُرى، فهو أمر لهم بالاستتار، قاله أبو العالية، وابن زيد.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 301: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عمّ بقوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ كل بيت لا ساكن فيه ولا مالك له، من بيت خراب قد باد أهله ولا ساكن فيه لمتاع له يؤويه إليه، أو لقضاء حقه.
وأما بيوت التجار، فإنه ليس لأحد دخولها إلا بإذن أربابها وسكانها، فإن ظن ظان أن التاجر إذا فتح دكانه وقعد للناس، فقد أذن لمن أراد الدخول عليه في دخوله، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وإن كان التاجر قد عرف منه أن فتحه حانوته إذن لمن أراد دخوله في الدخول، فذلك بعد راجع إلى ما قلنا. من أنه لم يدخله من دخله إلا بإذنه. فتبين أنه مما عنى الله من هذه الآية بمعزل.(3/289)
قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى الغض وحفظ الفروج أَزْكى لَهُمْ أي خير وأفضل إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ في الأبصار والفروج. ثم امر النساء بما امر به الرجال.
قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي: لا يظهرنها لغير مَحْرَم. وزينتهن على ضربين: خفية كالسّوارين والقرطين والدّملج والقلائد ونحو ذلك، وظاهر وهي المشار إليها بقوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وفي سبعة أقوال «1» : أحدها: انها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود وفي لفظ آخر قال هو الرداء. والثاني: أنها الأكفّ، والخاتم والوجه. والثالث: الكحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: القُلْبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة. والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد. والسادس: الخاتم والسوار، قاله الحسن. والسابع: الوجه والكفان، قاله الضحاك. قال القاضي أبو يعلى: والقول الاول أشبه، وقد نص عليه احمد، فقال: الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر «2» ، ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، مثل ان يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فانه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصّة فأما النّظر إليها لغير عذر، فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها «3» ، وسواء في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن. فان قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟! فالجواب: أن في تغطيته مشقة، فعفي عنه «4» .
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في في «تفسيره» : وأولى هذه الأقوال بالصواب: قول من قال: عني بذلك الوجه والكفان.
(2) جاء في «المغني» 2/ 327- 328: وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة، لأنه قد روي في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «المرأة عورة» ، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. لكن رخّص لها في كشف وجهها وكفيها، لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة، لأنه مجمع المحاسن. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: المرأة كلها عورة حتى ظفرها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «المرأة عورة» .
وهذا عام يقتضي وجوب ستر جميع بدنها وترك الوجه للحاجة، ففيما عداه يبقى على الدليل. [.....]
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 9/ 489: لا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها ولا خلاف في إباحة النظر إلى وجهها، وذلك لأنه ليس بعورة وهو مجمع المحاسن، وموضع النظر، ولا يباح له النظر إلى ما لا يظهر عادة. ولا بأس بالنظر إليها بإذنها أو غير إذنها، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل» وقد أمر بالنظر وأطلق. ولا يجوز له الخلوة بها، لأنها محرّمة، ولم يرد الشرع بغير النظر فبقيت على التحريم، ولأنه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور، ولا ينظر إليها نظر تلذذ وشهوة، ولا لريبة، قال أحمد، في رواية صالح: ينظر إلى الوجه، ولا يكون عن طريق لذة. وله أن يردد النظر إليها، ويتأمل محاسنها، لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك. فأما ما يظهر غالبا سوى الوجه، كالكفين والقدمين ونحو ذلك، مما تظهره المرأة في منزلها ففيه روايتان: إحداهما: لا يباح النظر إليه، لأنه عورة، فلم يبح النظر إليه كالذي لا يظهر ولأن الحاجة تندفع بالنظر إلى الوجه فيبقى ما عداه على التحريم. والثانية: له النظر إلى ذلك. وإلى ما يدعو إلى نكاحها، من يد أو جسم ونحو ذلك.
قال أبو بكر: لا بأس أن ينظر إليها عند الخطبة حاسرة. وقال الشافعي: فينظر إلى الوجه والكفين.
(4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 2/ 328: لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة ولا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم. وفي الكفين روايتان: إحداهما: يجوز كشفهما. وهو قول مالك والشافعي لقول ابن عباس قال، في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قال: الوجه والكفين.
وقال أبو حنيفة: القدمان ليس من العورة لأنهما يظهران غالبا منها كالكفين والوجه. وإذا انكشف من المرأة أقل من ربع شعرها أو ربع فخذها أو ربع بطنها لم تبطل صلاتها. وأجمع أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت، وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها الإعادة. والثانية: هما من العورة ويجب سترهما في الصلاة. وهذا قول الخرقي، ونحوه قال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي: من فقهاء التابعين بالمدينة وأحد الفقهاء السبعة، وكان يقال له: راهب قريش، توفي سنة 94. انظر طبقات الفقهاء للشيرازي 59، تهذيب التهذيب 12/ 30- 32.(3/290)
قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ وهي جمع خِمار، وهو ما تغطى به المرأة رأسها، والمعنى:
وليُلْقِين مَقانِعَهن عَلى جُيُوبِهِنَّ ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وإبراهيم النخعي، والأعمش: «على جِيوبهن» بكسر الجيم، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ يعني:
الخفية، وقد سبق بيانها إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ قال ابن عباس: لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن.
قوله تعالى: أَوْ نِسائِهِنَّ يعني: المسلمات. قال أحمد: لا يحل للمسلمة ان تكشف راسها عند نساء أهل الذمة واليهودية والنصرانية لا تقبِّلان المسلمة «1» .
قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قال اصحابنا: المراد به: الإماء دون العبيد. وقال أصحاب الشّافعيّ: يدخل فيه العبيد، يجوز للمرأة عندهم أن تظهر لمملوكها ما تظهر لمحارمها، لأنّ مذهب الشّافعيّ رضي الله عنه أنه مَحْرم لها، وعندنا انه ليس بمحرم، ولا يجوز أن ينظر إلى غير وجهها وكفّيها، وقد نصّ أحمد على أنه لا يجوز أن ينظر إلى شعر مولاته. قال القاضي أبو يعلى: وإنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء، لأن الذين تقدم ذكرهم احرار، فلما ذكر الإماء زال الإشكال.
قوله تعالى: أَوِ التَّابِعِينَ وهم الذين يتبعون القوم ويكونون معهم لإرفاقهم إياهم، او لأنهم تشؤوا فيهم. وللمفسرين في هذا التابع ستة اقوال: أحدها: أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل، قاله قتادة، وكذلك قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء. والثاني: أنه العنين، قاله عكرمة. والثالث: المخنث، كان يتبع الرجل يخدمه بطعامه، ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن، قاله الحسن. والرابع: أنه الشيخ الفاني. والخامس: أنه الخادم، قالهما ابن السائب.
والسادس: أنه الذي لا يكترث بالنساء، إما لكبر أو لهرم أو لصغر، ذكره ابن المنادي من أصحابنا. قال الزجاج: «غير» صفة للتابعين. وفيه دليل على ان قوله: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ معناه: غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ فالمعنى: ولا يبدين زينتهن لمماليكهن، ولا لتُبَّاعِهن، إلا أن يكونوا غير أولي الإربة، والإربة: الحاجة، ومعناه: غير ذوي الحاجات إلى النساء «2» .
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 355: وقوله أَوْ نِسائِهِنَّ يعني: تظهر زينتها أيضا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة، لئلا يصفن لرجالهن، وذلك وإن كان محذورا في جميع النساء، إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد، فإنهن ما يمنعهن من ذلك مانع، فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 355: في الصحيح من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن مخنثا كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم وهو ينعت امرأة: أنها إذا أقبلت بأربع وإذا أدبرت بثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا أرى هذا يعلم ها هنا، لا يدخلن عليكن فحجبوه، فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم.(3/291)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
قوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ قال ابن قتيبة: يريد الأطفال، بدليل قوله تعالى: لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي: لم يعرفوها «1» .
قوله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ أي: باحدى الرجلين على الأخرى ليضرب الخلخال الخلخال فيعلم أنّ عليها خلخالين «2» .
[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى وهم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال: رجل أيِّم وامرأة أيِّم، ورجل أرمل وامرأة أرملة، ورجل بِكر وامرأة بِكر: إِذا لم يتزوجا، وامرأة ثيِّب ورجل ثيِّب:
إِذا كانا قد تزوجا، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ أي: من عبيدكم، يقال: عَبْد وعِبَاد وعَبِيد، كما يقال: كَلْب وكلاب وكليب. وقرأ الحسن، ومعاذ القارئ: «من عَبيدكم» . قال المفسرون: والمراد بالآية الندب.
ومعنى الصّلاح ها هنا: الإِيمان. والمراد بالعباد: المملوكون، فالمعنى: زوِّجوا المؤمنين من عبيدكم وولائدكم. ثم رجع إِلى الأحرار فقال: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فأخبرهم أن النكاح سبب لنفي الفقر.
قوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي: وليْطلب العِفَّة عن الزنا والحرام مَن لا يجد ما ينكح به من صداق ونفقة.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 356: يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إذا كان مراهقا أو قريبا منه بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرّق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكّن من الدخول على النساء.
(2) قال ابن كثير رحمه الله 3/ 356: كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها، ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك وكذا إذا كان شيء من زينتها مستورا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي، دخل في هذا النهي ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها فيشم الرجال طيبها.
وقوله وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهيا عنه، والله تعالى هو المستعان وعليه التكلان.(3/292)
(1034) وقد روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا معشر الشباب عليكم بالباءة، فمن لم يجد فعليه بالصيام فانه له وجاء» .
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أي: يطلبون المكاتبة من العبيد والإِماء على أنفسهم، فَكاتِبُوهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه مندوب إِليه، قاله الجمهور. والثاني: أنه واجب، قاله عطاء، وعمرو بن دينار. وذكر المفسرون: أنها نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزَّى يقال له: صبيح، سأل مولاه الكتابة فأبى عليه، فنزلت هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً.
قوله تعالى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فيه ستة أقوال «1» : أحدها: إِن علمتم لهم مالاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، والضحاك. والثاني: إِن علمتم لهم حيلة، يعني: الكسب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أن علمتم فيهم ديناً، قاله الحسن. والرابع: إِن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير، قاله سعيد بن جبير. والخامس: إِن أقاموا الصلاة، قاله عبيدة السلماني. والسادس: إِن علمتم لهم صدقاً ووفاءً، قاله إِبراهيم. قوله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فيه قولان «2» :
أحدهما: أنه خطاب للأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة، أُمروا ان يعطوا المكاتبين من سهم الرِّقاب، روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو سهم الرقاب يُعطى منه المكاتَبون. والثاني: أنه خطاب للسادة، أُمروا أن يعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئاً. قال أحمد والشافعي: الإِيتاء واجب، وقدَّره أحمد بربع مال الكتابة. وقال الشافعي: ليس بمقدَّر. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجب الإِيتاء: وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كاتب غلاماً له يقال له: أبو أميّة، فجاء بنجمه حين حلَّ فقال: اذهب يا أبا أميّة فاستعن به في مكاتبتك، قال: يا أمير المؤمنين لو أخَّرْتَه حتى يكون في آخر النجوم، فقال: يا أبا أُمية:
إِني أخاف أن لا أدرك ذلك، ثم قرأ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ، قال عكرمة: وكان ذلك أول نجم أُدِّي في الإِسلام.
قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ.
(1035) روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي سفيان عن جابر، قال: كان عبد الله بن أبيّ
__________
صحيح. أخرجه البخاري 5066 ومسلم 1400 ح 3 و 4 والترمذي 1081 والنسائي 4/ 169 و 270 و 6/ 57 و 58 وأحمد 1/ 424 و 425 و 432 والدارمي 2/ 132. والبيهقي 7/ 77 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه البخاري 1905 و 5065 ومسلم 1400 وأبو داود 2046 وابن ماجة 1845 والنسائي 4/ 171 و 6/ 57 و 58 وأحمد 1/ 378 و 447 والطيالسي 1905 وأبو يعلى 5110 و 5192 والبيهقي 7/ 77 من طرق عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود به. وورد من حديث أبي هريرة عند الواحدي في «الوسيط» 3/ 318.
حديث صحيح. أخرجه مسلم 3029 وأبو داود 2311 والنسائي في «التفسير» 385 والطبري 26072 و 26073 والواحدي في «الأسباب» 640 واستدركه الحاكم 2/ 397 كلهم عن جابر: أن جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلّم: فأنزل الله وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ- إلى قوله- غَفُورٌ رَحِيمٌ. لفظ مسلم في روايته الثانية، ورووه بألفاظ متقاربة بمثل سياق المصنف. وانظر «أحكام القرآن» 1602 بتخريجنا.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 315: وأولى هذه الأقوال في معنى ذلك عندي قول من قال: معناه:
فكاتبوهم إن علمتم فيهم القوة على الاحتراف والاكتساب، ووفاء بما أوجب على نفسه وألزمها، وصدق لهجة. وذلك أن هذه المعاني هي الأسباب التي بمولى العبد الحاجة إليها إذا كاتب عبده مما يكون في العبد، فأما المال فلا يكون في العبد، وإنما يكون عنده وله.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 317: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي: قول من قال: عنى به إتياءهم سهمهم من الصدقة المفروضة.(3/293)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، فنزلت هذه الآية.
(1036) قال المفسرون: وكان له جاريتان، مُعاذة ومُسَيكة، فكان يكرههما على الزنا، ويأخذ منهما الضريبة، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إِماءهم، فلما جاء الإِسلام قالت معاذة لمسيكة: إِن هذا الأمر الذي نحن فيه إِن كان خيراً فقد استكثرنا منه، وإِن كان شرّاً فقد آن لنا أن نَدَعه، فنزلت هذه الآية. وزعم مقاتل أنها نزلت في ست جوارٍ كُنَّ لعبد الله بن أُبيّ، مُعاذة، ومُسَيكة، وأُميمة، وقُتيلة، وعمرة، وأروى «1» .
فأما الفتيات، فهن الإِماء. والبِغاء: الزنا. والتحصن: التعفف. واختلفوا في معنى إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً على أربعة أقوال: أحدها: أن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكرناه، فخرج النهي عن صفة السبب، وإِن لم يكن شرطاً فيه. والثاني: إِنه إِنما شرط إِرادة التحصُّن، لأن الإِكراه لا يُتَصور إِلا عند إِرادة التحصُّن، فأما إِذا لم ترد المرأة التحصُّن، فانها تبغي بالطبع. والثالث: أن «إِنْ» بمعنى «إِذ» ، ومثله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2» وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» . والرابع:
أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: «وأنكحوا الأيامى» إِلى قوله: «وإِمائكم» «إِن أردن تحصناً» ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهو كسبهن وبيع أولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ للمُكْرَهات رَحِيمٌ وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد:
«من بعد إِكراههن لهن غفور رحيم» .
قوله تعالى: آياتٍ مُبَيِّناتٍ قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة غير أبي بكر، وأبان: «مبيِّنات» بكسر الياء في الموضعين في هذه السّورة «4» وآخر سورة الطلاق «5» .
قوله تعالى: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا أي: شَبَهاً من حالهم بحالكم أيها المكذِّبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق المكذّبين قبلهم.
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
__________
ذكره الواحدي في «الأسباب» بإثر حديث 643 بقوله: قال المفسّرون. وورد نحوه من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 26075. وانظر ما قبله.
__________
(1) تفرد مقاتل بذكر أسماء النساء الستة، ومقاتل ساقط، ليس بشيء.
(2) سورة البقرة: 278.
(3) سورة آل عمران: 139.
(4) سورة النور: 34 و 46.
(5) سورة الطلاق: 11.(3/294)
قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه قولان «1» : أحدهما: هادي أهل السموات والأرض، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أنس بن مالك، وبيان هذا أن النُّور في اللغة: الضياء، وهو الذي تصل به الأبصار إلى مُبْصَراتها، فورد النُّور مضافاً إِلى الله تعالى، لأنه هو الذي يَهْدي المؤمنين ويبيِّن لهم ما يهتدون به. فالخلائق بنوره يهتدون. والثاني: مدبِّر السموات والأرض، قاله مجاهد، والزّجّاج. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وابن السميفع: «اللهُ نَوَّرَ» بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء «السمواتِ» بالخفض «والأرضَ» بالنصب.
قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ في هاء الكناية أربعة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، قال ابن عباس: مَثَلُ هُدَاه في قلب المؤمن. والثاني: أنها ترجع إِلى المؤمن، فتقديره: مثل نور المؤمن، قاله أبيّ بن كعب. وكان أُبيّ وابن مسعود يقرآن: «مثل نور المؤمنين» . والثالث: أنها ترجع إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله كعب. والرابع: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله سفيان.
فأما المشكاة، ففيها ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها في موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأنبوب، والمصباح: الضوء، قاله ابن عباس. والثاني: أنها القنديل، والمصباح: الفتيلة، قاله مجاهد. والثالث: أنها الكوّة التي لا منفذ لها، والمصباح: السراج، قاله كعب، وكذلك قال الفراء:
المشكاة: الكوّة التي ليست بنافذة. وقال ابن قتيبة: المشكاة: الكوّة بلسان الحبشة. وقال الزجاج: هي من كلام العرب، والمصباح: السراج. وإِنما ذكر الزُّجاجة، لأن النُّور في الزُّجاج أشد ضوءاً منه في غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن أبي عبلة: «في زَجاجة الزّجاجة» بفتح الزاء فيهما. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدريّ، وابن يعمر: بكسر الزاء فيهما. وقال بعض أهل المعاني: معنى الآية:
كمَثَل مصباح في مشكاة، فهو من المقلوب.
فأما الدُّرِّيّ، فقرأ أبو عمرو، والكسائي وأبان عن عاصم «دِرِّيءٌ» بكسر الدال وتخفيف الياء ممدوداً مهموزاً. قال ابن قتيبة: المعنى على هذا: إِنه من الكواكب الدّراريء، وهي اللاتي يدرأن
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 320: يعني هادي من في السماوات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا، لأنه عقيب قوله وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فكان ذلك بأن يكون خبرا عن موقع يقع تنزيله من خلقه ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه أولى وأشبه.
فتأويل الكلام: ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس، آيات مبينات الحق من الباطل، وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فهديناكم بها، وبينا لكم معالم دينكم بها، لأني هادي أهل السماوات والأرض. [.....]
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 325: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به. مثل المشكاة وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وذلك نظير الكوة تكون في الحيطان لا منفذ لها. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 361 فقال: وتقديره: شبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه- كما قال تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا انحراف. فقوله كَمِشْكاةٍ هو موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور ولهذا قال بعده: فِيها مِصْباحٌ وهو الذّبالة التي تضيء. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي: هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية.(3/295)
عليك، أي: يطلعن. وقال الزّجّاج: هذا مأخوذ من درأ يدرأ: إِذا اندفع منقضّاً فتضاعف نوره، يقال:
تدارأ الرجلان: إِذا تدافعا. وروى المفضَّل عن عاصم كسر الدال وتشديد الياء من غير همز ولا مدٍّ، وهي قراءة عبد الله بن عمرو، والزهري. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «دُرِّيٌّ» بضم الدال وكسر الراء وتشديد الياء من غير مدٍّ ولا همز، وقرأ عثمان بن عفان، وابن عباس، وعاصم الجحدري: «دَرِيءُ» بفتح الدال وكسر الراء ممدودا مهموزا. وقرأ أبيّ بن كعب، وسعيد بن المسيب، وقتادة: بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مدٍّ ولا همز. وقرأ ابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن يعمر: بفتح الدال وكسر الراء مهموزا مقصورا. قال الزّجّاج: والدّرّيء:
منسوب إِلى أنه كالدُّرّ في صفائه وحسنه. وقال الكسائيّ: الدّرّيّء: يشبه الدّرّ، والدّرّيء: جار، والدّرّء: يلتمع، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم، والوليد بن عتبة عن ابن عامر: بضم الدال وتخفيف الياء مع إِثبات الهمزة والمدِّ، قال الزّجّاج: والنّحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في هذا وقال الفراء:
ليس هذا بجائز في العربية، لأنه ليس في الكلام «فُعِّيل» إِلا أعجمي، مثل: مُرِّيق، وما أشبهه. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: المُرّيق: العُصْفُر، أعجمي معرَّب، وليس في كلامهم اسم على زِنة فُعِّيْل. قال أبو علي: وقد حكى سيبويه عن أبي الخطّاب: كوكب دُرِّيء: من الصفات، ومن الأسماء:
المُرِّيق: العُصْفر.
قوله تعالى: «تَوَقَّدَ» قرأ ابن كثير. وأبو عمرو: بالتاء المفتوحة وتشديد القاف ونصب الدَّال، يريدان المصباح، لأنه هو الذي يوقد. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: يُوقَدُ بالياء مضمومة مع ضم الدال، يريدون المصباح أيضاً. وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تُوقَد» بضم التاء والدال، يريدون الزجاجة، قال الزجاج: والمقصود: مصباح الزجاجة، فحذف المضاف.
قوله تعالى: مِنْ شَجَرَةٍ أي: من زيت شجرة، فحذف المضاف، يدلُّك على ذلك قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ والمراد بالشجرة ها هنا: شجرة الزيتون، وبَرَكَتُها من وجوه، فانها تجمع الأدم والدّهن والوقود، فيوقد بخطب الزيتون، ويُغسَل برمادة الإِبريسم، ويُستخرج دُهنه أسهل استخراج، ويورِق غصنه من أوله إِلى آخره. وإنما خصّت بالذّكر ها هنا دون غيرها، لأن دُهنها أصفى وأضوأ. قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بين الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس، قاله أبيّ بن كعب، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنها في الصحراء لا يُظِلُّها جبل ولا كهف، ولا يواريها شيء، فهو أجود لزيتها، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزجاج. والثالث: أنها من شجر الجنّة، لا من شجر الدُّنيا، قاله الحسن. قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ أي: يكاد من صفائه يُضيء قبل أن تصيبه النار بأن يوقد به. نُورٌ عَلى نُورٍ قال مجاهد: النار على الزيت. وقال ابن السائب: المصباح نور، والزجاجة نور. وقال أبو سليمان الدمشقي: نور النار، ونور الزيت، ونور الزجاجة، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ فيه أربعة أقوال: أحدها: لنور القرآن. والثاني: لنور الإيمان. والثالث: لنور محمّد صلى الله عليه وسلّم. والرابع: لدينه الإِسلام.
فصل
: فأما وجه هذا المَثَل ففيه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه شبَّه نور محمّد صلى الله عليه وسلّم بالمصباح النّير
__________
(1) تقدم الكلام على أولى الأقوال بالصواب.(3/296)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
فالمشكاة جوف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والمصباح النور الذي في قلبه، والزجاجة قلبه، فهو من شجرة مباركة، وهو إِبراهيم عليه السلام، سماه شجرة مباركة، لأن أكثر الأنبياء من صلبه «لا شرقية ولا غربية» لا يهوديّ ولا نصرانيّ، يكاد محمّد صلى الله عليه وسلّم يتبيَّن للناس أنه نبيٌّ ولو لم يتكلَّم. وقال القرظي: المشكاة:
إِبراهيم، والزجاجة: إِسماعيل، والمصباح: محمّد، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال الضحاك: شبّه عبد المطلب بالمشكاة، وعبد الله بالزّجاجة، ومحمّدا صلى الله عليه وسلّم بالمصباح. والثاني: أنه شبّه نور الإِيمان في قلب المؤمن بالمصباح، فالمشكاة: قلبه، والمصباح: نور الإِيمان فيه. وقيل: المشكاة: صدره، والمصباح: القرآن والإِيمان اللَّذان في صدره، والزجاجة: قلبه، فكأنه مما فيه من القرآن والإِيمان كوكب مضيء تَوَقَّد من شجرة، وهي الإِخلاص، فمثل الإِخلاص عنده كشجرة لا تصيبها الشمس، فكذلك هذا المؤمن قد احترس من أن تصيبه الفتن، فان أُعطي شكر، وإِن ابتُلي صبر، وإِن قال صدق، وإِن حكم عدل، فقلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيَه العلم، فاذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدىً كما يكاد هذا الزيت يضيء قبل أن تمسَّه النار، فاذا مسَّته اشتد نُوره، فالمؤمن كلامه نُور، وعمله نُور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إِلى نور يوم القيامة. والثالث: أنه شبّه القرآن بالمصباح يُستضَاء به ولا ينقص، والزجاجة: قلب المؤمن، والمشكاة: لسانه وفمه، والشجرة المباركة: شجرة الوحي، تكاد حُجج القرآن تتضح وإن لم يقرأ. وقيل: تكادُ حجج الله تضيء لمن فكَّر فيها وتدبَّرها ولو لم ينزل القرآن، نُورٌ عَلى نُورٍ أي: القرآن نُور من الله لخلقه «1» مع ما قد قام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن.
قوله تعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي: ويبيِّن الله الأشباه للناس تقريباً إِلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك.
[سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ قال الزجاج: فِي مِن صلةِ قوله: كَمِشْكاةٍ، فالمعنى: كمشكاة في بيوت ويجوز أن تكون متصلة بقوله: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها فتكون فيها تكريراً على التوكيد والمعنى: يسبِّح لله رجال في بيوت. فان قيل: المشكاة إِنما تكون في بيت واحد، فكيف قال: «في بيوت» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه من الخطاب المتلوِّن الذي يُفتح بالتوحيد ويُختم بالجمع، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «2» . والثاني: أنه راجع إِلى كل واحد من البيوت، فالمعنى: في كل بيت مشكاة.
وللمفسرين في المراد بالبيوت ها هنا ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنها المساجد، قاله ابن عباس،
__________
(1) وإنما يستجيب له من نوّر الله قلبه، وهداه إلى صراطه المستقيم.
(2) سورة الطلاق: 1.
(3) قال الطبري رحمه الله 9/ 329: ذلك المصباح في بيوت أذن الله أن ترفع، وعني بالبيوت المساجد وإنما اخترنا هذا القول لدلالة قوله يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ على أنها بيوت بنيت للصلاة، وهي المساجد. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 364، وقال: لما ضرب الله مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب، وذلك كالقنديل مثلا، ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد.(3/297)
والجمهور. والثاني: بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد. والثالث: بيت المقدس، قاله الحسن.
فأما أَذِنَ فمعناه: أَمَر. وفي معنى أَنْ تُرْفَعَ قولان: أحدهما: أن تعظَّم، قاله الحسن، والضحاك. والثاني: أن تُبْنَى، قاله مجاهد، وقتادة.
وفي قوله تعالى: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قولان: أحدهما: توحيده رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: يُتلى فيها كتابُه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قوله تعالى: يُسَبِّحُ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «يُسَبِّح» بكسر الباء وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بفتحها. وقرأ معاذ القارئ، وأبو حيوة: «تُسَبِّحُ» بتاء مرفوعة وكسر الباء ورفع الحاء. وفي قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها قولان:
أحدهما: أنه الصلاة. ثم في صلاة الغُدُوِّ قولان: احدهما: أنها صلاة الفجر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: صلاة الضحى، روى ابن أبي مُلَيكة عن ابن عباس قال: إِن صلاة الضحى لفي كتاب الله، وما يغوص عليها إلّا غوّاص، ثم قرأ «يُسَبِّح له فيها بالغدوّ والآصال» . وفي صلاة الآصال قولان: أحدهما: أنها صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قاله ابن السائب. والثاني: صلاة العصر، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والقول الثاني: أنه التسبيح المعروف، ذكره بعض المفسرين.
قوله تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ أي: لا تَشْغَلُهم «1» تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ قال ابن السائب: التُّجَّار:
الجلاّبون، والباعة: المقيمون. وقال الواقدي: التّجارة ها هنا بمعنى الشراء. وفي المراد بذِكْر الله ثلاثة أقوال: أحدها: الصلاة المكتوبة، قاله ابن عباس، وعطاء، وروى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت «رجال لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذِكْر الله» . والثاني: عن القيام بحق الله، قاله قتادة. والثالث: عن ذِكْر الله باللسان، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 367: فقوله رِجالٌ فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية، التي صاروا عمارا للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنزيهه. وقوله: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فمعنى قوله تعالى: لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها، وملاذ بيعها وربحها، عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم، لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق، فيقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم. فأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن. قال: هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحدا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب.(3/298)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قوله تعالى: وَإِقامِ الصَّلاةِ أي: أداؤها لوقتها وإِتمامها. فان قيل: إِذا كان المراد بذِكْر الله الصلاة، فما معنى إِعادتها؟ فالجواب: أنه بيَّن أنهم يقيمونها بأدائها في وقتها.
قوله تعالى: تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ في معناه ثلاثة أقوال: أحدها: أن من كان قلبه مؤمنا بالبعث والنشور، ازداد بصيرة برؤية ما وُعِد به ومن كان قلبه على غير ذلك، رأى ما يوقِن معه بأمر القيامة، قاله الزجاج. والثاني: أن القلوب تتقلَّب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تتقلَّب، تنظر من أين يؤتَون كتبهم، أَمِنْ قِبَل اليمين، أم مِنْ قِبَل الشمال؟ وأي ناحية يؤخذ بهم، أذات اليمين، أم ذات الشمال؟ قاله ابن جرير. والثالث: تتقلَّب القلوب فتبلغ إِلى الحناجر، وتتقلَّب الأبصار إِلى الزَّرَق بعد الكَحَل والعمى بَعْدَ النَّظر.
قوله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ المعنى: يسبِّحون الله ليَجزيَهم أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي: ليجزيهم بحسناتهم. فأما مساوئهم فلا يجزيهم بها وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لم يستحقُّوه بأعمالهم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قد شرحناه في آل عمران «1» .
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
ثم ضرب الله مثلاً للكفار فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ قال ابن قتيبة: السراب: ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار، والآل «2» : ما رأيته في أول النهار وآخره، وهو يرفع كل شيء، والقِيعة والقاع واحد. وقرأ أبيّ بن كعب، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «بِقِيعات» . وقال الزجاج: القيعة جمع قاع، مثل جارٍ وجيرة، والقيعة والقاع: ما انبسط من الأرض ولم يكن فيه نبات، فالذي يسير فيه يرى كأن فيه ماءً يجري، وذلك هو السراب، والآل مثل السراب، إِلا أنه يرتفع وقت الضحى، كالماء، بين السماء والأرض يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ وهو الشديد العطش ماءً، حتى إِذا جاء إٍلى موضع السراب رأى أرضاً لا ماء فيها، فأعلم الله أن الكافر الذي يظن أن عمله قد نفعه عند الله، كظن الذي يظن السراب ماءً، وعملُه قد حبط.
قوله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي: قَدِم على الله فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي: جازاه بعمله وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن، والمراد به الخبر عن الكافر.
قوله تعالى: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ مفسّر في سورة البقرة «3» :
__________
(1) سورة آل عمران: 27.
(2) في «اللسان» الآل: السراب وقال الأصمعي: الآل والسراب واحد، وخالفه غيره فقال: الآل من الضحى إلى زوال الشمس، والسراب بعد الزوال إلى صلاة العصر، واحتجوا بأن الآل يرفع كل شيء حتى يصير آلا أي شخصا، والسراب الذي يجري على وجه الأرض كأنه الماء وهو نصف النهار.
(3) سورة البقرة: 202.(3/299)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
قوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ في هذا المثل قولان: أحدهما: أنه لعمل الكافر، قاله الجمهور، واختاره الزجاج. والثاني: أنه مَثَل لقلب الكافر في أنه لا يَعْقِل ولا يُبْصِر، قاله الفراء. فأما اللُّجِّيّ، فهو العظيم اللُّجَّة، وهو العميق. يَغْشاهُ أي: يعلو ذلك البحرَ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ أي: من فوق الموج موج، والمعنى: يتبع الموج موج، حتى كان بعضه فوق بعض، مِنْ فَوْقِهِ أي: من فوق ذلك الموج سَحابٌ. ثم ابتدأ فقال: ظُلُماتٌ يعني: ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الذي فوق الموج، وظلمة السحاب. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن: «سحابُ ظلماتٍ» مضافاً. إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ يعني: إِذا أخرجها مُخرِجٌ، لَمْ يَكَدْ يَراها فيه قولان: أحدهما: أنه لم يرها، قاله الحسن، واختاره الزجاج. قال: لأن في دون هذه الظلمات لا يرى الكفّ وكذلك قال ابن الأنباري: معناه: لم يرها البتَّة، لأنه قد قام الدليل عند وصف تكاثف الظلمات على أن الرؤية معدومة، فبان بهذا الكلام أن «يَكَد» زائدة للتوكيد، بمنزلة «ما» في قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «1» . والثاني: أنه لم يرها إِلا بعد الجهد، قاله المبرِّد. قال الفراء: وهذا كما تقول: ما كدت أبلغ إِليك، وقد بلغتَ، قال الفرّاء:
وهذا وجه العربية.
فصل:
وأما وجه المَثَل، فقال المفسرون: لمّا ضَرب اللهُ للمؤمن مَثَلاً بالنُّور، ضَرب للكافر هذا المثل بالظلمات والمعنى: أن الكافر في حيرة لا يهتدي لرشدٍ. وقيل: الظُّلمات: ظُلمة الشِّرك وظُلمة المعاصي. وقال بعضهم: ضربَ الظلمات مثلاً لعمله، والبحر اللُّجِّيّ لقلبه، والموج لِما يغشى قلبه من الشِّرك والجهل والحيرة، والسحاب للرَّيْن والخَتْم على قلبه، فكلامه ظُلمة، وعمله ظُلمة، ومدخله ظُلمة، ومخرجه ظُلمة، ومصيره إِلى الظُّلمات يوم القيامة.
قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فيه قولان: أحدهما: دِيناً وإِيماناً، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: هداية، قاله الزّجّاج.
[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 42]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قد تقدّم تفسيره «2» .
قوله تعالى: وَالطَّيْرُ أي: وتسبّح له الطّير صَافَّاتٍ أي: باسطات أجنحتها في الهواء. وإنّما خصّ الطّير بالذّكر، لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت، فهي خارجة عن جملة من في السّموات والأرض. قوله تعالى: كُلٌّ أي: من الجملة التي ذكرها قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قال المفسّرون: الصّلاة، لبني آدم، والتّسبيح، لغيرهم من الخلق. وفي المشار إليه بقوله: «قد علم» قولان: أحدهما: أنه الله تعالى، والمعنى: قد علم الله صلاة المصلّي وتسبيحه، قاله الزّجّاج.
والثاني: أنه المصلّي والمسبّح. ثم فيه قولان: أحدهما: قد علم المصلّي والمسبّح صلاة نفسه وتسبيحه، أي: قد عرف ما كلّف من ذلك. والثاني: قد علم المصلّي صلاة الله وتسبيحه، أي: علم
__________
(1) سورة المؤمنون: 40.
(2) سورة البقرة: 30.(3/300)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
أنّ ذلك لله تعالى وحده. وقرأ قتادة، وعاصم الجحدريّ، وابن يعمر: «كلّ قد علم» برفع العين وكسر اللام «صلاته وتسبيحه» بالرّفع فيهما.
[سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أي: يسوقه ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي: يضم بعضه إِلى بعض، فيجعل القِطَع المتفرِّقة قطعة واحدة. والسحاب لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجمع، فلهذا قال: يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي: يجعل بعض السحاب فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ وهو المطر. قال الليث:
الوَدْقُ: المطر كُلُّه شديدُه وهيِّنُه. قوله تعالى: مِنْ خِلالِهِ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك: «من خَلَلهِ» والخِلال: جمع خَلَل، مثل: جبال وجبل. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مفعول الإِنزال محذوف، تقديره: وينزِّل من السماء من جبال فيها من بَرَدٍ بَرَداً، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه. و «مِنْ» الأولى، لابتداء الغاية، لأن ابتداء الإِنزال من السماء، والثانية، للتبعيض، لأن الذي ينزله الله بعض تلك الجبال، والثالثة، لتبيين الجنس، لأن جنس تلك الجبال جنس البَرَد، قال المفسرون: وهي جبال في السماء مخلوقة من بَرَد. وقال الزجاج: معنى الكلام: وينزِّل من السماء من جبال بَرَد فيها، كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، المعنى: هذا خاتم حديد في يدي. قوله تعالى: فَيُصِيبُ بِهِ أي: بالبَرَد مَنْ يَشاءُ فيضرُّه في زرعه وثمره. والسنا: الضوء، يَذْهَبُ وقرأ مجاهد، وأبو جعفر: «يُذْهِبُ» بضم الياء وكسر الهاء. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي:
يأتي بهذا، ويذهب بهذا إِنَّ فِي ذلِكَ التّقليب لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي: دلالة لأهل البصائر والعقول على وحدانيّة الله وقدرته.
[سورة النور (24) : آية 45]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ وقرأ حمزة، والكسائيّ: «والله خالق كلّ دابّة من ماء» وفي الماء قولان: أحدهما: أنّ الماء أصل كلّ دابّة. والثاني: أنه النّطفة، والمراد به: جميع الحيوان المشاهد في الدنيا. وإنما قال: «فمنهم» تغليبا لما يعقل. وإنما لم يذكر الذي يمشي على أكثر من أربع، لأنه في رأي العين كالذي يمشي على أربع، وقيل: لأنه يعتمد في المشي على أربع. وإنما سمّى السّائر على بطنه ماشيا، لأنّ كلّ سائر ومستمرّ يقال له: ماش وإن لم يكن حيوانا، حتّى إنه يقال: قد مشى هذا الأمر، هذا قول الزّجّاج. وقال أبو عبيدة: إنما هذا على سبيل التشبيه بالماشي، لأنّ المشي لا يكون على البطن، إنما يكون لمن له قوائم، فإذا خلطوا ما له قوائم بما لا قوائم له، جاز ذلك، كما يقولون:
أكلت خبزا ولبنا، ولا يقال: أكلت لبنا.
[سورة النور (24) : الآيات 46 الى 52]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)(3/301)
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ.
(1037) قال المفسرون: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: بشر كان بينه وبين يهوديّ حكومة، فدعا اليهوديّ المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليحكم بينهما، فقال المنافق لليهودي: إِن محمداً يَحِيف علينا، ولكن بيني وبينك كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني المنافقين مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: من بعد قولهم: آمَنَّا وَما أُولئِكَ يعني المُعْرِضين عن حُكم الله ورسوله بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي: إِلى كتابه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الرسول إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ومعنى الكلام: أنهم كانوا يُعْرِضُون عن حكم الرسول عليهم، لعِلمهم أنَّه يحكُم بالحق وإِن كان الحق لهم على غيرهم، أسرعوا إِلى حكمه مذعنين، لثقتهم أنه يحكم لهم بالحق. قال الزجاج: والإِذعان في اللغة: الإِسراع مع الطاعة، تقول: قد أذعن لي، أي:
قد طاوعني لِما كنتُ ألتمسه منه. قوله تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: كفر أَمِ ارْتابُوا أي: شكُّوا في القرآن؟ وهذا استفهام ذمّ وتوبيخ، والمعنى: إِنهم كذلك، وإِنما ذكره بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ في ذمِّهم، كما قال جرير في المدح:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ من ركب المطايا «1» أي: أنتم كذلك. فأما الحَيْف، فهو: المَيْل في الحكم يقال: حاف في قضيَّته، أي: جار بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي: لا يَظْلِمُ اللهُ ورسولُه أحداً، بل هم الظالمون لأنفسهم بالكفر والإِعراض عن حُكم الرسول.
ثم نعت المؤمنين، فقال: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ قال الفراء: ليس هذا بخبرٍ ماضٍ، وإِنما المعنى: إِنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إِذا دعوا أن يقولوا سمعنا. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء:
«إِنما كان قولُ المؤمنين» بضم اللام. وقرأ أبو جعفر، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: «ليحكم بينهم» برفع الياء وفتح الكاف. قال المفسّرون: والمعنى: سمعنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأطعنا أمره، وإِن كان ذلك فيما يكرهونه. قوله تعالى: وَيَخْشَ اللَّهَ أي: فيما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما بعدُ أن يعصيه. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وورش عن نافع: «ويتّقهي» موصولة بياء. وروى قالون
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 645 بدون إسناد، وتقدم في سورة النساء عند الآية: 67 باستيفاء.
__________
(1) هو صدر بيت وعجزه: «وأندى العالمين بطون راح» .(3/302)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
عن نافع: «ويَتَّقْهِ فأولئك» بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «ويَتَّقِهْ» جزماً.
[سورة النور (24) : الآيات 53 الى 54]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)
قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ
قال المفسرون: لمّا نزل في هؤلاء المنافقين ما نزل من بيان كراهتهم لحكم الله، قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلّم: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، فكيف لا نرضى حكمك؟! فنزلت هذه الآية. وقد بيَّنَّا معنى جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
«1» ، لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ
من أموالهم وديارهم، وقيل: ليخرجُنّ إِلى الجهاد قُلْ لا تُقْسِمُوا
هذا تمام الكلام ثم قال: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
قال الزجاج: المعنى: أَمْثَلُ من قَسَمِكم الذي لا تصدُقون فيه طاعةٌ معروفة. قال ابن قتيبة: وبعض النحويين يقول: الضمير فيها: لتكن منكم طاعة معروفة، أي: صحيحة لا نِفاق فيها. قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا هذا خطاب لهم، والمعنى: فان تتولَّوا، فحذف إِحدى التاءين، ومعنى التولِّي: الإِعراض عن طاعة الله ورسوله، فَإِنَّما عَلَيْهِ يعني: الرسول ما حُمِّلَ من التبليغ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الطاعة وذكر بعض المفسّرين أن هذا منسوخ بآية السيف، وليس بصحيح. قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ يعني:
رسول الله صلى الله عليه وسلّم تَهْتَدُوا، وكان بعض السلف يقول: مَنْ أمَّر السُّنَّة على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالحكمة، ومن أمّر البدعة الهوى على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالبدعة، لقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.
[سورة النور (24) : الآيات 55 الى 56]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ.
(1038) روى أبو عبد الله الحاكم في «صحيحه» من حديث أُبيّ بن كعب، قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتْهم العرب عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إلّا في
__________
أخرجه الحاكم 2/ 401 والطبراني في «الأوسط» 7025 والواحدي في «أسباب النزول» 647 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 6- 7 من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب. وإسناده لين. مداره على علي بن حسين بن واقد، وهو لين الحديث، ضعفه أبو حاتم، وقال النسائي وغيره: ليس به بأس. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» 11237: رجاله ثقات اه. وانظر «أحكام القرآن» 1610.
__________
(1) سورة المائدة: 53.(3/303)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
السلاح، ولا يصبحون إِلا في لأْمتهم، فقالوا: أترون أنّا نعيش حتى نَبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلّا الله عزّ وجلّ؟! فنزلت هذه الآية. قال أبو العالية: لمّا أظهر الله عزّ وجلّ رسوله على جزيرة العرب، وضعوا السلاح وأمنوا، ثم قبض الله نبيّه، فكانوا آمنين كذلك في إِمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة، فأدخل الله عزّ وجلّ عليهم الخوف فغيَّروا، فغيَّر الله تعالى ما بهم. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذا الوعد وعده الله أُمَّة محمد في التوراة والإِنجيل.
(1039) وزعم مقاتل أن كفار مكّة لمّا صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين عن العُمرة عام الحديبية، قال المسلمون. لو أن الله تعالى فتح علينا مكّة، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أي: ليجعلنَّهم يخلفُون مَنْ قَبْلهم، والمعنى: ليورثنَّهم أرض الكفار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكَّانها. وعلى قول مقاتل: المراد بالأرض مكة. قوله تعالى: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وقرأ أبو بكر عن عاصم: «كما استُخلِف» بضم التاء وكسر اللام يعني: بني إِسرائيل، وذلك أنه لمّا هلكت الجبابرة بمصر، أورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم. قوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ وهو الإِسلام، وتمكينه: إِظهاره على كل دين، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ وقرأ ابن كثير، وأبو بكر، وأبان، ويعقوب: «وَليُبْدِلَنَّهم» بسكون الباء وتخفيف الدال مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً لأنهم كانوا مظلومين مقهورين، مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً لأنهم كانوا مظلومين مقهورين، يَعْبُدُونَنِي هذا استئناف كلام في الثناء عليهم، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ بهذه النِّعم، أي: من جحد حقَّها. قال المفسرون: وأوّلُ من كفر بهذه النّعم قتله عثمان.
[سورة النور (24) : آية 57]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأ ابن عامر، وحمزة وحفص، عن عاصم: «لا يَحْسَبَنَّ» بالياء وفتح السين. وقرأ الباقون بالتاء وكسر السين.
[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في سبب نزولها قولان:
(1040) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجَّه غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج بن عمرو إلى
__________
عزاه المصنف لمقاتل، ومقاتل ساقط الرواية ليس بشيء.
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 648 عن ابن عباس بدون إسناد. وقال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» 3/ 253: هكذا نقله الثعلبي والواحدي والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما بغير سند اه. فالخبر لا أصل له، يعني: لا إسناد له. وانظر «أحكام القرآن» 1621 بتخريجنا.(3/304)
عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر على حالة كره عمرُ رؤيتَه عليها، فقال: يا رسول الله، وددت له لو أنّ الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(1041) والثاني: أن أسماء بنت مرثد كان لها غلام، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: إِنَّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم وفيهم قولان «1» : أحدهما: أنه أراد الذكور دون الإِناث، قاله ابن عمر. والثاني: الذكور والإِناث، رواه أبو حصين عن أبي عبد الرحمن. ومعنى الكلام: ليستأذنكم مماليككم في الدخول عليكم. قال القاضي أبو يعلى: والأظهر أن يكون المراد:
العبيد الصغار والإِماء الصغار، لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته، فكيف يضاف إِلى الصبيان الذين هم غير مكلفين؟! قوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ وقرأ عبد الوارث: «الحُلْم» باسكان اللام مِنْكُمْ أي: من أحراركم من الرجال والنساء ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي: ثلاثة أوقات ثم بيَّنها فقال: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وذلك لأن الإِنسان قد يَبِيت عُرياناً، أو على حالة لا يحب أن يُطَّلع عليه فيها وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي: القائلة وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ حين يأوي الرجل إِلى زوجته، ثَلاثُ عَوْراتٍ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «ثلاثُ عورات» برفع الثاء من «ثلاث» ، والمعنى: هذه الأوقات هي ثلاث عورات، لأن الإِنسان يضع فيها ثيابه، فربما بدت عورته. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ثلاثَ عورات» بنصب التاء قال أبو عليّ: جعلوه بدلاً من قوله: «ثلاثَ مَرَّات» والأوقات ليست عورات، ولكن المعنى: أنها أوقات ثلاث عورات، فلما حذف المضاف أعرب باعراب المحذوف. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير والأعمش «عَوَرات» بفتح الواو لَيْسَ عَلَيْكُمْ يعني المؤمنين الأحرار وَلا عَلَيْهِمْ يعني الخدم والغلمان جُناحٌ أي: حرج بَعْدَهُنَّ أي بعد مُضي هذه الأوقات في أن لا يستأذنوا، فرفع الحرج عن الفرقين طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي: هم طوافون عليكم بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي: يطوف بعضكم وهم المماليك على بعض وهم الأحرار.
__________
كذا ذكره الواحدي في «الأسباب» 649 عن مقاتل بدون إسناد، وهذا معضل، وهو بدون إسناد.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 377: هذه الآيات اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض.
وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال: الأول من قبل صلاة الغداة، لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي: وقت القيلولة، لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنه وقت نوم فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال، لما يخشى من أن يكون الرجل مع أهله، أو نحو ذلك من الأعمال. وإذا دخلوا في غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك، وقد أذن لهم في الهجوم. [.....](3/305)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
فصل:
وأكثر علماء المفسرين على أن هذه الآية محكمة، وممن روي عنه ذلك ابن عباس، والقاسم بن محمد، وجابر بن زيد، والشعبي. وحكي عن سعيد بن المسيب أنها منسوخة بقوله: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا والأول أصح، لأن معنى هذه الآية: وإِذا بلغ الأطفال منكم، أو من الأحرار الحلم، فَلْيَسْتَأْذِنُوا، أي: في جميع الأوقات في الدخول عليكم كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كما استأذن الأحرار الكبار، الذين هم قبلهم في الوجود، وهم الذين أُمروا بالاستئذان على كل حال فالبالغ يستأذن في كل وقت، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث. قوله تعالى: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ قال ابن قتيبة: يعني: العُجْزَ، واحدها: قاعدٌ، ويقال: إِنما قيل لها:
قاعدٌ، لقعودها عن الحيض والولد، وقد تقعد عن الحيض والولد ومِثْلُها يرجو النكاح، ولا أُراها سميتْ قاعداً إِلا بالقعُود، لأنها إِذا أسَنَّتْ عجزتْ عن التصرُّف وكثرة الحركة، وأطالت القعود، فقيل لها: «قاعد» بلا هاء، ليدلّ حذف الهاء على أنه قعود كِبَر، كما قالوا: «امرأةٌ حاملٌ» ، ليدلُّوا بحذف الهاء على أنه حمل حَبَل، وقالوا في غير ذلك: قاعدةٌ في بيتها، وحاملةٌ على ظَهرها. قوله تعالى: أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي: عند الرجال ويعني بالثياب: الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخِمار، هذا المراد بالثياب، لا جميع الثياب، غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي: من غير أن يُرِدْنَ بوضع الجِلباب أن تُرى زينتُهن والتبرُّج: إِظهار المرأة محاسنها، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ فلا يَضَعْنَ تلك الثياب خَيْرٌ لَهُنَّ، قال ابن قتيبة: والعرب تقول: امرأةٌ واضعٌ: إِذا كبِرتْ فوضعت الخِمار، ولا يكون هذا إِلا في الهرِمة. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنه يُباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال، وأما شعرها، فيحرم النظر إليه كشعر الشابّة.
[سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(1042) أحدها: أنه لما نزل قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «1» تحرَّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزَّمنى والعُمْي والعُرْج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يُبْصِر موضع الطعام الطيِّب، والمريض لا يستوفي الطعام، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
__________
أخرجه الطبري 26219 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع بين علي وابن عباس. والراجح هو الآتي، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 3/ 421 بتخريجنا.
__________
(1) سورة النساء: 29.(3/306)
(1043) والثاني: أن ناساً كانوا إِذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إِذا احتاجوا، فكانوا يَتَّقون أن يأكُلوا منها، ويقولون: نخشى أن لا تكون أنفُسُهم بذلك طيِّبة، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن المسيب.
والثالث: أن العُرجان والعُميان كانوا يمتنعون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس يتقذَّرونهم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، والضحاك «1» . والرابع: أن قوماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا إِذا لم يكن عندهم ما يُطعمون المريض والزَّمِن، ذهبوا به إِلى بيوت آبائهم وأمّهاتهم وبعض من سمّى الله عزّ وجلّ في هذه الآية، فكان أهل الزمَّانَة يتحرَّجون من أكل ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير مالكه، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد «2» . والخامس: أنها نزلت في إِسقاط الجهاد عن أهل الزمَّانَة المذكورين في الآية، قاله الحسن، وابن زيد «3» .
فعلى القول الأول يكون معنى الآية: ليس عليكم في الأعمى حرج أن تأكلوا معه، ولا في الأعرج، وتكون «على» بمعنى «في» ، ذكره ابن جرير. وكذلك يخرَّج معنى الآية على كل قول بما يليق به. وقد كان جماعة من المفسرين يذهبون إلى أن آخر الكلام «ولا على المريض حرج» وأن ما بعده مستأنَف لا تعلُّق له به، وهو يقوِّي قول الحسن، وابن زيد.
قوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ فيه ثلاثة أقوال «4» : أحدها: أنها بيوت الأولاد. والثاني:
البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم، فيكون الخطاب لأهل الرجل وولده وخادمه ومَن يشتمل
__________
حسن. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 653 من طريق مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلا، ومراسيل سعيد جياد. وله شاهد من مرسل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أخرجه الطبري 26224. وله شاهد موصول عن عائشة رضي الله عنها، أخرجه البزار 2241 «كشف» . وقال الهيثمي في «المجمع» 11238/ 7: رجاله رجال الصحيح.
- الخلاصة: مرسل سعيد مع مرسل عبيد الله إذا انضم إليهما الموصول رقى بهما إلى درجة الحسن في أقل تقدير، وهذا القول أرجح الأقوال، ومع ذلك باقي الأقوال لا تعارضه، بل تشهد لبعضه، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه الطبري 26220 عن الضحاك مرسلا.
(2) أخرجه الطبري 26221 و 26222 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، لكن هذه الروايات متقاربة، سواء ما تقدم أو ما يأتي. وانظر أحكام القرآن 3/ 420 بتخريجنا.
(3) أخرجه الطبري 26225 عن عبد الرحمن بن زيد، وهذا معضل، وابن زيد واه، والصواب في ذلك الحديث 1062.
(4) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 379: وقوله تعالى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ إنما ذكر هذا، وهو معلوم، ليعطف عليه غيره في اللفظ، وليساوي به ما بعده في الحكم. وتضمن هذا بيوت الأبناء، لأنه لم ينصّ عليهم. ولهذا استدل من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أنت ومالك لأبيك» ، وقوله أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ إلى قوله أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ هذا ظاهر، وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما.(3/307)
عليه منزله، ونسبها إِليهم لأنهم سكّانها. والثالث: أنها بيوتهم، والمراد أكلُهم من مال عيالهم وأزواجهم، لأن بيت المرأة كبيت الرجل. وإِنما أباح الأكل من بيوت القرابات المذكورين، لجريان العادة ببذل طعامهم لهم فإن كان الطعام وراء حِرْزٍ، لم يجز هتك الحرز.
قوله تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الوكيل، لا بأس أن يأكل اليسير، وهو معنى قول ابن عباس. وقرأها سعيد بن جبير، وأبو العالية: «ما مُلِّكْتُمْ» بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها على ما لم يسمَّ فاعله، وفسَّرها سعيد فقال: يعني القهرمان الذي بيده المفاتيح. وقرأ أنس بن مالك، وقتادة، وابن يعمر: «مِفْتَاحَه» بكسر الميم على التوحيد. والثاني: بيت الإِنسان الذي يملكه، وهو معنى قول قتادة. والثالث: بيوت العبيد، قاله الضحاك.
قوله تعالى: أَوْ صَدِيقِكُمْ. قال ابن عباس:
(1044) نزلت هذه في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم غازيا، وخلّف خالد بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهوداً، فقال: تحرَّجْتُ أن آكل من طعامك بغير إِذنك، فنزلت هذه الآية. وكان الحسن وقتادة يريان الأكل من طعام الصَّديق بغير استئذان جائزاً.
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً في سبب نزول هذا ثلاثة أقوال «1» :
(1045) أحدها: أن حيّاً من بني كنانة يقال لهم: بنو ليث كانوا يتحرَّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إِلى الرَّواح، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة والضحاك.
والثاني: أن قوماً من الأنصار كانوا لا يأكلون إِذا نزل بهم ضيف إِلا مع ضيفهم، فنزلت هذه الآية، ورخِّص لهم أن يأكلوا جميعاً أو أشتاتاً، قاله عكرمة «2» . والثالث: أن المسلمين كانوا يتحرَّجون من مؤاكلة أهل الضُّرِّ خوفاً من أن يستأثروا عليهم، ومن الاجتماع على الطعام، لاختلاف الناس في مآكلهم وزيادةِ بعضهم على بعض، فوسِّع عليهم، وقيل: «ليس عليكم جُناح أن تأكُلوا جميعاً» أي:
مجتمعين «أو أشتاتاً» أي: متفرِّقين، قاله ابن قتيبة.
__________
ذكره السيوطي في «أسباب النزول» 807 وقال: أخرجه الثعلبي في «تفسيره» عن ابن عباس، ولم أقف على إسناده، وتفرّد الثعلبي به دليل وهنه.
ضعيف. أخرجه الطبري 26237 عن قتادة مرسلا و 26235 عن الضحاك مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. ولا يصح في سبب نزول هذه الآية خبرا، وإنما ذكرت على سبيل الإرشاد والإباحة. وانظر «أحكام القرآن» 3/ 425 بتخريجنا.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 355: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله وضع الحرج عن المسلمين، أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا، أو أشتاتا متفرقين إذا أرادوا، وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوف من الأغنياء الأكل مع الفقير وبسبب غير ذلك، ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه. والصواب التسليم لما دل عليه ظاهر التنزيل، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل.
(2) ضعيف. أخرجه الطبري 26238 عن عكرمة مرسلا، فهو ضعيف.(3/308)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فيها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها بيوت أنفسكم، فسلِّموا على أهاليكم وعيالكم، قاله جابر بن عبد الله، وطاوس، وقتادة. والثاني: أنها المساجد، فسلِّموا على مَنْ فيها، قاله ابن عباس. والثالث: بيوت الغير، فالمعنى: إِذا دخلتم بيوت غيركم فسلِّموا عليهم، قاله الحسن. قوله تعالى: تَحِيَّةً قال الزجاج: هي منصوبة على المصدر، لأن قوله: فَسَلِّمُوا بمعنى: فحيُّوا وَلْيُحَيِّ بعضكم بعضاً تحيَّةً، مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قال مقاتل: مُبارَكَةً بالأجر، طَيِّبَةً أي: حسنة.
[سورة النور (24) : آية 62]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
قوله تعالى: وَإِذا كانُوا مَعَهُ يعني: مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي: على أمر طاعة يجتمعون عليها، نحو الجهاد والجمعة والعيد ونحو ذلك لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ.
(1046) قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا صَعِد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث يراه، فيعرف أنه إِنما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم، فالأمر إِليه في ذلك. قال مجاهد: وإِذن الإِمام يوم الجمعة أن يشير بيده.
قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ أي: لخروجهم عن الجماعة إِن رأيتَ لهم عذرا.
[سورة النور (24) : الآيات 63 الى 64]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه نهي عن التّعرّض
__________
ذكره الواحدي في «الوسيط» 3/ 331 نقلا عن المفسّرين، ولم أقف على إسناده فهو مما لا أصل له، والمراد في ذلك الجهاد، ويدخل في ذلك كل أمر جامع، لكن سياق الآيات وسباقها يشير إلى الجهاد.
وانظر تفسير الطبري 26257 و 26258 و 26259.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 358: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال معناه: فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين، فليسلم بعضكم على بعض. تَحِيَّةً بمعنى: تحيّون أنفسكم تحية من عند الله السلام تحية، فكأنه قال: فليحيي بعضكم بعضاً تحيَّةً من عند الله.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 360: وأولى التأولين في ذلك بالصواب عندي التأويل الذي قاله ابن عباس، وذلك أن الذي قبل قوله لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
نهي من الله المؤمنين. أن يأتوا من الانصراف عنه، في الأمر الذي يجمع جمعهم، ما يكرهه، والذي بعده وعيد للمنصرفين بغير إذنه عنه، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سخطه، أن يضطره إلى الدعاء عليهم، أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء.(3/309)
لإسخاط رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فانه إِذا دعا على شخص فدعوتُه موجبة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم أُمروا أن يقولوا: يا رسول الله، ونُهوا أن يقولوا: يا محمّد، قاله سعيد بن جبير، وعلقمة، والأسود، وعكرمة، ومجاهد. والثالث: أنه نهي لهم عن الإِبطاء إِذا أمرهم والتأخّرِ إِذا دعاهم، حكاه الماوردي.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وأبو المتوكّل، ومعاذ القارئ: «دعاء الرسولِ نبِيِّكم» بياء مشددة ونون قبل الباء.
قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ التسلل: الخروج في خفية. واللِّواذ: أن يستتر بشيء مخافة مَن يراه. والمُراد بقوله «قد يَعْلَمُ» التهديدُ بالمجازاة. قال الفراء: كان المنافقون يشهدون الجمعة فيذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويعيبهم بالآيات التي أُنزلت فيهم، فإن خفي لأحدهم القيام قام، فذلك قوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي: يلوذ هذا بهذا، أي: يستتر ذا بذا. وإِنما يقال:
«لواذاً» لأنها مصدر «لاوَذْتُ» ، ولو كان مصدراً ل «لذت» لقلت: لذت لياذا، كما يقال: قُمْتُ قِيَاماً.
وكذلك قال ثعلب: وقع البناء على لاوَذَ مُلاوَذةً، ولو بني على لاذ يَلُوذ، لقيل: لياذاً. وقيل: هذا كان في حفر الخندق، كان المنافقون ينصرفون عن غير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم مختفين. قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، قاله مجاهد.
والثاني: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة. وفي «عن» قولان: أحدهما: أنها زائدة، قاله الاخفش.
والثاني: أن معنى «يخالفون» : يُعْرِضون عن أمره. وفي الفتنة ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: الضلالة، قاله ابن عباس. والثاني: بلاء في الدّنيا، قاله قاله مجاهد. والثالث: كفر، قاله السدي، ومقاتل.
قوله تعالى: أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فيه قولان: أحدهما: القتل في الدنيا. والثاني: عذاب جهنم في الآخرة. قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي: ما في أنفسكم، وما تنطوي عليه ضمائركم من الإِيمان والنفاق وهذا تنبيه على الجزاء على ذلك. والله أعلم بالصّواب.(3/310)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
سورة الفرقان
قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة في آخرين: هي مكية «1» . وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إِلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله تعالى: غَفُوراً رَحِيماً «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)
قوله تعالى: تَبارَكَ قد شرحناه في سورة الأعراف «3» ، والفُرقان: القرآن، سمي فُرقاناً، لأنه فُرق به بين الحق والباطل. والمراد بعبده: محمد صلى الله عليه وسلّم، لِيَكُونَ فيه قولان:
أحدهما: أنه كناية عن عبده، قاله الجمهور. والثاني: عن القرآن، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: لِلْعالَمِينَ يعني الجن والإِنس نَذِيراً أي: مخوّفا من عذاب الله.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 13/ 5: سورة الفرقان مكية كلها في قول الجمهور. ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة، والرد على مقالاتهم وجهالاتهم.
(2) الفرقان: 68- 70.
(3) الأعراف: 54. قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 383: يقول الله تعالى حامدا نفسه الكريمة على ما نزّله على رسوله الكريم من القرآن العظيم، كما قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً وقال ها هنا: تَبارَكَ وهو تفاعل من البركة المستقرة الدائمة الثابتة الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ فعل من التكرر والتكثر كما قال: وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة، والقرآن نزل منجما مفصلا آيات بعد آيات، وأحكاما بعد أحكام، وسورا بعد سور. وهذا أبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ولذلك سمّاه ها هنا الفرقان، لأنه يفرق بين الحق والباطل. والحلال والحرام، والهدى والضلال، والغي والرشاد.(3/311)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
قوله تعالى: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: سوَّاه وهيَّأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت. والثاني: قَدَّر له ما يُصلحه ويُقيمه. والثالث: قدَّر له تقديراً من الأجَل والرِّزق.
ثم ذكر ما صنعه المشركون، فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعني: الأصنام لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي: وهي مخلوقة وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا أي: دَفْع ضرّ، ولا جَرّ نفع، لأنها جماد لا قُدرة لها وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً أي: لا تملك أن تُميت أحداً، ولا أن تحيي أحداً، ولا أن تبعث أحداً من الأموات والمعنى: كيف يعبُدون ما هذه صفته، ويتركون عبادةَ من يقدر على ذلك كلِّه؟!
[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: مشركي قريش وقال مقاتل: وهو قول النَّضْر بن الحارث من بني عبد الدار إِنْ هَذا أي: ما هذا، يعنون القرآن إِلَّا إِفْكٌ أي: كذب افْتَراهُ أي: اختلقه من تلقاء نفسه وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قال مجاهد: يعنون اليهود وقال مقاتل: أشاروا إلى عدّاس مولى حويطب، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى لعامر أيضاً، وكان الثلاثة من أهل الكتاب.
قوله تعالى: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. قال الزّجّاج: المعنى فقد جاءوا بظلم وزور فلما سقطت الباء، أفضى الفعل فنصب، والزُّور: الكذب. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ المعنى: وقالوا: الذي جاء به أساطير الأولين، وقد بيَّنَّا ذلك في (الأنعام) «1» . قال المفسرون: والذي قال هذا هو النضر بن الحارث.
ومعنى اكْتَتَبَها أَمر أن تُكْتَب له. وقرأ ابن مسعود، وإِبراهيم النخعي، وطلحة بن مصرف:
«اكْتُتِبَها» برفع التاء الأولى وكسر الثانية، والابتداءُ على قراءتهم برفع الهمزة، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي:
تُقرَأ عليه ليحفظها لا ليكتبها، لأنه لم يكن كاتباً، بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي: غُدوة وعشيّاً. قُلْ لهم يا محمد: أَنْزَلَهُ يعني: القرآن الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي: لا يخفى عليه شيء فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 9]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)
قوله تعالى: وَقالُوا يعني المشركين مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ أنكروا أن يكون الرسول بَشَراً يأكل الطعام ويمشي في الطُّرق كما يمشي سائر الناس يطلب المعيشة والمعنى: أنه ليس بملَك ولا ملِك، لأن الملائكة لا تأكل، والملوك لا تتبذَّل في الأسواق، فعجبوا أن يكون مساوياً للبشر لا يتميَّز عليهم بشيء وإِنما جعله الله بشراً ليكون مجانساً للذين أُرسل إِليهم، ولم يجعله ملِكاً يمتنع
__________
(1) الأنعام: 25.(3/312)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
من المشي في الأسواق، لأن ذلك من فعل الجبابرة، ولأنه أُمر بدعائهم، فاحتاج أن يمشي بينهم. قوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ وذلك أنهم قالوا له: سل ربك أن يبعث معك ملَكاً يصدِّقك ويجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا فذلك قوله تعالى: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي: ينزل إِليه كنز من السماء أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي: بستان يأكل من ثماره. قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «يأكل منها» بالياء، يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلّم. وقرأ حمزة، والكسائي: «نأكل» بالنون، قال أبو علي: المعنى: يكون له علينا مزيِّة في الفضل بأكلنا من جنته. وباقي الآية مفسَّر في (بني إِسرائيل) «1» .
قوله تعالى: انْظُرْ يا محمد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ حين مثَّلوك بالمسحور، وبالكاهن والمجنون والشاعر فَضَلُّوا بهذا عن الهدى فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فيه قولان:
أحدهما: لا يستطيعون مَخرجاً من الأمثال التي ضربوها، قاله مجاهد، والمعنى أنهم كذّبوا ولم يجدوا على قولهم حُجَّة وبرهاناً. وقال الفراء: لا يستطيعون في أمرك حيلة.
والثاني: سبيلاً إِلى الطاعة، قاله السّدّيّ.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 10 الى 14]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)
ثم أخبر أنه لو شاء لأعطاه خيراً مما قالوا في الدنيا، وهو قوله: خَيْراً مِنْ ذلِكَ يعني: لو شئتُ لأعطيتُك في الدنيا خيراً مما قالوا، لأنه قد شاء أن يعطيَه ذلك في الآخرة. وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً
قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «ويجعلُ لكَ قصوراً» برفع اللام. وقرأ أبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «ويجعلْ» بجزم اللام. فمن قرأ بالجزم، كان المعنى: إِن يشأْ يجعلْ لك جنات ويجعلْ لك قصوراً. ومن رفع، فعلى الاستئناف المعنى: وسيجعل لكَ قصوراً في الآخرة. وقد سبق معنى «اعتدنا» «2» ومعنى «السّعير» «3» .
قوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال السدي عن أشياخه: من مسيرة مائة عام.
فان قيل: السعير مذكَّر، فكيف قال: «إِذا رأتهم» ؟ فالجواب: أنه أراد بالسعير النار.
قوله تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً فيه قولان: أحدهما: غَلَيان تَغَيُّظ، قاله الزجاج. قال المفسرون:
والمعنى أنها تتغيَّظ عليهم فيسمعون صوت تغيُّظها وزفيرها كالغضبان إِذا غلا صدره من الغيظ. والثاني:
يسمعون فيها تغيُّظ المعذَّبين وزفيرهم، حكاه ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً قال المفسرون: تضيِّق عليهم كما يضيِّق الزُّجُّ على الرُّمح، وهم قد قُرنوا مع الشياطين. والثُّبور: الهَلَكة. وقرأ عاصم الجحدريّ، وابن السّميفع: «ثبورا» بفتح الثاء.
__________
(1) الإسراء: 47. [.....]
(2) النساء: 37.
(3) النساء: 10.(3/313)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
قوله تعالى: وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قال الزجاج: الثُّبور مصدر، فهو للقليل والكثير على لفظ الواحد، كما تقول: ضربته ضرباً كثيراً، والمعنى: هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة.
(1047) وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أول من يُكْسى من أهل النار يوم القيامة إِبليس، يُكْسى حُلَّة من النَّار فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريَّتُه خلفه وهو يقول: ووا ثبوراه، وهم ينادون: يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار، فينادي: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم، فيقول الله عزّ وجلّ: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 15 الى 16]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
قوله تعالى: قُلْ أَذلِكَ يعني: السعير خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ وهذا تنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين، لا على أن في السعير خيراً. وقال الزجاج: قد وقع التساوي بين الجنة والنار في أنهما منزلان، فلذلك وقع التفضيل بينهما. قوله تعالى: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً أي: ثواباً وَمَصِيراً أي:
مَرْجِعاً. قوله تعالى: كانَ عَلى رَبِّكَ المشار إِليه، إِما الدخول، وإِما الخُلود وَعْداً وعدهم الله إِياه على ألسنة الرسل. وفي معنى «مسؤولاً» قولان: أحدهما: مطلوباً. وفي الطالب له قولان. أحدهما:
أنهم المؤمنون، سألوا الله في الدنيا إِنجاز ما وعدهم به. والثاني: أن الملائكة سألته ذلك لهم، وهو قوله: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «1» . والثاني: أن معنى المسؤول: الواجب.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: «يحشرهم» «فيقول» بالياء
__________
ضعيف. أخرجه أحمد 3/ 152- 154- 249 وابن أبي شيبة 13/ 168 والبزار 3495 «كشف» والطبري 26294 والخطيب 11/ 253 والواحدي في «الوسيط» 3/ 336 وأبو نعيم 6/ 256 من حديث أنس، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد وقد تفرّد به. وصححه السيوطي في «الدر» 5/ 117 فلم يصب. وقال الهيثمي في «المجمع» 18611: رجاله رجال الصحيح غير علي بن زيد، وقد وثق. وفيما قاله نظر إذ كان عليه أن يضعف علي بن زيد حيث ضعفه الجمهور، وهو الذي استقر عليه ابن حجر في «التقريب» حيث قال: ضعيف. وعبارة الهيثمي توهم أنه لم يضعف، وقد وثقه بعضهم.
__________
(1) غافر: 8.(3/314)
فيهما. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «نحشرهم» بالنون «فيقول» بالياء. وقرأ ابن عامر: «نحشرهم» «فنقول» بالنون فيهما جميعا ويعني: المشركين، وَما يَعْبُدُونَ قال مجاهد: يعني عيسى وعزيراً والملائكة. وقال عكرمة، والضحاك: يعني الأصنام، فيأذن الله للأصنام في الكلام، ويخاطبها: فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي أي: أمرتموهم بعبادتكم أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي: أخطئوا الطريق. قالُوا يعني الأصنام سُبْحانَكَ نزَّهوا الله تعالى أن يُعْبَدَ غيره ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ نُواليهم والمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نَعبد نحن غيرك، فكيف ندعو إِلى عبادتنا؟! فدل هذا الجواب على أنهم لم يأمروا بعبادتهم. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وابن جبير، والحسن، وقتادة، وأبو جعفر، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: «أن نُتَّخَذ» برفع النون وفتحِ الخاء. ثم ذكروا سبب تركهم للإيمان، فقالوا: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ أي: أطلت لهم العمر وأوسعت لهم الرزق حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي: تركوا الإِيمان بالقرآن والاتِّعاظَ به وَكانُوا قَوْماً بُوراً قال ابن عباس: هَلْكى. وقال في رواية أخرى، البُور: في لغة أزد عُمان: الفاسد. قال ابن قتيبة: هو من بارَ يَبُور: إِذا هلك وبطَل، يقال: بار الطعامُ: إِذا كَسَد، وبارت الأَيّمُ: إِذا لم يُرغَبْ فيها.
(1048) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتعوَّذُ من بَوَار الأيِّمِ.
قال: وقال أبو عبيدة: يقال رجل بُورٌ وقوم بور، لا يُجمَع ولا يُثنَّى، واحتج بقول الشاعر:
يا رَسُولَ المَلِيكِ إِنَّ لِسَاني ... رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بور «1»
قال: وقد سمعنا ب «رجل بائر» ، ورأيناهم ربما جمعوا «فاعلاً» على «فُعْل» ، نحو عائذٍ وعُوذٍ، وشارِفٍ وشُرْفٍ. قال المفسرون: فيقال للكفار حينئذ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أي: فقد كذَّبكم المعبودون في قولكم: إنهم آلهة. وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد، ومعاذ القارئ، وابن شنبوذ عن قنبل: «بما يقولون» بالياء والمعنى: كذَّبوكم بقولهم: سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا الآية هذا قول الأكثرين. وقال ابن زيد:
الخطاب للمؤمنين فالمعنى: فقد كذَّبكم المشركون بما تقولون: إنّ محمّدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً قرأ الأكثرون بالياء. وفيه وجهان: أحدهما: فما يستطيع المعبودون صرفاً للعذاب عنكم ولا نصراً لكم. والثاني: فما يستطيع الكفار صرفاً لعذاب الله عنهم ولا نصراً لأنفسهم. وقرأ حفص عن عاصم: «تستطيعون» بالتاء والخطاب للكفار. وحكى ابن قتيبة عن يونس البصري أنه قال: الصَّرْف: الحيلةُ من قولهم: إِنه ليتصرَّف. قوله تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أي: بالشِّرك نُذِقْهُ في الآخرة. وقرأ عاصم الجحدري، والضحاك، وأبو الجوزاء وقتادة: «يذقه» بالياء عَذاباً كَبِيراً أي: شديداً. وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال الزجاج:
في الآية محذوف، تقديره: وما أرسلنا قبلك رُسلاً من المرسَلين، فحذفت رسلاً لأن قوله: مِنَ الْمُرْسَلِينَ يدلّ عليها.
قوله تعالى: إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي: إِنهم كانوا على مثل حالك،
__________
لا أصل له في المرفوع، وإنما هو من كلام بعض السلف. وانظر «تفسير القرطبي» 13/ 14.
__________
(1) البيت لعبد الله بن الزبعرى السهمي كما في «اللسان» - بور- و «مجاز القرآن» : 2/ 73.(3/315)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
فكيف تكون بِدْعاً منهم؟! فان قيل: لم كسرت «إنّهم» ها هنا، وفتحت في براءة في قوله تعالى: أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ «1» فقد بيّنّا عِلَّة فتح تلك فأما كسر هذه فذكر ابن الأنباري فيه وجهين:
أحدهما: أن تكون فيها واو للحال مضمرة، فكسرت بعدها «إِنّ» للاستئناف، فيكون التقدير: إلّا وإنّهم ليأكلون الطعام، فأضمرت الواو ها هنا كما أضمرت في قوله تعالى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ «2» ، والتأويل، أو وهم قائلون. والثاني: أن تكون كُسرت لإِضمار «مَنْ» قبلها، فيكون التقدير: وما أرسلنا قبلكَ من المرسَلين إِلا مَنْ إِنهم ليأكلون، قال الشاعر:
فظلُّوا ومنهم دَمْعُه سَابق له ... وآخَرُ يَثني دَمْعَة العَيْنِ بالمَهْلِ «3»
أراد: مَن دمعُه.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الفتنة: الابتلاء والاختبار. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه افتتان الفقير بالغنيّ، يقول: لو شاء لجعلني غنيّاً، والأعمى بالبصير، والسقيم بالصحيح، قاله الحسن. والثاني: ابتلاء الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى، فاذا أراد الشريف أن يُسْلِم فرأى الوضيع قد سبقه بالإِسلام أنف فأقام على كفره، قاله ابن السائب. والثالث: أن المستهزئين من قريش كانوا إِذا رأوا فقراء المؤمنين، قالوا: انظروا إِلى أتباع محمد من موالينا ورُذالتنا، قاله مقاتل.
فعلى الأول: يكون الخطاب بقوله: أَتَصْبِرُونَ لأهل البلاء. وعلى الثاني: للرؤساء، فيكون المعنى:
أتصبرون على سبق الموالي والأتباع. وعلى الثالث: للفقراء والمعنى: أتصبرون على أذى الكفار واستهزائهم، فالمعنى: قد علمتم ما وُعِد الصابرون، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن يصبر وبمن يجزع.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لا يخافون البعث لَوْلا أي: هلاّ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فكانوا رُسلاً إِلينا وأخبرونا بصدقك، أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا أنَّكَ رسوله، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: تكبَّروا حين سألوا هذه الآيات وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً قال الزجاج: العُتُوُّ في اللغة: مجاوزة القَدْرِ في الظُّلم. قوله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ فيه قولان: أحدهما: عند الموت. والثاني: يوم القيامة. قال الزجاج: وانتصب اليوم على معنى: لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة، و «يومَئِذٍ» مؤكِّد ل «يومَ يَرَوْنَ الملائكةَ» والمعنى أنهم يُمنَعون البُشرى في ذلك اليوم ويجوز أن يكون «يومَ» منصوباً على معنى: اذكر يوم يرون الملائكة، ثم أخبر فقال: لا بُشْرى والمجرمون ها هنا: الكفار.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وقرأ قتادة، والضّحّاك، ومعاذ القارئ: «حُجْراً» بضم الحاء.
قال الزجاج: وأصل الحجْر في اللغة: ما حجرتَ عليه، أي: منعتَ من أن يوصل إليه، ومنه حجر
__________
(1) التوبة: 54.
(2) الأعراف: 4.
(3) البيت لذي الرمّة كما في ديوانه ص 570.(3/316)
القضاة على الأيتام. وفي القائلين لهذا قولان «1» : أحدهما: أنهم الملائكة يقولون للكفار: حِجْراً محجوراً، أي: حراماً محرّماً. وفيما حرَّموه عليهم قولان: أحدهما: البُشرى، فالمعنى: حرام محرَّم أن تكون لكم البشرى، قاله الضحاك، والفراء وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أن تدخلوا الجنة، قاله مجاهد. والثاني: أنه قول المشركين إِذا عاينوا العذاب، ومعناه الاستعاذة من الملائكة، روي عن مجاهد أيضاً. وقال ابن فارس: كان الرَّجل إِذا لقيَ مَن يخافه في الشهر الحرام، قال: حجرا محجورا أي: حرام عليكَ أذايَ، فاذا رأى المشركون الملائكة يوم القيامة، قالوا: حِجْراً محجوراً، يظنُّون أنه ينفعهم كما كان ينفعهم في الدنيا.
قوله تعالى: وَقَدِمْنا قال ابن قتيبه: أي: قَصَدْنا وعَمَدْنا، والأصل أنَّ من اراد القُدوم إِلى موضع عَمَد له وقصده. قوله تعالى: إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أي: من أعمال الخير فَجَعَلْناهُ هَباءً لأن العمل لا يُتقبَّل مع الشِّرك. وفي الهباء خمسة أقوال «2» : أحدها: أنه ما رأيتَه يتطاير في الشمس التي تدخل في الكوّة مثل الغبار، قاله عليّ رضي الله عنه، والحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، واللغويون والمعنى أنَّ الله أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء. والثاني: أنه الماء المُهراق، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه ما تنسفه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس. والرابع: أنه الشَّرر الذي يطير من النار إِذا أُضرمت، فاذا وقع لم يكن شيئاً، رواه عطيَّة عن ابن عباس. والخامس: أنه ما يسطع من حوافر الدَّواب، قاله مقاتل. والمنثور: المتفرِّق.
قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة، خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أفضل منزلاً من المشركين وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قال الزجاج: المَقيل: المُقام وقت القائلة، وهو النوم نصف النهار. وقال الأزهري: القيلولة عند العرب: الاستراحة نصف النهار إِذا اشتد الحرّ وإِن لم يكن مع ذلك نوم. وقال ابن مسعود، وابن عباس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يَقِيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 378: يقول تعالى ذكره: يوم يرى هؤلاء الذين قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا بتصديق محمد الملائكة، فلا بشرى لهم بخير وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً يعني أن الملائكة يقولون للمجرمين حجرا محجورا، حراما محرّما عليكم اليوم البشرى أن تكون لكم من الله. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك لأن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البشرى عليهم حرام.
ووافقه ابن كثير رحمه الله 3/ 390.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 391: وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها شيء، فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا، إذ إنها لا شيء بالكلية. وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق، الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشرّ فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ.(3/317)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
قوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا هذا معطوف على قوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ، وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «تَشَّقَّقُ» بالتشديد، فأدغموا التاء فى الشين، لأن الأصل:
تتشقق. قال الفراء: المعنى: تتشقق السماء عن الغمام، وتنزل فيه الملائكة، و «على» و «عن» و «الباء» في هذا الموضع بمعنى واحد، لأن العرب تقول: رميت عن القوس، وبالقوس، وعلى القوس، والمعنى واحد. وقال أبو علي الفارسي: المعنى: تتشقَّقُ السماء وعليها غمام، كما تقول: ركب الأمير بسلاحه، وخرج بثيابه، وإِنما تتشقَّق السماء لنزول الملائكة. قال ابن عباس: تتشقق السماء عن الغمام، وهو الغيم الأبيض، وتنزل الملائكة في الغمام. وقال مقاتل: المراد بالسماء: السّموات، تتشقق عن الغمام، وهو غمام أبيض كهيئة الضَّباب، فتنزل الملائكة عند انشقاقها. وقرأ ابن كثير: «ونُنْزِلُ» بنونين، الأولى مضمومة، والثانية ساكنة، واللام مضمومة، و «الملائكةَ» نصباً. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني: «ونَزَّلَ» بنون واحدة مفتوحة ونصب الزاي وتشديدها وفتح اللام ونصب «الملائكةَ» . وقرأ ابن يعمر: «ونَزَلَ» بفتح النون واللام والزاي والتخفيف «الملائكةُ» بالرفع. قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ قال الزجاج: المعنى: المُلْك الذي هو المُلْك حقّاً للرحمن «1» . فأما العسير، فهو الصعب الشديد يشتد على الكفار، ويهون على المؤمنين فيكون كمقدار صلاة مكتوبة.
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(1049) أحدها: أن أُبيَّ بن خَلَف كان يحضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويجالسه من غير أن يؤمن به، فزجره عُقبة بن أبي مُعَيط عن ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس.
(1050) والثاني: أن عُقبة دعا قوماً فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم لطعام فأكلوا، وأبى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأكل، وقال: «لا آكل حتى تَشهد أن لا إِله إِلا الله وأنِّي رسولُ الله» ، فشهد بذلك عقبة، فبلغ ذلك
__________
أخرجه الطبري 26347، وإسناده ضعيف جدا، فيه عنعنة ابن جريج، وهو مدلس، وفيه إرسال بين عطاء الخراساني وابن عباس.
ضعيف. أخرجه الطبري 26351 عن مجاهد به. وأخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 401 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره، والكلبي كذاب متهم، وأبو صالح ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 657 م و «الوسيط» 3/ 339 بدون إسناد.
الخلاصة: الخبر واه، وتخصيص الآية بواحد من بدع التأويل، بل «ال» في الظالم لاستغراق الجنس، فالآية تعم كل ظالم كافر، وعقبة داخل في العموم ومثله أبي بن خلف وغيرهما.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 393: وقوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وفي الصحيح: «أن الله يطوي السموات بيمينه ويأخذ الأرضين بيده ثم يقول: أنا الملك، أنا الديان، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» .(3/318)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
أُبيَّ بن خَلَف، وكان خليلاً له، فقال: صبوت يا عقبة؟ فقال: لا والله، ولكنه أبى أن يأكل حتى قلت ذلك، وليس من نفسي، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
(1051) والثالث: أن عُقبة كان خليلاً لأُميَّة بن خَلَف، فأسلم عُقبة، فقال أُمية: وجهي من وجهك حرام إِن تابعتَ محمداً، فكفر وارتدَّ لرضى أُميَّة، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي.
فأمّا الظالم المذكور ها هنا، فهو الكافر، وفيه قولان:
أحدهما: أنه أُبيُّ بن خَلَف، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: عُقبة بن أبي مُعَيط، قاله مجاهد وسعيد بن جبير، وقتادة. وقال عطاء: يأكل يديه حتى تذهبا إِلى المرفقين، ثم تنبتان، فلا يزال هكذا كلَّما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل.
قوله تعالى: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ الأكثرون يسكِّنون «يا ليتني» ، وأبو عمرو يحرِّكها، قال أبو علي:
والأصل التحريك، لأنها بازاء الكاف التي للخطاب، إِلا أن حرف اللِّين تكره فيه الحركة، ولذلك أسكن من أسكن والمعنى: ليتني اتَّبعتُه فاتَّخذتُ معه طريقاً إلى الهُدى.
قوله تعالى: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً في المشار إِليه أربعة أقوال: أحدها: أنه عنى أُبيَّ بن خَلَف، قاله ابن عباس. والثاني: عقبة بن أبي مُعَيط، قاله أبو مالك. والثالث: الشيطان، قاله مجاهد. والرابع:
أميّة بن خَلَف، قاله السدي. فان قيل: إِنما يكنى من يخاف المبادأة أو يحتاج إِلى المُداجاة، فما وجه الكناية؟ فالجواب: أنه أراد بالظالم: كلَّ ظالم، وأراد بفلان: كلَّ من أُطيع في معصية الله وأُرضي بسخط الله، وإِن كانت الآية نزلت في شخص، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي: صرفني عن القرآن والإِيمان به بَعْدَ إِذْ جاءَنِي مع الرسول، وها هنا تم الكلام. ثم قال الله تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ يعني: الكافر خَذُولًا يتبرأ منه في الآخرة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 31]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31)
قوله تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ يعني محمّدا صلى الله عليه وسلّم، وهذا عند كثير من العلماء أنه يقوله يوم القيامة فالمعنى: ويقول الرسول يومئذ. وذهب آخرون، منهم مقاتل، إِلى أن الرسول قال ذلك شاكياً من قومه إِلى الله تعالى حين كذَّبوه «1» . وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «إِن قوميَ اتخذوا» بتحريك الياء وأسكنها عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 26348 عن الشعبي هكذا مرسلا.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 394: يقول الله تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلّم دائما إلى يوم الدين- أنه قال: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً. وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يسمعونه، وكانوا إذا تلي عليهم أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه، وترك علمه وحفظه أيضا من هجرانه وترك تفهمه وتدبره من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك العمل به من امتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره، من هجرانه. فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء، أن يخلصنا مما يسخطه، ويستعملنا فيما يرضيه، من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه كريم وهّاب.(3/319)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
وفي المراد بقوله: مَهْجُوراً قولان: أحدهما: متروكاً لا يلتفتون إِليه ولا يؤمنون به، وهذا معنى قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: هجَروا فيه، أي: جعلوه كالهذَيان، ومنه يقال: فلان يَهْجُر في منامه، أي: يَهْذِي، قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: الهُجْر: ما لا يُنتفع به من القول: قال المفسرون:
فعزّاه الله عزّ وجلّ، فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي: كما جعلنا لك أعداءً من مشركي قومك، جعلنا لكلِّ نبيّ عدوّاً من كفّار قومه والمعنى: لا يَكْبُرَنَّ هذا عليك، فلك بالأنبياء أسوة وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً لك وَنَصِيراً يمنعك من عدوِك. قال الزجاج: والباء في قوله: بِرَبِّكَ زائدة فالمعنى: كفى ربُّك هاديا ونصيرا.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 32 الى 34]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
قوله تعالى: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي: كما أُنزلت التوراةُ والإِنجيل والزَّبور، فقال الله عزّ وجلّ: كَذلِكَ أي: أنزلناه كذلك متفرِّقاً، لأن معنى ما قالوا: لِمَ نُزِّل عليه متفرِّقاً؟ فقيل:
إِنما أنزلناه كذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي: لنُقَوِّي به قلبَك فتزداد بصيرة، وذلك أنه كان يأتيه الوحي في كل أمر وحادثة، فكان أقوى لقلبه وأنور لبصيرته وأبعد لاستيحاشه، وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي: أنزلناه على الترتيل، وهو التمكُّث الذي يُضادُّ العَجَلة.
قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ يعني المشركين بِمَثَلٍ يضربونه لك في مخاصمتك وإِبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي: بالذي هو الحقّ لنردّ به كيدهم وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً من مَثَلهم والتفسير: البيان والكشف. قال مقاتل: ثم أخبر بمستقرِّهم في الآخرة، فقال: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ وذلك أن كفار مكة قالوا: إِن محمداً وأصحابه شُرُّ خلق الله، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي: منزلاً ومصيراً وَأَضَلُّ سَبِيلًا ديناً وطريقاً من المؤمنين.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 39]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
قوله تعالى: اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. إِن قيل: إِنما عاينوا الآيات بعد وجود الرسالة، فكيف يقع التكذيب منهم قبل وجود الآيات؟ فالجواب: أنهم كانوا مكذِّبين أنبياءَ الله وكتبه(3/320)
المتقدِّمة، ومن كذَّب نبيّاً فقد كذَّب سائر الأنبياء، ولهذا قال: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ، وقال الزجاج: يجوز ان يكون المرادَ به نوحٌ وحده، وقد ذُكر بلفظ الجنس، كما يقال: فلان يركب الدوابّ، وإِن لم يركب إِلا دابّة واحدة وقد شرحنا هذا في سورة هود عند قوله: وَعَصَوْا رُسُلَهُ «1» . وقد سبق معنى التّدمير.
قوله تعالى: وَأَصْحابَ الرَّسِّ في الرَّسِّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بئر كانت تسمى الرَّسِّ، قاله ابن عباس في رواية العوفي. وقال في رواية عكرمة: هي بئر بأذربيجان. وزعم ابن السائب أنها بئر دون اليمامة. وقال السدي: بئر بأنطاكية. والثاني: أن الرَّسَّ قرية من قرى اليمامة، قاله قتادة. والثالث: أنها المَعْدِن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة.
وفي تسميتها بالرَّسِّ قولان: أحدهما: أنهم رَسُّوا نبيَّهم في البئر، قاله عكرمة. قال الزجاج:
رَسُّوه، أي: دَسُّوه فيها. والثاني: أن كل رَكِيَّة لم تطو فهي رَسٌّ، قاله ابن قتيبة.
واختلفوا في أصحاب الرَّسِّ على خمسة أقوال «2» : أحدها: أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة، فبعث الله إِليهم نبيّاً من ولد يهوذا بن يعقوب، فحفروا له بئراً وألقَوه فيها، فهلكوا، قاله عليّ بن أبي طالب.
والثاني: أنهم قوم كان لهم نبيّ يقال له: حنظلة بن صفوان، فقتلوا نبيَّهم فأهلكهم الله، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أنهم كانوا أهل بئر ينزلون عليها، وكانت لهم مواشٍ، وكانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إِليهم شُعيباً، فتمادَوا في طغيانهم، فانهارت البئر، فخُسف بهم وبمنازلهم، قاله وهب بن منبه.
والرابع: أنهم الذين قتلوا حبيباً النجار، قتلوه في بئر لهم، وهو الذي قال: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ «3» ، قاله السدي. والخامس: أنهم قوم قتلوا نبيَّهم وأكلوه، وأولُ من عمل السحر نساؤهم، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَقُرُوناً المعنى: وأهلكنا قروناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي: بين عاد وأصحاب الرّسّ.
وقد سبق بيان القرون «4» وفي هذه القصص تهديد لقريش.
قوله تعالى: وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي: أعذرنا إِليه بالموعظة وإِقامة الحجَّة وَكُلًّا تَبَّرْنا قال الزجاج: التَّتبير: التدمير، وكل شىء كسرته وفتّتّه فقد تبَّرته، وكُسارته: التِّبر، ومن هذا قيل لمكسور الزّجّاج: التّبر، وكذلك تبر الذهب.
__________
(1) هود: 59.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 397: واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود، الذين ذكروا في سورة البروج، والله أعلم.
(3) يس: 20. [.....]
(4) الأنعام: 6. قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 397: وقوله وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي: وأمما بين أصناف من ذكر أهلكناهم كثيرة، والقرن: هو الأمة من الناس، كقوله ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وحدّه بعض المفسّرين بمائة وعشرين سنة، وقيل: بمائة سنة. وقيل: بثمانين سنة، وقيل: أربعين. وقيل غير ذلك، والأظهر أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، فإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهم قرن ثان، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ... الحديث.(3/321)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
[سورة الفرقان (25) : الآيات 40 الى 44]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا يعني كفار مكة عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني قرية قوم لوط التي رُميتْ بالحجارة أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في أسفارهم فيعتبروا؟! ثم أخبر بالذي جرَّأهم على التكذيب، فقال: بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي: لا يخافون بعثاً، هذا قول المفسرين. وقال الزجاج: الذي عليه أهل اللغة أن الرجاء ليس بمعنى الخوف، وإِنما المعنى: بل كانوا لا يرجون ثواب عمل الخير، فركبوا المعاصي.
قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أي: ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً أي: مهزوءاً به، ثم ذكر ما يقولون من الاستهزاء: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أي: ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي: على عبادتها قال الله تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ في الآخرة مَنْ أَضَلُّ أي: مَنْ أَخطأُ طريقاً عن الهدى، أهم، أم المؤمنون. ثم عجَّب نبيَّه من جهلهم حين عبدوا ما دعاهم إِليه الهوى، فقال: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قال ابن عباس: كان أحدهم يعبد الحجر، فاذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخَر. وقال قتادة: هو الكافر لا يهوى شيئاً إِلا ركبه. وقال ابن قتيبة: المعنى: يتَّبع هواه ويدع الحقَّ، فهو له كالإِله. قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي: حفيظا يحفظه من اتِّباع هواه. وزعم الكلبي أن هذه الآية منسوخة بآية القتال.
قوله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ يعني أهل مكة والمراد: يسمعون سماع طالب للإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ ما يعاينون من الحُجج والأعلام إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ وفي وجه تشبيههم بالأنعام قولان: أحدهما: أن الأنعام تسمع الصوت ولا تفقه القول. والثاني: أنه ليس لها همٌّ إِلا المأكل والمشرب. قوله تعالى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تهتدي لمراعيها وتنقاد لأربابها وتُقبل على المحسِن إِليها، وهم على خلاف ذلك.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)(3/322)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ أي: إِلى فِعْل ربِّك. وقال الزجاج: معناه: ألم تعلم، فهو من رؤية القلب، ويجوز أن يكون من رؤية العين، فالمعنى: ألم تر إِلى الظِّلِّ كيف مَدَّه ربُّك؟ والظِّلُّ من وقت طلوع الفجر إِلى وقت طلوع الشمس وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي: ثابتا لا يزول ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فالشمس دليل على الظل، فلولا الشمس ما عُرف أنه شيء، كما أنه لولا النُّور ما عُرفت الظُّلمة، فكل الأشياء تُعرف بأضدادها. قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا يعني: الظل قَبْضاً يَسِيراً وفيه قولان: أحدهما: سريعاً، قاله ابن عباس. والثاني: خفيّاً، قاله مجاهد. وفي وقت قبض الظل قولان: أحدهما: عند طلوع الشمس يُقبض الظِّل وتُجمع أجزاؤه المنبسطة بتسليط الشمس عليه حتى تنسجه شيئاً فشيئاً. والثاني: عند غروب الشمس تُقبض أجزاء الظِّل بعد غروبها، ويخلّف كل جزء منه جزءاً من الظلام.
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي: ساتراً بظلمته، لأن ظلمته تغشى الأشخاص وتَشتمل عليها اشتمال اللباس على لابسه وَالنَّوْمَ سُباتاً قال ابن قتيبة: أي: راحة، ومنه يوم السبت، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة، وكان الفراغ منه في يوم السبت، فقيل لبني إِسرائيل: استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا فيه شيئاً، فسمِي يوم السبت، أي: يوم الراحة، وأصل السبت: التَّمدُّد، ومن تمدَّد استراح. وقال ابن الأنباري: أصل السبت، القَطْع، فالمعنى: وجعلنا النوم قَطْعاً لأعمالكم. قوله تعالى:
وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً فيه قولان: أحدهما: تنتشرون فيه لابتغاء الرزق، قاله ابن عباس. والثاني: تُنشَر الرُّوح باليقظة كما تنشر بالبعث، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ قد شرحناه في الأعراف «1» إلى قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً يعني: المطر. قال الأزهري: الطَّهُور في اللغة: الطاهر المُطهِّر. والطَّهور ما يُتَطَهَّر به، كالوَضوء الذي يُتَوضَّأُ به، والفَطُور الذي يُفْطَر عليه.
قوله تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو جعفر: «مَيِّتاً» بالتشديد. قال الزجاج: لفظ البلدة مؤنَّث، وإِنما قيل: «ميتاً» لأن معنى البلدة والبلد سواء. وقال غيره:
إِنما قال: «ميتاً» ، لأنه أراد بالبلدة المكان. وقد سبق معنى صفة البلدة بالموت. ومعنى: «ونسقيه» «2» .
وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، والضحاك، والأعمش، وابن أبي عبلة: «نسقيه» بفتح النون. فأما الأناسيُّ، فقال الزجاج: هو جمع إِنسيّ، مثل كرسيّ وكراسي، ويجوز أن يكون جمع إنسان، وتكون الياء بدلاً من النون، الأصل: أناسين مثل سَراحين. وقرأ أبو مجلز، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: «وأناسيَ» بتخفيف الياء.
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ يعني المطر بَيْنَهُمْ مرة لهذه البلدة، ومرة لهذه لِيَذَّكَّرُوا أي:
ليتفكَّروا في نِعَم الله عليهم فيه فيحمدوه. وقرأ حمزة، والكسائي: «لِيَذْكُروا» خفيفة الذال. قال أبو علي: يَذَّكَّر في معنى يتذكَّر، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وهم الذين يقولون: مُطِرنا بنوء كذا وكذا، كفروا بنعمة الله. وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً المعنى: إِنّا بعثناك إِلى جميع القُرى لعِظَم كرامتك، فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ، وذلك أن كفار مكة دَعَوه إِلى دين آبائهم، وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي: بالقرآن جِهاداً كَبِيراً أي: تامّاً شديدا.
__________
(1) الأعراف: 57.
(2) الحجر: 24.(3/323)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
[سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 55]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ قال الزجاج: أي: خلَّى بينهما تقول: مرجتُ الدابَّة وأمرجتُها: إِذا خلَّيتَها ترعى. ومنه الحديث:
(1052) «مَرِجَتْ عهودُهم وأماناتهم» أي: اختلطت.
قال المفسرون: والمعنى «1» أنه أرسلهما في مجاريهما، فما يلتقيان، ولا يختلط المَلِح بالعذب، ولا العذب بالمَلِحِ، وهو قوله تعالى: هذا يعني: أحد البحرين عَذْبٌ أي: طيِّب، يقال: عَذُبَ الماءُ يَعْذُبُ عُذوبةً، فهو عَذْبٌ. قال الزجاج: والفُرات صفة للعَذْب، وهو أشد الماء عُذوبة، والأُجَاج صفة للملح، وهو: المُرُّ الشديد المرارة. وقال ابن قتيبة: هو أشد الماء ملوحة، وقيل: هو الذي
__________
صحيح. أخرجه أحمد 2/ 212 وأبو داود 4343 من طريق يونس بن أبي إسحاق عن هلال بن خباب به من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهلال بن خباب حسن الحديث إذا لم يخالف ثقة. وأخرجه أحمد 2/ 221 وأبو داود 4342 وابن ماجة 3957 من طريق أبي حازم، حدثنا عمارة بن عمرو به. وصححه الحاكم 4/ 435 ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وأخرجه أحمد 2/ 162 من طريق إسماعيل عن يونس عن الحسن أن عبد الله بن عمرو قال: وهذا إسناد فيه كلام. ويشهد له حديث أبي هريرة الذي أخرجه الدولابي في «الكنى» 2/ 35 وصححه ابن حبان 1849. وأخرجه البخاري 478 من طريق حامد بن عمر عن بشر، عن عاصم عن واقد عن أبيه عن ابن عمر- أو ابن عمرو- «شبك النبي صلى الله عليه وسلّم أصابعه» . وعلقه البخاري 480. قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا عبد الله بن عمرو، كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس، بهذا» . وقال الحافظ في الفتح 1/ 566 بعد أن ذكر هذا: (وقد ساقه الحميدي في الجمع بين الصحيحين نقلا عن أبي مسعود) ، وزاد هو:
«قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه» . وأخرجه أبو يعلى 5593 بتمامه: وهو عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو قال: «بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ ذكروا الفتنة أو ذكرت عنده» ، قال: «إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قال: فقمت إليه فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة» .
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 400: وقوله وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ... أي: خلق الماءين:
الحلو والملح. والحلو كالأنهار والعيون والآبار، وهذا هو البحر الحلو الفرات العذب الزلال، واختاره ابن جرير وهذا لا شك فيه، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات. والله سبحانه إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس، فرّقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض، بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم. وقوله: وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي: مالح مر زعاق لا يستساغ، وذلك كالبحار المعروفة الساكنة التي لا تجري ولكن تموج وتضطرب، وتغتلم في زمن الشتاء وشدة الرياح، ومنها ما فيه مد وجزر ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض، فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت بعد الليلة الرابعة عشرة فأجرى الله تعالى- وله القدرة التامة- العادة بذلك فكل هذه البحار الساكنة مالحة الماء لئلا يحصل بسببها نتن الهواء، فيفسد الجو بذلك، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان، ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة.(3/324)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
يُخالطه مرارةٌ، ويقال ماءٌ مِلح، ولا يقال مالح، والبرزخ: الحاجز. وفي هذا الحاجز قولان: أحدهما:
أنه مانع من قدرة الله تعالى، قاله الأكثرون، قال الزجاج: فهما في مرأى العين مختلطان، وفي قدرة الله منفصلان لا يختلط أحدهما بالآخر. قال أبو سليمان الدمشقي: ورأيت عند عَبَّادان من سواد البصرة الماءَ العذب يَنحدر في دجلة نحو البحر، ويأتي المَدُّ من البحر، فيلتقيان، فلا يختلط أحد الماءين بالآخر، يُرى ماء البحر إِلى الخُضرة الشديدة، وماء دجلة إِلى الحُمرة الخفيفة فيأتي المستقي فيغرف من ماء دجلة عذباً لا يخالطه شيء، وإِلى جانبه ماء البحر في مكان واحد. والثاني: أن الحاجز: الأرض واليَبَس، وهو قول الحسن، والأول أصح.
قوله تعالى: وَحِجْراً مَحْجُوراً قال الفراء: أي: حراماً محرَّماً أن يغلب أحدهما صاحبه.
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً أي: من النُّطفة بَشَراً أي: إِنساناً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي: ذا نسب وصِهْرِ. قال علي عليه السلام: النَّسَب: ما لا يحل نكاحه، والصِّهر: ما يَحِلُّ نكاحه.
وقال الضحاك: النسب سبع، وهو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلى قوله تعالى: وَبَناتُ الْأُخْتِ، والصِّهر خمس، وهو قوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ إلى قوله: مِنْ أَصْلابِكُمْ «1» .
وقال طاوس: الرَّضاعة من الصِّهر. وقال ابن قتيبة: «نَسَباً» أي: قرابة النَّسَب، «وصِهراً» أي: قرابة النكاح. وكل شيء من قِبَل الزوج، مثل الأب والأخ، فهم الأحماء، واحدهم حَماً، مثل: قَفاً، وحمو مثل أبو، وحمء مهموز ساكن الميم، وحَمٌ مثل أَبٍ. وحَمَاة المرأة: أُمُّ زوجها، لا لغة فيها غير هذه، وكلّ شيء من قِبَل المرأة، فهم الأَخْتان. والصِّهر يجمع ذلك كلّه. وحكى ابن فارس عن الخليل، أنه قال: لا يقال لأهل بيت الرجل إِلا أَختان، ولأهل بيت المرأة إلّا أصهار. ومن العرب من يجعلهم أصهاراً كلّهم. والصَّهْر: إِذابة الشيء. وذكر الماوردي أن المَناكح سمِّيتْ صِهْراً، لاختلاط الناس بها كما يختلط الشيء إِذا صُهِر.
قوله تعالى: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: مُعيناً للشيطان على ربِّه، لأنّ عبادته الأصنام معاونة للشيطان. والثاني: مُعيناً للمشركين على أن لا يوحِّدوا الله تعالى. والثالث:
مُعِيناً على أولياء ربِّه. والرابع: وكان الكافر على ربِّه هيِّناً ذليلاً، من قولك: ظَهَرتُ بفلان: إِذا جعلتَه وراء ظهرك ولم تلتفت إِليه. قالوا: والمراد بالكافر ها هنا أبو جهل.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 56 الى 60]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
__________
(1) النساء: 23.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 410: يقول الله تعالى ذكره، ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهة لا تنفعهم إذا عبدوها ولا تضرهم إذا تركوا عبادتها، ويتركون عبادة من أنعم عليهم هذه النعم التي لا كفاء لأدناها، ومن إذا أراد عقاب بعض من عصاه من عباده أحل به ما أحل بالذين وصف صفتهم من قوم فرعون وعاد وثمود وأصحاب الرس، فلم يكن لمن غضب عليه عنه ناصر، ولا له عنه دافع وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً فكان الكافر معينا للشيطان على ربه، مظاهرا له على معصيته.(3/325)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
قوله تعالى: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: على القرآن وتبليغ الوحي مِنْ أَجْرٍ وهذا توكيد لصِدْقه، لأنه لو سأَلهم شيئاً من أموالهم لاتَّهموه، إِلَّا مَنْ شاءَ معناه: لكن من شاء أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بإنفاق ماله في مرضاة الله، فَعَل ذلك، فكأنه قال: لا أسألكم لنفسي. وقد سبق تفسير الكلمات التي تلي هذه «1» ، إلى قوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً، و «به» بمعنى: «عنه» ، قال ابن أحمر «2» :
فإن تسألوني بالنّساء فإنّي ... بَصِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
وفي هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الله تعالى. والثاني: إِلى اسمه الرحمن، لأنهم قالوا: لا نعرف الرّحمن. الثالث: إِلى ما ذكر مِنْ خَلْق السموات والأرض وغير ذلك. وفي الخبير أربعة أقوال «3» : أحدها: أنه جبريل، قاله ابن عباس: والثاني: أنه الله تعالى، والمعنى: سلني فأنا الخبير، قاله مجاهد. والثالث: القرآن، قاله شمر. والرابع: مُسْلِمة أهل الكتاب، قاله أبو سليمان، وهذا يخرَّج على قولهم: لا نعرف الرَّحمن، فقيل: سَلُوا مُسَلِمة أهل الكتاب، فإنّ الله خاطب موسى في التوراة باسمه الرحمن، فعلى هذا، الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلّم والمراد سواه.
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ يعني كفار مكة اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ قال المفسرون: إِنهم قالوا: لا نعرف الرَّحمن إِلا رحمن اليمامة، فأنكروا أن يكون من أسماء الله تعالى، أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وقرأ حمزة، والكسائي: «يأمُرُنا» بالياء، أي: لِمَا يأمرنا به محمّد، وهذا استفهام إنكار، ومعناها: لا نسجد للرَّحمن الذي تأمرنا بالسجود له، وَزادَهُمْ ذِكر الرحمن نُفُوراً أي: تباعداً من الإيمان.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 62]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً قد شرحناه في الحجر «4» : والمراد بالسراج: الشمس. وقرأ حمزة، والكسائي: «سُرُجاً» بضم السين والراء وإِسقاط الألف. قال الزجاج:
أراد: الشمس والكواكب العظام ويجوز «سُرْجاً» بتسكين الراء، مثل رُسْل ورُسُل. قال الماوردي: لما اقترن بضوء الشمس وهج حَرِّها، جعلها لأجل الحرارة سراجاً، ولمّا عدم ذلك في القمر جعله نورا.
__________
(1) البقرة: 30 وآل عمران: 159 والأعراف: 54.
(2) بل هو علقمة بن عبدة والبيت في ديوانه 11 و «أدب الكاتب» 505.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 402: وقوله: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي: استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به، وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلّم- فهو سيد ولد آدم على الإطلاق، في الدنيا والآخرة، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى- فهو حق، وما أخبر به فهو صدق، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء وجب ردّ نزاعهم إليه، فما يوافق أقواله أفعاله فهو الحق، وما يخالفها فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان. قال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ.
(4) الحجر: 16.(3/326)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً فيه قولان: أحدهما: أن كل واحد منهما يخالف الآخر في اللون، فهذا أبيض، وهذا أسود، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة. والثاني: أن كل واحد منهما يَخْلُفُ صاحبه، رواه عمرو بن قيس الملائي عن مجاهد، وبه قال ابن زيد وأهل اللغة، وأنشدوا قول زهير:
بِهَا العِينُ والآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ «1»
أي: إِذا ذهبت طائفة جاءت طائفة.
قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي: يتَّعظ ويعتبر باختلافهما. وقرأ حمزة: «يَذْكُرَ» خفيفة الذال مضمومة الكاف، وهي في معنى: يتذكَّر، أَوْ أَرادَ شكر الله تعالى فيهما.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 67]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ وقرأ عليّ، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن السميفع: «يُمَشَّون» برفع الياء وفتح الميم والشين وبالتشديد. قال ابن قتيبة: إِنما نسبهم إِليه لاصطفائه إِياهم، كقوله تعالى: ناقَةُ اللَّهِ «2» ، ومعنى «هَوْناً» : مشياً رويداً. ومنه يقال: أَحْبِبْ حبيبك هَوْناً ما.
وقال مجاهد: يمشون بالوقار والسكينة. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أي: سَداداً. وقال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جهل عليهم حَلُموا. وقال مقاتل بن حيّان: «قالوا سلاماً» أي:
قولاً يسْلَمون فيه من الإِثم. وهذه الآية محكمة عند الأكثرين. وزعم قوم أن المراد بها أنهم يقولون للكفار: ليس بيننا وبينكم غير السلام، ثم نُسخت بآية السيف.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ قال الزجاج: كل من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم يقال: بات فلان قلِقاً، إِنما المبيت إِدراك الليل.
قوله تعالى: كانَ غَراماً فيه خمسة أقوال تتقارب معانيها:
(1053) أحدها: دائماً، رواه أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والثاني: موجِعاً، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: مُلِحّاً، قاله ابن السائب وقال ابن جريج:
__________
أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» 5/ 142، ولم أقف على إسناده، وتفرده به يدل على وهنه، ولم يذكره القرطبي ولا ابن كثير ولا غيرهما. وانظر «تفسير الشوكاني» 1798 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» العين: جمع عيناء، وهي واسعة العين، وهي بقر الوحش. والآرام: جمع رئم، وهو الظبي الخالص البياض. والأطلاء: جمع الطلا: وهو الولد من ذوات الظلف والخف، والطلو والطلا: الصّغير من كل شيء. والمجثم: المربض. وهو الموضع الذي يجثم فيه، أي يقام فيه.
(2) الأعراف: 73.(3/327)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
لا يفارق. والرابع: هلاكاً، قاله أبو عبيدة: والخامس: أن الغرام في اللغة: أشدُّ العذاب، قال الشاعر:
وَيَوْمَ النِّسار وَيَوْمَ الجِفا ... رِكانَا عذاباً وكانَا غَرَاماً»
قاله الزجاج.
قوله تعالى: ساءَتْ مُسْتَقَرًّا أي: بئس موضع الاستقرار وموضع الإِقامة هي.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يَقْتِروا» مفتوحة الياء مكسورة التاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «يَقْتُروا» بفتح الياء وضم التاء. وقرأ نافع، وابن عامر: «يُقْتِروا» بضم الياء وكسر التاء. وفي معنى الكلام قولان «2» : أحدهما: أن الإِسراف: مجاوزة الحدِّ في النفقة، والإِقتار: التقصير عمّا لا بُدَّ منه، ويدل على هذا قولُ عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سَرَفاً أن يأكل كلَّ ما اشتهى. والثاني: أنَّ الإِسراف: الإِنفاق في معصية الله وإِن قَلَّ، والإِقتار: منع حق الله تعالى، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج في آخرين. قوله تعالى: وَكانَ يعني الإِنفاق بَيْنَ ذلِكَ أي: بين الإِسراف والإِقتار قَواماً أي: عَدْلاً قال ثعلب: القَوام، بفتح القاف:
الاستقامة والعَدْل، وبكسرها: ما يدوم عليه الأمر ويستقرّ.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 70]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(1054) أحدها: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيُّ الذَّنْب أعظم؟ قال: «أن تَجْعَلَ لله نِدّاً وهو خَلَقَكَ» ، قلتُ: ثم أيّ؟ قال: «أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك» ، قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تُزانيَ حليلة جارك» ، فأنزل الله تعالى تصديقها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية.
(1055) والثاني: أن ناساً من أهل الشرك قَتلوا فأكثَروا وزَنَوْا فأكثَروا، ثم أتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: إِن الذي تقولُ وتدعو إِليه لَحَسَنٌ لو تُخبرنا أنّ لِمَا عَمِلنا كفارة، فنزلت هذه الآية إلى قوله
__________
صحيح. أخرجه البخاري 7520 ومسلم 1/ 90 ح 86 والترمذي 3183 والنسائي 7/ 90 وأحمد 1/ 380 و 431 و 434 من حديث ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» 1799 و «تفسير القرطبي» 4720.
صحيح. أخرجه البخاري 4810 ومسلم 122 وأبو داود 4274 والنسائي في «التفسير» 469 والحاكم 2/ 403 والبيهقي 9/ 98 والواحدي في أسباب النزول 658 من طريق يعلى بن مسلم به.
وأخرجه الطبري 26512 من طريق منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير به.
__________
(1) البيت لبشر بن أبي خازم، كما في «تفسير الطبري» 9/ 410 وفي «اللسان» - غرم- نسبه للطرماح.
(2) قال الطبري رحمه الله 9/ 412: والصواب من القول أن معنى الإسراف الذي عناه الله في هذا الموضع: ما جاوز الحد الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه، والإقتار: ما قصر عما أمر الله به، والقوام بين ذلك. [.....](3/328)
تعالى: غَفُوراً رَحِيماً، أخرجه مسلم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(1056) والثالث: أن وحشيّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أتيتك مستجيراً فأجِرني حتَى أسمع كلام الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قد كنت أُحِبُّ أن أراك على غير جوار، فأما إِذا أتيتَني مستجيراً فأنت في جواري حتى تَسمع كلام الله، قال: فإنِّي أشركت بالله وقتلتُ النَّفْس التي حرَّم الله وزنيتُ، فهل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نزلت هذه الآية، فتلاها عليه، فقال: أرى شرطاً، فلعلِّي لا أعمل صالحاً، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، فدعاه فتلاها عليه، فقال: ولعلِّي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية «1» ، فقال: نعم، الآن لا أرى شرطاً، فأسلم، رواه عطاء عن ابن عباس وهذا وحشيّ هو قاتل حمزة وفي هذا الحديث المذكور عنه نظر، وهو بعيد الصحّة، والمحفوظ في إِسلامه غير هذا، وأنه قَدِم مع رسل الطّائف فأسلم من غير اشتراط.
وقوله تعالى: يَدْعُونَ معناه: يَعْبُدون. وقد سبق بيان قتل النفس بالحق في الأنعام «2» .
قوله تعالى: يَلْقَ أَثاماً وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل: «يُلَقَّ» برفع الياء وفتح اللام وتشديد القاف مفتوحة. قال ابن عباس: يَلْقَ جزاءً. وقال مجاهد، وعكرمة: هو وادٍ في جهنم. وقال ابن قتيبة: يَلْقَ عقوبة، وأنشد:
جَزَى اللهُ ابنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَى ... عُقُوقاً والعُقُوق لَهُ أثام «3»
قال الزجاج: وقوله تعالى: يَلْقَ أَثاماً جزم على الجزاء. قال أبو عمرو الشيباني: يقال: قد لقيَ أثام ذلك، أي: جزاء ذلك، وسيبويه والخليل يذهبان إِلى أن معناه: يلقى جزاء الأثام. قال سيبويه: وإنما جزمت «يُضَاعَفْ له العذابُ» لأن مضاعفة العذاب لُقِيُّ الآثام، فلذلك جزمت، كما قال الشاعر:
مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنا في دِيارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جزْلاً وناراً تَأجَّجَا
لأن الإِتيان هو الإِلمام، فجزم «تُلْمِمْ» لانه بمعنى «تأتي» . وقرأ الحسن: «يُضَعَّفْ» ، وهو جيِّد بالغ تقول: ضاعفتُ الشيءَ وضَعَّفْتُه. وقرأ عاصم: «يُضَاعَفُ» بالرفع على تفسير «يَلْقَ أثاماً» كأنّ قائلاً قال: ما لُقيُّ الأثام؟ فقيل: يُضاعَف للآثم العذاب. وقرأ أبو المتوكل، وقتادة، وأبو حيوة: «يُضْعَف» برفع الياء وسكون الضاد وفتح العين خفيفة من غير ألف. وقرأ أبو حصين الأسدي، والعمري عن أبي
__________
واه. أخرجه الواحدي 660 والطبراني 11480 من حديث ابن عباس، قال في المجمع 7/ 101: فيه أبين بن سفيان ضعفه الذهبي اه. والمتن بهذا اللفظ، وأن وحشيا تردد حتى نزل فيه آيات باطل لا أصل له، وله علة ثانية وهي عنعنة ابن جريج. وانظر «تفسير القرطبي» 3517 بتخريجنا.
__________
(1) الزمر: 53.
(2) الأنعام: 151.
(3) البيت لبلعاء بن قيس الكناني كما في «غريب القرآن» 315. ونسبه في «اللسان» - أثم- إلى شافع الليثي.
والعقوق: عدم بر الوالدين وقطع صلتهما.(3/329)
جعفر مثله، إِلا أن العين مكسورة، و «العذابَ» بالنصب.
قوله تعالى: وَيَخْلُدْ وقرأ أبو حيوة وقتادة والأعمش: «ويُخْلَد» برفع الياء وسكون الخاء وفتح اللام مخففة. وقرأ عاصم الجحدري وابن يعمر وأبو المتوكل مثله، إِلا أنهم شدَّدوا اللام.
فصل:
ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة وفي ناسخها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «1» ، قاله ابن عباس. وكان يقول: هذه مكية، والتي في النساء مدنية. والثاني: أنها نسخت بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ الآية «2» . والثالث: أنّ الأولى نسخت بالثانية، وهي: إِلَّا مَنْ تابَ.
والقول الثاني: أنها محكمة والخلود إِنما كان لانضمام الشرك إِلى القتل والزنا. وفساد القول الأول ظاهر، لأن القتل لا يوجب تخليداً عند الأكثرين وقد بيَّنَّاه في سورة النساء «3» ، والشِّرك لا يُغْفَر إِذا مات المشرك عليه، والاستثناء ليس بنسخ.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ. قال ابن عباس:
(1057) قرأنا على عهد رسول الله سنتين: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ثم نزلت إِلَّا مَنْ تابَ فما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فرح بشيء فرحه بها، وب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
قوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ اختلفوا في كيفية هذا التبديل وفي زمان كونه، فقال ابن عباس: يبدِّل الله شركهم إِيماناً، وقتلهم إِمساكاً، وزناهم إِحصاناً وهذا يدل: أولا:
على أنه يكون في الدنيا، وممن ذهب إلى هذا المعنى سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. والثاني: أن هذا يكون في الآخرة، قاله سلمان رضي الله عنه، وسعيد بن المسيّب، وعليّ بن الحسين. وقال عمرو بن ميمون: يبدِّل الله سيئات المؤمن إِذا غفرها له حسنات، حتى إِن العبد يتمنَّى أن تكون سيئاته أكثر مما هي. وعن الحسن كالقولين. وروي عن الحسن أنه قال: وَدَّ قومٌ يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا من الذُّنوب فقيل: من هم؟ قال: هم الذين قال الله تعالى فيهم: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ.
(1058) ويؤكِّد هذا القولَ حديثُ أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالرّجل يوم القيامة، فيقال:
__________
ضعيف. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 972 والطبراني في «الكبير» 12935 والواحدي 3/ 347 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 84 وقال: رواه الطبراني من رواية علي بن زيد عن يوسف بن مهران، وقد وثقا، وفيهما ضعف، وبقية رجاله ثقات. كذا قال رحمه الله، وما ذكره لعله يصدق على يوسف بن مهران، فقد قال عنه الحافظ. لين الحديث، وأما علي بن زيد فضعيف. وقد ضعفه الجمهور، وجزم الحافظ في «التقريب» بضعفه، وقد روى مناكير كثيرة، وشيخه يوسف بن مهران، وثقة أبو زرعة وابن حبان، وقال أحمد: لا يعرف.
صحيح. أخرجه مسلم 190 والترمذي 2596 وأحمد 5/ 170 وابن حبان 7375 وأبو عوانة 1/ 169- 170 وابن مندة في «الإيمان» 847- 849 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه الترمذي في «الشمائل» 229 والبغوي 4256 من طرق كلهم من حديث أبي ذر.
__________
(1) النساء: 93.
(2) النساء: 48.
(3) النساء: 93.(3/330)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
اعرضوا عليه صِغار ذنوبه، فتُعْرَض عليه صِغار ذنوبه، وتنحّى عنه كبارها، فيقال: عملتَ يوم كذا، كذا وكذا، وهو مُقِرّ لا يُنْكِر، وهو مُشْفِق من الكبار، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة» ، أخرجه مسلم في «صحيحه» .
[سورة الفرقان (25) : الآيات 71 الى 74]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)
قوله تعالى: وَمَنْ تابَ ظاهر هذه التوبة أنها عن الذنوب المذكورة. وقال ابن عباس: يعني:
ممن لم يَقْتُل ولم يزن، وَعَمِلَ صالِحاً فانّي قد قدَّمتُهم وفضَّلتُهم على من قاتل نبيّي واستحلَّ محارمي.
قوله تعالى: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً قال ابن الأنباري: معناه: من أراد التوبة وقصد حقيقتها، فينبغي له أن يُريد اللهَ بها ولا يخلط بها ما يُفسدها وهذا كما يقول الرجل: من تجر فانه يتّجر في البزّ، ومن ناظر فانه يناظر في النحو، أي: من أراد ذلك، فينبغي أن يقصد هذا الفن قال: ويجوز أن يكون معنى هذه الآية: ومن تاب وعمل صالحاً، فان ثوابه وجزاءه يعظُمان له عند ربِّه الذي أراد بتوبته، فلما كان قوله: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً يؤدِّي عن هذا المعنى، كفى منه، وهذا كما يقول الرجل للرجل:
إِذا تكلَّمتَ فاعلم أنك تكلِّم الوزير، أي تكلِّم من يَعرف كلامك ويجازيك، ومثله قوله تعالى: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ، أي: فاني أتوكَّل على من ينصرني ولا يُسْلِمني. وقال قوم: معنى الآية: فانه يرجع إِلى الله مرجعاً يقبله منه.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ فيه ثمانية أقوال «1» : أحدها: أنه الصَّنم، روى الضحاك عن ابن عباس ان الزُّور صنم كان للمشركين. والثاني: أنه الغناء، قاله محمّد ابن الحنفية، ومكحول وروى ليث عن مجاهد قال: لا يسمعون الغناء. والثالث: الشِّرك، قاله الضحاك، وأبو مالك. والرابع:
لعب كان لهم في الجاهلية، قاله عكرمة. والخامس: الكذب، قاله قتادة، وابن جريج. والسادس: شهادة الزور، قاله عليّ بن أبي طلحة. والسابع: أعياد المشركين، قاله الرّبيع بن أنس. والثامن: أنه الخنا، قاله عمرو بن قيس. وفي المراد باللّغو ها هنا خمسة أقوال «2» : أحدها: المعاصي، قاله الحسن. والثاني: أذى المشركين إِياهم، قاله مجاهد. والثالث: الباطل، قاله قتادة. والرابع: الشِّرك، قاله الضحاك. والخامس:
إِذا ذكروا النكاح كنوا عنه، قاله مجاهد. وقال محمد بن علي: إِذا ذكروا الفروج كنّوا عنها.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 421: وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل بذلك لأنه محسن لأهله، حتى ظنوا أنه حق، وهو باطل، ويدخل فيه الغناء، لأنه أيضا مما يعنيه ترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضا قد يدخل فيه، لتحسين صاحبه أنه حق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور فالتأويل: الذين لا يشهدون شيئا من الباطل، وكل ما لزمه اسم الزور.
(2) قال الطبري رحمه الله 9/ 422: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مرّوا كراما، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح، وكل ما يدخل في معنى اللغو، فلا وجه إذ كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو، أن يقال: عني به بعض ذلك دون بعض.(3/331)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
قوله تعالى: مَرُّوا كِراماً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مَرُّوا حُلَماء، قاله ابن السائب. والثاني:
مَرُّوا مُعْرِضِين عنه، قاله مقاتل. والثالث: أن المعنى إِذا مَرُّوا باللغو جاوزوه، قاله الفراء. قوله تعالى:
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا أي: وُعِظوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وهي القرآن لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها فكأنّهم صُمٌّ لم يسمعوها، عميٌ لم يَرَوها. وقال غيره من أهل اللغة: لم يثبتوا على حالتهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يَرَوا، وإِن لم يكونوا خَرُّوا حقيقة تقول العرب:
شتمت فلاناً فقام يبكي، وقعد يندب، وأقبل يعتذر، وظلَّ يتحيَّر، وإِن لم يكن قام ولا قعد. قوله تعالى: هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «وذُرِّيَّاتِنَا» على الجمع. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: «وذُرِّيَّتِنَا» على التوحيد، قُرَّةَ أَعْيُنٍ وقرأ ابن مسعود، وأبو حيوة: «قُرَّاتَ أَعْيُنٍ» يعنون: من يعمل بطاعتك فتقرّ به أعيننا في الدنيا والآخرة. وسئل الحسن عن قوله: «قُرَّةَ أعين» في الدنيا، أم في الآخرة؟ قال: لا، بل في الدنيا، وأيُّ شيء أقَرُّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وولده يُطيعون الله، والله ما طلب القوم إِلا أن يُطاع الله فتَقَرّ أعينهم. قال الفراء: إِنما قال: «قُرَّةَ» لأنها فعل، والفعل لا يكاد يُجمع، ألا ترى إِلى قوله: وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً «1» فلم يجمعه والقُرَّة مصدر، تقول: قَرَّت عينه قُرَّة، ولو قيل: قُرَّة عين أو قُرَّات أعين كان صواباً. وقال غيره: أصل القُرَّة من البَرْد، لأن العرب تتأذى بالحَرِّ، وتستروح إِلى البَرْد.
قوله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً فيه قولان: أحدهما: اجعلنا أئمة يُقتدى بنا، قاله ابن عباس. وقال غيره: هذا من الواحد الذي يراد به الجمع، كقوله: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
«2» ، وقوله:
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي «3» . والثاني: اجعلنا مؤتمِّين بالمُتَّقِين مقتدين بهم، قاله مجاهد فعلى هذا يكون الكلام من المقلوب، فالمعنى: واجعل المتّقين لنا إماما.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 75 الى 77]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
قوله تعالى: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ قال ابن عباس: يعني الجنة. وقال غيره: الغرفة: كل بناءٍ عالٍ مرتفع، والمراد غرف الجنة، وهي من الزَّبَرجد والدُّرّ والياقوت، بِما صَبَرُوا على دينهم وعلى أذى المشركين. قوله تعالى: وَيُلَقَّوْنَ فِيها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: «ويُلَقَّوْنَ» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف. وقرأ أبن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ويَلْقَوْنَ» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، تَحِيَّةً وَسَلاماً قال ابن عباس: يُحيِّي بعضُهم بعضاً بالسلام، ويرسل إليهم الرّبّ عزّ وجلّ بالسلام. وقال مقاتل: «تحيةً» يعني السلام، «وسلاماً» أي: سلَّم الله لهم أمرهم وتجاوز عنهم. قوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي فيه ثلاثة أقوال:
__________
(1) الفرقان: 44.
(2) الشعراء: 16.
(3) الشعراء: 77.(3/332)
أحدها: ما يصنع بكم! قاله ابن عباس. والثاني: أيّ وزن يكون لكم عنده تقول: ما عبأتُ بفلان، أي: ما كان له عندي وزن ولا قَدْر، قاله الزجاج. والثالث: ما يعبأ بعذابكم، قاله ابن قتيبة. وفي قوله تعالى: لَوْلا دُعاؤُكُمْ أربعة أقوال: أحدها: لولا إِيمانكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: لولا عبادتكم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: لولا دعاؤه إِيّاكم لِتعبُدوه، قاله مجاهد والمراد نفع الخَلْق، لأن الله تعالى غير محتاج. والرابع: لولا توحيدكم، حكاه الزجاج. وعلى قول الأكثرين ليس في الآية إِضمار وقال ابن قتيبة: فيها إِضمار تقديره: ما يعبأ بعذابكم لولا ما تَدْعونه من الشريك والولد، ويوضح ذلك قوله تعالى: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً يعني: العذاب، ومثله قول الشاعر:
مَنْ شَاءَ دَلَّى النَّفْسَ في هُوَّةٍ ... ضَنْكٍ ولكِنْ مَنْ لَهُ بالمَضِيقْ
أي: بالخروج من المضيق. وهل هذا خطاب للمؤمنين، أو للكفار؟ فيه قولان. فأما قوله تعالى:
فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فهو خطاب لأهل مكة حين كذَّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فَسَوْفَ يَكُونُ يعني: تكذيبكم لِزاماً أي: عذاباً لازماً لكم وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قتلهم يوم بدر، فقُتلوا يومئذ، واتصل بهم عذاب الآخرة لازماً لهم، وهذا مذهب ابن مسعود، وأُبيِّ بن كعب، ومجاهد في آخرين. والثاني:
أنه الموت، قاله ابن عباس. والثالث: أنّ اللّزام: القتال، قاله ابن زيد. والله أعلم بالصّواب.(3/333)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
سورة الشّعراء
وهي مكّيّة كلّها، إلّا أربع آيات منها نزلت بالمدينة، من قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) إلى آخرها، قاله ابن عباس، وقتادة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
قوله تعالى: طسم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «طسم» بفتح الطاء وإِدغام النون من هجاء «سين» عند الميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبان، والمفضل: «طسم» و «طس» «1» بامالة الطاء فيهما. وأظهر النون من هجاء «سين» عند الميم حمزة ها هنا وفي «القصص» .
وفي معنى «طسم» أربعة أقوال «2» :
أحدها: أنها حروف من كلمات، ثم فيها ثلاثة أقوال:
(1059) أحدها: رواه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت «طسم» قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الطاء: طور سيناء، والسين: الاسكندرية، والميم: «مكة» . والثاني: أن الطاء: طَيْبَة، وسين: بيت المقدس، وميم: مكة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الطاء: شجرة طوبى، والسين: سدرة المنتهى، والميم: محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله جعفر الصادق.
والثاني: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد بيَّنَّا كيف يكون مثل هذا من أسماء الله تعالى في فاتحة (مريم) . وقال القرظيّ: أقسم الله بطوله وسنائه
__________
لا أصل له في المرفوع، ولم يذكره سوى المصنف، وهو من بدع التأويل، ولو صح مثل هذا ما اختلف المفسّرون في تأويل الحروف في أوائل السور.
__________
(1) النمل: 1.
(2) تقدم في سورة البقرة أن الراجح في ذلك كله هو أن نكل علم ذلك إلى الله تعالى، فهو أعلم بمراده.(3/334)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
ومُلكه. والثالث: انه اسم للسُّورة، قاله مجاهد. والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة، وأبو روق. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «1» إِلى قوله: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ والمعنى: لعلّك قاتل نفسك لتركهم الإِيمان.
ثم أخبر أنه لو أراد أن يُنزل عليهم ما يضطرهم إِلى الإِيمان لفعل، فقال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ وقرأ أبو زرين، وأبو المتوكل: «إِن يَشَأْ يُنَزِّلْ» بالياء فيهما، عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ جعل الفعل أولاً للأعناق، ثم جعل «خاضعين» للرجال، لأن الأعناق إِذا خضعت فأربابها خاضعون. وقيل:
لمّا وصف الأعناق بالخضوع، وهو من صفات بني آدم، أخرج الفعل مخرج الآدميّين كما بيّنّا في قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «2» ، وهذا اختيار أبي عبيدة. وقال الزجاج: قوله: «فظلَّت» معناه: فتَظَلُّ، لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى المستقبل، كقولك: إِن تأْتني أكرمتُكَ، معناه:
أُكْرِمْكَ وإِنما قال: «خاضعِين» لأن خضوع الأعناق هو خضوع أصحابها، وذلك أن الخضوع لمَّا لم يكن إِلا بخضوع الأعناق، جاز أن يخبر عن المضاف إِليه، كما قال الشاعر:
رَأتْ مَرَّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ «3»
فلما كانت السّنون لا تكون إِلا بمَرٍّ، أخبر عن السنين، وإِن كان أضاف إِليها المرور. قال: وجاء في التفسير أنه يعني بالأعناق كبراءَهم ورؤساءَهم. وجاء في اللغة أن أعناقهم جماعاتهم يقال: جاءني عُنُق من الناس، أي: جماعة. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «4» إلى قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ يعني المكذِّبين بالبعث كَمْ أَنْبَتْنا فِيها بعد أن لم يكن بها نبات مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ قال ابن قتيبة: من كل جنس حسن. وقال الزجاج: الزوج: النوع، والكريم: المحمود.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ الإِنبات لَآيَةً تدل على وحدانية الله وقُدرته وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي: ما كان أكثرهم يؤمِن في عِلْم الله، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ المنتقِم من أعدائه الرَّحِيمُ بأوليائه.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
قوله تعالى: وَإِذْ نادى المعنى: واتل هذه القصة على قومك. قوله تعالى: أَنْ يُكَذِّبُونِ ياء
__________
(1) المائدة: 15، والكهف: 6. [.....]
(2) يوسف: 4.
(3) البيت لجرير، كما في ديوانه 426 و «اللسان» - خضع- و «تفسير القرطبي» 13/ 87.
(4) الأنبياء: 2.(3/335)
«يكذّبون» محذوفة، ومثلها أَنْ يَقْتُلُونِ «1» «سيهدين» «2» «فهو يهدين» «3» «ويسقين» «4» «فهو يشفين» «5» «ثم يحيين» «6» «كذّبون» «7» «وأطيعون» «8» فهذه ثماني آيات أثبتهن في الحالين يعقوب.
قوله تعالى: وَيَضِيقُ صَدْرِي أي: بتكذيبهم إِيّاي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي للعُقدة التي كانت بلسانه.
وقرأ يعقوب: «ويَضيقَ» «ولا يَنطلقَ» بنصب القاف فيهما، فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ المعنى: ليُعينني، فحُذف، لأن في الكلام دليلاً عليه. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ وهو القتيل الذي وكزه فقضى عليه والمعنى:
ولهم عليَّ دعوى ذَنْب فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به قالَ كَلَّا وهو ردع وزجر عن الإِقامة على هذا الظن والمعنى: لن يقتلوك لأنّي لا اسلِّطهم عليك، فَاذْهَبا يعني: أنت وأخوك بِآياتِنا وهي: ما أعطاهما من المعجزة إِنَّا يعني نفسه عزّ وجلّ مَعَكُمْ فأجراهما مجرى الجماعة مُسْتَمِعُونَ نسمع ما تقولان وما يجيبونكما به.
قوله تعالى: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
قال ابن قتيبة: الرسول يكون بمعنى الجميع، كقوله:
هؤُلاءِ ضَيْفِي «9» وقوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «10» . وقال الزجاج: المعنى: إِنْا رِسالةُ ربِّ العالَمين، أي: ذوو رسالة ربِّ العالمين، قال الشاعر:
لقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما بُحْتُ عِنْدَهُم ... بِسرٍّ وَلا أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ «11»
أي: برسالة.
قوله تعالى: أَنْ أَرْسِلْ المعنى: بأن أرسل مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أَطْلِقْهم من الاستعباد، فأَتَياه فبلَّغاه الرسالة، ف قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أي: صبيّاً صغيراً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وفيها ثلاثة أقوال. أحدها: ثماني عشرة سنة، قاله ابن عباس. والثاني: أربعون سنة، قاله ابن السائب. والثالث:
ثلاثون سنة، قاله مقاتل، والمعنى: فجازيْتَنا على ان ربَّيناك أن كفرت نعمتنا، وقتلت منّا نفساً، وهو قوله: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ وهي قتل النفس. قال الفراء: وإِنما نُصِبَت الفاء، لأنها مرة واحدة، ولو أُريد بها مثل الجِلسة والمِشية جاز كسرها.
وفي قوله: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قولان «12» : أحدهما: من الكافرين لنعمتي، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك وابن زيد. والثاني: من الكافرين بالهك، كنتَ معنا على ديننا الذي تعيب، قاله الحسن، والسدي. فعلى الاول: وأنت من الكافرين الآن. وعلى الثاني: وكنت. وفي قوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ثلاثة أَقوال: أحدها: من الجاهلين، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن
__________
(1) الشعراء: 14.
(2) الشعراء: 62.
(3) الشعراء: 78.
(4) الشعراء: 79.
(5) الشعراء: 80.
(6) الشعراء: 81.
(7) الشعراء: 117.
(8) الشعراء: 108.
(9) الحجر: 68.
(10) الحج: 5.
(11) البيت لكثير عزة، كما في «اللسان» - رسل-. [.....]
(12) قال الطبري رحمه الله 9/ 437: وأشبه الأقوال بتأويل الآية أن يقال: من الكافرين لنعمتي، لأن فرعون لم يكن مقرا لله بالربوبية وإنما كان يزعم أنه هو الرب، فغير جائز أن يقول لموسى إن كان موسى عنده على دينه يوم قتل القتيل. إلا أن يقول قائل: إنما أراد: وأنت من الكافرين يومئذ يا موسى على قولك اليوم فيكون ذلك وجها يتوجه.(3/336)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
جبير، وقتادة. وقال بعض المفسرين: المعنى: إِني كنت جاهلاً لم يأتني من الله شيء. والثاني: من الخاطئين والمعنى: إِني قتلت النفس خطأً، قاله ابن زيد. والثالث: من الناسين ومثله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «1» ، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ أي: ذهبت من بينكم لَمَّا خِفْتُكُمْ على نفسي إلى مَدْيَنِ، وقرأ عاصم الجحدري، والضحاك، وابن يعمر: «لِمَا» بكسر اللام وتخفيف الميم، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وفيه قولان: أحدهما: النبوَّة، قاله ابن السائب. والثاني: العِلْم والفَهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ يعني التربية أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: اتخذْتَهم عبيداً يقال:
عبَّدتُ فلاناً وأعبدتُه واستعبدتُه: إِذا اتخذتَه عبداً. وفي «أنْ» وجهان: أحدهما: أن تكون في موضع رفع على البدل من «نِعْمةٌ» . والثاني: أن تكون في موضع نصب بنزع الخافض، تقديره: لأَن عبَّدتَ، أو لتعبيدك. واختلف العلماء في تفسير الآية «2» ، ففسرها قوم على الإِنكار، وقوم على الإِقرار، فمن فسرها على الإِنكار قال معنى الكلام: أو تلك نعمة؟! على طريق الاستفهام، ومثله هذا رَبِّي «3» ، وقوله:
فَهُمُ الْخالِدُونَ «4» ، وأنشدوا:
لم أنس يوم الرحيل وقفتَها ... وجفنها من دموعها شَرِقُ
وقولَها والركابُ سائرة ... تتركنا هكذا وتنطلق
وهذا قول جماعة منهم. ثم لهم في معنى الكلام ووجهه أربعة أقوال: أحدها: أن فرعون أخذ أموال بني إِسرائيل واستعبدهم وأنفق على موسى منها، فأبطل موسى النِّعمة لأنها أموال بني إِسرائيل، قاله الحسن. والثاني: أن المعنى: إِنك لو كنت لا تقتُل أبناء بني إِسرائيل لكفلني أهلي، وكانت أُمِّي تستغني عن قذفي في اليمِّ، فكأنك تمنُّ عليَّ بما كان بلاؤك سبباً له، وهذا قول المبرِّد، والزجّاج، والأزهري. والثالث: أن المعنى: تمنُّ عليَّ باحسانك إِليَّ خاصة، وتنسى إِساءتك بتعبيدك بني إِسرائيل؟! قاله مقاتل. والرابع: أن المعنى: كيف تمنُّ عليَّ بالتربية وقد استعبدت قومي؟! ومن أُهين قومُه فقد ذَلَّ، فقد حبط إحسانك بتعبيدك قومي، حكاه الثعلبي. فأما من فسرها على الإِقرار، فانه قال:
عدَّها موسى نعمة حيثُ ربَّاه ولم يقتله ولا استعبده. فالمعنى: هي لعمري نعمة إِذ ربَّيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إِسرائيل ف «أنْ» تدل على المحذوف، ومثله في الكلام- أن تَضرب بعض عبيدك وتترك الآخر، فيقول المتروك-: هذه نعمة عليَّ أن ضربتَ فلاناً وتركتني، ثم تحذف «وتركتني» لأن المعنى معروف، هذا قول الفراءِ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 28]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
__________
(1) البقرة: 282.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 413: أي وما أحسنت إليّ وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل! فجعلتهم عبيدا وخدما، تصرّفهم في أعمالك ومشاق رعيتك أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ أي: ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
(3) الأنعام: 76.
(4) الأنبياء: 34.(3/337)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ سأله عن ماهيَّةِ مَنْ لا ماهيَّة له «1» ، فأجابه بما يدلُّ عليه من مصنوعاته. وفي قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قولان: أحدهما: أنّه خَلَقَ السموات والأرض.
والثاني: إِن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه، فكذلك، فأيقنوا أن رب العالمين ربّ السّموات والأرض. قوله تعالى: قالَ يعني: فرعون لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه أَلا تَسْتَمِعُونَ معجِّباً لهم.
فان قيل: فأين جوابهم؟ فالجواب: أنه أراد: ألا تستمعون قول موسى؟ فردَّ موسى، لأنه المراد بالجواب، ثم زاد في البيان بقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فأعرض فرعون عن جوابه ونسبه إِلى الجنون، فلم يَحْفِل موسى بقول فرعون، واشتغل بتأكيد الحُجَّة ف قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي: إِن كنتم ذوي عقول لم يَخْفَ عليكم ما أقول.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 29 الى 48]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48)
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 414: يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون، وتمرده، وطغيانه وجحوده في قوله وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وذلك أنه كان يقول لقومه: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ وكانوا يجحدون الصانع- تعالى- ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون. فلما قال موسى: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ قال له: ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟! ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط، فإنه لم يكن مقرا بالصانع حتى يسأل عن ماهيته. بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه، فيجيبه موسى:
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة، فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله: أَلا تَسْتَمِعُونَ أي: ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه أن لكم إلها غيري. فأجاب موسى بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى- عليه السلام- فقال: ما أخبر الله تعالى عنه: قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ.(3/338)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
قوله تعالى: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي: بأمر ظاهر يعرف به صدقي أتسجنني؟! وما بعد هذا مفسر في الأعراف «1» إِلى قوله: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم الزينة، وكان عيداً لهم، وَقِيلَ لِلنَّاسِ يعني أهل مصر. وذهب ابن زيد إِلى أن اجتماعهم كان بالاسكندرية. قوله تعالى: لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ قال الاكثرون: أرادوا سَحَرة فرعون فالمعنى: لعلَّنا نتَّبعهم على أمرهم. وقال بعضهم:
أرادوا موسى وهارون، وإِنما قالوا ذلك استهزاءً. قال ابن جرير: و «لعل» ها هنا بمعنى «كي» . وقوله تعالى: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أي: بعظمته.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 49 الى 51]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
قوله تعالى: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قال الزجاج: اللام دخلت للتوكيد.
قوله تعالى: لا ضَيْرَ أي: لا ضرر. قال ابن قتيبة: هو من ضَارَه يَضُوره ويَضيره بمعنى ضَرَّه. والمعنى: لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا لأنّا ننقلب إِلى ربِّنا في الآخرة مؤمِّلين غفرانه.
قوله تعالى: أَنْ كُنَّا أي: لأن كنا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بآيات موسى في هذه الحال.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 59]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)
قوله تعالى: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي: يَتبعكم فرعون وقومه.
قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ المعنى: وقال فرعون إِن هؤلاء، يعني بني إِسرائيل لَشِرْذِمَةٌ قال ابن قتيبة: أي: طائفة. قال الزجاج: والشرذمة في كلام العرب: القليل. قال المفسرون: وكانوا ستمائة ألف، وإِنما استقلَّهم بالإِضافة إِلى جنده، وكان جنده لا يُحصى. قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ تقول:
غاظني الشيء، إِذا أغضبك. قال ابن جرير: وذُكر أن غيظهم كان لقتل الملائكة من قَتَلَتْ من أبكارهم.
قال: ويحتمل أن غيظهم لذهابهم بالعواري التي استعاروها من حُليِّهم، ويحتمل أن يكون لفراقهم إِياهم وخروجهم من أرضهم على كُره منهم.
قوله تعالى: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «حَذِرون» بغير ألف. وقرأ الباقون: حاذِرُونَ بألف. وهل بينهما فرق؟ فيه قولان: أحدهما: أن الحاذر، المستعدُّ، والحذر:
المتيقّظ. وجاء في التفسير أن معنى حاذرين: مُؤْدُون، أي: ذَوو أداة، وهي السلاح، لأنها أداة الحرب. والثاني: أنهما لغتان معناهما واحد قال أبو عبيدة: يقال: رجل حَذِرٌ وحَذُرٌ وحاذرٌ. والمَقام الكريم: المنزل الحسن. وفي قوله تعالى: كَذلِكَ قولان: أحدهما: كذلك أفعل بمن عصاني، قاله
__________
(1) الأعراف: 107.(3/339)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
ابن السائب. والثاني: الأمر كذلك، أي: كما وصفنا، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ وذلك أن الله تعالى ردَّهم إِلى مصر بعد غرق فرعون، وأعطاهم ما كان لفرعون وقومه من المساكن والأموال. وقال ابن جرير الطبري: إِنما جعل ديار آل فرعون مُلْكاً لبني إِسرائيل ولم يَرْدُدْهم إِليها لكنه جعل مساكنهم الشّام.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 60 الى 68]
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
قوله تعالى: فَأَتْبَعُوهُمْ قال ابن قتيبة: لحقوهم مُشْرِقِينَ أي: حين شَرَقت الشمس، أي:
طلعت، يقال: أشْرَقْنا: دخلنا في الشُّروق، كما يقال: أمسينا وأصبحنا. وقرأ الحسن، وأيوب السَّخْتِياني: «فاتَّبعوهم» بالتّشديد. قوله تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ وقرأ أبو رجاء، والنخعي، والأعمش: «تَرِاأَى» بكسر الراء وفتح الهمزة، أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه.
قوله تعالى: كَلَّا أي: لن يُدركونا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: سيدلُّني على طريق النجاة. قوله تعالى: فَانْفَلَقَ فيه إِضمار «فضرب فانفلق» ، أي: انشقَّ الماء اثني عشر طريقاً فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي:
كل جزءٍ انفرق منه. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: «كُلُّ فِلْقٍ» باللام، كَالطَّوْدِ وهو الجبل.
قوله تعالى: وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي: قرَّبْنا الآخَرين من الغرق، وهم أصحاب فرعون. وقال أبو عبيدة: «أزلفنا» أي: جمعنا. قال الزجاج: وكلا القولين حسن، لأن جمعهم تقريب بعضهم من بعض، وأصل الزُّلفى في كلام العرب: القُرْبَى. وقرأ ابن مسعود وأُبيُّ بن كعب وأبو رجاء والضحاك وابن يعمر: «أزلقنا» بالقاف، وكذلك قرءوا: «أزلقت الجنّة» «1» بقاف أيضاً. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: في إِهلاك فرعون وقومه عبرة لمن بعدهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي: لم يكن أكثر أهل مصر مؤمنين، إِنما آمنت آسية، وخِربيل مؤمن آل فرعون، وفنّة الماشطة، ومريم- امرأة دلَّت موسى على عظام يوسف-، هذا قول مقاتل «2» . وما أخللنا به من تفسير كلمات في قصة موسى، فقد سبق بيانها، وكذلك ما تفقد ذِكْره في مكان، فهو إِما أن يكون قد سبق، وإِما أن يكون ظاهراً، فتنبَّه لهذا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
__________
(1) في الشعراء: 90.
(2) عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، فخبره لا شيء.(3/340)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قوله تعالى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ والمعنى: هل يَسمعون دعاءكم. وقرأ سعيد بن جبير وابن يعمر وعاصم الجحدري: «هل يُسْمِعونكم» بضم الياء وكسر الميم، إِذْ تَدْعُونَ قال الزجاج: إِن شئت بيَّنت الذال، وإِن شئت أدغمتها في التاء وهو أجود في العربية لقرب الذال من التاء. قوله تعالى: أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أي: إِن عبدتموهم أَوْ يَضُرُّونَ إِن لم تعبدوهم؟ فأخبروا عن تقليد آبائهم. قوله تعالى:
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي فيه وجهان: أحدهما: أن لفظه لفظ الواحد والمراد به الجميع فالمعنى: فانهم أعداءٌ لي. والثاني: فان كلَّ معبود لكم عدوٌّ لي. فان قيل: ما وجه وصف الجماد بالعداوة؟ فالجواب: من وجهين. أحدهما: أن معناه: فانهم عدوٌّ لي يوم القيامة إِن عبدتُهم. والثاني: أنه من المقلوب والمعنى: فإنِّي عدوٌّ لهم، لأن مَنْ عاديتَه عاداكَ، قاله ابن قتيبة. وفي قوله تعالى: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ قولان: أحدهما: أنه استثناء من الجنس، لأنه عَلِم أنهم كانوا يعبُدون الله مع آلهتهم، قاله ابن زيد.
والثاني: أنه من غير الجنس فالمعنى: ولكنّ ربّ العالمين ليس كذلك، قاله أكثر النحويين.
قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي: إِلى الرّشد، لا ما تعبُدون وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي هو رازقي الطعام والشراب.
فإن قيل: لم قال: «مرضتُ» ، ولم يقل: «أمرضَني» ؟ فالجواب: أنه أراد الثناء على ربّه فأضاف إِليه الخير المحض، لأنه لو قال: «أمرضَني» لعدَّ قومُه ذلك عيباً، فاستعمل حُسن الأدب ونظيره قصة الخضر حين قال في العيب: «فأردت» «1» ، وفي الخير المحض: «فأراد ربّك» «2» .
فإن قيل: فهذا يردُّه قوله: وَالَّذِي يُمِيتُنِي. فالجواب: أن القوم كانوا لا يُنكرون الموت، وإِنما يجعلون له سبباً سوى تقدير الله عزّ وجلّ، فأضافه إبراهيم إلى الله تعالى، وقوله تعالى: ثُمَّ يُحْيِينِ يعني للبعث، وهو أمرٌ لا يُقِرُّون به، وإِنما قاله استدلالاً عليهم والمعنى: أن ما وافقتموني عليه موجب لِصِحَّة قولي فيما خالفتموني فيه. قوله تعالى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يعني: ما يجري على مِثْلِي من الزَّلل والمفسرون يقولون: إِنما عنى الكلمات الثلاث التي ذكرناها في الأنبياء «3» ، يَوْمَ الدِّينِ يعني:
يوم الحشر والحساب وهذا احتجاج على قومه أنه لا تصلحُ الإِلهية إلّا لمن فعل هذه الأفعال.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قوله تعالى: هَبْ لِي حُكْماً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: النبوَّة، قاله أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: اللُّبّ، قاله عكرمة. والثالث: الفهم والعلم، قاله مقاتل، وقد بيّنّا قوله: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
__________
(1) الكهف: 79.
(2) الكهف: 82.
(3) الأنبياء: 63.(3/341)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
في سورة يوسف «1» ، وبيَّنَّا معنى لِسانَ صِدْقٍ في مريم «2» والمراد بالآخِرِين: الذين يأتون بعده إِلى يوم القيامة.
قوله تعالى: وَاغْفِرْ لِأَبِي قال الحسن: بلغني أن أُمَّه كانت مسلمة على دينه، فلذلك لم يذكُرها. فإن قيل: فقد قال: اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ «3» . قيل: أكثر الذِّكْر إِنما جرى لأبيه، فيجوز أن يسأل الغفران لأمِّه وهي مؤمنة، فأما أبوه فلا شك في كفره. وقد بيَّنَّا سبب استغفاره لأبيه في براءة «4» ، وذكرنا معنى الخزي في آل عمران «5» . قوله تعالى: يَوْمَ يُبْعَثُونَ يعني: الخلائق. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فيه ستة أقوال: أحدها: سليم من الشِّرك، قاله الحسن وابن زيد. والثاني: سليم من الشَّكّ، قاله مجاهد. والثالث: سليم، أي صحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قاله سعيد بن المسيب. والرابع: أن السَّليم في اللغة: اللّديغ، فالمعنى: كاللّديغ من خوف الله عزّ وجلّ، قاله الجنيد. والخامس: سليم من آفات المال والبنين، قاله الحسين بن الفضل. والسادس:
سليم من البدعة، مُطْمئنّ على السُّنَّة، حكاه الثعلبي.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
قوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ اي: قًُرِّبَتْ إِليهم حتى نظروا إِليها، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ أي:
أُظهرتْ لِلْغاوِينَ وهم الضالُّون، وَقِيلَ لَهُمْ على وجه التوبيخ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أي: يمنعونكم من العذاب، أو يمتنعون منه.
قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا قال السّدي: هم المشركون. قال ابن قتيبة: أُلْقُوا على رؤوسهم، وأصل الحرف «كُبِّبوا» من قولك: كَبَبْتُ الإِناء، فأبدَلَ من الباء الوسطى كافاً، استثقالاً لاجتماع ثلاث باءات، كما قالوا: «كُمْكِمُوا» من «الكُمَّة» ، والأصل: «كُمّمُوا» . وقال الزجاج: معناه: طُرح بعضُهم على بعض: وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب، كأنه إِذا أُلقي يَنْكَبُّ مَرَّةً بعد مَرَّة حتى يَسْتَقِرَّ فيها. وفي الغاوين ثلاثة اقوال: أحدها: المشركون، قاله ابن عباس. والثاني: الشياطين، قاله قتادة، ومقاتل.
والثالث: الآلهة، قاله السدي. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أتباعه من الجنّ والإِنس. قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يعني: هم وآلهتهم، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا قال الفراء: لقد كُنَّا. وقال الزجاج: ما كُنَّا إِلا في ضلال.
قوله تعالى: إِذْ نُسَوِّيكُمْ أي: نعدلِكُم بالله في العبادة وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فيهم قولان:
أحدهما: الشياطين. والثاني: أولَّوهم الذين اقتَدَوا بهم، قال عكرمة: إِبليسُ وابن آدم القاتل. قوله
__________
(1) يوسف: 101.
(2) مريم: 50. [.....]
(3) إبراهيم: 41.
(4) التوبة: 113.
(5) آل عمران: 192.(3/342)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
تعالى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ هذا قولهم إِذا شفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون.
(1060) وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إِن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله عزّ وجلّ: أخرجوا له صديقه إِلى الجنة، فيقول من بقي في النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم؟. والحميم: القريب الذي تَوَدُّه ويودّك والمعنى: ما لنا من ذي قرابة يُهِمُّه أمرنا، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي: رجعة إِلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لتَحِلَّ لنا الشفاعة كما حَلَّت للموحّدين.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 110]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ قال الزجاج: القوم مذكَّرون والمعنى كذَّبت جماعةُ قوم نوح.
قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ كانت الأُخوَّة من جهة النَّسَب بينهم، لا من جهة الدِّين، أَلا تَتَّقُونَ عذاب الله بتوحيده وطاعته، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ على الرّسالة فيما بيني وبين ربّكم. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي: على الدعاء إِلى التّوحيد.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 111 الى 116]
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
قوله تعالى: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ وقرأ يعقوب بفتح الهمزة وتسكين التاء وضم العين: «وأَتْبَاعُكَ الأرذلون» ، وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: الحاكَة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: الحاكَة والأساكفة قاله عكرمة. والثالث: المساكين الذين ليس لهم مال ولا عزٌّ، قاله عطاء. وهذا جهل منهم، لأن الصناعات لا تضرُّ في باب الدِّيانات.
قوله تعالى: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: لم أعلم أعمالهم وصنائعهم، ولم أُكلَّف ذلك، إِنما كلِّفتُ أن أدعوَهم، إِنْ حِسابُهُمْ فيما يعملون إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ بذلك ما عبتموهم في صنائعهم، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي: ما أنا بالذي لا أقبل إِيمانهم لزعمكم أنهم الأرذلون. وفي قوله تعالى: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: من المشتومين، قاله الضحاك. والثاني: من المضروبين بالحجارة، قاله قتادة. والثالث: من المقتولين بالرَّجم، قاله مقاتل.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 117 الى 122]
قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
__________
أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 357 من حديث جابر، وإسناده ضعيف جدا، الوليد بن مسلم يدلس عن كذابين، وهاهنا شيخه لم يسم، وباقي الإسناد ثقات. وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس.(3/343)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
قوله تعالى: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ أي: اقض بيني وبينهم قضاء، يعني: بالعذاب وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ من ذلك العذاب. والفُلْك قد تقدم بيانه. والمشحون: المملوء، يقال: شحنتُ الإِناء: إِذا مَلأْتَه وكانت سفينة نوح قد ملئت من الناس والطير والحيوان كُلِّه، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ بعد نجاة نوح ومن معه الْباقِينَ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 135]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
قوله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً وقرأ عاصم الجحدري، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: «بكُلِّ رَيْع» بفتح الراء. قال الفراء: هما لغتان. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المكان المرتفع روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: بكل شَرَف. قال الزجاج: هو في اللغة: الموضع المرتفع من الأرض.
والثاني: أنه الطريق، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثالث: الفجُّ بين الجبلين، قاله مجاهد. والآية: العلامة. وفيما أراد بهذا البناء ثلاثة أقوال. أحدها: أنه أراد: تبنون ما لا تسكنون، رواه عطاء عن ابن عباس والمعنى أنه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثاً. والثاني: بروج الحمام، قاله سعيد بن جبير ومجاهد. والثالث: أنهم كانوا يبنون في المواضع المرتفعة ليُشرفوا على المارَّة فيَسْخَروا منهم ويَعْبَثوا بهم، وهو معنى قول الضحاك. قوله تعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: قصور مشيَّدة، قاله مجاهد. والثاني: مصانع للماء تحت الارض، قاله قتادة. والثالث: بروج الحمام، قاله السّدّيّ. وفي قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ قولان: أحدهما: كأنَّكم تخلُدون، قاله ابن عباس، وأبو مالك. والثاني: كَيْما تَخْلُدوا، قاله الفراء، وابن قتيبة. وقرأ عكرمة، والنخعي، وقتادة، وابن يعمر: «تُخْلَدون» برفع التاء وتسكين الخاء وفتح اللام مخففة. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو حسين: «تُخَلَّدون» بفتح الخاء وتشديد اللام. قوله تعالى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ المعنى: إِذا ضربتم ضربتم بالسياط ضرب الجبَّارين، وإِذا عاقبتم قَتَلتم وإِنما أنكر عليهم ذلك، لأنه صدر عن ظلم، إِذ لو ضَربوا بالسيف أو بالسوط في حقّ ما ليموا. وفي قوله: عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قولان:
أحدهما: ما عذِّبوا به في الدنيا. والثاني: عذاب جهنم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 145]
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي: «خَلْق» بفتح الخاء وتسكين اللام قال ابن قتيبة: أرادوا اختلاقهم وكذبهم، يقال: خَلَقتُ الحديثَ واختلقتُه، أي: افتعلته،(3/344)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
قال الفراء: والعرب تقول للخُرافات: أحاديثُ الخَلْق. وقرأ عاصم، ونافع وابن عامر وحمزة وخلف «خُلُق الأولين» بضم الخاء واللام. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وعاصم الجحدري: «خُلْق» برفع الخاء وتسكين اللام والمعنى: عادتهم وشأنهم. قال قتادة: قالوا له: هكذا كان الناس يعيشون ما عاشوا ثم يموتون، ولا بعث لهم ولا حساب.
قوله تعالى: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي: على ما نفعله في الدنيا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 146 الى 152]
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152)
قوله تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا أي: فيما أعطاكم الله في الدنيا آمِنِينَ من الموت والعذاب. قوله تعالى: طَلْعُها هَضِيمٌ الطَّلْع: الثمر. وفي الهضيم سبعة أقوال: أحدها: أنه الذي قد اينع وبلغ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه الذي يتهشَّم تهشُّماً، قاله مجاهد. والثالث: أنه الذي ليس له نوى، قاله الحسن. والرابع: أنه المذنَّب من الرُّطَب، قاله سعيد بن جبير. والخامس:
اللَّيِّن، قاله قتادة، والفراء. والسادس: أنه الحَمْل الكثير الذي يركب بعضه بعضاً، قاله الضحاك.
والسابع: أنه الطَّلْع قبل أن ينشقَّ عنه القشر وينفتح، يريد أنه منضمٌّ مكتَنِزٌ، ومنه قيل: رجل أهضَمُ الكَشْحَيْن، إِذا كان منضمّهما، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «فَرِهين» . وقرأ الباقون: «فارِهِين» بألف. قال ابن قتيبة: «فَرِهِينَ» : أَشِرِين بَطِرِين، ويقال: الهاءُ فيه مبدَلةٌ من حاء، أي: فَرِحِين، و «الفرحُ» قد يكون السرورَ، وقد يكون الأَشَرَ، ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» أي: الأشِرِين، ومن قرأ: «فَارِهِينَ» فهي لغة أخرى، يقال: فَرِهٌ وفارِهٌ، كما يقال: فَرِحٌ وفارِحٌ، ويقال: «فَارِهِينَ» أي: حاذِقِين قال عكرمة: حاذِقِين بنحتها.
قوله تعالى: وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس: يعني: المشركين. وقال مقاتل: هم التّسعة الذين عقروا النّاقة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 153 الى 164]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
__________
(1) القصص: 76.(3/345)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ قال الزجاج: أي: ممن له سَحْر، والسَّحْر: الرِّئة، والمعنى: أنت بشر مثلنا. وجائز أن يكون من المفعَّلين من السِّحر والمعنى: ممن قد سُحِر مَرَّة بعد مَرَّة. قوله تعالى: لَها شِرْبٌ أي: حظّ من الماء. وقال ابن عباس: لها شِرب معروف لا تحضروه معها، ولكم شِرْب لا تحضر معكم، فكانت إِذا كان يومهم حضروا الماء فاقتسموه، وإِذا كان يومها شَربتِ الماءَ كُلَّه. وقال قتادة: كانت إِذا كان يوم شربها، شربت ماءهم أول النهار، وسقتهم اللبن آخر النهار. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة: «لها شُرْبٌ» بضم الشين.
قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ قال ابن عباس: ندموا حين رأوا العذاب، على عَقْرها، وعذابهم كان بالصّيحة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 165 الى 175]
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ وهو جمع ذَكَر مِنَ الْعالَمِينَ أي: من بني آدم، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ قال الزجاج: وقرأ ابن مسعود: «ما أَصلح لكم ربُّكم من أزواجكم» يعني به الفروج. وقال مجاهد: تركتم أقبال النساء إِلى أدبار الرجال.
قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي: ظالمون معتدون. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ أي: لئن لم تسكت عن نهينا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من بلدنا. قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ يعني: إِتيان الرجال مِنَ الْقالِينَ قال ابن قتيبة: أي: من المُبْغِضِين، يقال: قَلَيْتُ الرجلَ: إِذا أبغضتَه.
قوله تعالى: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي: من عقوبة عملهم فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ وقد ذكرناهم في هود «1» ، إِلَّا عَجُوزاً يعني امرأته فِي الْغابِرِينَ أي: الباقين في العذاب. ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم بالخَسْف والحَصْب، وهو قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني الحجارة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 180]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
قوله تعالى: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «أصحاب ليكة» ها هنا، وفي (ص) «2» بغير همز والتاء مفتوحة وقرأ الباقون: «الأيكة» بالهمزة فيهما والألف. وقد سبق هذا الحرف «3» . إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ إِن قيل: لِمَ لم يقل: أخوهم، كما قال في (الأعراف) «4» ؟ فالجواب:
أن شعيباً لم يكن من نسل أصحاب الأيكة، فلذلك لم يقل: أخوهم وإِنما أرسل إليهم بعد أن أرسل
__________
(1) هود: 80.
(2) ص: 13.
(3) الحجر: 78.
(4) الأعراف: 85.(3/346)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
إِلى مَدْيَن، وهو من نسل مَدْيَن، فلذلك قال هناك: أخوهم، هذا قول مقاتل بن سليمان. وقد ذكرنا في سورة (هود) «1» عن محمد بن كعب القرظي، أن أهل مَدْين عذِّبوا بعذاب الظُّلَّة، فإن كانوا غير أصحاب الأيكة كما زعم مقاتل، فقد تساوَوا في العذاب، وإِن كان أصحاب مَدْين هم أصحاب الأيكة، وهو مذهب ابن جرير الطبري كان حذف ذكر الأخ تخفيفا، والله أعلم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 181 الى 184]
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي: من الناقِصِين للكَيْل، يقال: أخسرتُ الكَيْل والوزن:
إِذا نقصته. وقد ذكرنا القسطاس في (بني إِسرائيل) «2» .
قوله تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ أي: وخَلَق الجِبِلَّة. وقيل: المعنى: واذكروا ما نزل بالجِبِلَّة الْأَوَّلِينَ. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: «الجبلّة» برفع الجيم والباء جميعاً مشددة اللام. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وعاصم الجحدري: بكسر الجيم وتسكين الباء وتخفيف اللام. قال ابن قتيبة: الجِبِلَّة: الخَلْق، يقال: جُبِل فلان على كذا، أي:
خُلق، قال الشاعر:
والموتُ أعظم حادث ... ممّا يمرّ على الجبلّه
[سورة الشعراء (26) : الآيات 185 الى 191]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
قوله تعالى: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً قال ابن قتيبة: أي قطعةً مِنَ السَّماءِ، و «كِسَفٌ» جمع «كِسْفَة» ، كما يقال: قِطَعٌ وقِطْعَة.
قوله تعالى: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي: من نقصان الكيل والميزان والمعنى: إِنه يُجازيكم إِن شاء، وليس عذابكم بيدي، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ قال المفسرون: بعث الله عليهم حرّاً شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إِلى البرِّيَّة، فبعث الله عليهم سحابة أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً، ونادى بعضهم بعضاً، حتى إِذا اجتمعوا تحتها، أرسل الله عليهم ناراً، فكان ذلك من أعظم العذاب، فالظّلّة: السّحابة التي أظلّتهم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 199]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
__________
(1) هود: 94.
(2) الإسراء: 35.(3/347)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
قوله تعالى: وَإِنَّهُ يعني القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: «نَزَل به» خفيفاً «الرُّوحُ الأمينُ» بالرفع. وقرأ أبن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «نَزَّلَ» مشددة الزاي «الرُّوحَ الأمينَ» بالنصب. والمراد بالرُّوح الأمين جبريل، وهو أمين على وحي الله تعالى إِلى أنبيائه، عَلى قَلْبِكَ قال الزجاج: معناه: نزل عليك فوعاه قلبك، فثبت، فلا تنساه أبداً. قوله تعالى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي: ممن أَنذر بآيات الله المكذَِّبين، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قال ابن عباس: بلسان قريش ليفْهموا ما فيه.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وقرأ الاعمش: «زُبْرِ» بتسكين الباء. وفي هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إِلى القرآن والمعنى: وإِنَّ ذِكْر القرآن وخبره، هذا قول الأكثرين. والثاني: أنها تعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. والزُّبُر: الكُتُب.
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ: «أو لم يكن» بالياء «آيةً» بالنصب. وقرأ ابن عامر، وابن أبي عبلة: «تكن» بالتاء «آيةٌ» بالرفع. وقرأ أبو عمران الجوني، وقتادة: «تكن» بالتاء «آيةً» بالنصب، قال الزجاج: إِذا قلت: «يكن» بالياء، فالاختيار نصب «آية» وتكون «أن» اسم كان، وتكون «آية» خبر كان، المعنى: أَوَلَم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم حقّ، وأنّ نبوّته حقّ؟! «آية» : علامة موضحة، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل وجدوا ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلّم مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل. ومن قرأ «أولم تكن» بالتاء جعل «آية» هي الاسم، و «أن يعلمه» خبر «تكن» . ويجوز أيضا «أو لم تكن» بالتاء «آية» بالنّصب، كقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ «1» وقرأ الشعبي، والضحاك، وعاصم الجحدري:
«أن تَعْلَمَهُ» بالتاء.
(1061) وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إِلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمّد صلى الله عليه وسلّم، فقالوا: إِنّ هذا لَزمانُه، وإِنّا لنجد في التوراة صفته، فكان ذلك آية لهم على صِدقه.
قوله تعالى: عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ قال الزجاج: هو جمع أعجم، والأنثى عجماء، والأعجم:
الذي لا يُفْصِح، وكذلك الأعجمي فأما العجمي: فالذي من جنس العجم، أفصح أو لم يُفْصِح. قوله تعالى: ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي: لو قرأه عليهم أعجميّ لقالوا: لا نفقه هذا، فلم يؤمنوا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 200 الى 209]
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)
__________
لا أصل له. ذكره البغوي في «تفسيره» 3/ 398 والقرطبي 13/ 126 كلاهما عن ابن عباس بدون إسناد.
__________
(1) الأنعام: 23.(3/348)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
قوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ قد شرحناه في الحجر «1» . والمجرمون ها هنا: المشركون. قوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ قال الفراء: المعنى: كي لا يؤمنوا. فأما العذاب الأليم، فهو عند الموت.
فَيَقُولُوا عند نزول العذاب هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي: مُؤَخَّرون لنؤمِن ونصدِّق.
(1062) قال مقاتل: فلمّا أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعذاب، قالوا: فمتى هو؟ تكذيباً به، فقال الله تعالى: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ.
قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ قال عكرمة: عُمُرَ الدنيا. قوله تعالى: ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ أي: من العذاب. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بالعذاب في الدنيا إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ يعني:
رسُلاً تنذرهم العذابَ. ذِكْرى أي: موعظة وتذكيراً.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 212]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
قوله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ.
(1063) سبب نزولها أن قريشاً قالت: إِنما تجىء بالقرآن الشياطين فتُلقيه على لسان محمد، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي: أن ينزلوا بالقرآن وَما يَسْتَطِيعُونَ أن يأتوا به من السماء، لأنهم قد حِيل بينهم وبين السَّمع بالملائكة والشُّهُب. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ أي: عن الاستماع للوحي من السماء لَمَعْزُولُونَ فكيف ينزلون به؟! وقال عطاء: عن سماع القرآن لمحجوبون، لأنهم يُرْجَمون بالنجوم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 220]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
قوله تعالى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ قال ابن عباس: يحذِّر به غيره، يقول: أنت أكرمُ الخَلْق عليَّ، ولو اتَّخذتَ من دوني إِلهاً لعذَّبتُك.
قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ.
(1064) روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أنزل الله تعالى
__________
لا أصل له. ذكره البغوي في «تفسيره» 3/ 399 عن مقاتل بدون إسناد. ومقاتل متهم بوضع الحديث.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك يضع الحديث.
صحيح. أخرجه البخاري 2753 و 3527 و 4771 ومسلم 206 والترمذي 3185 والنسائي 6/ 248- 249 وأحمد 2/ 333 وابن حبان 646 و 6549 والبيهقي 6/ 280 والبغوي 3744 من طرق من حديث أبي هريرة.
واللفظ الأول للبخاري، واللفظ الأخير لمسلم. قال: «لما أنزلت هذه الآية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قريشا، فاجتمعوا فعم وخص، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلّها ببلالها» .
__________
(1) الحجر: 12.(3/349)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
«وأنذر عشيرتك الاقربين» فقال: «يا مَعْشَر قريش: اشْتَرُوا أنفُسَكم من الله، لا أُغْني عنكم من الله شيئاً، يا بَني عَبْدِ مَنافٍ لا أُغْني عنكم من الله شيئاً، يا عبّاسُ بنَ عبد المُطَّلِب لا أُغْني عنكَ من الله شيئاً، يا صفيةُ عَمَّةَ رسولِ الله لا أُغْني عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمةُ بنتَ محمد سَلِيني ما شئتِ ما أُغْني عنكِ من الله شيئاً» وفي بعض الألفاظ: «سَلُوني مِنْ مالي ما شئتم» . وفي لفظ: «غير أنَّ لكم رَحِماً سأبُلُّها ببلالها» .
ومعنى قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ: رهطك الأذنين. فَإِنْ عَصَوْكَ يعني: العشيرة فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من الكفر. ووَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي: ثِقْ به وفوِّض أمرك إِليه، فهو عزيز في نِقْمته، رحيم لم يعجِّل بالعقوبة. وقرا نافع، وابن عامر: «فتوكّل» بالفاء، وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
فيه ثلاثة أقوال: أحدها: حين تقوم إِلى الصلاة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: حين تقوم من مقامك، قاله أبو الجوزاء. والثالث: حين تخلو، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ أي: ونرى تقلُّبك فِي السَّاجِدِينَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: وتقلُّبك في أصلاب الأنبياء حتى أخرجك، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: تقلّبك في الركوع والسجود والقيام مع المصلِّين في الجماعة والمعنى: يراك وحدك ويراك في الجماعة، وهذا قول الأكثرين منهم قتادة.
والثالث: وتصرُّفك في ذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين، قاله الحسن.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 223]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)
قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ هذا ردّ عليهم حين قالوا: إِنما يأتيه بالقرآن الشياطين. فأما الأفَّاك فهو الكذّاب، والأثيم: الفاجر قال قتادة: وهم الكهنة.
قوله تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ أي: يُلْقُون ما سمعوه من السماء إِلى الكهنة. وفي قوله تعالى:
وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ قولان: أحدهما: أنهم الشياطين. والثاني: الكهنة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 224 الى 227]
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ وقرا نافع: «يَتْبعهم» بسكون التاء والوجهان حسنان، يقال: تَبِعْتُ واتّبعت، مثل حفرت واحتفرت.
(1065) وروى العوفي عن ابن عباس، قال: كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد تهاجيا، فكان مع كل واحد منهما غُواة من قومه، فقال الله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. وفي رواية آخرى عن ابن عباس، قال: هم شعراء المشركين، قال مقاتل: منهم عبد الله بن الزِّبَعْرى، وأبو سفيان بن حرب، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، في آخرين، قالوا: نحن نقول مثل قول محمد، وقالوا الشعر، فاجتمع
__________
واه. أخرجه الطبري 26838 عن عطية العوفي عن ابن عباس، وهو واه لأجل عطية العوفي.(3/350)
إليهم غواة من قومهم يسمعون أشعارهم ويَرْوُون عنهم «1» .
وفي الغاوين ثلاثة أقوال: أحدها: الشياطين، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: السُّفهاء، قاله الضحاك. والثالث: المشركون، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ هذا مَثَل بمن يَهيم في الأودية والمعنى أنهم يأخذون في كل فنّ من لغو وكذب وغير ذلك فيمدحون بباطل ويذُمُّون بباطل، ويقولون: فعلنا، ولم يفعلوا: قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا. قال ابن عباس:
(1066) لمّا نزل ذمُّ الشعراء، جاء كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، أنزل اللهُ هذا وهو يعلم أنّا شعراء، فنزلت هذه الآية.
وقال المفسرون: وهذا الاستثناء لشعراء المسلمين الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذمّوا من هجاه، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي: لم يَشْغَلهم الشِّعر عن ذِكْر الله ولم يجعلوا الشّعر همّهم. قال ابن زيد: وذكروا الله في شِعرهم. وقيل: المراد بالذّكر: الشّعر في طاعة الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى: وَانْتَصَرُوا أي: من المشركين مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لأنّ لمشركين بدءوا بالهجاء. ثم أوعد شعراء المشركين، فقال: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أَشركوا وهَجَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قال الزجاج: «أيَّ» منصوبة بقوله: «ينقلبون» لا بقوله: «سيعلم» ، لأن «أيّاً» وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها. ومعنى الكلام: إِنهم يَنْقلبون إِلى نار يخلَّدون فيها. وقرأ ابن مسعود، ومجاهد عن ابن عباس، وأبو المتوكل، وأبو رجاء: «أيَّ مُتَقَلَّبٍ يَتَقَلَّبُون» بتاءين مفتوحتين وبقافين على كل واحدة منهما نقطتان وتشديد اللام فيهما. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو مجلز، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «أيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُون» بالفاء فيهما وبنونين ساكنين وبتاءين. وكان شريح يقول: سيعلم الظّالمون حظّ من نقصوا، إِنّ الظّالم يَنْتَظِر العِقاب، وإنّ المظلوم ينتظر النّصر. والله أعلم.
__________
خبر منكر، لا يصح. أخرجه الطبري 26848 و 26859 عن سالم البراد وهو مرسل، والمتن غريب، فالسورة مكية والخبر مدني. وأخرجه ابن أبي حاتم عن عروة بنحوه كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 440 وقال ابن كثير بعده: وهكذا قال ابن عباس، وعكرمة وغير واحد وهذه مرسلات لا يعتمد عليها، فالسورة مكية وهؤلاء الشعراء من الأنصار اه. بتصرف واختصار.
__________
(1) عزاه المصنّف لمقاتل، وهو متروك متهم.(3/351)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
سورة النّمل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8)
قوله تعالى: طس فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه، قال: هو اسم الله الأعظم. والثاني: اسم من أسماء القرآن، قاله قتاده. والثالث: الطاء من اللطيف، والسين من السميع، حكاه الثعلبي. قوله تعالى:
وَكِتابٍ مُبِينٍ وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: «وكتابٌ مبينٌ» بالرفع فيهما. قوله تعالى: وَبُشْرى أي: بشرى بما فيه من الثواب للمصدِّقين.
قوله تعالى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي: حبَّبْنا إِليهم قبيح فعلهم. وقد بيّنّا حقيقة التّزيين والعمه في سورة البقرة «1» . وسُوءُ العذاب: شديده.
قوله تعالى: هُمُ الْأَخْسَرُونَ لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إِلى النار.
قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ قال ابن قتيبة: أي: يُلْقَى عليك فتَتَلَقَّاه أنت، أي: تأخذه.
إِذْ قالَ مُوسى المعنى: اذكر إذ قال «2» موسى.
__________
(1) البقرة عند الآيات: 15، 212. [.....]
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 442: أي اذكر حين سار موسى بأهله، فأضل الطريق وذلك في ليل وظلام، فآنس من جانب الطور نارا، فقال لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أي عن الطريق، وكان كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نورا عظيما، ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي: فلما أتاها رأى منظرا هائلا عظيما حيث انتهى إليها، والنار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا توقدا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء. قال ابن عباس: لم تكن نارا، إنما كانت نورا يتوهج.(3/352)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
قوله تعالى: بِشِهابٍ قَبَسٍ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب إِلاّ زيداً: «بشهابٍ» بالتنوين. وقرأ الباقون على الإِضافة غير منوَّن. قال الزجاج: من نوّن الشّهاب، جعل القبس من صفة الشهاب، وكل أبيض ذي نور، فهو شهاب. فأما من أضاف، فقال الفراء: هذا مما يضاف إِلى نفسه إِذا اختلفت الأسماء، كقوله تعالى: وَلَدارُ الْآخِرَةِ «1» . قال ابن قتيبة: الشّهاب: النّار، والقيس: النار تُقْبَس: يقال: قَبَسْتُ النار قَبْساً، واسم ما قَبَستَ: قَبَسٌ.
قوله تعالى: تَصْطَلُونَ أي: تستدفئون، وكان الزمان شتاءً.
قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَها أي: جاء موسى النارَ، وإِنما كان نوراً فاعتقده ناراً، نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: قُدِّس مَنْ في النّار، وهو الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، والحسن والمعنى: قُدِّس مَنْ نادى من النّار، لا أنّ الله عزّ وجلّ يَحُلُّ في شيء. والثاني: أن «مَنْ» زائدة فالمعنى: بوركتِ النَّارُ، قاله مجاهد. والثالث: أن المعنى بُورِك على من في النار، أو فيمن في النار قال الفراء: والعرب تقول: باركه الله، وبارك عليه، وبارك فيه، بمعنى واحد، والتقدير: بورك في من طلب النار، وهو موسى، فحذف المضاف. وهذه تحيَّة من الله تعالى لموسى بالبركة، كما حيَّا إِبراهيمَ بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه، فقالوا: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ «2» .
فخرج في قوله تعالى: بُورِكَ قولان: أحدها: قدس. والثاني: من البركة. وفي قوله تعالى: وَمَنْ حَوْلَها ثلاثة أقوال: أحدها: الملائكة، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: موسى والملائكة، قاله محمد بن كعب. والثالث: موسى فالمعنى: بُورِك فيمن يطلبها وهو قريب منها.
[سورة النمل (27) : الآيات 9 الى 14]
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
قوله تعالى: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الهاء عماد في قول أهل اللغة وعلى قول السدي: هي كناية عن المنادي، لأن موسى قال: مَن هذا الذي يناديني؟ فقيل: «إِنَّه أنا الله» .
قوله تعالى: وَأَلْقِ عَصاكَ في الآية محذوف، تقديره: فألقاها فصارت حيَّة، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ قال الفراء: الجانّ: الحيَّة التي ليست بالعظيمة ولا بالصغيرة «3» .
قوله تعالى: وَلَمْ يُعَقِّبْ فيه قولان: أحدهما: لم يلتفت، قاله قتادة. والثاني: لم يرجع، قاله
__________
(1) يوسف: 109.
(2) هود: 73.
(3) قال ابن كثير رحمه الله 3/ 443: الجانّ ضرب من الحيات، أسرعه حركة، وأكثره اضطرابا.
- وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قتل الجنّان التي في البيوت» . أخرجه البخاري 3312 و 33313 ومسلم 2233 وأبو داود 5253 وابن حبان 5639.(3/353)
ابن قتيبة، والزجاج. قال ابن قتيبة: وأهل النظر يرون أنه مأخوذ من العَقْبِ..
قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي: لا يخافون عندي. وقيل: المراد: في الموضع الذي يوحى إِليهم فيه، فكأنه نبَّهه على أن من آمنه الله بالنبوَّة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة. وفي قوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثلاثة أقوال «1» :
أحدها: أنه استثناء صحيح، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل والمعنى: إِلا من ظَلَمَ منهم فانه يخاف. قال ابن قتيبة: علم الله تعالى أن موسى مُسْتَشْعِرٌ خِيفةً من ذَنْبه في الرَّجل الذي وَكزَه، فقال:
«إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً» أي: توبة وندماً، فانه يخاف، وإِني غفور رحيم.
والثاني: أنه استثناء منقطع والمعنى: لكن من ظلَمَ فانه يخاف، قاله ابن السائب والزجاج.
وقال الفراء: «مَنْ» مستثناة من الذين تُركوا في الكلام، كأنه قال: لا يخاف لديّ المرسَلون، إِنما الخوف على غيرهم، إِلا من ظَلَمَ، فتكون «مَنْ» مستثناة. وقال ابن جرير: في الآية محذوف، تقديره:
إِلا من ظَلَمَ، فمن ظَلَمَ ثم بدَّل حُسْناً.
والثالث: أن «إِلاّ» بمعنى الواو، فهو كقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ «2» ، حكاه الفراء عن بعض النحويين، ولم يرضه.
وقرأ أُبيُّ بن كعب، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعاصم الجحدري، وابن يعمر: «أَلا مَنْ ظَلَمَ» بفتح الهمزة وتخفيف اللام. وللمفسرين في المراد بالظّلم ها هنا قولان «3» :
أحدهما: المعاصي. والثاني: الشِّرك. ومعنى «حُسْناً» توبة وندماً.
وقرأ ابن مسعود، والضَّحَّاك، وأبو رجاء، والأعمش، وابن السميفع، وعبد الوارث عن أبي عمرو: «حَسَناً» بفتح الحاء والسين بَعْدَ سُوءٍ أي: بعد إِساءة، وقيل: الإِشارة بهذا إِلى أن موسى وإِن كان قد ظلم نفسه بقتل القبطي، فان الله يغفِر له، لأنه ندم على ذلك وتاب.
قوله تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ الجَيْب حيث جِيبَ من القميص، أي: قُطِع. قال ابن جرير:
إنّما أمر بإدخال يده في جيبه، لأنه كان عليه حينئذ مِدْرَعة من صوف ليس لها كُمّ. والسُّوء: البَرَص.
قوله تعالى: فِي تِسْعِ آياتٍ قال الزجاج: «في» مِنْ صلة قوله: «وأَلْقِ عصاك» «وأدخل يدك» ، فالتأويل:
__________
(1) قال الزمخشري في «الكشاف» 3/ 356: وإِلَّا بمعنى لكن، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل كان مظنّة لطروق الشبهة، فاستدرك ذلك. والمعنى: ولكن من ظلم منهم أي فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى بوكزه القبطي، وسماه ظلما، كما قال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي- القصص: 16- والحسن، والسوء: حسن التوبة، وقبح الذنب. وقال الطبري في «تفسيره» 9/ 500: والصواب من القول في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ أنه استثناء صحيح وهو قول الحسن البصري وابن جريج ومن قال قولهما. وقال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 443: وهذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على شيء ثم أقلع عنه ورجع وأناب. فإن الله يتوب عليه كما قال تعالى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى والآيات في هذا كثيرة.
(2) البقرة: 150.
(3) تقدم معنى الظلم بقول الزمخشري رحمه الله، وابن كثير رحمه الله.(3/354)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
أظْهِر هاتين الآيتين في تسع آيات. و «في» بمعنى «مِنْ» ، فتأويله: مِنْ تسع آيات تقول: خذ لي عشراً من الإِبل فيها فحلان، أي: منها فحلان. وقد شرحنا الآيات في بني إِسرائيل «1» . قوله تعالى: إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أي: مٌرْسَلاً إِلى فرعون وقَومِه، فحذف ذلك لأنه معروف. فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أي:
بيّنة واضحة، وهو كقوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً «2» وقد شرحناه.
قوله تعالى: قالُوا هذا أي: هذا الذي نراه عِياناً سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِها أي: أنكروها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أنّها مِنْ عند الله، ظُلْماً أي: شركا وعلوّا أي: تكبّرا. وقال الزجاج: المعنى:
وجحدوا بها ظُلماً وعُلُوّاً، أي: ترفُّعاً عن أن يؤمِنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله.
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً قال المفسرون: عِلْماً بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بالنبوَّة والكتاب وإِلانة الحديد وتسخير الشياطين والجن والإِنس عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ قال مقاتل: كان داود أشد تعبُّداً من سليمان، وكان سليمان أعظمَ مُلْكاً منه وأفطن.
قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي: ورث نبوَّته وعِلْمه ومُلْكه، وكان لداود تسعة عشر ذكراً، فخصّ سليمان بذلك، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيها سواء «3» .
قوله تعالى: وَقالَ يعني سليمان لبني إِسرائيل يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ قرأ أُبيُّ بن كعب: «عَلَمْنا» بفتح العين واللام. قال الفراء: «مَنْطِقَ الطَّير» : كلام الطَّير كالمنطق إِذا فُهم، قال الشاعر:
عَجِبْتُ لها أَنَّى يَكُونُ غِناؤها ... فَصيحاً ولم تَفْغَرْ بمَنْطِقها فَمَا «4»
ومعنى الآية: فهمنا ما تقول الطَّير. قال قتادة: والنمل من الطَّير. وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قال الزجاج: أي: من كل شىء يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس. وقال مقاتل: أُعطينا المُلك والنبوَّة والكتاب والرِّياح ومَنْطِق الطَّير، وسخِّرت لنا الجنُّ والشياطين. وروى جعفر بن محمد عن أبيه، قال: أعطي
__________
(1) الإسراء: 108.
(2) الإسراء: 59.
(3) هذا القول لا حجة فيه، وهو قول الكلبي كما في «تفسير القرطبي» 13/ 149، والكلبي كذاب متروك.
- وانظر الكلام على توريث الأنبياء في سورة مريم: 7.
(4) البيت لحميد بن ثور يصف حمامة، كما في «اللسان» فغر، فغر فاه: فتحه، ويعني بالمنطق: بكاؤه.(3/355)
سليمان مُلْك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر، وملك اهلَ الدنيا كلَّهم من الجن والإِنس والشياطين والدواب والطير والسباع، وأُعطي عِلْم كل شيء ومنطق كل شيء، وفي زمانه صُنعت الصنائع المعجِّبة، فذلك قوله: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. قوله تعالى: إِنَّ هذا يعني: الذي أُعطينا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي: الزيادة الظاهرة على ما أُعطي غيرنا. وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ أي: جُمع له كل صِنف من جُنده على حِدَة، وهذا كان في مسيرٍ له، فَهُمْ يُوزَعُونَ قال مجاهد: يُحبَس أوَّلُهم على آخرهم. قال ابن قتيبة: وأصل الوَزْع: الكَفُّ والمنع. يقال: وزَعْت الرَّجل، أي: كففته، ووازِعُ الجيش: الذي يكفُّهم عن التفرُّق، ويردُّ مَنْ شَذَّ منهم.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَتَوْا أي: أشرفوا عَلى وادِ النَّمْلِ وفي موضعه قولان:
أحدهما: أنه بالطَّائف، قاله كعب. والثاني: بالشَّام، قاله قتادة.
قوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ وقرأ ابو مجلز، وأبو رجاء وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرف:
«نَمُلَةٌ» بضم الميم أي: صاحت بصوت، فلما كان ذلك الصوت مفهوماً عبّر عنه بالقول ولمَّا نَطَقَ النَّمل كما ينطق بنو آدم، أُجري مجرى الآدميين، فقيل: ادْخُلُوا، وألهم الله تلك النملة معرفة سليمان مُعْجِزاً له، وقد ألهم الله النمل كثيراً من مصالحها تزيد به على الحيوانات، فمن ذلك أنها تكسر كل حبَّة تدخرها قطعتين لئلاّ تَنْبُت، إِلا الكُزْبرة فانها تكسرها أربع قطع، لأنها تَنْبُت إِذا كُسرت قطعتين، فسبحان من ألهمها هذا! وفي صفة تلك النملة قولان: أحدهما: أنها كانت كهيئة النعجة، قال نوف الشامي:
كان النمل في زمن سليمان بن داود كأمثال الذئاب «1» . والثاني: كانت نملة صغيرة. ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري: «مَسْكَنَكم» على التوحيد. قوله تعالى: لا يَحْطِمَنَّكُمْ الحَطْم: الكَسْر. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء: «لَيَحْطِمَنَّكُمْ» بغير ألف بعد اللام. وقرأ ابن مسعود: «لا يَحْطِمْكُمْ» بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون. وقرأ عمرو بن العاص، وأبان: «يَحْطِمَنْكُمْ» بفتح الياء وسكون الحاء والنون جميعا. وقرأ ابن أبو المتوكل، وأبو مجلز: «لا يَحِطِّمَنَّكُمْ» بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعاً. وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: «يُحْطِمَنَّكُمْ» برفع الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون. والحَطْمُ: الكَسْر، والحُطَام: ما تحطَّم. قال مقاتل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وفي قوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قولان: أحدهما: وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النملة، قاله ابن عباس. والثاني: وأصحاب سليمان لا يَشْعُرون بمكانكم، لانها علمتْ أنَّه ملك لا بغي فيه، وأنهم لو علموا بالنمل ما توطَّؤوهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً قال الزجاج «ضاحكاً» منصوب، حال مؤكَدة، لأن «تبسّم» بمعنى «ضحك» . قال المفسرون: تبسم تعجُّباً ممَّا قالت، وقيل: من ثنائها عليه. وقال بعض العلماء:
هذه الآية من عجائب القرآن، لأنها بلفظة «يا» نادت «أيها» نبّهت «النّمل» عيّنت «ادخلوا» «مساكنَكم» نصَّت «لا يحطمنَّكم» حذَّرت «سليمانُ» خصَّت «وجنوده» عمَّت «وهم لا يشعُرون» عذرت. قوله
__________
(1) قال ابن كثير بعد أن ذكر قول نوف البكالي. هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت (الذياب) وإنما هو بالياء الموحدة، وذلك تصحيف والله أعلم. فصوابه «بالباء» «ذباب» وإلا فهو من مجازفات نوف البكالي.(3/356)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
تعالى: وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي قال ابن قتيبة: ألهِمْني، أصل الإِيزاع: الإِغراء بالشيء، يقال: أوزَعْتُه بكذا، أي: أغريتُه به، وهو مُوزَعٌ بكذا، ومُولَعٌ بكذا، وقال الزجاج. تأويله في اللغة: كُفَّني عن الأشياء إِلا عن شُكرِ نِعمتك والمعنى: كُفَّني عمَّا يُباعِد منك، وَأَنْ أَعْمَلَ أي: وألهِمْني أن أعمل صالِحاً تَرْضاهُ قال المفسّرون: إنما شكر الله تعالى لأن الريح أبلغت إِليه صوتها ففهم ذلك.
[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 26]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
قوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ التفقُّد: طلب ما غاب عنك والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير والطَّير اسم جامع للجنس، وكانت الطَّير تصحب سليمان في سفره تُظِلُّه بأجنحتها فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ قرأ ابن كثير، وعاصم، والكسائي: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ بفتح الياء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة بالسكون، والمعنى: ما للهدهد لا أراه؟! تقول العرب: مالي أراك كئيباً، أي: مَالَكَ؟ فهذا من المقلوب الذي معناه معلوم. قال المفسرون: لمَّا فَصَل سليمان عن وادي النمل، وقع في قفر من الأرض، فعطش الجيش فسألوه الماء، وكان الهدهد يدلُّه على الماء، فإذا قال له: ها هنا الماء، شقّقت الشياطين الصّخرة وفجَّرت العيون قبل أن يضربوا أبنيتهم، وكان الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الماء في الزجاجة، فطلبه يومئذ فلم يجده. وقال بعضهم: إِنما طلبه لأن الطَّير كانت تُظِلُّهم من الشمس، فأخلَّ الهدهد بمكانه، فطلعت الشمس عليهم من الخلل.
قوله تعالى: أَمْ كانَ قال الزجاج: معناه: بل كان. قوله تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً فيه ستة أقوال: أحدها: نتف ريشه، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: نتفه وتشميسه، قاله عبد الله بن شداد. والثالث: شد رجله وتشميسه، قاله الضحاك. والرابع: أن يطليَه بالقطران ويشمّسه، قاله مقاتل بن حيان. والخامس: ان يودِعه القفص. والسادس: أن يفرِّق بينه وبين إِلفه، حكاهما الثعلبي. قوله تعالى: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي وقرأ ابن كثير: «لَيَأْتِيَنَّنِي، بنونين، وكذلك هي في مصاحفهم. فأما السلطان، فهو الحُجَّة، وقيل: العُذر.
وجاء في التفسير أن سليمان لما نزل في بعض مسيره، قال الهدهد: إِنه قد اشتغل بالنزول فأرتفع أنا إِلى السماء فأنظر إِلى طول الدنيا وعرضها، فارتفع فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إِلى الخُضرة فوقع فيه، فاذا هو بهدهد قد لقيَه، فقال: من اين أقبلت؟ قال: من الشام مع صاحبي سليمان، فمن أين أنت؟
قال: من هذه البلاد، وملكها امرأة يقال لها: بلقيس، فهل انت مُنطلق معي حتى ترى مُلْكها؟ قال:
أخاف أن يتفقَّدني سليمان وقت الصلاة إِذا احتاج إِلى الماء، قال: إِن صاحبك يسرُّه أن تأتيَه بخبر هذه الملِكة، فانطلق معه، فنظر إِلى بلقيس ومُلْكها، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ قرأ الجمهور بضم الكاف، وقرأ(3/357)
عاصم بفتحها، وقرأ ابن مسعود: «فتمكَّث» بزيادة تاء والمعنى: لم يلبث إِلا يسيراً حتى جاء، فقال سليمان: ما الذي أبطأ بك؟ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي: علمتُ شيئاً من جميع جهاته مما لم تعلم به وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «سَبَأَ» نصباً غير مصروف، وقرأ الباقون خفضاً منوَّناً «1» .
(1067) وجاء فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أن سبأ رجل من العرب» . وقال قتادة: هي أرض باليمن يقال لها: مأرب. وقال أبو الحسن الأخفش: إِن شئتَ صرفت «سبأ» فجعلته اسم أبيهم، أو اسم الحيِّ، وإِن شئت لم تصرف فجعلته اسم القبيلة، أو اسم الأرض. قال الزجاج: وقد ذكر قوم من النحويين أنه اسم رجل. وقال آخرون: الاسم إِذا لم يُدْرَ ما هو لم يُصرف وكلا القولين خطأٌ، لأن الأسماء حقُّها الصَّرف، وإِذا لم يُعلم هل الاسم للمذكَّر أم للمؤنَّث، فحقُّه الصَّرف حتى يُعلم أنَّه لا ينصرف، لأن أصل الأسماء الصرف. وقول الذين قالوا: هو اسم رجل، غلط، لأن سبأ هي مدينة تُعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، فمن لم يصرفه جعله اسم مدينة، ومن صرفه فلأنَّه اسم البلد، فيكون مذكَّراً سمي بمذكَّر.
قوله تعالى: بِنَبَإٍ يَقِينٍ أي: بخبر صادق، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ يعني بلقيس وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قال الزجاج: معناه: من كل شيء يُعطاه الملوك ويؤتاه الناس. والعرش: سرير الملك.
قال قتادة: كان عرشها من ذهب، قوائمه من جوهر مكلَّل باللؤلؤ، وكان أحد أبويها من الجنّ، وكان
__________
صحيح. أخرجه الترمذي 3222 وابن سعد في «الطبقات» 1/ 38 والطبري 28783 من طرق عن أبي أسامة عن الحسن بن الحكم ثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك به. وإسناده لين، لأجل أبي سبرة، فإنه مقبول، وباقي الإسناد ثقات. وقال الترمذي. حسن غريب. وورد من وجه آخر. أخرجه البخاري في «التاريخ» 7/ 126/ 568 والحاكم 2/ 424 من طريق الحميدي عن فرج بن سعيد حدثني عمي ثابت بن سعيد عن أبيه عن فروة به. وإسناده حسن في المتابعات والشواهد، لأجل ثابت بن سعيد بن أبيض، فإنه مقبول هو وأبوه. وباقي الإسناد ثقات. وسكت عليه الحاكم، وصححه الذهبي، وورد من وجه آخر. أخرجه الطبري 28682 من طريق أبي حيان عن يحيى بن هانئ عن عروة المرادي عن فروة به. وإسناده ضعيف، فيه مجاهيل، وورد من وجه آخر. أخرجه الطبري 28784 من طريق أسباط بن نصر عن يحيى بن هانئ المرادي عن أبيه أو عن عمه- شك أسباط- قال: قدم فروة، فهذا مرسل. وفيه من لم يسم فهو ضعيف. وله شاهد من حديث يزيد بن حصين، أخرجه الطبراني 22/ 245. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 94/ 11287: رجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني علي بن الحسن الصائغ، ولم أعرفه. قلت: ذكره الخطيب في «التاريخ» 11/ 376 من غير جرح أو تعديل، وبكل حال يصلح شاهدا لما قبله، ويشهد له حديث ابن عباس، أخرجه الحاكم 2/ 423 وصححه، ووافقه الذهبي. الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده، وقال ابن كثير في «التفسير» 3/ 538: إسناده حسن قوي. وانظر «تفسير القرطبي» 112 و «تفسير الشوكاني» 2049 وكلاهما بتخريجي.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 509: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لأن سبأ إن كان رجلا كما جاء به الأثر، فإنه إذا أريد به اسم الرجل أجري، وإن أريد به اسم القبيلة لم يجر، وإن كان سبأ جبلا، أجري لأنه يراد به الجبل بعينه، وإن لم يجر فلأنه يجعل اسما للجبل وما حوله من البقعة.(3/358)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
مؤخَّر أحد قدميها مثل حافر الدابة، وقال مجاهد: كان قدماها كحافر الحمار. وقال ابن السائب: لم يكن بقدميها شيء، إِنما وقع الجنُّ فيها عند سليمان بهذا القول، فلمَّا جعل لها الصرح بان له كذبُهم. قال مقاتل: كان ارتفاع عرشها ثمانين ذراعاً في عرض ثمانين، وكانت أُمُّها من الجنّ «1» . قال ابن جرير: وإِنما صار هذا الخبر عُذْراً للهدهد، لأن سليمان كان لا يرى لأحد في الأرض مملكة سواه، وكان مع ذلك يحبُّ الجهاد، فلمَّا دلَّه الهدهد على مملكةٍ لغيره، وعلى قومٍ كَفَرة يجاهدهم، صار ذلك عذرا.
قوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا قرأ الأكثرون: «ألاَّ» بالتشديد. قال الزجاج: والمعنى: وزيَّن لهم الشيطان ألاَّ يسجدوا، أي: فصدَّهم لئلاَّ يسجُدوا. وقرأ ابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والزهري وقتادة، وأبو العالية، وحميد الأعرج، والأعمش، وابن أبي عبلة، والكسائي: «ألا يسجُدوا» مخفَّفة، على معنى: ألا يا هؤلاء اسجُدوا، فيكون في الكلام إِضمار «هؤلاء» ويُكتفى منها ب «يا» ، ويكون الوقف «ألا يا» والابتداء «اسجدوا» قال الفراء: فعلى هذه القراءة هي سجدة، وعلى قراءة من شدَّد لا ينبغي لها أن تكون سجدة. وقال أبو عبيدة: هذا أمر من الله مستأنَف، يعني: ألا يا أيُّها الناس اسجدوا. وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ: «هلاَّ يسجدوا» بهاءٍ.
قوله تعالى: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن قتيبة: أي: المُسْتَتِر فيهما، وهو من خَبَأْتُ الشيءَ: إِذا أخفيته، ويقال: خبْءُ السموات: المطر، وخبءُ الأرض: النبات. وقال الزجاج:
كل ما خَبَأته فهو خَبْءُ، فالخَبْءُ: كُلُّ ما غاب فالمعنى: يعلم الغيب في السموات والأرض. وقال ابن جرير: «في» بمعنى «مِنْ» فتقديره: يُخرج الخَبْءَ من السموات.
قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ قرأ حفص عن عاصم، والكسائي، بالتاء فيهما. وقرأ الباقون بالياء. قال ابن زيد: من قوله: أَحَطْتُ إِلى قوله: الْعَظِيمِ كلام الهدهد. وقرأ الضّحّاك، وابن محيصن: «العظيم» برفع الميم.
[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 31]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
فلما فرغ الهدهد من كلامه قالَ سَنَنْظُرُ فيما أخبرتَنا به أَصَدَقْتَ فيما قلتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ وإِنما شَكَّ في خبره، لأنه أنكر أن يكون لغيره في الأرض سلطان. ثم كتب كتاباً وختمه بخاتَمه ودفعه إِلى الهدهد وقال: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي: «فأَلْقِهي» موصولة بياء. وقرأ أبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، وحمزة: «فأَلْقِهْ» بسكون الهاء، وروى قالون عن نافع: كسر الهاء من غير إِشباع ويعني: إِلى أهل سبأ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: أَعْرِض. والثاني: انْصَرِف، فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي: ماذا يَرُدُّون من الجواب. فإن قيل: إِذا تولَّى عنهم فكيف يعلم جوابهم؟ فعنه جوابان «2» : أحدهما: أن المعنى: ثم تولّ عنهم مستترا
__________
(1) هذا وما قبله وأمثالها من الإسرائيليات المنكرة. [.....]
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 448: كتب سليمان كتابا إلى بلقيس وقومها. وأعطاه للهدهد فحمله وجاء قصر بلقيس إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها فألقاه إليها من كوة هناك بين يديها، ثم تولى ناحية أدبا ورئاسة فتحيرت مما رأت وهالها ذلك، ثم عمدت إلى الكتاب، وقرأته وفتحت ختمه، فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها، ثم قالت: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره، كون الطائر أتى به فألقاه إليها ثم تولى عنها أدبا وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك.(3/359)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
من حيث لا يرونك، فانظر ماذا يردُّون من الجواب، وهذا قول وهب بن منبِّه. والثاني: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: فانظر ماذا يرجعِون ثم تولّ عنهم، وهذا مذهب ابن زيد. قال قتادة: أتاها الهدهد وهي نائمة فألقى الكتاب على نحرها فقرأته وأخبرت قومها. وقال مقاتل: حمله بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة، فرفرف ساعة والناس ينظُرون، فرفعت رأسها فألقي الكتاب في حِجْرها، فلما رأت الخاتَم أُرْعِدَتْ وخضعتْ وخضع مَنْ معها من الجنود. واختلفوا لأيِّ عِلَّة سمَّتْه كريماً على سبعة أقوال: أحدها: لأنه كان مختوماً، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: لأنها ظنَّته من عند الله عزّ وجلّ، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أن معنى قولها: «كريمٌ» : حَسَنٌ ما فيه، قاله قتادة، والزّجّاج. والرابع: لكلام صاحبه، فانه كان ملِكاً، ذكره ابن جرير. والخامس: لأنه كان مَهيباً، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والسادس: لتسخير الهدهد لحمله، حكاه الماوردي. والسابع: لأنها رأت في صدره «بسم الله الرحمن الرحيم» ، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ أي: إِن الكتاب من عنده وَإِنَّهُ أي: وإِنَّ المكتوب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ أي: لا تتكبروا. وقرأ ابن عباس: «تَغْلُوا» بغين معجمة وأْتُوني مُسْلِمِينَ أي: منقادين طائعين. ثم استشارت قومها، ف قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ يعني الاشراف، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر قائداً، كل رجل منهم على عشرة آلاف. وقال ابن عباس: كان معها مائة ألف قَيْل، مع كل قَيْل مائة ألف. وقيل: كانت جنودها ألف ألف ومائتي ألف.
[سورة النمل (27) : الآيات 32 الى 35]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
قوله تعالى: أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي: بيِّنوا لي ما أفعل، وأشيروا عليَّ. قال الفراء: جعلت المشورة فُتْيا، وذلك جائز لسَعة اللغة. قوله تعالى: ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً أي: فاعلته حَتَّى تَشْهَدُونِ أي:
تَحْضُرون: والمعنى: إِلا بحضوركم ومشورتكم. قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فيه قولان: أحدهما: أنهم أرادوا القُوَّة في الأبدان. والثاني: كثرة العدد والبأس والشجاعة في الحرب. وفيما أرادوا بذلك القول قولان:
أحدهما: تفويض الأمر إِلى رأيها. والثاني: تعريض منهم بالقتال إِن أمرتْهم. ثم قالوا: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أي: في القتال وتركه. قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً قال الزجاج: المعنى: إِذا دخلوها عَنْوة عن قتال وغَلَبة. قوله تعالى: أَفْسَدُوها أي: خرَّبوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أي: أهانوا أشرافها ليستقيم لهم الأمر. ومعنى الكلام: أنها حذَّرتْهم مسير سليمان إِليهم ودخوله بلادها. قوله تعالى:(3/360)
وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ فيه قولان: أحدهما: أنه من تصديق الله تعالى لقولها، قاله الزجاج. والثاني: من تمام كلامها والمعنى: وكذلك يفعل سليمان وأصحابه إِذا دخلوا بلادنا، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ قال ابن عباس: إِنما أرسَلَت الهديَّة لتعلم أنه إِن كان نبيّاً لم يُرِد الدُّنيا، وإِن كان مَلِكاً فسيرضى بالحَمْل، وأنها بعثت ثلاث لَبِنات مِنْ ذهب في كل لَبِنة مائة رطل وياقوتةً حمراء طولها شِبر مثقوبة، وثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفة، وألبستْهم لباساً واحداً حتى لا يُعرف الذكر من الأنثى، ثم كتبتْ إِليه: إِنِّي قد بعثتُ إِليكَ بهديَّة فاقبلها، وبعثتُ إِليكَ بياقوتة طولها شبر، فأدخل فيها خيطاً واختِم على طرفي الخيط بخاتَمك، وقد بعثت إِليك ثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفة، فميِّز بين الجواري والغِلمان فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثتْ إِليه، فقال له: انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال لَبِناً من الذهب فانطلق، فبعث الشياطين، فقطعوا اللَّبِن من الجبال وطلَوه بالذهب وفرشوه، ونصبوا في الطريق أساطين الياقوت الأحمر، فلمّا جاء الرُّسُل، قال بعضهم لبعض: كيف تدخُلون على هذا الرجل بثلاث لَبِنات، وعنده ما رأيتم؟! فقال رئيسهم: إِنما نحن رُسُل، فدخلوا عليه، فوضعوا اللَّبِن بين يديه، فقال: أتمدّونني بمال؟
ثم دعا ذَرَّةً فربط فيها خيطاً وأدخلها في ثَقْب الياقوتة حتى خرجت من طرفها الآخر، ثم جمع بين طرفي الخيط فختم عليه ودفعها إِليهم، ثم ميَّز بين الغِلمان والجواري هذا كلُّه مرويّ عن ابن عباس «1» . وقال مجاهد: جعلت لباس الغِلمان للجواري ولباس الجواري للغلمان، فميَّزهم ولم يقبل هديَّتها. وفي عدد الوصائف والوُصفاء خمسة أقوال: أحدها: ثلاثون وصيفاً وثلاثون وصيفة، وقد ذكرناه عن ابن عباس.
والثاني: خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، قاله وهب. والثالث: مائتا غلام ومائتا جارية، قاله مجاهد.
والرابع: عشرة غلمان وعشر جوارٍ، قاله ابن السائب. والخامس: مائة وصيف ومائة وصيفة، قاله مقاتل. وفيما ميَّزهم به ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أمرهم بالوضوء، فبدأ الغلام من مرفقه إِلى كفِّه، وبدأت الجارية من كفّها إِلى مرفقها، فميَّزهم بذلك، قاله سعيد بن جبير. والثاني: أن الغلمان بدءوا بغَسْل ظُهور السَّواعد قبل بُطونها، والجواري على عكس ذلك، قاله قتادة. والثالث: أن الغلام اغترف بيده، والجارية أفرغت على يدها، قاله السدي. وجاء في التفسير أنها أمرت الجواري أن يكلِّمن سليمان بكلام الرجال، وأمرت الرجال أن يكلّموه كلام النساء، وأرسلت قدحا أن يملأه ماءً ليس من ماء السماء ولا من ماء الأرض، فجرّى الخيل وملأه من عرقها.
قوله تعالى: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي: بقَبُول أم بِردّ. قال ابن جرير: وأصل «بِمَ» : بما، وإِنما أُسقطت الألف لأن العرب إِذا كانت «ما» بمعنى «أيّ» ثم وصلوها بحرف خافض، أسقطوا ألفها، تفريقاً بين الاستفهام والخبر، كقوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ «2» وقالُوا فِيمَ كُنْتُمْ «3» ، وربما أثبتوا فيها الألف كما قال الشاعر:
على مَا قام يَشْتُمُنا لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رماد؟ «4»
__________
(1) هو متلقى عن أهل الكتاب. ولا يصح شيء في تعيين الهدية أو وصفها، وكل ذلك من الإسرائيليات.
(2) النبأ: 1.
(3) النساء: 97.
(4) البيت لحسان بن ثابت، ديوانه: 143.(3/361)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
[سورة النمل (27) : الآيات 36 الى 40]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قال الزجاج: لما جاء رسُولها، ويجوز: فلمَّا جاء بِرُّها.
قوله تعالى: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «أتُمِدُّونَني» بنونين وياء في الوصل. وروى المسيِّبي عن نافع: «أتُمِدُّوني» بنون واحدة خفيفة وياء في الوصل والوقف. وقرأ عاصم، وابن عامر، والكسائي: «أتُمِدُّونَنِ» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ حمزة: «أتُمِدُّونِّي بمال» بنون واحدة مشددة ووقف على الياء.
قوله تعالى: فَما آتانِيَ اللَّهُ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «فما آتانِ» بكسر النون من غير ياء. وقرأ أبو عمرو، ونافع، وحفص عن عاصم: «أتاني الله» بفتح الياء. وكلّهم فتح التاء غير الكسائي، فإنه أمالها من «آتاني اللهُ» وأمال حمزة: «أنا آتيكَ به» أشمَّ النون شيئاً من الكسر، والمعنى: فما آتاني الله، أي: من النبوَّة والملك خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ من المال بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ يعني إِذا أهدى بعضكم إِلى بعض فرح، فأمّا أنا فلا، ثم قال للرسول: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ أي: لا طاقة لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها يعني بلدتهم. فلمّا رجعتْ رسلُها إِليها بالخبر، قالت: قد علمتُ أنَّه ليس بملِك وما لنا به طاقة، فبعثتْ إِليه: إِني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما تدعو إِليه، ثم أمرت بعرشها فجُعل وراء سبعة أبواب، ووكَّلتْ به حرساً يحفظونه، وشخصت إِلى سليمان في اثني عشر ألف ملِك، تحت يدي كل ملِك ألوف. وكان سليمان مهيبا لا يبتدئ بشيء حتى يسأل عنه، فجلس يوماً على سرير ملكه فرأى رهجاً قريباً منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس قد نزلت بهذا المكان، وكان قدر فرسخ، وقد كان بلغه أنها احتاطت على عرشها قبل خروجها، وقالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها وفي سبب طلبه له خمسة أقوال «1» : أحدها: ليعلم صِدق الهدهد، قاله ابن عباس. والثاني: ليجعل ذلك دليلاً على صِدق نبوَّته، لأنها خلَّفته في دارها واحتاطت عليه، فوجدته قد تقدَّمها، قاله وهب بن منبه. والثالث: ليختبر عقلها وفطنتها، أتعرفه أم تُنْكِره، قاله سعيد بن جبير.
والرابع: لأن صفته أعجبتْه، فخشي أن تُسْلِم فيحرم عليه مالها، فأراد أخذه قبل ذلك، قاله قتادة.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 9/ 521: وأولى الأقوال بالصواب في السبب الذي من أجله خص سليمان بسؤاله الملأ من جنده بإحضار عرش المرأة دون سائر ملكها عندها ليجعل ذلك حجة عليها في نبوته ويعرّفها بذلك قدرة الله وعظيم شأنه، أنها خلفته في بيت في جوف أبيات بعضها في جوف بعض مغلق مقفل فأخرجه الله من ذلك كله بغير فتح أغلاق وأقفال حتى أوصله إلى وليه من خلقه وسلمه إليه فكان لها في ذلك أعظم حجة على حقيقة ما دعاها إليه سليمان وعلى صدقه فيما أعلمها من نبوته.(3/362)
والخامس: ليريَها قدرة الله تعالى وعِظَم سلطانه، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ قال أبو عبيدة: العِفْريت من كل جِنّ أو إِنس: الفائق المبالغ الرئيس. وقال ابن قتيبة: العفريت: الشرير الوثيق. وقال الزجاج: العفريت: النافذ في الأمر، المبالغ فيه مع خُبث ودهاء. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والضحاك، وأبو العالية، وابن يعمر، وعاصم الجحدري:
«قال عَفْرِيت» بفتح العين وكسر الراء، وروى ابن أبي شريح عن الكسائي: «عِفْريَةٌ» بفتح الياء وتخفيفها، وروي عنه أيضاً تشديدها وتنوين الهاء على التأنيث. وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع:
«عِفْرَاةٌ» بكسر العين وفتح الراء وبألف من غير ياء.
قوله تعالى: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي: من مجلسك ومثله: «في مقام أمين» «1» . وكان سليمان يجلس للقضاء بين الناس من وقت الفجر إِلى طلوع الشمس، وقيل: إِلى نصف النهار. وَإِنِّي عَلَيْهِ أي: على حمله لَقَوِيٌّ. وفي قوله تعالى: أَمِينٌ قولان: أحدهما: أمين على ما فيه من الجوهر والدُّرِّ وغير ذلك، قاله ابن السائب. والثاني: أمين أن لا آتيك بغيره بدلاً منه، قاله ابن زيد. قال سليمان: أريد اسرع من ذلك. قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ وهل هو إِنسي أم مَلَك؟ فيه قولان:
أحدهما: إِنسيّ، قاله ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، ثم فيه أربعة أقوال: أحدها: أنَّه رجل من بني إِسرائيل، واسمه آصف بن برخياء، قاله مقاتل. قال ابن عباس: دعا آصف- وكان آصف يقوم على رأس سليمان بالسيف- فبعث اللهُ الملائكة فحملوا السرير تحت الأرض يَخُدُّون الأرض خَدّاً، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان. والثاني: أنه سليمان عليه السلام، وإِنما قال له رجل: أنا آتيك به قبل أن يرتد إِليك طَرْفك، فقال: هات، قال: أنت النبيُّ ابن النبيِّ، فان دعوتَ الله جاءكَ، فدعا اللهَ فجاءه، قاله محمّد بن المنكدر. والثالث: أنَّه الخضر، قاله ابن لهيعة «2» . والرابع: أنه عابد خرج يومئذ من جزيرة في البحر فوجد سليمان فدعا فأُتيَ بالعرش، قاله ابن زيد. والقول الثاني: أنه من الملائكة، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه جبريل عليه السلام. والثاني: مَلَك من الملائكة أيَّد اللهُ تعالى به سليمان، حكاهما الثعلبي. وفي العِلْم الذي عنده من الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم الله الأعظم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. والثاني: أنه عِلْم كتاب سليمان إلى بلقيس. والثالث:
عِلْم ما كتب اللهُ لبني آدم، وهذا على أنه مَلَك، حكى القولين الماوردي. وفي قوله تعالى: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أربعة أقوال: أحدها: قبل أن يأتيَك أقصى ما تنظر إِليه، قاله سعيد بن جبير. والثاني:
قبل أن ينتهي طرفك إِذا مددته إِلى مداه، قاله وهب. والثالث: قبل أن يرتد طرفك حسيراً إِذا أدمتَ النظر، قاله مجاهد. والرابع: بمقدار ما تفتح عينك ثم تطرف، قاله الزّجّاج: قال مجاهد: دعا فقال: يا ذا الجلال والإِكرام، وقال ابن السائب: إِنما قال: يا حيّ يا قيّوم.
قوله تعالى: فَلَمَّا رَآهُ في الكلام محذوف تقديره: فدعا اللهَ فأُتيَ به، فلمَّا رآه، يعني: سليمان مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي: ثابتاً بين يديه قالَ هذا يعني التمكُّن من حصول المراد.
قوله تعالى: أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ فيه قولان: أحدهما: أأشكر على السرير إِذ أُتيتُ به، أم أكفر إذا
__________
(1) الدخان: 51.
(2) ابن لهيعة: ضعيف إذا وصل الحديث فكيف إذا أرسله، وقد استغرب ابن كثير هذا القول جدا.(3/363)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
رأيتُ من هو دوني في الدنيا أعلم منّي، قاله ابن عباس. والثاني: أأشكر ذلك من فضل الله عليَّ، أم أكفر نعمته بترك الشُّكر له، قاله ابن جرير.
[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
قوله تعالى: قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها قال المفسرون: خافت الشياطين أن يتزوج سليمان بلقيس فتُفشي إِليه أسرار الجن، لأن أُمَّها كانت جِنِّية، فلا ينفكُّون من تسخير سليمان وذرِّيَّته بعده، فأساؤوا الثناء عليها وقالوا: إِن في عقلها شيئاً، وإِن رجلها كحافر الحمار، فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها، وينظر إِلى قدميها ببناء الصرح. قال ابن قتيبة: ومعنى «نكِّروا» : غيِّروا، يقال: نكَّرت الشيء فتنكَّر، أي: غيَّرتُه فتغيَّر. وللمفسرين في كيفية تغييره ستة أقوال:
أحدها: أنه زِيد فيه ونقص منه، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنهم جعلوا صفائح الذهب التي كانت عليه مكان صفائح الفضة، وصفائح الفضة مكان صفائح الذهب، والياقوتَ مكان الزَّبَرْجَد، والدُّرَّ مكان اللؤلؤ، وقائمتَي الزَّبَرْجَد مكان قائمتَي الياقوت، قاله ابن عباس أيضاً. والثالث: أنهم نزعوا ما عليه من فصوصه وجواهره، روي عن ابن عباس أيضاً. والرابع: أنهم جعلوا ما كان منه أحمرَ أخضرَ، وما كان أخضر أحمر، قاله مجاهد. والخامس: أنهم جعلوا أسفله أعلاه، ومُقَدَّمه مُؤخَّره، وزادوا فيه، ونقصوا منه، قاله قتادة. والسادس: أنهم جعلوا فيه تماثيل السَّمك، قاله أبو صالح.
وفي قوله تعالى: كَأَنَّهُ هُوَ قولان: أحدهما: أنها لمَّا رأته جعلت تَعْرِف وتُنْكِر، ثم قالت في نفسها: من أين يَخْلُص إِلى ذلك وهو في سبعة أبيات والحرس حوله؟! ثم قالت: كأنه هو، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال قتادة: شبَّهتْه بعرشها. وقال السدي: وجدت فيه ما تعرفه فلم تُنْكِر، ووجدت فيه ما تُنْكِره فلم تُثْبِت، فلذلك قالت: كأنه هو. والثاني: أنَّها عرفتْه، ولكنها شبَّهتْ عليهم كما شبَّهوا عليها، فلو أنهم قالوا: هذا عرشكِ، لقالت: نعم، قاله مقاتل. قال المفسرون: فقيل لها: فانه عرشكِ، فما أغنى عنكِ إغلاق الأبواب؟! وفي قوله تعالى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قول سليمان، قاله مجاهد، ثم في معناه قولان: أحدهما: وأُوتينا العِلْم بالله وقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة. والثاني: أُوتينا العِلْم باسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكُنَّا مُسْلِمِين لله. والقول الثاني: انه من قول بلقيس، فانها لمّا رأت عرشها، قالت: قد عرفتُ هذه الآية، وأُوتينا العِلْم بصِحَّة نبوَّة سليمان بالآيات المتقدِّمة، تعني أمر الهدهد والرُّسُلِ التي بُعثت من قَبْل هذه الآية، وكُنَّا مُسْلِمِين منقادِين لأمركَ قبل أن نجىء. والثالث: أنه من قول قوم سليمان، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الفراء: معنى الكلام: هي عاقلة، إِنَّما صدَّها عن عبادة الله عبادتُها الشمس والقمر، وكان عادةً من دين آبائها والمعنى: وصدَّها أن تعبُد الله ما كانت(3/364)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
تعبد، قال: وقد قيل: صدَّها سليمانُ، أي: منعها ما كانت تعبُد. قال الزجاج: المعنى: صدَّها عن الإِيمان العادةُ التي كانت عليها، لأنها نشأت ولم تعرِف إِلا قوماً يعبُدون الشمس، وبيَّن عبادتها بقوله:
إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: «أنَّها كانت» بفتح الهمزة.
قوله تعالى: يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
قال المفسرون: أمر الشياطين فبنَوا له صرحاً كهيئة السطح من زجاج. وفي سبب أمره بذلك ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه أراد أن يريَها مُلكاً هو اعزُّ من مُلكها، قاله وهب بن منبِّه. والثاني: أنه أراد أن ينظر إِلى قدمها من غير أن يسألها كشفها، لأنه قيل له: إِن رجلها كحافر الحمار، فأمر ان يُهيَّأ لها بيت من قوارير فوق الماء، ووُضع سرير سليمان في صدر البيت، هذا قول محمد بن كعب القرظي. والثالث: أنه فعل ذلك ليختبرها كما اختبرته بالوصائف والوصفاء، ذكره ابن جرير. فأمّا الصَّرْح، فقال ابن قتيبة: هو القصر، وجمعه: صُروح، ومنه قول الهذليِّ:
تَحْسَبُ أعلامَهنَّ الصُّروحا «1» قال: ويقال: الصَّرْحُ بلاطٌ اتّخذ لها من قوارير، وجعل تحته ماءٌ وسمك، قال مجاهد: كانت بِركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير. وقال مقاتل: كان قصراً من قوارير بني على الماء وتحته السّمك. قوله تعالى: سِبَتْهُ لُجَّةً
وهي: معظم الماء كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لدخول الماء، فناداها سليمان نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
أي: مملّس نْ قَوارِيرَ
أي: من زُجاج فعلمتْ حينئذ أن ملك سليمان من الله تعالى، فالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
أي: بعبادة غيرك. وقيل: ظنَّت في سليمان أنه يريد تغريقها في الماء، فلمَّا علمتْ أنه صَرْح ممرَّد قالت: ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نفسي بذلك الظَّنِّ، وأسلمتُ مع سليمان، ثم تزوجها سليمان. وقيل: إِنه ردَّها إِلى مملكتها وكان يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام، وأنها ولدت منه. ويقال: إِنه زوَّجها ببعض الملوك ولم يتزوجها هو.
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
قوله تعالى: فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ مؤمن وكافر يَخْتَصِمُونَ وفيه قولان: أحدهما: أنه قولهم:
أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ الآيات «2» . والثاني: أنه قول كل فريق منهم: الحقُّ معي. قوله تعالى: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ وذلك حين قالوا: إِن كان ما أتيتنا به حقّاً فائتنا بالعذاب. وفي السيِّئة والحسنة قولان: أحدهما: أن السيِّئة: العذابُ، والحسنة: الرحمة، قاله مجاهد. والثاني: أن السيِّئة:
البلاءُ، والحسنة، العافية، قاله السدي.
قوله تعالى: لَوْلا أي: هلاَّ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ من الشِّرك لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فلا تعذَّبون. قالُوا اطَّيَّرْنا قال ابن قتيبة: المعنى: تَطَيَّرنا وتشاءَمْنا بِكَ، فأُدغمت التاء في الطاء، وأثبتت الألف، ليسلم
__________
(1) هو جزء من عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي وهو في «ديوان الهذليين» 1/ 136 وتمامه:
على طرق كنحور الركاب ... تحسب أعلامهن الصروحا
(2) الأعراف: 75- 80.(3/365)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
السكونُ لِمَا بعدها. وقال الزجاج: الأصل: تطيَّرنا، فأُدغمت التاء في الطاء، واجتُلبت الألفُ لسكون الطاء فاذا ابتدأتَ قلتَ: اطَّيَّرنا، وإِذا وصلتَ لم تذكر الألف وتسقط لأنها ألِف وصل، وإِنما تطيَّروا به، لأنهم قحطوا وجاعوا، ف قالَ لهم طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وقد شرحنا هذا المعنى في الأعراف.
وفي قوله تعالى: تُفْتَنُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: تُختَبرون بالخير والشر، قاله ابن عباس. والثاني:
تُصرَفون عن دينكم، قاله الحسن. والثالث: تُبتلَوْن بالطاعة والمعصية، قاله قتادة.
[سورة النمل (27) : الآيات 48 الى 53]
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
قوله تعالى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ وهي الحِجْر التي نزلها صالح تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يريد: في أرض الحِجْر، وفسادهم: كفرهم ومعاصيهم، وكانوا يسفكون الدِّماء ويَثِبون على الأموال والفروج، وهم الذين عملوا في قتل الناقة. وروي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح قالا: كان فسادهم كسر الدراهم والدنانير، قالُوا فيما بينهم تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أي: احلفوا بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ أي:
لنقتُلنَّ صالحاً (وأهلَه) ليلاً (ثم لَنَقولَنَّ) وقرأ حمزة، والكسائي: «لتُبَيِّتُنَّهُ وأهلَه ثم لَتَقولُنَّ» بالتاء فيهما.
وقرأ مجاهد، وأبو رجاء، وحميد بن قيس: «لَيُبَيِّتُنَّهُ» بياء وتاء مرفوعتين «ثم لَيَقُولُنَّ» بياء مفتوحة وقاف مرفوعة وواو ساكنة ولام مرفوعة لِوَلِيِّهِ أي: لوليِّ دمه إِنْ سألَنا عنه ما شَهِدْنا أي: ما حضرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام والمَهْلِك يجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإِهلاك، ويجوز أن يكون الموضع. وروى ابو بكر، وأبان عن عاصم: بفتح الميم واللام، يريد الهلاك يقال: هَلَكَ يَهْلِكُ مَهْلَكاً. وروى عنه حفص، والمفضل: بفتح الميم وكسر اللام، وهو اسم المكان، على معنى: ما شهدنا موضع هلاكهم فهذا كان مكرهم، فجازاهم الله عليه فأهلكهم. وفي صفة إِهلاكهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم أتَوا دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتْهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم، قاله ابن عباس. والثاني: رماهم الله بصخرة فقتلتهم، قاله قتادة. والثالث: أنهم دخلوا غاراً ينتظرون مجيء صالح، فبعث الله صخرة سدَّت باب الغار، قاله ابن زيد. والرابع: أنهم نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضاً ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «أنَّا دمَّرناهم» بفتح الألف. وقرأ الباقون بكسرها. فمن كسر استأنف، ومن فتح، فقال أبو علي: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون بدلاً من عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ. والثاني: أن يكون محمولاً على مبتدإٍ مضمر، كأنه قال: هو أنَّا دمَّرناهم.
قوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً قال الزجاج: هي منصوبة على الحال المعنى: فانظر إلى بيوتهم خاوية.
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)(3/366)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فيه قولان: أحدهما: وأنتم تعلمون أنَّها فاحشة. والثاني: بعضكم يُبْصِر بعضاً. قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ قال ابن عباس: تجهلون القيامة وعاقبة العِصيان. قوله تعالى: قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي: جعلناها بتقديرنا وقضائنا عليها من الباقين في العذاب. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «قَدَرْنَاهَا» خفيفة، وهي في معنى المشدَّدة. وباقي القصة قد تقدّم تفسيره.
[سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 61]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)
قوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أُمِرَ أن يَحْمَد اللهَ على هلاك الأمم الكافرة، وقيل: على جميع نِعَمه، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فيهم أربعة أقوال:
أحدها: الرسل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه عكرمة، قال: اصطفى إِبراهيم بالخُلَّة، وموسى بالكلام، ومحمداً بالرؤية. والثاني: أنهم أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلّم، رواه أبو مالك عن ابن عباس، وبه قال السدي. والثالث: أنهم الذين وحَّدوه وآمنوا به، رواه عطاء عن ابن عباس. والرابع:
أنه أمة محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ قال أبو عبيدة: مجازه: أو ما تشركون، وهذا خطاب للمشركين والمعنى: آلله خير لمن عبده، أم الأصنام لعابديها؟! ومعنى الكلام: أنه لمَّا قصَّ عليهم قصص الأمم الخالية، أخبرهم أنَّه نجَّى عابديه، ولم تُغْنِ الأصنام عنهم. قوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ تقديره: أمّا يشركون خير، أمّن خلق السّموات وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ فأمَّا الحدائق، فقال ابن قتيبة: هي البساتين، واحدها: حديقة، سميت بذلك لأنه يُحْدَقُ عليها، أي: يُحْظَر، والبهجة: الحُسن.
قوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي: ما ينبغي لكم ذلك لأنكم لا تقدرون عليه. ثم قال مستفهماً مُنْكِراً عليهم: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي: ليس معه إِله بَلْ هُمْ يعني: كفار مكة قَوْمٌ يَعْدِلُونَ وقد شرحناه في فاتحة (الأنعام) . أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي: مُسْتَقَرّاً لا تَمِيد بأهلها وَجَعَلَ خِلالَها أي: فيما بينها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أي: جبالاً ثوابتَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أي: مانعاً من قدرته بين العذْب والمِلْح ان يختلطا، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قدر عظمة الله عزّ وجلّ.(3/367)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
[سورة النمل (27) : الآيات 62 الى 75]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)
قوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ وهو: المكروب المجهود وَيَكْشِفُ السُّوءَ يعني الضُّرَّ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي: يهلك قرنا وينشئ آخرين، وتَذَكَّرُونَ بمعنى تتَّعظون. وقرأها أبو عمرو بالياء، والباقون بالتاء أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ أي: يُرشدكم إِلى مقاصدكم إِذا سافرتم فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وقد بيَّنَّاها في الأنعام «1» وشرحنا ما يليها من الكلمات فيما مضى «2» إِلى قوله: وَما يَشْعُرُونَ يعني مَنْ في السموات والأرض أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي: متى يُبْعَثون بعد موتهم.
قوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «بل أَدْرَكَ» قال مجاهد:
«بل» بمعنى «أم» والمعنى: لم يُدْرِكْ عِلْمُهم، وقال الفراء: المعنى: هل أَدرك عِلْمُهم عِلْم الآخرة؟
فعلى هذا يكون المعنى: إِنهم لا يقفون في الدنيا على حقيقة العِلْم بالآخرة. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «بل ادّارَكَ» على معنى: بل تدارك، أي: تتابع وتلاحق، فأُدغمت التاء في الدال. ثم في معناها قولان: أحدهما: بل تكامل عِلْمهم يوم القيامة لأنهم مبعوثون، قاله الزجاج:
وقال ابن عباس: ما جهلوه في الدُّنيا، عَلِموه في الآخرة. والثاني: بل تدارك ظَنُّهم وحَدْسهم في الحكم على الآخرة، فتارة يقولون: إِنها كائنة، وتارة يقولون: لا تكون، قاله ابن قتيبة. وروى أبو بكر عن عاصم: «بل ادّرَكَ» على وزن افتعل من أدركت. قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي: بل هم اليوم في شك من القيامة بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ قال ابن قتيبة: أي: من عِلْمِها. وما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إِلى قوله: مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون: العذاب الذي تَعِدنا. قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ قال ابن عباس:
قَرُب لكم. وقال ابن قتيبة: تَبِعَكم، واللام زائدة، كأنه قال: رَدِفَكم. وفي ما تبعهم مِمَّا استعجلوه قولان:
أحدهما: يوم بدر. والثاني: عذاب القبر.
قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ قال مقاتل: على أهل مكة حين لا يعجّل عليهم
__________
(1) الأنعام: 63، 97.
(2) الأعراف: 57، يونس: 4.
(3) النحل: 127، المؤمنون: 35، 82.(3/368)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
العذاب. قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي: ما تُخفيه وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم من عداوتك وخلافك والمعنى أنه يجازيهم عليه. وَما مِنْ غائِبَةٍ أي: وما من جملة غائبة، إِلَّا فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ والمعنى: إِنَّ عِلْم ما يستعجلونه من العذاب بَيِّنٌ عند الله وإِن غاب عن الخَلْق.
[سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 82]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه، فلو أخذوا به لسلموا. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يعني بين بني إِسرائيل بِحُكْمِهِ وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري:
«بِحِكَمِه» بكسر الحاء وفتح الكاف.
قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى قال المفسرُون: هذا مَثَلٌ ضربه الله للكفار فشبَّههم بالموتى.
قوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ وقرأ ابن كثير: «ولا يَسْمَعُ الصُّمُّ» بفتح ميم «يَسْمَعُ» وضم ميم «الصُّمُّ» . قوله تعالى: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أي: أن الصّمّ إذا أدبروا عنك ثم ناديتهم ولم يسمعوا، فكذلك الكافر. وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ أي: ما أنت بمرشِد من أعماه الله عن الهدى، إِنْ تُسْمِعُ سماع إِفهام إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا.
قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ «وقع» بمعنى وجب، وفي المراد بالقول ثلاثة أقوال: أحدها: العذاب، قاله ابن عباس. والثاني: الغضب، قاله قتادة. والثالث: الحُجَّة، قاله ابن قتيبة. ومتى ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: إِِذا لم يأمروا بمعروف، ولم ينهَوا عن منكر، قاله ابن عمر، وأبو سعيد الخدري. والثاني: إِذا لم يُرج صلاحُهم، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وهو معنى قول أبي العالية. والإِشارة بقوله: عَلَيْهِمْ إِلى الكفار الذين تخرج الدابَّة عليهم. وللمفسرين في صفة الدابَّة أربعة أقوال:
(1068) أحدها: أنها ذات وبر وريش، رواه حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم. وقال ابن عباس:
ذات زغب وريش لها أربع قوائم.
والثاني: أنّ رأسها ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن إِيَّل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرٍّ وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مَفصِلين اثنا عشر ذراعاً، رواه ابن جريج عن أبي الزّبير.
__________
هو الحديث الآتي.(3/369)
والثالث: أن وجهها وجه رجل، وسائر خَلْقها كخَلْق الطَّير، قاله وهب.
والرابع: أن لها أربع قوائم وزغباً وريشاً وجناحين، قاله مقاتل.
وفي المكان الذي تخرج منه خمسة أقوال: أحدها: من الصفا.
(1069) روى حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون، تضطرب الأرض تحتهم، وينشقُّ الصَّفا مِمَّا يلي المسعى، وتخرج الدابَّة من الصَّفا، أول ما يبدو منها رأسها، ملمَّعةٌ ذاتُ وَبَر وريش، لن يدركها طالب، ولن يفوتها هارب» .
(1070) وفي حديث آخر عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «طولها ستون ذراعاً» ، وكذلك قال ابن مسعود:
تخرج من الصفا.
(1071) وقال ابن عمر: تخرج من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها.
وقال عبد الله بن عمر: تخرج الدابَّة فيَمَسُّ رأسها السحاب ورِجلاها في الأرض ما خرجتا.
(1072) والثاني: أنها تخرج من شِعْب أجياد، روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وعن ابن عمر مثله.
والثالث: تخرج من بعض أودية تهامة، قاله ابن عباس. والرابع: من بحر سَدوم، قاله وهب بن منبّه. والخامس: أنها تخرج بتهامة بين الصًَّفا والمروة، حكاه الزجّاج.
(1073) وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «تخرج الدابَّة معها خاتم سليمان، وعصا موسى، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إِن أهل البيت ليجتمعون، فيقول
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 27100 من حديث حذيفة بن اليمان، وإسناده ضعيف لضعف روّاد بن الجراح.
وقال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 464 عن هذا الحديث: لا يصح. وورد من حديث أبي طفيل عن أبي سريحة أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» ص 401 والطيالسي 1069 والحاكم 4/ 484 ح 8490 وإسناده ضعيف لضعف طلحة بن عمرو الحضرمي كما قال الذهبي متعقبا للحاكم في تصحيحه للحديث.
عزاه الحافظ في «تخريجه» 3/ 384 للثعلبي من حديث حذيفة اه. ولم يبين إسناده، وتفرّد الثعلبي به دليل على وهنه، وهذا بالنسبة لصدر الحديث (أن طولها ستون ذراعا) وأما باقي لفظ حديث حذيفة فهو المتقدم.
وانظر تفاصيل ذلك في «الفتن» لنعيم بن حماد ص 401 و «الدر» 5/ 217- 220 وابن كثير 3/ 387 و «المستدرك» 4/ 484- 486. وانظر «تفسير القرطبي» 13/ 211 بتخريجنا.
موقوف ضعيف. أخرجه الطبري 27094 من حديث ابن عمر، وإسناده ضعيف لضعف عطية بن سعد العوفي. وأخرجه نعيم بن حماد ص 403 من طريق فضيل بن مرزوق به لكن عن ابن عمرو، وهو أشبه فإن هذا الأثر متلقى عن أهل الكتاب، وابن عمر ما روى عن أهل الكتاب بخلاف ابن عمرو، والله أعلم.
ضعيف. مداره على رباح بن عبيد الله، وهو منكر الحديث. أخرجه ابن عدي 3/ 73 و 7/ 112 والواحدي في «الوسيط» 3/ 385 والذهبي في «الميزان» 2/ 37/ 2723 من طرق عن هشام بن يوسف عن رباح بن عبيد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.
أخرجه الترمذي 3187 وابن ماجة 4066 وأحمد 2/ 295 والطبري 27101 والحاكم 4/ 485 ونعيم بن حماد في «الفتن» ص 403 والحاكم 4/ 485 من طرق عن حماد بن سلمة به، سكت عليه الحاكم! وكذا الذهبي! وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، فقد ضعفه غير واحد، روى مناكير كثيرة، وهذا منها.
- وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 485 من طريق حماد بن سلمة بهذا الإسناد موقوفا على أبي هريرة. وهو أصح من المرفوع، والله أعلم.(3/370)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر» .
(1074) وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «تَسِم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه: مؤمن، وتَسِم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه: كافر، وتصرخ ثلاث صرخات يسمعُها مَنْ بين الخافِقَين» . وقال حُذيفة بن أسِيد: إِن للدابه ثلاث خرجات: خرجة في بعض البوادي ثم تنكتم، وخرجة في بعض القرى ثم تنكتم، فبينما الناس عند أشرف المساجد- يعني المسجد الحرام- إِذ ارتفعت الأرض، فانطلق الناس هِراباً، فلا يفوتونها، حتى إِنَّها لتأتي الرجل وهو يصلِّي، فتقول: أتتعوَّذ بالصلاة، والله ما كنت مِنْ أهل الصَّلاة، فتَخْطِمُه، وتجلو وجه المؤمن. وقال عبد الله بن عمرو: إِنها تَنْكُتُ في وجه الكافر نُكْتَةً سوداء فتفشو في وجهه فيسودُّ وجهُه، وتَنْكُتُ في وجه المؤمن نُكْتَةً بيضاء فتفشو في وجهه حتَّى يبيضَّ وجهه، فيعرف الناس المؤمن والكافر، ولَكَأنِّي بها قد خرجت في عقب ركب من الحاج.
قوله تعالى: تُكَلِّمُهُمْ قرأ الأكثرون بتشديد اللام، فهو من الكلام. وفيما تكلِّمهم به ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تقول لهم: إِنَّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، قاله قتادة. والثاني: تكلِّمهم ببطلان الأديان سوى دين الاسلام، قاله السدي. والثالث: تقول: هذا مؤمن، وهذا كافر، حكاه الماوردي.
وقرأ ابن أبي عبلة، والجحدري: بتسكين الكاف وكسر اللام وفتح التاء فهو من الكَلْم قال ثعلب:
والمعنى: تجرحهم. وسئل ابن عباس عن القراءتين، فقال: كل ذلك والله تفعله تُكلِّم المؤمن، وتَكْلِم الفاجر والكافر، أي: تجرحه.
قوله تعالى: أَنَّ النَّاسَ قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة، وكسرها الباقون فمن فتح أراد: تكلِّمهم بأن الناس، وهكذا قرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني: «تكلِّمهم بأنَّ الناس» بزيادة باء مع فتح الهمزة ومن كسر فلأنّ معنى «تكلِّمهم» تقول لهم: إِن الناس، والكلام قول.
[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 86]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً الفوج: الجماعة من الناس كالزُّمرة، والمراد به:
الرّؤساء والمتبوعين في الكفر، حُشروا وأُقيمت الحجة عليهم. وقد سبق معنى يُوزَعُونَ «1» حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف لحساب قالَ الله تعالى لهم: أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي هذا استفهام إِنكار عليهم ووعيد لهم وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً فيه قولان: أحدهما: لم تعرفوها حقَّ معرفتها. والثاني: لم تُحيطوا عِلْماً ببطلانها. والمعنى: إنكم لم تتفكّروا في صحّتها، أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا فيما أمرتُكم به ونهيتُكم عنه؟! قوله تعالى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ قد شرحناه آنفا «2» بِما ظَلَمُوا أي: بما أشركوا
__________
صدره تقدم برقم 1069، وهو حديث حذيفة، واختصره المصنف.
- وقوله «تصرخ ثلاث ... » هو من حديث أبي هريرة، وتقدم تخريجه برقم 1072.
__________
(1) النمل: 17. [.....]
(2) النمل: 82.(3/371)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ بحجة عن أنفسهم. ثُم احتج عليهم بالآية التي تلي هذه. ومعنى قوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً يبصر فيه لابتغاء الرّزق.
[سورة النمل (27) : الآيات 87 الى 90]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قال ابن عباس: هذه النفخة الأولى.
قوله تعالى: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ قال المفسرون: المعنى: فيفزع من في السّموات ومن في الارض، والمراد أنهم ماتوا، بلغ بهم الفزغ إلى الموت.
وفي قوله تعالى: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الشهداء، قاله أبو هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: جبريل وميكائيل وإِسرافيل ومَلَك الموت، ثم إِن الله تعالى يميتهم بعد ذلك، قاله مقاتل. والثالث: أنهم الذين في الجنة من الحور وغيرهن، وكذلك مَن في النار، لأنهم خُلقوا للبقاء، ذكره أبو إسحاق بن شاقلا من أصحابنا. قوله تعالى: وَكُلٌّ أي: من الأحياء الذين ماتوا ثم أُحيوا «آتُوه» وقرأ حمزة وحفص عن عاصم: «أَتَوْهُ» بفتح التاء مقصورة، أي: يأتون الله يوم القيامة داخِرِينَ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: صاغرين. قال أبو عبيدة: «كُلٌّ» لفظه لفظ الواحد، ومعناه يقع على الجميع، فهذه الآية في موضع جمع.
قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ قال ابن قتيبة: هذا يكون إِذا نُفخ في الصُّور، تُجمَع الجبالُ وتُسَيَّر فهي لكثرتها تُحسب جامِدَةً أي: واقفة وَهِيَ تَمُرُّ أي: تسير سير السحاب، وكذلك كلُّ جيش عظيم يحسبه الناظر من بعيد واقفاً وهو يسير، لكثرته، قال الجَعْدِيّ يصف جيشاً:
بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهُمْ ... وُقُوفٌ لِحَاجٍ والرِّكاب تُهَمْلِجُ «1»
قوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ قال الزجاج: هو منصوب على المصدر، لأن قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً دليل على الصنعة، فكأنه قال: صنع الله ذلك صنعاً، ويجوز الرفع على معنى: ذلك صُنْع الله. فأما الإِتقان، فهو في اللغة: إِحكام الشيءِ.
قوله تعالى: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «يفعلون» بالياء.
وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي بالتاء.
قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قد شرحنا الحسنة والسيّئة في آخر الأنعام «2» . وفي قوله تعالى:
فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قولان: أحدهما: فله خير منها يصل إِليه، وهو الثواب، قاله ابن عباس والحسن
__________
(1) الرّعن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدما، ويقال: الجيش الأرعن: هو المضطرب لكثرته. والطود: الجبل العظيم. والحاج: جمع حاجة. والهملجة والهملاج: حسن سير الدابة في سرعة.
(2) الأنعام: 160.(3/372)
وعكرمة. والثاني: فله أفضل منها، لأنه يأتي بحسنة فيعطى عشر أمثالها، قاله زيد بن أسلم.
قوله تعالى: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «مِنْ فَزَعِ يَوْمِئِذٍ» مضافاً.
وقرأ عاصم. وحمزة، والكسائي: «مِنْ فَزَعٍ» بالتنوين «يومَئذٍ» بفتح الميم. وقال الفراء: الإِضافة أعجب إِليَّ في العربية، لأنه فزع معلوم، ألا ترى إِلى قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «1» . فصيَّره معرِفة، فاذا أضفت مكان المعرفة كان أحبَّ إِليَّ، واختار أبو عبيدة قراءة التنوين وقال: هي أعمُّ التأويلين، فيكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم. قال أبو علي الفارسي: إِذا نوّن جاز أن يُعنى به فزع واحد، وجاز أن يعنى به الكثرة، لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة وإِن كانت مفردة الألفاظ، كقوله: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «2» ، وكذلك إِذا أضيف جاز أن يُعنى به فزع واحد، وجاز أن يعنى به الكثرة وعلى هذا القول، القراءتان سواء، فان أريد به الكثرة، فهو شامل لكل فزع يكون في القيامة، وإِن أريد به الواحد، فهو المشار إليه بقوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ. وقال ابن السائب: إِذا أطبقت النَّارُ على أهلها فَزِعوا فَزْعَةً لم يفزعوا مثلها، وأهل الجَنَّة آمنون من ذلك الفزع. قوله تعالى: ما قال في الدنيا، قاله الحسن. قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «تعملون» بالتاء، على معنى: قل لهم. وقرأ الباقون بالياء، على أنه وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم. والله أعلم بالصّواب.
__________
(1) الأنبياء: 103.
(2) لقمان: 19.(3/373)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
سورة القصص
وهي مكّيّة كلّها غير آية منها، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «1» فإنها نزلت عليه وهو بالجحفة في وقت خروجه للهجرة، هذا قول ابن عباس. وروي عن الحسن، وعطاء، وعكرمة: أنها مكّيّة كلّها. وزعم مقاتل: أنّ فيها من المدنيّ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) إلى قوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «2» وفيها آية ليست بمكّيّة ولا مدنيّة وهي قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ نزلت بالجحفة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)
قوله تعالى: طسم قد سبق تفسيره «3» . قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي: طغى وتجبَّر في أرض مصر وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي: فِرَقاً وأصنافاً في خدمته يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إِسرائيل، واستضعافه إِيّاهم: استعبادُهم، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بالقتل والعمل بالمعاصي.
يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وقرأ أبو رزين، والزهري، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: «يَذْبَحُ» بفتح الياء وسكون الذال خفيفة. قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي: نُنْعِم عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم بنو إِسرائيل، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً يُقتدى بهم في الخير وقال قتادة: وُلاةً وملوكاً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لمُلك فرعون بعد غَرَقه. قوله تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ويَرِى» بياء مفتوحة وإِمالة الألف التي بعد الراء «فرعونُ وهامانُ وجنودُهما» بالرفع. ومعنى الآية: أنهم أُخبِروا أن هلاكهم على يَدَي رجل من بني إِسرائيل، فكانوا على وَجَل منهم، فأراهم اللهُ ما كانوا يَحْذَرون.
__________
(1) القصص: 85.
(2) القصص: 55.
(3) مضى الكلام على ذلك في أول سورة البقرة.(3/374)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
[سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 9]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)
قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه إِلهام، قاله ابن عباس.
والثاني: أنَّ جبريل أتاها بذلك، قاله مقاتل. والثالث: أنَّه كان رؤيا منام، حكاه الماوردي. قال مقاتل:
واسم أم موسى «يوخابذ» «1» . قوله تعالى: أَنْ أَرْضِعِيهِ قال المفسرون: كانت امرأةٌ من القوابل مصافية لأم موسى، فلمَّا وضعتْه تولَّت أمرها ثم خرجت فرآها بعض العيون فجاؤوا ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته: يا أُمَّاه هذا الحرس بالباب، فلفَّت موسى في خرقة ووضعته في التَّنُّور وهو يسجر، فدخلوا ثم خرجوا، فقالت لأخته: أين الصبيُّ، قالت: لا أدري، فسمعت بكاءه من التَّنُّور فاطَّلعت وقد جعل الله عليه النَّارَ بَرْداً وسلاماً، فأرضعته بعد ولادته ثلاثة أشهر، وقيل: أربعة أشهر، فلمَّا خافت عليه صنعت له التابوت «2» . وفي قوله: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ قولان «3» : أحدهما: إِذا خِفْتِ عليه القتل، قاله مقاتل. والثاني: إِذا خِفْتِ عليه أن يصيح أو يبكي فيُسمع صوتُه، قاله ابن السائب. وفي قوله تعالى:
وَلا تَخافِي قولان: أحدهما: أن يغرق، قاله ابن السائب. والثاني: أن يضيع، قاله مقاتل. قال الأصمعي: قلت لأعرابية: ما أفصحكِ! فقالت: أوَ بعد هذه الآية فصاحة وهي قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ جمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟! قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الالتقاط: إِصابة الشيء من غير طلب. والمراد بآل فرعون:
الذين تولَّوا أخذ التابوت من البحر. وفي الذين التقطوه ثلاثة أقوال: أحدها: جواري امرأة فرعون، قاله السدي. والثاني: ابنة فرعون، قاله محمد بن قيس. والثالث: أعوان فرعون، قاله ابن إِسحاق. قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا أي: ليصير بهم الأمر إِلى ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، وهذه اللام تسمى لام العاقبة، وقد شرحناها في يونس «4» ، وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: ليكون لهم عَدُوّاً في دينهم وحَزَناً لِمَا يصنعه بهم. والثاني: عدوّاً لرجالهم وحَزَنَاً على نسائهم، فقتل الرجال بالغرق، واستعبد النساء. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ وهي آسية بنت مزاحم، وكانت من بني إسرائيل تزوّجها فرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ قال الزجاج: رفع «قُرَّةُ عَيْنٍ» على إِضمار «هو» . قال المفسرون: كان فرعون لا
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو غير حجة.
(2) هذه الأقوال مصدرها كتب الأقدمين.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 30: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: إن الله تعالى ذكره أمر أم موسى أن ترضعه، فإذا خافت عليه من عدو الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليم وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادتها إياه. واليم الذي أمرت أن تلقيه فيه هو النيل.
(4) يونس: 88.(3/375)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
يولد له إِلا البنات، فقالت: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فنُصيب منه خيراً أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يشعرون أنه عدو لهم، قاله مجاهد. والثاني: أنَّ هلاكهم على يديه، قاله قتادة. والثالث: لا يشعر بنو إِسرائيل أنَّا التقطناه، قاله محمّد بن قيس. والرابع: لا يشعرون أنِّي أفعل ما أريد لا ما يريدون، قاله محمّد بن إسحاق.
[سورة القصص (28) : الآيات 10 الى 13]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)
قوله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً فيه أربعة أقوال: أحدها: فارغاً من كل شيء إِلا من ذِكْر موسى، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك.
والثاني: أصبح فؤادها فَزِعاً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهي قراءة أبي رزين، وأبي العالية، والضحاك، وقتادة، وعاصم الجحدري، فإنهم قرءوا: «فَزِعاً» بزاي معجمة. والثالث: فارغاً من وحينا بنسيانه، قاله الحسن، وابن زيد. والرابع: فارغاً من الحزن، لِعِلْمها أنَّه لم يُقتَل، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: وهذا من أعجب التفسير، كيف يكون كذلك واللهُ يقول: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها؟! وهل يُرْبَطُ إِلاّ على قلب الجازع المحزون؟! قوله تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ في هذه الهاء قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى موسى.
ومتى أرادت هذا؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حين فارقتْه روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كادت تقول: يا بُنَيَّاه. قال قتادة: وذلك من شدة وجدها. والثاني: حين حملت لرضاعه كادت تقول: هو ابني، قاله السدي. والثالث: أنَّه لمَّا كَبِر وسَمِعَت الناسَ يقولون: موسى بن فرعون، كادت تقول: لا بل هو ابني، قاله ابن السائب. والقول الثاني: أنها ترجع إِلى الوحي والمعنى: إِنْ كادت لتُبْدي بالوحي، حكاه ابن جرير.
قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها قال الزجاج: المعنى: لولا ربطنا على قلبها، والرَّبْط:
إِلهام الصبر وتشديد القلب وتقويته. قوله تعالى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي: من المُصَدِّقِين بوعد الله.
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ قال ابن عباس: قُصّي أثره واطلُبيه هل تسمعين له ذِكْراً، أي: أحيٌّ هو، أو قد أكلته الدوابّ؟ ونسيتْ الذي وعدها الله فيه. وقال وهب: إِنَّما قالت لأخته: قصِّيه، لأنَّها سمعتْ أنَّ فرعون قد أصاب صبيّاً في تابوت. قال مقاتل: واسم أخته: مريم. قال ابن قتيبة: ومعنى «قُصِّيه» : قُصَِّي أَثَرَه واتبعيه فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي: عن بُعْدٍ منها عنه وإِعراضٍ، لئلاَّ يفطنوا، والمجانبة من هذا. وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو مجلز: «عَنْ جَنَابٍ» بفتح الجيم والنون وبألف بعدهما. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «عَنْ جَانِبٍ» بفتح الجيم وكسر النون وبينهما ألف. وقرأ قتادة، وأبو العالية، وعاصم الجحدري:
«عَنْ جَنْبٍ» بفتح الجيم وإِسكان النون من غير ألف. قوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه قولان: أحدهما:
وهم لا يشعرون أنه عدو لهم، قاله مجاهد. والثاني: لا يشعُرون أنَّها أختُه، قاله السدي.(3/376)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
قوله تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ وهي جمع مُرْضِع مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قَبْل أنْ نَرُدَّه على أُمِّه، وهذا تحريم منع، لا تحريم شرع. قال المفسرون: بقي ثمانية أيام ولياليهن، كلَّما أُتي بمُرْضِع لم يَقْبل ثديها، فأهمَّهم ذلك واشتدَّ عليهم فَقالَتْ لهم أخته: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ فقالوا لها: نعم، مَنْ تلك؟ فقالت: أُمي، قالوا: وهل لها لبن؟ قالت: لبن هارون. فلمَّا جاءت قَبِل ثديها. وقيل: إِنَّها لمَّا قالت: وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ قالوا: لعلَّكِ تعرفين أهله، قالت: لا، ولكني إِنما قلت: وهم للملِكِ ناصحون.
قوله تعالى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ قد شرحناه في طه «1» .
قوله تعالى: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بردِّ ولدها حَقٌّ وهذا عِلْم عِيان ومشاهدة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أنّ الله وعدها أن يردّه إليها.
[سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 17]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قد فسرنا هذه الآية في سورة يوسف «2» ، وكلامُ المفسرين في لفظ الآيتين متقارب، إِلا أنهم فرَّقوا بين بلوغ الأشدّ وبين الاستواء. فأما بلوغ الأشُدِّ فقد سلف بيانه في سورة الانعام «3» . وفي مدة الاستواء لهم قولان: أحدهما: أنه أربعون سنة، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: ستون سنة، ذكره ابن جرير. قال المفسرون: مكث عند أمِّه حتى فطمته، ثم ردَّته إِليهم، فنشأ في حِجْر فرعون وامرأته واتخذاه ولداً.
قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فيها قولان: أحدهما: أنها مصر. والثاني: مدينة بالقرب من مصر.
قال السدي: ركب فرعون يوماً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى ركب في إِثره فأدركه المَقِيل في تلك المدينة. وقال غيره: لمَّا توهَّم فرعون في موسى أنَّه عدوُّه أمر باخراجه من مدينته، فلم يدخل إِلا بعد أن كَبِر، فدخلها يوماً عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها. وفي ذلك الوقت أربعة أقوال: أحدها: أنَّه كان يوم عيد لهم، وكانوا قد اشتغلوا فيه بلهوهم، قاله عليٌّ عليه السلام. والثاني: أنه دخل نصف النهار، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثالث: بين المغرب والعشاء، قاله وهب بن منبِّه. والرابع: أنَّهم لمَّا أخرجوه لم يدخل عليهم حتى كَبِر، فدخل على حين غفلة عن ذِكْره، لأنَّه قد نُسي أمرُه، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي: من أصحابه من بني إِسرائيل وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أي: من أعدائه من القِبط، والعدوّ يُذْكَر للواحد وللجمع. قال الزجاج: وإِنما قيل في الغائب: «هذا» و «هذا» ،
__________
(1) طه: 40.
(2) يوسف: 22. [.....]
(3) الأنعام: 152.(3/377)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
على جهة الحكاية للحضرة والمعنى: أنه إِذا نظر إِليهما الناظر قال: هذا مِنْ شِيعته، وهذا من عدوّه.
قال المفسّرون: وكان القبطيّ قد سخّر الإسرائيليّ ليحمل حطباً إِلى مطبخ فرعون فَاسْتَغاثَهُ أي:
فاستنصره، فَوَكَزَهُ قال الزّجّاج: الوكز: أن يضربه بجمع كفِّه. وقال ابن قتيبة: «فوكزه» أي: لَكَزَهُ، يقال: وَكَزْتُه ولَكَزْتُه ولَهَزْتُه: إِذا دفَعْته، فَقَضى عَلَيْهِ أي: قتله وكلُّ شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه. وللمفسرين فيما وكزه به قولان: أحدهما: كفّه، قاله مجاهد. والثاني: عصاه، قاله قتادة. فلمَّا مات القِبطي ندم موسى لأنه لم يرد قتله، وقالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي: هو الذي هيَّج غضبي حتى ضربتُ هذا، إِنَّهُ عَدُوٌّ لابن آدم مُضِلٌّ له مُبِينٌ عداوته. ثم استغفر ف قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أي: بقتل هذا، ولا ينبغي لنبيّ أن يقتُل حتى يُؤْمَر. قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بالمغفرة فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال ابن عباس: عوناً للكافرين. وهذا يدلُّ على أن الإِسرائيليَّ الذي أعانه موسى كان كافراً.
[سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 20]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
قوله تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ وهي التي قتل بها القِبطيَّ خائِفاً على نفسه يَتَرَقَّبُ أي:
ينتظر سوءاً يناله منهم ويخاف أن يُقتل به فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ وهو الاسرائيلي يَسْتَصْرِخُهُ أي:
يستغيث به على قِبطي آخر أراد أن يسخِّره أيضاً قالَ لَهُ مُوسى في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القبطيّ. الثاني: إِلى الإِسرائيليّ، وهو أصح. فعلى الأول يكون المعنى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ بتسخيرك وظلمك. وعلى الثاني فيه قولان: أحدهما: أن يكون الغَوِيُّ بمعنى المغوي، كالأليم بمعنى المؤلم والوجيع بمعنى الموجع والمعنى: إِنَّكَ لمُضِلٌّ حين قتلتُ بالأمس رجلاً بسببك، وتَدْعوني اليوم إِلى آخر. والثاني: أن يكون الغوي بمعنى الغاوي والمعنى: إِنك غاوٍ في قتالك من لا تُطيق دفع شرِّه عنك.
قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أي: بالقِبطي قالَ يا مُوسى هذا قول الإِسرائيليّ من غير خلاف علمناه بين المفسرين قالوا: لمَّا رأى الاسرائيليُّ غضبَ موسى عليه حين قال له: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِين» ورآه قد همَّ أن يَبْطِش بالفرعونيِّ، ظنَّ أنَّه يريده فخاف على نفسه ف قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي وكان قوم فرعون لم يعلموا مَنْ قاتِلُ القِبطي، إِلاَّ أنَّهم أَتَواْ إِلى فرعون فقالوا: إِن بني إِسرائيل قتلوا رجلاً مِنَّا فخُذ لَنَا بحقِّنا، فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه لآخذ لكم حقَّكم، فبينا هم يطوفون ولا يدرون مَنْ القاتل، وقعت هذه الخصومة بين الإِسرائيلي والقِبطي في اليوم الثاني فلمّا قال الإِسرائيليُّ لموسى: «أتريد أن تقتُلني كما قَتَلْتَ نفساً بالأمس» انطلق القبطي إِلى فرعون فأخبره أنَّ موسى هو الذي قتل الرجل، فأمر بقتل موسى، فعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه فأخبره، فذلك قوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى. فأمَّا الجبَّار، فقال السدي: هو القتَّال، وقد شرحناه في(3/378)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
هود «1» ، وأقصى المدينة: آخرها وأبعدها، ويسعى، بمعنى يُسرع. قال ابن عباس: وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وسيأتي الخلاف في اسمه في سورة المؤمن «2» . فأمّا الملأ، فهم الوجوه من الناس والأشراف. وفي قوله: يَأْتَمِرُونَ بِكَ ثلاثة اقوال: أحدها: يتشاورون فيك ليقتلوك، قاله أبو عبيدة.
والثاني: يَهُمُّون بك، قاله ابن قتيبة. والثالث: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك، قاله الزّجّاج.
[سورة القصص (28) : الآيات 21 الى 28]
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
قوله تعالى: فَخَرَجَ مِنْها أي: من مصر خائِفاً وقد مضى تفسيره «3» .
قوله تعالى: نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني المشركين أهل مصر. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قال ابن قتيبة: أي: تِجَاهَ مَدْيَن ونحوَها، وأصله: اللِّقاء، وزيدت فيه التاء، قال الشاعر:
فاليومَ قَصَّرَ عن تِلْقَائك الأَملُ «4» أي: عن لقائك. قال المفسرون: خرج خائفاً بغير زاد ولا ظَهْر، وكان بين مصر ومَدْيَن مسيرة ثمانية أيام، ولم يكن له بالطريق عِلْم، ف قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي: قَصْدَه. قال ابن عباس: لم يكن له عِلْم بالطريق إِلاَّ حُسْن ظنِّه بربّه. وقال السّدّيّ: بعث الله تعالى له مَلَكاً فدلَّه، قالوا:
ولم يكن له في طريقه طعام إِلا ورق الشجر، فورد ماءَ مَدْيَن وخُضرةُ البقل تتراءى في بطنه من الهُزَال والأُمَّة الجماعة، وهم الرعاة، يَسْقُونَ مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي: من سوى الأمّة امْرَأَتَيْنِ وهم ابنتا شعيب قال مقاتل: واسم الكبرى: صبورا، والصغرى: عبرا تَذُودانِ قال ابن قتيبة: أي: تكُفَّان غَنَمهما، فحذف الغنم اختصاراً. قال المفسرون: إنما فَعَلَتا ذلك ليَفْرُغ الناس وتخلوَ لهما البئر، قال موسى: ما خَطْبُكُما أي: ما شأنكما لا تسقيان؟! قالَتا لا نَسْقِي وقرأ ابن مسعود وأبو الجوزاء وابن يعمر وابن السميفع: «لا نُسقي» برفع النون حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وقرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر: «يَصْدُرَ» بفتح الياء وضم الدال، أي: حتى يرجع الرّعاء. وقرأ الباقون: «يصدر» بضمّ
__________
(1) هود: 59.
(2) غافر: 28.
(3) القصص: 18.
(4) هو عجز بيت للراعي النميري وصدره: أملت خيرك هل تأتي مواعده(3/379)
الياء وكسر الدال، أرادوا: حتى يَرُدَّ الرِّعاء غنمهم عن الماء. والرِّعاء: جمع راعٍ، كما يقال: صاحب وصِحاب. وقرأ عكرمة وسعيد بن جبير وابن يعمر وعاصم الجحدري: «الرُّعَاءُ» بضم الراء، والمعنى:
نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يَقْدِر أن يَسْقيَ ماشيته من الكِبَر فلذلك احْتَجْنَا نحن إِلى أن نسقيَ، وكان على تلك البئر صخرة عظيمة، فاذا فرغ الرِّعاء مِنْ سَقيهم أعادوا الصخرة، فتأتي المرأتان إِلى فضول حياض الرِّعاء فتَسْقيان غنمهما. فَسَقى موسى لَهُما.
وفي صفة ما صنع قولان: أحدهما: أنه ذهب إلى بئر أُخرى عليها صخرة لا يقتلعها إِلا جماعة من الناس، فاقتلعها وسقى لهما، قاله عمر بن الخطاب وشُريح. والثاني: أنه زاحم القوم على الماء وسقى لهما، قاله ابن إِسحاق، والمعنى: سقى غنمهما لأجلهما.
ثُمَّ تَوَلَّى أي: انصرف إِلَى الظِّلِّ وهو ظِل شجرة فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما اللام بمعنى إِلى، فتقديره: إِنِّي إِلى ما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وأراد بالخير: الطعام. وحكى ابن جرير أنه أسمع المرأتين هذا الكلام تعريضاً أن تُطْعِماه. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما المعنى: فلمّا شربتْ غنمَهُما رَجَعَتا إِلى أبيهما فأخبرتاه خبر موسى، فبعث إِحداهما تدعو موسى. وفيها قولان: أحدهما: الصغرى. والثاني:
الكبرى. فجاءته تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قد سترت وجهها بِكُمِّ دِرْعها. وفي سبب استحيائها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان من صفتها الحياء، فهي تمشي مشي من لم تعتد الخروج والدخول. والثاني:
لأنها دعته لتكافئَه، وكان الأجمل عندها أن تدعوَه من غير مكافأة. والثالث: لأنها رسول أبيها.
قوله تعالى: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا قال المفسرون: لمَّا سمع موسى هذا القول كرهه وأراد أن لا يتبعها، فلم يجد بُدّاً للجَهْد الذي به من اتِّباعها، فتَبِعها، فكانت الريح تضرب ثوبها فيصف بعض جسدها، فناداها: يا أَمَة الله، كوني خلفي ودُلِّيني الطريق فَلَمَّا جاءَهُ أي: جاء موسى شعيباً وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي: أخبره بأمره مِنْ حين وُلد والسبب الذي أخرجه من أرضه قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا سُلطان لفرعون بأرضنا ولسنا في مملكته. قالَتْ إِحْداهُما وهي الكبرى: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي: اتَّخِذه أجيراً إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي: خير من استعملتَ على عملكَ مَنْ قَوِيَ على عملك وأدَّى الأمانة وإِنَّما سمَّتْه قويّا، لرفعه الحجر على رأس البئر، وقيل: لأنه استقى بدلو لا يُقِلُّها إِلا العدد الكثير من الرجال، وسمَّته أميناً، لأنه امرها أن تمشيَ خلفه. وقال السدي: قال لها شعيب: قد رأيتِ قوَّته، فما يُدريكِ بأمانته؟ فحدَّثَتْه. قال المفسرون:
فرغب فيه شعيب، فقال له: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ أي: أزوّجك «1»
__________
(1) قال القرطبي في «التفسير» 13/ 272: استدل أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح، وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف منه. وقال علماؤنا في المشهور: ينعقد النكاح بكل لفظ. وقال أبو حنيفة. ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد.
- وقال الإمام الموفق في «المغني» 9/ 460: وينعقد النكاح بلفظ الإنكاح والتزويج والجواب عنهما إجماعا، وهما اللذان ورد بهما نص الكتاب في قوله تعالى: زَوَّجْناكَها وقوله سبحانه وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ولا ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج، وبهذا قال ابن المسيب وعطاء والزهري وربيعة والشافعي.
وقال الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأبو عبيد وداود: ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع والتمليك، وفي لفظ الإجارة روايتان عن أبي حنيفة، وقال مالك ينعقد بذلك إذا ذكر المهر اه ملخصا.(3/380)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ قال الفراء: تأجُرني وتأجِرني، بضم الجيم وكسرها، لغتان. قال الزجاج: والمعنى: تكون أجيراً لي ثماني سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي: فذلك تفضل منكَ، وليس بواجب عليك.
قوله تعالى: وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ أي: في العَشْر. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: في حُسْن الصُّحبة والوفاء بما قلت. قالَ له موسى ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي: ذلك الذي وصفتَ وشرطتَ عليَّ فلكَ، وما شرطتَ لي مِنْ تزويج إِحداهما فلي، فالأمر كذلك بيننا. وتمّ الكلام ها هنا. ثم قال: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ يعني: الثمانيَ والعشر. قال أبو عبيدة: «ما» زائدة. قوله تعالى:
قَضَيْتُ أي: أتممتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي: لا سبيل عَلَيَّ والمعنى: لا تعتد عليَّ بأن تُلْزِمني أكثر منه وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ قال الزجاج: أي: واللهُ شاهِدُنا على ما عقدَ بعضُنا على بعض. واختلف العلماء في هذا الرجل الذي استأجر موسى على أربعة أقوال «1» :
(1075) أحدها: أنه شُعيب نبيُّ الله صلى الله عليه وسلّم، وعلى هذا أكثر أهل التفسير. وفيه أثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم يدل عليه، وبه قال وهب، ومقاتل.
والثاني: أنه صاحب مدين، واسمه يثربي، قاله ابن عباس. والثالث: رجل من قوم شعيب، قاله الحسن. والرابع: أنه يثرون ابن أخي شعيب، رواه عمرو بن مرَّة عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وبه قال ابن السائب. واختلفوا في التي تزوَّجها موسى من الابنتين على قولين: أحدهما: الصغرى، روي عن ابن عباس. والثاني: الكبرى، قاله مقاتل. وفي اسم التي تزوجها ثلاثة أقوال: أحدها: صفوريا، حكاه أبو عمران الجوني. والثاني: صفورة، قاله شعيب الجبائي. الثالث: صبورا، قاله مقاتل.
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)
__________
واه. أخرجه البزار 2828 والطبراني 6364 من حديث سلمة بن سعد، وإسناده واه.
- قال الهيثمي في «المجمع» 10/ 51: فيه من لم أعرفهم.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 10/ 61: وهذا مما لا يدرك علمه إلا بخبر، ولا خبر بذلك تجب حجته، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جل ثناؤه وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ ... قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ. وقال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 476: ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه القران ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى، لم يصح إسنادها، والموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه يثرون.(3/381)
قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ.
(1076) روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه سئل: أيّ الأجلين قضى موسى، قال: «أوفاهما وأطيبهما» . قال مجاهد: مكث بعد قضاء الأجل عندهم عشراً أُخَر. وقال وهب بن منبِّه: أقام عندهم بعد أن أدخل عليه امرأته سنين، وقد سبق تفسير هذه الآية «1» إلى قوله تعالى: أَوْ جَذْوَةٍ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: «جِذْوَةٍ» بكسر الجيم. وقرأ عاصم بفتحها. وقرأ حمزة، وخلف، والوليد عن ابن عامر بضمها، وكلُّها لغات. قال ابن عباس: الجذوة: قطعة حطب فيها نار، وقال أبو عبيدة: قطعة غليظة من الحطب ليس فيها لَهب، وهي مثل الجِذْمَة من أصل الشجر، قال ابن مقبل:
باتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا ... جَزْلَ الجِذَا غيرَ خَوَّارٍ وَلا دَعِرِ «2»
والدّاعر: الذي قد نَخِر، ومنه رجل داعر. أي: فاسد.
قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ وهو: جانبه الأيمنِ وهو الذي عن يمين موسى
__________
حديث حسن أو يشبه الحسن. أخرجه الحاكم 2/ 408 ح 3531 من حديث ابن عباس، سكت عليه الحاكم، وضعفه الذهبي بقوله: حفص- ابن عمر العدني- واه.
وتوبع حفص، فقد أخرجه الحميدي 535 وأبو يعلى 2408 والبزار 2245 «كشف» والطبري 27409 والحاكم 2/ 407- 408 ح 3532 كلهم من حديث ابن عباس، «أن النبي صلى الله عليه وسلّم سأل جبريل: «أي الأجلين قضى موسى؟» قال: أتمهما» وإسناده ضعيف فيه إبراهيم بن يحيى، وهو مجهول كما قال الذهبي في رده على الحاكم حيث صحح الحديث، وكذا أعله الحافظ في «تخريجه» 3/ 407 بجهالة إبراهيم هذا، وقد سقط إبراهيم هذا من إسناد أبي يعلى، فجرى الهيثمي في «المجمع» 11250 على ظاهره، فقال: رجاله رحال الصحيح غير الحكم بن أبان، وهو ثقة! وكذا حسنه الشيخ حسين أسد محقق «مسند أبي يعلى» جريا على ظاهره، وليس كذلك كما تقدم. لكن المرفوع ورد من وجوه أخر. فقد ورد من حديث أبي ذر، أخرجه البزار 2244 «كشف» وإسناده ضعيف جدا لأجل إسحاق بن إدريس، متروك ومثله شيخه عوبد بن أبي عمران، وقد توبع إسحاق عند الطبراني في «الصغير» 815 و «الأوسط» كما في «المجمع» 112252. وقال الهيثمي: إسناده حسن، كذا قال رحمه الله! مع أن فيه عوبد، وهو متروك. وورد من حديث عتبة بن النّدر، أخرجه ابن ماجة 2444 وإسناده ضعيف جدا فيه بقية بن الوليد، مدلس، وقد عنعن، وفيه مسلمة بن علي الخشني، وهو متروك. وورد من وجه آخر عن أبي لهيعة، أخرجه البزار 2246 والطبراني 17/ 34- 135، وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 477 وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة، وورد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري 27410. ومن مرسل محمد بن كعب القرظي، أخرجه 27408 فلعل هذه الروايات بمجموعها تتأيد ويصير الحديث حسنا، على أنه أخرجه الطبري من وجوه عن ابن عباس وغيره موقوفا، غير مرفوع والله أعلم.
وانظر «تفسير الشوكاني» 1856 و 1857 و 1858 و 1859 و «تفسير ابن كثير» كلاهما بتخريجي.
__________
(1) طه: 10.
(2) الحواطب: الجواري يطلبن الحطب، وفي «اللسان» : الجزل: الحطب اليابس الغليظ. والجذى: جمع جذوة، وهو العود الغليظ الذي في رأسه نار أو لا. الخوّار: الضعف. الدعر: الفساد والسوس.(3/382)
فِي الْبُقْعَةِ وهي القطعة من الأرض الْمُبارَكَةِ بتكليم الله موسى فيها مِنَ الشَّجَرَةِ أي: من ناحيتها.
وفي تلك الشجرة قولان: أحدهما: أنها شجرة العنَّاب، قاله ابن عباس. والثاني: عوسجة، قاله قتادة، وابن السائب، ومقاتل. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله تعالى: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ أي: من أن ينالك مكروه.
قوله تعالى: اسْلُكْ يَدَكَ أي: أَدْخِلها، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ قد فسرنا الجناح في طه «2» إِلا ان بعض المفسرين خالف بين تفسير اللفظين، فشرحناه. وقال ابن زيد: جناحه: الذّراع والعضد والكفّ. وقال الزّجّاج: الجناح ها هنا: العضُد، ويقال لليد كلِّها: جناح. وحكى ابن الأنباري عن الفرّاء أنه قال: الجناح: العصا. قال ابن الأنباري: الجناح للانسان مشبَّه بالجناح للطائر، ففي حال تُشبَِّه العربُ رِجْلي الإِنسان بجناحَي الطائر، فيقولون: قد مضى فلان طائرا في حاجته، يعنون ساعياً على قدميه، وفي حال يجعلون العضد منه بمنزلة جناحي الطائر، كقوله: «واضمُمْ يدك إِلى جناحك» ، وفي حال يجعلون العصا بمنزلة الجناح، لأن الإِنسان يدفع بها عن نفسه كدفع الطائر عن نفسه بجناحه، كقوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ، وإِنما يوقع الجناح على هذه الأشياء تشبيهاً واستعارة، كما يقال: قد قُصَّ جناح الإِنسان، وقد قُطعت يده ورجله: إِذا وقعت به جائحة أبطلت تصرُّفه ويقول الرجل للرجل: أنت يدي ورِجْلي، أي: أنت مَنْ به أُصِلُ إِلى محابِّي، قال جرير:
سَأَشْكُرُ أَنْ رَدَدْتَ إِليَّ رِيشي ... وأَنْبَتَّ القَوادمَ في جَناحِي
وقالت امرأة من العرب ترثي زوجها الأغرّ:
يا عِصمتي في النَّائبات ويا ... رُكْني الأغرّ ويا يَدي اليمنى
لا صُنْتُ وجهاً كنتُ صَائنه ... أبداً ووجهك في الثّرى يبلى
وأما الرَّهَب، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «مِنَ الرَّهَب» بفتح الراء والهاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «من الرُّهْب» بضم الراء وسكون الهاء. وقرأ حفص وأبان عن عاصم:
«من الرَّهْب» بفتح الراء وسكون الهاء. وهي قراءة ابن مسعود، وابن السميفع. وقرأ أُبيّ بن كعب، والحسن، وقتادة: بضم الراء والهاء. قال الزجاج: الرُّهْب، والرَّهَب بمعنى واحد، مثل الرُّشْد، والرَّشَد. وقال أبو عبيدة: الرُّهْب والرَّهْبة بمعنى الخوف والفَرَق. وقال ابن الأنباري: الرَّهْبُ، والرُّهُب، والرَّهَب، مثل الشَّغْل، والشُّغْل، والشَّغَل، والبَخْل، والبُخُل، والبَخَل، وتلك لغات ترجع إلى معنى الخوف والفَرَق.
وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه لمَّا هرب من الحيّة أمره الله تعالى أن يضمّ إليه جناحه ليذهب عنه الفزغ. قال ابن عباس: المعنى: اضمم يدك إِلى صدرك من الخوف ولا خوف عليك. وقال مجاهد: كلٌّ مَنْ فَزِع فضَمَّ جناحه إِليه ذهب عنه الفَزَع. والثاني: أنَّه لمَّا هاله بياض يده وشعاعها، أُمِر أن يُدْخِلها في جيبه، فعادت إلى حالتها الأولى. والثالث: أن معنى الكلام: سَكِّن رَوْعَك، وثَبِّت جأْشَك. قال أبو علي: ليس يراد به الضَّمُّ بين الشيئين، إِنما أُمِر بالعزم على ما أُمِر به
__________
(1) النمل: 10.
(2) طه: 22.(3/383)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
والجدِّ فيه، ومثله: اشدد حيازيمك للموت.
قوله تعالى: فَذانِكَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «فذانِّك» بالتشديد. وقرأ الباقون: «فذانك» بالتخفيف. قال الزجاج: التشديد تثنية «ذلك» ، والتخفيف تثنية «ذاك» ، فجعل اللام في «ذلك» بدلاً من تشديد النون في «ذانِّك» ، بُرْهانانِ أي: بيانان اثنان. قال المفسرون: «فذانك» يعني العصا واليد، حُجَّتان من الله تعالى لموسى على صِدْقه، إِلى فِرْعَوْنَ أي: أرسلنا بهاتين الآيتين إِلى فرعون. وقد سبق تفسير ما بعد هذا «1» إلى قوله تعالى: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً أي: أحسنُ بياناً، لأنَّ موسى كان في لسانه أثر الجمرة التي تناولها، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً قرأ الأكثرون: «رِدْءاً» بسكون الدال وبعدها همزة.
وقرأ أبو جعفر: «رِدا» بفتح الدال وألف بعدها من غير همز ولا تنوين وقرأ نافع كذلك إلّا أنه نوّن.
قال الزجاج: الرِّدْءُ: العون، يقال: ردأتُه أردؤه رِدْءاً: إذا أعتنته. قوله تعالى: يُصَدِّقُنِي قرأ عاصم، وحمزة: «يُصَدِّقُني» بضم القاف. وقرأ الباقون بسكون القاف. قال الزجاج: من جزم «يُصَدِّقْني» فعلى جواب المسألة: أَرْسِلْهُ يُصَدِّقْني ومن رفع، فالمعنى: رِدْءاً مُصَدِّقاً لي. وأكثر المفسرين على أنه أشار بقوله تعالى: يُصَدِّقُنِي إِلى هارون وقال مقاتل بن سليمان: لكي يُصَدِّقني فرعون.
قوله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ قال الزجاج: المعنى: سنُعينك بأخيك، ولفظ العَضُد على جهة المثل، لأن اليد قِوامُها عَضُدُها، وكل مُعين فهو عَضُد، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي: حُجَّة بيِّنة.
وقيل للزَّيت: السَّليط، لأنه يستضاء به فالسّلطان: أبْيَن الحُجج.
قوله تعالى: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أي: بقتل ولا أذى. وفي قوله تعالى: بِآياتِنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: تمتنعان منهم بآياتنا وحُججنا فلا يَصِلُون إِليكما. والثاني: أنَّه متعلِّق بما بعده، فالمعنى: بآياتنا أنتما ومَنْ اتبَّعكما الغالبون، أي: تَغْلِبُون بآياتنا. والثالث: أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: ونجعل لكما سلطانا بآياتنا فلا يصلون إليكما.
[سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 37]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
قوله تعالى: ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي: ما هذا الذي جئتَنا به إِلا سِحْر افتريتَه مِنْ قِبَل نفسك ولم تُبعَث به وَما سَمِعْنا بِهذا الذي تدعونا إِليه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ، وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ وقرأ ابن كثير: «قال موسى» بلا واو، وكذلك هي في مصاحفهم بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى أي: هو أعلم بالمُحِقِّ منَّا، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، والمفضّل: «يكون» بالياء، والباقون بالتاء.
[سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 42]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
__________
(1) الشعراء: 14.(3/384)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قوله تعالى: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ قال ابن قتيبة: المعنى: اصنع لي الآجُرّ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً أي: قصراً عالياً. وقال الزجاج: الصَّرْح: كلُّ بناءٍ متَّسع مرتفع. وجاء في التفسير أنَّه لمَّا أمر هامان- وهو وزيره- ببناء الصَّرْح، جمع العمَّال والفَعَلة حتى اجتمع خمسون ألف بنَّاء سوى الأتباع، فرفعوه وشيَّدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد قَطٌّ، فلمَّا تمَّ ارتقى فرعون فوقه، وأمر بنُشَّابَةٍ فرمى بها نحو السماء، فرُدَّت وهي متلطِّخة بالدَّم، فقال: قد قتلتُ إِله موسى، فبعث الله تعالى جبريلَ فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، فوقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلتْ ألف ألف رجل، ووقعت أخرى في البحر، وأخرى في المغرب «1» .
قوله تعالى: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أي: أصعد إِليه وأُشْرِفُ عليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعني موسى مِنَ الْكاذِبِينَ في ادِّعائه إِلهاً غيري. وقال ابن جرير: المعنى: أظنُّ موسى كاذباً في ادِّعائه أنَّ في السماء ربّاً أرسله. وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: بالباطل والظُّلم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بالبعث للجزاء. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
«يُرْجَعون» برفع الياء وقرأ نافع وحمزة والكسائي: بفتحها.
قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أي: في الدنيا أَئِمَّةً أي: قادة في الكفر يأتمُّ بهم العتاة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ لأن من أطاعهم دخلها و «ينصرون» بمعنى: يُمْنَعون من العذاب. وما بعد هذا مفسر في هود «2» . قوله تعالى: مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي: من المُبعَدين الملعونين قال أبو زيد: يقال: قَبَحَ اللهُ فلاناً، أي: أبعده من كل خير. وقال ابن جريج: معنى الآية: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة لعنةً أخرى، ثم استقبل الكلام، فقال: هم من المقبوحين.
[سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 47]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي: ليتبصّروا به ويهتدوا.
__________
(1) هذا الأثر من الإسرائيليات ولا حجة فيه، ذكره البغوي 3/ 383 بقوله: قال أهل السير.
(2) هود: 60- 99. [.....](3/385)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ قال الزجاج: أي: وما كنتَ بجانب الجبل الغربيّ.
قوله تعالى: إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي: أحْكَمْنا الأمر معه بارساله إِلى فرعون وقومه وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ لذلك الأمر وفي هذا بيان لصحّة نبوّة نبيّنا صلى الله عليه وسلّم، لأنهم يعلمون أنه لم يقرأ الكتب، ولم يشاهِد ما جرى، فلولا أنَّه أُوحي إِليه ذلك، ما علم.
قوله تعالى: وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي: خَلَقْنا أُمماً مِن بعد موسى فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي:
طال إِمهالُهم فنسوا عهد الله وتركوا أمره وهذا يدلُّ على أنه قد عُهد إِلى موسى وقومه عهود في أمر محمّد صلى الله عليه وسلّم، وأُمروا بالإِيمان به، فلمَّا طال إِمهالُهم، أعرضوا عن مراعاة العهود، وَما كُنْتَ ثاوِياً أي: مقيماً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فتَعْلَم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أرسلناكَ إِلى أهل مكة وأخبرناك خبر المتقدِّمِين، ولولا ذلك ما علمتَه. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ أي: بناحية الجبل الذي كُلّم عليه موسى إِذْ نادَيْنا موسى وكلَّمناه، هذا قول الأكثرين وقال أبو هريرة: كان هذا النداء: يا أُمَّة محمد، أعطيتُكم قبل أن تسألوني، وأستجيب لكم قبل أن تدعوني.
قوله تعالى: وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال الزجاج: المعنى: لم تُشاهِد قصص الأنبياء، ولكنّا أوحيناها إِليك وقصصناها عليك، رحمةً من ربِّك. وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ جواب «لولا» محذوف، تقديره: لولا أنهم يحتجُّون بترك الإِرسال إِليهم لعاجلناهم بالعقوبة، وقيل: لولا ذلك لم نَحْتَجْ إِلى إرسال الرسل ومؤاثرة الاحتجاج.
[سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 55]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمُ يعني أهل مكة الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا وهو محمد عليه السلام والقرآن قالُوا لَوْلا أي: هلاَّ أُوتِيَ محمد من الآيات مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى كالعصا واليد. قال المفسرون:
أمرت اليهودُ قريشاً أن تسأل محمّدا صلى الله عليه وسلّم مثل ما أُوتيَ موسى، فقال الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى أي: فقد كفروا بآيات موسى، وقالُوا في المشار إِليهم قولان: أحدهما: اليهود. والثاني:
قريش. سِحْرانِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «ساحران» . تَظاهَرا أي: تعاونا.
وروى العباس الانصاري عن أبي عمرو: «تَظَّاهَرا» بتشديد الظاء. وفيمن عَنَواْ ثلاثة أقوال: أحدها:
موسى ومحمد، قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير فعلى هذا هو من قول مشركي العرب.(3/386)
والثاني: موسى وهارون، قاله مجاهد: فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرّسالة. والثالث:
محمّد وعيسى عليهما السّلام، قاله قتادة فعلى هذا هو من قول اليهود الذين لم يؤمنوا بنبيِّنا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «سِحْران» وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: التوراة والفرقان، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: الإنجيل والقرآن، قاله قتادة. والثالث: التّوراة والإنجيل، قاله أبو مجلز وإسماعيل بن أبي خالد. ومعنى الكلام: كلُّ سِحْر منهما يقوِّي الآخر، فنُسب التظاهر إِلى السِحْرين توسُّعاً في الكلام، وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ يعنون ما تقدَّم ذِكْره على اختلاف الأقوال، فقال الله تعالى لنبيِّه قُلْ لكفَّار مكة فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي: من التوراة والقرآن إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنَّهما ساحران. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي: فان لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي: أنَّ ما ركبوه من الكفر لم يحملهم عليه حُجَّة، وإِنما آثروا فيه الهوى وَمَنْ أَضَلُّ أي: ولا أحد أضل مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً أي: بغير رشد ولا بيان جاء مِنَ اللَّهِ. وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ وقرأ الحسن وأبو المتوكل وابن يعمر: «وصَلْنَا» بتخفيف الصاد. وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنهم قريش، قاله الأكثرون، منهم مجاهد. والثاني: اليهود، قاله رفاعة القرظي. والمعنى:
أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً، ويُخْبِر عن الأمم الخالية كيف عُذِّبِوا لعلَّهم يتَّعظون. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مؤمنوا أهل الكتاب، رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد. والثاني: مسلمو أهل الإِنجيل.
(1077) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب النجاشي قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فشهدوا معه أُحُداً، فنزلت فيهم هذه الآية.
والثالث: مسلمو اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، قاله السدي.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل القرآن هُمْ بِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم لأن ذِكْره كان مكتوباً عندهم في كتبهم فآمنوا به. والثاني: إِلى القرآن.
قوله تعالى: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن قالُوا آمَنَّا بِهِ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل نزول القرآن مُسْلِمِينَ أي مُخْلِصِين لله تعالى مصدِّقين بمحمد، وذلك لأن ذِكْره كان في كتبهم فآمنوا به أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنَّهم مؤمنو أهل الكتاب، وهذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وفيما صبروا عليه قولان: أحدهما: أنهم صبروا على الكتاب الأوّل وصبروا على اتّباعهم محمّدا صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة وابن زيد. والثاني: أنهم صبروا على الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلّم قبل أن يُبْعَث ثم على اتِّباعه حين بُعث، قاله الضحاك. والقول الثاني: انهم قوم من المشركين أسلموا فكان قومهم يؤذونهم فصبروا على الأذى، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فيه أقوال قد شرحناها في الرعد.
قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الاذى والسَّبّ، قاله مجاهد.
والثاني: الشِّرك، قاله الضحاك. والثالث: أنهم قوم من اليهود آمنوا، فكانوا يسمعون ما غيّر اليهود من
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبراني في «الأوسط» برقم 7658 من حديث ابن عباس بأتم منه، وإسناده ضعيف جدا. فيه مجاهيل. قال السيوطي في «الأسباب» 1073: فيه من لا يعرف.(3/387)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيَكرهون ذلك ويُعْرِضون عنه، قاله ابن زيد. وهل هذا منسوخ، أم لا؟ فيه قولان.
وفي قوله تعالى: وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ قولان: أحدهما: لنا دِيننا ولكم دِينكم. والثاني: لنا حِلْمُنا ولكم سَفَهُكم. سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: لم يريدوا التحيَّة، وإِنَّما أرادوا: بيننا وبينكم المُتَارَكة، وهذا قبل أن يؤمَر المسلمون بالقتال. وذكر أهل التّفسير، أنَّ هذا منسوخ بآية السيف. وفي قوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا نبتغي دِين الجاهلين. والثاني: لا نطلُب مجاورتهم. والثالث: لا نريد أن نكون جهّالا والله أعلم
[سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 58]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)
قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ «1» .
(1078) وقد روى مسلم فيما انفرد به عن البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمِّه: «قل: لا إِله إِلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة» ، فقال: لولا أن تُعيِّرني نساءُ قريش، يقلن: إِنَّما حمله على ذلك الجزع، لاقررتُ بها عينك، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ. قال الزجاج: أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب.
وفي قوله تعالى: مَنْ أَحْبَبْتَ قولان: أحدهما: من أحببتَ هدايته. والثاني: من أحببتَه لقرابته. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي: يُرْشِد لِدِينه من يشاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي: بمن قدَّر له الهُدى.
قوله تعالى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ قال ابن عباس في رواية العوفي: هم ناس من قريش قالوا ذلك. وقال في رواية ابن أبي مُلَيْكة: إِنَّ الحارث بن عامر بن نوفل قال ذلك.
(1079) وذكر مقاتل أن الحارث بن عامر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنَّا لَنعلم أنَّ الذي تقول حق، ولكن يمنعنا ان نتَّبع الهُدى معك مخافة أن تتخطّفنا العرب من أرضنا، يعنون مكة.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 41، 42 والترمذي 3188 وأحمد 2/ 434 والواحدي في «أسباب النزول» 662 من حديث أبي هريرة دون كلمة «نساء» وقد انفرد مسلم بروايته بهذا اللفظ مختصرا.
- وقد مضى تخريجه بأطول منه في سورة التوبة عند الآية 113. متفق عليه.
ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم، لكن ورد من وجه آخر. أخرجه النسائي في «الكبرى» 11385 من طريق عمرو بن شعيب عن ابن عباس، وهو منقطع، قال النسائي: ولم يسمعه منه، أي لم يسمع عمرو من ابن عباس. فالإسناد ضعيف، ولا يصح هذا الخبر.
__________
(1) التوبة: 113.(3/388)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
ومعنى الاية: إِن اتَّبعناك على دينك خِفْنا العرب لمخالفتنا إِياها. والتَّخَطُّف: الانتزاع بسرعة فردَّ الله عليهم قولهم، فقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً أي: أَوَلَمْ نُسْكِنْهم حَرَماً ونجعله مكاناً لهم، ومعنى آمِناً: ذو أمن يأمن فيه الناس، وذلك أن العرب كانت يُغِير بعضُها على بعض، وأهل مكة آمنون في الحرم من القتل والسَّبي والغارة، أي: فكيف يخافون إِذا أسلموا وهم في حرم آمن؟! يُجْبى قرأ نافع: «تُجْبي» بالتاء، أي: تُجْمَع إِليه وتُحمل من كل النواحي الثمرات، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا أي: مِنْ عندنا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يعني أهل مكة لا يَعْلَمُونَ أنَّ الله تعالى هو الذي فعل بهم ذلك فيشكرونه. ومعنى الآية: إِذا كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبدون غيري، فكيف تخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي؟! ثم خوَّفهم عذاب الأمم الخالية فقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها قال الزجاج: «معيشتَها» منصوبة باسقاط «في» ، والمعنى: بَطِرَتْ في معيشتها، والبطر:
الطُّغيان في النِّعمة. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. قوله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس: لم يسكُنْها إِلاَّ المسافرون ومارُّ الطريق يوماً أو ساعة، والمعنى: لم تُسْكَن من بعدهم إلّا سكنى قليلة وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أي: لم يَخْلُفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم، فبقيتْ خراباً غير مسكونة.
[سورة القصص (28) : الآيات 59 الى 61]
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى يعني القرى الكافر أهلها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي: في أعظمها رَسُولًا، وإِنما خصَّ الأعظم ببعثة الرسول، لأن الرسول إِنَّما يُبعث إِلى الأشراف، وأشراف القوم ملوكهم، وإِنما يسكُنون المواضع التي هي أُمُّ ما حولها. وقال قتادة: أُم القرى: مكّة، والرسول:
محمّد صلى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا قال مقاتل: يخبرهم الرسول أنَّ العذاب نازل بهم إِن لم يؤمنوا. قوله تعالى: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أي: بظلمهم أُهلكهم.
وظلمهم: شركهم. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أعطيتم من مال وخير فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تتمتَّعون به أيام حياتكم ثم يفنى وينقضي، وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب خَيْرٌ وَأَبْقى أفضل وأَدْوَم لأهله أَفَلا تَعْقِلُونَ أَنَّ الباقي أفضل مِنَ الفاني؟! قوله تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً اختُلف فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي جهل. والثاني: في عليّ وحمزة رضي الله عنهما، وأبي جهل. والقولان مرويان عن مجاهد. والثالث: في المؤمن والكافر، قاله قتادة. والرابع: في عمَّار والوليد بن المغيرة، قاله السدي. وفي الوعد الحسن قولان: أحدهما: الجنة. والثاني: النصر.
قوله تعالى: فَهُوَ لاقِيهِ أي: مُصيبه ومُدْرِكه كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: كمن هو ممتَّع بشيء يفنى ويزول عن قريب ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ فيه قولان:(3/389)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
أحدهما: من المحضرين في عذاب الله تعالى، قاله قتادة.
والثاني: من المُحْضَرِين للجزاء، حكاه الماوردي.
[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي: ينادي الله تعالى المشركين يومَ القيامة فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ هذا على وجه حكاية قولهم والمعنى: أين شركائي في قولكم؟! قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: وجب عليهم العذاب، وهم رؤساء الضلالة، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم رؤوس المشركين. والثاني: أنهم الشياطين رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا يعنون الأتباع أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي: أضللناهم كما ضَلَلْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ أي: تبرَّأنا منهم إِليك والمعنى أنهم يتبرّأ بعضهم من بعض ويصيرون أعداء. وَقِيلَ لكُفَّار بني آدم ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي: استغيثوا بآلهتكم لتُخَلِّصكم من العذاب فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي:
فلم يجيبوهم إِلى نصرهم وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ قال الزجّاج: جواب «لو» محذوف والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لَمَا اتبَّعوهم ولَمَا رأوُا العذاب. قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي: ينادي الله الكفار ويسألهم فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ وقرأ أبو رزين العقيلي، وقتادة، وأبو العالية، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري: «فَعُمِّيَتْ» برفع العين وتشديد الميم. قال المفسرون: خفيت عليهم الحُجج، وسمِّيت أنباءً، لأنها أخبار يخبر بها. قال ابن قتيبة: المعنى: عَمُوا عنها- من شدة الهول- فلم يُجيبوا، و «الأنباء» الحُجج.
قوله تعالى: فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ فيه ثلاثة أقوال. أحدها: لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحُجَّة، قاله الضحاك. والثاني: أن المعنى: سكتوا فلا يتساءلون في تلك الساعة، قاله الفراء. والثالث: لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحمل عنه شيئاً من ذنوبه، حكاه الماوردي.
فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشِّرك وَآمَنَ أي: صدّق بتوحيد الله عزّ وجلّ وَعَمِلَ صالِحاً أدَّى الفرائض فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ و «عسى» من الله عز وجل واجب.
[سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ روى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى:
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ قال: كانوا يجعلون لآلهتهم خير أموالهم في الجاهلية.(3/390)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
(1080) وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» .
والمعنى أنَّه لا تُبْعَث الرسل باختيارهم. قال الزّجّاج: والوقف الجيد على قوله تعالى: «ويختار» وتكون «ما» نفياً والمعنى: ليس لهم أن يختاروا على الله تعالى ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، فيكون المعنى: ويختار الذي لهم فيه الخِيَرة ممَّا يتعبَّدهم به ويدعوهم إِليه قال الفراء: والعرب تقول لِمَا تختاره: أعطِني الخِيْرَة والخِيَرة والخَيْرة، قال ثعلب: كلها لغات.
قوله تعالى: ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي: ما تُخفي من الكفر والعداوة وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم. قوله تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي: يَحْمَدُه أولياؤُه في الدنيا ويَحْمَدونه في الجنة وَلَهُ الْحُكْمُ وهو الفصل بين الخلائق. والسّرمد: الدّائم.
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
قوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ أي: سماع فَهْم وقَبول فتستدلُّوا بذلك على وحدانية الله تعالى؟! ومعنى تَسْكُنُونَ فِيهِ: تستريحون من الحركة والنَّصَب أَفَلا تُبْصِرُونَ ما أنتم عليه من الخطأ والضلالة؟! ثم أخبر أن اللَّيل والنهار رحمة منه. وقوله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يعني في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: لتلتمسوا من رزقه بالمعاش في النهار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الذي أنْعَم عليكم بهما.
قوله تعالى: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي: أخرْجنا من كل أُمَّة رسولها الذي يشهد عليها بالتبليغ فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي: حُجَّتكم على ما كنتم تعبُدون من دوني فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي: عَلِموا أنَّه لا إِله إِلا هو وَضَلَّ عَنْهُمْ أي: بَطَل في الآخرة ما كانُوا يَفْتَرُونَ في الدنيا من الشّركاء.
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 77]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 665 بدون إسناد، بقوله: قال أهل التفسير.
__________
(1) الزخرف: 31.(3/391)
قوله تعالى: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أي: من عشيرته وفي نسبه إِلى موسى ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه كان ابن عمه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عبد الله بن الحارث، وإِبراهيم، وابن جريج. والثاني: ابن خالته، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أنه كان عمَّ موسى، قاله ابن إِسحاق. قال الزجاج: «قارون» اسم أعجمي لا ينصرف، ولو كان «فاعولاً» من العربية من «قرنتُ الشيء» لانصرف.
قوله تعالى: فَبَغى عَلَيْهِمْ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه جعل لِبَغِيٍّ جُعْلاً على أن تقذف موسى بنفسها، ففعلت، فاستحلفها موسى على ما قالت، فأخبرته بقصتها، فكان هذا بغيه، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه بغى بالكفر بالله تعالى، قاله الضحاك. والثالث: بالكِبْر، قاله قتادة. والرابع: أنه زاد في طول ثيابه شِبراً، قاله عطاء الخراساني، وشهر بن حوشب. والخامس: أنه كان يخدم فرعون فتعدَّى على بني إِسرائيل وظلمهم، حكاه الماوردي.
وفي المراد بمفاتحه قولان: أحدهما: أنها مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب، قاله مجاهد، وقتادة. وروى الأعمش عن خيثمة قال: كانت مفاتيح قارون وِقْر ستين بغلاً، وكانت من جلود، كل مفتاح مثل الأصبع. والثاني: أنها خزائنه، قاله السدي، وأبو صالح، والضحاك. قال الزجاج: وهذا الأشبه أن تكون مفاتحه خزائن ماله وإِلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة. قال أبو صالح: كانت خزائنه تُحمل على أربعين بغلاً.
قوله تعالى: لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أي: تُثقلهم وتُميلهم. ومعنى الكلام: لَتُنِيءُ العصبةَ، فلمَّا دخلت الباءُ في «العُصْبة» انفتحت التاء، كما تقول: هذا يَذْهَبُ بالأبصارِ، وهذا يُذْهِبُ الأبصارَ، وهذا اختيار الفراء وابن قتيبة والزجَّاج في آخرين. وقال بعضهم: هذا من المقلوب، وتقديره: ما إِن العُصْبة لَتَنُوء بمفاتحه، كما يقال: إِنها لَتَنُوء بها عجيزُتها، أي: هي تَنْوء بعجيزتها، وأنشدوا:
فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفِسْي ومَالي ... ومَا آلُوكَ إِلاَّ مَا أُطِيقُ
أي: فديت بنفسي وبمالي نفسه، وهذا اختيار أبي عبيدة، والأخفش. وقد بيَّنَّا معنى العُصْبة في سورة يوسف «2» ، وفي المراد بها ها هنا ستة أقوال: أحدها: أربعون رجلاً، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: ما بين الثلاثة إِلى العشرة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: خمسة عشر، قاله مجاهد. والرابع: فوق العشرة إِلى الأربعين، قاله قتادة. والخامس: سبعون رجلاً، قاله أبو صالح.
والسادس: ما بين الخمسة عشر إِلى الأربعين، حكاه الزجاج.
قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ في القائل له قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون من قومه، قاله السدي. والثاني: أنه قول موسى له، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: لا تَفْرَحْ قال ابن قتيبة: المعنى: لا تأشَرْ ولا تَبطَرْ، قال الشاعر:
ولستُ بِمِفْراحٍ إِذا الدَّهرُ سَرَّني ... ولا جازع من صرفه المتحوّل «3»
__________
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 492: قال ابن جرير: وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه.
(2) يوسف: 8.
(3) البيت لهدبة بن خشرم العذري، وهو في «حماسة البحتري» 120.(3/392)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
أي: لستُ بأَشِرٍ، فأمَّا السرورُ، فليس بمكروه. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وقرأ أبو رجاء، وأبو حيوة، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: «الفَارِحِين» بألف.
قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ أي: اطلب فيما أعطاكَ اللهُ من الأموال «1» . وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «واتّبع» بتشديد التاء وكسر الباء وعين ساكنة غير معجمة الدَّارَ الْآخِرَةَ وهي: الجنة وذلك يكون بانفاقه في رضى الله تعالى وشُكر المُنْعِم به وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن يعمل في الدنيا للآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور. والثاني:
أن يُقدِّم الفضل ويُمسك ما يُغْنيه، قاله الحسن. والثالث: أن يستغنيَ بالحلال عن الحرام، قاله قتادة.
وفي معنى وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ثلاثة أقوال: أحدها: أَعْطِ فضل مالك كما زادك على قدر حاجتك. والثاني: أَحْسِن فيما افترض عليك كما أحسن في إِنعامه إِليك. والثالث: أحسن في طلب الحلال كما أحسن إِليك في الإِحلال. قوله تعالى: وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ فتعمل فيها بالمعاصي.
[سورة القصص (28) : آية 78]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
قوله تعالى: إِنَّما أُوتِيتُهُ يعني المال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فيه خمسة أقوال «2» : أحدها: على عِلْم عندي بصنعة الذهب، رواه أبو صالح عن ابن عباس قال الزجاج: وهذا لا أصل له، لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له. والثاني: برضى الله عني، قاله ابن زيد. والثالث: على خير علمه الله تعالى عندي، قاله مقاتل. والرابع: إِنما أُعطيتُه لفضل علمي، قاله الفراء. قال الزجاج: ادَّعى أنه أُعطيَ المال لعلمه بالتوراة. والخامس: على علم عندي بوجوه المكاسب، حكاه الماوردي. قوله تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ يعني قارون أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ بالعذاب مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ في الدُّنيا حين كذَّبوا رُسُلَهم مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً للأموال. وفي قوله تعالى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يُسْأَلون ليُعْلَم ذلك مِنْ قِبَلهم وإِن سئلوا سؤال توبيخ، قاله الحسن. والثاني: أن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسألهم عن ذنوبهم، قاله مجاهد. والثالث: يدخلون النار بغير حساب، قاله قتادة.
وقال السدي: يعذَّبون ولا يُسْأَلون عن ذنوبهم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله 3/ 493: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرّب إليه بشتى أنواع القربات التي تحصّل لك الثواب في الدار الآخرة وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ما أباح الله لك من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، فإن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه. وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي: أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك ولا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض، وتسيء إلى خلق الله. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 494: وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد، فإنه قال: لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال، وقرأ: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ.(3/393)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
[سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 80]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)
قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال الحسن: في ثيابٍ حمر وصفر وقال عكرمة: في ثياب مُعَصْفَرة. وقال وهب بن منبِّه: خرج على بغلة شهباء عليها سرج أحمر من أُرْجُوان، ومعه أربعة آلاف مقاتل، وثلاثمائة وصيفة عليهن الحلي والزِّينة على بغال بيض. قال الزجاج: الأُرْجُوان في اللغة:
صِبغ أحمر. قوله تعالى: لَذُو حَظٍّ أي: لَذُو نصيب وافر من الدنيا. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إِسرائيل. وقال مقاتل: الذين أوتوا العلم بما وَعَدَ اللهُ في الآخرة قالوا للذين تَمنَّوا ما أُوتيَ قارون وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ أي: ما عنده من الجزاء خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ مِمَّا أُعطيَ قارونُ. قوله تعالى: وَلا يُلَقَّاها قال أبو عبيدة: لا يوفَّق لها ويُرْزَقُها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «ولا يَلْقَاها» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. وفي المشار إِليها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الأعمال الصالحة، قاله مقاتل. والثاني: أنها الجنة، والمعنى: لا يُعطاها في الآخرة إِلاَّ الصابرون على أمر الله تعالى، قاله ابن السائب. والثالث: أنها الكلمة التي قالوها، وهي قولهم: «ثوابُ الله خيرٌ» ، قاله الفرّاء.
[سورة القصص (28) : الآيات 81 الى 82]
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ لمَّا أمر قارونُ البَغِيَّ بقذف موسى على ما سبق شرحه غضب موسى فدعا عليه، فأوحى الله تعالى إِليه: إِنِّي قد أمرت الأرض أن تُطيعَك فَمُرْها فقال موسى:
يا أرض خُذيه، فأخذتْه حتى غيَّبَتْ سريره، فلمَّا رأى ذلك ناشده بالرّحم، فقال: يا أرض خُذيه، فأخذته حتى غيَّبتْ قدميه فما زال يقول: خُذيه، حتى غيَّبتْه، فأوحى الله تعالى إِليه: يا موسى ما أفظَّك، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته. قال ابن عباس: فخُسفتْ به الأرضُ إِلى الأرض السفلى. وقال سَمُرَة بنُ جنْدَب: إِنَّه يُخسف به كلَّ يوم قامة، فتبلغ به الأرض السفلى يوم القيامة. قال مقاتل: فلمَّا هلك قارون قال بنو إِسرائيل: إِنَّما أهلكه موسى ليأخذ ماله وداره، فخَسَفَ الله تعالى بداره وماله بعده بثلاثة أيام «1» .
قوله تعالى: يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: يمنعونه من الله تعالى وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي: من الممتنعين ممَّا نزل به. ثم أعلَمنا أن المتمنِّين مكانه ندموا على ذلك التمنِّي بالآية التي تلي هذه. وقوله تعالى: لَخَسَفَ بِنا الأكثرون على ضم الخاء وكسر السين. وقرأ يعقوب، والوليد عن ابن عامر، وحفص، وأبان عن عاصم: بفتح الخاء والسين. فأما قوله تعالى: «وَيْكَ» فقال ابن عباس: معناه: ألم تر، وكذلك قال أبو عبيده، والكسائي. وقال الفراء: «وَيْكَ أن» في كلام العرب تقرير، كقول الرجل:
__________
(1) هذا الأثر مصدره كتب الأقدمين لا حجة فيه.(3/394)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
أما ترى إلى صنع الله تعالى وإِحسانه، أنشدني بعضهم:
وَيْكَ أَنْ مَنْ يَكُنْ له نشب يحبب ... ومَنْ يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ
وقال ابن الأنباري: في قوله: وَيْكَأَنَّهُ ثلاثة أوجه «1» : الأول: إِن شئت قلت: «وَيْكَ» حرف، و «أنَّه» حرف والمعنى: ألم تر أنَّه، والدليل على هذا قول الشاعر:
سالَتَاني الطَّلاق أنْ رَأَتَاني ... قَلَّ مالي قَدْ جِئْتُمَاني بِنُكْرِ
وَيْكَ أَنْ من يكن له نشب يحبب ... ومَن يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْش ضُرِّ «2»
والثاني: أن يكون «ويك» حرفا، «وأنّه» حرفاً. والمعنى: ويلك اعلمْ أنَّه، فحذفت اللام، كما قالوا: قم لا أباك، يريدون: لا أبالك، وأنشدوا:
أَبِالْمَوْتِ الذي لا بُدَّ أنِّي ... مُلاقٍ لا أَبَاكِ تُخَوِّفِيني «3»
أراد: لا أَبَالَكِ، فحذف اللام. والثالث: أن يكون «وَيْ» حرفاً، و «كأنّه» حرفا، فيكون المعنى «وَيْ» التعجُّب، كما تقول: وَيْ لِمَ فعلت كذا وكذا، ويكون معنى «كأنَّه» : أظُنُّه وأعلمُه، كما تقول في الكلام: كأنَّك بالفَرَج قد أَقْبَل فمعناه: أظُنُّ الفَرَجُ مقْبِلاً. وإِنما وصلوا الياء بالكاف في قوله تعالى:
وَيْكَأَنَّهُ لأنّ الكلام بهما يكثر، كما جعلوا «يا ابْنَ أُمَّ» «4» في المصحف حرفا واحدا، وهما حرفان.
وكان جماعة منهم يعقوب، يقفون على «وَيْكَ» في الحرفين، ويبتدئون «أنّ» و «أنَّه» في الموضعين.
وذكر الزجَّاج عن الخليل أنه قال: «وَيْ» مفصولة من «كأنَّ» ، وذلك أنَّ القوم تندَّموا فقالوا: «وَيْ» متندِّمين على ما سلف منهم، وكلُّ مَنْ نَدِم فأظهر ندامته قال: وَيْ. وحكى ابن قتيبة عن بعض العلماء أنَّه قال: معنى «ويكأنَّ» : رحمةً لك، بلغة حِمْيَر. قوله تعالى: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي: بالرحمة والمعافاة والإيمان لَخَسَفَ بِنا.
[سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ يعني الجنة نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وفيه خمسة أقوال: أحدها: أنَّه البَغْي، قاله سعيد بن جبير. والثاني: الشَّرَفُ والعِزّ، قاله الحسن. والثالث: الظُّلْم، قاله الضحاك. والرابع: الشِّرك، قاله يحيى بن سلام. والخامس: الاستكبار عن الإيمان، قاله مقاتل.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 10/ 113: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة من أن معناه: ألم تر، ألم تعلم.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 496: وقد اختلف النحاة في معنى قوله تعالى: وَيْكَأَنَّهُ فقال بعضهم: معناها «ويلك اعلم أن» ولكن خففت فقيل: «ويك» ودل فتح «أن» على حذف اعلم وهذا القول ضعفه ابن جرير. والظاهر أنه قوي، ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة «ويكأن» .
والكتابة أمر وضعي اصطلاحي، والمرجع إلى اللفظ العربي، والله أعلم.
(2) البيتان لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي، كما في «مجاز القرآن» 2/ 112 و «سيبويه» 1/ 290.
(3) البيت لأبي حية النّميري، وهو في «اللسان» - أبى-.
(4) طه: 94.(3/395)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قوله تعالى: وَلا فَساداً فيه قولان: أحدهما: العمل بالمعاصي، قاله عكرمة. والثاني: الدُّعاء إِلى غير عبادة الله تعالى، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي: العاقبة المحمودة لهم. قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قد فسرناه في سورة النمل «1» . قوله تعالى: فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: إِلاَّ جزاء عملهم من الشِّرك، وجزاؤه النّار.
[سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ.
(1081) قال مقاتل: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الغار ليلاً، فمضى من وجهه إِلى المدينة فسار في غير الطريق مخافة الطَّلب فلمَّا أَمِن رجع إِلى الطريق فنزل الجُحْفَةَ بين مكة والمدينة، فعرف الطريق إِلى مكة، فاشتاق إِليها، وذكر مولده، فأتاه جبريل فقال: أتشتاق إِلى بلدك ومولدك؟ قال: نعم قال:
فان الله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، فنزلت هذه الآية بالجحفة.
وفي معنى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ثلاثة أقوال: أحدها: فرض عليك العمل بالقرآن، قاله عطاء بن أبي رباح، وابن قتيبة. والثاني: أعطاك القرآن، قاله مجاهد. والثالث: أنزل عليك القرآن، قاله مقاتل والفراء وأبو عبيدة. وفي قوله تعالى: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أربعة أقوال «2» :
أحدها: إِلى مكة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية، والضحاك. قال ابن قتيبة: مَعَادُ الرَّجُل: بلدُه، لأنه يتصرَّف في البلاد ويَضْرِب في الأرض ثم يعود إِلى بلده.
والثاني: إِلى معادك من الجنة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والزهري. فإن اعتُرض على هذا فقيل: الرَّدُّ يقتضي أنه قد كان فيما رُدَّ إِليه فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنَّه لمَّا كان أبوه آدم في الجنة ثم أُخرج، كان كأنَّ ولده أُخرج منها، فاذا دخلها فكأنه أعيد. والثاني: أنّه دخلها ليلة
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهذا معضل، وهو بدون إسناد، ومقاتل ساقط الرواية، فهذا خبر لا شيء.
__________
(1) النمل: 89.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 118: والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: لرادك إلى عادتك من الموت، أو إلى عادتك حيث ولدت اه.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 497: ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسّر تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلّم، كما فسر سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ: أنه أجل النبي صلى الله عليه وسلّم نعي إليه ووافقه عمر بن الخطاب، وتارة أخرى فسّر ابن عباس قوله تعالى:
لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ بالموت، وتارة بعد الموت الذي هو يوم القيامة. [.....](3/396)
المعراج، فاذا دخلها يوم القيامة كان ردّاً، ذكرهما ابن جرير. والثالث: أن العرب تقول: رجع الأمر إِلى كذا، وإِن لم يكن له كون فيه قطّ، وأنشدوا:
يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذ هُوَ سَاطِعُ «1»
وقد شرحنا هذا في قوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ عن ابن عباس وبه قال أبو سعيد الخدريّ.
الثالث: لَرَادُّك إِلى الموت، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال أبو سعيد الخدري. والرابع:
لَرَادُّك إِلى القيامة بالبعث، قاله الحسن والزهري ومجاهد في رواية والزجاج.
ثم ابتدأ كلاماً يَرُدُّ به على الكفار حين نسبوا النبيّ صلى الله عليه وسلّم إِلى الضَّلال، فقال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى والمعنى: قد علم أنِّي جئت بالهُدى، وأنَّكم في ضلال مبين. ثم ذَكَّرهُ نعمه، فقال: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي: أن تكون نبيّاً وأن يوحى إِليكَ القرآنُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال الفراء: هذا استثناء منقطع، والمعنى: إِلاَّ أنَّ ربَّكَ رَحِمَكَ فأنزله عليك فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي: عَوْناً لهم على دينهم، وذلك أنَّهم دَعوه إِلى دين آبائه فأُمر بالاحتراز منهم والخطاب بهذا وأمثاله له، والمراد أهل دينه لئلاَّ يُظاهِروا الكفَّار ولا يوافقوهم.
قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فيه قولان: أحدهما: إِلا ما أُرِيدَ به وجهُه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الثوري. والثاني: إِلاَّ هو، قاله الضحاك وأبو عبيدة. قوله تعالى: لَهُ الْحُكْمُ أي الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة.
__________
(1) هو عجز بيت للبيد بن ربيعة العامري وصدره: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه، كما في «ديوانه» 169، و «اللسان» - حور-.(3/397)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
سورة العنكبوت
فصل في نزولها:
روى العوفيّ عن ابن عباس أنها مكِّيَّة، وبه قال الحسن، وعطاء، وقتادة، وجابر بن زيد، ومقاتل. وفي رواية عن ابن عباس أنها مدنيّة. وقال هبة الله بن سلامة المفسّر: نزلت من أوّلها إلى رأس العشر بمكّة، وباقيها بالمدينة. وقال غيره عكس هذا: نزلت العشر بالمدينة، وباقيها بمكّة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
قوله تعالى: الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(1082) أحدها: أنَّه لمَّا أُمر بالهجرة، كتب المسلمون إِلى إِخوانهم بمكة أنَّه لا يُقْبَل منكم إِسلامكم حتى تُهاجِروا، فخرجوا نحو المدينة فأدركهم المشركون فردُّوهم، فأنزل الله تعالى من أول هذه السورة عشر آيات، فكتبوا إِليهم يخبرونهم بما نزل فيهم، فقالوا: نَخْرُج، فان اتَّبَعَنَا أحدٌ قاتلناه، فخرجوا فاتَّبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم مَنْ قُتل، ومنهم مَنْ نجا، فأنزل الله تعالى فيهم: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا «1» ، هذا قول الحسن والشعبي.
(1083) والثاني: أنَّها نزلت في عمَّار بن ياسر إِذ كان يعذَّب في الله عزّ وجلّ، قاله عبد الله بن عُبيد بن عُمير.
(1084) والثالث: أنَّها نزلت في مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب حين قُتل ببدر، فجزع عليه أبواه وامرأته، فأنزل الله تعالى في أبويه وامرأته هذه الآية.
__________
أخرجه الطبري 27693 وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 666 عن الشعبي مرسلا، فهو ضعيف.
أخرجه الطبري 27692 عن عبد الله بن عبيد بن عمير.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 667 عن مقاتل بدون إسناد، ومقاتل ساقط الرواية، فخبره واه.
__________
(1) النحل: 110.(3/398)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ قال ابن عباس: يريد بالناس: الذين آمنوا بمكة كعيَّاش بن أبي ربيعة وعمَّار بن ياسر وسَلَمة بن هشام وغيرهم. قال الزجاج: لفظ الآية استخبار ومعناها معنى التقرير والتوبيخ والمعنى: أحَسِب النَّاس أن يُتْرَكوا بأن يقولوا: آمَنَّا، ولأَن يقولوا: آمَنَّا، أي أَحَسِبوا أن يُقْنَع منهم بأن يقولوا: إِنَّا مؤمنون، فقط، ولا يُمتَحنون بما يبيِّن حقيقة إِيمانهم وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي: لا يُختَبرون بما يُعْلَم به صِدق إِيمانهم من كذبه. وللمفسرين فيه قولان: أحدهما: لا يُفْتَنون في أنفسهم بالقتل والتعذيب، قاله مجاهد. والثاني: لا يُبْتَلَوْن بالأوامر والنواهي. قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: ابتليناهم واختبرناهم فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فليرينّ الله عزّ وجلّ الذين صَدَقوا في إِيمانهم عند البلاء إِذا صبروا لقضائه، ولَيُرِيَنَّ الكاذبين في إِيمانهم إِذا شكُّوا عند البلاء، قاله مقاتل. والثاني: فلَيُمَيِّزَنَّ، لأنَّه قد عَلِم ذلك مِنْ قَبْل، قاله أبو عبيدة. والثالث: فلَيُظْهِرَنَّ ذلك حتى يوجد معلوماً، حكاه الثعلبي. وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وجعفر بن محمد: «فلَيُعْلِمَنَّ اللهُ» «ولَيُعْلِمَنَّ الكاذبين» «وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين» «1» بضم الياء وكسر اللام.
قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ أي: أحسب الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني الشِّرك أَنْ يَسْبِقُونا أي:
يفُوتونا ويُعْجِزونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي: بئس ما حكموا لأنفسهم حين ظنُّوا ذلك. قال ابن عباس:
عنى بهم الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والعاص بن هشام، وغيرهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 5 الى 7]
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ قد شرحناه في آخر الكهف «2» فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ يعني الأجل المضروب للبعث والمعنى: فليعمل لذلك اليوم وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقول الْعَلِيمُ بما يعمل.
وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أي: إِن ثوابه إِليه يرجع. قوله تعالى: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي:
لَنُبْطِلَنَّها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي: بأحسن أعمالهم، وهو الطاعة، ولا نجزيهم بمساوئ أعمالهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو مجلز، وعاصم الجحدري:
«إِحساناً» بألف. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء: «حسنا» بفتح الحاء والسين.
(1085) وروى أبو عثمان النّهدي عن سعد بن أبي وقَّاص، قال: فيَّ أُنزلت هذه الآية، كنت
__________
أصله صحيح. أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 414 من طريق مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي عثمان
__________
(1) العنكبوت: 11.
(2) الكهف: 110.(3/399)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
رجلاً بَرّاً بأُمِّي، فلمَّا أسلمتُ قالت: يا سعد! ما هذا الدِّين الذي قد أحدثتَ، لَتَدَعنَّ دِينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموتَ فتُعيَّر بي فيقال: يا قاتلَ أُمِّه، قلت: لا تفعلي يا أُمَّاه، إِنِّي لا أَدَعُ ديني هذا لشيء، قال: فمكثتْ يوماً وليلة لا تأكل، فأصبحتْ قد جُهِدَتْ، ثم مكثتْ يوماً آخر وليلة لا تأكل، فلمَّا رأيتُ ذلك قلتُ: تعلمين والله يا أُمَّاه لو كانت لكِ مائة نَفْس فخرجتْ نَفْساً نَفْساً ما تركت ديني هذا لشيء، فكُلي، وإِن شئتِ لا تأكلي، فلمَّا رأت ذلك أكلتْ فأُنزلت هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، وقد جرى له مع أُمِّه نحو هذا. وذكر بعض المفسّرين أنّ هذه الآية، التي في لقمان «1» وفي الأحقاف «2» : نزلن في قصة سعد.
قال الزجاج: مَنْ قرأ: «حُسْناً» فمعناه: ووصَّينا الإِنسان أن يفعل بوالديه ما يَحْسُن، ومن قرأ:
«إِحساناً» فمعناه: ووصينا الإِنسان أن يُحْسِن إِلى والديه، وكان «حُسْناً» أعمَّ في البِرّ.
وَإِنْ جاهَداكَ قال أبو عبيدة: مجاز هذا الكلام مجاز المختصر الذي فيه ضمير، والمعنى:
وقلنا له: وإِن جاهداك. قوله تعالى: لِتُشْرِكَ بِي معناه: لتشرك بي شريكاً لا تَعْلَمه لي وليس لأحد بذلك عِلْم، فَلا تُطِعْهُما. قوله تعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي: في زُمرة الصَّالحين في الجنة.
وقال مقاتل: «في» بمعنى «مع» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(1086) أحدها: أنَّها نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون إٍلى بدر فارتدُّوا، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(1087) والثاني: نزلت في قوم كانوا يؤمنون بألسنتهم، فاذا أصابهم بلاءٌ من الله تعالى أو مصيبة
__________
النهدي أن سعد بن مالك قال: نزلت فيّ هذه الآية وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال: كنت رجلاً بَرّاً بأُمِّي فلمَّا أسلمتُ قالت: يا سعد ما هذا الدِّين الذي قد أحدثتَ؟ لَتَدَعنَّ دِينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموتَ فتُعيَّر بي فيقال: يا قاتل أمه ... » فذكره بتمامه. وأخرجه مسلم ص 1877 ح 1748 والترمذي 3189 وأبو يعلى 782 من حديث سعد قال: «وحلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل، ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك آمرك بهذا قال: مكثت ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد، فقال ابن لها يقال له عمارة: نسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ ... » وله تتمة عند مسلم.
أخرجه الطبري 27706 بأتم منه، وإسناده لا بأس به لأجل محمد بن شريك، وباقي الإسناد ثقات.
أخرجه الطبري 27703 عن مجاهد مرسلا، وعزاه السيوطي في «الدر» 5/ 270 إلى ابن أبي شيبة والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
__________
(1) لقمان: 15.
(2) الأحقاف: 15.(3/400)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
في أنفسهم وأموالهم افتتنوا، قاله مجاهد.
(1088) والثالث: نزلت في ناس من المنافقين بمكة، كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا أو أصابهم بلاءٌ من المشركين رجعوا إِلى الشِّرك، قاله الضحاك.
(1089) والرابع: أنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، كان أسلم، فخاف على نفسه من أهله وقومه، فخرج من مكة هارباً إِلى المدينة، وذلك قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى المدينة، فجزعت أمُّه فقالت لأخويه أبي جهل والحارث ابني هشام- وهما أخواه لأمِّه-: والله لا آوي بيتاً ولا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تأتياني به، فخرجا في طلبه فظفرا به، فلم يزالا به حتى تابعهما وجاءا به إِليها، فقيَّدتْه، وقالت: والله لا أحُلُّك من وَثاقك حتى تكفُر بمحمد، ثم أقبلت تَجْلِده بالسِّياط وتعذِّبه حتى كفر بمحمد عليه السلام جَزَعاً من الضَّرْب، فنزلت فيه هذه الآية، ثم هاجر بَعْدُ وحَسُنَ إِسلامه، هذا قول ابن السائب، ومقاتل. وفي رواية عن مقاتل أنَّهما جَلَداه في الطريق مائتي جلدة، فتبرَّأ من دين محمد، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي: ناله أذى أو عذاب بسبب إِيمانه جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ أي: ما يصيبه من عذابهم في الدنيا كَعَذابِ اللَّهِ في الآخرة وإِنما ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله تعالى لِمَا يرجو من ثوابه وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ يعني: دولة للمؤمنين لَيَقُولُنَّ يعني المنافقين للمؤمنين إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ على دينكم، فكذَّبهم الله تعالى وقال: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإِيمان والنفاق. وقد فسرنا الآية التي تلي هذه في أوّل السّورة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
قوله تعالى: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا يعنون: ديننا. قال مجاهد: هذا قول كفار قريش لمن آمن من أهل مكة، قالوا لهم: لا نُبعَث نحن ولا أنتم فاتَّبِعونا، فان كان عليكم شيء فهو علينا.
قوله تعالى: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ قال الزجاج: هو أمر في تأويل الشرط والجزاء، يعني إِن اتَّبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم. وقال الأخفش: كأنّهم أمروا أنفسهم بذلك. وقرأ الحسن: «ولِنَحمل» بكسر اللام. قال ابن قتيبة: الواو زائدة، والمعنى: لنحمل خطاياكم.
قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي: فيما ضمنوا من حمل خطاياهم. قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أي: أوزار أنفسهم وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي: أوزاراً مع أوزارهم، وهي أوزار الذين أضلُّوهم، وهذا كقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «1»
__________
أخرجه الطبري 27704 عن الضحاك مرسلا، فهو ضعيف.
عزاه المصنف لمقاتل وهو ساقط الحديث، ومثله ابن السائب، كلاهما ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.
__________
(1) النحل: 25.(3/401)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال توبيخ وتقريع عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الكذب على الله عزّ وجلّ وقال مقاتل: عن قولهم نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله تعالى.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاما فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وفي هذه القصة تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلّم حيث أُعلم أن الأنبياء قد ابتُلوا قبلَه، وفيها وعيد شديد لمن أقام على الشّرك. فانهم وإِن أُمهلوا، فقد أُمهل قوم نوح أكثر ثم أُخذوا. قوله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً اختلفوا في عُمُر نوح على خمسة أقوال «1» .
أحدها: بُعث بعد أربعين سنة، وعاش في قومه ألف سنة إِلا خمسين عاماً يدعوهم، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس «2» . والثاني: أنَّه لبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، وعاش بعد ذلك سبعين عاماً، فكان مبلغ عُمُره ألف سنة وعشرين سنة، قاله كعب الأحبار. والثالث:
أنهُ بعث وهو ابن خمسين وثلاثمائة، فلبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة، قاله عون بن أبي شداد. والرابع: أنَّه لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، ودعاهم ثلاثمائة سنة ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، قاله قتادة. وقال وهب بن منبِّه: بُعث لخمسين سنة. والخامس: أنَّ هذه الآية بيَّنت مقدار عُمُره كلِّه، حكاه الماوردي. فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى:
«إِلَّا خَمْسِينَ عاماً» ، فهلاَّ قال: تسعمائة وخمسين؟ فالجواب: أنَّ المراد به تكثير العدد، وذِكْر الألف أفخم في اللفظ، وأعظم للعدد. وقال الزجاج: تأويل الاستثناء في كلام العرب: التوكيد، تقول:
جاءني إِخوتك إِلا زيداً، فتؤكِّد أَنَّ الجماعة جاءوا، وتنقص زيداً. واستثناء نصف الشيء قبيح جداً لا تتكلّم به العرب، وإنما يتكلّم بالاستثناء كما يتكلّم بالنقصان، تقول: عندي درهم ينقُص قيراطاً، فلو قلت: ينقُص نصفه، كان الأَولى أن تقول: عندي نصف درهم، ولم يأت الاستثناء في كلام العرب إِلاَّ قليل من كثير. قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الموت.
(1090) روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ قال: «الموت» .
والثاني: المطر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة. قال ابن قتيبة: هو المطر الشديد. والثالث:
الغرق، قاله الضحاك. قال الزجاج: الطُّوفان من كل شيء: ما كان كثيراً مطيفاً بالجماعة كلِّها، فالغرق
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 15005، و 15009 من حديث عائشة، وإسناده ضعيف جدا فيه يحيى بن يمان عن منهال بن خليفة عن حجاج بن أرطأة، وثلاثتهم ضعفاء. وزاد نسبته في «الدر» 3/ 203 إلى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه. وأخرجه الطبري من طرق متعددة عن مجاهد قوله، وهو الصواب.
يلاحظ أن المصنف ذكر هذا الخبر عند هذه الآية، وهو وهم، لإجماعهم أن المراد بالطوفان هاهنا الغرق، وإنما أخرجه الطبري وغيره في سياق قصة موسى مع ذكر الآيات الأخر- منها الجراد والقمل وغير ذلك.
__________
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 502- 503: وظاهر سياق الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما، وقول عون بن أبي شداد رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وهذا قول غريب.
(2) هذا القول متلقى عن أهل الكتاب، فما ورد في القرآن هو الذي يجب التصديق به.(3/402)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
الذي يشتمل على المدن الكثيرة: طوفان، وكذلك القتل الذريع، والموت الجارف: طوفان. قوله تعالى: وَهُمْ ظالِمُونَ قال ابن عباس: كافرون.
قوله تعالى: وَجَعَلْناها يعني السفينة، قال قتادة: أبقاها الله تعالى آية للناس بأعلى الجُودِيّ.
قال أبو سليمان الدمشقي: وجاز أن يكون أراد: الفعلة التي فعلها بهم من الغرق آيَةً، أي عِبرة لِلْعالَمِينَ بعدهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 18]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
قوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ قال الزجّاج: هو معطوف على نوح، والمعنى: أرسلنا إِبراهيم.
قوله تعالى: ذلِكُمْ يعني عبادة الله خَيْرٌ لَكُمْ من عبادة الأوثان إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما هو خير لكم مما هو شر لكم والمعنى: ولكنكم لا تعلمون. إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً قال الفراء: «انَّما» في هذا الموضع حرف واحد، وليست على معنى «الذي» ، وقوله تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً مردود على «إِنما» ، كقولك: إِنما تفعلون كذا، وإِنما تفعلون كذا. وقال مقاتل: الأوثان:
الأصنام. قال ابن قتيبة: واحدها وثن، وهو ما كان من حجارة أو جِصّ. قوله تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً وقرأ ابن السميفع، وأبو المتوكل: «وتختلقون» بزيادة تاءٍ. ثم فيه قولان: أحدهما: تختلقون كذباً في زعمكم أنَّها آلهة. والثاني: تصنعون الأصنام فالمعنى: تعبدون أصناماً أنتم تصنعونها. ثم بيَّن عجزهم بقوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي: لا يقدرون على أن يرزقوكم فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أي: فاطلبوا من الله تعالى، فانَّه القادر على ذلك. قوله تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا هذا تهديد لقريش فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ والمعنى: فأهلكوا.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 23]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
أَوَلَمْ يَرَوْا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «يَرَواْ» بالياء. وقرأ حمزة، والكسائي: بالتاء. وعن عاصم كالقراءتين. وعنى بالكلام كفّار مكّة كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي:
كيف يخلُقهم ابتداءً من نطفة، ثم من مُضغة إِلى أن يتم الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ أي: ثم هو يُعيده في الآخرة عند البعث. وقال أبو عبيدة: مجازه: أولم يَرَوا كيف استأنف الله الخلق الأوَّل ثم يعيده. وفيه لغتان:
أبدأ وأعاد، وكان مُبدئاً ومُعيداً، وبدأ وعاد، وكان بادئاً وعائداً.(3/403)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني الخَلْق الأول والخَلْق الثاني. قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: انظروا إِلى المخلوقات التي في الأرض، وابحثوا عنها هل تجدون لها خالقا غير الله عزّ وجلّ، فاذا علموا أنه لا خالق لهم سواه، لزمتهم الحجّة في الإعادة، وهو قوله تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي: ثمّ الله تعالى ينشئهم عند البعث نشأة أخرى. وأكثر القراء قرءوا: «النَّشْأة» بتسكين الشين وترك المد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «النَّشاءَة» بالمد.
قوله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فيه قولان: أحدهما: أنَّه في الآخرة بعد إِنشائهم. والثاني: أنَّه في الدنيا. ثم فيه خمسة أقوال حكاها الماوردي: أحدها: يعذِّب من يشاء بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة. والثاني: يعذِّب بسوء الخُلُق، ويرحم بحُسْن الخُلُق. والثالث: يعذِّب بمتابعة البدعة، ويرحم بملازمة السُّنَّة. والرابع: يعذِّب بالانقطاع إِلى الدنيا، ويرحم بالإِعراض عنها. والخامس: يعذِّب من يشاء ببغض الناس له، ويرحم من يشاء بحبِّ الناس له. قوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي: تُرَدُّون.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ فيه قولان حكاهما الزجاج: أحدهما: وما أنتم بمعجزين في الأرض، ولا أهلُ السماء بمعجزين في السماء. والثاني: وما أنتم بمعجزين في الأرض، ولا لو كنتم في السماء.
وقال قطرب: هذا كقولك: ما يفوتني فلان لا ها هنا ولا بالبصرة، أي: ولا بالبصرة لو صار إِليها. قال مقاتل: والخطاب لكفار مكة والمعنى: لا تَسبقون الله حتى يجزيَكم بأعمالكم السيِّئة، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: قريب ينفعكم وَلا نَصِيرٍ يمنعكم من الله تعالى.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أي: بالقرآن والبعث أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي في الرحمة قولان: أحدهما: الجنة، قاله مقاتل. والثاني: العفو والمغفرة، قاله أبو سليمان.
قال ابن جرير: وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 25]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
ثم عاد الكلام إِلى قصة إِبراهيم، وهو قوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي: حين دعاهم إلى الله تعالى ونهاهم عن الأصنام إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ وهذا بيان لسفه أحلامهم حين قابلوا احتجاجه عليهم بهذا. قوله تعالى: فَأَنْجاهُ اللَّهُ المعنى: فحرَّقوه فأنجاه الله مِنَ النَّارِ. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يشير إِلى إِنجائه إِبراهيم.
قوله تعالى: وَقالَ يعني إِبراهيم إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ» بالرفع والإِضافة. قال الزجاج: «مَوَدَّةُ» مرفوعة باضمار «هي» كأنه قال: تلك مَوَدةُ بينِكم، أي: أُلفتكم واجتماعكم على الأصنام مَوَدَّةُ بينِكم والمعنى: إِنَّما اتخذتم هذه الأوثان لتتوادُّوا بها في الحياة الدنيا. ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي. وقرأ ابن عباس، وسعيد بن المسيّب، وعكرمة، وابن أبي عبلة: «مَوَدَّةٌ» بالرفع «بَيْنَكُمْ» بالنصب. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «مَوَدَّةً بَيْنَكم» قال أبو علي: المعنى: اتَّخذتم الأصنام للمودَّة، و «بينَكم» نصب على الظرف،(3/404)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
والعامل فيه «المودَّة» . وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «مَوَدَّةَ بَيْنِكُم» بنصب «مَوَدَّةَ» مع الإِضافة، وهذا على الاتساع في جعل الظرف اسماً لِما أُضيف إِليه. قال المفسرون: معنى الكلام: إِنَّما اتَّخذتموها لِتَتَّصِلَ المودَّة بينكم واللِّقاء والاجتماع عندها، وأنتم تعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي: يتبرَّأ القادة من الأتباع وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يلعن الأتباعُ القادةَ لأنَّهم زيَّنوا لهم الكفر.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 30]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
قوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي: صدَّق بابراهيم وَقالَ يعني إِبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي فيه قولان: أحدهما: إِلى رضى ربِّي. والثاني: إِلى حيث أمرني ربِّي، فهاجر من سواد العراق إِلى الشام وهجر قومه المشركين. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ بعد إِسماعيل وَيَعْقُوبَ من إِسحاق وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وذلك أن الله تعالى لم يبعث نبيّاً بعد إِبراهيم إِلاَّ مِنْ صُلبه وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا فيه أربعة أقوال: أحدها: الذِّكْر الحسن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: الثناء الحسن والولد الصالح، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: العافية والعمل الحسن والثناء، فلست تَلْقى أحداً من اهل الملَل إِلاَّ يتولاَّه، قاله قتادة. والرابع: أنه أُري مكانَه من الجنة، قاله السدي. قوله تعالى:
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن جرير: له هناك جزاء الصَّالحين غير منقوص من الآخرة بما أُعطي في الدنيا من الأجر. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله تعالى: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا يعترضون مَنْ مَرَّ بهم لعملهم الخبيث، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنهم كانوا إِذا جلسوا في مجالسهم يرمون ابن السبيل بالحجارة، فيقطعون سبيل المسافر، قاله مقاتل. والثالث: أنه قطع النسل للعدول عن النساء إِلى الرجال، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال ابن قتيبة: النادي: المجلس، والمُنْكَر يجمع الفواحش من القول والفعل. وللمفسرين في المراد بهذا المُنْكَر أربعة أقوال:
(1091) أحدها: أنهم كانوا يَحْذِفون أهل الطريق ويسخرون منهم، فذلك المنكر، روته أمّ هانئ
__________
ضعيف جدا، والمتن منكر. أخرجه الترمذي 3190 وأحمد 6/ 341 و 424 والطبري 27743 والحاكم 2/ 409 والطبراني 24/ 1001 وابن أبي الدنيا في «الصمت» 282 من طرق من حديث أم هانئ، وقال الترمذي:
هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث حاتم عن سماك. وإسناده ضعيف جدا، سماك بن حرب تغير حفظه بآخره لذا ضعفه غير واحد، وأبو صالح- واسمه باذام، ويقال باذان- ضعفه غير واحد، وتركه آخرون، وهو ضعيف جدا، روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.
- وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 418 من طريق بشر بن معاد بهذا الإسناد. وأخرجه الطيالسي 1617 والطبراني 24/ 1002 من طريق قيس بن الربيع عن سماك به.
- وأخرجه الطبري 27745 والطبراني 24/ 1000 من طريق أبي يونس القشيري عن سماك به.
الخلاصة: الإسناد ضعيف جدا، والمتن منكر، فإن المنكر المراد في الآية أعظم من حذف المارة والسخرية منهم، بل يشمل اللواط وغيره.
__________
(1) سبق بيانه في سورة الأعراف: 80.(3/405)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
بنت أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقال عكرمة والسدي: كانوا يَحْذِفون كلَّ مَنْ مَرَّ بهم.
والثاني: لَفُّ القميص على اليد، وجرُّ الإِزار، وحَلُّ الأزرارِ، والحذف والرمي بالبندق، ولعب الحمام، والصَّفير، في خصال أُخَر رواها ميمون بن مهران عن ابن عباس.
والثالث: أنه الضُّراط، رواه عروة عن عائشة، وكذلك فسّره القاسم بن محمد.
والرابع: أنه إِتيان الرجال في مجالسهم، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
وهذه الآية تدل على أنه لا ينبغي للمجتمعين أن يتعاشروا إِلا على ما يقرِّب من الله عزّ وجلّ، ولا ينبغي ان يجتمعوا على الهزء واللعب.
قوله تعالى: رَبِّ انْصُرْنِي أي: بتصديق قولي في العذاب.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 35]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
قوله تعالى: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعنون قرية لوط. قوله تعالى: لَنُنَجِّيَنَّهُ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: «لَنُنَجِّيَنَّه» و «إِنَّا مُنَجُّوكَ» بتشديد الحرفين، وخفّفهما حمزة، والكسائيّ. وروى أبو بكر عن عاصم: «لَنُنَجِّيَنَّه» مشددة، و «إِنَّا مُنْجُوكَ» مخففة ساكنة النون. وقد سبق شرح ما أخللنا بذكره «1» إلى قوله تعالى: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً وهو الحَصْب والخسف. قوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها في المكني عنها قولان: أحدهما: أنها الفَعْلة التي فعل بهم فعلى هذا في الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحجارة التي أدركت أوائل هذه الأُمَّة، قاله قتادة.
والثاني: الماء الاسود على وجه الأرض، قاله مجاهد. والثالث: الخبر عما صُنع بهم. والثاني: أنها القرية فعلى هذا في المراد بالآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها آثار منازلهم الخَرِبة، قاله ابن عباس.
__________
(1) هود: 77.(3/406)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
والثاني: أن الآية في قريتهم إِلى الآن أنّ أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها، أسفلها، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
والثالث: أن المعنى: تركناها آية، تقول: إِن في السماء لآية، تريد أنها هي الآية، قاله الفراء.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37)
قوله تعالى: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قال المفسرون: اخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 38 الى 40]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
قوله تعالى: وَعاداً وَثَمُودَ قال الزّجّاج: وأهلكنا عاداً وثموداً، لأن قبل هذا فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ. قوله تعالى: وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي: ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجاز واليمن آية في هلاكهم، وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ قال الفراء: أي: ذوي بصائر. وقال الزجاج: أتوا ما أتوه وقد تبين لهم أن عاقبته عذابهم. وقال غيره: كانوا عند أنفسهم مستبصِرِين يظنون أنهم على حق.
قوله تعالى: وَما كانُوا سابِقِينَ أي: ما كانوا يفوتون الله تعالى أن يفعل بهم ما يريد.
قوله تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ أي: عاقبْنا بتكذيبه فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً يعني قوم لوط وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعني ثموداً وقوم شعيب وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعني قارون وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا يعني قوم نوح وفرعون وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيعذِّبهم على غير ذنب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالإقامة على المعاصي.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 43]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)
قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني الأصنام يتخذها المشركون أولياء يرجون نفعها ونصرها، فمَثَلهم في ضعف احتيالهم كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً قال ثعلب:
والعنكبوت أنثى، وقد يذكِّرها بعض العرب، قال الشاعر:
كأنَّ العَنْكَبُوتَ هو ابْتَناها «1» قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ أي: هو عالِم بما عبدوه من دونه، لا
__________
(1) هو عجز بيت وصدره: على هطّالهم منهم بيوت، والبيت غير منسوب في «اللسان» - عنكب-.(3/407)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
يخفى عليه ذلك والمعنى أنه يجازيهم على كفرهم. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ يعني أمثال القرآن التي شبّه بها أحوال الكفار، وقيل: إِن «تلك» بمعنى «هذه» ، والْعالِمُونَ الذين يعقلون عن الله عزّ وجلّ.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 44 الى 45]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: للحق، ولإِظهار الحق.
قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ في المراد بالصلاة قولان:
أحدهما: أنها الصلاة المعروفة، قاله الأكثرون.
(1092) وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ لم تَنْهَهُ صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلّا بعدا» .
__________
المرفوع واه ليس بشيء، أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 421 من حديث أنس، وفيه عمر بن شاكر وهو منكر الحديث. وله شاهد من حديث ابن عباس. أخرجه الطبراني 11025 والقضاعي في «الشهاب» 509 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 511 من طريق ليث عن طاوس عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ضعيف، ليث هو ابن أبي سليم. قال عنه الحافظ في «التقريب» : صدوق، اختلط أخيرا، ولم يتميز حديثه فترك. وبه أعله الهيثمي في «المجمع» 1/ 134. وله شاهد من حديث عمران بن حصين، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 511 من طريق عمر بن أبي عثمان عن الحسن عن عمران به. وإسناده ضعيف جدا، وله علتان: عمر هذا لم أجد له ترجمة، والحسن لم يلق عمران، وهو مدلس، وقد عنعن. وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه الطبري 27784 والواحدي 3/ 421 من طريق جويبر عن الضحاك عنه. وهذا إسناد ساقط، جويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن مسعود. وورد من مرسل الحسن، أخرجه الطبري 27785 من طريق إسماعيل بن مسلم عنه. ومع إرساله إسماعيل هذا متروك. وأخرجه القضاعي 508 من وجه آخر عن مقدام بن داود عن علي بن معبد عن هشيم عن يونس عن الحسن مرسلا. ورجاله ثقات سوى مقدام بن داود، فإنه ليس بثقة، قاله النسائي. ولعله توبع، فقد قال العراقي في «تخريج الإحياء» 1/ 143: أخرجه علي بن معبد في كتاب «الطاعة والمعصية» من حديث الحسن بإسناد صحيح. قلت: ومع ذلك مراسيل الحسن واهية لأنه يحدث عن كل أحد. كما هو مقرر في كتب التراجم. وقد خولف علي بن معبد فيه، فقد أخرجه الطبري 27786 عن يعقوب ثنا ابن علية عن يونس عن الحسن. قوله، لم يرفعه. وهذا إسناد رجاله ثقات مشاهير.
وأخرجه الطبري 27787 من طريق بشر عن يزيد عن سعيد هو ابن أبي عروبة- عن قتادة والحسن قالا ...
فذكره موقوفا عليهما. وهو الصحيح عن الحسن وغيره. وحديث ابن مسعود المتقدم، مع سقوط إسناده، هو معلول بالوقف، كذا أخرجه الطبري 27783 ورجاله ثقات. وحديث ابن عباس، معلول أيضا بالوقف، كذا أخرجه الطبري 27781 لكن فيه من لم يسم. وقال الحافظ ابن كثير 3/ 512: والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم. الخلاصة: المرفوع ضعيف ليس بشيء، والصحيح وقفه على من ذكر من الصحابة والتابعين، والله أعلم. والمتن مع ذلك منكر، فقد صح ما يخالفه، وهو ما أخرجه أحمد 2/ 447 والبزار 720 وابن حبان 2560 من حديث أبي هريرة بسند صحيح «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، فقال: إنه سينهاه ما تقول» . انظر «تفسير الشوكاني» 1887 أو 1888 و «أحكام القرآن» 1733.(3/408)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
والثاني: أنّ المراد بالصلاة: القرآن، قاله ابن عمر، ويدلّ على هذا قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ «1» وقد شرحنا معنى الفحشاء والمنكر فيما سبق «2» .
وفي معنى هذه الآية للعلماء ثلاثة أقوال: أحدها: أن الإِنسان إِذا أدَّى الصلاة كما ينبغي وتدبَّر ما يتلو فيها، نهته عن الفحشاء والمنكر، هذا مقتضاها وموجبها. والثاني: أنها تنهاه ما دام فيها. والثالث:
أن المعنى: ينبغي أن تنهى الصلاةُ عن الفحشاء والمنكر.
قوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فيه أربعة أقوال:
(1093) أحدها: ولَذِكْرُ الله إِيَّاكم أكبرُ من ذِكْركم إِيَّاه، رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبه قال ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد في آخرين.
والثاني: ولَذِكْرُ الله تعالى أفضلُ من كل شيء سواه، وهذا مذهب أبي الدرداء، وسلمان، وقتادة.
والثالث: ولَذِكْرُ الله تعالى في الصلاة أكبرُ ممََّا نهاك عنه من الفحشاء والمُنكَر، قاله عبد الله بن عون.
والرابع: ولذكر الله تعالى العبدَ- ما كان في صلاته- أكبرُ من ذكر العبد لله تعالى، قاله ابن قتيبة.
[سورة العنكبوت (29) : آية 46]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ في التي هي أحسن ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها لا إله إلا الله، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنها الكفُّ عنهم إِذا بذلوا الجزية، فان أبَواْ قوتِلوا، قاله مجاهد. والثالث: أنها القرآن والدّعاء إلى الله تعالى بالآيات والحُجج. قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وهم الذين نصبوا الحرب وأبَواْ أن يؤدُّوا الجزية، فجادِلوا هؤلاء بالسيف حتى يُسْلِموا أو يُعطوا الجزية وَقُولُوا لِمَن أدَّى الجزية منهم إِذا أخبركم بشيء ممَّا في كتبهم آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الآية.
(1094) وقد روى أبو هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التّوراة بالعبرانيّة، ويفسّرونها بالعربية
__________
المرفوع ضعيف جدا، والصحيح موقوف. أخرجه ابن الديلمي في «زهر الفردوس» 4/ 165 من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن موسى بن عقبة به عن ابن عمر. وإسناده ضعيف جدا، إسماعيل ضعفه غير واحد، وعنه مجاهيل، والصحيح موقوف على ابن عمر وابن عباس وغيرهما.
- وأثر ابن عباس، أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 2256 وابن أبي شيبة 35640 والطبري 27791 و 27792 و 27793 و 27794 و 27797 و 27799 من طرق متعددة عنه موقوفا، وهو الصحيح.
صحيح. أخرجه البخاري 4485 و 7362 و 7542 والنسائي في «التفسير» 407 والبغوي 125 من حديث أبي هريرة. ويشهد له حديث أبي نملة. أخرجه عبد الرزاق 20059 وأحمد 4/ 136 وأبو داود 3644 وابن حبان 6257 والطبراني 22/ 874 و 875 كلهم من حديث أبي نملة الأنصاري، ورجاله رجال الشيخين، سوى نملة بن أبي نملة، وهو ثقة. فقد وثقه ابن حبان، وروى عنه جمع منهم الزهري وعاصم ويعقوب ابنا عمر بن قتادة، وضمرة بن سعيد، ومروان بن أبي سعيد، وعلى هذا تزول جهالته حيث روى عنه أكثر من واحد، وقال عنه الحافظ في «التقريب» مقبول.
__________
(1) الإسراء: 110.
(2) البقرة: 168- النحل: 90. [.....](3/409)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذِّبوهم وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» الآية.
فصل:
واختُلف في نسخ هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نُسخت بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله تعالى: وَهُمْ صاغِرُونَ «1» ، قاله قتادة والكلبي. والثاني: أنها ثابتة الحكم، وهو مذهب ابن زيد.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 الى 49]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: وكما أنزلنا الكتاب عليهم أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني مؤمني أهل الكتاب وَمِنْ هؤُلاءِ يعني أهل مكة مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وهم الذين أسلموا وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ قال قتادة: إِنَّما يكون الجَحْد بعد المعرفة. قال مقاتل: وهم اليهود.
قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ قال أبو عبيدة: مجازه: ما كنت تقرأ قبله كتاباً، و «مِن» زائدة. فأما الهاء في «قَبْله» فهي عائدة إِلى القرآن. والمعنى: ما كنتَ قارئاً قبل الوحي ولا كاتباً، وهكذا كانت صفته في التوراة والإِنجيل أنَّه أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وهذا يدلّ على ان الذي جاء به، من عند الله تعالى. قوله تعالى: إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي: لو كنتَ قارئاً كاتباً لشكَّ اليهودُ فيكَ ولقالوا: ليست هذه صفته في كتابنا. والمُبْطِلون: الذين يأتون الباطل، وفيهم ها هنا قولان: أحدهما:
كفار قريش، قاله مجاهد. والثاني: كفار اليهود، قاله مقاتل.
قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ في المكنيِّ عنه قولان: أحدهما: أنه النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى: بل وجْدانُ أهل الكتاب في كتبهم أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلّم لا يكتب ولا يقرأ، وأنه أُمِّيٌّ، آياتٌ بيِّنات في صدورهم، وهذا مذهب ابن عباس، والضحاك، وابن جريج.
والثاني: أن المعنى: بل محمّد عليه السلام ذو آيات بيِّنات في صدور الذين أوتوا العِلْم من أهل الكتاب، لأنَّهم يجدونه بنعته وصفته، قاله قتادة. والثاني: أنه القرآن، والذين أوتوا العلم: المؤمنون الذين حملوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحملوه بعده. وإِنما أُعطي الحفظ هذه الأمة، وكان من قبلهم لا يقرءون كتابهم إِلاَّ نظراً، فاذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه سوى الأنبياء، وهذا قول الحسن. وفي المراد بالظالمين ها هنا قولان: أحدهما: المشركون، قاله ابن عباس. والثاني: كفّار اليهود، قاله مقاتل.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)
__________
(1) التوبة: 29.(3/410)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
قوله تعالى: وَقالُوا يعني كفار مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «آياتٌ» على الجمع. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «آيةٌ» على التوحيد. وإِنما أرادوا: كآيات الأنبياء قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو القادر على إِرسالها، وليست بيدي. وزعم بعض علماء التفسير أنّ قوله تعالى: وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ منسوخ بآية السيف. ثم بيّن الله عزّ وجلّ أن القرآن يكفي من الآيات التي سألوها بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ؟! (1095) وذكر يحيى بن جعدة أن ناساً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكتب قد كتبوها، فيها بعض ما يقول اليهود، فلمَّا نظر إِليها ألقاها وقال: «كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عمَّا جاء به نبيُّهم إِلى قوم غيرهم» فنزلت: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ إِلى آخر الآية.
قوله تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ قال المفسرون: لمَّا كذَّبوا بالقرآن نزلت: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَشهَد لي أنِّي رسوله، ويشهد عليكم بالتكذيب، وشهادةُ الله له: إِثبات المعجزة له بانزال الكتاب عليه، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس: بغير الله تعالى. وقال مقاتل: بعبادة الشيطان.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
قوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ قال مقاتل: نزلت في النَّضْر بن الحارث حين قال: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» . وفي الأجل المسمى أربعة أقوال. أحدها: أنه يوم القيامة، قاله سعيد بن جبير. والثاني: أجل الحياة إِلى حين الموت، وأجل الموت إِلى حين البعث، قاله قتادة. والثالث: مُدَّة أعمارهم، قاله الضحاك. والرابع: يوم بدر، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ يعني العذاب. وقرأ معاذ القارئ، وأبو نهيك، وابن أبي عبلة:
«ولَتَأْتِيَنَّهم» بالتاء بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ باتيانه. قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي:
__________
مرسل. أخرجه الطبري 27838 عن يحيى بن جعدة بهذا اللفظ، وهذا مرسل.
- وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» 5/ 283 كلهم عن يحيى بن جعدة. بدون لفظ «فلما أن نظر فيها ألقاها» إنما- فقال: «كفى بها حماقة أو ضلالة قوم، أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم، إلى ما جاء به غير نبيُّهم إِلى قوم غيرهم» فنزلت: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ... الآية- ولمعناه شواهد.
__________
(1) الأنفال: 32.(3/411)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
جامعة لهم. قوله تعالى: وَيَقُولُ ذُوقُوا قرأ ابن كثير: بالنون. وقرأ نافع: بالياء. فمن قرأ بالياء، أراد الملَك الموكَّل بعذابهم، ومن قرأ بالنون، فلأنَّ ذلك لمَّا كان بأمر الله تعالى جاز أن يُنسَب إِليه. ومعنى ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: جزاء ما عملتم من الكفر والتّكذيب.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: يا عِبادِيَ
بتحريك الياء. وقرأ أبو عمرو، والكسائي: باسكانها.
قوله تعالى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
وقرأ ابن عامر وحده: «أرضيَ» بفتح الياء، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه خطاب لِمَن آمن مِنْ أهل مكة، قيل لهم: «إِن أرضي» يعني المدينة «واسعة» ، فلا تجاوروا الظَّلَمة في أرض مكة، قاله أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال مقاتل: نزلت في ضُعفاء مُسْلِمي مكة، أي: إِن كنتم في ضيق بمكة من إِظهار الإِيمان، فارض المدينة واسعة. والثاني: أن المعنى: إِذا عُمل بالمعاصي في أرض فاخرجوا منها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عطاء. والثالث:
إِنَّ رزقي لكم واسع، قاله مطرف بن عبد الله.
قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أثبت فيها الياء يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون. قال الزجّاج:
أمرهم بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله إِلى حيث تتهيَّأُ لهم العبادة ثم خوَّفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة، فقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ المعنى: فلا تُقيموا في دار الشِّرك خوفاً من الموت ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ بعد الموت فنجزيكم بأعمالكم، والأكثرون قرءوا: «تُرْجَعون» بالتاء على الخطاب وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء.
قوله تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ» بالباء، أي: لَنُنْزِلَنَّهم. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «لَنُثْوِيَنَّهُمْ» بالثاء، وهو من: ثويتُ بالمكان:
إِذا أقمت به. قال الزجاج: يقال: ثوى الرجل: إِذا أقام، وأثويتُه: إِذا أنزلتَه منزلاً يُقيم فيه. قوله تعالى:
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا. قال ابن عباس:
(1096) لمّا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالخروج إِلى المدينة، قالوا: يا رسول الله، نخرُج إِلى المدينة وليس لنا بها عقار ولا مال؟! فمن يؤوينا ويطعمنا؟ فنزلت هذه الآية.
قال ابن قتيبة: ومعنى الآية: كم مِنْ دابَّة لا ترفَعُ شيئاً لغدٍ، قال ابن عُيَيْنَةَ: ليس شيءٌ يَخْبَأُ إِلا الإِنسانُ والفأرةُ والنملة. قال المفسرون وقوله: اللَّهُ يَرْزُقُها أي: حيث ما توجّهت وَإِيَّاكُمْ أي:
__________
لم أقف عليه مسندا. وذكر الواحدي في الوسيط 424 نحوه عن مقاتل بدون إسناد، فهو لا شيء، ومقاتل إن كان ابن حيان، فقد روى مناكير، وإن كان ابن سليمان فهو كذاب.(3/412)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
ويرزُقكم إِن هاجرتم إِلى المدينة وَهُوَ السَّمِيعُ لقولكم: لا نجد ما نُنْفِق بالمدينة الْعَلِيمُ بما في قلوبكم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 63]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)
قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعني كفار مكة، وكانوا يُقِرُّون بأنه الخالق والرَّازق وإِنَّما أمَره أن يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ على إِقرارهم، لأن ذلك يُلزمهم الحُجَّة فيوجِب عليهم التوحيد بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ توحيد الله مع إِقرارهم بأنه الخالق. والمراد بالأكثر: الجميع.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 66]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
قوله تعالى: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ والمعنى: وما الحياةُ في هذه الدنيا إِلا غرور ينقضي عن قليل وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني الجنة لَهِيَ الْحَيَوانُ قال أبو عبيدة: اللام في «لَهِيَ» زائدة للتوكيد، والحيوان والحياة واحد والمعنى: لهي دارُ الحياة التي لا موتَ فيها، ولا تنغيص يشوبها كما يشوب الحياة في الدُّنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي: لو علموا لرغبوا عن الفاني في الباقي، ولكنهم لا يَعْلَمون. قوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ يعني المشركين دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: أفردوه بالدُّعاء. قال مقاتل: والدِّين بمعنى التوحيد والمعنى أنهم لا يَدْعُون مَنْ يَدْعُونه شريكاً له، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ أي: خلَّصهم من أهوال البحر، وأَفْضَوا إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ في البَرّ، وهذا إِخبار عن عنادهم لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ هذه لام الأمر، ومعناه التّهديد والوعيد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1» والمعنى: ليَجْحَدوا نِعْمة الله في إِنجائه إِيَّاهم وَلِيَتَمَتَّعُوا قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي باسكان اللام على معنى الأمر والمعنى: ليتمتعوا بباقي أعمارهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم.
وقرأ الباقون بكسر اللام في «لِيَتَمتَّعُوا» ، فجعلوا اللاَّمين بمعنى «كي» ، فتقديره: لكي يكفُروا، ولكي يَتَمتَّعوا، فيكون معنى الكلام: إِذا هم يُشْرِكون ليكفُروا ولِيتمتَّعوا، أي: لا فائدة لهم في الإِشراك إِلاّ الكفر والتمتُّع بما يتمتَّعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في الآخرة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 67 الى 69]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
__________
(1) فصلت: 40.(3/413)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا يعني كفار مكة أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً يعني مكة، وقد شرحنا هذا المعنى في سورة القصص «1» وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أي: أن العرب يَسْبي بعضهم بعضاً وأهلُ مكة آمنون أَفَبِالْباطِلِ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: الشِّرك، قاله قتادة. والثاني: الأصنام، قاله ابن السائب. والثالث: الشيطان، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وعاصم الجحدري: «تُؤْمِنونَ وبنِعمة الله تكفُرونَ» بالتاء فيهما. قوله تعالى: وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يعني: محمداً والإِسلام، وقيل: بانعام الله عليهم حين أطعمهم وآمنهم يَكْفُرُونَ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: زعم أن له شريكاً وأنه أمر بالفواحش أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ يعني محمداً والقرآن أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟! وهذا استفهام بمعنى التقرير، كقول جرير:
ألَسْتُمْ خَيْرَ من ركب المطايا «2»
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أي: قاتلوا أعداءنا لأجلنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي: لَنُوَفّقَنَّهم لإِصابة الطريق المستقيمة وقيل: لَنَزِيدنَّهم هِدايَة وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنُّصرة والعون. قال ابن عباس: يريد بالمُحْسِنِين: الموحِّدين وقال غيره: يريد المجاهدين. وقال ابن المبارك: من اعتاصت عليه مسألة، فليسأل أهل الثّغور عنها، لقوله تعالى: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا.
والله أعلم بالصّواب
__________
(1) القصص: 57.
(2) هو صدر بيت لجرير كما في ديوانه: 98. وعجزه: وأندى العالمين بطون راح.(3/414)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
سورة الرّوم
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ.
(1097) ذكر أهل التفسير في سبب نزولها أنه كان بين فارس والروم حرب فغلبت فارس الرُّومَ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابَه، فشقَّ ذلك عليهم، وفرح المشركون بذلك، لأنَّ فارس لم يكن لهم كتاب وكانوا يجحدون البعث ويعبُدون الأصنام، والرُّوم أصحاب كتاب، فقال المشركون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أُمِّيُونَ، وقد ظهر إِخواننا من أهل فارس على إِخوانكم من الرُّوم، فان قاتلتمونا لَنَظْهَرَنَّ عليكم، فنزلت هذه الآية، فخرج بها أبو بكر الصديق إِلى المشركين، فقالوا: هذا كلام صاحبك؟ فقال: اللهُ أَنزل هذا، فقالوا لأبي بكر: نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس، فقال أبو بكر: البِضْع ما بين الثلاث إِلى التسع، فقالوا: الوسط من ذلك ست، فوضعوا الرِّهان، وذلك قبل أن يُحرَّم الرِّهان، فرجع أبو بكر إِلى أصحابه فأخبرهم، فلاموه وقالوا: هلاَّ أقررتَها كما أقرَّها الله تعالى؟! لو شاء أن يقول: ستاً، لقال! فلمَّا كانت سنة ست، لم تظهر الروم على فارس، فأخذوا الرهان، فلمَّا كانت سنة سبع ظهرت الرُّومُ على فارس.
(1098) وروى ابن عباس قال: لمَّا نزلت: آلم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ ناحب أبو بكر قريشا، فقال له
__________
حديث صحيح بشواهده، دون بعض ألفاظ سأذكرها منكرة ليس لها شواهد. أخرجه الترمذي 3194 من طريق إسماعيل بن أويس عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم به.
وإسناده لين، إسماعيل بن أبي أويس، وثقه قوم وضعفه آخرون. وقد تفرد في هذا الحديث بألفاظ منها «فأخذ المشركون رهن أبي بكر» غريب، فعامة الروايات تذكر الخطر، من غير بيان أنه أبو بكر أو أخذه المشركون.
على أنه ورد من حديث البراء أن أبا بكر هو أخذ الرهن. وقد ذكر الألباني هذا الحديث في «صحيح الترمذي» 2552 فحسنة من غير تفصيل وبيان لما فيه من ألفاظ غريبة أو منكرة، والله الموفق. وانظر «فتح القدير» 1902 و «تفسير القرطبي» 4890 و «أحكام القرآن» 1738 بتخريجنا، والله أعلم.
صحيح. أخرجه الترمذي 3191 والطبري 7866 عن ابن عباس، وهو مختصر، وإسناده غير قوي لأجل عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي. ولحديث ابن عباس طريق آخر، أخرجه الترمذي 3193 والنسائي في «الكبرى» 11389 وفي «التفسير» 409 وأحمد 1/ 276- 304 والحاكم 2/ 410 والطبراني 12/ 12377 والطبري 27865 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 330- 331 من طرق عن أبي إسحاق الفزاري عن الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، أبو إسحاق هو إبراهيم بن محمد الحارث روى له الشيخان، ومن دونه توبعوا، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح. وهذا المتن أصح شيء في الباب، ولأصله شواهد كثيرة منها الآتي لكن في بعض ألفاظها نكارة وغرابة أحيانا. وله طريق آخر، أخرجه الطبري 27867، وفي الإسناد مجاهيل، وفيه أيضا عطية العوفي، وهو واه. وله شاهد عن ابن مسعود، أخرجه الطبري 27876، وفيه إرسال بين الشعبي وابن مسعود، ورجال الإسناد ثقات. وله شاهد عن البراء بن عازب، أخرجه أبو يعلى كما في «المطالب العالية» 3698، وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 522 وإسناده ضعيف، فيه مؤمل بن إسماعيل، وضعفه غير واحد لسوء حفظه. وفي الباب مراسيل تشهد لأصله منها:
مرسل عكرمة: أخرجه الطبري 27872 وكرره 27873. مرسل قتادة: أخرجه الطبري 27874. مرسل ابن زيد: أخرجه الطبري 27878.
- الخلاصة هو حديث صحيح، له شواهد وطرق كما ترى، وفي بعض ألفاظ تلك الشواهد والطرق نكارة أحيانا وغرابة أحيانا أخرى، لكن مع ذلك تشهد لأصل هذا الحديث: وتدل على ثبوته، والله أعلم.
- وانظر «تفسير القرطبي» 4889 و 480 و 4891 و «فتح القدير» 1900 و 1901 و 1902 و 1903 و «أحكام القرآن» 1737 وهي جميعا بتخريجنا، والله الموفق.(3/415)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألا احتطتَ، فانَّ البِضْع ما بين السبع والتسع» . وذكر بعضهم أنهم ضربوا الأجَل خمس سنين، وقال بعضهم: ثلاث سنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِنما البِضْع ما بين الثلاث إِِلى التسع» فخرج أبو بكر فقال لهم: أُزايدُكم في الخطر وأَمُدُّ في الأجَل إِلى تسع سنين، ففعلوا، فقهرهم أبو بكر، وأخذ رهانهم. وفي الذي تولَّى وضع الرهان من المشركين قولان: أحدهما: أُبيُّ بن خلف، قاله قتادة.
والثاني: أبو سفيان بن حرب، قاله السدي.
قوله تعالى: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وقرأ أُبيُّ بن كعب، والضحاك، وأبو رجاء، وابن السميفع: «في أَداني الأرض» بألف مفتوحة الدال أي: أقرب الأرض أرض الروم إِلى فارس. قال ابن عباس: وهي طرف الشام. وفي اسم هذا المكان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إِلى فارس، قاله مجاهد. والثاني: أذْرِعات وكَسْكَر، قاله عكرمة. والثالث: الأردنُّ وفلسطين، قاله السدي.
قوله تعالى: وَهُمْ يعني الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ وقرأ أبو الدرداء، وأبو رجاء، وعكرمة، والأعمش: «غَلْبهم» بتسكين اللام أي: من بعد غلبة فارس إِيَّاهم، والغَلَب والغَلَبة لغتان، سَيَغْلِبُونَ فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ، في البِضْع تسعة أقوال قد ذكرناها في يوسف «1» . قال المفسّرون: وهي ها هنا سبع سنين، وهذا من علم الغيب الذي يدل على أن القرآن حق، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي: من قبل ان تُغلَب الروم ومِنْ بَعْد ما غَلبت والمعنى أن غَلَبة الغالب وخِذْلان المغلوب، بأمر الله عزّ وجلّ وقضائه وَيَوْمَئِذٍ يعني يوم غلبت الرومُ فارس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ للروم. وكان التقاء الفريقين في السنة السابعة من غَلَبة فارس إيّاهم، فغلبتهم الرّوم، وجاء
__________
(1) يوسف: 42.(3/416)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
جبريلُ يخبر بنصر الروم على فارس، فوافق ذلك يوم بدر، وقيل: يوم الحديبية «1» .
[سورة الروم (30) : الآيات 6 الى 8]
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)
قوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ أي: وَعَدَ اللهُ ذلك وَعْداً لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أنَّ الرُّوم يَظهرون على فارس وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعني كفّار مكّة لا يَعْلَمُونَ أنّ الله تعالى لا يُخْلِف وعده في ذلك.
ثم وصف كفار مكة، فقال: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا قال عكرمة: هي المعايش. وقال الضحاك:
يعلمون بنيان قصورها وتشقيق أنهارها. وقال الحسن: يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم، ولقد بلغ واللهِ مِنْ عِلْم أحدهم بالدنيا أنه ينقُر الدرهم بظُفره فيُخبرك بوزنه ولا يُحسن يصلِّي. قوله تعالى: وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ لأنهم لا يؤمنون بها. قال الزجاج: وذِكْرهم ثانية يجري مجرى التوكيد، كما تقول: زيد هو عالم، وهو أوكد من قولك: زيد عالم. قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قال الزّجّاج: معناه: أو لم يتفكروا فيعلموا فحذف «فيعلموا» لأن في الكلام دليلاً عليه. ومعنى إِلَّا بِالْحَقِّ: إِلاَّ للحق، أي: لإِقامة الحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت الجزاء وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ المعنى: لكافرون بلقاء ربِّهم، فقدِّمت الباء، لأنها متّصلة ب «كافرون» وما اتصل بخبر «إِنَّ» جاز أن يقدَّم قبل اللام، ولا يجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر من غير خلاف بين النحويين، لا يجوز أن تقول: إِن زيداً كافرٌ لَبِالله، لأن اللام حَقُّها أن تدخل على الابتداء والخبر أو بين الابتداء والخبر، لأنها تؤكِّد الجملة. وقال مقاتل في قوله تعالى: وَأَجَلٍ مُسَمًّى: للسّماوات والأرض أَجَل ينتهيان إِليه، وهو يوم القيامة وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعني كفار مكة بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي: بالبعث لَكافِرُونَ.
[سورة الروم (30) : الآيات 9 الى 11]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: أو لم يسافروا فينظروا مصارع الأُمم قبلهم كيف أُهلكوا بتكذيبهم فيعتَبروا.
قوله تعالى: وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي: قلبوها للزراعة، ومنه قيل للبقرة: مثيرة. وقرأ أبيّ بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو حيوة: «وآثَرُوا الأرض» بمد الهمزة وفتح الثاء مرفوعة الراء، وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي: أكثر من عِمارة أهل مكة، لطول أعمار أولئك وشدّة قوّتهم وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
__________
(1) هذا منكر فإن السورة مكية جميعا باتفاق.(3/417)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
بِالْبَيِّناتِ أي: بالدَّلالات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بتعذيبهم على غير ذنب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر والتكذيب ودلَّ هذا على أنهم لم يؤمنوا فأُهلكوا.
ثم أخبر عن عاقبتهم فقال: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى يعني الخَلَّة السيِّئة وفيها قولان:
أحدهما: أنها العذاب، قاله الحسن. والثاني: جهنم، قاله السدي. قوله تعالى: أَنْ كَذَّبُوا قال الفراء: لأن كذَّبوا، فلمَّا أُلقيت اللامُ كان نصباً، وقال الزجاج: لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم. وقيل:
السُّوأى مصدر بمنزلة الإِساءَة فالمعنى: ثم كان التكذيب آخرَ أمرهم، أي: ماتوا على ذلك، كأنَّ الله تعالى جازاهم على إِساءَتهم أن طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب عقوبةً لهم. وقال مكي بن أبي طالب النحوي: «عاقبةُ» اسم كان، و «السُّوأى» خبرها، و «أن كذَّبوا» مفعول من أجله ويجوز أن يكون «السُّوأى» مفعولة ب «أساؤوا» ، و «أن كذَّبوا» خبر كان، ومن نصب «عاقبةَ» جعلها خبر «كان» ، و «السُّوأى» اسمها، ويجوز أن تكون «أن كذَّبوا» اسمها. وقرأ الأعمش: «أساؤوا السُّوءُ» برفع السّوء» .
قوله تعالى: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي: يخلُقهم أوّلاً، ثم يعيدهم بعد الموت أحياءً كما كانوا، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «تُرْجَعون» بالتاء فعلى هذا يكون الكلام عائداً من الخبر إِلى الخطاب، وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: بالياء، لأن المتقدِّم ذِكْره غَيبة، والمراد بذِكر الرجوع: الجزاءُ على الأعمال، والخَلْق بمعنى المخلوقين، وإِنما قال: «يُعِيده» على لفظ الخلق.
[سورة الروم (30) : الآيات 12 الى 16]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
قوله تعالى: يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ قد شرحنا الإِبلاس في سورة الأنعام «1» . قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ أي: من أوثانهم التي عبدوها شُفَعاءُ في القيامة وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يتبرَّؤون منها وتتبرَّأ منهم. قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ وذلك بعد الحساب ينصرف قوم إِلى الجنة، وقوم إِلى النار. قوله تعالى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ الرَّوضة: المكان المخضرُّ من الأرض وإِنَّما خصَّ الروضة، لأنها كانت أعجب الأشياء إِلى العرب قال أبو عبيدة: ليس شيءٌ عند العرب أحسنَ من الرياض المُعْشِبة ولا أطيبَ ريحاً، قال الأعشى:
مَا رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
يَوْماً بأطْيَبَ مِنْها نَشْرَ رائحَةٍ ... وَلا بأحْسَنَ مِنْها إِذ دَنا الأُصُلُ «2»
قال المفسرون: والمراد بالروضة: رياض الجنة. وفي معنى «يُحْبَرون» أربعة أقوال: أحدها:
__________
(1) الأنعام: 44.
(2) في «اللسان» : السّبل: المطر، وقيل: المطر السبل. وقد أسبلت السماء، وأسبل المطر.(3/418)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
يُكْرَمون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: ينعمون، قاله مجاهد، وقتادة. وقال الزجاج:
والحَبْرَة في اللغة: كل نَغْمَةَ حسنَة. والثالث: يفرحون، قاله السدي. وقال ابن قتيبة: «يُحْبَرون» يُسَرُّون، والحَبْرَة السُّرور. والرابع: أن الحَبْر: السّماع في الجنّة، فإذ أخذ أهل الجنة في السماع، لم تبق شجرة إِلاَّ ورَّدت، قاله يحيى بن أبي كثير. وسئل يحيى بن معاذ: أيّ الأصوات أحسن؟ فقال:
مزامير أُنس، في مقاصير قُدس، بألحان تحميد، في رياض تمجيد فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «1» .
قوله تعالى: فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي: هم حاضرون العذاب أبداً لا يخفَّف عنهم.
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
ثم ذكر ما تُدْرَك به الجنة ويُتباعَد به من النار فقال: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ قال المفسّرون:
المعنى: فصلّوا لله عزّ وجلّ حين تُمسون، أي: حين تدخُلون في المساء وَحِينَ تُصْبِحُونَ أي:
تدخلون في الصّباح، وتُظْهِرُونَ تدخُلون في الظهيرة، وهي وقت الزَّوال، وَعَشِيًّا أي: وسبِّحوه عشيّاً. وهذه الآية قد جمعت الصّلوات الخمس، فقوله تعالى: «حين تُمسون» يعني به صلاة المغرب والعشاء، «وحين تصبحون» يعني به صلاة الفجر، «وعشيّاً» العصر، و «حين تُظْهِرونَ» الظُّهر. قوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: يَحْمَده أهل السموات وأهل الأرض ويصلُّون له. قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فيه أقوال قد ذكرناها في سورة آل عمران «2» . قوله تعالى:
وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي: يجعلها مُنْبِتة بعد أن كانت لا تُنْبِت، وتلك حياتها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تُخْرَجون» بضم التاء، وفتحها حمزة والكسائي والمراد: تخرجون يوم القيامة من الأرض، أي: كما أحيا الأرض بالنبات يُحييكم بالبعث.
[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 29]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
__________
(1) القمر: 55.
(2) آل عمران: 27.(3/419)
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أي: من دلائل قدرته أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم لأنه أصل البشر ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ من لحم ودم، يعني ذرّيته تَنْتَشِرُونَ يعني تنبسطون في الأرض.
قوله تعالى: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً فيه قولان: أحدهما: أنه يعني بذلك آدم، خلق حوَّاء من ضِلعه، وهو معنى قول قتادة. والثاني: أن المعنى: جعل لكم آدميَّات مثلكم ولم يجعلهنَّ من غير جنسكم، قاله الكلبي. قوله تعالى: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي: لتأووا إِلى الأزواج وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً وذلك أن الزوجين يتوادَّان ويتراحمان من غير رَحِم بينهما إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكره من صنعه لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في قدرة الله عزّ وجلّ وعظَمته. قوله تعالى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ يعني اللغات من العربية والعجمية وغير ذلك وَأَلْوانِكُمْ لأنَّ الخلق بين أسود وأبيض وأحمر، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة. وقيل: المراد باختلاف الألسنة: اختلاف النَّغَمات والأصوات، حتى إِنه لا يشتبه صوت أخوين من أب وأم. والمراد باختلاف الألوان: اختلاف الصُّوَر، فلا تشتبه صورتان مع التشاكل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «للعالَمِين» بفتح اللام. وقرأ حفص عن عاصم: «للعالِمِين» بكسر اللام.
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ أي: نومكم. قال أبو عبيدة: المنام من مصادر النَّوم، بمنزلة قام يقوم قِياماً ومَقاماً، وقال يقول مَقالاً، قال المفسرون: وتقدير الآية: منامكم بالليل وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ وهو طلب الرزق بالنهار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع اعتبار وتذكُّر وتدبُّر وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ قال اللغويون: إِنَّما حذف «أنْ» لدلالة الكلام عليه، وأنشدوا:
وما الدَّهْرُ إِلاَّ تارتان فتارةً ... أموتُ وأُخرى أبتغي العَيْش أكدحُ «1»
ومعناه: فتارة أموت فيها، وقال طرفة:
ألا أيّهذا الزّاجري أحصر الوغى «2»
أراد: أن أحضر. وقد شرحنا معنى الخوف والطمع في رؤية البَرْق في سورة الرعد «3» .
قوله تعالى: أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أي: تدوما قائمتين بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً وهي نفخة إسرافيل الأخيرة في الصّور بأمر الله عزّ وجلّ مِنَ الْأَرْضِ أي: من قبوركم إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ منها، وما بعد هذا قد سبق بيانه «4» إلى قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وفيه أربعة أقوال: أحدها: أن الإِعادة أهون عليه من البداية، وكُلُّ هيِّنٌ عليه، قاله مجاهد، وأبو العالية. والثاني: أنّ «أهون» بمعنى «هين» عليه، فالمعنى: وهو هيِّن عليه، وقد يوضع «أفعل» في موضع «فاعل» ، ومثله قولهم في الأذان:
الله أكبر، أي: الله كبير، قال الفرزدق:
__________
(1) البيت لتميم بن مقبل.
(2) هو صدر بيت لطرفة بن العبد من معلقته وعجزه: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي.
(3) الرعد: 12. [.....]
(4) البقرة: 116 والعنكبوت: 19.(3/420)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنى لَنَا ... بَيْتاً دعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ
وقال معن بن أوس المزني:
لَعَمْرُكَ مَا أدْري وإِنِّي لأوجَلُ ... على أيِّنا تغدو المَنِيَّةُ أَوَّلُ «1»
أي: وإِنِّي لَوَجِل، وقال غيره:
أصبحتُ أمنحُك الصُّدودَ وإِنَّني ... قسماً إِليك مع الصُّدود لأَمْيَلُ «2»
وأنشدوا أيضاً:
تَمَنَّى رِجالٌ أنْ أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأَوْحَدِ
أي: بواحد، هذا قول أبي عبيدة، وهو مرويّ عن الحسن، وقتادة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد: «وهو هَيِّن عليه» . والثالث: أنه خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب أن يكون عندهم البعث أسهل من الابتداء في تقديرهم وحُكمهم، فمن قَدَرَ على الإِنشاء كان البعثُ أهونَ عليه، هذا اختيار الفراء، والمبرد، والزجاج، وهو قول مقاتل. وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الهاء في «عليه» عائدة إلى الله عزّ وجلّ. والرابع: أن الهاء تعود على المخلوق، لأنه خلَقه نطفة ثم علقة ثم مضغة، ويوم القيامة يقول له كن فيكون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو اختيار قطرب. قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى قال المفسرون: أي: له الصِّفة العُليا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهي أنَّه لا إِله غيره.
قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا سبب نزولها أن أهل الجاهلية كانوا يلبُّون فيقولون: لبَّيك لا شريك لك إِلا شريكاً هو لك تملكُه وما ملك، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. ومعنى الآية: بيَّن لكم أيها المشركون شَبَهاً، وذلك الشَّبه مِنْ أَنْفُسِكُمْ ثم بيّنه فقال: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي: من عبيدكم مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من المال والأهل والعبيد، أي: هل يشارككم عبيدكم في أموالكم فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي: أنتم وشركاؤكم من عبيدكم سواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: كما تخافون أمثالكم من الأحرار، وأقرباءكم كالآباء والأبناء؟ قال ابن عباس: تخافونهم أن يَرِثوكم كما يَرِث بعضكم بعضاً؟ وقال غيره: تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم كما يفعل الشركاء؟
والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويَه في التصرُّف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيرَه من الشركاء الأحرار؟، فاذا لم ترضَواْ ذلك لأنفسكم، فلم عَدَلتم بي من خَلْقي مَنْ هو مملوك لي؟! كَذلِكَ أي: كما بيَّنَّا هذا المَثَل نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عن الله تعالى. ثم بيَّن أنَّهم إِنَّما اتَّبعوا الهوى في إِشراكهم، فقال: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا بالله أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وهذا يدل على أنهم إِنما أشركوا باضلال الله إِيَّاهم وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي: مانعين من عذاب الله تعالى.
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 38]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
__________
(1) في «اللسان» : الوجل: الفزع والخوف.
(2) البيت للأحوص.(3/421)
قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ قال مقاتل: أخلص دينك الإِسلام لِلدِّينِ أي: للتوحيد. وقال أبو سليمان الدمشقي: استقم بدينك نحو الجهة التي وجّهك الله تعالى إِليها. وقال غيره: سدِّد عملك.
والوجه: ما يُتَوجَّه إِليه، وعمل الإِنسان ودينه: ما يتوجَّه إِليه لتسديده وإِقامته.
قوله تعالى: حَنِيفاً قال الزجاج: الحنيف: الذي يميل إِلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحَنَف في الرِّجل، وهو ميلها إِلى خارجها خِلْقة، لا يقدر الأحنف أن يردّ حنفه، وقوله: فِطْرَتَ اللَّهِ منصوب، بمعنى: اتَّبِع فطرةَ الله، لأن معنى «فأقم وجهك» : اتَّبِع الدِّين القيِّم، واتَّبع فطرة الله تعالى، أي: دين الله تعالى والفطرة: الخلقة التي خلق عليها البشر.
(1099) وكذلك قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» !، أي: على الإِيمان بالله تعالى. وقال مجاهد في قوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها قال: الإِسلام، وكذلك قال قتادة. والذي أشار إِليه الزجاج أصح، وإِليه ذهب ابن قتيبة، فقال: فرقُ ما بيننا وبين أهل القَدَر في هذا الحديث، أن الفطرة عندهم: الإِسلام، والفطرة عندنا: الإقرار بالله عز وجل والمعرفة به، لا الإِسلام، ومعنى الفطرة: ابتداء الخلقة، فالكلّ أقرّوا حين قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» ، ولستَ واجداً أحداً إِلا وهو مُقِرّ بأنَّ له صانعاً ومدبِّراً وإِن عبد شيئاً دونه وسمَّاه بغير اسمه فمعنى الحديث: إِن كل مولود في العالَم على ذلك العهد وذلك الإِقرار الأول، وهو الفطرة، ثم يهوِّد اليهودُ أبناءهم، أي:
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2658 وأحمد 2/ 275 وابن حبان 130 من طرق عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به. وهو في «مصنف عبد الرزاق» برقم 20087. وأخرجه مسلم 2658 وأحمد 2/ 233 من طريقين عن الزهري به. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 3/ 308 من طريق قتادة عن ابن المسيب به. وورد من وجه آخر مختصرا عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجّسانه» . أخرجه البخاري 1358 و 1359 و 1385 و 4775 ومسلم 2658 وأحمد 2/ 393، وابن حبان. وورد أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة باللفظ المذكور آنفا عند مسلم 2658 ح 23 والترمذي 2138 وأحمد 2/ 253 و 481 والطيالسي 2433 وأبو نعيم في «الحلية» 9/ 96 والبغوي في «شرح السنة» 84.
__________
(1) الأعراف: 172.(3/422)
يعلِّمونهم ذلك، وليس الإِقرار الأول ممَّا يقع به حُكم ولا ثواب، وقد ذكر نحو هذا أبو بكر الأثرم، واستدل عليه بأن الناس أجمعوا على أنه لا يرث المسلُم الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ، ثم أجمعوا على أن اليهوديَّ إِذا مات له ولد صغير ورثه، وكذلك النصراني، والمجوسي، ولو كان معنى الفطرة الإِسلام، ما ورثه إِلا المسلمون، ولا دفن إِلا معهم، وإِنما أراد بقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على تلك البداية التي أقرُّوا له فيها بالوحدانية حين أخذهم مِن صُلْب آدم، فمنهم من جحد ذلك بعد إِقراره. ومثل هذا الحديث حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال:
(1100) «قال الله عزّ وجلّ: إِني خَلقتُ عبادي حنفاء» ، وذلك أنه لم يدعُهم يوم الميثاق إِلاَّ إِلى حرف واحد، فأجابوه.
قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لفظه لفظ النفي، ومعناه النهي والتقدير: لا تبدّلوا خلق الله عزّ وجلّ، وفيه قولان: أحدهما: أنه خِصاء البهائم، قاله عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. والثاني: دين الله عز وجل، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي في آخرين، وعن ابن عباس وعكرمة كالقولين. قوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني التوحيد المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعني كفار مكة لا يَعْلَمُونَ توحيد الله عز وجلّ.
قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ قال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا: فأقيموا وجوهكم منيبين، لأنّ مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلّم تدخل معه فيها الأُمَّة، ومعنى «منيبين» : راجعين إِليه في كل ما أمر، فلا يخرجون عن شيء من أمره. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «1» إِلى قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً وفيه قولان: أحدهما: أنه القحط، والرحمة: المطر. والثاني:
أنه البلاء، والرحمة: العافية، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ وهم المشركون. والمعنى: إنّ الكلّ يلتجئون إليه في
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2865 وعبد الرزاق في «المصنف» 20088 وأحمد 4/ 162 و 266 والطيالسي 1079 والطبراني 17/ 987 و 992- 997 والبغوي 4105 والبيهقي 9/ 60 وابن حبان 653 من طرق عن قتادة.
والحديث بتمامه بلفظ مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبة: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا كل مال نحلته عبدا، حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب.
وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: رب! إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك قال: وأهل الجنة ثلاثة:
ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم. وعفيف متعفف ذو عيال قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» .
ومعنى لا يخفى: لا يظهر ويقول أهل اللغة خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته وكتمته.
__________
(1) البقرة: 3، الأنعام: 159.(3/423)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
شدائدهم، ولا يلتفت المشركون حينئذ إِلى أوثانهم.
قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قد شرحناه في آخر العنكبوت «1» ، وقوله تعالى: فَتَمَتَّعُوا خطاب لهم بعد الإِخبار عنهم. قوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ أي: على هؤلاء المشركين سُلْطاناً أي: حُجَّة وكتاباً من السماء فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي: يأمرهم بالشِّرك؟! وهذا استفهام إنكار، ومعناه: ليس الأمر كذلك.
قوله تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ قال مقاتل: يعني كفار مكة رَحْمَةً وهي المطر. والسيِّئة:
الجوع والقحط، وقال ابن قتيبة: الرحمة: النعمة، والسيِّئة: المصيبة. قال المفسرون: وهذا الفرح المذكور ها هنا، هو فرح البطر الذي لا شُكر فيه. والقنوط: اليأس من فضل الله عزّ وجلّ، وهذا خلاف وصف المؤمن، فانه يشكر عند النعمة، ويرجو عند الشدة وقد شرحناه في بني إسرائيل «2» ، إلى قوله تعالى: ذلِكَ يعني إِعطاء الحق خَيْرٌ أي: أفضل من الإِمساك لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي: يطلبون بأعمالهم ثواب الله.
[سورة الروم (30) : الآيات 39 الى 40]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً في هذه الآية أربعة أقوال «3» : أحدها: أن الرِّبا ها هنا: أن يُهدي الرجل للرجل الشيء يقصِد أن يُثيبه عليه أكثر من ذلك، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وطاوس والضحاك وقتادة والقرظي. قال الضحاك: فهذا ليس فيه أجر ولا وزر، وقال قتادة: ذلك الذي لا يقبله الله عزّ وجلّ ولا يَجزي به، وليس فيه وِزْر. والثاني: أنه الرِّبا المحرَّم، قاله الحسن البصري.
والثالث: أن الرجل يُعطي قرابته المال ليصير به غنيّاً لا يقصد بذلك ثواب الله تعالى، قاله إِبراهيم النخعي. والرابع: أنه الرجل يُعطي من يخدمه لأجل خدمته، لا لأجل الله تعالى، قاله الشّعبيّ. قوله تعالى: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ وقرأ نافع ويعقوب: «لتَرْبوْ» بالتاء وسكون الواو، أي: في اجتلاب أموال الناس واجتذابها فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي: لا يزكو ولا يضاعَف لأنكم قصدتم زيادة العِوَض ولم تقصُدوا القُربة. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي: ما أَعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة إِنما تريدون بها ما عند الله تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ قال ابن قتيبة: الذين يجدون التّضعيف والزّيادة. وقال
__________
(1) العنكبوت: 67.
(2) الإسراء: 26.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 536: من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم فهذا لا ثواب له عند الله، وهذا الصنيع مباح، وإن كان لا ثواب له فيه، إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم خاصة قاله الضحاك واستدل بقوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي: لا تعطي العطاء تريد أكثر منه. وقال ابن عباس: الربا رباءان، فربا لا يصحّ يعني ربا البيع، وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها، ثم تلا هذه الآية: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وإنما الثواب عند الله في الزكاة، ولهذا قال: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي: الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء.(3/424)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
الزجاج: أي ذوو الأضعاف من الحسنات، كما يقال: رجل مُقْوٍ، أي: صاحب قُوَّة، ومُوسِر: صاحب يسار.
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 43]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في هذا الفساد أربعة أقوال: أحدها: نقصان البَرَكة، قاله ابن عباس. والثاني: ارتكاب المعاصي، قاله أبو العالية. والثالث: الشِّرك، قاله قتادة، والسدي:
والرابع: قحط المطر، قاله عطية. فأما البَرّ. فقال ابن عباس: البَرُّ: البرِّيَّة التي ليس عندها نهر، وفي البحر قولان «1» : أحدهما: أنه ما كان من المدائن والقرى على شطِّ نهر، قاله ابن عباس. وقال عكرمة:
لا أقول: بحرُكم هذا، ولكن كل قرية عامرة. وقال قتادة: المراد بالبَرِّ: أهل البوادي، وبالبحر: أهل القرى، وقال الزجاج: المراد بالبحر: مدن البحر التي على الأنهار، وكل ذي ماءٍ فهو بحر. والثاني: أن البحر: الماء المعروف. قال مجاهد: ظهور الفساد في البر: قتل ابن آدم أخاه، وفي البحر: مَلِك جائر يأخذ كل سفينة غصباً. وقيل لعطيَّة: أيّ فساد في البحر؟ فقال: إِذا قلَّ المطر قل الغَوص.
قوله تعالى: بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي: بما عملوا من المعاصي لِيُذِيقَهُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، وقتادة، وابن محيصن، وروح عن يعقوب، وقنبل عن ابن كثير:
«لِنُذيقَهم» بالنون بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي: جزاء بعض أعمالهم فالقحط جزاءٌ، ونقصان البركة جزاءٌ، ووقوع المعصية منهم جزاءٌ معجَّل لمعاصيهم أيضاً. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الذين أُذيقوا الجزاءَ. ثم في معنى رجوعهم قولان: أحدهما: يرجعون عن المعاصي، قاله أبو العالية. والثاني: يرجعون إِلى الحق، قاله إِبراهيم. والثاني: أنهم الذين يأتون بعدهم فالمعنى: لعلَّه يرجع مَنْ بعدَهُم، قاله الحسن.
قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: سافِروا فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي: الذين كانوا قبلكم والمعنى: انظروا إِلى مساكنهم وآثارهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ المعنى: فأُهلكوا بشِركهم. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي: أَقم قصدك لاتِّباع الدِّين الْقَيِّمِ وهو الإِسلام المستقيم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يعني القيامة، لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم، لأن الله تعالى قد قضى كونه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي: يتفرَّقون إِلى الجنة والنار.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 192: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن الله تعالى ذكره أخبر أن الفساد قد ظهر في البر والبحر عند العرب في الأرض القفار، والبحر بحران: بحر ملح، وبحر عذب فهما جميعا بحر، ولم يخصص جل ثناؤه الخبر عن ظهور ذلك في بحر دون بحر، فذلك ما وقع عليه اسم بحر، عذبا كان أو ملحا، وإذا كان ذلك كذلك، دخل القرى التي على الأنهار والبحار، فتأويل الكلام إذن: إذا كان الأمر كما وصفت، ظهرت معاصي الله في كل مكان من برّ وبحر بما كسبت أيدي الناس، أي: بذنوب الناس، وانتشر الظلم فيهما اه.(3/425)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
[سورة الروم (30) : الآيات 44 الى 45]
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي: جزاء كفره وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي: يُوَطِّئُون. وقال مجاهد: يسوُّون المضاجع في القبور، قال أبو عبيدة: «مَنْ» تقع على الواحد والاثنين والجمع من المذكَّر والمؤنَّث، ومجازها ها هنا مجاز الجميع، و «يَمْهَد» بمعنى يكتسب ويعمل ويستعدّ.
[سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 47]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ تبشِّر بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وهو الغيث والخصب وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ في البحر بتلك الرياح بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا بالتجارة في البحر مِنْ فَضْلِهِ وهو الرزق وكلُّ هذا بالرياح. قوله تعالى: جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
أي: بالدّلالات على صدقهم انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
أي: عذَّبْنا الذين كذَّبوهم كانَ حَقًّا عَلَيْنا
أي: واجباً هو أوجبه على نفسه صْرُ الْمُؤْمِنِينَ
إِنجاؤهم مع الرُّسل من عذاب المكذِّبين.
[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 57]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
قوله تعالى: يُرْسِلُ الرِّياحَ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، والنخعي، وطلحة بن مصرِّف، والأعمش: «يُرْسِلُ الرِّيح» بغير ألف. قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً أي: تُزعجه فَيَبْسُطُهُ الله فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ إِن شاء بسطه مسيرة يوم أو يومين أو أقل أو أكثر وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي: قِطعاً متفرِّقة.
والأكثرون فتحوا سين «كِسَفاً» وقرأ أبو رزين، وقتادة، وابن عامر، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة:(3/426)
بتسكينها قال أبو علي: يمكن أن يكون مثل سِدْرَة وسِدَر، فيكون معنى القراءتين واحداً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية: «مِن خَلَلِه» وقد شرحناه في النور «1» . فَإِذا أَصابَ بِهِ أي: بالوَدْق ومعنى يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بالمطر، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ وفي هذا التكرير ثلاثة أقوال: أحدها: أنه للتأكيد، كقوله تعالى:
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «2» ، قاله الأخفش في آخرين. والثاني: أن «قَبْل» الأولى للتنزيل، والثانية للمطر، قاله قطرب. قال ابن الأنباري: والمعنى: مِنْ قَبْل نزول المطر، من قبل المطر، وهذا مثل ما يقول القائل: آتيك من قبل أن تتكلم، من قبل ان تطمئن في مجلسك، فلا تُنكَر الإِعادة، لاختلاف الشيئين. والثالث: أن الهاء في قوله تعالى: «مِنْ قبْله» ترجع إِلى الهُدى وإِن لم يتقدّم له ذكر، فيكون المعنى: كانوا يقنطون من قبل نزول المطر، من قبل الهُدى، فلمَّا جاء الهُّدى والإِسلام زال القُنوط، ذكره ابن الأنباري عن أبي عمر الدريدي وأبي جعفر بن قادم. والمبلسون: الآيسون وقد سبق الكلام في هذا «3» . فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم:
«إِلى أَثَر» . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إلى آثار» على الجمع. والمراد بالرّحمة ها هنا: المطر، وأثرها: النّبت والمنبت والمعنى: انظر إِلى حسن تأثيره في الأرض كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ أي: كيف يجعلها تُنبت بعد أن لم يكن فيها نبت. وقرأ عثمان بن عفان، وأبو رجاء، وأبو عمران الجوني، وسليمان التيمي، «كيف تُحْيِي» بتاء مرفوعة مكسورة الياء «الأرضَ» بفتح الضاد.
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً أي: ريحاً باردة مُضِرَّة، والريح إِذا أتت على لفظ الواحد أُريدَ بها العذاب، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول عند هبوب الريح:
(1101) «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» .
فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا يعني النبت، والهاء عائدة إِلى الأثر. قال الزجاج: المعنى: فرأَوُا النبت قد اصفرّ وجفَّ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ومعناه: لَيَظَلُّنّ، لأن معنى الكلام الشرط والجزاء، فهم يستبشرون بالغيث، ويكفرون إِذا انقطع عنهم الغيث وجفَّ النبت. وقال غيره: المراد برحمة الله: المطر.
و «ظلُّوا» بمعنى صاروا «من بعده» أي: من بعد اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النِّعمة. وما بعد هذا مفسَّر في سورة النمل «4» إِلى قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ وقد ذكرنا الكلام فيه في الأنفال «5» ، قال المفسرون: المعنى: خلقكم من ماءٍ ذي ضَعف، وهو المنيّ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ يعني ضعف الطفولة قوَّة الشباب، ثُمَّ جَعل مِن بَعْد قوَّة الشباب ضعف الكِبَر، وشيبةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: من ضعف وقوَّة وشباب وشَيبة وَهُوَ الْعَلِيمُ بتدبير خلقه الْقَدِيرُ على ما يشاء. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
__________
ضعيف جدا، أخرجه الشافعي 1/ 175 والبغوي في «التفسير» 1234 من طريق الشافعي أنبأنا من لا أتهم بحديثه ثنا العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلّم على ركبتيه وقال:
اللهم اجعلها ... ، وشيخ الشافعي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو متروك وكذبه القطان وابن معين، وكان الشافعي يوثقه؟! وهذا إسناد ساقط، والخبر شبه موضوع.
__________
(1) النور: 43.
(2) الحجر: 30.
(3) الأنعام: 44.
(4) النمل: 80- 81.
(5) الأنفال: 66. [.....](3/427)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قال الزجاج: الساعة في القرآن على معنى الساعة التي تقوم فيها القيامة، فلذلك لم تُعرف أيّ ساعة هي. قوله تعالى: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي: يَحْلِف المشركون ما لَبِثُوا في القبور غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ قال ابن قتيبة: يقال: أُفِكَ الرجلُ: إِذا عُدِل به عن الصّدق، فالمعنى أنهم قد كذّبوه في هذا الوقت كما كذّبوه في الدنيا. وقال غيره: أراد الله تعالى أن يفضحهم يوم القيامة بين المؤمنين، فحلفوا على شيء تبيّن للمؤمنين كذبُهم فيه، ويستدلُّون على كذبهم في الدنيا. ثم ذكر إِنكار المؤمنين عليهم بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة.
والثاني: المؤمنون. قوله تعالى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فيه قولان: أحدهما: أن فيه تقديماً وتأخيراً، تقديره: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله عزّ وجلّ، قاله ابن جريج في جماعة من المفسرين. والثاني: أنه على نظمه. ثم في معناه قولان: أحدهما: لقد لَبِثتم في عِلْم الله، عزّ وجلّ، قاله الفراء. والثاني: لقد لَبِثتم في خَبَر الكتاب، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ أي: اليوم الذي كنتم تُنْكِرونه وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في الدنيا أنه يكون. فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
«لا تَنْفَعُ» بالتاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بالياء، لأن التأنيث غير حقيقي. قال ابن عباس: لا يُقْبَلُ من الذين أشركوا عذر ولا توبة.
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
قوله تعالى: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ أي: كعصا موسى ويده لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ أي:
ما أنتم يا محمد وأصحابك إِلَّا مُبْطِلُونَ أي: أصحاب أباطيل، وهذا بيان لعنادهم. كَذلِكَ أي:
كما طبع على قلوبهم حتى لا يصدِّقون الآيات يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ توحيد الله عزّ وجلّ فالسبب في امتناع الكفار من التوحيد، الطَّبْع على قلوبهم.
قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرك وإِظهارك على عدوِّك حَقٌّ. وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ وقرأ يعقوب إِلا روحاً وزيداً: «يَسْتَخِفَّنْكَ» بسكون النون. قال الزّجّاج: لا يستفزّنّك عن دِينك الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ أي: هم ضُلاَّلٌ شاكُّونَ. وقال غيره: لا يُوقِنون بالبعث والجزاء. وزعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة والله أعلم.(3/428)
هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
سورة لقمان
وهي مكّيّة في قول الأكثرين. وروي عن عطاء أنه قال: هي مكّيّة سوى آيتين منها نزلتا بالمدينة، وهما قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ والتي بعدها «1» وروى الحسن أنه قال: إلّا آية نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ «2» ، لأنّ الصلاة والزّكاة مدنيّتان.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة لقمان (31) : الآيات 3 الى 13]
هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
قوله تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً وقرأ حمزة وحده: «ورحمةٌ» بالرفع. قال الزجاج: القراءة بالنصب على الحال المعنى: تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة ويجوز الرفع على إِضمار «هو هدىً ورحمةٌ» وعلى معنى: «تلك هدىً ورحمةٌ» . وقد سبق تفسير مفتتح هذه السّورة «3» إلى قوله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية مغنّيةً.
وقال مجاهد: نزلت في شراء القيان والمغنّيات.
__________
(1) لقمان: 27- 28.
(2) لقمان: 4.
(3) البقرة: 1- 5.(3/429)
(1102) وقال ابن السائب ومقاتل: نزلت في النَّضْر بن الحارث، وذلك أنه كان تاجراً إِلى فارس، فكان يشتري أخبار الأعاجم فيحدِّث بها قريشاً ويقول لهم: إِنَّ محمداً يحدِّثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أُحدِّثكم بحديث رستم وإِسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فنزلت فيه هذه الآية.
وفي المراد بلهو الحديث أربعة أقوال: أحدها: أنه الغناء، كان ابن مسعود يقول: هو الغناء والذي لا إِله إِلا هو، يُردِّدها ثلاث مرات وبهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: اللهو: الطبل. والثاني: أنه ما ألهى عن الله تعالى: قاله الحسن، وعنه مثل القول الأول. والثالث: أنه الشِّرك، قاله الضحاك. والرابع: الباطل، قاله عطاء.
وفي معنى «يشتري» قولان: أحدهما: يشتري بماله وحديث النضر يعضده. والثاني: يختار ويستحبّ، قاله قتادة، ومطر. وإِنما قيل لهذه الأشياء: لهو الحديث، لأنها تُلهي عن ذِكْر الله تعالى.
قوله تعالى: «لِيَضِلَّ» المعنى: ليصير أمره إِلى الضلال، وقد بيَّنَّا هذا الحرف في الحج «1» . وقرأ أبو رزين، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وأبو جعفر: لِيُضِلَّ بضم الياء، والمعنى:
لِيُضِلَّ غيره، وإِذا أضَلَّ غيره فقد ضَلَّ هو أيضاً.
قوله تعالى: وَيَتَّخِذَها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم:
«ويَتَّخِذُها» برفع الذال. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بنصب الذال. قال أبو علي: من نصب عطف على «لِيُضِلَّ» «ويَتَّخذ» ، ومن رفع عطفه على «من يشتري» «ويتخذ» . وفي المشار إليه بقوله تعالى: وَيَتَّخِذَها قولان: أحدهما: أنها الآيات. والثاني: السبيل. وما بعد هذا مفسر في مواضع قد تقدّمت «2» إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ وفيها قولان «3» : أحدهما: الفهم والعقل، قاله الأكثرون. والثاني: النبوَّة. وقد اختُلف في نبوَّته على قولين: أحدهما: أنه كان حكيماً ولم يكن نبيّاً، قاله سعيد بن المسيب، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنه كان نبيّاً، قاله الشعبي، وعكرمة، والسدي. هكذا حكاه عنهم الواحدي، ولا يعرف، إِلاَّ أن هذا ممّا انفرد به عكرمة والقول الأول أصح. وفي صناعته ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان خيّاطاً، قاله سعيد بن المسيب. والثاني: راعياً، قاله ابن زيد. والثالث: نجاراً، قاله خالد الربعي. فأما صفته، فقال ابن عباس كان عبداً حبشيّاً. وقال سعيد بن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر. وقال مجاهد: كان غليظ الشّفتين مشقّق
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 676 عن مقاتل والكلبي بدون إسناد. وكلاهما متهم بالكذب.
__________
(1) الحج: 9.
(2) البقرة: 25، الأنعام: 25، الرعد: 15، النحل: 15، الإسراء: 46، الشعراء: 7.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 548: اختلف السلف في لقمان عليه السلام هل كان نبيا، أو عبد صالحا من غير نبوة؟ على قولين والأكثرون على القول بأن لقمان كان من سودان مصر، ذا مشافر، أعطاه الله الحكمة ومنحه النبوة. وقوله: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أي: الفهم والعلم والتعبير، أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي أمرناه أن يشكر لله- عز وجل- على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصّصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه.(3/430)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
القدمين، وكان قاضياً على بني إِسرائيل.
قوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ المعنى: وقلنا له: أن أشكر لله على ما أعطاك من الحكمة وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي: إِنما يفعل لنفسه وَمَنْ كَفَرَ النِّعمة، فان الله لغنيّ عن عبادة خلقه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 14 الى 17]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ قال مقاتل: نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد شرحنا ذلك في العنكبوت «1» . قوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: «وَهَناً على وَهَنٍ» بفتح الهاء فيهما، قال الزجاج: أي: ضَعْفاً على ضَعْف. والمعنى لزمها بحَمْلها إِيَّاه أن تَضْعُف مَرَّةً بعد مرّة. وموضع «أن» نصب «بوصيّنا» المعنى: ووصَّينا الإِنسان أن أشكُر لي ولوالدَيْك، أي: وصَّيناه بشُكْرنا وشُكر والدَيه.
قوله تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي: فِطامُه يقع في انقضاء عامين. وقرأ إِبراهيم النخعي، وأبو عمران، والأعمش: «وفَصَالُه» بفتح الفاء. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وأبو رجاء، وطلحة بن مصرِّف، وعاصم الجحدري، وقتادة «وفَصْلُه» بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف والمراد: التنبيه على مشقَّة الوالدة بالرَّضاع بعد الحمل.
قوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ قد فسرنا ذلك في سورة العنكبوت إلى قوله تعالى: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً قال الزجاج: أي: مُصَاحَباً معروفاً، تقول: صاحبه مُصَاحَباً ومُصَاحَبَةً، والمعروف: ما يُستحسن من الأفعال.
قوله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي: مَنْ رَجَع إِليَّ وأهل التفسير يقولون: هذه الآية نزلت في سعد، فهو المخاطَب بها. وفي المراد بمَنْ أناب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أبو بكر الصِّدِّيق، قيل لسعد: اتَّبِع سبيله في الإِيمان، هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء. وقال ابن إِسحاق: أسلم على يَدي أبي بكر الصِّدِّيق: عثمانُ بن عفان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف. والثاني: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن السائب. والثالث: مَنْ سلك طريق محمد وأصحابه، ذكره الثعلبي.
ثم رجع إِلى الخبر عن لقمان فقال: يا بُنَيَّ. وقال ابن جرير: وجه اعتراض هذه الآيات بين الخبرين عن وصيَّة لقمان أنَّ هذا ممَّا أوصى به لقمانُ ابنَه. قوله تعالى: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ وقرأ
__________
(1) العنكبوت: 8.(3/431)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
نافع وحده «مِثقالُ حَبَّة» برفع اللام. وفي سبب قول لقمان لابنه هذا قولان: أحدهما: أن ابن لقمان قال لأبيه: أرأيتَ لَو كانت حبَّة في قعر البحر أكان اللهُ تعالى يعلَمُها؟ فأجابه بهذه الآية، قاله السدي.
والثاني: أنه قال: يا أبت إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد، كيف يعلَمُها الله؟ فأجابه بهذا، قاله مقاتل. قال الزجاج: من قرأ برفع المثقال مع تأنيث «تَكُ» فلأنَّ «مثقال حبَّة من خردل» راجع إِلى معنى: خردلة، فهي بمنزلة: إِن تَكُ حبَّةٌ من خردل ومن قرأ: «مثقالَ حبَّة» فعلى معنى: إِن التي سألتَني عنها إِن تَكُ مثقالَ حبَّة، وعلى معنى: إِنَّ فَعْلَة الإِنسان وإِن صغرت يأت بها الله عزّ وجلّ وقد بيَّنَّا معنى «مثقالَ حبَّة من خردل» في الأنبياء «1» . قوله تعالى: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ قال قتادة: في جبل.
وقال السدي: هي الصخرة التي تحت الأرض السابعة، ليست في السّموات ولا في الأرض. وفي قوله تعالى: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ثلاثة أقوال: أحدها: يعلَمها الله تعالى: قاله أبو مالك. والثاني: يُظهرها، قاله ابن قتيبة. والثالث: يأت بها الله في الآخرة للجزاء عليها. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ قال الزجاج: لَطِيفٌ باستخراجها خَبِيرٌ بمكانها. وهذا مَثَل لأعمال العباد، والمراد أنَّ الله تعالى يأتي بأعمالهم يوم القيامة، مَنْ يعمل مثقال ذَرَّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذَرَّة شرّاً يره.
قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ أي: في الأمر المعروف والنَّهي عن المُنْكَر من الأذى.
وباقي الآية مفسّر في آل عمران «2» .
[سورة لقمان (31) : الآيات 18 الى 19]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب: «تُصَعِّر» بتشديد العين من غير ألف. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بألف من غير تشديد. قال الفراء: هما لغتان، ومعناهما الإِعراض من الكِبْر. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء وابن السميفع، وعاصم الجحدري: «ولا تُصْعِر» باسكان الصاد وتخفيف العين من غير ألف. وقال الزجاج: معناه: لا تُعْرِض عن الناس تكبُّراً يقال: أصاب البعير صَعَرٌ: إِذا أصابه داءٌ يَْلوي منه عُنُقه. وقال ابن عباس: هو الذي إِذا سُلِّم عليه لوى عُنُقه كالمستكبِر. وقال أبو العالية: ليكن الغنيُّ والفقير عندك في العلم سواء. وقال مجاهد: وهو الرجل يكون بينه وبين أخيه الحِنَة «3» ، فيراه فيُعرض عنه. وباقي الآية بعضه مفسر في بني إِسرائيل «4» وبعضه في سورة النساء «5» .
قوله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي: ليكن مشيُك قصداً، لا تخيُّلاً ولا إِسراعاً. قال عطاء: امش بالوقار والسَّكينة. قوله تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي: انقص منه. قال الزجاج: ومنه: غضضتُ بصري، وفلان يغضُّ من فلان، أي: يقصر به. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ وقرأ أبو المتوكل، وابن أبي عبلة: «أنَّ أنكر الأصوات» بفتح الهمزة. ومعنى «أنكر» : أقبح تقول: أتانا فلان بوجه منكر، أي:
__________
(1) الأنبياء: 47.
(2) آل عمران: 286.
(3) في «اللسان» : الحنة: هو من العداوة والإحنة: الحقد في الصدر ويقال في صدره عليّ إحنة ولا تقل حنة.
(4) الإسراء: 37.
(5) النساء: 36.(3/432)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
قبيح. وقال المبرِّد: تأويله: أن الجهر بالصوت ليس بمحمود، وأنه داخل في باب الصوت المنكَر، وقال ابن قتيبة: عَرَّفَهُ قُبْحَ رفْعِ الأصوات في المخاطبة والمُلاحاة «1» بقبح أصوات الحمير، لأنها عالية.
قال ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيرا، ما جعله الله عزّ وجلّ للحمير. وقال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح لله عزّ وجلّ، إِلا الحمار، فانه ينهق بلا فائدة. فان قيل: كيف قال: «لَصَوتُ» ولم يقل:
«لأَصواتُ الحمير» ؟ فالجواب: أن لكل جنس صوتاً، فكأنه قال: إِن أنكر أصوات الأجناس صوت هذا الجنس.
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
قوله تعالى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ أي: أَوسع َوأَكملَ نِعَمَهُ قرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «نِعَمَهُ» ، أرادوا جميع ما أنعم به. وقرأ ابن كثير، وابن عامر وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «نِعْمَةً» على التوحيد. قال الزجاج: هو ما أعطاهم من توحيده.
(1103) وروى الضحاك عن ابن عباس، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله! ما هذه النِّعمة الظاهرة والباطنة؟ فقال: «أمَّا ما ظهر: فالإِسلام، وما سوَّى اللهُ مِنْ خَلْقِك، وما أَفضل عليك من الرِّزق. وأمَّا ما بطن: فستر مساوئ عملك، ولم يفضحك» وقال الضحاك: الباطنة: المعرفة، والظّاهرة: حسن الصّوت، وامتداد القامة، وتسوية الأعضاء.
قوله تعالى: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ هو متروك الجواب، تقديره فيتبعونه؟.
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 27]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
قوله تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وقتادة: «ومن
__________
باطل. لا أصل له في المرفوع. أخرجه البيهقي في «الشعب» 4505 والديلمي 7167 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا، له ثلاث علل: عمار بن عمرو الجنبي ضعيف وجويبر بن سعيد متروك متهم بالوضع، والضحاك لم يلق ابن عباس. والمتن باطل لا أصل له، وحسبه أن يكون موقوفا.
وانظر «تفسير الشوكاني» 1930 بتخريجنا.
__________
(1) الملاحاة: المخاصمة والمقاولة.(3/433)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
يُسَلِّم» بفتح السين وتشديد اللام. وذكر المفسرون أن قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ منسوخ بآية السيف، ولا يصح، لأنه تسلية عن الحُزن، وذلك لا ينافي الأمر بالقتال. وما بعد هذا قد تقدم تفسير ألفاظه في مواضع «1» إلى قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وفي سبب نزولها قولان:
(1104) أحدهما: أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أرأيت قول الله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2» إِيَّانا يريد، أم قومك؟ فقال: «كُلاً» ، فقالوا: ألستَ تتلو فيما جاءك أنَّا قد أوتينا التوراة فيها تِبيانُ كل شيء؟ فقال: «إِنَّها في عِلْم الله قليل» ، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن المشركين قالوا في القرآن: إِنَّما هو كلام يوشك أن يَنْفَد وينقطع، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
ومعنى الآية: لو كانت شجر الأرض أقلاماً، وكان البحر ومعه سبعة أبحر مِداداً- وفي الكلام محذوف تقديره: فكُتب بهذه الأقلام وهذه البحور كلمات الله عزّ وجلّ- لتكسّرت الأقلام ونفدت البحور، ولم تنفد كلماتُ الله، أي: لم تنقطع. فأما قوله تعالى: وَالْبَحْرُ فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «والبَحْرُ» بالرفع، ونصبه أبو عمرو. وقال الزجاج: من قرأ:
«والبَحْرَ» بالنصب، فهو عطف على «ما» المعنى: ولو أن ما في الأرض، ولو أن البحر والرفع حسن على معنى: والبحرُ هذه حالُه. قال اليزيدي: ومعنى «يَمُدُّهُ مِنْ بَعده» : يزيد فيه يقال: مُدَّ قِدْرَكَ، أي:
زِدْ في مائها، وكذلك قال ابن قتيبة: «يَمُدُّه» من المِداد، لا من الإِمداد، يقال: مَدَدْتُ دواتي بالمِداد، وأمددته بالمال والرجال.
[سورة لقمان (31) : الآيات 28 الى 32]
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
قوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.
(1105) سبب نزولها أن أُبيَّ بن خلف في آخرين من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: إنّ الله عزّ وجلّ خلقنا أطواراً: نطفة، علقة، مضغة، عظاماً، لحماً، ثم تزعم أنَّا نُبْعَث خَلْقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة؟! فنزلت هذه الآية.
__________
أخرجه الطبري 28148 بنحوه بسند مجهول عن ابن عباس. و 28401 بنحوه عن عكرمة مرسلا و 28150 عن عطاء بن يسار مرسلا أيضا، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، فهذا خبر لا شيء.
__________
(1) البقرة: 267، وهود: 48، والعنكبوت: 61. [.....]
(2) الإسراء: 85.(3/434)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
ومعناها: ما خَلْقُكم أيُّها الناس جميعاً في القُدرة إِلا كخَلْق نفس واحدة، ولا بَعْثُكم جميعاً في القُدرة إِلا كبعث نفس واحدة، قاله مقاتل. وما بعد هذا قد تقدم تفسيره «1» إلى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تجري في البحر بنِعمة الله، قال ابن عباس: من نِعَمه جريان الفُلْك لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ أي:
لِيُرِيَكم من صنعه وعجائبه في البحر، وابتغاء الرزق إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ قال مقاتل:
أي: لكل صبور على أمر الله عزّ وجلّ شَكُورٍ في نعمه.
وقوله تعالى: وَإِذا غَشِيَهُمْ يعني الكفار وقال بعضهم: هو عامّ في الكفار والمسلمين مَوْجٌ كَالظُّلَلِ قال ابن قتيبة: وهي جمع ظُلَّة، يراد أنَّ بعضه فوق بعض، فله سوادٌ من كثرته.
قوله تعالى: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وقد سبق شرح هذا «2» ، والمعنى: فإنهم لا يذكُرون أصنامهم في شدائدهم إِنما يذكُرون الله وحده.
(1106) وجاء في الحديث أن عكرمة بن ابي جهل لمًّا هرب يوم الفتح من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أهل السفينة: أَخْلِصوا، فان آلهتكم لا تُغْني عنكم شيئا ها هنا، فقال عكرمة: ما هذا الذي تقولون، فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إِلاَّ اللهُ تعالى: فقال: هذا إِله محمد الذي كان يدعونا إِليه، لَئن لم ينجني في البحر إِلاَّ الإِخلاص ما ينجيني في البَرِّ غيرُه، ارجعوا بنا، فرجَع فأسلم.
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مؤمن، قاله الحسن. والثاني: مقتصد في قوله، وهو كافر، قاله مجاهد. يعني أنه يعترف بأنّ الله تعالى وحده القادر على إِنجائه وإِن كان مُضْمِراً للشِّرك. والثالث: أنه العادل في الوفاء بما عاهد اللهَ عليه في البحر من التوحيد، قاله مقاتل. فأما «الخَتَّار» فقال الحسن: هو الغدَّار. قال ابن قتيبة: الخَتْرُ: أقبح الغَدْر وأشدّه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ قال المفسرون: هذا خطاب لكفار مكة. وقوله تعالى:
لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي: لا يقضي عنه شيئاً من جنايته ومظالمه. قال مقاتل: وهذا يعني به
__________
أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 447 من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح هرب عكرمة بن أبي جهل فركب البحر ... فذكره. وكان قد أخرجه 3/ 446 من طريق أسباط بن نصر قال: زعم السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس إلا أربعة نفر، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، عكرمة، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي اليسر فأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم بها ...
__________
(1) آل عمران: 27، الرعد: 2، الحج: 62.
(2) يونس: 22.(3/435)
الكفار. وقد شرحنا هذا في البقرة «1» . قال الزّجّاج: وقوله تعالى: هُوَ جازٍ جاءت في المصحف بغير ياء، والأصل «جازيٌ» بضمة وتنوين. وذكر سيبويه والخليل أن الاختيار في الوقف هو «جازٍ» بغير ياءٍ، هكذا وقف الفصحاء من العرب ليُعلموا أن هذه الياء تسقُط في الوصل. وزعم يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقف بياءٍ، ولكن الاختيار اتِّباع المصحف.
قوله تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: بالبعث والجزاء فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بزينتها عن الإِسلام والتزوُّد للآخرة وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ أي: بحِلْمه وإِمهاله الْغَرُورُ يعني: الشيطان، وهو الذي من شأنه أن يَغُرُّ. قال الزجاج: «الغَرور» على وزن الفَعول، وفَعول من أسماء المبالغة، يقال:
فلان أَكُول: إِذا كان كثير الأكل، وضَروب: إِذا كان كثير الضَّرْب، فقيل للشيطان غَرور، لأنه يَغُرُّ كثيراً. وقال ابن قتيبة: الغَرور بفتح الغين: الشيطان، وبضمها: الباطل.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.
(1107) سبب نزولها أن رجلاً من أهل البادية جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: إِنَّ امرأتي حُبْلى، فأَخبِرني ماذا تَلِد؟ وبلدنا مُجْدِب، فأَخبِرني متى يَنزل الغيث؟ وقد علمت متى وُلدتُ، فأخبرني متى أموتُ، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
ومعنى الآية: «إِنَّ الله» عزّ وجلّ «عنده عِلْم الساعة» متى تقوم، لا يعلم سواه ذلك وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر: «ويُنَزِّلُ» بالتشديد، فلا يعلم أحد متى يَنزل الغيث، ألَيْلاَ أم نهاراً وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ لا يعلم سواه ما فيها، أذكر أم أنثى، أبيض أو أسود وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً أخيراً أم شرّاً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي: بأيِّ مكان. وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «بأيَّة أرض» بتاء مكسورة. والمعنى: ليس أحد يعلم أين مضجعه من الأرض حين يموت، أفي برٍّ أو بحر أو سهل أو جبل. وقال أبو عبيدة: يقال: بأيِّ أرض كنتَ، وبأية أرض كنت، لغتان، وقال الفراء: من قال: بأيِّ أرض، اجتزأ بتأنيث الأرض من أن يُظهر في «أيّ» تأنيثاً آخر. قال ابن عباس: هذه الخمس لا يعلمها ملَك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل مصطفى. قال الزجاج: فمن ادَّعى أنه يعلم شيئاً من هذه كفر بالقرآن لأنه خالفه.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 28173 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
__________
(1) البقرة: 48.(3/436)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
سورة السّجدة
وتسمّى سورة المضاجع، وهي مكّيّة بإجماعهم وقال الكلبيّ: فيها من المدنيّ ثلاث آيات، أوّلها قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً «1» . وقال مقاتل: فيها آية مدنيّة، وهي قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ الآية «2» . وقال غيرهما: فيها خمس آيات مدنيّات، أوّلها تَتَجافى جُنُوبُهُمْ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ قال مقاتل: المعنى: لا شكَّ فيه أنَّه تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ بل يقولون، يعني المشركين افْتَراهُ محمّد عليه السّلام من تِلقاء نَفْسه، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني العرب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يأتهم نذير من قَبْل محمد عليه السلام. وما بعده قد سبق تفسيره «3» إلى قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ يعني الكفار يقول: ليس لكم من دون عذابه من وليٍّ، أي: قريب يمنعُكم فيرُدُّ عذابه عنكم وَلا شَفِيعٍ يشفع لكم أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتؤمنون.
[سورة السجده (32) : الآيات 5 الى 9]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ في معنى الآية قولان «4» : أحدهما: يقضي
__________
(1) السجدة: 18.
(2) السجدة: 16.
(3) الأعراف: 54.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 232: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معناه:
يدبر الأمر من السماء إِلى الأرض، ثم يعرُج إِليه في يوم، كان مقدار ذلك اليوم في عروج ذلك الأمر إليه، ونزوله إلى الأرض ألف سنة مما تعدون من أيامكم، خمس مائة في النزول وخمس مائة في الصعود، لأن ذلك أظهر معانيه، وأشبهها بظاهر التنزيل.(3/437)
القضاء من السماء فينزِّله مع الملائكة إِلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ الملَك إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ من أيام الدنيا، فيكون الملَك قد قطع في يوم واحد من أيام الدنيا في نزوله وصعوده مسافة ألف سنة من مسيرة الآدمي.
والثاني: يدبِّر أمر الدنيا مدة أيَّام الدنيا، فينزِّل القضاء والقدر من السماء إِلى الأرض «ثم يعرُج إِليه» أي:
يعود إِليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكّام وينفرد الله تعالى بالأمر فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ وذلك في يوم القيامة، لأنَّ كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة. وقال مجاهد:
يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إِلى ملائكته فاذا مضت قضى لألف سنة آخرى، ثم كذلك أبداً. وللمفسرين في المراد بالأمر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الوحي، قاله السدي. والثاني: القضاء، قاله مقاتل. والثالث: أمر الدنيا. و «يعرُج» بمعنى يصعَد. قال الزجاج: يقال: عَرَجْتُ في السُّلَّم أعرُج، وعَرِج الرجُل يعرَج: إِذا صار أعرج. وقرأ معاذ القارئ، وابن السميفع، وابن أبي عبلة: «ثم يُعْرَجُ إِليه» بياء مرفوعة وفتح الراء، وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء «يَعْرِجُ» بياء مفتوحة وكسر الراء، وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «ثم تَعْرُجُ» بتاء مفتوحة ورفع الراء.
قوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فيه خمسة أقوال «1» : أحدها: جعله حَسَناً. والثاني:
أحكم كل شيء، رويا عن ابن عباس، وبالأول قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد. والثالث: أحسنه، ولم يتعلمه من أحد، كما يقال: فلان يُحْسِن كذا: إِذا عَلِمه، قاله السدي ومقاتل. والرابع: أن المعنى ألهم خَلْقه كلَّ ما يحتاجون إِليه، كأنه أعلمهم كل ذلك وأحسنهم، قاله الفراء. والخامس: أحسن إِلى كل شيء خَلْقه، حكاه الماوردي. وفي قوله تعالى: «خَلْقَه» قراءتان. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر:
«خَلْقَه» ساكنة اللام. وقرأ الباقون بتحريك اللام. وقال الزجاج: فتحها على الفعل الماضي وتسكينها على البدل، فيكون المعنى أحسنَ خَلْقَ كلِّ شيء خَلَقه. وقال أبو عبيدة: المعنى أحسن خَلْق كلِّ شيء، والعرب تفعل مثل هذا، يقدِّمون ويؤخِّرون.
قوله تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي: ذرِّيته وولده، وقد سبق شرح الآية «2» . ثم رجع إِلى آدم فقال: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وقد سبق بيان ذلك «3» . ثم عاد إِلى ذريته فقال: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أي: بعد كونكم نطفا.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: أحكم وأتقن لأنه لا معنى لذلك إذا قرئ بفتح لام خَلَقَهُ إلا أحد الوجهين: إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان أو معنى التحسين الذي هو معنى الجمال والحسن، فلما كان في خلقه ما لا يشك في قبحه وسماجته، علم أنه لم يعن به أنه أحسن كل ما خلق، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته.
وقراءة من قرأ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بفتح اللام هي عندي أولى الأقوال في ذلك بالصواب.
(2) المؤمنون: 12.
(3) الحجر: 29.(3/438)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 12]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
قوله تعالى: وَقالُوا يعني منكري البعث أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ وقرأ عليّ بن أبي طالب وعليّ بن الحسين وجعفر بن محمد وأبو رجاء وأبو مجلز وحميد وطلحة: «ضَلِلْنَا» بضاد معجمة وكسر اللام الأولى. قال الفراء: ضَلَلْنَا وضَلِلْنَا لغتان، والمعنى: إِذا صارت عظامنا ولحومنا تراباً كالأرض تقول: ضَلَّ الماءُ في اللَّبَن، وضل الشيء في الشيء: إِذا أخفاه وغلب عليه. وقرأ أبو نهيك وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو حيوة وابن أبي عبلة: «ضُلِّلْنَا» بضم الضاد المعجمة وتشديد اللام الأولى وكسرها. وقرأ الحسن وقتادة ومعاذ القارئ: «صَلَلْنَا» بصاد غير معجمة مفتوحة، وذكر لها الزجاج معنيين: أحدهما: أَنْتَنَّا وتَغَيَّرْنا وتغيَّرَت صُوَرُنا يقال: صَلَّ اللحمُ وأَصَلَّ: إِذا أنتن وتغيَّر. والثاني:
صِرْنَا من جنس الصَّلَّة، وهي الأرض اليابسة.
قوله تعالى: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟! هذا استفهام إِنكار. قوله تعالى: الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي:
بقبض أرواحكم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ يوم الجزاء. ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ أي: مُطأطئوها حياءً وندماً، رَبَّنا فيه إِضمار «يقولون ربَّنا» أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي: عَلِمْنا صِحَّة ما كنَّا به مكذِّبين فَارْجِعْنا إِلى الدنيا وجواب «لو» متروك، تقديره: لو رأيتَ حالهم لرأيت ما يعتبر به، ولشاهدت العجب.
[سورة السجده (32) : الآيات 13 الى 17]
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
قوله تعالى: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي: وجب وسبق والقول هو قوله تعالى لإِبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي: من كفار الفريقين. فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قال مقاتل: إِذا دخلوا النار قالت لهم الخزَنة: فذوقوا العذاب. وقال غيره: إِذا اصطرخوا فيها قيل لهم: ذُوقوا بما نَسِيتُم، أي بما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، إِنَّا نَسِيناكُمْ أي: تركناكم من الرَّحمة.
قوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي: وُعِظوا بها خَرُّوا سُجَّداً أي: سقطوا على وجوههم ساجدين. وقيل: المعنى: إِنَّما يؤمِن بفرائضنا من الصلوات الخمس الذين إِذا ذُكِّروا بها بالأذان والإِقامة خَرُّوا سُجَّداً.
قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ اختلفوا فيمن نزلت وفي الصلاة التي تتجافى لها جنوبهم على أربعة أقوال: أحدها: أنها نزلت في المتهجِّدين بالليل.(3/439)
(1108) روى معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله: «تتجافى جنوبُهم» قال: «قيام العبد من الليل» . وفي لفظ آخر أنه قال لمعاذ: «إِن شئتَ أنبأتُك بأبواب الخير» ، قال: قلت أجَلْ يا رسول الله، قال: «الصَّوم جُنَّة، والصدقة تكفِّر الخطيئة، وقيام الرَّجل في جوف الليل يبتغي وجه الله» ، ثم قرأ:
«تتجافى جنوبُهم عن المضاجع» . وكذلك قال الحسن، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وقتادة، وابن زيد أنها في قيام الليل. وقد روى العوفي عن ابن عباس قال: تتجافى جنوبهم لذكر الله تعالى، كلّما استيقظوا ذكروا الله تعالى، إِما في الصلاة، وإِمَّا في قيام، أو في قعود، أو على جنوبهم، فهم لا يزالون يذكرون الله عزّ وجلّ.
(1109) والثاني: أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلّون ما بين المغرب
__________
حديث حسن، وهو قطعة من حديث مطوّل، رجاله ثقات إلا أنه منقطع، أبو وائل لم يسمع من معاذ.
أخرجه الترمذي 2616 والنسائي في «الكبرى» 11394 و «التفسير» 414 وابن ماجة 3973 وأحمد 5/ 231 والطبراني 20/ (266) والبغوي 11 وعبد الرزاق في «التفسير» 2302 من طرق عن معمر به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
- وأخرجه أحمد 5/ 248 والطبراني 20 (200) من طريق عاصم عن شهر عن معاذ به، رواية أحمد مختصرة، وهذا منقطع أيضا.
- وأخرجه أحمد 5/ 245 246 من طريق شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ به، وهذا إسناد موصول، وشهر لا بأس به، وهو حسن الحديث في المتابعات، ولا يوجد في لفظة (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) قال: «قيام العبد من الليل» ولا ذكر أبواب الخير.
- وأخرجه أحمد 5/ 233 وابن أبي شيبة في «الإيمان» / 2 والحاكم 2/ 76 و 412 والطبراني 20/ 291- 294، والطبري 28239 والبيهقي 9/ 20 من طريقين عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به مطولا ومختصرا.
وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وهذا منقطع بين ميمون ومعاذ.
الخلاصة: هو حديث حسن بمجموع طرقه، ولفظ الحديث عند الترمذي: عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّم في سفر. فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل قال: ثم تلا: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يَعْمَلُونَ ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذروة سنامه؟
قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه قال: كفّ عليك هذا، فقلت يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
ضعيف. أخرجه ابن عدي في «الكامل» 2/ 193 والطبري 28225 من طريق الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار: سألت أنس رضي الله عنه عن قوله تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قال: ... فذكره.
وأعله ابن عدي بالحارث بن وجيه الراسبي ونقل عن النسائي قوله الحارث بن وجيه ضعيف.
- وذكره الواحدي في «الأسباب» 684 عن مالك بن دينار به دون إسناد.
- وورد بدون ذكر الآية، وإنما هو رأي لأنس يبين المراد بالآية. أخرجه أبو داود 1331 والطبري 28226 من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن أنس: «كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون» . ورجاله، ثقات لكنه رأي لأنس رضي الله عنه، والراجح في معنى الآية قيام الليل وهو المتقدم.(3/440)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
والعشاء، قاله أنس بن مالك.
والثالث: أنها نزلت في صلاة العشاء، كأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا ينامون حتى يصلُّوها، قاله ابن عباس. والرابع: أنها صلاة العشاء والصبح في جماعة، قاله أبو الدرداء والضحاك.
ومعنى «تَتَجافى» : ترتفع. والمَضَاجِع جمع مَضْجَع، وهو الموضع الذي يُضْطَجَع عليه. يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً من عذابه وَطَمَعاً في رحمته وثوابه وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في الواجب والتطوُّع.
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ وأسكن ياء «أُخْفِي» حمزة، ويعقوب. قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن المراد بالآية التي قبلها: الصلاة في جوف الليل، لأنه عمل يستسرّ الإِنسان به، فجعل لفظ ما يُجازى به «أخفي لهم» ، وإذا فتحت الياء من أُخْفِيَ، فعلى تأويل الفعل الماضي، وإِذا أسكنْتَها، فالمعنى: ما أُخْفِي أنا لهم، إِخبار عن الله تعالى وكذلك قال الحسن البصري: أخفي لهم، بالخُفْية خُفْية، وبالعلانية علانية.
(1110) وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يقول الله عزّ وجلّ: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر، اقرءوا إِن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ.
قوله تعالى: مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وقرأ أبو الدرداء، وأبو هريرة، وأبو عبد الرحمن السلمي، والشعبي، وقتادة: «من قُرَّاتِ أعيُنٍ» بألف على الجمع.
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً في سبب نزولها قولان:
(1111) أحدهما: أن الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط قال لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أنا أحدّ
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4780 عن إسحاق بن نصر به. وأخرجه مسلم 2824 ح 4 وابن ماجة 4328 وأحمد 2/ 466 و 495 وابن أبي شيبة 13/ 109 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه البخاري 3244 و 4479 ومسلم 2824 والترمذي 3197 والحميدي 1133 وابن حبان 369 من طرق عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري 7498 وعبد الرزاق 20874 وأحمد 2/ 313 والبغوي في «شرح السنة» 4266 من طريق معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة به. وأخرجه أحمد 2/ 313 والدارمي 2/ 335 والبغوي في «شرح السنة» 4268 من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. وله شاهد من حديث سهل بن سعد أخرجه مسلم 2825. ومن حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو نعيم في «الحلية» 2/ 262.
ضعيف منكر. أخرجه الواحدي 687 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأخرجه الطبري 28262 عن ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار مرسلا. وهو ضعيف، فمع إرساله فيه مجاهيل والصواب أن الآية عامة في كل مؤمن وفاسق. وكون الآية نزلت في ذلك لا يصح وهو من بدع التأويل كونها خاصة في علي وعقبة، والمراد بالفاسق الكافر لا المؤمن العاصي. وانظر «تفسير القرطبي» 4974. و «أحكام القرآن» 3/ 535.(3/441)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
منك سناناً، وأبسط منك لساناً، وأملأ للكتيبة منك، فقال له عليٌّ: اسكت فانما أنت فاسق، فنزلت هذه الآية، فعنى بالمؤمن عليّاً، وبالفاسق الوليد، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عطاء بن يسار، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى، ومقاتل.
والثاني: أنها نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل، قاله شريك.
قوله تعالى: لا يَسْتَوُونَ قال الزّجّاج: لا يستوي المؤمنون والكافرون ويجوز أن تكون لاثنين، لأن معنى الاثنين جماعة وقد شهد الله عزّ وجلّ بهذا الكلام لعليٍّ عليه السلام بالايمان وأنَّه في الجنّة، لقوله تعالى: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى. وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرِّف: «جنةُ المأوى» على التوحيد. قوله تعالى: نُزُلًا قرأ الحسن، والنخعي، والأعمش، وابن أبي عبلة: «نُزْلاً» بتسكين الزاي. وما بعد هذا قد سبق بيانه إِلى قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى وفيه ستة أقوال «1» : أحدها: أنه ما أصابهم يوم بدر، رواه مسروق عن ابن مسعود، وبه قال قتادة، والسدي. والثاني: سنون أُخذوا بها، رواه أبو عبيدة عن ابن مسعود، وبه قال النخعي. وقال مقاتل: أُخذوا بالجوع سبع سنين. والثالث: مصائب الدنيا، قاله أُبيُّ بن كعب، وابن عباس في رواية ابن أبي طلحة، وأبو العالية، والحسن، وقتادة، والضحاك. والرابع: الحدود، رواه عكرمة عن ابن عباس. والخامس: عذاب القبر، قاله البراء. والسادس: القتل والجوع، قاله مجاهد.
قوله تعالى: دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي: قَبْل العذاب الأكبر وفيه قولان:
أحدهما: أنه عذاب يوم القيامة، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه القتل ببدر. قاله مقاتل.
قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قال أبو العالية: لعلهم يتوبون. وقال ابن مسعود: لعلَّ مَنْ بقي منهم يتوب. وقال مقاتل: لكي يرجِعوا عن الكفر إِلى الإِيمان.
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ قد فسرناه في الكهف «2» . قوله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ قال يزيد بن رفيع: هم أصحاب القَدَر. وقال مقاتل: هم كفار مكة انتقم الله منهم بالقتل ببدر، وضربت الملائكةُ وجوههم وأدبارهم، وعجُّل أرواحهم إلى النار.
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 248: وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: إن الله وعد هؤلاء الفسقة المكذبين بوعيده في الدنيا العذاب الأدنى أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر، والعذاب هو ما كان في الدنيا من بلاء أصابهم، إما شدة من مجاعة أو قتل، أو مصائب يصابون بها، فكل ذلك العذاب الأدنى، ولم يخصص الله تعالى ذكره أن يعذبهم بنوع من ذلك دون نوع، وقد عذبهم بكل ذلك في الدنيا بالجوع والشدائد والمصائب في الأموال فأوفى لهم بما وعدهم.
(2) الكهف: 57.(3/442)
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ فيه أربعة أقوال:
(1112) أحدها: فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربَّه، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والثاني: من لقاء موسى ليلة الإِسراء، قاله أبو العالية، ومجاهد، وقتادة، وابن السائب. والثالث:
فلا تكن في شكٍّ من لقاء الأذى كما لقي موسى، قال الحسن. والرابع: لا تكن في مرية من تلقّي موسى كتاب الله عزّ وجلّ بالرضى والقبول، قاله السدي.
قال الزجاج: وقد قيل: فلا تكن في شكٍّ من لقاء موسى الكتاب، فتكون الهاء للكتاب. وقال أبو علي الفارسي: المعنى: من لقاء موسى الكتاب، فأضيف المصدر إِلى ضمير الكتاب، وفي ذلك مدح على امتثاله ما أُمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل. وفي قوله تعالى: وَجَعَلْناهُ هُدىً قولان:
أحدها: الكتاب، قاله الحسن. والثاني: موسى، قاله قتادة. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أي: من بني إِسرائيل أَئِمَّةً أي: قادة في الخير يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي: يَدْعون الناس إِلى طاعة الله لَمَّا صَبَرُوا وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «لَمَّا صبروا» بفتح اللام وتشديد الميم. وقرأ حمزة والكسائي: «لِمَا» بكسر اللام خفيفة. وقرأ ابن مسعود: «بما» بباء مكان اللام والمراد: صبرهم على دينهم وأذى عدوِّهم وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ أنها من الله عزّ وجلّ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء. والثاني: أنهم قومٌُ صالحون سوى الأنبياء. وفي هذا تنبيه لقريش أنكم إِن أَطعتم جعلتُ منكم أئمة.
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي: يقضي ويحكُم وفي المشار إِليهم قولان:
__________
الصواب موقوف. أخرجه الطبراني 12758 من حديث ابن عباس وإسناده ضعيف، لضعف محمد بن عثمان بن أبي شيبة. وقال الهيثمي في «المجمع» 11270: رجاله رجال الصحيح! كذا قال رحمه الله مع أن شيخ الطبراني وهو محمّد بن عثمان بن أبي شيبة. ذكره الذهبي في «الميزان» 7934 فقال: وثقة صالح جزرة، وقال ابن عدي، لم أر له حديثا منكرا، وأما عبد الله بن أحمد، فقال: كذاب. وقال ابن خراش: كان يصنع الحديث. وقال مطيّن: هو عصا موسى، تلقف ما يأفكون. وقال ابن عقدة: سمعت عبد الله بن أسامة الكلبي، وإبراهيم بن إسحاق الصواف، وداود بن يحيى يقولون: محمد بن عثمان، كذاب اه باختصار والأشبه في هذا، الوقف فيه على ابن عباس. وانظر «تفسير ابن كثير» 3/ 571 و «فتح القدير» 1951 بتخريجنا.(3/443)
أحدهما: أنهم الأنبياء وأُممهم. والثاني: المؤمنون والمشركون.
ثم خوّف كفّار مكّة بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السّلمي: «نهد» بالنون.
وقد سبق تفسيره «1» . أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ يعني المطر والسيل إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ وهي التي لا تُنبت- وقد ذكرناها في أول الكهف «2» - فاذا جاء الماء أنبتَ فيها ما يأكل الناس والأنعام. وَيَقُولُونَ يعني كفار مكة مَتى هذَا الْفَتْحُ وفيه أربعة أقوال «3» : أحدها: أنه ما فتح يوم بدر روى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: يومَ بدر فتح للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، فلم ينفع الذين كفروا إِيمانُهم بعد الموت.
والثاني: أنه يوم القيامة، وهو يوم الحُكم بالثواب والعقاب، قاله مجاهد. والثالث: أنه اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب في الدنيا قاله السدي. والرابع: فتح مكة، قاله ابن السائب والفراء وابن قتيبة وقد اعتُرِض على هذا القول، فقيل: كيف لا ينفع الكفارَ إِيمانُهم يوم الفتح وقد أسلم جماعة منهم وقبل إسلامهم يومئذ؟! ففيه جوابان: أحدهما: لا ينفع مَنْ قُتل من الكفار يومئذ إِيمانُهم بعد الموت وقد ذكرناه عن ابن عباس.
(1113) وقد ذكر أهل السِّيَر أنَّ خالداً دخل يوم الفتح من غير الطريق التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلقيه صفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو في آخرين فقاتلوه، فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم، فقتل أربعة وعشرين من قريش، وأربعة من هذيل، وانهزموا، فلمَّا ظهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم قال:
«ألم أَنه عن القتال» ؟ فقيل: إِن خالداً قوتل فقاتل.
والثاني: لا ينفع الكفارَ ما أعطوا من الأمان، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال:
(1114) «مَنْ أَغلق بابَه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» .
قال الزجاج: يقال: آمنتُ فلاناً إِيماناً، فعلى هذا يكون المعنى: لا يدفع هذا الأمانُ عنهم عذاب
__________
يأتي في سورة الفتح. وانظر قصة فتح مكة في «دلائل النبوة» للبيهقي 5/ 5- 64 و «سيرة ابن هشام» 4/ 26- 42. و «المغازي» للواقدي 2/ 780 و «الطبقات لابن سعد» 2/ 134. و «البداية والنهاية» 4/ 297.
صحيح. أخرجه مسلم 1780 ح 86 وأبو داود 3023 والبيهقي 9/ 118 من طريقين عن ثابت عن أنس.
- وأخرجه مسلم 1780 ح 84 و 85 وأبو داود 1872 والطيالسي 2424 وأحمد 3/ 538 وابن أبي شيبة 14/ 471- 473 والبيهقي 9/ 117- 118 وابن حبان 4760 من حديث أبي هريرة في أثناء خبر مطوّل.
وانظر «تفسير القرطبي» 4394 بتخريجنا.
__________
(1) طه: 128. [.....]
(2) الكهف: 8.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 573: إنما المراد بالفتح الذي هو القضاء والفصل، كقوله تعالى:
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وكقوله: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ فيقول الله تعالى مخبرا عن استعجال الكفار وقوع بأس الله بهم وحلول غضبه ونقمته عليهم، استبعادا وتكذيبا وعنادا وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ أي: متى تنصر علينا يا محمد كما تزعم أن لك وقتا تدال علنا، وينتقم لك منا فمتى يكون هذا؟ قال تعالى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ أي: إذا حلّ بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا وفي الآخرة، لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ.
ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة فقد أبعد النّجعة، وأخطأ فأفحش، فإن يوم الفتح قد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إسلام الطلقاء وكانوا قريبا من ألفين.(3/444)
الله عزّ وجلّ. وهذا القول الذي قد دافعنا عنه ليس بالمختار، وإِنما بيَّنَّا وجهه لأنه قد قيل.
وقد خرج بما ذكرنا في الفتح قولان: أحدهما: أنه الحكم والقضاء، وهو الذي نختاره. والثاني:
فتح البلد.
قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ أي: انتظر عذابهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ بك حوادث الدهر.
قال المفسرون: وهذه الآية منسوخة بآية السّيف. والله أعلم بالصّواب.(3/445)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
سورة الأحزاب
وهي مدنيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ.
(1115) سبب نزولها أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا على عبد الله بن أُبيّ، ومعتب بن قشير، والجَدّ بن قيس فتكلَّموا فيما بينهم، وأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدعَوه إِلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء كرهها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(1116) قال مقاتل: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يرفُض ذِكْر اللات والعُزَّى ويقولَ: إِنَّ لها شفاعة، فكره ذلك، ونزلت الآية.
وقال ابن جرير: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ الذين يقولون: اطرد عنَّا أتباعك من ضعفاء المسلمين وَالْمُنفِقِينَ فلا تَقْبَل منهم رأياً. فان قيل: ما الفائدة في أمر الله تعالى رسولَه بالتقوى، وهو سيِّد المتَّقين؟! فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المراد بذلك استدامة ما هو عليه. والثاني: الإِكثار مما هو فيه.
والثالث: أنه خطاب وُوجِهَ به، والمراد أُمَّتُه. قال المفسرون: وأراد بالكافرين في هذه الآية: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور، وبالمنافقين: عبد الله بن أُبيّ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن
__________
عزاه المصنف لابن عباس من طريق أبي صالح، وأبو صالح وتلميذه الكلبي رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 688 بدون إسناد، ولم أره مسندا، فهو لا شيء، وعزاه الحافظ في «الكشاف» 3/ 519 للثعلبي والواحدي بدون إسناد.
عزاه المصنف لمقاتل، وهذا معضل، وهو بدون إسناد، ومقاتل ممن يضع الحديث، فهذا لا شيء.(3/446)
أُبَيْرِق. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وفي سبب نزولها قولان:
(1117) أحدهما: أن المنافقين كانوا يقولون: لمحمد قلبان، قلب معنا، وقلبٌ مع أصحابه، فأكذبهم اللهُ تعالى، ونزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(1118) والثاني: أنها نزلت في جميل بن مَعْمَر الفهري- كذا نسبه جماعة من المفسرين. وقال الفراء: جميل بن أسد، ويكنى: أبا مَعْمَر. وقال مقاتل: أبو مَعْمَر بن أنس الفهري- وكان لبيباً حافظاً لِمَا سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إِلا وله قلبان في جوفه، وكان يقول: إِن لي قلبين أعقِل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلمَّا كان يوم بدر وهُزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر، تلقَّاه أبو سفيان وهو معلِّق إِحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: ما حال الناس؟
قال: انهزموا، قال: فما بالك إِحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرتُ إِلاَّ أنهما في رِجليّ، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لَمَا نسي نعله في يده وهذا قول جماعة من المفسرين. وقد قال الزهري في هذا قولاً عجيباً، قال: بلغنا أنّ ذلك في زيد بن حارثة ضُرب له مثَل يقول: ليس ابنُ رجل آخر ابنَك.
قال الأخفش: «مِنْ» زائدة في قوله تعالى: «من قلبين» . قال الزّجّاج: أكذب الله عزّ وجلّ هذا الرجل الذي قال: لي قلبان، ثم قرر بهذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم ممَّا لا حقيقة له، فقال:
وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ فأعلم الله تعالى أن الزوجة لا تكون أُمّاً، وكانت الجاهلية تُطلِّق بهذا الكلام، وهو أن يقول لها: أنتِ عليَّ كَظَهر أُمِّي، وكذلك قوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي: ما جعل مَنْ تَدْعونه ابناً- وليس بولد في الحقيقة- ابناً ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي:
نسبُ مَنْ لا حقيقةَ لنَسَبه قولٌ بالفم لا حقيقة تحته وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أي: لا يجعل غير الابن ابناً وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي: للسّبيل المستقيم. وذكر المفسّرون أنّ قوله تعالى: «وما جَعل أزواجَكم اللاَّئي تُظاهِرون مِنْهُنَّ» نزلت في اوس بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة. ومعنى الكلام: ما جعل أزواجكم اللاَّئي تُظِاهرون منهنَّ كأُمَّهاتكم في التحريم، إِنَّما قولُكم معصية، وفيه كفّارة، وأزواجكم حلال لكم وسنشرح هذا في سورة المجادلة إِن شاء الله. وذكروا أنّ قوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ.
__________
ضعيف. أخرجه الترمذي 3199 وأحمد 1/ 168 والحاكم 2/ 415 والطبري 28318 من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لضعف قابوس. قال الترمذي: حديث حسن! وقال الحاكم: صحيح الإسناد! وتعقبه الذهبي بقوله: قابوس ضعيف. وانظر «فتح القدير» 1956 و «أحكام القرآن» 1750 بتخريجنا، والله الموفق.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 689 بتمامه بدون إسناد. وورد بنحوه عند الطبري 28321 وعبد الرزاق 2311 عن قتادة مرسلا. وورد أيضا من مرسل عكرمة عند الطبري 28323. وعن ابن عباس أخرجه الطبري 28319 وفيه مجاهيل، وفيه أيضا عطية العوفي، وهو واه. الخلاصة: هو خبر ضعيف، فهذه الروايات واهية لا تقوم بها حجة.
__________
(1) النساء: 81.(3/447)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
(1119) نزل في زيد بن حارثة، أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتبنَّاه قبل الوحي، فلمَّا تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون: تزوَّج محمدٌ امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فنزلت هذه الآية.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 5 الى 6]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ. قال ابن عمر:
(1120) ما كنَّا ندعو زيد بن حارثة إِلا زيد بن محمد، حتى نزلت «أُدعوهم لآبائهم» .
قوله تعالى: هُوَ أَقْسَطُ أي: أعدل، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ أي: إِن لم تعرفوا آباءهم فَإِخْوانُكُمْ أي: فهم إِخوانُكم، فليقُل أحدُكم: يا أخي، وَمَوالِيكُمْ قال الزجاج: أي بنو عمِّكم.
ويجوز أن يكون «مواليكم» أولياءَكم في الدِّين. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فيما أخطأتم به قبل النَّهي، قاله مجاهد. والثاني: في دعائكم من تَدْعونه إِلى غير أبيه وأنتم ترَونه كذلك، قاله قتادة. والثالث: فيما سهوتم فيه، قاله حبيب بن أبي ثابت. فعلى الأول يكون معنى قوله تعالى: وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي: بعد النَّهي. وعلى الثاني والثالث. ما تعمَّدتْ في دعاء الرجل إِلى غير أبيه.
قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: أحقُّ، فله أن يحكُم فيهم بما يشاء، قال ابن عباس: إِذا دعاهم إِلى شيء، ودعتْهم أنفسهم إِلى شيء، كانت طاعتُه أولى من طاعة أنفُسهم وهذا صحيح، فان أنفُسهم تدعوهم إِلى ما فيه هلاكهم، والرسول عليه السلام يدعوهم إِلى ما فيه نجاتهم.
قوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي: في تحريم نكاحهنَّ على التأبيد، ووجوب إِجلالهنَّ وتعظيمهنَّ ولا تجري عليهنَّ أحكام الأُمَّهات في كل شيء، إِذ لو كان كذلك لَمَا جاز لأحد أن يتزوج بناتِهنَّ، وَلَورِثْنَ المسلمين، ولجازت الخَلوة بهنَّ. وقد روى مسروق عن عائشة أن أمرأة قالت: يا أُمَّاه، فقالت: لستُ لكِ بأُمٍّ إِنَّما أنا أُمُّ رجالكم فبان بهذا الحديث أن معنى الأُمومة تحريمُ نكاحهنَّ فقط.
وقال مجاهد: «وأزواجُه أُمَّهاتُهم» وهو أب لهم. وما بعد هذا مفسَّر في آخر الأنفال إِلى قوله تعالى:
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ والمعنى أن ذوي القرابات بعضُهم أولى بميراث بعض من أن يَرِثوا بالإِيمان والهجرة كما كانوا يفعلون قبل النسخ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً وهذا استثناء ليس من الأول،
__________
لم أره بهذا التمام، وكونه عليه الصلاة والسلام أعتق زيدا مشهور متواتر في كتب الحديث والسير، وكونه تبناه فهذا مشهور، وأما ذكر نزول الآية، فلا يصح، ولم أره مسندا.
صحيح. أخرجه البخاري 4782 ومسلم 2425 والترمذي 3209 و 3814 والنسائي في «التفسير» 416 وأحمد 2/ 77 وابن سعد 3/ 43 وابن حبان 7042 والطبراني 1317 والبيهقي 7/ 161 والواحدي في «الأسباب» 691 من طرق عن موسى بن عقبة به عن ابن عمر ...(3/448)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
والمعنى: لكن فِعلُكم إِلى أوليائكم معروفاً جائز، وذلك أن الله تعالى لمَّا نسخ التوارث بالحلف والهجرة، أباح الوصية للمعاقدين، فللانسان أن يوصيَ لمن يتولاَّه بما أحب من ثلثه. فالمعروف ها هنا:
الوصية. قوله تعالى: كانَ ذلِكَ يعني نسخ الميراث بالهجرة وردّه إِلى ذوي الأرحام فِي الْكِتابِ يعني اللوح المحفوظ مَسْطُوراً أي: مكتوباً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 9]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا المعنى: واذكر إِذ أخذنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي: عهدهم وفيه قولان: أحدهما: أخذُ ميثاق النبييِّن: أن يصدِّق بعضُهم بعضاً، قاله قتادة. والثاني: أن يعبدوا الله تعالى ويدعوا إِلى عبادته، ويصدِّق بعضهم بعضاً، وأن ينصحوا لقومهم، قاله مقاتل. وهذا الميثاق أُخِذ منهم حين أُخرجوا من ظهر آدم كالذَّرِّ. قال أُبيُّ بن كعب: لمَّا أخذ ميثاق الخَلْق خصَّ النبييِّن بميثاق آخر.
فان قيل: لِمَ خصَّ الأنبياءَ الخمسة بالذِّكْر دون غيرهم من الأنبياء؟ فالجواب: أنه نبَّه بذلك على فضلهم، لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وقدَّم نبيَّنا صلى الله عليه وسلّم بياناً لفضله عليهم «1» .
(1121) قال قتادة: كان نبيُّنا أوّل النّبيّين في الخلق.
__________
باطل، أخرجه الطبري 28353 عن أبي هلال عن قتادة من قوله وهذا باطل. وأخرجه الطبري 28352 وابن سعد في «الطبقات» 1/ 119 عن قتادة، مرسلا والمرسل من قسم الضعيف، وله علة ثانية: سعيد بن أبي عروبة، تغير بأخرة. وعلة ثالثة: فيه عطاء بن عبد الوهّاب الخفاف وثقه قوم وضعفه أحمد بقوله: ضعيف مضطرب الحديث.
وورد من حديث أبي هريرة مرفوعا. أخرجه الديلمي 4850 وأبو نعيم في «الدلائل» 3 من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف جدا، فيه سعيد بن بشير، وهو ضعيف منكر الحديث، وساق الذهبي هذا الحديث في ترجمته في «الميزان» 3143 على أنه من منكراته. وله علة ثانية: وهي أن الحس لم يسمع من أبي هريرة، فالإسناد ضعيف جدا، لا شيء. وأما المتن فباطل. بل أول من خلق من البشر، آدم عليه السلام، هذا وقد خلط بعضهم هذا الحديث بحديث «كنت نبيا، وآدم بين الروح والجسد» . وهذا الحديث الأخير صحيح. أخرجه أحمد 5/ 59 والحاكم 2/ 609 والطبراني 2/ 353 والآجري في «الشريعة» 956 من طرق عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورجاله رجال مسلم. وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 222: رجاله رجال الصحيح. ولهذا الحديث شواهد كثيرة، لكنه لا يثبت أولية الخلق إنما فيه إثبات، أنه مكتوب في اللوح المحفوظ وفي علم الله تعالى، فتنبّه، فإن هذا الحديث الأخير، يخالف الأول ويفارقه، وإنما خلق وولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم ولدته أمه آمنة كما هو معلوم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 579: يقول تعالى مخبرا عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء: أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله وإبلاغ رسالته، والتعاون والتناصر والاتفاق، فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم، ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم، وهو من باب عطف الخاص على العام، وقد صرح بذكرهم نصا في هذه الآية، وبدأ في هذه الآية بالخاتم، لشرفه- صلوات الله عليه- ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم.
الخلاصة: إسناده ضعيف جدا كما تقدم، والمتن باطل، فالنبي صلى الله عليه وسلّم آخر النبيين في الخلق والبعث. والله أعلم.
وانظر «فتح القدير» 1966 و «تفسير ابن كثير» 3/ 579 و «المقاصد الحسنة» 837 للسخاوي و «الشريعة» 428- 430 للآجري بتخريجنا والله الموفق.(3/449)
وقوله تعالى: مِيثاقاً غَلِيظاً أي: شديداً على الوفاء بما حُمِّلوا. وذكر المفسرون أن ذلك العهد الشديد: اليمين بالله عزّ وجلّ لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ يقول: أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين، وهم الأنبياء عَنْ صِدْقِهِمْ في تبليغهم. ومعنى سؤال الأنبياء- وهو يعلم صدقهم- تبكيت مكذِّبيهم.
وها هنا تم الكلام. ثم أخبر بعد ذلك عمَّا أعدَّ للكافرين بالرسل.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيام الخندق.
الإِشارة إِلى القصة
(1122) ذَكر أهل العلم بالسّيرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمَّا أجلى بني النضير، ساروا إِلى خيبر، فخرج نفر من أشرافهم إِلى مكة فألَّبوا قريشاً ودعَوهم إِلى الخروج لقتاله، ثم خرجوا من عندهم فأتَوا غطفان وسُلَيم، ففارقوهم على مثل ذلك. وتجهزت قريشٌ ومن تبعهم من العرب، فكانوا أربعة آلاف، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، ووافتهم بنو سُلَيم ب «مرِّ الظهران» ، وخرجت بنو أسد، وفزارة، وأشجع، وبنو مُرَّة، فكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف، وهم الأحزاب فلمَّا بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم خروجُهم من مكة، أخبر الناسَ خبرهم، وشاورهم، فأشار سلمان بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى سفح «سَلْعٍ» ، وجعل سَلْعاً خلف ظهره ودسَّ أبو سفيان بن حرب حُيَيَّ بن أخطب إِلى بني قريظة يسألهم أن ينقُضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويكونوا معهم عليه، فأجابوا، واشتد الخوف، وعَظُم البلاء، ثم جرت بينهم مناوشة وقتال، وحُصِر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه بضع عشرة ليلة حتى خلص إِليهم «1» الكَرْب، وكان نُعَيم بن مسعود الأشجعيّ قد أسلم، فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذَّل بينهم، فاستوحش كل منهم من صاحبه، واعتلَّت قريظة بالسبت فقالوا: لا نقاتِل فيه، وهبَّت ليلةَ السبت ريح شديدة، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إِنكم والله لستم بدار مُقام، لقد هلك الخُفُّ والحافر، وأجدب الجَنَاب «2» ، وأخلفتْنا قريظةُ، ولقينا من الريح ما ترَون، فارتحِلوا فاني مرتحِل فأصبحت العساكر قد أقشَعت «3» كلُّها. قال مجاهد: والريح التي أُرسلت عليهم هي الصَّبا، حتى أكفأت «4» قدورهم، ونزعت فساطيطهم «5» . والجنود: الملائكة،
__________
جزء من حديث. أخرجه الطبري 28369 عن ابن إسحاق عن عروة والزهري وغيرهما. وانظر خبر غزوة الخندق في «سيرة ابن هشام» 3/ 141- 145 نقلا عن ابن إسحاق و «دلائل النبوة» للبيهقي 3/ 408، و «تفسير الطبري» 28364 و «تفسير ابن كثير» 3/ 580- 581.
__________
(1) في «اللسان» خلص: وصل وبلغ.
(2) الجناب والجانب: الناحية والفناء وما قرب من محلّة القوم.
(3) أقشع القوم: تفرّقوا.
(4) أكفأ الشيء: أماله، وكفأت الإناء: كببته.
(5) الفسطاط: بيت من شعر.(3/450)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
ولم تقاتل يومئذ. وقيل: إِن الملائكة جَعلت تقلع أوتادهم وتطفئ نيرانهم وتكبِّر في جوانب عسكرهم، فاشتدت عليهم، فانهزموا من غير قتال.
قوله تعالى: لَمْ تَرَوْها وقرأ النخعي، والجحدري، والجوني، وابن السميفع: «لم يَرَوْهَا» بالياء وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً وقرأ أبو عمرو: «يعملون» بالياء.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 10 الى 12]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12)
قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي: مِنْ فوق الوادي ومن أسفله وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي: مالت وعَدَلت، فلم تنظُر إِلى شيء إِلاَّ إِلى عدوِّها مُقْبِلاً من كل جانب وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وهي جمع حَنْجَرَة. والحَنْجَرَة: جوف الحُلْقُوم. قال قتادة: شَخَصتْ عن مكانها، فلولا أنَّه ضاق الحُلقوم عنها أن تخرُج لخرجت. قال غيره: المعنى أنهم جَبُنوا وَجِزع أكثرهم وسبيل الجبان إِذا اشتدُّ خوفُه أن تنتفخ رئته فيرتفع حينئذ القلب إِلى الحَنْجَرة، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس والفراء.
وذهب ابن قتيبة إِلى أن المعنى: كادت القلوبُ تبلُغ الحُلوقَ من الخوف. وقال ابن الأنباري: «كاد» لا يُضْمَر ولا يُعْرَف معناه إِذا لم يُنْطَق به. قوله تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا قال الحسن: اختلفت ظنونهم، فظن المنافقون أن محمّدا عليه السلام وأصحابه يُستأصَلون، وظن المؤمنون أنه يُنْصَر. قرأ ابن كثير، والكسائي، وحفص عن عاصم: «الظنُّونا» و «الرّسولا» «1» و «السّبيلا» «2» بألف إِذا وقفوا عليهن، وبطرحها في الوصل. وقال هبيرة عن حفص عن عاصم: وصل أو وقْف بألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بالألف فيهن وصلاً ووقفاً. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بغير ألف في وصل ولا وقف. قال الزجاج: والذي عليه حُذَّاق النحويين والمتَّبعون السُّنَّة من قرّائهم أن يقرءوا:
«الظنُّونا» ويقفون على الألف ولا يَصِلون وإِنما فعلوا ذلك، لأن أواخر الآيات عندهم فواصل يُثبتون في آخرها الألف في الوقف.
قوله تعالى: هُنالِكَ أي: عند ذلك ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي: اختُبروا بالقتال والحصر ليتبيَّن المُخلِص من المنافق وَزُلْزِلُوا أي: أُزعجوا وحُرِّكوا بالخوف، فلم يوجَدوا إِلا صابرين. وقال الفراء:
حُرِّكوا إِلى الفتنة تحريكاً، فعُصموا.
قوله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الشِّرك، قاله الحسن. والثاني: النفاق، قاله قتادة، ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً قال المفسرون: قالوا يومئذ: إِن محمداً يَعِدنا أن نفتَح مدائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله! هذا واللهِ الغرور. وزعم ابن السّائب أنّ القائل هذا معتّب بن قشير.
__________
(1) الأحزاب: 66.
(2) الأحزاب: 67.(3/451)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 13 الى 17]
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يعني من المنافقين. وفي القائلين لهذا منهم قولان:
أحدهما: عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، قاله السدي. والثاني: بنو سالم من المنافقين، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يا أَهْلَ يَثْرِبَ قال أبو عبيدة: يَثْرِب اسم أرض، ومدينةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في ناحية منها.
قوله تعالى: لا مُقامَ لَكُمْ وقرأ حفص عن عاصم: لا مُقامَ بضم الميم. قال الزجاج: من ضمَّ الميم، فالمعنى: لا إِقامة لكم ومن فتحها، فالمعنى: لا مكان لكم تُقيمون فيه. وهؤلاء كانوا يثبّطون المؤمنين عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: فَارْجِعُوا أي: إِلى المدينة.
(1123) وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج بالمسلمين حتى عسكروا ب «سَلْعِ» ، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم، فقال المنافقون للناس: ليس لكم ها هنا مقام، لكثرة العدوّ، هذا قول الجمهور.
وحكى الماوردي قولَين آخرَين:
أحدهما: لا مُقام لكم على دين محمد فارجِعوا إِلى دين مشركي العرب، قاله الحسن.
والثاني: لا مُقام لكم على القتال، فارجعوا إِلى طلب الأمان، قاله الكلبي.
قوله تعالى: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ فيه قولان: أحدهما: أنهم بنو حارثة، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: بنو حارثة بن الحارث بن الخزرج. وقال السدي: إِنما استأذنه رجلان من بني حارثة.
والثاني: بنو حارثة، وبنو سلمة بن جشم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ قال ابن قتيبة: أي: خاليةٌ، فقد أمْكَن من أراد دخولَها، وأصل العَوْرة: ما ذهب عنه السِّتر والحِفظ، فكأنَّ الرجال سِترٌ وحفظٌ للبيوت، فاذا ذهبوا أعْوَرت البيوتُ، تقول العرب: أَعْوَرَ منزلي: إِذا ذهب سِتْرُه، أو سقط جداره، وأعْوَرَ الفارسُ: إِذا بان منه موضع خلل للضرب والطعن، يقول الله تعالى وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ لأنّ الله تعالى يحفظها، ولكن يريدون الفرار. وقال الحسن، ومجاهد قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السُّرَّاق. وقال قتادة: قالوا: بيوتنا ممَّا يلي العدوّ، ولا نأمن على أهلنا، فكذّبهم الله تعالى وأعلَم أنَّ قصدهم الفرار.
قوله تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها يعني المدينة والأقطار: النواحي والجوانب، واحدها: قُطْر، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والضحاك، والزهري، وأبو عمران وأبو جعفر، وشيبة: «ثم سُيِلوا» برفع السين وكسر الياء من غير همز. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومجاهد وأبو الجوزاء: «ثم سوئلوا» برفع السين ومدِّ الواو بهمزة مكسورة بعدها. وقرأ الحسن، وأبو
__________
ذكره الطبري 10/ 270 عند تفسير هذه الآية فقال: وهو قول أوس بن قيظي ومن كان على ذلك من رأيه ذكر ذلك في حديث ابن إسحاق أخرجه برقم 28380.(3/452)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
الأشهب: «ثم سُوْلوا» برفع السين وسكون الواو من غير مدٍّ ولا همز. وقرأ الأعمش، وعاصم الجحدري: «ثم سِيْلوا» بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو. ومعنى: «سئلوا الفتنة» ، سُئلوا فعلها والفتنة: الشِّرك، لَآتَوْها قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «لأَتَوَهْا» بالقصر، أي:
لقصدوها، ولفعلوها. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ: «لآتوها» أي بالمدّ، لأعطَوها.
قال ابن عباس في معنى الآية: لو ان الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشِّرك لأشركوا. قوله تعالى:
وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً فيه قولان: أحدهما: وما احتَبَسوا عن الإِجابة إِلى الكفر إِلا قليلاً، قاله قتادة. والثاني: وما تلبَّثوا بالمدينة بعد الإِجابة إِلاَّ يسيراً حتى يعذَّبوا، قاله السدي. وحكى أبو سليمان الدمشقي في الآية قولاً عجيباً، وهو أنّ الفتنة ها هنا: الحرب، والمعنى: ولو دُخلت المدينةُ على أهلها من أقطارها ثم سُئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادِرين، وما تلبْثوا- يعني الجيوش الداخلة عليهم بها- إِلاَّ قليلاً حتى يُخرجوهم منها وإِنَّما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشكِّ في دينك قال: وهذا المعنى حَفِظتُه من كتاب الواقدي.
قوله تعالى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر، فلمَّا علموا ما أعطى الله عزّ وجلّ أهل بدر من الكرامة قالوا: لئن شهدنا قتالاً لنقاتِلَنّ، قاله قتادة. والثاني: أنهم أهل العقبة، وهم سبعون رجلاً بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على طاعة الله تعالى ونُصرة رسوله، قاله مقاتل «1» . والثالث: أنه لمَّا نزل بالمسلمين يوم أُحد ما نزل، عاهد الله تعالى معتّب بن قُشَير وثعلبة بن حاطب: لا نولِّي دُبُراً قطُّ، فلمَّا كان يوم الأحزاب نافقا، قاله الواقدي، واختاره أبو سليمان الدمشقي، وهو اليَق ممَّا قبله. وإِذا كان الكلام في حق المنافقين، فكيف يُطْلَق القول على أهل العَقَبة كلِّهم! قوله تعالى: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي: يُسأَلون عنه في الآخرة.
ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم، فقال: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ بعد الفرار في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا وهو باقي آجالكم.
ثم أخبر ان ما قدَّره عليهم لا يدفع، بقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ أي: يُجيركم ويمنعكم منه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً وهو الإِهلاك والهزيمة والبلاء أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وهي النصر والعافية والسلامة وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي: لا يجدون مُوالياً ولا ناصراً يمنعهم من مراد الله عزّ وجلّ فيهم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 22]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22)
__________
(1) المشهور عن أصحاب بيعة العقبة أنهم استقاموا على الإسلام ومقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير.(3/453)
قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ في سبب نزولها قولان:
(1124) أحدهما: أن رجلاً انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب، فوجد أخاه لأبيه وأمّه وعنده شواء ونبيذ، فقال له: أنت ها هنا ورسولُ الله بين الرِّماح والسيوف؟! فقال: هلمَّ إِليَّ، لقد أُحيطَ بك وبصاحبك والذي يُحْلَفُ به لا يستقبلها محمدٌ أبداً فقال له: كذبتَ، والذي يُحْلَف به، أما والله لأُخْبِرَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأمرك، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليخبرَه، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إلى قوله تعالى: يَسِيراً، هذا قول ابن زيد.
(1125) والثاني: أن عبد الله بن أُبيّ ومعتب بن قشير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إِلى المدينة، كانوا إِذا جاءهم منافق قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرُج، ويكتُبون بذلك إِلى إِخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنَّا ننتظركم- يثبِّطونهم عن القتال- وكانوا لا يأتون العسكر إِلاَّ أن لا يجدوا بُدّاً، فيأتون ليرى الناسُ وجوههم، فاذا غُفل عنهم عادوا إِلى المدينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
والمعوِّق: المثبّط تقول: عاقني فلان، واعتاقني، وعوَّقني: إِذا منعك عن الوجه الذي تريده.
وكان المنافقون يعوّقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نُصَّاره.
قوله تعالى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد. والثاني: أنهم اليهود دعَواْ إِخوانهم من المنافقين إِلى ترك القتال، قاله مقاتل. والثالث: أنهم المنافقون دعَواْ المسلمين إِليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي: لا يحضُرون القتال في سبيل الله عزّ وجلّ إِلَّا قَلِيلًا للرِّياء والسُّمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل لله عزّ وجلّ لكان كثيراً.
قوله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: لا يأتون الحرب إلّا تعذيرا، بخلا عليكم. وللمفسرين فيما شحُّوا به أربعة أقوال: أحدها: أشحة بالخير، قاله مجاهد.
والثاني: بالنفقة في سبيل الله عزّ وجلّ. والثالث: بالغنيمة، رويا عن قتادة. وقال الزجاج: بالظَّفَر والغنيمة. والرابع: بالقتال معكم، حكاه الماوردي.
ثم أخبر عن جُبنهم فقال: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ أي: إِذا حضر القتال رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي: كدوَران عين الذي يُغْشَى عليه من الموت، وهو الذي دنا موته
__________
ضعيف. هذا مرسل، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم تابعي أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 5/ 360.
وانظر «تفسير القرطبي» 14/ 136.
عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي، وتقدم مرارا أنه ممن يضع الحديث، فخبره لا شيء.(3/454)
وغشيتْه أسبابُه، فانه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يَطْرِف، فكذلك هؤلاء، لأنهم يخافون القتل. فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ قال الفراء: يقول آذَوْكم بالكلام في الأمن بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ سليطة ذَرِبة، والعرب تقول: صَلَقوكم، بالصاد، ولا يجوز في القراءة هذا قول الفراء. وقد قرأ بالصاد أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة في آخرين. وقال الزجاج: معنى «سلقوكم» : خاطبوكم أشدَّ مخاطَبة وأبلَغها في الغنيمة، يقال: خطيب مِسْلاق: إِذا كان بليغاً في خطبته أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي: خاطبوكم وهُم أشحَّة على المال والغنيمة. قال قتادة: إِذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطُونا فلستم أحقَّ بها منَّا فأمَّا عند الباس، فأجبن قوم وأخذله للحق، وأمَّا عند الغنيمة، فأشحُّ قوم. وفي المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغنيمة. والثاني: على المال أن يُنفقوه في سبيل الله تعالى. والثالث: على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بظَفَره.
قوله تعالى: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا أي: هُمْ وإِن أظهروا الإِيمان فليسوا بمؤمِنين، لنفاقهم فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ قال مقاتل أي: أبطلَ جهادهم، لأنه لم يكن في إِيمان وَكانَ ذلِكَ الإِحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. ثم أخبر عنهم بما يدل على جُبنهم، فقال: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي: يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجُبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ أي: يَرجعوا إِليهم كَرَّةً ثانية للقتال يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي: يتمنَّوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي: ودُّوا لو أنَّهم بالبُعد منكم يسألون عن أخباركم، فيقولون: ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهَدة، فَرَقاً وجُبناً وقيل: بل يَسألون شماتةً بالمسلمين وفرحاً بنكَبَاتهم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ أي: لو كانوا يشهدون القتال معكم ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا فيه قولان: أحدهما: إِلا رمياً بالحجارة، قاله ابن السائب. والثاني: إِلا رياءً من غير احتساب، قاله مقاتل.
ثم عاب من تخلّف بالمدينة بقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي: قُدوة صالحة. والمعنى: لقد كان لكم به اقتداءٌ لو اقتديتم به في الصبر معه كما صبر يوم أُحُد حتى كسرت رباعيّته وشجّ جبينه وقتل عمّه، وواساكم مع ذلك بنفسه. وقرأ عاصم: «أُسوةٌ» بضم الألف والباقون بكسر الألف وهما لغتان. قال الفراء: أهل الحجاز وأَسَد يقولون: «إِسوة» بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون: «أُسوة» بالضم. وخَصَّ اللهُ تعالى بهذه الأُسوة المؤمنين، فقال: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ والمعنى أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلّم إِنما كانت لِمَن كان يرجو الله واليوم الآخر وفيه قولان: أحدهما: يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله ابن عباس. والثاني: يخشى الله عزّ وجلّ ويخشى البعث، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي: ذِكْراً كثيراً، لأن ذاكر الله تعالى متَّبِع لأوامره، بخلاف الغافل عنه. ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال: لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وفي ذلك الوعد قولان: أحدهما: أنه قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ «1» الآية: فلمَّا عاينوا البلاء يومئذ قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، قاله ابن
__________
(1) البقرة: 214.(3/455)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
عباس، وقتادة في آخرين. والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعدهم بالنّصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحِيرة، ذكره الماوردي وغيره.
قوله تعالى: وَما زادَهُمْ يعني ما رأوه إِلَّا إِيماناً بوعد الله تعالى وَتَسْلِيماً لأمره.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 الى 27]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في أنس بن النضر، قاله أنس بن مالك.
(1126) وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال: غاب عمِّي أَنَس بن النَّضْر عن قتال بدر، فلمَّا قَدِم قال: غِبْتُ عن أوّل قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلّم المشركين، لئن أشهدني الله عزّ وجلّ قتالاً لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع، فلمّا كان يوم أُحُدٍ انكشف الناسُ، فقال: اللهم إِني أبرأُ إِليكَ ممَّا جاء به هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر إِليك ممَّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين ثم مشى بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد، والذي نفسي بيده إِني لأجد ريح الجنة دون أُحُد، واهاً لريح الجنة.
قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بِضْع وثمانون جِراحة، من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورَمْيَة بسهم، قد مثَّلوا به قال: فما عرفناه حتى عرفتْه أختُه بِبَنانه قال أنس: فكنّا نقول: أُنزلت هذه الآية «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» فيه وفي أصحابه.
(1127) والثاني: أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله. روى النزَّال بن سَبْرة عن عليّ عليه السلام
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2805 و 4048 ومسلم 1903 والترمذي 3200 والنسائي في «التفسير» 422 و 423 من حديث أنس، وليس فيه سبب النزول.
حسن بشواهده. أخرجه أبو الشيخ وابن عساكر كما في «الدر» 5/ 366، ولم أقف على إسناده، وللحديث شواهد مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلفظ «طلحة ممن قضى نحبه» وبألفاظ متقاربة منها: حديث جابر بن عبد الله أخرجه الترمذي 3739 والحاكم 3/ 376 من طرق عن الصلت بن دينار به. قال الحاكم: تفرّد به الصلت، وليس من شرط هذا الكتاب. وقال الذهبي: الصلت واه. وحديث معاوية بن أبي سفيان أخرجه الترمذي 3202 و 3740 وابن سعد في «الطبقات» 3/ 164 وابن ماجة 126 و 127 والطبري 28431 من طريقين عن إسحاق بن يحيى الطلحي عن موسى بن طلحة عن معاوية مرفوعا. وإسناده واه لأجل إسحاق بن يحيى، قال أحمد والنسائي: متروك. وقال يحيى: لا يكتب حديثه. وحديث عائشة أخرجه ابن سعد 3/ 163- 164 وأبو يعلى 4898 وأبو نعيم 1/ 88 ومداره على صالح بن موسى، وهو متروك، وكذا قال الهيثمي في «المجمع» 9/ 48. وحديث عائشة أخرجه الحاكم 3/ 376 من وجه آخر عنها وفيه إسحاق بن يحيى متروك ليس بشيء. وحديث طلحة بن عبيد الله أخرجه الترمذي 3203 و 3742 وأبو يعلى 363 والطبري 28430- من طريق موسى وعيسى ابني طلحة عنه. قال الترمذي: حسن غريب، وسمعت البخاري يحدث بهذا الحديث عن أبي كريب، ووضعه في كتاب «الفوائد» . ورجاله رجال مسلم ولكن طلحة بن يحيى، وإن روى له مسلم، ووثقه غير واحد فقد قال يحيى القطان: لم يكن بالقوي. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو زرعة:
صالح الحديث. وله شاهد مرسل أخرجه ابن سعد 3/ 164 من طريق حصين عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وهذا مرسل صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم، ليس له علة إلا الإرسال فهذا شاهد لما تقدم. الخلاصة: هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده، ومع ذلك في المتن غرابة وانظر «أحكام القرآن» 1766 بتخريجنا وانظر «الصحيحة» 126.(3/456)
أنهم قالوا له: حدِّثنا عن طلحة، قال: ذاك امرؤٌ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى: «فمنهم من قضى نحبه» لا حساب عليه فيما يستقبل. وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة، وأولها في أنس.
قال ابن جرير: ومعنى الآية: وفوا الله بما عاهدوه عليه. وفي ذلك أربعة أقوال. أحدها: أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإِسلام والنصرة. والثاني: أنهم قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا الله عزّ وجلّ أن لا يتأخَّروا بعدها. والثالث: أنهم عاهدوا أن لا يفرُّوا إِذا لاقَواْ، فصَدَقوا. والرابع: أنهم عاهدوا على البأساء والضرَّاء وحين البأس.
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فمنهم من مات، ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس. والثاني: فمنهم من قضى عهده قُتل أو عاش، ومنهم من ينتظر أن يقضيَه بقتال أو صدق لقاءٍ، قاله مجاهد. والثالث: فمنهم من قضى نَذْره الذي كان نذر، قاله أبو عبيدة. فيكون النَّحْب على القول الأول: الأَجْل وعلى الثاني: العهد وعلى الثالث: النَّذْر. وقال ابن قتيبة: «قضى نحبه» أي: قُتل، وأصل النَّحْب: النَّذْر، كأن قوماً نذروا أنهم إِن لَقُوا العدوَّ قاتَلوا حتى يُقتَلوا أو يَفتَح اللهُ عليهم، فقُتِلوا، فقيل: فلان قضى نَحْبَه، أي: قُتِل، فاستعير النَّحْب مكان الأَجَل، لأن الأَجَل وقع بالنَّحْب، وكان النَّحْبُ سبباً له، ومنه قيل: للعطيَّة: «مَنْ» ، لأن من أعطى فقد مَنَّ. قال ابن عباس: ممَّن قضى نَحْبه: حمزة بن عبد المطلب، وأنس بن النَّضْر وأصحابه. وقال ابن إِسحاق: «فمنهم من قضى نحبه» من استُشهد يوم بدر وأُحُدٍ، «ومنهم من ينتظرُ» ما وعد اللهُ من نصره، أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه وَما بَدَّلُوا أي: ما غيَّروا العهد الذي عاهدوا ربَّهم عليه كما غيَّر المنافقون.
قوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا الله تعالى عليه وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ بنقض العهد إِنْ شاءَ وهو أن يُميتَهم على نفاقهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ في الدنيا، فيخرجَهم من النفاق إِلى الإِيمان، فيغفر لهم.
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني الأحزاب، صدَّهم ومنعهم عن الظَّفَر بالمسلمين بِغَيْظِهِمْ أي: لم يَشْفِ صدورهم بِنَيْل ما أرادوا لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي: لم يظفروا بالمسلمين، وكان ذلك عندهم خيراً، فخوطبوا على استعمالهم وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملائكة، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي:
عاونوا الأحزاب، وهم بنو قريظة، وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم من العهد، وصاروا مع المشركين يداً واحدة.(3/457)
وهذه الإِشارة إِلى قصتهم
(1128) ذكر أهل العِلْم بالسّيرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمَّا انصرف من الخندق وضع عنه اللأْمة واغتسل، فتبدَّى له جبريل، فقال: ألا أراك وضعت اللأْمة، وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة؟! إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك أن تسير إِلى بني قريظة فانِّي عامد إِليهم فمزلزِل بهم حصونهم، فدعا عليّاً رضي الله عنه فدفع لواءه إِليه، وبعث بلالاً فنادى في الناس:
(1129) إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم أن لا تصلُّوا العصر إِلا ببني قريظة، ثم سار إِليهم فحاصرهم خمسة عشر يوماً أشدَّ الحصار، وقيل: عشرين ليلة.
(1130) فأَرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أَرْسِل إِلينا أبا لُبَابة بن عبد المنذر، فأرسله إِليهم، فشاوروه في أمرهم، فأشار إِليهم بيده: إِنه الذَّبْح، ثُمَّ ندم فقال: خنتُ الله تعالى ورسولَه، فانصرف فارتبط في المسجد حتى أنزل الله تعالى توبته، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأمّر بهم رسول الله محمّد بن مسلمة، فكتفوا، ونُحُّوا ناحيةً، وجُعل النساء والذُّرِّية ناحيةً. وكلَّمت الأوس رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يَهَبَهم لهم، وكانوا حلفاءهم، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم الحُكْمَ فيهم إِلى سعد بن معاذ هكذا ذكر محمد بن سعد.
(1131) وحكى غيره: أنهم. نزلوا أوَّلاً على حكم سعد بن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف، فَرَجَواْ أن تأخذه فيهم هوادة، فحكم فيهم أن يُقتل كلُّ مَنْ جَرَت عليه المَوَاسي «1» ، وتُسبى النساء
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4122 ومسلم 1769 وأبو داود 3101 والنسائي 2/ 45 وابن سعد 3/ 425 كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «أصيب سعد يوم الخندق، فضرب النبي صلى الله عليه وسلّم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام، وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: وقد وضعت السلاح، والله ما وضعته، اخرج إليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: فأين، فأشار إلى بني قريظة ... » الحديث راجع «المجمع» 10156 وما بعده وانظر «أحكام القرآن» 1762 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 946 و 4119 و 1770 و 3798 والبغوي 3798 والطبراني 19/ 160 وابن حبان 1462 من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لنا لما رجع من الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يرد منا ذلك فذكر للنبي صلى الله عليه وسلّم فلم يعنف واحدا منهم. لفظ البخاري.
أخرجه الطبري 28446 من طريق محمد بن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري مرسلا، لكن لأصله شواهد.
صحيح. أخرجه البخاري 3043 و 3804 و 4121 و 6262 ومسلم 1768 ح 64 وأبو داود 5215 و 5216 والنسائي في «الفضائل» 118 وابن سعد 3/ 424 وأحمد 3/ 22 والطبراني 5323 والبيهقي 6/ 57- 58 و 9/ 63 وابن حبان 7026 والبغوي 2718 من طرق عن شعبة به.
- وأخرجه مسلم 1768 وأبو يعلى 1188 وابن حبان 7026 عن أبي خيثمة زهير بن حرب به.
- وأخرجه أحمد 3/ 22 عن عبد الرحمن بن مهدي به، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم- وكان قريبا منه- فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيدكم» فجاء فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له: «إن هؤلاء نزلوا على حكمك» قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية. قال: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك» .
__________
(1) أراد أن تقتل الرجال. [.....](3/458)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
والذّراري، وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة» وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأمر بهم فأُدخلوا المدينة، وحُفر لهم أُخدود في السّوق، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه أصحابه، وأُخرجوا إِليه فضُربت أعناقهم، وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة.
قوله تعالى: مِنْ صَياصِيهِمْ قال ابن عباس وقتادة: من حصونهم قال ابن قتيبة: وأصل الصيَّاصي: قرون البقر، لأنها تمتنع بها، وتدفع عن أنفسها فقيل للحصون: الصياصي، لأنها تَمنع، وقال الزجاج: كل قرن صيصية، وصيصية الديك: شوكة يتحصن بها.
قوله تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي: ألقى فيها الخوف فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم المُقاتِلة وَتَأْسِرُونَ وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة: «وتأسُرون» برفع السين فَرِيقاً وهم النساء والذَّراري، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ يعني عقارهم ومنازلهم ونخيلهم وَأَمْوالَهُمْ من الذهب والفضة والحُلِيّ والعبيد والإِماء وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أي: لم تطئوها بأقدامكم بَعْدُ، وهي مما سنفتحها عليكم وفيها أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها فارس والروم، قاله الحسن. والثاني: ما ظهر عليه المسلمون إِلى يوم القيامة، قاله عكرمة. والثالث: مكة، قاله قتادة. والرابع: خيبر، قاله ابن زيد، وابن السّائب، وابن إسحاق، ومقاتل.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ... الآية.
(1132) ذكر أهل التفسير أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم سألنه شيئاً من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة في
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1479 وأبو يعلى 164 من طريق سماك بن حرب عن ابن عباس عن عمر مطوّلا مع اختلاف في ألفاظه. وأخرجه البخاري 89 ومسلم 1479 والترمذي 3325 وأحمد 1/ 33 والنسائي 4/ 137
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 288: والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه أورث المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرض بني قريظة وديارهم وأموالهم، وأرضا لم يطئوها يومئذ ولم تكن مكة ولا خيبر ولا أرض فارس والروم ولا اليمن.
من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس عن عمر بنحوه.(3/459)
النفقة، وآذينه بغَيْرة بعضهنّ على بعض، فآلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم شهراً، وصَعِد إِلى غرفة له فمكث فيها، فنزلت هذه الآية، (1133) وكُنَّ أزواجُه يومئذ تسعاً: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسَوْدة، وأم سَلَمة، وصَفِيَّة الخيبريَّه، وميمونة الهلالية وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، (1134) فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعرض الآية عليهنّ، فبدأ بعائشة، فاختارت الله ورسوله، ثم قالت: يا رسول الله لا تُخبر أزواجك أنِّي اخترتك فقال «إِن الله بعثني مُبلِّغاً ولم يبعثني متعنِّتاً» . وقد ذكرت حديث التخيير في كتاب «الحدائق» وفي «المغني» بطوله.
وفي ما خيَّرهنَّ فيه قولان «1» : أحدهما: أنه خيَّرهن بين الطلاق والمقام معه، هذا قول عائشة رضي الله عنها. والثاني: أنه خيَّرهنَّ بين اختيار الدنيا فيفارقهنّ، أو اختيار الآخرة فيُمسكهنّ، ولم يخيِّرهنّ في الطلاق، قاله الحسن، وقتادة.
وفي سبب تخييره إِيَّاهُنَّ ثلاثة أقوال. أحدها: أنَّهنَّ سألنَه زيادة النَّفقة. والثاني: أنَّهنَّ آذَينه بالغَيْرة. والقولان مشهوران في التفسير. والثالث: أنه لمَّا خُيِّر بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة، أُمِر بتخيير نسائه ليكنَّ على مِثْل حاله، حكاه أبو القاسم الصّيمري.
والمراد بقوله تعالى: أُمَتِّعْكُنَّ: مُتعة الطلاق. والمراد بالسَّراح: الطلاق، وقد ذكرنا ذلك في البقرة «2» . والمراد بالدار الآخرة. الجنة. والمُحْسِنات: المُؤْثِرات للآخرة.
قال المفسرون: فلمّا اخترنه أثابهنّ الله عزّ وجلّ ثلاثة أشياء: أحدها: التفضيل على سائر النساء بقوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ. والثاني: أن جَعَلَهُنَّ أُمَّهات المؤمنين. والثالث: أن حظر عليه طلاقَهُنَّ والاستبدال بهنّ بقوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ «3» . وهل أبيح له بعد ذلك
__________
أخرجه الطبري 8461 عن قتادة مرسلا، وله شواهد.
صحيح. أخرجه مسلم 1478 وأحمد 3/ 328 وأبو يعلى 2253 والبيهقي 7/ 38 من حديث جابر مطولا.
__________
(1) قال الحافظ في «الفتح» 8/ 521: قال الماوردي: اختلف هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة، أو بين الطلاق والإقامة عنده؟ على قولين للعلماء أشبههما بقول الشافعي الثاني، ثم قال: إنه الصحيح، وكذا قال القرطبي:
اختلف في التخيير. قال الحافظ: والذي يظهر الجمع بين القولين، لأن أحد الأمرين ملزوم الآخر، وكأنهنّ خيرن بين الدنيا فيطلقهنّ، وبين الآخرة فيمسكهن، وهو مقتضى سياق الآية.
- وقال القرطبي رحمه الله في «التفسير» 12/ 170: اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلّم أزواجه على قولين: الأول: أنه خيرهن في البقاء على الزوجية أو الطلاق، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة. والثاني: أنه خيرهن بين الدنيا والآخرة، ذكره الحسن وقتادة، ومن الصحابة علي. والأول أصح لقول عائشة لما سئلت عن الرجل يخير امرأته، فقالت: قد خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أفكان طلاقا. ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق اه ملخصا.
- والذي ذهب إليه القرطبي هو الصواب إن شاء الله تعالى، وحديث عائشة أخرجه البخاري 5262 و 5263 ومسلم 1477 ح 25 و 26.
(2) البقرة: 231.
(3) الأحزاب: 52.(3/460)
التزويج عليهنّ؟ فيه قولان سيأتي ذِكْرهما إِن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي: بمعصية ظاهرة. قال ابن عباس: يعني النشوز وسوءَ الخُلُق يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي: يُجعل عذاب جُرمها في الآخرة كعذاب جُرمَين، كما أنها تُؤتى أجرَها على الطاعة مرتين. وإِنما ضوعف عِقابُهنّ، لأنهنّ يشاهدن من الزّواجر الرّادعة ما لا يُشاهِد غيرُهن، فاذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، ولأن في معصيتهنَّ أذىً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وجرم من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكبرُ من جُرم غيره.
قوله تعالى: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي: وكان عذابُها على الله عزّ وجلّ هيّنا. وَمَنْ يَقْنُتْ أي: تطع، وأَعْتَدْنا قد سبق بيانه «1» ، والرِّزق الكريم: الحَسَن، وهو الجنة.
ثُمَّ أظهر فضيلتهنّ على النساء بقوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ قال الزجاج: لم يقل:
كواحدة من النساء، لأن «أَحَداً» نفي عامّ للمذكَّر والمؤنَّث والواحد والجماعة. قال ابن عباس: يريد:
ليس قدرُكُنَّ عندي مثل قَدْر غيركنَّ من النساء الصالحات، أنْتُنَّ أكرمُ عليَّ، وثوابُكُنَّ أعظم إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، فشرط عليهن التقوى بياناً أن فضيلتهنَّ إِنَّما تكون بالتقوى، لا بنفس اتصالهنّ برسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي: لا تلِنَّ بالكلام فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي: فُجور والمعنى: لا تَقُلْنَ قولاً يجد به منافق أو فاجر سبيلاً إِلى موافقتكن له، والمرأة مندوبة إِذا خاطبت الأجانب إِلى الغِلظة في المَقَالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الرِّيبة. وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي: صحيحاً عفيفاً لا يُطمِع فاجراً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرأ نافع، وعاصم إِلا أبان، وهبيرة، والوليد بن مسلم عن ابن عامر: «وقََرْنَ» بفتح القاف وقرأ الباقون بكسرها. قال الفراء: من قرأ بالفتح، فهو من قَرَرْتُ في المكان، فخفِّفت، كما قال: ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً «2» ، ومن قرأ بالكسر، فمن الوَقار، يقال: قِرْ في منزلك. وقال ابن قتيبة: من قرأ بالكسر، فهو من الوقار، يقال: وَقَرَ في منزله يَقِرُ وَقُوراً. ومن قرأ بنصب القاف جعله من القرار. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل: «واقْرَرْنَ» باسكان القاف وبراءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة مثله، إِلا أنهما كسرا الراء الأولى.
قال المفسرون: ومعنى الآية: الأمر لهن بالتوقُّر والسكون في بُيوتهنَّ وأن لا يَخْرُجْنَ.
قوله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ قال أبو عبيدة: التبرُّج: أن يُبْرِزن محاسنهن. وقال الزجاج: التبرُّج:
إِظهار الزِّينة وما يُستدعى به شهوةُ الرجل. وفي الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أربعة أقوال: أحدها: أنها كانت بين إِدريس ونوح، وكانت ألف سنة، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنها كانت على عهد إِبراهيم عليه السلام، وهو قول عائشة رضي الله عنها. والثالث: بين نوح وآدم، قاله الحكم. والرابع: ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله الشعبي. قال الزجاج: وإِنما قيل: «الأولى» ، لأن كل متقدِّم أوَّل، وكل متقدِّمة أُولى، فتأويله: أنهم تقدّموا أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم.
وفي صفة تبرُّج الجاهلية الأولى ستة أقوال: أحدها: أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال، فهو التبرج، قاله مجاهد. والثاني: أنها مِشية فيها تكسُّر وتغنُّج، قاله قتادة. والثالث: أنه التّبختر، قاله
__________
(1) النساء: 37.
(2) طه: 97.(3/461)
ابن أبي نجيح. والرابع: أن المرأة منهن كانت تتخذ الدِّرع من اللؤلؤ فتَلْبَسُه ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها غيره، وذلك في زمن إِبراهيم عليه السلام، قاله الكلبي. والخامس: أنها كانت تُلقي الخِمار عن رأسها ولا تشُدُّه، فيُرى قُرْطها وقلائدها، قاله مقاتل. والسادس: أنها كانت تَلْبَس الثياب تبلغ المال، لا تواري جَسدها، حكاه الفراء.
قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ وفيه للمفسرين خمسة أقوال: أحدها:
الشرك، قاله الحسن. والثاني: الإِثم، قاله السدي. والثالث: الشيطان، قاله ابن زيد. والرابع: الشكّ.
والخامس: المعاصي، حكاهما الماوردي. قال الزجاج: الرِّجس: كل مستقذَر من مأكول أو عمل أو فاحشة. ونصب «أهلَ البيت» على وجهين: أحدهما: على معنى: أعني أهلَ البيت. والثاني: على النداء، فالمعنى: يا أهل البيت. وفي المراد بأهل البيت ها هنا ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنهنَّ في بيته، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وابن السّائب، ومقاتل. ويؤكّد هذا القولَ أن ما قبله وبعده متعلِّق بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وعلى أرباب هذا القول اعتراض، وهو أن جمع المؤنَّث بالنون، فكيف قيل: «عنكم» «ويطهركم» ؟ فالجواب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيهنَّ، فغلّب المذكَّر. والثاني: أنه خاصٌّ في رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم، قاله أبو سعيد الخدري.
(1135) وروي عن أنس وعائشة وأمّ سلمة نحو ذلك.
__________
أصل الحديث. ورد عن جماعة من الصحابة.
1- حديث أم سلمة، وله طرق متعددة: الأول: أخرجه الطحاوي في «المشكل» 766 من طريق الأجلح عن شهر بن حوشب عن أم سلمة، وعبد الملك عن عطاء عن أم سلمة. وإسناده حسن في الشواهد، الأجلح هو ابن عبد الله، وثقه قوم، وضعفه آخرون، وقد تابعه عبد الملك بن أبي سليمان، وهو ثقة، لكن لم يسمع عطاء من أم سلمة. وأخرجه أحمد 6/ 304 والترمذي 3876 والطبراني 23 (769) عن زبيد بن الحارث عن شهر عن أم سلمة. وإسناده لين لأجل شهر. الطريق الثاني: أخرجه الطحاوي 768 والطبري 28495 و 28497 من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد عن أم سلمة. وإسناده واه لأجل عطية العوفي. الطريق الثالث: أخرجه الطحاوي 765 و 772 من طريق عمرة بنت أفعى عن أم سلمة. وإسناده ضعيف لجهالة عمرة. الطريق الرابع: أخرجه الطحاوي 763 والطبري 28498 من طريق عبد الله بن وهب بن زمعة. وإسناده ضعيف، فيه خالد بن مخلد
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في «التفسير» 3/ 598: ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلّم داخلات في قوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ... ، فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أي: واعملن بما ينزل الله على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة، قاله قتادة وغيره واحد.
- وقال القرطبي رحمه الله في «التفسير» 14/ 182- 183: اختلف أهل العلم في أهل البيت من هم؟
- فقال عطاء وعكرمة وابن عباس: هم زوجاته خاصة، لا رجل معهنّ.
- وقالت فرقة منهم الكلبي: هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة.
- والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم، وإنما قال وَيُطَهِّرَكُمْ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليا وحسنا وحسينا فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلّب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت، لأن الآية فيهنّ، والمخاطبة لهنّ، يدل عليه سياق الكلام اه ملخصا.(3/462)
والثالث: أنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأزواجه، قاله الضحاك. وحكى الزجاج أنهم نساء النبيّ صلى الله عليه وسلّم والرجال الذين هم آله قال: واللغة تدل على أنها للنساء والرّجال جميعا، لقوله تعالى: عَنْكُمُ بالميم، ولو كانت للنساء، لم يجز إِلاَّ «عنكنّ» «ويُطهركنّ» .
قوله تعالى: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من الشِّرك، قاله مجاهد. والثاني: من السُّوء، قاله قتادة. والثالث: من الإثم، قاله السّدّيّ، ومقاتل.
__________
القطواني، غير حجة، وموسى بن يعقوب سيء الحفظ. الطريق الخامس: أخرجه الطحاوي 762 والطبري 28502 والطبراني 23 (750) . وإسناده ضعيف، فيه عنعنة الأعمش، وهو مدلس، وفيه جعفر بن عبد الرحمن البجلي، وهو شبه مجهول، حيث وثقه ابن حبان وحده. الطريق السادس: أخرجه الطبري 28496 من طريق سعيد بن زربي عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن أم سلمة. وإسناده ضعيف لضعف سعيد بن زربي. ولفظه عند الترمذي: عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلّم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله قال: إنك إلى خير. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو أحس شيء روي في هذا الباب.
2- حديث عائشة رضي الله عنها: أخرجه مسلم 2424 والطبري 28488 من طريقين عن محمد بن بشر عن زكريا به وإسناده غير قوي، فيه مصعب بن شيبة، فهو وإن روى له مسلم فقد ضعفه غير واحد، لذا لينه الحافظ في «التقريب» لكن لم ينفرد بهذا المتن. وأخرجه الحاكم 3/ 147 من طريق عبيد الله عن زكريا به! وصححه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي!، وليس كما قالا، فقد تفرد. وأخرجه البغوي 3804 من طريق الوليد بن شجاع عن يحيى بن زكريا به. ولفظه عند مسلم: قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلّم غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله. ثم جاء الحسين فدخل معه. ثم جاءت فاطمة فأدخلها. ثم جاء علي فأدخله ثم قال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» .
3- حديث واثلة بن الأسقع: أخرجه أحمد 4/ 107 وفي «الفضائل» 978 وابن أبي شيبة 12/ 72- 73 وابن حبان 6976 والحاكم 3/ 147 والطحاوي في «المشكل» 773 والطبري 28494 من طرق عن الأوزاعي ثني شداد أبو عمار قال سمعت واثلة ... بنحو الحديث المتقدم، وليس فيه ذكر أم سلمة أصلا. وإسناده صحيح. شداد من رجال مسلم، وباقي الإسناد على شرط الشيخين، وقد صححه الحاكم على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: على شرط مسلم. وكرره الطبري 28493 من طريق كلثوم المحاربي عن شداد به، وإسناده حسن في الشواهد.
4- حديث عمرو بن أبي سلمة: أخرجه الترمذي 3787 والطبري 28499 والطحاوي في «المشكل» 771 من طريق يحيى بن عبيد المكي عن عطاء عن عمر بن أبي سلمة به. ورجاله ثقات معروفون غير يحيى بن عبيد حيث قال الحافظ في «التقريب» : يحيى بن عبيد عن عطاء، يحتمل أن يكون الذي قبله، وإلا فمجهول. وقال عن الذي قبله: يحيى بن عبيد المكي، مولى بني مخزوم، ثقة من السادسة. قلت: قد توبع على أكثر هذا المتن، دون لفظ «وجعل عليا خلفه» فقد تفرد به، وهو غريب.
5- حديث سعد بن أبي وقاص: أخرجه مسلم 2404 ح 32 والترمذي 2999 و 3724 وأحمد 1/ 185 والنسائي في «الخصائص» 11 والطحاوي في «المشكل» 761 من طرق عن حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار عن عامر بن سعد عن سعد قال: لما نزلت هذه الآية فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي» . لفظ مسلم والترمذي وغيرهما دون النسائي والطحاوي حيث ذكر في الحديث الآية التي في الأحزاب. وكرره النسائي 54 والطبري 28501 والحاكم 3/ 108 من وجه آخر، وليس فيه ذكر الآية أصلا، بل فيه «حين نزل الوحي» وإسناده صحيح.
الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وأصح متن وإسناد في هذا الباب حديث سعد ثم حديث واثلة ثم حديث أم سلمة لطرقه الكثيرة ثم حديث عائشة ثم حديث عمر بن أبي سلمة.(3/463)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ فيه قولان: أحدهما: أنه تذكير لهنَّ بالنِّعَم. والثاني: أنه أمرٌ لهنَّ بحفظ ذلك. فمعنى «واذكُرْنَ» : واحفَظْن ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن. وفي الحكمة قولان: أحدهما: أنها السُّنَّة، قاله قتادة. والثاني: الأمر والنّهي، قاله قتادة.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً أي: ذا لطف بكُنَّ إِذْ جعلكُنَّ في البيوت التي تُتْلى فيها آياتُه خَبِيراً بكُنَّ إِذ اختاركنّ لرسوله.
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(1136) أحدها: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم قُلْنَ: ما له ليس يُذْكَر إِلاَّ المؤمنون، ولا يذكر المؤمنات بشيء؟! فنزلت هذه الآية، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس.
(1137) والثاني: أن أُمَّ سَلَمَة قالت: يا رسول الله يُذْكَرُ الرجال ولا نُذْكَر! فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ «1» ، قاله مجاهد.
(1138) والثالث: أن أُمَّ عُمَارة الأنصارية قالت: قلت: يا رسول الله بأبي وأُمِّي ما بالُ الرجال يُذْكَرون، ولا تُذْكرَ النساء؟! فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. وذكر مقاتل بن سليمان أن أُمُّ سَلَمة وأُمُّ عُمَارة قالتا ذلك، فنزلت الآية في قولهما «2» .
(1139) والرابع: أن الله تعالى لمَّا ذكر أزواج رسوله دخل النساءُ المُسْلمات عليهنَّ فقُلْنَ: ذُكِرْتُنَّ ولم نُذْكَر، ولو كان فينا خيرٌ ذُكِرنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
(1140) والخامس: أن أسماء بنت عُمَيس لما رجعت من الحبشة دخلت على نساء
__________
إسناده ضعيف. أخرجه الطبري 28510 والطبراني 12/ 108 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف قابوس بن أبي ظبيان، وقال الهيثمي 7/ 91: قابوس ضعيف وقد وثق وبقية رجاله ثقات اه. فالإسناد ضعيف. مع ذلك فهو شاهد لما بعده وانظر «تفسير الشوكاني» 1998 بتخريجنا.
أخرجه الحاكم 2/ 416 عن مجاهد عن أم سلمة ورجاله ثقات لكن رواية مجاهد عن أم سلمة مرسلة، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وأخرجه أحمد 6/ 301 والنسائي في «التفسير» 425 والطبري 28512 من حديث أم سلمة وإسناده حسن رجاله ثقات، وورد من طرق كثيرة. وأخرجه النسائي 424 والطبراني 23/ 263 من وجه آخر. وله شاهد هو الآتي.
أخرجه الترمذي 3211 من حديث أم عمارة، وقال حسن غريب اه. وسليمان بن كثير فيه ضعف، ومع ذلك هو شاهد لما قبله. وانظر «تفسير الشوكاني» 1997 بتخريجنا.
مرسل. أخرجه الطبري 28505 عن قتادة مرسلا. وانظر ما تقدم.
ذكره الواحدي في «الوسيط» 3/ 471 و «أسباب النزول» 700 عن مقاتل بن حيان بدون إسناد، وهو مرسل، ومقاتل ذو مناكير، والصحيح ما تقدم.
__________
(1) آل عمران: 195.
(2) الحجة بما تقدم.(3/464)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله إِن النساء لفي خَيْبة وخسار، قال: «ومم ذاك» ؟ قالت: لأنهنَّ لا يُذْكَرْنَ بخير كما يُذْكَر الرجال، فنزلت هذه الآية، ذكره مقاتل بن حيَّان.
وقد سبق تفسير ألفاظ الآية في مواضع «1» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 37]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)
قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ... الآية، في سبب نزولها قولان:
(1141) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم انطلق يخطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فقالت: لا أرضاه، ولستُ بِنَاكِحَتِه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بلى فانكحيه، فانِّي قد رضيتُه لك» ، فأبت. فنزلت هذه الآية. وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور. وذكر بعض المفسرين أن عبد الله بن جحش أخا زينب كره ذلك كما كرهته زينب، فلمَّا نزلت الآيةُ رضيا وسلَّما. قال مقاتل:
والمراد بالمؤمن عبد الله بن جحش، والمؤمنة زينب بنت جحش.
(1142) والثاني: أنها نزلت في أُمِّ كُلثوم بنت عُقْبة بن أبي مُعَيط، وكانت أوَّل امرأة هاجرت، فوهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: «قد قَبلْتُكِ» ، وزوَّجها زيدَ بن حارثة، فسخطت هي وأخوها، وقالا:
إِنَّما أردنا رسولَ الله، فزوَّجها عبدَه؟! فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد. والأول عند المفسرين أصح.
قوله تعالى: إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أي: حَكَما بذلك «أن تكون» وقرأ أهل الكوفة: «أن يكون» بالياء لَهُمُ الْخِيَرَةُ وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء: «الخِيْرَةُ» باسكان الياء فجمع في الكناية في قوله تعالى: «لهم» ، لأن المراد جميع المؤمنين والمؤمنات، والخِيرَة: الاختيار، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله.
(1143) فلمّا زوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيداً مكثت عنده حيناً، ثم إِن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى منزل زيد
__________
أخرجه الطبري 28513 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف عطية بن سعد العوفي، ومن دونه مجاهيل، لكن لأصله شواهد، وأخرجه الطبري 28515 عن قتادة مرسلا.
- وأخرجه الدارقطني 3/ 301 عن زينب بنت جحش بمعناه.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 28517 عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو معضل، ومع ذلك عبد الرحمن بن زيد متروك الحديث.
باطل بهذا اللفظ. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 8/ 80 ومن طريقه الحاكم في «المستدرك» 4/ 23 من-
__________
(1) انظر البقرة: 45، 109، 129، 184. وآل عمران: 17، 191. والأنبياء: 91. والأحزاب: 31.(3/465)
فنظر إِليها وكانت بيضاء جميلة من أتمِّ نساء قريش، فوقعت في قلبه، فقال: «سبحان الله مقلِّب القلوب» ، وفطن زيد، فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها. وقال بعضهم: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم منزل زيد، فرأى زينب، فقال: «سبحان مقلِّب القلوب» ، فسمعت ذلك زينب، فلمَّا جاء زيد ذكرت له ذلك، فعلم أنها قد وقعت في نفسه، فأتاه فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها. وقال ابن زيد: جاء
__________
طريق محمد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلا. وإسناده ساقط له علل ثلاث: الأولى: الإرسال. الثانية: عبد الله بن عامر ضعيف الحديث. الثالثة: الواقدي متروك الحديث. والمتن باطل بهذا اللفظ، لا يليق بمقام النبي صلى الله عليه وسلّم مثل هذا.
- وورد نحوه عن عبد الرحمن بن زيد. أخرجه الطبري 28519 وهذا معضل، وابن زيد متروك إذا وصل الحديث فكيف إذا أرسله.
- وورد نحوه عن مقاتل كما ذكر المصنف والحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف عن الثعلبي بدون إسناد.
ومقاتل لا يحتج بما يتفرد به، فهو متهم بالوضع. وقد قال الحافظ في «الفتح» : وردت آثار أخرجها ابن أبي حاتم والطبري، ونقلها كثير من المفسّرين، لا ينبغي التشاغل بها.
- قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 3/ 576: عهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردّا أن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله، لا يزيد عليه، فإن أخبارهم مروية، وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين: إما غبي عن مقدارهم، وإما بدعي لا رأي له في برّهم ووقارهم فيدس تحت المقال المطلق الدواهي ولا يراعي الأدلة ولا النواهي ومحمد صلى الله عليه وسلّم ما عصى ربه قط فلم يقع قط في صغيرة- حاشا لله- ولا ذنب كبير. وهذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد. فأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلّم رآها فوقعت في قلبه فباطل، فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج، حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة وإنما كان الحديث ...
قلت: وهو الصواب في ذلك أن زينب كانت تفخر وتترفع على زيد بسبب أنها قرشية حسيبة نسيبة وهو مولى الأصل ... فكان يشكوها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول له: «أمسك عليك زوجك» كما أخبر به القرآن-.
وقد أخرج مسلم 1428 وابن سعد 8/ 82 والنسائي في «التفسير» 430، عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد: «اذكرها عليّ» قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمّر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكرها. فوليتها صدري ونكصت على عقبي. فقلت: يا زينب! أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ... الحديث واللفظ لمسلم. فهذا هو الصحيح فعليك به.
وقال ابن العربي رحمه الله 3/ 578: وإنما كان الحديث أنها لما استقرت عند زيد جاءه جبريل: إن زينب زوجك، ولم يكن بأسرع أن جاءه زيد يتبرأ منها، فقال له: اتق الله، وأمسك عليك زوجك فأبى زيد إلا الفراق وطلّقها وانقضت عدتها، وخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلّم على يدي مولاه زوجها. وأنزل الله القرآن المذكور فيه خبرهما، هذه الآيات. فقال: اذكر يا محمد إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أمسك عليك زوجك، واتق الله في فراقها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه، يعني من نكاحك لها. وهو الذي أبداه لا سواه. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلّم أن الله تعالى إذا أوحى إليه أنها زوجته لا بد من وجود هذا الخبر وظهوره، هذا يدلك على براءته من كل ما ذكره متسور من المفسّرين، مقصور على علوم الدين. فإن قيل: فكيف يأمره بالتمسك بها، وقد علم أن الفراق لا بد منه؟ قلنا: هو صحيح للمقاصد الحسنة لإقامة الحجة، ومعرفة العاقبة، إنه أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله به من رغبته منها فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهية فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها. ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان، وقد علم أنه لا يؤمن فليس في مخالفة متعلّق الأمر لمتعلّق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما، وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه.
قلت: هذا هو الصواب إن شاء الله، وكلام ابن العربي نفيس جدا، فتدبره والله الموفق.(3/466)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى باب زيد- وعلى الباب سِتْر من شعر- فرفعت الريح السِّتر، فرأى زينب، فلمَّا وقعت في قلبه كرهت إِلى الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله أُريد فراقها، فقال: «اتق الله» . وقال مقاتل: لمَّا فطن زيد لتسبيح رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فان فيها كِبْراً، فهي تَعظَّم عليَّ وتؤذيني بلسانها، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك زوجك واتق الله» . ثم إِن زيداً طلَّقها بعد ذلك، فأنزل الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالاسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعِتْق.
قوله تعالى: وَاتَّقِ اللَّهَ أي: في أمرها فلا تطلِّقها وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ أي: تُسِرُّ وتُضْمِر في قلبك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي: مُظْهِره وفيه أربعة أقوال «1» : أحدها: حُبّها، قاله ابن عباس. والثاني: عهد عهده الله إِليه أنَّ زينب ستكون له زوجة، فلمَّا أتى زيد يشكوها، قال له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، وأخفى في نفسه ما الله مبديه، قاله علي بن الحسين. والثالث: إِيثاره لطلاقها، قاله قتادة، وابن جريج، ومقاتل. والرابع: أن الذي أخفاه: إِن طلَّقها زيد تزوجتُها، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ فيه قولان: أحدهما: أنه خشي اليهود أن يقولوا: تزوَّج محمد امرأة ابنه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه خشي لوم الناس أن يقولوا: أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها. قوله تعالى: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ أي: أولى في كل الأحوال. وليس المراد أنه لم يخش الله تعالى في هذه الحال ولكن لمَّا كان لخشيته بالخَلْق نوع تعلُّق قيل له: اللهُ أحقُّ أن تخشى منهم.
(1144) قالت عائشة: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية هي أشدّ عليه من هذه الآية، ولو كتم شيئاً من الوحي لكتمها.
فصل:
وقد ذهب بعض العلماء إِلى تنزيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم من حُبِّها وإِيثاره طلاقها. وإِن كان ذلك
__________
صحيح. أخرجه مسلم 177 ح 288 والترمذي 3208 والنسائي في «التفسير» 428 وأحمد 6/ 241 والطبري 8522 من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة مختصرا. وأخرجه الترمذي 3207 من طريق داود بن الزبرقان عن داود عن أبي هند عن الشعبي عن عائشة به مطوّلا. وإسناده ضعيف جدا له علتان:
الأولى: داود بن الزبرقان متروك الحديث. والثانية: الشعبي، وهو عامر بن شراحبيل عن عائشة منقطع.
وضعفه الترمذي بقوله: غريب. وله شاهد من حديث أنس أخرجه البخاري 7420. وله شاهد من مرسل الحسن أخرجه الطبري 28518.
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» 8/ 524: والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلّم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابنا.
ووقوع ذلك في إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم. وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية والله أعلم.
وقال ابن العربي: إنما قال عليه الصلاة والسلام لزيد أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ اختبارا لما عنده من الرغبة فيها أو عنها، وليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد: «اذكرها علي» الحديث. وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب. لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه. وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها هل بقي منه شيء أم لا؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة، وأن من وكل أمره إلى الله عز وجل يسّر الله له ما هو الأحظّ له والأنفع دنيا وأخرى.(3/467)
شائعاً في التفسير. قالوا: وإِنما عوتب في هذه القصة على شيئين: أحدهما: أنه أُخبر بأنها ستكون زوجة له، فقال لزيد: «أمسك عليك زوجك» وكتم ما أخبره الله تعالى به من أمرها حياءً من زيد ان يقول له: إِنَّ زوجتَك ستكون امرأتي وهذا يخرج على ما ذكرنا عن عليّ بن الحسين، وقد نصره الثعلبي، والواحدي. والثاني: أنه لمَّا رأى اتصال الخصومة بين زيد وزينب، ظن أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها، وأضمر أنه إِن طلَّقها تزوَّجتُها صِلةً لرحمها، وإِشفاقاً عليها، لأنها كانت بنت عمته أُميمة بنت عبد المطّلب، فعاتبه الله تعالى على إِضمار ذلك وإِخفائه حين قال لزيد: «أَمسك عليك زوجك» ، وأراد منه أن يكون ظاهره وباطنه عند الناس سواء.
(1145) كما قيل له في قصة رجل أراد قتله: هلاّ أومأتَ إِلينا بقتله؟ فقال: «ما ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين» ، ذكر هذا القول القاضي أبو يعلى رحمة الله عليه.
قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً قال الزجاج: الوَطَر كل حاجة لك فيها هِمَّة، فاذا بلغها البالغ، قيل: قد قضى وَطَره. وقال غيره: قضاء الوَطَر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، ثم صار عبارة عن الطلاق، لأن الرجل إِنما يطلِّق امرأته إِذا لم يبق له فيها حاجة. والمعنى: لمَّا قضى زيد حاجته من نكاحها زَوَّجْناكَها، وإِنما ذكر قضاء الوطر ها هنا ليُبيِّن أن امرأة المتبنَّي تَحِلُّ وإِن وطئها، وهو قوله تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً والمعنى: زوجْناك زينب- وهي امرأة زيد الذي تبنَّيتَه- لكيلا يُظَنَّ أن امرأة المتبنَّى لا يحلُّ نكاحها.
(1146) وروى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال: لمَّا انقضت عِدَّة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد: «اذهب فاذْكُرها علَيَّ» ، قال زيد: فانطلقتُ، فلمَّا رأيتُها عَظُمَتْ في صدري حتى ما أستطيع أن أنظرُ إِليها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكرها، فولَّيتُها ظهري، ونَكَصْتُ على عَقِبي، وقلتُ: يا زينب، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكُركِ، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر «1» ربِّي، فقامت إِلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إِذن.
وذكر أهل العلم أنّ من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه أُجيز له التزويج بغير مَهْر ليَخلُص قصد
__________
جيد. أخرجه أبو داود 2683 و 4359 والنسائي 7/ 105- 106 والطحاوي في «شرح معاني الآثار» 3/ 330- 331 وابن أبي شيبة 14/ 491- 492 وأبو يعلى 757 والبزار 1821 والدارقطني 3/ 59، والحاكم 3/ 45 والبيهقي 7/ 40 وفي «دلائل النبوة» 5/ 59 وابن الأثير في «أسد الغابة» 4/ 70- 71 من طرق عن أحمد بن المفضل به، جميعهم من حديث سعد بن أبي وقاص. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وهو حديث حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» 6/ 168- 169: ورواه أبو داود وغيره باختصار، ورواه أبو يعلى والبزار ورجالهما ثقات! وفي الباب عن أنس: أخرجه البيهقي في «الدلائل» 5/ 60- 61، وفيه الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف. وذكره الهيثمي في «المجمع» 6/ 167- 168 ونسبه إلى الطبراني في «الأوسط» وأعله بالحكم بن عبد الملك. وعن سعيد بن المسيب مرسلا، أخرجه ابن سعد 2/ 141 من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد عنه.
صحيح. أخرجه مسلم 1428 والنسائي في «التفسير» 430 والنسائي 6/ 79 وأحمد 3/ 195 وأبو يعلى 3332 وابن سعد 8/ 82 من حديث أنس. وانظر «تفسير الشوكاني» 2003 بتخريجنا.
__________
(1) أوامر ربي: أستشيره وأستخيره.(3/468)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
زوجاته لله عزّ وجلّ دون العِوَض، وليخفّف عنه، وأُجيز له التزويج بغير وليّ، لأنه مقطوع بكفاءته، وكذلك هو مستغنٍ في نكاحه عن الشّهود.
(1147) وكانت زينب تفاخر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلّم وتقول: زوّجكنّ أهلوكنّ وزوّجني الله عزّ وجلّ.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 40]
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
قوله تعالى: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قال قتادة: فيما أحلّ الله عزّ وجلّ له من النساء. قوله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ هي منصوبة على المصدر، لأن معنى ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ:
سنَّ اللهُ عزّ وجلّ سُنَّة واسعة لا حَرَج فيها. والذين خَلَوا: هم النبيّون فالمعنى: أنّ سنّة الله عزّ وجلّ في التَّوسعة على محمد فيما فرض له، كسُنَّته في الأنبياء الماضين. قال ابن السائب: هكذا سُنَّة الله في الأنبياء، كداود، فانه كان له مائة امرأة، وسليمان كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سُرِّيَّة «1» ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي: قضاءً مقضيّاً. وقال ابن قتيبة: «سُنَّةَ الله في الذين خَلَوا» معناه: لا حَرَجَ على أحد فيما لم يَحْرُم عليه. ثم أثنى الله تعالى على الأنبياء بقوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي: لا يخافون لائمة الناس وقولهم فيما أُحِلَّ لهم. وباقي الآية قد تقدّم بيانه «2» .
قوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قال المفسرون:
(1148) لمَّا تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زينب، قال الناس: إِن محمداً قد تزوَّج امرأة ابنه، فنزلت هذه الآية. والمعنى: ليس بأب لزيد فتَحْرُم عليه زوجته وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ قال الزّجّاج: من نصبه،
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4787 و 7420 و 7421 والترمذي 3212 و 3213 والحاكم 2/ 417 وأحمد 3/ 150 والبيهقي 7/ 161 من حديث أنس رضي الله عنه.
- وهو عند مسلم 1428 ح 90 في إحدى الروايات دون باقي الروايات، عن أنس رضي الله عنه قال: جاء زيد بن حارثة يشكو فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «اتق الله وأمسك عليك زوجك» قالت عائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم كاتما شيئا لكتم هذه. قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم تقول: زوّجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات. واللفظ للبخاري.
ضعيف. أخرجه الترمذي 3207 من طريق داود بن الزبرقان عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة به مطوّلا. وإسناده ضعيف جدا له علتان: الأولى: داود بن الزبرقان متروك الحديث. الثانية: الشعبي، وهو عامر بن شراحيل عن عائشة منقطع. وضعفه الترمذي بقوله: غريب.
- قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 606: وقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ نهى أن يقال بعد هذا «زيد بن محمد» أي: لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم، فإنه ولد له القاسم، والطيب، والطاهر، من خديجة فماتوا صغارا وولد له إبراهيم من مارية القبطيّة، فمات أيضا رضيعا. وكان له من خديجة أربع بنات: زينب، ورقية وأم كلثوم، وفاطمة- رضي الله عنهم أجمعين- فمات في حياته ثلاث وتأخرت فاطمة حتى أصيبت به- صلوات الله وسلامه عليه- ثم ماتت بعده بستة أشهر اه.
__________
(1) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو ممن يروي الإسرائيليات، فالله تعالى أعلم.
(2) النساء: 6. [.....](3/469)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
فالمعنى: ولكن كان رسول الله عليه السلام، وكان خاتم النبيِّين ومن رفعه، فالمعنى: ولكنْ هو رسول الله عليه السلام ومن قرأ: «خاتِمَ» بكسر التاء، فمعناه: وختم النبيِّين ومن فتحها، فالمعنى:
آخِر النبيِّين. قال ابن عباس: يريد: لو لم أَختِم به النبيِّين، لَجَعلتُ له ولداً يكون بعده نبيّاً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
قوله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قال مجاهد: هو أن لا تنساه أبداً. وقال ابن السائب: يقال:
«ذِكْراً كثيراً» بالصلوات الخمس. وقال مقاتل بن حيَّان: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال. وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(1149) «يقول ربُّكم: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه» .
قوله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قال أبو عبيدة: الأصيل: ما بين العصر إِلى الليل.
وللمفسرين في هذا التسبيح قولان: أحدهما: أنه الصلاة، واتفق أرباب هذا القول على أن المراد بالتسبيح بُكْرة: صلاةُ الفجر. واختلفوا في صلاة الأصيل على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة العصر، قاله أبو العالية، وقتادة. والثاني: أنها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قاله ابن السائب. الثالث: أنها الظهر والعصر، قاله مقاتل. والقول الثاني: أنه التسبيح باللسان، وهو قول: سبحان الله والحمد لله ولا إِله إِلا الله والله أكبر ولا حول ولا قُوَّة إِلاَّ بالله، قاله مجاهد.
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ في صلاة الله تعالى علينا خمسة أقوال: أحدها:
أنها رحمته، قاله الحسن. والثاني: مغفرته، قاله سعيد بن جبير. والثالث: ثناؤه، قاله أبو العالية.
والرابع: كرامته، قاله سفيان. والخامس: بَرَكَتُه، قاله أبو عبيدة. وفي صلاة الملائكة قولان: أحدهما:
أنها دعاؤهم، قاله أبو العالية. والثاني: استغفارهم، قاله مقاتل. وفي الظُّلُمات والنُّور هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: الضَّلالة والهدى، قاله ابن زيد. والثاني: الإِيمان والكفر، قاله مقاتل. والثالث: الجنة والنار، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ الهاء والميم كناية عن المؤمنين. فأمّا الهاء في قوله تعالى: يَلْقَوْنَهُ ففيها قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه تحيّتهم من الله يوم يلقونه سلام «1» .
__________
جيد، أخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» ص 87 وابن ماجة 3792 وأحمد 2/ 540 والحاكم 1/ 496 والبغوي في «التفسير» 104 كلهم من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن صحيح.
__________
(1) هذا ما اختاره ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 610، ثم قال: وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضا بالسلام، يوم يلقون الله في الدار الآخرة، واختاره ابن جرير. قلت: وقد يستدل بقوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.(3/470)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
(1150) روى صهيب عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنّ الله تعالى يسلِّم على أهل الجنة. والثاني: تحيَّتُهم من الملائكة يوم يلقون الله تعالى: سلامٌ، قاله مقاتل. وقال أبو حمزة الثُّمالي: تسلِّم عليهم الملائكة يوم القيامة، وتبشِّرهم حين يخرجون من قبورهم. والثالث: تحيَّتُهم بينهم يوم يلقون ربَّهم: سلام، وهو أن يُحيِّي بعضُهم بعضاً بالسلام، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
والقول الثاني: أن الهاء ترجع إِلى ملك الموت، وقد سبق ذِكْره في ذِكْر الملائكة. قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال له: ربُّك يقرئك السلام. وقال البراء بن عازب في قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ قال: ملَك الموت، ليس مؤمن يقبض روحه إِلا سلَّم عليه. فأما الأجر الكريم، فهو الحسن في الجنّة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 48]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أَي: على أُمَّتك بالبلاغ وَمُبَشِّراً بالجنة لمن صدَّقك وَنَذِيراً أي: منذِراً بالنار لمن كذَّبك، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي: إِلى توحيده وطاعته بِإِذْنِهِ أي: بأمره، لا أنك فعلتَه من تلقاء نفسك وَسِراجاً مُنِيراً أي: أنت لِمَن اتَّبعك «سراجاً» ، أي:
كالسِّراج المضيء في الظلمة يُهتدى به.
قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً وهو الجنة.
(1151) قال جابر بن عبد الله: لمَّا أنزل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الآيات، قالت
__________
لم أقف عليه من حديث صهيب، ولا يصح، وإنما حديث صهيب فيه إثبات الرؤية دون السلام كذا أخرجه مسلم 181 وغيره، وتقدم في سورة يونس.
وورد ما ذكره المصنف من حديث جابر بن عبد الله، وهو ضعيف. أخرجه ابن ماجة 184 والآجري في «الشريعة» 626 والواحدي في «الوسيط» 3/ 517 من طريق محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وإسناده ضعيف. وأخرجه أبو نعيم في «صفة الجنة» 91 والبيهقي في «البعث» 493 من طريق العبّاداني به. وقال البوصيري في «الزوائد» أبو عاصم العبّاداني منكر الحديث قاله العقيلي. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 98 وقال: رواه البزار، وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وهو ضعيف.
لم أره مسندا من حديث جابر، وتفرد المصنف بذكره، فهو لا شيء، وأصل الخبر صحيح دون ذكر نزول الآية، فقد ورد من حديث أنس بن مالك وليس فيه سبب نزول الآية في الأحزاب. أخرجه البخاري 4172 و 4834 وأحمد 3/ 173 من طريق شعبة. وأخرجه مسلم 1786 وأحمد 3/ 122 و 134 والطبري 31454 من طريقين عن همام به. وأخرجه مسلم 1786 والبيهقي 5/ 217 من طريق شيبان. وأخرجه الترمذي 3263 وأحمد 3/ 197 من طريق معمر. وأخرجه مسلم 1786 والطبري 31452 والواحدي في «الوسيط» 4/ 132- 133 من طريق سليمان بن طرخان. وأخرجه الطبري 31453 من طريق سعيد بن أبي عروبة. كلهم عن قتادة به. وأخرجه ابن حبان 371 من طريق سفيان عن الحسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا فما لنا! فأنزل الله لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة ثم رجعت فذكر له فقال: أما إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فعن أنس، وأما هنيئا مريئا فعن عكرمة. وحديث عكرمة أخرجه الطبري 31457 من طريق شعبة عن قتادة به. وليس فيه سبب نزول الآية في الأحزاب. وقد عزاه السيوطي في «الدر» 6/ 63 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مردويه عن عكرمة. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» 902 وعزاه إلى ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري وفيه سبب نزول الآية في الأحزاب ... وبرقم 903 وعزاه إلى البيهقي في «دلائل النبوة» عن الربيع بن أنس بنحوه.(3/471)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، فما لَنا؟ فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ قد سبق في أول السورة. قوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ قال العلماء: معناه لا تجازهم عليه وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كفاية شرّهم وهذا منسوخ بآية السّيف.
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ قال الزجاج: معنى «نَكَحْتُم» تزوَّجتم «1» . ومعنى «تَمَسَّوهُنَّ» تَقْربوهن. وقرأ حمزة، والكسائي: «تُمَاسُّوهُنَّ» بألف. قوله تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أجمع العلماء أنه إِذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة فلا عِدَّة «2» وعندنا أن الخلوة توجب العِدَّه
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 611: هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة، منها: إطلاق النكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها.
وقوله الْمُؤْمِناتِ خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق.
(2) قال ابن كثير رحمه الله 3/ 612: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء إذا طلّقت قبل الدخول بها لا عدة عليها فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفّى عنها زوجها فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضا.
وقال الإمام الموفق في «المغني» 9/ 533: فأما الخلوة بالمرأة، فالصحيح أنها لا تنشر حرمة. وقد روي عن أحمد: إذا خلا بالمرأة، وجب الصّداق والعدة، ولا يحل له أن يتزوج أمها أو ابنتها. قال القاضي: هذا محمول على أنه حصل مع الخلوة الجماع، فيخرّج كلامه بقوله: لا يحرّمه شيء من ذلك إلا الجماع. وفي رواية عن أحمد. فأما تحريم أمها فبمجرد العقد، وأما تحريم ابنتها فبالدخول وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فأما مع خلّوه من ذلك، فلا يؤثر في تحريم الربيبة لما في ذلك من مخالفة قوله تعالى. وأما الخلوة بأجنبية. فلا تنشر تحريما. لا نعلم في ذلك خلافا.
وجاء في «المغني» 11/ 197: العدة تجب على كل من خلا بها زوجها، وإن لم يمسها. وإن خلا بها ولم يصبها ثم طلّقها، فإن مذهب أحمد وجوب العدة عليها. وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين، وزيد، وابن عمر وأصحاب الرأي والشافعي في القديم. وقال الشافعي في الجديد: لا عدّة عليها، لهذه الآية وهذا نص. ولأنها مطلقة لم تمس، فأشبهت من لم يخل بها. ولنا، إجماع الصحابة. فإنه من أرخى سترا أو أغلق بابا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة. وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر فصارت إجماعا. وقد روي عن أحمد، أن الصداق لا يكمل مع وجود المانع، فكذلك يخرج في العدة. لأن الخلوة إنما أقيمت مقام المسيس، لأنها مظنة له، ومع المانع لا تتحقق المظنة. ولأن العدة تجب لبراءة الرحم. وأجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر، مدخولا بها أو غير مدخول بها، سواء كانت كبيرة بالغة أو صغيرة لم تبلغ.(3/472)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
وتقرّر الصّداق، خلافا للشّافعيّ رضي الله عنه. قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ المراد به من لم يسمّ لها مهرا، لقوله تعالى: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً «1» ، وقد بيَّنَّا المتعة هنالك. وكان سعيد بن المسيّب وقتادة يقولان: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ «2» . قوله تعالى: وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي: من غير إِضرار. وقال قتادة: هو طلاقها طاهراً من غير جماع. وقال القاضي أبو يعلي: الأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق، لأنه قد ذكر الطلاق، وإِنما هو بيان أنه لا سبيل له عليها، وأن عليه تخليتها من يده وحِباله.
فصل:
واختلف العلماء فيمن قال: إِن تزوجتُ فلانة فهي طالق، ثم تزوجها فعندنا أنها لا تطلق، وهو قول ابن عباس، وعائشة، والشافعي، واستدل أصحابنا بهذه الآية، وأنه جعل الطلاق بَعد النكاح. وقال سماك بن الفضل: النِّكاح عُقدة، والطلاق يَحُلُّها، فكيف يحلُّ عقدة لم تُعقد؟! فجُعل بهذه الكلمة قاضياً على «صنعاء» . وقال أبو حنيفة: ينعقد الطلاق، فاذا وُجد النكاح وقع. وقال مالك:
ينعقد ذلك في خصوص النساء، وهو إِذا كان في امرأة بعينها، ولا ينعقد في عمومهن. فأما إِذا قال: إِن ملكتُ فلاناً فهو حُرّ، ففيه عن أحمد روايتان «3» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
__________
(1) البقرة: 236.
(2) البقرة: 237.
(3) قال الإمام الموفق في «المغني» 3/ 488: وإذا قال: إن تزوجت فلانة، فهي طالق. لم تطلق إن تزوج بها، وإن قال: إن ملكت فلانا فهو حرّ، فملكه صار حرا واختلفت الرواية عن أحمد، فعنه: لا يقع طلاق. روي هذا عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وعروة، وجابر بن زيد، والشافعي، قال:
وهو قول أكثر أهل العلم لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك، ولا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» . قال الترمذي: وهذا حديث حسن.
قال أحمد: هذا عن النبي صلى الله عليه وسلّم وعدة من الصحابة. ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم، فيكون إجماعا.
والرواية الثانية عن أحمد: أنه يصح في العتق ولا يصح في الطلاق.
- وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 13/ 180: استدل بعض العلماء بقوله تعالى: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وبمهلة ثمّ على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح، وأن من طلّق المرأة قبل نكاحها وإن عينها، فإن ذلك لا يلزمه.
وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام. سمى الإمام البخاري منهم اثنين وعشرين. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا طلاق قبل نكاح» ومعناه: أن الطلاق لا يقع حتى يحصل النكاح. وقال طائفة من أهل العلم: إن طلاق المعيّنة الشخص أو القبيلة أو البلد لازم قبل النكاح، منهم مالك وجميع أصحابه، وجمع عظيم من علماء الأمة. وإن قال: كل امرأة أتزوجها طالق وكل عبد أشتريه حرّ، لم يلزمه شيء.(3/473)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ذكر الله تعالى أنواع الأنكحة التي أحلَّها له، فقال: أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهُنَّ، وهُنَّ اللَّواتي تزوَّجْتَهُنَّ بصداق وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ يعني الجواري مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي: ردّه عليك من الكفار، كصفيَّة وجُوَيرية، فانه أعتقهما وتزوجهما وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ يعني نساء قريش وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ يعني نساء بني زُهْرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ إِلى المدينة. قال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا يدلُّ على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يَحِلَّ له نكاحها.
(1152) وقالت أمّ هانئ: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاعتذرتُ إِليه بعذر، ثم أنزل اللهُ تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله تعالى: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، قالت: فلم أكن لأحَلَّ له، لأنِّي لم أُهاجِر معه، كنتُ من الطُّلَقاء وهذا يدلُّ مِنْ مذهبها أنَّ تخصيصه بالمهاجرات قد أوجب حظر مَنْ لم تُهاجِر.
وذكر بعض المفسرين: أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ، ولم يذكر ناسخه. وحكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أن الهجرة شرط في إِحلال النساء له على الإِطلاق. والثاني: أنه شرط في إِحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات.
قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً أي: وأَحلَلْنا لك امرأة مؤمنة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لك، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي: إِن آثر نكاحها خالِصَةً لَكَ أي: خاصة. قال الزجّاج: وإِنما قال: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ، ولم يقل: «لك» ، لأنه لو قال: «لك» ، جاز أن يُتوهَّم أن ذلك يجوز لغير رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما جاز في بنات العمِّ وبنات العمَّات. و «خالصة» منصوب على الحال. وللمفسرين في معنى «خالصةً» ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراة إِذا وهبت له نفسها، لم يلزمه صَداقُها دون غيره من المؤمنين، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب. والثاني: أنَّ له أن يَنْكِحها بِلاَ وليّ ولا مَهْر دون غيره، قاله
__________
صدره صحيح، له شواهد، وعجزه ضعيف. أخرجه الترمذي 3214 وابن سعد 8/ 121 والحاكم 2/ 185- 224 و 4/ 53 والطبري 28546 والبيهقي 7/ 54 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 613 من طرق عن إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانئ به. وإسناده ضعيف جدا لأجل أبي صالح واسمه باذام، فقد ضعفه غير واحد، واتهمه بعضهم بالكذب. وصدر الحديث محفوظ، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلّم خطبها، والوهن فقط في ذكره الآية وكلام أم هانئ عقب الحديث، حيث تفرّد بذلك أبو صالح. والحديث ضعفه ابن العربي جدا، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: حسن صحيح!! قلت: وصدره محفوظ، أخرجه مسلم 2527 وعبد الرزاق 20603 وأحمد 2/ 269- 275 وابن حبان 6268 من طريق معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطب أم هانئ بنت أبي طالب، فقالت: يا رسول الله، إني قد كبرت، ولي عيال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» . وورد من مرسل الشعبي أخرجه ابن سعد 8/ 120، وكرره من مرسل أبي نوفل.
الخلاصة: تبين من ذلك أن صدر الحديث محفوظ، والوهن فقط في عجزه. ولم يفرق الألباني في ذلك حيث أورد الحديث في «ضعيف سنن الترمذي» 630، وقال: إسناده ضعيف جدا؟!!(3/474)
قتادة. والثالث: خالصةً لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، وهذا قول الشافعي، وأحمد.
وفي المرأة التي وهبتْ له نَفْسها أقوال:
(1153) أحدها: أُمّ شَريك.
(1154) والثاني: خولة بنت حكيم.
(1155) ولم يدخل بواحدة منهما.
(1156) وذكروا أنّ ليلى بنت الخطيم وهبت نفسها له فلم يقبلها. قال ابن عباس: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها له. وقد حكي عن ابن عباس أن التي وهبت نفسها له ميمونة بنت الحارث، وعن الشعبي: أنها زينب بنت خزيمة. والأول: أصح.
قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ أي: على المؤمنين غيرك فِي أَزْواجِهِمْ وفيه قولان:
أحدهما: أن لا يجاوز الرجل أربع نسوة، قاله مجاهد. والثاني: أن لا يتزوج الرجل المرأة إِلاَّ بوليّ وشاهدَين وصَدَاق، قاله قتادة. قوله تعالى: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي: وما أَبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور.
قوله تعالى: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ هذا فيه تقديم المعنى: أَحللْنا لك أزواجك، إلى قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ.
قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم:
«ترجئ» مهموزاً وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بغير همز.
(1157) وسبب نزولها أنه لمَّا نزلت آية التخيير المتقدِّمة «1» ، أشفقْنَ أن يُطَلَّقْنَ، فقلن: يا
__________
مرسل. أخرجه الطبري 28560 عن عروة مرسلا. وأخرجه الطبري 28557 عن الحكم أن علي بن الحسين كتب إلى عبد الملك قال: هي امرأة من الأسد يقال لها أم شريك، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلّم. وانظر «الدر» 5/ 395.
خبر صحيح. أخرجه البخاري 5113 من طريق محمد بن سالم. وأخرجه البخاري 4788 ومسلم 1464 والنسائي 6/ 54 وابن ماجة 2000 وأحمد 6/ 185 والحاكم 2/ 436 وابن حبان 6367 والطبري 28574 والبغوي في «شرح السنة» 2262 من طرق عن هشام به. كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلّم فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل! فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. لفظ البخاري في الرواية الأولى.
ضعيف. أخرجه ابن سعد 8/ 119 عن ابن أبي عون مرسلا قال: فلم يسمع أن النبي صلى الله عليه وسلّم قبل منهن أحدا.
أخرجه ابن سعد 8/ 119 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط لأجل الكلبي، فإنه متهم. وأخرجه ابن سعد 8/ 119 عن قتادة مرسلا. وذكره ابن سعد 8/ 255 في ترجمة ليلى بنت الخطيم بدون عزو لأحد.
ضعيف. أخرجه ابن سعد 8/ 158 والطبري 28567 و 28569 و 28572 من طريق منصور عن أبي رزين به، وهذا مرسل، فهو ضعيف. وأخرجه ابن سعد 8/ 158 والطحاوي في «المشكل» 1/ 456 عن مغيرة عن أبي رزين به أبو رزين هو مسعود بن مالك الأسدي، - أسد خزيمة- تابعي كبير.
__________
(1) الأحزاب: 28.(3/475)
نبيَّ الله، اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودَعْنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو رزين.
وفي معنى الآية أربعة أقوال «1» : أحدها: تطلِّق من تشاء من نسائك، وتُمْسِك من تشاء من نسائك، قاله ابن عباس. والثاني: تترُك نكاح من تشاء، وتَنْكِح من نساء أُمَّتك من تشاء، قاله الحسن.
والثالث: تَعْزِل من شئتَ من أزواجك فلا تأتيها بغير طلاق، وتأتي من تشاء فلا تَعْزِلها. قاله مجاهد.
والرابع: تَقْبَل من تشاء من المؤمنات اللواتي يَهَبْنَ أنفُسَهُنَّ، وتترُك من تشاء، قاله الشعبي، وعكرمة.
وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مصاحَبة نسائه كيف شاء من غير إِيجاب القِسْمة عليه والتسوية بينهنّ. غير أنه كان يسوِّي بينهنّ. وقال الزُّهري: ما عَلِمْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم أرجأ منهنَّ أحداً، ولقد آواهنَّ كلَّهنَّ حتى مات.
(1158) وقال أبو رزين: آوى عائشة، وأُم سلمة، وحفصة، وزينب، وكان قَسْمُه من نَفْسه وماله فيهنَّ سواءً. وأرجأ سَوْدة، وجُوَيرية، وصفيَّة، وأُمَّ حبيبة، وميمونة، وكان يَقْسِم لهنَّ ما شاء. وكان أراد فراقهنَّ فقُلن: اقسم لنا ما شئتَ، ودَعْنا على حالنا.
(1159) وقال قوم: إنه أرجأ سَودة وحدها لأنها وهبت يومها لعائشة، فتوفي وهو يَقْسِم لثمان.
قوله تعالى: وَتُؤْوِي أي: تضم، وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ أي: إِذا أردتَ أن تُؤوي إِليك امرأةً ممَّن عزلتَ من القسمة فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي: لا مَيْلَ عليك بلَوْم ولا عَتْب ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أي: ذلك التخيير الذي خيَّرناك في صُحبتهنّ أقرب إِلى رضاهنّ. والمعنى: إِنهنّ إِذا عَلِمن أنَّ هذا أَمر من الله تعالى، كان أطيبَ لأنفُسهنّ. وقرأ ابن محيصن، وأبو عمران الجوني: «أن تُقِرَّ» بضم التاء وكسر القاف «أعيُنَهُنَّ» بنصب النون. وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي: بما أعطيتَهُنّ من تقريب وتأخير وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من المَيْل إِلى بعضهنّ. والمعنى: إِنما خيَّرناك تسهيلاً عليك.
قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ كلُّهم قرأ: «لا يَحِلُّ» بالياء، غير أبي عمرو، فانه قرأ بالتاء والتأنيث ليس بحقيقي، إِنما هو تأنيث الجمع، فالقراءتان حسنتان. وفي قوله تعالى: مِنْ بَعْدُ ثلاثة
__________
انظر الحديث الذي قبله.
لم أره بهذا اللفظ، وخبر سودة دون ذكر هذه الآية. أخرجه الترمذي 3040 والطبري 10613 من حديث ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلّم فقالت: لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل فنزلت: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا ... النساء: 128. قال الترمذي: هذا حديث غريب اه. وله شاهد من حديث عائشة أخرجه أبو داود 2135 والبيهقي 7/ 47 وإسناده حسن صححه الحاكم 2/ 186 ووافقه الذهبي، وليس فيه ذكر الآية. وعند أبي داود 2138 من حديث عائشة « ... وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها» .
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 10/ 315: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال إن الله تعالى ذكره جعل لنبيه أن يرجي من النساء اللواتي أصلهن له من يشاء، ويؤوي إليه منهن من يشاء، وذلك أنه لم يحصر معنى الإرجاء والإيواء على المنكوحات اللواتي كن في حباله، عند ما نزلت الآية دون غيرهن ممن يستحدث إيواؤها أو إرجاؤها منهن.(3/476)
أقوال: أحدها: من بعد نسائك اللواتي خيرتَهُنَّ فاخترن الله تعالى ورسولَه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين، وهُنَّ التِّسع، فصار مقصوراً عليهنّ ممنوعاً من غيرهن. وذكر أهل العِلْم أن طلاقه لحفصة وعَزْمه على طلاق سَوْدة كان قبل التخيير. والثاني: من بعد الذي أحلَلْنا لك، فكانت الإِباحة بعد نسائه مقصورة على المذكور في قوله تعالى: «إِنَّا أَحللنا لك أزواجك» إِلى قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ قاله أُبيُّ بن كعب، والضحاك. والثالث: لا تَحِلُّ لك النساء غير المُسْلِمات كاليهوديّات والنصرانيّات والمشركات، وتَحِلُّ لك المسلمات، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن تطلِّق زوجاتك وتستبدل بهنَّ سِواهنَّ، قاله الضحاك. والثاني: أن تبدِّل بالمسلمات المشركات، قاله مجاهد في آخرين.
(1160) والثالث: أن تُعطيَ الرجل زوجتك وتأخذ زوجته، وهذه كانت عادة للجاهلية، قاله أبو هريرة، وابن زيد.
قوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ يعني الإِماء. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: إِلا أن تَملك بالسَّبي، فيَحِلّ لك وطؤها وإِن كانت من غير الصِّنف الذي أحلَلْتُه لك وإِلى هذا أومأ أُبيُّ بن كعب في آخرين. والثاني: إِلاَّ أن تصيب يهودية أو نصرانية فتطأها بملك اليمين، قاله ابن عباس ومجاهد. والثالث: إِلاَّ أن تبدِّل أَمَتَك بأَمَة غيرك، قاله ابن زيد.
قال أبو سليمان الدمشقي: وهذه الأقوال جائزة، إِلاَّ أنَّا لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نكح يهودية ولا نصرانية بتزويج ولا ملك يمين.
(1161) ولقد سبى ريحانة القرظية فلم يَدْنُ منها حتى أسلمت.
فصل:
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ، وهذا مروي عن عليٍّ، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة، وعلي بن الحسين، والضحاك.
(1162) وقالت عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أُحِلَّ له النساء، قال أبو سليمان الدّمشقي:
__________
باطل. هو صدر حديث. أخرجه البزار 2251 «كشف» والدارقطني 3/ 218 من حديث أبي هريرة، وفيه إسحاق بن أبي فروة متروك الحديث. واتهمه الزهري، وهذا الحديث مما صنعت يداه، وهو باطل لا أصل له، وضعفه البزار جدا بقوله: إسحاق لين الحديث، ولا نحفظه إلا عنه. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» 3/ 618.
ونقل الآبادي عن الحافظ في «الفتح» قوله: ضعيف جدا اه. وانظر «تفسير الشوكاني» 2023.
ضعيف. أخرجه ابن سعد 8/ 102- 103 عن عمر بن الحكم مرسلا.
ورد عن عائشة وعن أم سلمة. أما حديث عائشة فأخرجه الترمذي 3216 والنسائي 6/ 56 وأحمد 6/ 41 والحميدي 235 وابن سعد 8/ 140 والبيهقي 7/ 54 من طريق عمرو بن دينار عن عطاء عن عائشة، ورجاله رجال الشيخين فالإسناد صحيح إذا كان عطاء سمعه من عائشة، والظاهر أنه لم يسمعه منها كما سيأتي.
وأخرجه الطبري 28594 من طريق ابن جريج عن عطاء عن عائشة. وأخرجه أحمد 6/ 180- 201 والنسائي 6/ 56 وفي «التفسير» 435 وابن سعد 8/ 141 والطحاوي في «المشكل» 522 وابن حبان 6366 والطبري 28598 والبيهقي 7/ 54 من طريق ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة به. ورجاله رجال البخاري ومسلم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن سعد 8/ 140 من طريق عطاء ومحمد بن علي عن عائشة، وفيه الواقدي متروك الحديث.
- وأما حديث أم سلمة، فقد أخرجه الطحاوي في «المشكل» 524. وإسناده ساقط، فيه عمر بن أبي بكر الموصلي، وهو متروك. وأخرجه ابن سعد 8/ 194 من وجه آخر، وفيه الواقدي متروك. الخلاصة: حديث عائشة قوي، وأما حديث أم سلمة، فهو واه ليس بشيء. والجمهور على خلاف مذهب عائشة.
انظر «أحكام القرآن» 1828 بتخريجنا.(3/477)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
يعني نساء جميع القبائل من المهاجرات وغير المهاجرات.
والقول الثاني: أنها محكمة ثم فيها قولان: أحدهما: أن الله تعالى أثاب نساءه حين اخْتَرنه بأن قَصَره عليهنّ، فلم يُحِلَّ له غيرهنّ، ولم ينسخ هذا، قاله الحسن وابن سيرين وأبو أُمامة بن سهل وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. والثاني: أنّ المراد بالنساء ها هنا: الكافرات، ولم يَجُز له أن يتزوَّج كافرة، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وجابر بن زيد.
[سورة الأحزاب (33) : آية 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية. في سبب نزولها ستة أقوال:
(1163) الأول: أخرجاه في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمَّا تزوَّج زينب بنت جحش دعا القوم، فطَعِمُوا ثم جلسوا يتحدَّثون، فأخذ كأنَّه يتهيَّأُ للقيام، فلم يقوموا، فلمَّا رأى ذلك قام وقام مِنَ القوم مَنْ قام، وقعد ثلاثة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل فاذا القوم جلوس، فرجع، وإِنَّهم قاموا فانطلقوا، وجئت فأخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنَّهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبتُ أدخلُ فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
(1164) والثاني: أنَّ ناساً من المؤمنين كانوا يتحيّنون طعام النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيدخُلون عليه قبل الطعام إِلى أن يُدرِك، ثم يأكلون ولا يخرُجون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتأذَّى بهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(1165) والثالث: أن عمر بن الخطاب قال: قلت يا رسول الله! إِن نساءك يدخل عليهنّ البرّ
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4721 و 6239 و 6271 ومسلم 1428 والترمذي 3218 و 3219 والنسائي في «الكبرى» 11416 و 11420 والواحدي في «أسباب النزول» 706 من حديث أنس.
ذكره البغوي هكذا بدون إسناد عن ابن عباس، ولم أره مسندا.
- وورد نحوه عن الربيع بن أنس، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» 4/ 402.
صحيح. أخرجه البخاري 402 و 4790 والنسائي في «التفسير» 438 وابن حبان 6896 عن أنس عن عمر به، وأتم. ولم أره عن ابن عمر عن عمر، فالله أعلم.(3/478)
والفاجر، فلو أمرتَهُنَّ أن يَحْتَجِبْنَ، فنزلت آية الحجاب، أخرجه البخاري من حديث أنس، وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر، كلاهما عن عمر.
(1166) والرابع: أنَّ عُمر أمر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب، إِنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟! فنزلت الآية، قاله ابن مسعود.
(1167) والخامس: أن عمر كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: احجب نساءك، فلا يفعل، فخرجت سَوْدَةُ ليلة، فقال عمر: قد عرفناكِ يا سَوْدَة- حرصاً على أن ينزل الحجاب- فنزل الحجاب، رواه عكرمة عن عائشة.
(1168) والسادس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يطعم معه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجل منهم يدَ عائشة، وكانت معهم، فكره النبيّ صلى الله عليه وسلّم ذلك، فنزلت آية الحجاب، قاله مجاهد.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ أي: أن تُدْعَوا إليه «1» غَيْرَ ناظِرِينَ أي: منتظرين أَنْ. قال الزجاج: موضع «أنْ» نصب والمعنى: إِلا بأن يؤذن أو لأن يؤذن، و «غير» منصوبة على الحال المعنى: إِلا أن يؤذَنَ لكم غيرَ منتظرِين. و «إناه» : نضجه وبلوغه.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 28621 وفيه عطاء بن السائب، وهو صدوق، لكن اختلط، وهو بهذا اللفظ ضعيف، والصواب ما تقدم برقم 1163 و 1165. وانظر «أحكام القرآن» 1832 بتخريجنا.
أخرجه مسلم 2170 ح 18 والطبري 28619 من طريقين عن الزهري به. وأخرجه البخاري 6240 من طريق صالح بن كيسان عن الزهري به. وأخرجه البخاري 5237 ومسلم 2170 من طريق علي بن مسهر عن هشام عن عروة به. وأخرجه البخاري 4795 ومسلم 2170 والبيهقي 7/ 88 من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه به. وأخرجه مسلم 2170 وأحمد 6/ 56 من طريق ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه به. وأخرجه أبو يعلى 4433 وابن حبان 1409 من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام بن عروة عن أبيه به.
وهم جميعا من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنهما. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 620:
هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت:
فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال: «إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن» .
ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 709 عن مجاهد مرسلا، وصوّبه الدارقطني كما ذكر الحافظ في «تخريج الكشاف» 3/ 55. وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11419 والبخاري في «الأدب المفرد» 1053 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 621 من حديث عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلّم حيسا، فمرّ عمر، فدعاه فأكل، فأصابت يده إصبعي، فقال: حس! لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب وهذا منقطع مجاهد لم يسمع من عائشة كما في مراسيل ابن أبي حاتم. ثم إن الخبر منكر.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 620: حظّر الله على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه، قال: وهذا دليل على تحريم التطفيل، وهو الذي تسميه العرب: «الضيفن» اه.(3/479)
قوله تعالى: فَانْتَشِرُوا أي: فاخرُجوا. قوله تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ المعنى: ولا تدخُلوا مستأنِسِين، أي: طالبي الأُنس لحديث، وذلك أنهم كانوا يجلسون بعد الأكل فيتحدَّثون طويلاً، وكان ذلك يؤذيه، ويستحيي أن يقول لهم: قوموا، فعلَّمهم الله تعالى الأدب، فذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي: لا يترُك ان يُبيّن لكم ما هو الحقّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً أي: شيئاً يُستمتَع به وينتفع به من آلة المنزل فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ أي: سؤالكم إِيَّاهُنَّ المتاعَ من وراء حجاب أطهرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الرِّيبة.
قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي: ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء.
قال أبو عبيدة: «كان» من حروف الزوائد. والمعنى: ما لكم أن تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.
(1169) روى عطاء عن ابن عباس، قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لو توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلّم تزوّجت عائشة، فأنزل الله تعالى ما أَنزل.
(1170) وزعم مقاتل أن ذلك الرجل طلحة بن عبيد الله.
قوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ يعني نكاح أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي: ذنْباً عظيم العقوبة.
__________
أخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 5/ 404 عن ابن عباس. وأخرجه البيهقي 7/ 69 من طريق مهران بن أبي عمر عن الثوري عنه: قال: قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: لو قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم لتزوجت عائشة وأم سلمة، فأنزل الله عز وجل: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ.... وإسناده ضعيف لضعف مهران في روايته عن الثوري خاصة. وأخرج ابن سعد نحوه عن جويبر عن ابن عباس كما في «أسباب النزول» للسيوطي 920 وليس فيه ذكر عائشة. سكت عليه السيوطي، لأن جويبرا مكشوف الحال، فهو متروك الحديث. وورد من مرسل عبد الرحمن بن زيد، أخرجه الطبري 82623 وابن زيد ليس بشيء. وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 2372 عن قتادة مرسلا. الخلاصة: هذه المراسيل مع الموصول عن ابن عباس تتأيد بمجموعها، ويعلم أن لهذا الخبر أصلا فهو حسن، أو يقارب الحسن، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 1838 بتخريجنا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية. وورد من مرسل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله قال: إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم تزوجت عائشة. وفيه الواقدي ساقط الحديث متروك، فلا فائدة من هذا الشاهد. وبكل حال لا يحتج بالضعاف في هذا المقام على أن الحافظ ابن حجر ذكر هذا في «الإصابة» 2/ 230 وقال: طلحة بن عبيد الله بن مسافع، يقال هو الذي نزل فيه وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا ... وذكره أبو موسى في «الذيل» عن ابن شاهين بغير إسناد، وقال: إن جماعة من المفسّرين غلطوا، فظنوا أنه طلحة بن عبيد الله أحد العشرة اه. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 14/ 202:
وقال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال شيخنا أبو العباس: وقد حكي هذا القول عن فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق هذا القول بالمنافقين الجهال.
اه.
قلت: وكون المراد طلحة بن عبيد الله أحد العشرة وفارس أحد باطل مفترى، وإن كان أحد المنافقين فهو محتمل حيث ورد من وجوه. وهذه الألفاظ إن صحت يكن قائلها منافقا، ولا يقولها مسلم.
وانظر «تفسير ابن كثير» 3/ 621 و «فتح القدير» 2027 بتخريجنا و «الدر» 5/ 403- 404.(3/480)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 الى 55]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ قيل: إِنها نزلت فيما أبداه القائل: لئن مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأتزوجنّ عائشة «1» . قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ. قال المفسرون:
(1171) لمَّا نزلت آية الحجاب، قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: ونحن أيضاً نُكَلِّمُهُنَّ من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ أي: في أن يَرَوْهُنَّ ولا يحتجبْنَ عنهم، إلى قوله تعالى: وَلا نِسائِهِنَّ قال ابن عباس: يعني نساء المؤمنين، لأن نساء اليهود والنصارى يَصِفْنَ لأزواجهن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِن رأينهنّ.
فان قيل: ما بال العمِّ والخال لم يُذْكَرا؟ فعنه جوابان: أحدهما: لأن المرأة تَحِلُّ لأبنائهما، فكره أن تضع خمارها عند عمِّها وخالها، لأنهما ينعتانها لأبنائهما، هذا قول الشعبي وعكرمة. والثاني:
لأنهما يجريان مجرى الوالدين فلم يُذْكَرا، قاله الزجاج.
فأما قوله تعالى: وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ففيه قولان: أحدهما: أنه أراد الإِماء دون العبيد، قاله سعيد بن المسيب. والثاني: أنه عامّ في العبيد والإِماء. قال ابن زيد: كُنَّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يحتجِبْن من المماليك. وقد سبق بيان هذا في سورة النور «2» .
قوله تعالى: وَاتَّقِينَ اللَّهَ أي: أن يراكنَّ غير هؤلاء إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي: لم يغب عنه شيء.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ في صلاة الله وصلاة الملائكة أقوال قد تقدّمت في هذه السّورة «3» .
قوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ. قال كَعْب بن عُجْرَة:
(1172) قلنا: يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: «اللهمّ
__________
لم أره مسندا، وإنما عزاه المصنف للمفسّرين، وهو خبر واه، شبه لا شيء، لخلوه عن الإسناد.
صحيح. أخرجه البخاري 3370 و 4797 و 6357 ومسلم 406 وأبو داود 976 و 977 و 978 والترمذي 483 والنسائي 3/ 47 وابن ماجة 904 والشافعي 1/ 92 والحميدي 711 و 712 وعبد الرزاق 3105 وأحمد-
__________
(1) انظر الحديث المتقدم برقم 1169.
(2) النور: 31.
(3) الأحزاب: 43.(3/481)
صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على آل إِبراهيم، إِنَّك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد» ، أخرجه البخاري ومسلم. ومعنى قوله قد علمنا التسليم عليك: ما يقال في التشهد: «السلام عليك أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته» . وذهب ابن السائب إِلى أن معنى التسليم: سلِّموا لِمَا يأمركم به.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
(1173) أحدها: في الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين اتخذ صفيَّة بنتُ حيَيّ، قاله ابن عباس.
والثاني: نزلت في المصوِّرين، قاله عكرمة.
والثالث: في المشركين واليهود والنصارى، وصفوا الله تعالى بالولد وكذَّبوا رسوله وشجُّوا وجهه وكسروا رَباعيَته وقالوا: مجنون شاعر ساحر كذَّاب. ومعنى أذى الله: وصفه بما هو منزّه عنه «1» ،
__________
4/ 244 وإسماعيل القاضي 56 و 57 و 58 وابن الجارود 206 وابن حبان 912 والطبراني 19/ 116- 128- 129 والبيهقي 2/ 147 من طرق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة به. وانظر «أحكام القرآن» 1844 بتخريجنا.
فائدة: قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «جلاء الأفهام» ص 118- 126 ما ملخصه: واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلّم على أربعة أقوال:
- فقيل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة، وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء:
- أحدها: أنهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وهذا مذهب الشافعي وأحمد في رواية.
- والثاني: أنهم بنو هاشم خاصة، وهذا مذهب أبي حنيفة، والرواية عن أحمد، واختيار ابن القاسم صاحب مالك.
والثالث: أنهم بنو هاشم، ومن فوقهم إلى غالب، فيدخل بنو المطلب، وبنو أمية، وبنو نوفل، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك.
- قال: وهذا القول في الآل- أعني الذين تحرم عليهم الصدقة- هو منصوص الشافعي وأحمد والأكثرين، وهو اختيار أصحاب أحمد والشافعي.
- والقول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وسلّم هم ذريته وأزواجه خاصة، حكاه ابن عبد البر في «التمهيد» ...
- والقول الثالث: أن آله أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم، ورجحه النووي في «شرح مسلم» .
- والقول الرابع: أن آله هم الأتقياء من أمته، حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة.
- ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أدلة أصحاب هذه الأقوال وعقب ذلك بقوله: والصحيح هو القول الأول، ويليه الثاني، وأما الثالث والرابع فضعيفان اه.
- وقال النووي كما في «تفسير ابن كثير» 3/ 635: إذا صلّي على النبي صلى الله عليه وسلّم فليجمع بين الصلاة والتسليم فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول: «صلى الله عليه» فقط، ولا: «عليه السلام» . وقال ابن كثير: وهذا منتزع من الآية الكريمة فالأولى أن يقال: صلى الله عليه وسلّم تسليما.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 28641 عن ابن عباس برواية عطية العوفي، وهو واه، وعنه مجاهيل.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 14/ 211: اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون؟ فقال الجمهور من العلماء: معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود لعنهم الله:
وقالت اليهود يد الله مغلولة. والنصارى: المسيح ابن الله والمشركون: الملائكة بنات الله. وفي صحيح البخاري قال الله تعالى: «كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك ... » .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال الله تبارك وتعالى: «يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما» . وقال عكرمة: معناه بالتصوير والتعرض لفعل لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرهما. قلت: وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرهما، إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبّه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى. وقالت فرقة: ذلك على حذف مضاف، تقديره: يؤذون أولياء الله اه. قلت: وأخرج الطبري 28640 عن عكرمة قال: الذين يؤذون الله ورسوله هم أصحاب التصاوير.(3/482)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
وعصيانُه ولعنُهم في الدنيا: بالقتل والجلاء، وفي الآخرة: بالنار.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(1174) أحدها: أن عمر بن الخطاب رأى جارية متبرِّجة فضربها، وكفَّ ما رأى من زينتها، فذهبت إِلى أهلها تشكو، فخرجوا إِليه فآذَوْه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
(1175) والثاني: أنها نزلت في الزُّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إِذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيرَون المرأة فيدنون منها فيغمزونها، وإِنما كانوا يؤذون الإِماء، غير أنه لم تكن الأَمَة تُعرَف من الحرة، فشكون ذلك إِلى أزواجهنّ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
(1176) والثالث: أنها نزلت فيمن تكلَّم في عائشة وصفوان بن المعطِّل بالإِفك، قاله الضحاك.
(1177) والرابع: أن ناساً من المنافقين آذَوا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قال المفسرون: ومعنى الآية: يرمونهم بما ليس فيهم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 62]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 716 برواية عطاء عن ابن عباس بدون سند تعليقا- قلت: وتفرد الواحدي بذكره من غير إسناد، فهو لا أصل له لخلوه عن الإسناد، ولم يذكره الواحدي في «الوسيط» ولا رأيت من أخرجه غيره، فهو لا شيء.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 718 عن الضحاك والسدي الكلبي بدون إسناد.
ضعيف جدا. ذكره السيوطي في «أسباب النزول» 922 قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا، جويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس.
باطل، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 717 عن مقاتل بدون سند، ومقاتل ممن يضع الحديث، والمتن باطل.(3/483)